الأعرابي

كان يتجول بسيارته الصحراوية الطراز ، سيارة لاندكروزر (حوض ) من الموديلات الحديثة ، الشارع الحيوي الذي يقصده الشباب كل مساء كأنه مخصص لسيارات الموضة ، سيارات المرسيدس والبي أم دبليو والبورش والبنتلي ولو كان من الممكن استخدام الطائرات لكان البعض يذرع ذاك الشارع ذهابا وإيابا بطائرته الخاصة ، استعراض مسائي للبذخ والملاحقات المتهورة والمعاكسة من الجنسين ، وحدها سيارته التي تشكل صورة شاذة مثارا للسخرية من البعض .

كان يقف بجوار الرصيف يخرج سيجارة وينتظر السيارات تفسح الطريق ليعود من حيث أتى ، ولما تقدم منعطفا انعطافة حادة كانت خلفه سيارة مسرعة كأنما ظهرت من العدم تنزلق نحوه بسرعة رغم محاولة السائق تفادي الاصطدام ..

كراااااااااخ ، وصوت زجاج الأضواء يتهشم على الأسفلت .

أضاء النور الداخلي لسيارته ، وأشعل سيجارته ، مَن سينظر إليه تلك اللحظة لن يرى شيئا بوضوح ، فقط رقبة طويلة تنتهي من الأعلى بحافة الذقن الطويل تحت طرف واقية الشمس المسدلة من سقف قمرة القيادة ، ويزيد الرؤية تعتيما ذاك اللون الداكن نسبيا على الزجاج ، إنه شبح .

فتح الباب ونزل ببطء ليتفحص الحادث ، كانت السيارة الأخرى سيارة مرسيدس " شبح " والسائق المتبختر بالزي المحلي الذي كشفتْ طريقة لبسه أصولَه البعيدة فتح النافذة وبدا يشير إليه بيده ويعلي صوته بعبارات السباب والشتم ، مجنون ، حمار ... إلخ

نظر نحوه وهو يضيق عينيه ويصارع ضحكة يحبسها ، فجأة فُتحت النافذة الداكنة الخلفية إلى المنتصف وأطلتْ منها سيدة بوجه عابس :

- ليش ما تنتبه للشارع يا بدوي يا متخلف ؟ راكب لي هالبعير وتتمشى ، انتوا فساد المجتمع يا معفنين يا ..

هنا اقترب منها بخطوات واسعة حتى استند على حافة النافذة وأدخل رأسه في المحيط المفتوح وتحشرج صوته بدا لها كأنه قعقعة رعد :

احترمي نفسك يا مرة ، إذا على الغلط فالغلط على سايقك وإذا على الفلوس فخذي وأخرج من جيبه قلما رخيصا ومد يده نحوها وأطبق على يدها المرتجفة وفتح كفها وكتب رقم تلفونه ، كلميني بكرة وأصلح لك سيارتك يا فقيرة النفس ، ثم أخرج رأسه من نافذتها وتقدم نحو السائق المتخشب في مقعده ولطم وجهه بقوة ومضى ..

تسمرتْ في مكانها ولم يعدها للوعي إلا همهمة السائق يسألها ماذا يفعل ؟

في غرفة نومها بدأتْ تستعيد ما جرى لحظة لحظة ، كانت قد عادت لها الطمأنينة والتوازن لذا ستفكر بطريقة أفضل .

أنا !

شيخة بنت أحمد أحد رموز البلد يحصل معي هذا !

وإخوتي الذين يتقلدون المناصب العليا ومن لا يحبهم يتقي شرهم !

لم يتجرأ أحد علي منذ عرفتُ الدنيا والناس ، وسيارتي التي يتحاشى معظم أهل المنطقة الاقتراب منها ومضايقتها يدخل هذا الغريب رأسه فيها ويجر يدي ويتطاول على سائقي الخاص !

تذكرت لحظتها صوته الذي أرعبها رغم محاولته لخفضه مخافة لفت الأنظار ، كان رخيما وبطيئا وواثقا تذكرت تلك الرائحة المنبعثة من ملابسه حين أمسك يدها ، رائحة جميلة لكنها ليست لإحدى العطور الباريسية الحديثة التي تعرفها على كثرتها ، كأنها رائحة بخور العود المعتق مختلطة برائحة الحطب برائحة الجسد المتحفز ، إنها الذكورة المستفزة .

وطريقته في كتابة رقمه !

يا لهذه الجرأة والبدائية !

ابتسمت في سرها وقالت بصوت خفيض :

لعنة الله عليك أيها البدوي الغريب ، لو كنت مكان سائقي ، هذا النعجة .

ثم استرسلت في تفكير سحيق مطعّم بذكريات بائسة ، حياتها الضاربة في الترف والملل معا ، إخفاقاتها الاجتماعية ، الجشع العاطفي من حولها وهذا القصر المكتظ بكل شيء سوى الحب ، استعادت ذكريات الطفولة ، حين كان أبوها يأخذها وباقي العائلة للزرع أو الشاليهات ، ورحلات الصيف للبنان ومصر وأوربا أحيانا ، كانت الحياة وقتها أجمل ، كان مفهوم الأسرة أعمق ، لا هذه الاجتماعات الأسبوعية الشكلية التي لا تخلو من غمز مغلف وتنافس غير شريف وبقية ألوان الصراع الخفي بين ذوي الطبقة العليا الواحدة ، دبلوماسي ودنيئ وحاد .

حنت إلى حد البكاء من الداخل لوجه أبيها الوقور ، وفي نفس الوقت استحضرت وجه أبو سلطان زوجها السابق وأخذت تلعنه وتدعي عليه ، ذاك الحقير الأناني ، يظن أن الدنيا كلها خلقت لأجل شهواته الدنيئة .

آلاف المشاعر المتقاطعة والألم المتصل ، ألمٌ يختبيء خلف الغلاف الأدنى من الروح ، لكنه سرعان ما يحتقن في العينين والحنجرة والرئتين لأدني سبب ، أكدت لنفسها مرارا أنها ليست سعيدة ، وأن هذه المباهج من حولها ما هي إلا أشكال للعذاب والحسرة على شيء لا تعرفه على وجه التحديد .

الغرفة المزينة بكل أصناف الزينة ماهي إلا سجن مؤثث بأثاث فاخر .

والقصر الكبير قبر واسع مظلم من الداخل ، من جهة الروح ، رغم الأضواء الخارجية ، يغلفه صمت مرعب لا يقطع اتصاله إلا صوت الخدم أحيانا .

وهذه الساحة الخضراء الواسعة لوحة بالية لم تعد ترى فيها إلا ألوان مكرورة تثير الضيق . كل شيء يدعو للضيق والضيق وحده .

إنها لعنة التوحد ، إني مستعدة للانتقال لكوخ صغير إن كان يشاركني إياه شخص يحبني وأحبه ويفهمني وأفهمه ويصدقني وأصدقه ويحتاجني وأحتاجه ، هذا الغنى الظاهري ماهو إلا استغناء عن أبسط احتياجات الانسان الأساسية بذريعة الطبقية ، الشعور بالامتلاء المجوف مخدر للأحاسيس لذا لم أعد أشعر بلذة لشيء !. كي أستعيد نبض الحياة والشعور بالحركة والإثارة أحتاج لمعجزة ، لتغيير جذري ، لموثر خارجي لم أعهده . أهرب إلى أقصى مكان أستطيع الوصول إليه ثم أختفي هناك ؟

أسجن نفسي في هذا القصر وأقطع صلتي بالكل ؟

ماذا أفعل ؟

غلبها النوم ولم تهتد لشيء .

من الغد استيقظت على ذات الحنق ، حنق يبادرها بعد الاستيقاظ مباشرة ويستمر حتى النوم القادم .

لمحت الكتابة في باطن يدها وابتسمت عند تذكر موقف البارحة ، بعض المواقف العصيبة عند حدوثها تصبح مدعاة للضحك بعد أن تزول ، تمنت لو كان لها أحد يستحق أن تخبره بما حدث ليتبادلا الضحك والتندر .

عادت بتفكيرها لذاك البدوي الغاضب البارحة ، لقد أهانها وتعالى عليها بعرضه النبيل ، والعبارة التي فجرها قبيل أن يذهب ، وتطاوله على سائقها ، إنه يستحق العقاب ، إنه رجل ، والرجل مهما كان يظل هذا المخلوق الضعيف أو المتضاعف أمام الأنثى ، إنهم متشابهون في اللؤم والأنانية النفعية ، سأعبث به .

هكذا اتخذت قرارها في لحظة صفاء صباحية .

اتصلت به مساءً ، محافظة على أسلوبها رسميا لبقا مقارنة بسباب البارحة ، واعدته بعد ساعتين عند دوار النخيل ليتوصلا إلى حل ، هكذا ادّعت ، وأغلقت الخط .

صحيح أنه بدوي ليس له بهذه المكائد المتحضرة ولا يزال الأصل عنده في التعامل الصدق والمباشرة حتى تثبت الدلائل على الكذب والألتواء إلا أنه مزود بدهاء فطري ، وقدرة على التوجس حين يرتاب الآخرين ، إنها إحدى منح الصحراء ، الانتباه الدائم والترقب .

أغلقت الخط وتركت له الخيار الوحيد ، احترام الكلمة .

على دوار النخيل لاحظ أن السيارة التي توقفت خلفه ليست مرسيدس البارحة ولا السائق المستعرب ، إنها سيارة بيضاء لم يعرف نوعها والأعجب من يجلس خلف المقود إنها " المرَة " !

نزلت من سيارتها البيضاء وأقبلت حتى فتحت باب سيارته على الجانب الآخر وركبت .

من شدة الذهول لم يجد ما يقوله أثناء كل هذا ، بقي صامتا إلى أن بادرته هي بالحديث : - السائق كان مشغول اليوم فاضطريت اجي بنفسي

- ما يخالف ، تلعثم بها وسكت

- طيب ، اذا تأخروا في الإصلاح تعطيني بعيرك هذا أستخدمه ، قالتها بصيغة دعابة فيما كانت تتلمس جلد الضأن الذي فرشه على المقاعد وتتفحص الأشياء والأدوات المختلفة الموضوعة هناك ، علبة منديل ، خنجر جميل مغروس بغمده بين المقعدين ، أشرطة كاسيت ، بشت صوف ملقى على طرف المقعد .

لم يكن قد أخذ الوقت الكافي لتشخيص كل هذا الذي يحدث له ، لقد فاجأته بشكل فاق كل احتمالاته المريبة التي تولدت بعد مكالمتها ، لذا لم يكن قد استعاد السيطرة على تصرفاته ، لا يدري إن كان في حلم أم في واقع أم أن هذه مكيدة أم ماذا ؟

الأكيد فقط ، أن هذا الكائن الجميل الجالس بجانبه والذي تفوح منه عطور شتى يزوده بشعور لا يوصف ، المفاجأة والإثارة والارتباك والخوف والترقب الحاد والظفر والاندهاش مجتمعة .

لمعت في رأسه فكرة هي أقل ما يمكن فعله لإسعاف موقفه ، نظر في المرآة الجانبية وقال :

- اوووف هذي المرة الثالثة وهذي السيارة تدور حولنا ، انزلي واتبعيني لازم نغير موقفنا عن الشارع العام .

كأنه عزف على وتر خاص لديها ، لذا ردت بالموافقة على الفور ، فهي تخشى ذلك بالفعل .

بمجرد أن نزلت أشعل سيجارة وملأ رئتيه بها ثم أدار المحرك وسار ببطء وهي تتبعه ، كانت دقائق معدودة ثم دخل انزوى في إحدى الشوارع الفرعية البعيدة عن الأضواء واختار موقفا خال من السيارات وتوقف ، توقف فقط لأنه فرغ من معالجة فكرته الكبيرة الذي عزم على تنفيذها .

سترى هذه المرأة المتقلبة التي تخفي شيئا غريبا من هو المسيطر ، وستكشف كل أوراقها .

لحظات وإذ بها تفتح الباب وتركب مرة أخرى ، كانت هذه المرة أكثر ارتياحا ، فباغتها بالسؤال :

- معك من الوقت ساعتين كاملة ؟

ردت باستغراب : لأيش ساعتين ؟ الموضوع كله ما ياخذ عشر دقائق !

ثم أردفت بغنج واضح : لكن إذا الأمر يستحق الساعتين ماعندي مشكلة بس قول لي الموضوع أولا .

أدار وجهه عنها بملامح جامدة لا تشي بشيء وانطلق بسرعة متخذا الشارع العام مرة أخرى .

سألته عن جهتهما بإلحاح وبطريقة لا تخفي الخوف ، تغيرت نبرة صوتها ، اتخذت منحى التوسل والهلع ، همهمة طويلة وولولة بصوت مرتعش مخنوق يسفر آخر العبارة الطويلة عن رجاءات متكررة أن يتوقف ، لكنه لم يكن يجيب ولا حتى يلتفت نحوها .

ارتعبت من الداخل وأيقنت أنها وقعت بالفعل في مشكلة كبيرة ، إنه يخرج من المدينة بأكملها متجها للصحراء عبر هذا الشارع المظلم الذي لم تسلكه من قبل ، جالت بعينيها داخل السيارة ورغم الظلام برقت لها نصل الخنجر ، خنجر ! الآن فهمت ، لقد أسقطني حظي على هذا المخلوق المتوحش ، ومن يدري لعلي الضحية الألف ، ثم انفجرت باكية .

- أرجوك .. أرجوك ، ما سويت لك شيء ، الله فوقك ويشوفك وسينتقم منك ، أرجوك انفذ لك اللي تطلب بس لا تقتلني ، مابي أموت مابي أموت وبدأت تنتحب .

التفت نحوها بعد أن ذكرت الموت وبدأ يضحك بصوت عال ، هز رأسه بين ضحكتين عاليتين وأنشد : الموت حق وكل نفسٍ تذوقه .... غير البلا من ذاق موته ولا مات ثم أكمل ضحكه بصوت عالٍ .

كان يقود بسرعة ، حتى لما انعطف عن الشارع الأسفلتي مع الطريق الصحراوي لم يخفف سرعته ، كانت السيارة تهوي مرتفعة عن الأرض ومرتطمة بها مرة أخرة محدثة مطبات عنيفة مما جعلها تنشغل بالتمسك جيدا وتلتزم البكاء وحده ، تأكدت ان هذا الرجل مصاب بالجنون في أرحم الاحتمالات .

بعد فترة بدت لها سنين من المعاناة والعذاب خفف السرعة وانعطف عن الطريق وهو يديم الالتفات كأنه يبحث عن شيء ، حتى شرق نور السيارة بكثيب رملي ضخم شديد الارتفاع ، كان عبارة عن تلال رملية متراكمة فوق بعضها ، مضت دقيقتان تقريبا والسيارة في صعود مستمر حتى بلغ مكانا مستويا يصلح للتوقف ، وتوقف بالفعل ثم ترجل عن السيارة بدون أن ينبس ببنت شفة وتركها تصارع خيالاتها القاتلة ، استدار ناحية مؤخرة الحوض وأنزل صندوقا متوسط الحجم من تلك الصناديق التي يستعملها الجيش لنقل المؤن الصغيرة ، وانزل أشياء كثيرة لم تستطع استبانتها ، كانت تراقبه بوجل ورغم أنها توقفت عن البكاء إلا أنها لا تزال ترتعش من الخوف والبرد .

دقائق وإذا بالنار تستعر عالية فتنير المكان ، كان منشغلا عنها تماما في ترتيب المكان وتوزيع الأشياء حول النار ، قطعة سجاد متوسطة ، مساند ، أباريق ، فناجين ، دلة نحاسية ، صندوق ماء صحي ، وأشياء كثيرة ، لم يكن حتى يسترق النظر إليها ، بل كان يدندن بلحن بدوي طويل النفس ويعالج أدواته على مهل وكأنه يتعمد تجاهلها التام .

غادرها الشعور بالخوف بعد رؤية كل هذه الأدوات حوله وانشغاله بها ، أعادت التفكير ، واستبعدت الاحتمالات الخطرة ، فتحت الباب برفق ودلت قدميها حتى لامست الأرض ، كان الرمل باردا وناعما ، بدأ ملمسه غريبا لقدم عهدها بالرحلات البرية ، وحتى لما كانت تذهب للبر مع أهلها أيام الطفولة ، لم تكن في مواجهة مباشرة مع الطبيعة هكذا ، كانت طبيعة المستوى الارستقراطي البيوقراطي تحتم تحويل الصحراء عند الرحلات إلى مدينة مزودة بالكهرباء والتدفئة في البرد والتبريد في الحر والفرش والكماليات كلها ، كانوا يفسدون عفوية الطبيعة بالافتعالات والمظاهر .

اقتربت ببطء وهي تنعم بدفن أقدامها في دماثة الرمل إلى أن وقفت تصطلي بالنار عن برودة النسيم الشرقي ، رفع عينيه إليها مبتسما :

- تفضل يا ضيف ، اجلس ، دقايق واجهز القهوة .

اكتفت بابتسامة نبعت من الأعماق مشوبة ببعض الخجل مما فعلته في الطريق ، جلست وأخذت تتمعن في ملامحه وحركة يديه وهو يوسع الجمر ليضع الدلة عليه ، تفرغت لمراقبة كل حركاته وسكناته فيما كان يتشاغل عن النظر إليها بإعداد القهوة والشاي وغسل الفناجين والكأسات وترتيب المكان حوله ، كان يسمح لها بأخذ أكبر قدر من الحرية في النظر إليه كي تستعيد الطمأنينة والثقة .

بدأ يحدثها وهو يواصل عدم النظر إليها عن علاقته بالصحراء ، وجمال الصحراء ، وهدوء الصحراء ، وعن رحلات القنص ومتعتها ، أسماء الصقور الذي رباها ، فلاح وجراح وحوام ، وقصصها الجانبية كيف ضاع جراح لشهرين وطريقة استرداده بعد أحداث عنيفة بلغت تبادل النار مع الذين أخفوه ، كان يواصل السرد ببساطة وعفوية وبصوت منخفض وتعبيرات بالوجه واليدين أحيانا .

وهي تصغي باستمتاع ، إلى أن رأت بزاوية عينها شيئا يتحرك على الأرض كأنه حشرة كبيرة تزحف نحوها ، وعندما تحققت منه ، هبت بفزع مطلقة صرخة عالية في سكون الصحراء ، أفزعته بصرختها وجثى على ركبتيه ليستبين الأمر ، كان عنكبوتا كبيرا قاتم اللون ، إذن ليس بشيء ذي بال ، فعاد يصلح من جلسته سكرانا من الضحك ، أما هي فلاذت به مستنجدة إياه أن يبعده ، فقام إليه ومسكه بملقاط الجمر ثم نظر إليها نظرة تحمل التهديد ، تقهقرت قليلا وهي تردد : لا لا لا أرجوك ثم أطلقت ساقيها للريح ، وهو يطاردها ويصيح خلفها حتى عثرت قدمها فوقعت ، فجعل يضع يده في رقبتها ويحركها كأنه يدخل العنكبوت في ثيابها ، وهي تصرخ وتكرر الرجاء وتنتفض كلما لامسها ، إلى أن جلس من شدة الضحك وتركها ، عندها أمعنت النظر ليديه كانت خالية ، جلست بجانبه تضحك بشكل متواصل وتضربه وتشتمه .

مرت الساعتان وتلتها ساعتان أخرى ..

وهما يحيطان بالنار التي تحولت إلى جمر كبير حي ، ويتبادلان القصص والحجاوي وبعض الألعاب الشعبية المتعلقة بالنار والنوادر علة البدو والحضر ، على مر السنين الجرداء لم تقطف ضحكة صادقة كما اليوم ، لا تذكر متى المرة الأخيرة التي عاملت فيها أحدا بعفوية وبلا حذر .

لم تعد تنعم بممارسة آدميتها الطبيعية منذ كبرت وغاصت في وحل العلاقات الاجتماعية الموبوء ، لزوم " الاتيكيت " و " البرستيج " والمظاهر المفتعلة في اللقاءات والكلام والمخاطبة .

أما اليوم فهي تضحك من الأعماق وتتحدث بلا محاسبة ، وتجلس في الصحراء من دون فراش فاخر أو سقف مزين بكل الألوان والأصباغ ، وتغمس قدميها في الرمل ، وتصب لنفسها القهوة ، وتركض بطريقة مضحكة عندما تخاف ، تمارس السلوك البدائي للإنسان واستجابته للمؤثرات المختلفة بدون تدخل قوانين خارجية وأطباع مستعارة تفسد الطبيعة البشرية .

بعد أن انتصف الليل تشاورا في الرحيل ، لكنهما قررا بدون عناء كبير على قضاء تلك الليلة في الصحراء، لم تكن تلك الليالي شديدة البرودة فلم يمضي على " طلوع سهيل " إلا أسبوعان كما شرح لها وحاول أن يريها إياه مستعرضا كل ما يعرفه عن الأنجم وحساباتها ومواسمها ومواقعها ، لاحظت وهو يرفع بصرها للسماء كثرة النجوم في ليالي الصحراء ، كانت أحجام مختلفة وألوان مختلفة وبدت لها السماء أقرب من كل مرة ، لم تلاحظ هذا من قبل ربما لكثرة مصابيح المدينة ، كان منظرا خلابا يدعو للصفاء الذهني والسكينة الروحية ، وكلما يسكت بين جملتين كان الهدوء يملأ كل شيء ، أبدا لا تستطيع سماع أي شيء سوى نبضها ، إنها تجربة لم تدخلها من قبل !

هذه الليلة من ليالي الأحلام !

- أعتذر عن كلامي البارحة ، تعرف أني ما أقصده ، هو كلام يتردد بيننا في مثل هذه المواقف ، وإلا فالبشر كلهم لآدم وآدم من تراب .

فأجابها وهو يصلح من وسادته : بالعكس أنا أفتخر لما أحد يقول عني بدوي .

- صحيح والله ؟ قالتها وهي تضحك ، يعني أسميك الأعرابي ؟

- الأعرابي الأعرابي .

أقتربت منه وهمست :

وأنا الليلة أعرابية !

ناما حتى أحرقتهما الشمس ، فقاما سريعا وحملا الأغراض وعادا للمدينة .

بعد ذلك بأيام كانت تتصل على هاتفه ، وعندما أجاب استهلت هكذا :

- لازم نلتقي لمناقشة الموضوع .

فتساءل : أي موضوع ؟

- إصلاح السيارة يا الأعرابي .


___________

طبربور 22/1/2004