الأوراق الفدرالية، ورقة 6
الأوراق الفيدرالية
ورقة رقم: 6 الكسندر هاملتون Alexander Hamilton 14 نوفمبر 1787
إلى أهالي ولاية نيويورك:
تم تكريس الثلاث ورقات الأخيرة لتعداد الأخطار التي سوف نتعرض لها في حال عدم الاتحاد، وبيان أن تلك الأخطار ستكون واردة من القوى الأجنبية. وهنا سأتعرض الآن لأخطار من نوع آخر، ولربما أشد خطورة من تلك. إنها الأخطار التي يُحتمل أن تنشب من التنازع بين الولايات نفسها، ومن الانقسامات المحلية، والتخبطات في سيرها. ولقد تم استباق هذه الأمور وإصلاح حال بعضها حتى الآن، لكنها في الواقع تتطلب بحثاً أوفى مما تم.
يجب أن يكون المرء مغرقاً في الفكر الطوباري إذا ظن أن هذه الولايات الدول، أو الكونفدراليات الدول أيضاً، بعد أن تتفكك جزئياً أو بصورة كلية – لن تقع فريسة التنازع فيما بينها. ما أكثر الخصومات التي ستنشب بين كل منها والأخريات في تلك الحال! وإن الرأي الذي يقول إنها ستكون في حاجة إلى الدوافع التي تثير ذلك التنازع لهو رأي يغفل الحقائق، أو يتجاهل أن الناس بطبعهم فيهم الطموح، والحاقد والنزاع إلى اغتصاب حقوق الآخرين. والحق، أن البحث عن دستور يبقي الانسجام بين عدد من السيادات المستقلة المتجاورة في الموقع – لهو نوع يتعامى عن أحداث التاريخ الإنساني ويتحدى الخبرات التي راكمتها الأجيال في هذا الشأن.
إن أسباب العداء بين الدول أكثر من أن تحصى. ويظل بعضها يعمل بصورة مستمرة في نفوس المجتمعات البشرية، ككتل لا كأفراد. ومن هذه الدوافع الرغبة في الاستحواذ على النفوذ والسلطة، والرغبة في التساوي أيضاً. ومثلها الحاجة إلى السلامة والاطمئنان. وهنالك أسباب تتخطى هذه الحدود. فالمنافسة في النشاط التجاري بين الدول التجارية مثلاً أحد تلك الأسباب. وهناك دوافع أخرى لا تعد، تنبع من العواطف الفردية، ومن الارتباطات، والعداوات، والمصالح، والآمال، والمخاوف من تسلّط الأفراد المتزعمين في المجتمع ذاته. وأفراد هذه الفئة، سواء كانوا ذوي حظوة عند الملوك أو اعتبار وتقدير لدى المجتمع – قد أساءوا استخدام الثقة التي تمتعوا بها في كثير من الأحيان. والأمثلة على ذلك كثيرة وافرة، فهم بدعوى التظاهر بخدمة المصلحة العامة ما كانوا يتوزعون عن أن يضحّوا بسلام وطنهم واستقرار مجتمعهم ذاته. إن تفضيل المنافع الشخصية لهم، أو طلب زيادة الشعور بالرضا عن أنفسهم هو الذي كان يسيطر عليهم في تلك الأحوال.
والتاريخ يذكر أن بركليس، السياسي الإغريقي القدير، وانسجاماً من جانبه مع غضب عاهرة في أثينا،1 وعلى حساب كثير من دماء مواطنيه وأموالهم – قد هاجم، وقهر، ودمّر مدينة السامنيين. والمعروف أن الرجل نفسه كان يحمل حقداً على أهل مدينة ميغارا،2 وهي دولة أخرى من دول الإغريق المدينية. ومن أجل القضاء على ملاحقة له بتهمة التواطؤ، مع سارقين مفترضين قاموا بالسطو على كنوز تماثيل فيدياس3 زجّ الرجل أثينا في حرب طاحنة؛ ولصرف النظر عن الاتهام الذي وُجه إليه بأنه بذر أموال الخزينة العامة لشراء شعبية لنفسه4 - ارتضى الرجل أن يكون سبباً لتلك الحروب الدموية المعروفة في تاريخ الإغريق باسم "حروب البلوبونيز". ولقد شهدت تلك الحروب تقلبات فاجعة في حظوظ المشتركين فيها، وكانت ما أسرع أن تخبو نارها حتى تهبّ لاهبة من جديد. وماذا كانت النتيجة؟
لقد تم تدمير دولة أثينا وزال منها عهد الرخاء العام. يومذاك فقدت أثينا امبراطوريتها وأساطيلها معاً.
وأشبه بذلك موقف الكاردنال الطموح الذي كان رئيساً لوزراء بلاط الملك هنري الثامن الذي أغراه غروره في الحصول على التاج المثلث الذي كان يتحلى به البابوات. وكان يحلم في الحصول على تلك الجائزة من خلال تأثير الامبراطور شارل الخامس القوي. ولذا فقد عمد إلى زج بريطانيا في حرب مع فرنسا إرضاءً لهذا الامبراطور القوي ورغماً عن قواعد اللعبة السياسية البسيطة وما تمليه. لقد غامر باستقلال بريطانيا وبمستقبل القارة الأوروبية على السواء. ولو كان هناك ملكاً قد داعب أفكاره حلم بسط نفوذه على العالم لكان الأجدر بهذا الامبراطور شارل الخامس الذي كان يستعمل ولزي في رسم مكايده وحيله.
ولا أنسى أن نفوذ أنثى طاغية ذات تعصب شديد، مثل (مدام مانتنون الفرنسية)، ووقاحات ومشاكسات أنثى أخرى وهي (دوقة مارلبورو)، ومكايد أنثى ثالثة هي (مدام دي بمبادور) – كانت الخمائر التي رسمت وشغلت سياسات صاحباتها واسترضاء خواطرهن معظم تاريخ أوروبا المعاصر. والواقع أن كل هذه الدسائس والأحابيل قد ظلت مقصاة عن العلن في التاريخ.. لكنها غير خفية على من ينقب هادفاً إلى التحليل والعبرة.
إن البحث لزيادة عدد الأمثلة على أن الاعتبارات الشخصية كانت وراء الأحداث المهمة في التاريخ لهو مضيعة للوقت، ولا طائل منه، فالأمثلة أكثر من أن تحصى، سواء في الداخل أو الخارج. وبمقدور كل من لديه اطّلاع كاف على سير الأمور والرجوع إلى المصادر التي يستقى منها التاريخ أن يجمّع أمثلة شتى على ذلك. وليس من حاجة لدى من تتوفر لهم معرفة مقبولة بالطبيعة البشرية أن يهتدوا بمثل تلك الأضواء كي يكوّنوا رأيهم حول هذا الأمر. ولربما كانت تحسن الإشارة إلى مثل قريب جداً حدث بين ظهرانينا في هذه البلاد. فلولا أن شايس كان مديناً مفلساً قانطاً من سداد ديونه لكان هناك شك عظيم في إمكان أن تنساق ولاية ماساشوستس إلى ما حل بها من حرب أهلية قاسية.
وحتى لو نحّينا جانباً الأدلة المتواترة على خبرة الآخرين، فإنه سيظل هناك من يزعم، خيالاً منه أو عن سوء قصد فيه، أنه يمكن ضمان الانسجام بين مجموعة ولايات، حتى لو لم تكن أعضاء في اتحاد بل ظلت الواحدة منها أجنبية في نظر الأخرى. وسيدّعون بإمكان قيام سلام دائم وأبدي بين تلك الولايات. وهم يقولون: إن عبقرية الجمهوريات عامل تهدئة كاف، كما أن الروح التجارية لدى كل منها سيجعل الجميع يميل إلى الاعتدال والمصالحة، وهذا كفيل بإطفاء نار أي حرب قبل أن تنشأ فيما بينها. وفي رأيهم أن جمهوريات تجارية مثلنا لن تميل إلى إضاعة وقتها في خلق منازعات مدمّرة بين الواحدة منها والأخرى. إنها جميعاً ستحكمها المصلحة العامة للجميع وتّنمي الود المتبادل والانسجام.
ونحن نسأل هؤلاء المنظّرين في مجال السياسة: أليست المصلحة الصادقة لخير الدول هي التي تنمّي هذه الروح الفلسفية الخيّرة كما تدّعون؟ بلى، لكن إذا كانت هذه هي المصلحة الحقيقية للجميع، فهل سعوا جميعاً في نشدان تلك المصلحة؟ ألم يثبُت أن العواطف الآنية، والمصالح الفورية هي التي تسيطر على تصرفات الرجال أكثر مما تعمل الاعتبارات البعيدة الأجل التي تمليها المصلحة، والسياسة، والنفعية، والعدالة؟ هل كانت الجمهوريات في التاريخ أقل انجذاباً إلى الوقوع في الحرب من الدول الملكية؟ أليست الجمهوريات والملكيات على السواء يديرها أفراد من البشر؟ أليس هناك منافسات ورغبات متضاربة، وتوقعات منتظرة، ومكاسب مطموع فيها بغير حق – تؤثر في الأمم كما تؤثر في الملوك أيضاً؟ ألا تخضع الاجتماعات والمجالس في كثير من الأحيان لغضب فرد فيها، ولطيشه، ولضغينة في نفسه، ولدوافعه الأخرى؟ أليس من الثابت المعروف أن قرارات تلك المجالس إنما تتخذ بفعل بضعة أفراد متننفذين فيها، يكون بعضهم متمتعاً بالثقة الموضوعة فيه، لكنه يظل بطبيعة الحال خاضعاً لمشاعر وآراء أولئك النفر القليل حوله؟ أليس عشق حيازة الثروة طاغياً في النفوس قدر طغيان تعشّق الاستحواذ على السلطة والتمتع بالمجد والرفعة؟ ألم تقم حروب كثيرة لدوافع تجارية بعد أن أصبحت التجارة هي النظام السائد في علاقات الأمم فيما بينها بقدر ما قامت حروب الاستيلاء على الأرض والممتلكات؟ ألم تعمد روح التجارة، في كثير من الأحيان، إلى خلق دوافع لشهوة السيطرة على ممتلكات الغير، لهذا أو ذاك من الطرفين؟ علينا أن ندع الممارسة الواقعية والخبرة المتجمعة هي الحكم في الرأي بخصوص ذلك. وهي ستطرح لنا الجواب الصادق الأكيد.
لقد كانت سبارطة، وأثينا، وروما وقرطاجة – كلها جمهوريات، وكانت أثينا وقرطاجة جمهوريتين تجاريتين بشكل خاص. ومع هذا، ألم تنغمسا في حروب كثيرة، هجومية ودفاعية مثل جاراتها الملكيات؟ بلى وفي نفس العدد من الحروب أيضاً؟ كانت سبارطة أكثر قليلاً من كونها معسكراً كبيراً حسن التظيم وصارم الإدارة؛ وكانت روما غير بريئة في يوم من الأيام من غزو الغير والعدوان عليه.
ومع أن قرطاجة كانت جمهوريات تجارية إلا أنها كانت المعتدية في حرب تمخّضت عن تدميرها بالكلية. لقد حمل هانيبال سلاح قرطاجة إلى قلب إيطاليا، ودقّ أبواب روما، قبل أن يقلب شيبو الروماني (الأفريقانوس) الدائرة عليه فيقتطع ممتلكات قرطاجة ثم يفتحها نفسها عنوة، ويدمرها !!
ومثل ذلك حدث لجمهورية البندقية في عصور لاحقة. كانت جمهورية تجارية بدورها، لكنها ما أكثر أن رفعت رايات الحرب، حتى باتت هدفاً تنظر له جميع ولايات إيطاليا آنذاك بعين الحسد والكراهية. ولقد استطاع البابا يوليوس الثاني، آخر الأمر، أن ينجح في تأليب إيطاليا عليها، وكوّن عصبة من المدن (عصبة كمبرية)5 وجهّت ضربة موجعة لكبرياء تلك المدينة المتعجرفة.
ولقد ظلت مقاطعة هولندا تحتل مكانة رفيعة في مجال التجارة في أوروبا، إلى أن غرقت في بحر من الديون والضرائب. وقد نشبت بينها وبين انكلترا حروب مريرة كان أساسها النزاع فيما بينهما على السيادة في البحار، وكانت كل منهما عدواً لدوداً ومثابراً على عدواته لرجل أوروبا الكبير لويس الرابع عشر.
وفي حكومة انكلترا ذاتها يشكل ممثلو الشعب فرعاً رئيسياً من السلطة التشريعية في البلاد. وقد ظلت التجارة طوال عدة أجيال هي النشاط السائد الذي ترفده سياسة الدولة. ومع هذا فإن دولاً قليلة هي التي أشعلت الحرب أكثر مما فعلت تلك الملكة، وكانت الحروب التي أشعلتها حروباً انطلقت شرارتها من الشعب نفسه وتمت الموافقة عليها من ممثليه.
ويمكن القول دون أي تحفظ أن عدد الحروب التي أعلنتها الجمهوريات يساوي تقريباً تلك التي أعلنها الملوك. لقد ساقت صيحات الحرب من أفراد الشعب ملوك تلك الدول إلى إشعال نار الحرب، فاندفعوا فيها، وإن كانت ضد مصلحة شعوبهم في كثير من المرات. هكذا كانت الحروب بين آل هابسبورغ في النمسا وآل بوربون في فرنسا، هي تلك الحروب التي أبقت – أوروبا منشعلة باللهيب والنار. ومن المعروف جيداً أن العداء القديم بين الإنكليز والفرنسيين، والذي كان يخدم ويؤيد طموح قائد محبوب في أحد البلدين (مثل دوق مارلبورو) قد ضاعت من اتساع الحرب وشمولها إلى أبعد من حدود المعقول وضد رغبات أهل البلاط الملكي أيضاً.
ولقد نشبت الحرب بين الدولتين الأخيرتين في أساسها، وإلى حد كبير، من اعتبارات تجارية، هي الرغبة في الإزاحة من جانب بريطانيا والخوف من وقوع ذلك من جانب فرنسا، في مجال المرور البحري، والنقل والفوائد التجارية التي تعود من ذلك النشاط، ثم التطلّع إلى مشاركة الغير في تجارته دون موافقته ورضاه.
وهذه الحرب الأخيرة بين بريطانيا وأسبانيا.. لقد نشبت لجشع التجار البريطانيين في المتاجرة حتى مع البرّّ الإسباني ذاته. إن هذه الممارسات غير العادلة هي التي جرّت إلى الحرب بعد أن زرعت الحقد بين المواطنين الأسبان والمعتدين البريطانيين. من ثم جاء أن ردّ الأسبان على ذلك من باب الانتقام، ومن ثم تم وصمهم بالوحشية والقسوة. ما أكثر الأسرى البريطانيين الذين وقعوا في أيدي الأسبان فأخذوهم وشغّلوهم بأعمال الحفر في أعماق مناجم بوتوسي! وهكذا وبحكم مجريات الأمور عانى الأبرياء عقوبات لا تمييز فيها بين حق وباطل. لقد أشعلت شكاوي التجار لهيباً عاصفاً اكتسح الأمة بكاملها، فانفجر ذلك في مجلس العموم البريطاني، فرفع ذلك إلى الوزارة. يومذاك أرسلت حكومة بريطانيا كتب توبيخ وتقريع، ونشبت الحرب. بذلك انفكّ التحالف بين الدولتين، مع أن قبل عشرين سنة لا أكثر، كان قد تم التوصل إلى ذلك التحالف بجهود مريرة وانتظاراً لتوقعات جليلة الثمار.
من هذا الملخص الموجز لما وقع في أقطار أخرى كانت أوضاعها أقرب إلى أوضاعنا نحن في الوقت الحاضر، تُرى، أي منطق يمكن أن نركن إليه فنثق في السلام والود الذي سوف يسود بين أعضاء الكونفدرالية الحالية، حيث تفترق الولايات وتنفصل عن بعضها؟ ألم نشهد من قبلُ أضاليل هذه النظريات التي تعتمد المبالغة، التي تمنّينا لا أكثر، بالوعود، بأننا سنكون بمنجاة من النقائص ومواطن الضعف والشرور التي ترافق تشكّل المجتمع، في كل صورة، وكل شكل؟ ألم يحن الوقت لأن نفيق من حلم الغرور بعصر ذهبي وأن نتبنى مثالاً عملياً وواقعياً نطبقه في سلوكنا، ويوجه تصرفاتنا السياسية، فنحن في الواقع مثلنا مثل بقية أهل هذه الأرض ما زلنا بعيدين عن تلك الإمبراطورية السعيدة الكاملة الحكمة والكاملة الفضيلة؟
لنترك جانباً تلك الدرجة من الإحباط التي هبط إليها اعتبارنا في نظر الغير وبلغتها الثقة بنا أيضاً. دع مساوئنا يشعر بها الناس في كل مكان، ولنعترف أننا نعاني من تسيب في الحكم وسوء فيه أيضاً. دع ثورة جزء من ولاية كارولينا الشمالية، والاضطرابات الأخيرة في بنسلفانيا، والثورات والاضطرابات في ماساشوستس.. دعها تعلن عن نفسها وتتكلم -! ما الذي نخشاه من الحقيقة!!
ما أبعد العقل العام لدى أفراد الجنس البشري عن الاستجابة لاتجاهات أولئك الذين يودون هدهدتنا بأحلام الاستكانة إلى أن المخاوف والنزاعات بين "الولايات" الدول في حال عدم الاتحاد – لن تمزقنا. إن ملاحظة التاريخ الطويل للمجتمعات البشرية يجعل ذلك بدهية في السياسة مفادها أن الجوار، والقرب في المواقع، يخلق من الدول المتجاورة أعداء طبيعيين. هذه فرضية مسلّم بها الآن. وهي بديهية لا أقوى! ولقد صاغها أحد الكتاب الأذكياء فجعلها في الصورة التالية: إن الأمم المتجاورة (كما يقول) هي دول متعادية، تخاصم كل منها الأخرى، هذا ما لم يدفعها ضعفها العام، جميعاً، إلى تشكيل جمهورية فدرالية، وما لم يحل الدستور الذي تتبناه تلك الفدرالية بين تلك الاختلافات فيما بينها أن تتفاقم، واستطاع إخماد الغيرة والرغبة في أن تتوسع إحداها على حساب جاراتها. إن هذه العبارة تشير إلى موطن الشرّ المستكنّ، وتهدي إلى سبيل معالجته. إنها تشخّص الداء وتحدّد الدواء للخلاص منه.