الأصول الاجتماعية للسياسة التوسعية لمصر في عهد محمد علي
الأصول الاجتماعية للسياسة التوسعية لمصر في عهد محمد علي، تأليف فرد لوسون، ترجمة عنان الشهاوي، مراجعة وتقديم رؤوف عباس، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مقدمة المراجع
كان هذا الكتاب ، في الأصل ، رسالة دكتوراه في حقل دراسات العلاقات الدولية ، وهو أحد فروع العلوم السياسية ، أعدها (فرد لوسون) Fred Lawson في أواخر الثمانينات من القرن العشرين . واتخذ الباحث من التاريخ موضوعها لأطروحته التي تعني بالعلاقات الدولية في حقبة تاريخية معينة تعود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر ، وتناول الحركة (التوسعية) لمحمد علي والي مصر موضوعا لدراسة حالة معينة، سعيا وراء تأكيد النظرياتالخاصة بالتوسع ودوافعه في إطار دراسة الإمبريالية ، التي حفلت بها أدبيات العلوم السياسية في النصف الثاني من القرن العشرين . أي أن الباحث يبدأ دراسة الحالة وفي يده معايير نظرية محددة لايعتزم اختيار مدى انطباقها على نموذج حالة الدراسة ، ولكنه يسعى لتفسير الظاهرة التاريخية التي يدرسها على ضوئها .
فإذا كانت النظريات التي عالجت السياسة التوسعية التي شهدتها أوروبا في العصر الإمبريالي ، منذ مطلع فجره في القرن الخامس عشر مرورا بمختلف مراحل تطور الإمبريالية حتى القرن العشرين ، قد عالجت التوسع باعتباره "عملية " ناجمة عن عوامل اجتماعية تتعلق بالبيئة الاجتماعية للدولة الإمبريالية ، وتعبر عن صراع القوى الاجتماعية داخلها ، أو مدفوعة بالحفاظ على المصالح الإقليمية للنخبة الاجتماعية في المجال الإقليمي عند تهديد الجيران هلا ، إذا كان الأمر كذلك فلا بأس (من وجهة نظر المؤلف) من دراسة تجربة "التوسع" التي قام بها محمد علي من منظور اجتماعي ، أي دراسة علاقات القوى الاجتماعية في مصر باعتبارها محفزا للتوسع ودافعا له ، ولا يتم التركيز على دراسة الظاهرة من منظور العلاقات الدولية والإقليمية التي تقاطعت معها أو اتصلت بها .
ومؤلف هذا الكتاب فرد لوسون Fred Lawson يحتل الآن درجة الأستاذية في كلية ميلز Mills College ، وهي من أقدم كليات الحقبة الاستعمارية في تاريخ الولايات المتحدة ، ومن أعرقها وأرفعها مكانة . عرفته في خريف العام 1990 عندما استضافني لإلقاء محاضرتين بكليته في إطار جولة المحاضرات التي نظمتها لي "جمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا الشمالية" عندما اختارتني وضيف الشرف لمؤتمرها السنوي (سان أنطونيو – تكساس ، نوفمبر 1990) . ومنذ هذا اللقاء ربطتني علاقة صداقة متينة بالمؤلف أثمرت تعاونا علميا من خلال نشاط الجمعية المصرية للدراسات التاريخية التي انتمى إليها لوسون .
ولايقتصر اهتمام لوسون على تاريخ مصر في القرن التاسع عشر ، ولكن اهتمامه بتاريخ الجزيرة العربية هو الذي جذبه لدراسة ما أسماه "بالسياسة التوسعية" لمحمد علي ، فنجده يدرس أولا "التكوين السياسي للبحرين في أطروحة الماجستير التي نشرت عام 1989 ، واهتم في أواخر التسعينات من القرن العشرين بدراسة اليمن ، لعلها في طريقها إلى النشر . أما الكتاب الذي بين أيدينا فقد نشر لأول مرة عام 1992 ، ثم أعيد نشره بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1999 ، بعدما أضاف إليه المؤلف بعض التفاصيل هنا وهناك من المؤلفات التي ظهرت بعد صدور الطبعة الأولى ، وتناولت بعض جوانب تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي في القرن التاسع عشر .
هذا تعريف لابد منه بالكتاب وصاحبه ، قبل مناقشة أطروحته الأساسية التي تقوم على وجود قطبين للنخبة الاجتماعية السياسية في مصر ذلك العصر : أحدهما قطب الإدارة / التجارة ، ويقصد بذلك السلطة الحاكمة التي ترتبط برأس المال التجاري برباط "المشاركة" ، فهناك التجار الذين كونوا ثروات طائلة من خلال شراكتهم مع العناصر الرئيسية للإدارة : العسكريين الترك وأمراء المماليك . أما القطب الآخر فيمثل من أسماهم المؤلف "كبار ملاك الإقطاعيات" ، وتقصد بهم الملتزمين على اختلاف فئاتهم الاجتماعية . أما القاعدة الاجتماعية العريضة للمجتمع فتتمثل في الفلاحين الفقراء (على اختلاف الفقر بينهم) ، والحرفيين والتجار الصغار في المدن الذين رآهم يعبرون عن قوى الرفض والاحتجاج التي جاءت بمحمد علي إلى السلطة دعما لاتجاه النخبة من التجار والعلماء وشيوخ الطوائف .
وقبل أن يقدم المؤلف هذا الإطار ، سبقه بشرح للسياسة الخارجية التي اتبعها محمد علي من منظور نظريات التوسع الإمبريالي ، التي تذهب إلى أن (الدولة) تتجه إلى التوسع خارج حدودها عندما يحدث خلل في موازين القوى الاجتماعية بين مكونات النخبة الحاكمة ، أو عندما تقع أزمة اجتماعية كبرى تتطلب البحث عن أداة لاحتواء الأزمة عن طريق التوسع الخارجي ، وما يتم اكتسابه من غنائم قد تجد للأزمة مخرجا . أو يحدث الاتجاه إلى لاتوسع الخارجي عندما تواجه (الدولة) بقوة إقليمية أخرى تجور على مصالح النخبة الاجتماعية السياسية فيها . وانتهى المؤلف إلى أن حركة "التوسع" في الحجاز كان ذلك يهدف إلى احتواء ، ثم تصفية ، الجناح العسكري التقليدي في السلطة (العسكر الترك/المماليك) وتحجيم حلفائهم "كبار ملاك الإقطاعيات" لصالح التحالف بين الإدارة (محمد علي) والتجار . وعندما اشترك محمد علي في حرب المورة لتصفية الثورة اليونانية ضد السلطان العثماني . فإن دوافع تلك الحرب هي خدمة مصالح التجار (حلفاء محمد علي) بعدما جار الأوروبيون على مجالهم الحيوي في مشرق البحر المتوسط . وعندما شن حروب الشام فقد كان دافعه لذلك حسم التناقض بين مصالح الدولة/التجار من ناحية ، وأحصاب الملكيات الإقطاعية من ناحية أخرى ، ورأى أن حروب الشام وما تطلبته من زيادة أعداد المجندين ، أضرت بالملكيات الإقطاعية الكبيرة ، ومن ثم حجمت وزن أصحابها .
ولما كان (فرد لوسون) متخصصا في العلاقات الدولية (أحد فروع العلوم السياسية) ، ولا تتوفر لديه معرفة كافية بالتجربة التاريخية التي شهدتها مصر وجارتها العربيات في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، فقد اعتمد – بصفة أساسية – على المؤلفات المهمة التي تناولت تارخي مصر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في تلك الفترة باللغات الإنجليزية والفرنسية والعبية ، وراح يستقي منها مادته التاريخية بطريقة انتقائية ، فيختار من الوقائع ما يخدم أطروحته بعدما يخرجه من سياقه التاريخي ، ثم يقوم بإعادة تركيب الظاهرة التاريخية بصورة تؤكد أطروحته وتقيم الدليل على صحتها . ولعل ذلك يفسر المساحات الزمنية الواسعة التي تعود إليها الأدلة التاريخية التي يسوقها من القرن الثامن عشر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ودون مراعاة للسياق الزمني (على أقل تقدير) فيسوق دليلا منأيام علي بك الكبير (سبعينيات القرن الثامن عشر) عند الحديث عن ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، والعكس بالعكس .
وبدأ يطرح سؤال لا يتطرق الشك في منطقيته ، هو : لماذا توسع محمد علي باشا ، ولم يتوسع معاصروه في الدولة العثمانية ذاتها ، ممن حاولوا إصلاح البلاد التي حكموها ، ببناء جيش حديث ، وصناعة حديثة تخدم احتياجاته وما استلزمه ذلك من إصلاحات اقتصادية إدارية . ويسوق المؤلف من أمثلة ذلك سياسة دواود باشا والي بغداد ، وبايات تونس ، بل وبعض سلاطين الدولة العثمانية ذاتها! ألا يرجع ذلك إلى عدم توفر الظروف الموضوعية الاجتماعية التي تدفع إلى التوسع هنا وهناك ؟
والسؤال – رغم مظهره المنطقي – ينم عن عدم إدراك حقيقة الدولة العثمانية ، وطبيعة الولايات التي خضعت لحكمها ، والوضع الخاص للولايات العربية عموما ، واختلاف المشهد الاجتماعي في العراق عنه في الشام ومصر وتونس . كما يعبر السؤال عن عدم إدراك المؤلف لنوع العلاقة بين سلطة السيادة في إستنابول (المركز) ، والولايات (الأطراف) ، وتباين الأوزان السياسية والإستراتيجية للولايات ، ومن بينها : العراق ، والشام ، ومصر .
فالإمبراطورية العثمانية آخر الإمبراطوريات الشرقية عموما ، والإسلامية خصوصا ، حملت سمات العصور الوسطى التي تغلب عليها لاصفة الإقطاعية ، ضمت خليطا من مختلف الأعراف والأديان والثقافات ، وجاوبت إمبراطورية النمسا والمجر في أوروبا ، وإمبراطورية المماليك في الشام والحجاز ومصر ، وكلها كيانات سياسية ذات طابع إقطاعي . وتوقف نشاطها التوسعي عند أسوار فينا أواخر القرن السابع عشر ؛ حيث كان ذلك نهاية لقدراتها التوسعية غربا بعدما انتهى توسعها شرقا بعد القضاء على دولة المماليك ومد سيادتها على شمال أفريقيا ، وتحجيم دور الصفويين . وتحولت الدولة العثمانية من التوسع إلى الدفاع عن أراضيها في مواجهة الزحف الروسي باتجاه البحر الأسود والضغوط النمساوية في البلقان ، وأدى هذا الضعف العسكر للدولة التي تنهشها الأعداء إلى ظهور بعض الحركات الاستقلالية في الولايات في القرن الثامن عشر ، مما فتح الباب لتعاون أعداء الدولة في أوروبا مع تلك الحركات الاستقلالية ومع فارس .
وفي القرن التاسع عشر ، كانت الدولة العثمانية تتخذ من التحالف مع فرنسا ثم بريطانيا سندا لها في دفاعها المستميت عن وجودها في البلقان ، بعدما تآكل الوجود العثماني شمال وشرقي البحر الأوسد أمام تقدم الروس هناك . وعانت الدولة العثمانية من سداد استحقاقات الاعتماد على مساندة بعض القوى الأوروبية فكانت الامتيازات الأجنبية في القرن التاسع عشر بمثابة رأس حربة للتغلغل الأوروبي في ولايات الدولة ، والسيطرة على اقتصادها ، واستخدمها مجالا لتصريف فائض رأس المال لديها في مجال القروض الحكومية – على وجه الخصوص – الذي كان مقدمة للتدخل السياسي في تلك البلاد بحجة حمايةالمصالح الأوروبية .
في هذا الإطار يجب النظر إلى جهود بعض السلاطين العثمانيين في أواخر القرن الثامن عشر والعقود الأولى من القرن العشرين لإقامة جيش حديث ، بما يترتب على ذلك من تصفية للنظام العسكري الإقطاعي القديم ، ومن إصلاحات اقتصادية وإدارية . كان الهدف من الإصلاح تعزيز القدرات الدفاعية للدولة العثمانية في محاولة للتقليل من الاعتماد على القوى الأجنبية ، وتقوية قبضة الدولة على ولايتها ، أي أنها كانت تهدف إلى تقوية (المركز) ضد الأخطار الخارجية ، وتعزيز هيمنته على (الأطراف) . ولم يكن الغرض من تلك الإصلاحات "التوسع" الخارجي ، رغم توفر كل العوامل الدافعة لذلك ، والتي رأى فيها المؤلف حافزا للتوسع ، أخذا في الاعتبار ما لحق بالتجار العثمانيين والتجار من أضرار المنافسة غير المتكافئة مع رأس المال الأجنبي ، وما كان يمكن أن يتم من تحالف بين نخبة الإدارة الإصلاحية والتجار في مواجهة التحالف التقليدي بين العلماء والعسكريين الإقطاعيين . توفرت الأسباب التي أخذ بها المؤلف ، ولكن لم تتوفر الظروف الموضوعية "التوسع" . كانت الإمبراطورية العثمانية قد شاخت ، وكان أقصى ما يطمح إليه سلاطين الإصلاح الإبقاء على تماسك الإمبراطورية بتقوية قدراتها الدفاعية ضد ما تتعرض له من أخطار خارجية وداخلية .
أما عن إصلاحات داود باشا والي بغداد ، فكان هدفها الأساسي إقامة دعائم السلطة المركزية في بلد قسمته الإمبراطورية العثمانية إلى ثلاث ولايات : الموصل ، وبغداد ، والبصرة . وغابت على تكوينه السمة العشائرية ذات الطباع الطائفي ، فكانت إصلاحات داود باشا محاولة لم يقدر لها النجاح تماما ، تستهدف إعادة هيكلة الإدارة ، بصورة تضمن الهيمنة على الرعية ، وتوفير المناخ للإنتاج الاقتصادي بما في ذلك تأمين طرق التجارة . وكانت القوى العسكرية التي بناها دفاعية محضة ، عمل على صيانة الحدود الشرقية للعراق (وهي في الوقت نفسه الحدود الفارسية – العثمانية) في مواجهة التهديدات الفارسية ، وهي جهود استغرقت فترة حكمه القصيرة ، وكانت عائقا للمضي في الإصلاح .
ولم يختلف المشهد التونسي عن ذلك كثيرا ، فقد استهدفت الإصلاحات فيها الحد من التدخل الأجنبي في شئون البلاد ، وإقامة نواة لسلطة إدارية حديثة تقنع الدول الأوروبية الطامعة فيها بقدرتها على حفظ الأمن والنظام وتوفير المناخ الملائم للنشاط الإقتصادي . وهي – على هذا النحو – إصلاحات دفاعية جاءت استجابة لتحديات خارجية ، وأدت إلى وقوع تونس في فخ الدّين مما مهد الطريق أمام فرنسا لتفرض حمايتها علهيا عام 1881 .
واختلفت الصورة بالنسبة لمصر ، فهي كيان واحد يخضع لسلطة إدارية مركزية واحدة منذ فجر التاريخ ، قد يصب ضعف تلك السلطة المركزية في رصيد القوة عند القوى الاجتماعية المحلية ، ولكن ذلك قد يأخذ شكل التعود إلى حين ، فلا تلبث الإدارة المركزية أن تستجمع قواها ، وتشدد قبضتها على البلاد من أقصاها إلى أقصاها ، لذلك لم يجد العثمانيون إلى تجزئة مصر سبيلا ، فأبقوا عليها ولاية واحدة متميزة بين سائر ولاياتها ، فلم يتم تقسيمها إلى عدد من الولايات ، علىنحو ما حدث بالشام والعراق .
وكانت الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) تجربة عملية لما قد يترتب على استمرار ضعف الإدارة العسكرية العثمانية من نكبات قد تؤيد إلى اقتطاع أهم ولاياتها لصالح الاستعمار الأوروبي ، وتجلت عبقرية محمد علي في إدراكه لأهمية بناء قوةعسكرية حديثة رادعة ، تدفع عن الدولة عدوان الغرب ، ومن ثم سعيه لتولي حكم مصر مستعينا بالقيادة الشعبية التي برزت في سنوات الحملة وما بعدها ، وأثبتت قدرتها على تحريك الجماهير ، حتى إذا امتلك زمام الأمور في مصر ذات الموارد الاقتصادية المناسبة ، استطاع أن يسخر مواردها في بناء قوة عسكرية حديثة قد تتيح له الأيام فرصة تعميم التجربة على الدولة كلها ، ولا يجب التهوين من شأن القدرات الفردية لمحمد علي في هذا الصدد ، وليس غريبا أن يقترن الإصلاح عنده بالطموح الشخصي لإقامة "دولة" قاعدتها مصر ، تبلغ من القوة الدرجة التي تجعل كلمتها مسموعة في إستانبول .
ولا نستطيع القول إن محمد علي كان يخطط "لسياسة توسعية" فلا يصدق ذلك إلا على السودان الذي كان جهده العسكري فيه توسعا بمعنى الكلمة ، أقام كيانا إداريا جديدا على أنقاض عدد من السلطنات القبلية المتناحرة ، أعطاه الاسم الذي يعرف به "السودان" ، وكان ضم السودان إلى ولاية مصر بمثابة توسيع لرفعة الدولة العثمانية لأول مرة منذ قرون ، فقد كانت بلاد السودان خارج إطار الدولة العثمانية ، وجاء ضمها على أساس التوسع الإقليمي لأهداف اقتصادية (استغلالية) ، وإستراتيجية (دفاعية) معا . أي للاستفادة من موارده الاقتصادية والبشرية ، وتأمين العمق الإستراتيجي لمصر في اتجاه منابع النيل ، ولحل المشاكل الأمنية الداخلية (التخلص من الجند غير النظاميين وتصفية الجيوب المملوكة بالصعيد) .
أما بقية حروب محمد علي وعملياته العسكرية ، فقد كانتداخل أراضي الدولة العثمانية ، وتنفيذا لأوامر تلقاها من لاسلطان ، فيما عدا حروب الشام التي كانت بمثابة حركة تمرد وعصيان من والي مصر معادية للسلطان ، ورغم ذلك حافظ محمد علي طوال أزمته مع السلطان عند استيلائه على الشام ، على الهوية العثمانية للأراضي التي خضعت لحكمه ، ولم يعلن استقلاله عن الدولة .
وجاءت حروب الشام في إطار التمرد على سيده السلطان الذي لم يكافئه على ما أداه للدولة من خدمات ، ولم يعوضه عن خسائره في حرب المورة بإسناد حكم الشام إلى ولده إبراهيم (وكان قد طلب ذلك من السلطان) . ووجد أن الفرصة مواتية لتحقيق ذلك : فهناك شبكة للقنوات الدبلوماسية التي أقامها خلال حرب المورة التي مكنته من تبرير أسباب احتياجه للشام في إطار دعوى تأديب والي عكا ، وأن الأمر داخلي محض يقع في إطار الدولة العثمانية ، ولا يمس جاراتها ، ولا يخل بالتوازن الإقليمي .
ولا ريب في أن الدول الأوروبية – وخاصة بريطانيا وفرنسا – لم تجد في اجتياح محمد علي للشام ما يتعارض مع مبدأ وحدة إسلامية أراضي الدولة العثمانية ، مادامت حركته لا ترمي إلى الانسلاخ عن الدولة ، بل تنشد إصلاح حالها . ولم تظهر الدول مخاوفها الحقيقية إلا بعد أن كشفت الحرب عن الوزن الحقيقي للقوة العسكرية التي بناها محمد علي مما يخل بالتوازن المطلوب ويعرض المصالح الأوروبية للخطر . وما لبثت الدول الأوروبية أن استشعرت الخطر الحقيقي عندما اجتاح جيش محمد علي الأناضول ووصل إلى كوتاهية (على بعد 120 كيلو مترا من إستانبول) ، وما ترتب ذلك من لجوء السلطان إلى عدوه اللدود قيصر روسيا مستنجدا ، مما أخل بالتوازن الدولي خللا جسيما ، استدعى تدخل الدول الأوروبية ضد محمد علي ، وحصر دولته في حدود مصر وتوابعها (السودان) ، وجعل حكمها وراثيا في أسرته ، مع حصولها على امتيازات خاصة تقترب من مستوى الحكم الذاتي الكامل .
فالمسألة كلها لاتتجاوز حدود نجاح محمد علي في تنفيذ مشروع إصلاحي ، أحكمت الدولة بموجبه قبضتها على موارد البلاد ، وعملت على تنميتها زراعيا وصناعيا ، والتوسع في الإنتاج الاقتصادي رأسيا وأفقيا ، وتضمن ذلك إقامة نظام حديث للري ، واستصلاح الأراضي وإقامة قطاع صناعي حديث . وصاحب ذلك المشروع الإصلاحي عملية تصفية النخبة الاجتماعية القديمة (المماليك/الملتزمون) بحرمانها من مواردها (سلما) ، أو مواجهتها بالسلاح في حالة استعصائها على الاستقطاب (كما حدث مع المماليك) .
وكان بناء الجيش الحديث يحتل بؤرة الإصلاح الهيكلي الذي تضمن الإدخال التدريجي للتعليم الحديث ، وتنظيم الإدارة والمالية على أسس حديثه بالاستعانة بالخبراء الأجانب ، وتربيته الكوادر المصرية التي تحل محلهم في النظام التعليمي الحديث في مصر ، والبعثات الخارجية .
ورغم أن المؤلف يورد الكثير من المعلومات (المجتزأة) حول تصفية محمد علي لنظام الالتزام ، ومساحة الأطيان عام 1813 التي وضعت أسس نظام جديد لحيازة الأطيان الزراعية وقاعدة اجتماعية (جديدة) قامت على توزيع الحيازات الزراعية ، فأقامت طبقة جديدة شكلت نواة لكبار الملاك ، حصلت على أملاكها منحة منالوالي لنفسه وأفراد أسرته وكبار موظفيه على اختلاف أصولهم العرقية ، فجمعوا بذلك بين انتمائهم إلى الإدارة (البيروقراطية) وإلى كبار الملاك (أو الملاك الإقطاعيين كما يسميهم المؤلف) . ورغم تناول المؤلف لذلك ، نجده يتصور تناقضها بين نخبة "الإدارة التجارية" و "كبار الملاك الإقطاعيين" . وغاب عنه أن أولئك الملاك الكبار (وعلى رأسهم محمد علي باشا وأسرته) ، كانوا يحكمون قبضتهم على الإدارة والنشاط الاقتصادي معا . ولم يدرك المؤلف دلالة تحول رأس المال التجاري – في عهد محمد علي – إلى لاتوسع في الأوقاف ، ثم إلى الاستثمار في ملكية الأراضي الزراعية ، نتيجة التغيرات الهيكلية التي أدخلها محمدعي على قطاع الاستثمار والتوزيع في الاقتصاد المصري .
كانت نخبة "الإدارة/التجار" هي في الوقت نفسه نخبة "كبار الملاك الإقطاعيين" (كما أسماهم لوسون) ، فمن أين جاءت الضغوط الاجتماعية التي تصورها المؤلف محركا "للتوصع الخارجي" ومن الطريف أن لوسون وقع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه نظام يوليو 1952 ، عندما ظن رجال الثورة أن كبار الملاك شيء ورجال الأعمال شيء آخر ، وأن الإصلاح الزراعي سوف يدفع إلى المزيد من الاستثمار في قطاع الأعمال . ولم يدركوا أن الملكية الزراعية كانت مجالا لاستثمار الأموال إلى جانب غيره من المجالات الأخرى . وعندما طبق قانون الإصلاح الزراعي (رغم اعتداله) ، حدث انكماش هائل في قطاع الأعمال بعدما أضير كبار الملاك ، فتوجسوا خيفة من الاستثمار في قطاع الأعمال لعدم اطمئنانهم إلى توجهات النظام الجديد .
كانت العناصر المكونة لطبقة كبار ملاك الأراضي الجديدة هم الذين قامت على كواهلهم كل جهود الإصلاح التي أنجزها محمد علي ، ولم يكن هؤلاء يمثلون "قوة ضاغطة" تتناقض مصالحهم مع غيرها من قوى النخبة الاجتماعية السياسية . بل – على النقيض من ذلك – لعبت تلك النخبة الاجتماعية الجديدة دورا مهما وفعالا في مساعدة النظام على تجاوز الأزمة المالية التي عانى منها في سنوات حروب الشام ، عندما أثقلت الضرائب كواهل الفلاحين بسبب استنزاف الطاقة البشرية الإنتاجية في الريف من خلال التجنيد ، فتراكمت الضرائب على القوى التي عجزت تماما عن السداد لعدة سنوات ، وفرّ أهلها هربا من ملاحقة الجباة لهم . عندئذ ألزم محمد علي كبار الملاك لسداد متأخرات الضرائب على تلك القرى دفعة واحدة ، فيما عرف بنظام "العهدة" إذ كان من يدف متأخرات ضرائب القرى يحصل على كامل زمام القرية ، ويتولى زراعتها حتى يستوفي فلاحو القرية ما سسدهم عنهم من متأخرات ، وعندما مرت السنوات دون أن ينجح الفلاحون في استعادة أراضيهم ، صدر القرار الخاص يتحول تلك "العهد" إلى ملكية خاصة "للمتعهدين" .
وكان نظام "العهدة" هو الثغرة التي نفذ منها التجار إلى الاستثمار الزراعي ، فتقدم بعضهم بطلب الحصول على "العهد" كذلك فعل بعض أثرياء العمد والمشايخ ، وتحولت تلك القوى إلى ملك خاص لهم ولعائلاتهم ، وكون هؤلاء شريحة "الأعيان" في طبقة كبار الملاك .
لقد بالغ لوسون في تقدير حجم التجار ، ودورهم (كقوة) مؤثرة في صنع القرار (وهو دور غائب في التجربة التاريخية المصرية) . حقا كانت هناك بيوت تجارية كبيرة منذ العصور الوسطى ، بلغت شأوا كبيرا في القرن العاشر الميلادي ، ثم انحسر دورها وشأنها – إلى حد ما – في العصر الذي شهد التحديات الخارجية الكبرى (الصليبيون والمغول) ، ودخل الأوروبيون منفاسين في البحار الشرقية بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح . ورغم ذلك ، ظللت بعض البيوت التجارية تلعب دورا مهما في التجارة الدولية طوال العصر العثماني . وعندما كانت السلطة المركزية قوية ، دعم كبار التجار مصالحهم باتخاذ أهل السلطة شركاء لهم في تجارتهم ، بل وصاهروهم حتى يستظلون بحمايتهم ويأمنوا على مصالحهم . وعندما دب الوهن في عضد السلطة المركزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، اتجه التجار إلى مشاركة قادة العسكر ، وملتزمي الجمارك ، بل ورشوتهم من أجل تأمين مصالحهم التجارية .
غير أن ذلك النجاح الذي حققه رأس المال التجاري ، والذي أورد المؤلف بعض ملامحه ، لم يحقق الانتقال إلى مرحلة الصناعة إلا على نطاق ضيق ، ارتبط بإنتاج سلع يتوفر الطلب علهيا في الأسواق الخارجية (كالسكر ، والزيت ، والمنسوجات ، وغيرها) ، عندئذ نجد كل شواهد تتجير الزراعة مائلة أمامنا ؛ حيث يشجع التجار الفلاحين على إنتاج محصول نقدي معين ، إما لتصديره (مثل الغلال) أو تصنيعه قبل التصدير ، حيث استثمر التجار اموالهم في إقامة ورش إنتاجية خارج المدن بعيدة عن سلطان شيخ الطائفة . ولكن التجربة لم تتحل لها الظروف الموضوعية للانطلاق نحو التوسع بما يصحبه من التطور في أدوات وطرق الإنتاج ، فبمجرد انكماش الطلب على السلعة في السوق الخارجية ينفض التاجر يده من إنتاجها ، ويتحول إلى الاتجار بغيرها ، كما حدث في حالة المنشوجات التي تأثر إنتاجها بمنافسة المنسوجات الأوروبية الحديثة رخيصة الثمن ، وفي حالة السكر الذي تأثر إنتاجه بمنافسة السكر الوارد إلى أوروبا من جزر البحر الكاريبي . وأدت هذه الظروف إلى تبديد فرصة تطوير قوى الإنتاج بما يترتب علهيا من نتائج اجتماعية .
وعانى التجار من القروض الإجبارية التي فرضها الحكام عليهم فرضا ، إلى جانب غيرها من آليات الاستنزاف المالي كالمكوس التي تدفع لى طول طرق التجارة عدةمرات ، ومال "الفردة" وهي مبالغ كبيرة كان يفرض على التجار وأرباب الحرف دفعها فورا في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية ، وقد تحمل التجار والحرفيون أعباء الفردة حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر ، وأجهزت الحملة الفرنسية على مابقى معهم منهم في وهدة الفقر ، وبذلك لم تتح الفرصة المواتية لتراكم رأس المال الذي يمثل آلية النمو الرأسمالي. فإذا أضفنا إلى ذلك تقسيم رأس المال بين الورثة عند توزيع تركة التاجر الكبير حسب الأنصبة الشرعية ، وعدم وجود نص شرعي يتعلب بالمحافظة على رأس المال التجاري مع ضمان أنصبه الورثة فيه دون تقسيمه بينهم ، أدركنا أسباب ظاهرة تفتيت البيوت التجارية الكبيرة إلى عدد من البيوت الصغيرة ، إذ يتجه كل وريث إلى إقامة مشروعه التجاري الخاص ، ومن النادر أن نجد بيتا تجاريا حافظ الورثة عليه كمشروع واحد بعد وفاة مورثهم التاجر الكبير .
لذلك لا نجد التجار الكبار الذين تحدث عنهم الجبرتي في القرن الثامن عشر أثرا ملحوظا في مطلع القرن التاسع عشر ، إلا نفر قليل ممن دخلوا في إطار هيكل التجارة بعد تنظيم الدولة لها ، أما متوسطو التجار وصغارهم فقد اقتصر نشاطهم على تجارة الاستهلاك وتمويل الإنتاج الحرفي المرتبط بها ، وفرضت على الحرف آليات نظام الإنتاج والتوزيع في ظل هيمنة الدولة على الاقتصاد . ولعل ذلك يفسر غياب دورهم السياسي بعدما نجح محمد علي في تصفية القيادات المحركة لها أو تحييدها . وأصبح مظهر الرفض الوحيد لسيطرة الدولة على الاقتصاد ينحصر في "الإنتاج البراني" ، أي الإنتاج الخارج عن رقابة الدولة وما ارتبط به من شبكات التوزيع المتهربة – أيضا – من سيطرة الدولة . وهي ظاهرة تفاقمت في العقدين الأخيرين منحكم محمد علي ، وسبب للإدارة قلقا شديدا نجد صداه في وثائقها .
وهكذا جاءت مبالغة لوسون في تقدير دور التجار كحلفاء للإدارة (في مواجهة كبار الملاك الإقطاعيين) مبنية على سوء فهم طبيعة الشراكة بين التاجر والحاكم ، فهي لم تكن شراكة قائمة على أساس استثمار التجار لرأس مال الحاكم ، ولكناه قامت على قاعدة الابتزاز والاستغلال والتربح من السلطة . هذا النوع من الشركاة لا تجد أثرا له بعد العقد الأول من حكم محمد علي ، فقد صفى البيوت التجارية الباقية من خلال احتكاره للتجارة ، ولم يعد في حاجة إلى تلك الشركاة الوهمية التقليدية ، بعدما وضعت الدولة يدها على الواردات . كل ما كان يحتاجه محمد علي هو التاجر الذي يساعده على تسويق الإنتاج المصري في الخارج ، وفي أوروبا على وجه الخصوص ، وحيث تجده يتخذ شركاء من نوع جديد ، كانوا سماسرة ولبسوا تجارا قاموا بتصريف الإنتاج المصري في الأسواق واستيراد ما يحتاجه محمد علي لقاء عمولات يتقاضونها على ما يقومون به من عمليات ، واختلف هؤلاء عن التجار التقليديين في معرفتهم بالسوق الأوروبية وأصول التعامل مع شبكات التوزيع الخارجية ، وجاء معظم هؤلاء من الشوام المسيحيين الذين يتمتعون بالحماية الفرنسية ، ومن اليونانيين والفرنسيين ، والإيطاليين وغيرهم .
وأخيرا ، استخدم لوسون أطرا نظرية عن ظاهرة التوسع الخارجي الإمبريالية في في المجتمعات الرأسمالية الغربية ، وحاول تطبيقها شكليا على مصر في حقبة تاريخية لم تشهد نموا لرأس المال التجاري ينظار ما عرفته أوروبا في قرون التحول الرأسمالي (من الخامس عشر إلى الثامن عشر) . ولم تتح لرأس المال التجاري في مصر تلك الظروف الاستثنائية التي أتيحت له في بلاد أوروبا الغربية في عصر "الدولة القومية" بل لم يكن للشعور القومي – عندئذ – وجود في مصر . فأراد بذلك أن يلبس تجربة محمد علي رداءً لا يتناسب معها من حيث الطراز والقياس معاً .
غير أن الكتاب يكتسب أهمية خاصة من حيث كونه محاولة لاستخدام مناهج العلوم السياسية في البحث التاريخي ، وهي محاولة جديرة بالنظر لعلها تفيد من الباحثين من يتجه إلى المزج بين المنهج التاريخي وغيره من مناهج العلوم الإنسانية ، ويتخذ منه أداة لتفسير الظواهر التاريخية تفسيراً موضوعياً دون تهوين أو تهويل .
رؤوف عباس
تقديم المؤلف
يولى دارسو السياسة العربية الخارجية اهتماما كبيرا للصراع العربي الإسرائيلي ، ولانشغالهم في هذا النزاع الاستثنائي مضامين سياسية ونظرية ؛ حيث يفرض بصروة عامة على الباحثين تأييد قضايا تتعلق بالحقوق الفلسطينية والإسرائيلية . كما أنه ينحو لأن يؤدي حتى بالكُتاب ذوي الضمير الحي إلى سوء فهم المعتقدات الأساسية للعلاقات الدولية . وكحالات استثنائية ، فإن كتاب The Struggle for Syria للمؤلف المعروف Patrick Scale ، وكتاب The Arab Cold War للكاتب Malcolm Kerr ، قدّما تحليلات بالغة الدقة في أغلبها الأعم عن تفاصيل مبنية على التجربة . وعندما كنت طالبا بالدراسات العليا في أواخر سبعينيات القرن العشرين أحسسن بوضوح بأنه من الأفضل لمن يريد الإسهام في الدراسة المفاهيمية للسياسة الخارجية العربية أن يبحث حالات بعيدة قدر الإمكان عن الأزمة العربية الإسرائيلية .
لذلك أقدم دون مزيد من الاعتذار تفسيرا تفصيليا للسياسة التوسعية لمصر خلال الثلث الأول للقرن التاسع عشر . وهذه الحالة لا تنطوي فقط على ميزة تمثيل تراجيديا للعلاقات الخارجية الشرق أوسطية في المائة والخمسين عاما السابقة على عام 1948 ؛ بل أيضا أفادتني مع قطاع عريض من المؤرخين المصريين والمهتمين بالوثائق التاريخية ، الذين يواصلون اعتبار محمد علي باشا بطلا قوميا ، وبأن عصره فترة لم تلوثها الإمبريالية الأوروبية . وإلى أي مدى يمكن طرح المسألة على الجمهور ليقرر بنفسه كما يقول ويتجنشتين Witgenstein .
ومع ذلك ، فإن هذا المشروع منحني أسلوبا جديدا وحدسا مغايرا في إدراك السياسات الخارجية في العالم العربي . ولشرح إمكانات هذا المنظور ، طرحت في خاتمة الكتاب فرضا لتفسير جديد لغزو العراق للكويت في أغسطس 1990 باستخدام المفاهيم التي توصلت لصياغتها لتفسير السياسة التوسعية لمصر في القرن التاسع عشر . وهذه الرواية تتعارض بوضوح مع الخطاب الرسمي الأمريكي ، الذي حاول أن يساوي نظام البعث ببغداد مع ألمانيا الاشتراكية القومية . أيضا فإنه يتجنب الوقوع في شراك التشخيص العشوائي للشئون الدولية ، وهو عائق أبدى أمام فهم وممارسة السياسة العالمية . وأخيرا ، فإن مزيدا من الدراسات غير الإنفعالية لاجتياح العراق للكويت ستُعدّل ، بلا شك ، محاولاتنا الأولى لفهم هذا الموقف للسياسة التوسعية المعاصرة ، وقد تؤدي إلى تحسين ذلك الفهم . لكن بدون بعض الأسس النظرية المتماسكة ، مثل التي نفترضها هنا ، فإن التحليلات التالية لن تضيف سوى القليل لدراسة مقارنة للسياسة الخارجية للعرب .
ولقد شجع هذا المشروع بمنتهى الإخلاص في جميع مراحله الخبير الحقيقي بخبايا العلاقات الدولية روبرت جيرفس . وتكرمت الدكتورة عفاف لطفي السيد مرسو وأتاحت لي الدخول إلى عالمها الأكاديمي الذي كان يذكرني دائما أنني لست مؤرخا . وعلمني دافيد لانتين كيفية تقدير العلوم الاجتماعية ، بل والاستمتاع بممارستها ، يا لهم من فريق رائع .
أما عن النصائح والمساعدات الإضافية فقد جاءتني من عبدالرحيم عبدالرحمن ، وسوسن عبدالغني ، والعاملين بدار الوثائق القومية بالقاهرة ، ريتشارد آدمز ، جيم وسوزان ألن ، جون أندرسون ، لوري براند ، لين كارتر ، بيتر كوهن ، كريس اكسيل ، رفعت أبو الحاج ، باتريك جافني ، برترام جوردون ، بيتر جران ، محمد إبراهيم ، إدوارد انجرام ، مالكولم كير ، عفاف محفوظ ، عبدالعزيز سليمان نوار ، أندريه ريمون ، فورد رانج ، آرثر شتاين ، جون سانسون ، جون عول وسارافول ، وذلك بالإضافة إلى أمناء مكتبة الجمعية التاريخية المصرية ، وجامعة قنا ، ومكتبة رفاعة الطهطاوي إلى أمناء مكتبة الجمعية التاريخية المصرية ، وجامعة بالدقي ، وجمعية الآثار القبطية بالعباسية ، والمعهد السويسري بالزمالك ، ومكتبة هانتجتون في سان مارينو ، ومؤسسة هوفر في بالو ألتو ، كما أن نموذج وفد الأمم المتحدة لعام 1988 في ميلز كولودج تركني في حالة تربص بحجرة في فندق بمدينة نيويورك طوال ثلاثة أيام عصيبة أثناء انطلاق هذا المشروع من خزانته ، وقد وضعت كريستي جولدمان النسخة الأخيرة على قرص مضغوط بمهارة وروح طيبة في شكله النهائي ، وكذلك ديان اوسترميللر ، وميليسا ستيفنسون دايل اللذان توليا العمل عندما رحلت كريس . وقامت باربارا ويمي برسم الخرائط بدقة وسرعة .
وقرأ المخطوط ناثان براون وجوديث توكر في مطبعة جامعة كولومبيا بدقة استثنائية ووضعا ملاحظات بناءة . وتعاملت كيت ويتنبرج مع المخطوطات بصبر وطول نفس أكثر مما تفعل عادة ، بينما شكل كل من آن ماكوى وبيل برامليت أداة فعالة ثنائية في أعمال التحرير ، وقامت كاليا برنكسونز بالمراجعة التحريرية للغة الفرنسية .
وقد ظهرت نسخة مبكرة من الفصل الخامس في أغسطس 1988 بمجلة The International History Review ، وأعيدت طباعة مادة هذا المقال بتصريح من المحرر والناشر .
ولقد تعلمت كثيرا حول مجتمع الشرق الأوسط أثناء إقامتي لمدة عام كامل بالقاهرة مع اندرو نيومان ، مدعوما بزمالة سخية من مركز البحوث الأمريكي بالقاهرة ، وتعاملت زوجتي ديبورا بتسامح مع هذه الترتيبات ، وهو ما يتفق مع طبيعتها المتسامحة دائما . وفي النهاية يطيب لي أن أسجل امتناني لكل من مارك وأنا ليتين اللذين واصلا الحديث معي بعد أن دحض والدهما بعض الأطروحات التي كنت فخورا بها من الناحية العملية ، وامتناني لبرندان التي تابعت عمليات النسخ حتى وصلت إلى صورتها النهائية .
الفصل الأول: تفسير السياسة الخارجية لمحمد علي
يظل استخدام البلدان للقوة المسلحة للاستيلاء على الأراضي خارج الحدود واحتلالها قضية متواترة في السياسة الدولية . وهذه القضية ثم تناولها مع خلال عدد من الرؤى اقتضى كل منها تاريخا طويلا من البحث . وهذه الدراسة ترمي إلى الإسهام في إحدى هذه الرؤى .. تلك التي ترى أن سياسات التوسع تتحدد نتيجة لتغيرات في طبيعة وقوة الصراعات السياسية المحلية لبلد ما . وهذا الأسلوب في تفسير السياسة التوسعية ربما يكون مفيدا لأي مهتم بالشأن العملي في كيفية الحيلولة دون اندلاع الاعتداءات بين الدول . فإذا كانت توجهات معينة للأوضاع السياسية الداخلية لبعض البلدان يمكن أن تؤدي بها فعليا لشن أعمال عدوانية أو إمبريالية ، تصبح ثمة إمكانية لنجاح الأفعال التي تقوم بها الحكومات المعنية على حدة – أو تُفرض عليها – لتغيير هذه الظروف الداخلية للعمل على مناهضة الحروب . ويمكن إعاقة هذه الاحتمالات فعليا إذا أمكن النظر إلى السياسات التوسعية الخارجية على أنها إما نتيجة لآثار خفيفة متضمنة في البشر كأعضاء ، أو نتيجة للمقومات التركيبية لميدان التنافس العالمي على نحو الإجمال . ولسوء الحظ ، لم تتم صياغة منظور الصراع السياسي المحلي حتى الآن بعناية كافية ليكون ذا قيمة عملية ، والدراسة الحالية محاولة لعلاج هذا النقص .
وسوف تُستخدم السياسة الخارجية لمصر خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر كدراسة حالة تفسر أسلوبا وحيدا للتوجهات الخاصة للصراع السياسي المحلي في ارتباطه بالسياسة التوسعية الخارجية . فبين الفترة 1810 ، 1835 أقدمت الجيوش المصرية فعليا على غزو جميع الأقاليم المنتجة اقتصاديا التي تحيط بحدودها . أما سبب عدم وقوف القوى الأوروبية في وجه هذه الحملات وسبب تهاوي جيران مصر بسرعة وسهولة فهي أسئلة تخرج عن نطاق هذا العمل . وسنتناول بدلا من ذلك القضية الأهم : سبب شن نظام الحكم في القاهرة لسلسلة من الهجمات العسكرية خارج حدود الولاية العثمانية في مصر على مدى الثلاثين عاما الأولى من حكم محمد علي . بإيجاز ، تناقش الفصول التالية أن الأسلوب المميز الذي دارت به الصراعات السياسية بين القوى الاجتماعية الأكثر نفوذا في ذلك الحين لم يترك الأعضاء التحالف الحاكم في البلاد خيارا سوى استخدام التوسع العسكري كسبيل للحفاظ على هيمنتهم الجماعية على المجتمع المحلي ، وسوف يساعد هذا الطرح على تأسيس ليس فقط الشكل الأكثر التزاما الذي يتخذه لتناول صراع سياسي محلي لدراسة السياسة الخارجية ، بل أيضا إبراز فائدة تناول هذا الأسلوب لتفسير تراجيديات متميزة من السياسة التوسعية ، وفي الوقت نفسه تطرح الدراسة بديلا للتفسيرات التي سبق طرحها عادة للعلاقات الخارجية لمصر في عهد محمد علي .
التفسيرات التقليدية للحملات العسكرية لـ "محمد علي"
بشكل عام يتم تفسير ما حدث من تغيرات في السياسة الخارجية لمصر في أوائل القرن التاسع عشر باعتبارها ترجع لأسباب شخصية لحكام البلاد . ودائما ما تفترض هذه التفسيرات دوافع استراتيجية تبين ما كان يأمل هؤلاء الحكام في الحصول عليه من خلال تبني برنامج خاص للسياسة الخارجية . وهذا النوع من الطرح يتشابه – من حيث المفهوم – مع الأطروحات البنائية التي تفترض درجة عالية من المعقولية في عملية صنع قرار السياسة الخارجية عند الحكام الوطنيين . لذلك فإن التفسيرات الشخصية والهيكلية للعلاقات الخارجية لمصر في القرن التاسع عشر يمكن أن تتداخل بسهولة . ويمكن التأكيد على هذا المنحى بشكل خاص في الفترات التي تكون فيها المعلومات المتعلقة بالشئون السياسية داخل البلاد غير كافية ، على غرار سنوات عهد علي بك الكبير في سبعينيات القرن الثامن عشر . وهو ما يمكن التأكيد عليه بالدرجة نفسها في فترة محمد علي . ولكن هذين العاملين للتفكير التقليدي عن السياسة الخارجية المصرية – اللذين يتناولان التقديرات الإستراتيجية للقادة ودوافعهم الذاتية – ينبغي التعامل مع كل منهما على حدة – بوضوح تام – عند التصدي لتحليلهما .
وتركز التفسيرات التقليدية للسياسة التوسعية لمصر بعد عام 1810 أساسا على البواعث والتقديرات الإستراتيجية لمحمد علي باشا نفسه . وتعتبر كل حملة شنها بين عامي 1810 و 1835 على أنها كانت تمثل تحركا منطقيا كجزء من البرنامج العام لهذا القائد لتقوية موقعه في الشئون الإقليمية في مواجهة كل من السلطان العثماني والحكومات الأوروبية . وتحتل الحسابات السياسية جزءا من هذا النوع من الطرح ، وعلى نحو خاص خلال السنوات الأولى لحكم محمد علي . ويقول هنري دودويل Henery Dodwell إن غزو مصر للحجاز في سنة 1811م وفر سبيلا لمحمد علي للتخلص مباشرة من الخصوم المحليين ذوي النفوذ . وبنص كلماته : فإن الوالي مصمم على قيادة حملة عسكرية على الجزيرة العربية لتوطيد مركزه . وليظل أولئك الجنود المشاغبون الذين ثاروا في وقت لم يكن قد تم بعد إخضاع المماليك وتصفيتهم ، مشغولين عنه ، ولربما ازدادت ثورتهم إذا لم تبق قوة في مصر قادرة على مقاوتهم ؛ وربما ارتفع صيته في بلاد المسلمين إذا ما أقصى المنشقين عن العقيدة من المدن المقدسة .
ويتفق هولت P.M. Holt مع هذا الرأي ، رغم أنه يشعر بأن أي محاولة تبين أن السلطان كان مدفوعا باعتبارات مماثلة لاعتبارات الوالي في القاهرة "ربما تكون بعيدة الاحتمال" . لكن على الإجمال ، فإن الحسابات السياسية المحلية توفر فقط اهتماما هامشيا في بحث السياسة الخارجية للوالي . وينصب الاعتبار الأساسي على التوجيهات الدبلوماسية والإستراتيجية للشئون الخارجية لمصر في تلك الفترة .
ومن المتفق عليه بالنسبة للأمور السياسية والعسكرية الدولية أن محمد علي كان دبلوماسيا ماهرا . ويتم تفسير حملات مصر العسكرية في السوان وبحر إيجة وسواحله وسوريا من زاوية دهاء الوالي في التعامل مع سادته العثمانيين . ويقول "فاتيكيوتس" P. J. Vatikiotis إن محمد علي شن حملة عسكرية واسعة النطاق في منطقة بحر إيجة عام 1822 كوسيلة للتعمية على نواياه الحقيقية ، التي تتمثل في غزو الولايات السورية التابعة للإمبراطورية العثمانية . أما هولت Holt ، على الجانب الآخر ، فيرى أن هذه الحملة كانت وسيلة لاستعراض وتجربة القوات العسكرية التي أعيد تشكيلها مؤخرا . ومن رأيه أن : "الاشتراك في حرب اليونان منح محمد علي الفرصة لاختبار نظام حكمه الجديد ، فضلا عن الأسطول ، الذي كان قد بدأ في بنائه قبل عدة سنوات . ومن وجهة نظر هذين الكاتبين فإن حرب مصر مع سوريا تمثل ذروة سلسلة طويلة من الحسابات الإستراتيجية . ويقول "هولت" Holt إن تصميم محمد علي على الاستيلاء على سوريا يمكن وصفه ببساطة كمطلب استراتيجي : ضرورة وجود منطقة عازلة بين أراضيه في وادي النيل والمراكز القديمة للنفوذ العثماني في الأناضول . وفي تقدير فاتيكيوتس أن الوالي تحقق من الضعف الفعلي للنفوذ العثماني وتنبأ بالانهيار السريع لهيمنته . ويتضافر "توازن دبلوماسي دقيق بين إنجلترا وفرنسا " وفي الوقت نفسه الهجوم على سوريا ، استطاع محمد علي أن يحول ضعفه إلى ميزة . وتعرض لدراسة أسد رستم عن الحرب السورية الأولى عدة اعتبارات تكتيكية أخرى تستكمل أطروحات هذين الكاتبين .
ويحاول المؤرخون المراجعون لهذه الفترة بيان أن هناك أكثر من هذا فيث تفكير محمد علي يزيد عن مجرد رغبة في توسيع الأراضي الخاضعة لسلطاته . ويورد هؤلاء الكتاب عددا من الأسباب الاقتصادية الضاغطة التي دفعت الوالي للبدء في برنامج للتوسع العسكري بعد عام 1810 . ويذكر بيتر جران Peter Gran أن محمد علي انساق إلى الحجاز ليس فقط لرغبته في الاستيلاء على ثروة حكام المنطقة ، بل الأكثر أهمية من ذلك لاستعادة النظام لمسارات التجارة على طول سواحل البحر الأحمر التي تهم تجار القاهرة "الأثرياء أيضا" . ويورد كينيث كونو Kenneth Cuno نصا أكثر إجمالا لهذا الوضع :
ربما يساعد نجاح الغزو على ملء خزائن الدولة على المدى القصير عبر الغنائم ، وفي المدى البعيد من خلال السيطرة على مسارات التجارة واستغلال الممتلكات الإمبراطورية ، والأخير يخفف – على الأقل مؤقتا – الضغوط على جمع عوائد أكبر في الوطن ... وينطوي التوسع أيضا على ازدياد القوات العسكرية – ونفقاتها – الأمر الذي يدعم قدرة الحاكم على تطبيق إصلاحات في الوطن .
وتقول عفاف لطفي اليد مرسو إن البلدان التي تم فتحها جنوب وشرقي البلاد استطاعت توفير الأسواق المطلوبة لمنتجات قطاع الصناعة المصري النامي الذي تديره الدولة . وبالتالي كان برنامج نظام الحكم في سياسة التوسع الخارجي هو مسايرة التوجهات الاقتصادية التجارية المتجددة . وبالتالي سيكون خطأً فادحا افتراض أن دوافع محمد على وحساباته فيما يتعلق بالسياسة الخارجية كانت أقل منطقية على نحو ملحوظ أو أكثر اعتبارا من باقي زعماء العالم .
وعند تناول الآراء المثيرة للجدل حول دوافع السياسة الخارجية لمصر بهدف تقديم عرض منسق ومفيد للتوسع الخارجي خلال سنوات حكم محمد علي ، فإن هذه الآراء يجب أن توضع في إطار أكثر إحكاما مما هي عليه الآن . فقد تلجأ لقول شيء ما عن الظروف التي في ظلها كان القائد في "تحديده للأوضاع" من المحتمل أن يكون محددا ذا مغزى للنتائج السياسية ، إضافة إلى أنها تؤشر إلى الدرجة التي بلغها هذا القائد من الخليط النوعي للبواعث والمدارك المرتبطة به شخصيا وتغدو سمة مميزة له (نسبيا) . وكل سؤال من هذه الأسئلة ينطوي على مدى واسع من المشاكل المنهجية التي يتعين تناولها من خلال نقاش عن "تأثير الفرد على السياسة" . على أن هذه القضايا لم تتناولها الأدبيات المتداولة عن السياسة الخارجية لمحمد علي .
وحتى لو كانت قد صيغت على نحو يضمن صحتها من الناحية الأساسية ، فإن التفسيرات المتعلقة بالنتائج السياسية التيت ؤكد على أهمية القادة الأفراد يجب أن تخضع للنقد على أسس مفاهيمية عامة . وفي كم كبير من أدبيات العلاقات الدولية جرت محاولات لتوضيح أن النقاشات الهيكلية هي التي توفر بالضرورة ببواعث الاقدة . وانطلاقا من الأدبيات التاريخية المنشورة التي تتناول السياسة الخارجية لمحمد علي يتعذر التوصل لحل هذه القضية . وفي الكتابات المتخصصة في التاريخ المصري منذ وقت مبكر يبرز اتجاه يوازن بين أهداف ودوافع محمد علي الشخصية وبين من يلتزمون بتوضيح الظروف العالمية لمصر خلال الثلث الأول للقرن التاسع عشر ، ومثل الأمير "أوتو فون بسمارك" Prince Otto Von Bismarck في الكتابات التاريخية عن الإمبراطورية الألمانية ، فإن حسابات ودوافع محمد علي تنال تقديرا استقرائيا في سياق أن المصلحة القومية لبلده تم التعبير عنها واتخذت مسارها . وهذه الصورة جديرة بالتصديق ظاهريا من خلال إحياء السجلات الحكومية التي تبين أن كلا من بسمارك ومحمد علي وضعا في الاعتبار حقائق القضايا الإستراتيجية الدولية في إجراءاتها السياسية .
وهذه الملاحظة لا تضمن في حد ذاتها الاستنتاج بأن بعد نظر محمد علي فيما يتعلق بالملامح الهيكلية للتنافس العالمي هو التفسير الأمثر للسياسة الخارجية لمصر في الفترة من 1810 إلى 1835 ، وفي المقابل ، إذا أمكن تفسير أن الوضع الإستراتيجي لمصر آنذاك لم يدفع البلاد لتطبيق برنامج التوسع العسكري ، فإن أي تفسير لهذه الفئة من السياسات الخارجية على أساس من الحسابات الإستراتيجية الخاصة بمحمد علي لا يقوم على أساس واضح . وهكذا فإن التفسيرات التركيبية للسياسة الخارجية لمصر خلال هذه السنوات والأطروحات التقليدية التي عرضها المؤرخون عن هذه الفترة إما أن تصمد أو تسقط معا . ويفترض كل منها أن العلاقات الخارجية للبلاد في عهد محمد علي كانت تتقرر أساسا انطلاقا من الاعتبارات الإستراتيجية أو العلاقات الهيكلية في شرق المتوسط في الثلث الأول من القرن التاسع عشر .
"التفسيرات الهيكلية للسياسة التوسعية لمصر
يطرح "روبرت جلبن" Robert Gilpin بقوة أن المحددات الأساسية للصراع وإدارة الحروب في الشئون الدولية هي متغيرات في طريقة توزيع النفوذ بين البلدان . وبناء على هذا ، فإن تحولات غير متكافئة أو تفاضلية لنفوذ هذه البلدان بالنسبة لبعضها البعض من المحتمل أن تؤدي لاندلاع الحروب أو العدوان في العالم بدرجة كبيرة . وذلك بسبب أن الدولة التي ينمو نفوذها النسبي ، مقارنة بالدول الأخرى ، ينخفض ما تتكلفه في تعبئة الجهود لتغيير النظام العالمي لمصالحها . ويؤكد جلبن أن هذا الطرح صحيح لأي دولة في وضع كهذا "بصرف النظر عن هدفها" . لذلك بتعيين على الباحث أن يفسر السياسات الخارجية التوسعية لأي بلد ببيان مدى تزايد نفوذها بالنسبة للبلدان الأخرى على نحو بارز .
ويعترف جلبن بالصعوبة التي تواجه الباحثين في محاولة قياس التغيرات في علاقتها بالنفوذ بين الدول . ولذلك يقدم مؤشرين لهذا النوع من التغيير يشعر بأنهما من المحتمل على نحو خاص أن يصاحبا عملية صنع الحرب . المؤشر الأول ، في اعتقاده ، أن درجة كفاءة التركيب الاجتماعي الداخلي لأي بلد تزيد من نفوذها بالنسبة للبلدان الأخرى . ويحدث هاذ عن طريق زيادة المستوى الإجمالي للمصالح التي تتحقق للسكان عموما وكذلك بالتخلص من مشاكل الامتداد الحر التي تتداخل مع نجاح البرامج والأهداف القومية . والثاني ، كما يقول جلبن ، أن النفوذ القومي يتعزز عندما تبدأ حصة من المكافأة الناجمة عن الأنشطة القومية في التراكم والنمو لصالح ممثلي القطاع الخاص يتجاوز ما يتحقق للمؤسسات العامة أو الجماعية . وهذا ما يجعل لعدد أكبر من المواطنين الأفراد مصلحة في زيادة دخل الأمة من ، والسيطرة على ، مكانتها المرموقة في باقي أنحاء العالم .
ولا يبدو أن خاصية من هاتين الخاصيتين قد تجلت على نحو خاص بالنسبة لمصر خلال عهد محمد علي . فمن بين الدول التي شكلت القوى العظمى في شرق البحر المتوسط بعد عام 1800 ، تبرز بريطانيا وفرنسا بوصفهما الأكثر كفاءة هيكلية والأ:ثر نفوذا من خلال الليبرالية الاقتصادية عبر كل سنوات السياسة التوسعية لمصر . فقد أسس نظام محمد علي نظاما للاحتكارات التجارية داخل مصر في السنوات الأولى لحكمه ، ومنالمحتمل أن هذه الاحتكارات كانت تعمل بكفاءة أ:بر مما أوردته التقديرات التقليدية عن هذه الفترة . غير أن هذاا لنوع من الاحتكار الذي كان ترعاه الحكومة كان منتشرا في أرجاء العالم العربي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر .
ففي خلال السنوات التالية لعام 1780 ، بدأ أحمد باشا الجزار ، حاكم ولاية صيدا شمالي فلسطين ، احتكار تجارةالقطن الواقع تحت سيطرته . وفي حوالي عام 1784 امتد هذا الاحتكار ليشمل توزيع وبيع الحبوب في ولايته . وحسب رواية أمنون كوهين Amnon Cohen تم إجبار جزء من الفلاحين في صيدا على زراعة جزء من أراضيهم بالقمح ، ليتم تجميعه بالقوة وتصديره ليباع في مصر ، أكثر من هذا : قام الجزار بتخزين البذور في مخازن خاصة منشأة لهذا الغرض ، وكانت البذور تُوزع على الفلاحين مع بداية كل موسم لزراعة المحصول . وعندما امتد حكمه ليشمل دمشق في منتصف سبعينيات القرن الثامن عشر ، بدأ أيضا في بناء مخازن ومستودعات خاصة كبيرة . ويتضح أن هذه الاحتكارات استمرت طوال العقد الأول منالقرن التاسع عشر ، إن لم يكن أكثر من ذلك . وفي الوقت نفسه نجح أحمد الجزار في طرد أغلب التجار الأجانب العاملين في الموانئ الرئيسية بالولاية ووضع شروطا لم يسمح بوجبها إلا لعدد محدود للغاية من التجار الأوروبيين بالعودة "لكن بتصريح من الجزار ووفق شروطه" . وباستخدام الفوائد الكبيرة التي تحققت لخزانة الولاية من هذه العمليات ، قام النظام بإنشاء جيش خاضع لإدارة مركزية ويتقاضى أفراده أجورهم بانتظام ، بداية من أوائل تسعينات القرن الثامن عشر وتم إبراز وحدات المنشأة لتوازن التأثير السياسي لفصائل المرتزقة والانكشارية القائمة والموجودة بالولاية ، وقد أثبتت كفاءة إلى حد أنها استطاعت أن تصد الحملة الفرنسية عند غزوها لفلسطين في يناير 1799 . وبعد انسحاب قوات نابليون ، لم يقتصر حكام صيدا على تعويض الخسائر التي تكبدتها هذه الوحدات ، بل زادوا من أعدادها زيادة كبيرة وبدأوا في بناء أسطول يتكون من سفن حربية مسلحة تحرس مياه الولاية وسواحلها . وهذه الأنشطة عززت كثيرا من الوضع الداخلي لولاية أحمد الجزار : وهو الوضع الذي نال اعتراف الباب العالي رسميا من خلال فرمان صدر في 1798 ، ليجعل منه واليا على صيدا ودمشق وطرابلس وحتى على مصر .
وفي تونس جرت إصلاحات مشابهة بواسطة ولاية الباي أحمد في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر . فقد زاد مسئولو الولاية بدرجة كبيرة السلطات التنظيمية للإدارة المركزية ، وأنشأوا ما يعادل مصرفا مركزيا عام 1847 للسيطرة على صادرات زيت الزيتون ، والأهم من ذلك ألغى نظام الرق من الولاية ، وبالتالي قضى على مورد مهم للنفوذ الاجتمماعي والاقتصادي للأعيان المحليين وعزز دور قوى السوق في الشئون الداخلية للبلاد . وفي الوقت نفسه ، تبنت الحكومة التونسية سلسلة من الإجراءات العسكرية جعلت الأفضلية للإدارة وحددت الواجبات داخل صفوف القوات المسلحة ، وبالتالي ازدادت سيطرة الجهاز الإداري المركزي على القادة المحليين بالولاية . وفي أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر ثم على نحو غير متوقع تجنيد وحدات مشاة نظامية وتدريبها وفق النظم الأوروبية ، وتشكلت قوات مدفعية وأنشئت مدارس عسكرية على النمط الغربي ، وعلاوة على ذلك ، أقام نظام الحكم عددا من مصانع الذخيرة والسلاح لإمداد وحدات الجيش النظامي بالمعدات المتقدمة . كما بدأ في بناء أسطول يتكون من بواخر حديثة . وأخذت هذه الإصلاحات العسكرية والإدارية في الانهيار في خمسينيات القرن التاسع عشر في مواجهة المعارضة الأجنبية والداخلية ، غير أن إجراءات مماثلة ، إن لم تكن أبعد مدى بكثير ، جرى تنفيذها مرة أخرى خلال سنوات الحماية الفرنسية في نهاية القرن .
وكان بالعراق نظام وضع أسس برنامج للإصلاحات الاقتصادية والعسكرية من مطلع القرن التاسع عشر . وطبقا لتوجيهات الوالي المملوكي داود باشا قام المسئولون ببغداد بحل فصائل الانكشارية المحلية وأدمجوها في وحدات نظامية بقدر أكبر من القواعد ، وترافقت هذه التغييرات مع جهود لزيادة الناتج الزراعي بالبلاد وبناء نظام للصناعة تحت إشراف الدولة يمكنه إمداد وتزويد جيش حديث . وأعيد تنظيم الضرائب وطرق التحصيل لتحسين كفاءتها ، في حين تم تطبيق إجراءات من شانها زيادة تأمين مسارات القوافل بالبلاد ، لتصبح بالتالي أكثر فائدة لحكام بغداد . وعموما فإن هذا النظام – شأن نظيريه في صيدا وتونس – كان بالكاد أقل اندماجا في "تحديث" المناطق الخاضعة لسيطرته المباشرة مقارنة بنظيره في القاهرة . لذلك فمن غير الواضح من وجهة نظر هيكلية سبب اتخاذ النظام في القاهرة . لذلك من غير الواضح من وجهة نظر هيكلية سبب اتخاذ النظام في مصر لسياسات توسعية خارجية في حين لم يستطع نظام آخر مما ذكرنا أن يتخذها خلال العقود الأولى للقرن التاسع عشر .
قد يجيب المؤرخون البنيويون على هذا النمط الاستنتاجي بالقول بأن مصر كانت تملك حرية الدخول في مبادرات السياسة الخارجية بعد عام 1810 على نحو لم يكن لدى ولاة تونس وبغداد مثله . ويقول جلبن ، على سبيل المثال ، إن تكاليف التوسع تصل إلى أقصاها عندما يشارك فيها العدد الأقصى من الفاعلين . ففي المناطق شديدة "الكثافة" من المحتمل ألا يكون بمقدور دولة توسعية تجنب "تجاوز حدود الآخرين" الخاصة بمصالحهم الحيوية ، لأن ذلك يزيد من مستوى حدة الصراع بالمنطقة ، وبالتالي "يرفع تكاليف المزيد من أعمال التوسع" . ويترتب على ذلك – دون أن يكون التغير في القوة النسبية كبيرا جدا – أن الدول التي تجد فراغا مجاورا تلتقط فيه أنفاسها هي التي ستتبنى سياسات خارجية عدوانية أو إسرائيلية . وكانت العراق وتونس قريبتين جدا من جيران ذوي نفوذ ، وبالتالي استحال عليهما هذا الخيار ، أما مصر فلا .
وانطلاقا من هذه المعالجة ، مع ذلك ، كان ينبغي للسياسة التوسعية لمصر أن تكون مختلفة تماما عن الأسلوب التي جرت به . كان يتعين ألا تدخل قوات محمد علي البحر الأحمر في العقد الثاني للقرن التاسع عشر ؛ إذ كانت السيطرة على هذه المنطقة معقودة فعليا للوهابيين والأمريكان والإنجليز والفرنسيين . فأي تحرك للجيوش المصرية في هذه المنطقة يهددها بالاشتباك في حروب مع الدول الأوروبية التي تتميز جيوشها بوضوح بميزات التدريب والتجهيز الراقي إن لم يكن بتفوقها العددي أيضا . وحتى لو كان من المسموح شن حملات على الحجاز بعد عام 1811 على أساس عدم تهديد المصالح البرطانية والأمريكية من اندلاع الحرب مصرية – وهابية ، أو كانت مؤيدة فعليا لقمع الحركة الوهابية ، فإن القوات المصرية لم تكن لتغامر بالتأكيد بمعاداة تلكالقوى الكبرى من خلال غزو اليمن ذاتها بعد تأمين الحجاز . أو لم يكن ينبغي لها أن تزحف إلى سوريا والأناضول في بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر ومنتصفه مع الوضع في الاعتبار علاقات فرنسا وبريطانيا بفلسطين ولبنان ، فضلا عن مصالح بريطانيا والنمسا في الدفاع عن الإمبراطورية العثمانية .
زد على هذا ، أنه يتضح بجلاء أن إمبراطورية محمد علي بلغت من الاتساع حدا يتجاوز ما يتوقعه الباحث انطلاقا من المعالجة البنيوية . ويقول جلبن إن تكاليف توسع خارجي عموما تنمو كمتتابعة هندسية مع احتلال المزيد والمزيد من الأراضي ، بينما الفوائد الناجمة من الموارد الجديدة ، والسيطرة على التجارة وخلافه تزداد وفق تتابع عددي . وعلى هذا ، إذا تم الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي الجديدة ، فإن النفوذ الذي تستحوذ علهي الدولة الغازية مقارنة بجاراتها سيكون كبيرا حقا . وإلا فإن التكاليف الحدية للإمبريالية والسيطرة على أقاليم جديدة ستتجاوز أعباؤها الفوائد الهامشية من مثل هذه السياسات ، حسب منطق جلبن ، فلن توجد دولة تتبنى هذا المسار .
وتبرز مشاكل مشابهة إذا حاول الباحث تطبيق معالجة ديفيد كاليو David Calleo البنيوية والخاصة بالحالة العدوانية الكبيرة نسبيا للإمبريالية الألمانية – أي "المسألة الألمانية" – على العلاقات الخارجية لمصر خلال سنوات حكم ممد علي . يقول كاليو إن ألمانيا الإمبريالية انتهجت سياسة خارجية توسعية للأسباب:
(1) أنها طورت صناعة على نطاق واسع في وقت تأخر نسبيا مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى.
(2) أنها وجدت نفسها محاصرة بمنافسيها وبالتالي لم يكن لديها منافذ سلمية تستطيع من خلالها الحصول على درجة من الهيمنة الاقتصادية في العالم .
وبعض التوجهات في هذه المعالجة تناسب الحالة المصرية تماما . فقد اختطت مصر بعض برامج بناء المصانع والاحتكار في وقت تأخير كثيرا عن الدول الأوروبية التي كانت قد أقامت أعمالا مناظرة . علاوة على هذا ، في الوقت الذي باشرت فيه مصر هذه البرامج كانت أعلى الأسواق ربحية في العالم العربي خاضعة ، فعليا في معظمها ، لنفوذ المصالح الإنجليزية والفرنسية والأمريكية ، وبالتالي كان من المتوقع أن تستخدم كل الوسائل التي تقدر عليها لتفتح لها منفذا للأسواق القريبة المحتمل أن تحقق أرباحا بها . وعندما لا تتمكن من الفوز بهذا المنفذ عن طريق أعمال المنافسة غير المقيدة ، فلا بد أن تحصل عليه عبر إجراءات أكثر فاعلية .
مرة أخرى ينطوي هذا النوع من المعالجة على خلل في تفسير سبب اتخاذ مصر لبرنامج في التوسع الخارجي خلال الشطر الأول من القرن التاسع عشر ، بينما لم يفعل ذلك الأتراك وهم لب الإمبراطورية العثمانية . وفي الوقت نفسه الذي كان فيه نظام محمد علي ينشئ المصانع في مصر ، كانت صناعة حديثة مماثلة تنشأ في الأناضول وGalicia . وفي الأعوام الأخيرة لحكم السلطان سليم الثالث تم بناء مصانع للمدافع والبارود فضلا عن أحواض صيانة السفن الحكومية في الأحياء النائية لإسطنبول . كذلك وضعت الخطط لإنشاء مصنع نسيج تابع للدولة في Azadli نحو عام 1800 ، لكن عهد السلطان سليم كان قد انتهى قبل استكمال المصنع . وفي عام 1804 بدأ تشغيل مصانع الصوف والورق التابعة للحكومة ، وتم إلحاقها بمصنع كبير للغزل تسيطر عليه الدول تم افتتاحه بالعاصمة في عام 1827 ، وفي خلال العقد الثاني انضم إليهم مصنع لمنتجات الجلود ومصنعان للملابس في Izmit و Islimiye ومضنع آخر لتصنيع أغطية الرأس . وفي عام 1835 تقريبا بدأ مصنع لرقائق النحاس في الإنتاج الكبير للسلع المعدنية داخل البلاد أيضا . وأخذ هذا البرنامج التصنيعي في التناقص تدريجيا في نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، لكن مع منتصف الأربعينيات صدرت قرارات حكومة لإعادته من خلال إنشاء "مجمعين صناعيين" كبيرين يحتويان على عمليات تصنيع مختلفة . وتقرر فتح مصانع الدولة الأخرى في أنحاء تركيا . وفي الوقت نفسه بدأ ظهور استثمارات لرأس المال الخاص في التصنيع داخل الإمبراطورية على نطاق واسع نسبيا .
على أن الصناعة التركية ككل عانت بشدة من منافسة الصادرات الأوروبية التي كانت ترد إلى الأناضول والبقان بكميات كبيرة في غضون هذه السنوات . وزادت حدة هذه المناقشة بشدة – كما حدث في مصر – مع نهاية الحروب النابليونية ، إلى حد جعل من المتعذر على المصنوعات التركية أن تجد أسواقا محلية لمنتجاتها . وبلا شك أسهمت المنافسة الأجنبية في تعجيز قطاع من البرجوانية المحلية عن اتخاذ موقف موحد له في المجتمع التركي في الجزء الأول من القرن التاسع عشر . وحاول المسئولون العثمانيون الحد من هذهالواردات وبالتالي حماية الصناعة المحلية عن طريق تنظيم عدد التجار الأجانب المتمتعين بالحماية داخل الإمبراطورية ، بيد أن ههذ الجهود انهارت بتوقيع المعاهدة التجارية الأنجلو – تركية في عام 1838 .
وبالتالي تعرضت الصناعة التركية لإصابات بالغة نتيجةحصارها بالقوى الخارجية طوال الفترة بين عامي 1800 و 1840 مثلما حدث للصناعة المصرية ، إلا أن هذا الوضع لم يُفض بالإمبراطورية لتبني برنامج للتوسع العسكري واسع النطاق ، وهو الأمر الأكثر إثارة للدهشة من وجهة نظر كاليو ، نظرا لأن إسطنبول كانت محتواة بإحكام من منافسيها الروس والنمساويين والإنجليز بعد عام 1800 أكثر من القاهرة ، لذلك ، من الناحية النظرية ، كان ينبغي على الباب العالي أن يتبنى سياسة خارجية على الأقل تكون مماثلة للسياسة العدوانية لمصر خلال هذه السنوات التدعيم صناعاتها الشابة المعرضة للهجوم .
وباختصار ، من غير الواضح ما إذا كانت مصر في عام 1810 في موقف بنائي يختلف من الناحية الأساسية عن القوى المحلية الأخرى في شرقي البحر المتوسط . لذلك ، مع الوضع في الاعتبار توزيع القدرات في المنطقة ، إذا أمكن التوقع بأن دولة ستستولي على مساحات كبيرة في الولاية وتستبقيها حتى عام 1840 تقريبا ، فإن النظريات البنيوية لكتّاب مثل جلبن وكاليو لا تقول لنا من هي القوى المحلية التي ستفعل هذا بالتأكيد . وبكلمات أخرى ، لم يستطع هذان الكاتبان أن يقولا لنا كيف تستكمل معالجتهما باستخدام الأنواع الأخرى من المفاهيم النظرية من أجل توفير تفسيرات موثوقة لأي حالة معطاة . وتبرز هذه الصعوبة جزئيا ، من وجهة نظر منطقية ، من حقيقة أن المعالجات البنائية ومعالجاتالمستوى الثاني قاصرة بالتبادل ، على أساس أن كلا منها تتضمن استدلالات متعارضة واقعيا ، وهو ما يمثل تناقضا . كما أنها تبرز لأن أي محاولة لعدم تناول العالم ككل والسعي بدلا من ذلك بمحاولة بديلة لتفسير السياسات الخارجية للدولة بتغييرات بناتية تسفر عن صعوبات منطقية خطيرة اعتاد عليها علماء الاجتماع . غير أن المسألة الأساسية لعدم قدرة المعالجات البنيوية على شرح السياسات الخارجية للبلدان هي إخفاقها من جانب في التمييز بين مدى الممكنات للسياسة التوسعية للدولة القائمة في وقت معين ، وبين السبب في أن بعض البلدان في الواقع تنتهز مثل هذه الفرص عن الدول الأخرى . ووضع هذا التمييز بوضوح أمر ضروري في تقديم إجابة موثوقة للتساؤل عن سبب شن بعض البلاد لحملات عسكرية عدوانية على الأقاليم المجاورة لها .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"الفرصة" و"الاستعداد" في السياسة الخارجية لمصر
يطرح هارفي ستار Harvey Star أن مفهومي "الفرصة" و"الاستعداد" يمكنهما توفير أساس مفيد لتشكيل مجادلات واسعة المدى عن أسباب اندلاع الحرب في حزمة نظرية مترابطة . يقول ستار : "يمكن فهم الفرصة ببساطة باعتبارها إمكانية التفاعل بين الكيانات أوالوحدات السلوكية لنوع معين . أما الاستعداد فإنه يرتبط بالعمليات والنشاطات التيتقوند الناس للاستفادة من الفرص للذهاب إلى الحروب . وعلى الإجمال ، فإنه يجمع بين الظواهر السابقة والنباتية مع الظواهر "الإيكولوجية" ، ويجمع الإيكولوجية مع "صورة العالم أو تحديد الوضع كما يراه صانعوا القرار" . وهذا يفضي به إلى تصنيف "الصورة" الثالثة لكينيث والتز Kenneth Waltz عن الشئون الدولية ضمن مفهومة عن "الفرصة" وتصنيف "الصورة" الأولى لوالتز ضمن مفهومه عن "الاستعداد" . وفي رأي ستار : يمكن رؤية الصورة الثانية – طبيعة العوامل المحلية – باعتبارها تحتوي على عناصر من الاثنين" .
ولايتحقق هذا التصنيف إلا إذا قبلنا الرؤية الفردية لستار فيما يتعلق بتصنيف المفهومين اللذين يطرحهما . وحسب فرض ستار : "يتناول الاستعداد حوافز وأهداف صناع السياسة ، وعمليات صنع القرار التي تؤدي بهم إلى اختيار (الحرب) كبديل وليس (اللا حرب) ، لكن لأغراض تحليلية لا يوجد سبب لافتراض أن "الاستعداد" هو خاصية تتعلق بالبشر فقط كأفراد . ومسألة لماذا تصبح فئة معينة من الفرص في واقع الأمر مترجمة إلى حصيلة فعلية تتعلق بالبشر فقط كأفراد . ومسألة لماذا تصبح فئة معينة من الفرص في واقع الأمر مترجمة إلى حصيلة فعلية ربما تنطوي على إجابات على كل مستويات التحليل الثلاثة لوالتز . وفي المقابل ، من غير الواضح تماما أن العوامل السيكولوجية مثلما في "نظام اعتقاد" أولى هولستي Ole Holsti أو النزوع المفترض لدى رالف رايت Ralph White تجاه "تفكير السود/البيض" لا تفعل أكثرمن إرساء مرحلة العمليات النوعية لصناعة القرار التي من المفترض أن تؤدي إلى السياسة الخارجية من وجهة نظر فردية . وكما يلاحظ روبرت جرفيس Robert Jervis في أي مجادلة سببية يمكن أن نسأل دائما عن الصلات بين الروابط المفاهيمية .
في الفصول التالية ، فإن فكرة ستار عن "الاستعداد" للذهاب إلى الحرب سوف تستخدم ليس بتعبيرات فردية ، بل في ارتباط في النزاعات بين القوى المحلية ذات النفوذ من أجل الهيمنة السياسية داخل مصر نفسها خلال عصر محمد علي . والسؤال الأساسي الذي تتناوله هذه الدراسة يمكن صياغته على النحو التالي : بفرض فئة متميزة من الظروف العالمية ، ما هي الشروط السياسية المحلية التي تؤدي بنظام حكم إلى أن ينحو لنيل فرصة لينتهج سياسة توسعية خارجية ؟ حتى لو كان هذا التساؤل عن الشروط المحلية يمكن بذاته أن يحصل على كل من "فرصة" و"استعداد" في توجهه . ويتعين أن نولي رعاية دقيقة ومستمرة لمسالة لماذا حدثت الأشياء بالطريقة التي حدثت بها في مصر مع بداية القرن التاسع عشر إن لم نكن نريد أن ننتهي إلى إعادة توصيف بارعة للتغيرات في ذلك المجتمع بلغة القوى الاجتماعية ، بدلا من التفسير المقنع المطلوب للسياسات المحلية والخارجية لهذا البلد .
الغرض من هذه الدراسة
حتى لو أمكن القول بأن الظروف الهيكلية في شرقي البحر المتوسط أرست الشروط التي بموجبها أمكن لمصر تنفيذ توسعاتها السياسية خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر ، سيكون من الخطأ الزعم أن هذا الإطار الأوسع ، في ذاته ، أسفر بالضرورة عن مبادرات سياسية خارجية للقوى الإقليمية ، وبعبارة أخرى ،يمكن أن تكون هناك فترات يصبح فيها الوضع الاستراتيجي أداة توصيل لنشاطات عدوانية ، غير أنه لا تحدث سياسة توسعية . والتساؤل عن لماذا استطاع نظام محمد علي أن ينفذ برنامجا متناغما للتوسع العسكري خارج حدود البلاد ، وبالتالي حصل على ميزة لفرصة هيكلية لهذا النوع من النشاط السياسي الخارجي ، هو ما يؤلف على ميزة لفرصة هيكلية لهذا النوع من النشاط السياسي الخارجي ، هو ما يؤلف المسألة النظرية التي تتناولها هذه الدراسة . وباستخدام حالة مصر في بداية القرن التاسع عشر ، فإنني أعتزم أن أحدد من القوى الاجتماعية التي كانت الأعمق ارتباطا الحملات العسكرية الخارجية في السنوات التالية لعام 1810 ، والشروط التي خلقت الحوافز لدى هذه القوى لاستخدام النشاطات ذات الصلة بالحرب كوسيلة للهيمنة على منافسيهم السياسيين المحليين ، ولماذا استطاعت هذه القوى انتهاج هذه الإستراتيجية السياسية المحلية على نحو أساسي بنجاح .
على أن السياسة الخارجية لمصر في عصر محمد علي سيتم التمييز بينها في ثلاث فئات من العمليات العسكرية العدوانية . تشمل الأولى منها الحملات على مصر العليا والنوبة ، حتى بلوغ شمال السودان والحجاز . وهذه الفئة منالحملات استمرت من نحو عام 1810 إلى حوالي عام 1820 ، أما الحملات على كريت وباقي الجزر في بحر إيجة فضلا عن أراضي اليونان فإنها تؤلف الفئة الثانية التي دامت من عام 1822 حتى عام 1828 . ويؤشر غزو مصر لسوريا الكبرى في عام 1831 بداية الملحمة الثالثة والأخيرة للسياسة التوسعية العسكرية التي جرت في سنوات حكم محمد علي . وستعالج هذه الدراسة كل طور من هذه الأطوار الإمبريالية لمصر على نحو منفصل ، لكنها ستستخدم متغيرات النقاش المقدمة في الفصل التالي لتوضيحها .
ويهدف هذا العمل إلى المساهمة في دراسة الحرب والسياسة الخارجية العدوانية في إطار أوسع . وهو يتحاشى الصياغات الرياضية المعقدة ويسعى بدلا من ذلك إلى توفير صلة مفاهيمية واضحة بين الصراع السياسي المحلي المرتبط بالطبقات والسياسات الخارجية التوسعية . لذلك فإنه يقدم أسلوبا جديدا في تفسير السياسات التوسعية الخارجية وفقا للتغيرات في طبيعة الصراعات السياسية المحلية وحدّتها .
الفصل الثاني: الصراع الداخلي وتراجع السياسة التوسعية الخارجية
يمكن توضيح السياسات التوسعية الخارجية لبلد معين باعتبارها نتيجة مباشرة لثلاثة تطورات مرتبطة داخليا في العلاقات بين القوى الاجتماعية المحلية الأكثر نفوذا . فإذا ما توافر ظرف عالمي موات ، فقد تحدث برامج توسعية من التحالف الاجتماعي الحاكم مادام أن:
(أ) البلاد تمارس ما أسماه جيمس أوكونور James O.Connor "أزمة تراكم" داخل قطاعات أساسية من الاقتصاد المحلي.
(ب) وضع الأزمة هذا يجعل من الممكن للقوى الاجتماعية التابعة أن تهدد الهيمنة السياسية لنظام الحكم.
(ج) تفاعل أعضاء التحالف الحاكم لهذا التحدي بالسعي وراء استراتيجيات تتناقض مع مصالح كل منهم وبالتالي تصبح هناك إمكانية لشق صفوف التحالف المهيمن.
وفي ظل هذه الظروف ، يمكن توقع أن يتبنى حكام البلاد إجراءات عسكرية بمقدورها إخماد خصومهم السياسيين المحليين ، وكذلك ضمان المناطق الخارجية الموجود بها نوع الموارد الضرورية اللازمة لتسوية الخلافات الناشبة بين أعضاء التحالف الحاكم .
أزمة التراكم
المجتمعات الطبقية التي تتميز بسيطرة القطاع الخاص على أصولها الاقتصادية والمؤسسات الإنتاجية تنحو صوب إعادة إنتاج علاقات هيمنة وتبعية أثناء عملية تراكم وتحول إلى بروليتاريا مما يجعلها عرضة لعدة أزمات . ومن وجهة نظر الاقتصاديات الأساسية ، تعتبر هذه الأزمات أطوارا متتالية في دورة العمل التجاري ، أي تعاقبات عملية "قوانين الحركة" الموضوعية بشكل أو بآخر داخل اقتصاد غير منظم ، يتحكم فيه السوق . وافترض أوائل دارسي مثل هذه الدورات أن الانخفاضات الدورية في النشاط الاقتصادي كانت تنجم أولا عن قصور حجم رؤوس الأموال المتاحة في المجتمع ، وثانيا من نقض مرحّل في المعدل الذي كان يدور من خلاله بين المؤسسات وألأفراد . وحدد الكتّاب التالون مصدر الأزمات في تحولات واضحة في أشكال الاستثمار ، خاصة ععندما يكون الاتجاه نحو الاستثمارات قصيرة الأجل التي تدر عائدات فورية عالية لكنها لا تفعل سوى القليل لتوليد نمو اقتصادي متماسك . كما أن المخترعات التكنولوجية التي خفضت بشدة تكاليف العمليات الإنتاجية ثم افتراضها كتفسير لنهاية دورات التوسع الاقتصادي ، نظرا لأنها تنطوي على تقليص سريع للطلب الإجمالي . وأحدث من ذلك ، يقترح الاقتصاديون السياسيون أن نشاطات دورة الإنتاج على المستوى القومي تحدد ليس فقط مسار النمو بل كذلك الانكماش الصناعي والتجاري في الاقتصاديات الرأسمالية . وفي كل هذه التحليلات ، من المفترض أن أعمال قوى السوق تحدد مرحلة الفعل السياسي من جانب كل من أولئك الذين يتحكمون في الإنتاج ومن لا يتحكمون فيه .
غير أن هذا المفهوم للأزمات الاقتصادية وضحه كتّاب كبار في الإطار الماركسي أيضا ، ابتداء من "كارل ماركس" Karl Marx نفسه . وكما أوضح "بيتر بل" Peter Bell و"هاري كليفر" ، أخفقت كتابات ماركس المبكرة في دمج تحليل التوسع والتناقض في الاقتصاديات الرأسمالية مع تحليل الصراع الطبقي . ومن خلال الدراسات التي كتبها ماركس وفريدريك إنجلز Frederick Engles في أربعينيات القرن التاسع عشر ، فإن "آليات أزمة فيض الإنتاج ظهر أنها في (داخل) الرأسمالية تماما ، ومستقلة عن فعل الطبقة العاملة . كما أن المصاعب الدورية المتولدة عن نشاطات مؤسسات القطاع الخاص غير المنظم "تضع الإطار وتؤثر في شدة وممجال نضال الطبقة العاملة" بتزويد العمال بالحجة والحافز للفعل السياسي المتناغم ، لكن " في معظم تعليقاتهما جرت السببية بصرامة في اتجاه واحد : من نموذج التطور الرأسمالي إلى نموذج نضال الطبقة العاملة . وهذه الرؤية للسببية الاجتماعية – التي تتضمن أن عمليات نظام اقتصادي مستقل نسبيا تحدد مرحلة التطورات في ميدان التنافس السياسي – عادت مؤخرا على يد الاقتصاديين السياسيين الراديكاليين المتأثرين بكتابات "جون ماينارد كينز" John Maynard Keynes . مثلا يقول "ميشيل كاليكي" Michal Kaleeki أن ثمة تناقضا لسياسيا داخل الاقتصاديات الرأسمالية يتعلق الرأسمالية يتعلق بسياسات التوظيف الكاملة التي تشرف علهيا الدراسة خلال فترات الركود : "في الركود الاقتصادي" سواء تحت ضغط الجماهير أو حتى دونه ، يتم الاستثمار الممول بالافتراض في القطاع العام للحيلولة دون البطالة واسعة النطاق . لكن إذا جرت محاولات لتطبيق هذه الطريقة من أجل الحفاظ على التوظف على المستوى الذي حدث في الازدهار التالي ، فمن المحتمل أن تواجهه معارضة قوية من قادة الأعمال . وكما سبق القول ، فإن الحفاظ على التوظيف الكامل ليس برغبتهم . فقد ينفرط زمام العاملين وربما كان قادة الصناعة تواقين لتلقينهم درسا .
في الكتابات المتأخرة لماركس ، علاوة على الأعمال الأحدث في كتابات الاقتصاديين السياسيين البارزة في الأدب الماركسي ، يطرح الأساس لقراءة سياسية أكثر تماسكا لنظرية الأزمة ، وفيها تمثل أصول وتطور أزمة التراكم النتيجة غير المخططة للصراعات بين أفراد طبقتين متعاديتين . من جانب ، الطبقة الرأسمالية من خلال احتكاراهاه وسائل إنتاج ضروريات الحياة ، تجبر باقي المجتمع على العمل لديها لكي تعيش – وهكذا يصبح باقي المجتمع طبقة عاملة . وهذه العملية تستلزم استمرار طرد المنتجين المستقلين في المهن والزراعة وتحولهم في نهاية المطاف إلى بروليتاريا تتقاضى أجرا اعتمادا على أعمال السوق سواء لاحتمالات التوظيف أو مستوى المكافآت . ومن خلال إجبار المنتجين المستقلين على الدخول في الوضع غير الملائم نسبيا للعمل كعمال بأجر ، فإن ملاك الموارد الخاصة يشددون قبضتهم على الشئون المحلية على نطاق واسع ، وتزداد قدرتهم على تشكيل مسار التغير الاقتصادي والاجتماعي لمصلحتهم الخاصة .
لكن كما يشير "بل" و"كليفر" فإن فرض وضعية العامل على الصناع المهرة والفلاحين المستقلين "ليست مسألة يسيرة سلسة" . ففي كل المجتمعات فعليا واجهت عملية التحول إلى بروليتاريا مقاومة شديدة ودائمة عنيفة . وينص كلمات أوكونور : "كانت النضالات الدفاعية للمنتجين الصغار ضد تحديث الرأسمال والدولة أثناء الأزمات الاقتصادية (محركات التراكم الرأسمالي) ، وفي الوقت نفسه بدايات التراث الكبير Great Tradition للحركة العمالية . ولم تتبخر هذه العداوات مع نجاح حل الصراعات المتضمنة في التراكم الأصلي . وفي المقابل "وحتى بمجرد حدوث الانفصال ، واحتكار الرأسمال رسائل الإنتاج ، يتواصل الصراع . وفي بيع قوة العمل يدور الصراع حول شروط البيع ، كم من النقود مقابل حجم العمل ، وطبقا لأي شروط ، وهكذا . وبمجرد إتمام عملية البيع يتواصل الصراع أثناء العمل نفسه : نضال العمال ضد العمل ، ونضال الرأسمال للحصول على أقصى قدر من العمل . لذلك فإن علاقة الصراع بين أولئك الذين يسيطرون على الإنتاج وهؤلاء الذين ينفذون أنشطة الإنتاج توفر الأساس للمشاحنات اليومية أو إعادة الإنتاج في المجتمع الرأسمالي وقدرة أو ضرورة المؤسسة الخاصة على الاتساع .
في الواقع ، يولد النزاع بين الطبقات التي تشكل عملية التراكم آليتين متلازمتين لكنهما متعارضتان في المجتمعات الرأسمالية . من جانب تميل محاولات القوى التابعة لتحسين شروطها الخاصة إلى الحدمن التراكم المتصاعد للثروة في يد القطاع الخاص . وكما يشير بل وكليفر "يكمن أصل احتمالية الأزمات ، ليس في بعض قوانين داخلية غامضة لرأس المال متصورة كجانب واحد في العلاقة الطبقية ، بل على الأرجح في الأعمال الداخلية لرأس المال متصورة بوصفها العلاقات الإجتماعية الكلية للطبقتين . وقد تحدث انقطاعات لا حصر لها تدفع بالرأسمال إلى الأزمات . ومع هذا ، فإن احتمالية نشوب الأزمات تكمن في احتمالية تمزيق الطبقة العاملة للنظام وتحطيمه في النهاية . فقد يرفع العاملون تكلفة العمل إلى حد تصبح معه الفائدة الإنتاجية مستحيلة ، وربما يعطلون عملية الإنتاج من خلال الإضراب ، رافضين القيامب العمل ، "يتلكأون في أداء المهام" ، أو يخربون منشآت المصنع ، أو ربما يرفضون شراء السلع التي تنتجها مؤسسات القطاع الخاص . وتشكل كل واحدة من هذه الأعمال تحديا مباشرا لمن يتحكمون في الإنتاج ، الأمر الذي يمكن أن يتولد عنه "تراجع تحديا مباشرا لمن يتحكمون في الإنتاج ، الأمر الذي يمكن أن يتولد عنه "تراجع نفوذ الرأسمال في الهيمنة على العمال" .
على الجانب الآخر يستجيب أصحاب رأس المال استراتيجيا لمحاولات القوى الخاضعة لتحسين وضعهم الطبقي . ويصل "أوكونور" إلى استنتاج مفاده أن نشاطات التعطيل التي مارستها البروليتاريا عملت في أفضل الأحوال على أن تكون "محركات للتطور الرأسمالي بالمعنى العميق لتقوية نموذج التراكم ، إذ أنه في سياق الأزمات الدورية قام بتخريب الأسس الاجتماعية للعمال للمقاومة عن طريق إعادة تشكيل العمال وقوى العمل ذاتها" . وبطبيعة الحال لا تحقق البرجوازية النجاح دائما في حصار نشاطات العمال ، كما أن محصلة الصراعات بين هاتين القوتين لاتعكس دائما مصالح كل طرف بشكل مباشر . لكن مع الأخذ في الاعتبار الوضع السياسي المواتي لمن يسيطرون على مصادر التراكم ، فإن الملاحم الثورية التي يطاح فيها بنفوذ رأس المال وتصادر الملكية الخاصة يمكن توقع أن تكون نادرة الحدوث ، وتسفر معظم الصدامات بين القوى المهيمنة والقوى التابعة في المجتمع الرأسمالي عن أزمات تراكم تضعف موقف البرجوازية بدلا من التعجيل بانهيار مجمل النظام الاقتصادي الاجتماعي .
أنواع أزمات التراكم
تشير البحوث المراكسية المعاصرة إلى عدد من الديناميكيات القادرة على إحداث أزمات تراكم في الإقتصاديات التي يسيطر عليها القطاع الخاص والمحكومة بالأسواق . وترتبط اثنتانن من هذه الآليات – ميل معدل الربح إلى الهبوط والاتجاه نحو تناقص معدل استغلال قوة العمل – بالشكل الذي يتخذه التراكم في المؤسسات الخاصة غير المنتظمة . وتتناول الأخريان – تراجع الاستهلاك وندرة المواد الخام اللازمة لإنتاج مربح – العوامل الخارجية لعملية الإنتاج ذاتها . وكل واحدة من هذه الآليات يمكن أن تكون سببا في انقطاعات خطيرة في التوسع المنظم للمؤسسة الخاصة في ميادين التنافس المحكومة بعلاقات السوق .
وباستخدام المصطلحات التقليدية ، فإن ميل معدل الربح إلى الهبوط في المؤسسات الخاصة غير المنظمة ينتج عن افتراض أن عدد العاملين الذين يمكن التخلص منهم ضمن أي قوة عمل مفترضة له حد أعلى ، أي "عدد العمال (الفعليين والمحتملين) وطول يوم العمل (الذي لايمكن أن يبلغ 24 ساعة) والحد الأعلى لقوة الاحتمال البدني والعقلي" . ونظرا لأن حجم قوة العمل المستغلة في المجتمع له حد أعلى واضح (بينما يتضح أنه لايوجد حد للموارد الممكن استثمارها إذا كان هناك مسعى لتوسيع الإنتاج وزيادة الإنتاجية) ، يكون المطلوب تدريجيا من الرأسماليين "استمرار زيادة الاستثمارات لاستغلال حجم مفترض لقوة العمل الفائضة" من العاملين . بيد أن مثل هذه الاستثمارات تمنى بالإخفاق إذا ما بدأ العمال في الاستفادة من الوسائل التكنولوجية التي توفر وقت العمل ليحققوا لأنفسهم وفرة في الوقت ، الأمر الذي يجعلهم بمنأى عن يد من يسيطرون على الإنتاج . وكان ماركس يرى في هذه العملية تناقضا أساسيا مميزا للمجتمع الرأسمالي .
ويكمن التناقض ، لكي يكون بالغ العمومية ، في أن المزاج الرأسمالي في الإنتاج يتضمن ميلا تجاه التطور المطلق لقوى الإنتاج ، بصرف النظر عن القيمة وفائض القيمة المتضمن ، وبصرف النظر عن الظروف الاجتماعية التي يحدث فيها الإنتاج الرأسمالي ؛ في حين أن من الجانب الآخر يهدف إلى الحفاظ على رأس المال القائم ودعم توسعه الذاتي إلى الحد الأقصى .
ويسفر هذا التناقض في النهاية عن أزمة في التراكم ، نظرا لأن الزيادات في معدل استغلال قوة العمل تبرهن على عدم كفايتها في التوازن مع الموارد المخصصة لارتفاع مستويات الاستثمار في الإنتاج . وتتخذ الأزمة شكلين : الأول "تختفي رؤوس الأموال التي تحقق أدنى ربحية لأن أعمالها تمنى بالإفلاس" ، الثاني "يحجب الرأسماليون رؤوس الأموال على نحو متزايد عن الاستثمارات لأنه لا توجد منافذ مربحة . ومن منطلق اقتصادي بحت يمكن التغلب على هاتين الصعوبتين : فكما يشير "إريك أولين رايت" Erik Olin Wright يمكن على نحو دائم إنشاء الآلات التي تتزايد كفاءتها ويمكن تصور العمليات تامة الأتمتة إن لم يكن قد تم تصميمها . لكن من وجهة نظر سياسية ، فإن العمال المطرودين نتيجة مثل هذه الاختراعات سوف يشكلون على الفور تهديدا مباشرا للوضع المهيمن للبرجوازية ، القوة الاجتماعية المستغلة "الذين لم يعودوا بحاجة إليهم" . ويمثل ميل معدل الربح إلى التناقص مشكلة سياسية مؤرقة لأولئك الذين يسيطرون على المؤسسة الخاصة .
وفي ظل الرظوف التي تجعل العمال في وضع أفضل للمساومة مع الرأسماليين ، ربما تصبح البروليتاريا قادرة على تحقيق زيادات في الأجور أو المكافآت الأخرى تتجاوز أي ارتفاع مصاحب في إنتاجية قوة العمل . وهذه الزيادات ستضع سقفا لحجم الفوائد التي يحققها الملاك الأصليون للمؤسسة الخاصة وتؤدي إلى خفض معدل العائد الذي توفره هذه المؤسسات للمستثمرين بالخارج ، ويترتب على ذلك ازدياد صعوبة الأمر حتى على البرجوازية التي تتأثر بهذا التراجع في الأرباح سواء في استخلاص زيادات تالية في الإنتاجية أو العثور على مستثمرين جدد ، وينجم الشكل الثاني لأزمة التراكم . وتبرز مصاعب خطيرة في محاولات تفعيل اتجاه مفترض صوب إنقاص استغلال العمال ، ومع ذلك يبدو أن الآلايات المتضمنة في هذا الصراع كافية لتوفير أسس نوع من الأزمات مميزة عن الأزمات التي يعزى إليها ميل معدل الفائدة إلى الهبوط ومن المسلم به أن ضعف الاستهلاك يعتبر بمثابة معجل لأزمات التركام منذ زمن الفيزيوقراطيين (أتباع المذهب الفيزيوقراطي في الاقتصاد السياسي ، وهو مذهب نشأ في فرنسا في القرن الثامن عشر ، ونادى أصحابه بحرية الصناعة والتجارة ، وبأن الأرض هي مصدر الثروة كلها – المترجم) . غير أن مراكس هو الذي أبرز الميل تجاه ضعف الاستهلاك في المجتمعات الرأسمالية إلى مستوى عامل أساسي محدد للتوسع المستمر للمؤسسة الخاصة الخاضعة للسوق . ويقول في الجزء الثالث لرأس المال : "يظل السبب النهائي على الدوام لكل الأزمات الحقيقية هو الفقر والاستهلاك المقيد للجماهير كمضاد لاندفاع الإنتاج الرأسمالي لتطوير القوى المنتجة بالرغم من أن القوة المستهلكة المطلقة للمجتمع كانت تشكل حدها . ومع استمرار إنتاج المزيد من السلع ، ومعدل الربح الآخذ في الانخفاض الذي يجعل من بيعها أمرا حاسما لأصحاب الرأسمال ، تغدو الأسواق مشبعة . ونتيجة لذلك ينخفض الإنتاج ويطرد العمال المشتغلين في الصناعة من وظائفهم ، وهو ما يؤدي لتناقص قدرة عموم الكسان على شراء السلع الجديدة . ويسفر هذا الحلزون الهابط الأدبي عن أزمة ناجمة عن ضعف الاستهلاك ، تتمخض عن إنتاج الأصناف الفاخرة لبالغي الثراء والبضائع منخفضة السعل لتكون في متناول شديدي الفقر لتحتفظ بسوق مربحة .
وفي النهاية ، فإن توفير المواد الخام عموما يؤثر مباشرة على قدرة من يهيمنون على مؤسسات القطاع الخاص للحفاظ على وضع هيمنتهم على المجتمع . وهذه النقطة الأولية لم تكن غائبة عن مارسك ، الذي لاحظ أنه قد تنشأ مصاعب خطيرة للبرجوازية إذا ما أصبحت المنتجات الزراعية غالية الثمن على نحو جامح . وحسب كلماته ، يمكن حدوث توقف تام إذا ما فقدت المتطلبات الأساسية الحقيقية لإعادة الإنتاج (مثلا ، إذا ارتفعت تكلفة الحبوب أو لم يكن رأس المال كافيا لتراكمه) . ويفسر بل وكليفر هذه النقطة على هذا النحو : "التحكم في الوصول إلى المواد الخام غالبا ما يتم بنفس وسائل الصراعات على الأراضي وهو ما يحدث لتوفير الأيدي العاملة . لقد حارب الفلاحون من أجل أرضهم للحفاظ على احتمالات إنتاجهم المستقل ، كما احتاج رأس المال للمراعي ، أو المعادن ، إلخ .. فضلا عن قوة عملهم . لذلك فإن ندرة الغذاء أو المواد الخام الأخرى قد ترتبط مباشرة بالنقص في قوة العمل المتاحة . وهذا القصور أيضا يميل إلى إعاقة نقل المواد الخام لتتحول إلى منتجات نهائية ، بما يجعل تكاليف الإنتاج تبلغ حدا يحول دون تحقيق أرباح كافية لتغذية مزيد من التراكم .
تمثل هذه الآليات الأربع ما يسميه بل وكليفر "التهيؤات القصوى للأزمات" والواردة في الكتابات الماركسية الكلاسيكية والمعروضة بالتفصيل في أعمال الإقتصاديين السياسيين فيما بعد . وهكذا يقومون بإبراز أكثر الميادين وضوحا للصراع بين القوى المهيمنة والقوى التابعة في المجتمع الرأسمالي . وتمثل هذه الصراعات تحديات خطيرة لرضع من يهيمنون على مؤسسات القطاع الخاص ليس ببساطة لأنهم يقتطعون جزءا من قدرة المؤسسات الخاضعة للسوق على تحقيق الربح ؛ لكن الأهم من ذلك أنهم يحددون مرحلة "تطور الطبقة العاملة بوصفها فاعلا ثوريا" . وبكلمات أخرى ، تشكل أزمات التراكم الدورية أو الآنية ما يسميه رود آيا Rod Aya "وضعا ثوريا" وفيه يمكن أن تحدث انتقالات بالجملة في توزيع السلطة بين أعضاء التحالف الاجتماعي الحاكم وبين خصومهم المحليين الأساسيين . سواء تمخضت فرص التغيير الثوري هذه في الوقاع عن تحول سياسي أساسي معتمدا على عوامل من خارج العملية الإنتاجية نفسها .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أزمات التراكم بمصر في أوائل القرن التاسع عشر
بدأ المؤرخون الاقتصاديون المعاصرون للشرق الأوسط في وضع بدائل لآراء الباحثين الأوائل الذين افترضوا اتجاها طويل املدى للركود والهبوط الاقتصادي في مناطق مثل مصر بتحليلات لاتكاد تتضح الفروق بينها لشكل التوسع والانكماش الذي كان يميز اقتصاديات شرقي البحر المتوسط خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . وفي الحالة المصرية ، اتحدت ثلاثة اتجاهات رئيسية لتوفر أسس ما أسماه "أندريه ريمون" Andre Raymond "أزمة السنوات الأخيرة للقرن الثامن عشر" . في المقام الأول فقد طور القطاعان الرئيسيان للاقتصاد المدني بالبلاد – الإنتاج الحرفي ، وتجارة الاستيراد والتصدير – "لاتناغم تركيبي" رئيسيا في العقود الأخيرة للقرن الثامن عشر . وفي الوقت نفسه أدى انخفاذ حاد في إنتاجية المحاصيل الزراعية التجارية بالبلاد بطبقة كبار الملاك بمصر إلى التحرك في مواجهة القوات العسكرية العثمانية المرابطة بالمدن مما أفضى إلى تعطيل شكل الضرائب الزراعية التي كانت سمة لكل من المجتمعين المدني والريفي خلال معظم القرن الثامن عشر . وفي النهاية أدت المآسي الدورية لانخفاضات فيضان النيل والأوبئة والمجاعات إلى نقص حاد في الأيدي العاملة وارتفاع أسعار المواد الغذائية في الأسواق المحلية ، مما أسفر عن أشكال أقرب للفوضى في المدن الكبرى والقرى المحيطة بها مع نهاية القرن .
لم تكن القاهرة هي فقط أثكر المراكز المدنية ازدحاما بالسكان في نهاية القرن الثامن عشر بمصر ، بل كانت أيضا المركز الصناعي والتجاري الأهم بالبلاد . ففي داخل المدينة أقيمت المصانع التي تنتج المنسوجات الكتانية والقطنية ، والحرير والمنتجات المعدنية والخشبية ، وحصة كبيرة من المنتجات الفاخرة . وطبقا للعلماء الذين رافقوا قوات الحملة الفرنسية التي هبطت بمصر في عام 1798 ، كانت توجد على الأقل 74 طائفة صناعية ناشطة بالعاصمة في نهاية القرن . وحتى بين التجار وأصحاب المحلات قليلي العدد "ربما كان يوجد ربع آخر من السكان منخرطا في بعض أنشطة إنتاج النسيج مع نسبة صغيرة تعمل في أشغال الخشب والجلود ، وتصنيع الغذاء ، والأنواع الأخرى من الصناعة" . وبرغم التماثل التركيببي لمصانعهم ، فإن بعض هؤلاء الصناع المهرة كانوا يتقاضون مكافآت عالية – ويتمتعون بمكانة لابأس بها – مقارنة بالآخرين . ويذكر "أندريه ريمون" أن الأكثر ثراء بين الصناع المهرة بالقاهرة في نهاية القرن الثامن عشر كان العاملون بتصنيع الملابسك ، يليهم العاملون بالجلود في المدابغ الكبرى . وفي الناحية الأخرى من مقياس الدخول يقف العاملون بصناعة الأخشاب والمعادن ، الذين كانت مصانعهم "أقرب لأن تكون ورشا صغيرة الحجم ، لاتُغل سوى دخل متوسط" .
فضلا عن ذلك ، خلال النصف الثاني من القرن ، قام العديد من الصناع المهرة بالعاصمة بعمل شراكات مع أفراد من الحاميات العسكرية العثمانية المتمركزة بالمدينة . واتخذت هذه الترتيبات شكل التعاقدات الفردية ، يتنازل بموجبها الصانع الماهرعن نسة معينة من أرباحه السنوية مقابل الحصول على حماية ضباط الحامية . وفي بعض الحالات كان يوفد الصناع المهرة كضباط احتياط في هذه الحاميات ، وفي السياق نفسه يذكر "ستانفورد شاو" Stanford Shaw أن "بعض هؤلاء الجنود دخلوا مجال المهنة أو أصبحوا صناعا مهرة كوضع مميز في الوظائف العسكرية عن إخوانهم" . وغدا هذا الوضع شائع الانتشار في منتصف ثمانينيات القرن الثامن عشر ، حتى إن الرحالة الفرنسي "فولني" Volney انتقل لملاحظة أن "الانكشارية والعزبان وخمس فصائل أخرى ليسوا سوى حشد من الصناع المهرة والمتشردين" . وسواء كانت هذه الشراكات تعمل لصالح المهنة أو تلحق بها الأذى في أي وقت معين فلم تكن تعتمد فقط على تقلبات السوق المحلية والعالمية ، بل أيضا على توازن القوى بين أجنحة النخبة ، ولاسيما المصائر السياسية لأنصار النخبة .
بالإضافة لدور القاهرة كمركز صناعي مهيمن على مصر ، فقد كانت تخدم بوصفها المركز التجاري الأساسي للحرف بالبلاد . وبنص كلمات أندريه رسيمون ، كانت المدينة تمثل : محور التجارة الداخلية والخراجية لمصر . ويتم فيها إعادة توزيع الواردات على باقي أنحاء البلاد ، كما يجري تجميع مختلف الصادرات بها ، أما موانئ الإسكندرية ودمياط ورشيد فكانت تلعب دور موانئ التوقف . وتركزت التجارة الدولية كبيرة الحجم بالقاهرة . وكما حدد "فولني" : كانت القاهرة موضع مرور ، ومركز توزيع تمتد فروعه عبر البحر الأحمر إلى الجزيرة العربية والهند ، وعبر النيل إلى الحبشة ووسط أفريقيا ، وعبر البحر المتوسط إلى أوروبا والإمبراطورية العثمانية" . وبشكل خاص كانت المركز التجاري لتجارة الشرق الهائلة في البن والتوابل التي لعبت دورا حاسما في اقتصاد مصر .
وفي العقد الأخير من القرن الثامن عشر بلغت الأنشطة التجارية التي تجري بالقاهرة نحو 30 في المائة من إجمالي الناتج الاقتصادي لمصر . وبينما أخذت تجارة الذهب والتوابل تتراجع نحو عام 1700 ، فإن الطلب المتزايد على البن اليمني المعاد تصديره إلى أوروبا والأناضول زود المدينة في العقود الوسطى من القرن الاثمن عشر تقريبا بتجار الاستيراد والتصدير الأثرياء الذين يمتلكون ثروات كبيرة .
وبعد عام 1770 دخل الصناع المهرة بالقاهرة من التجار الأثرياء في صراع متنام مع بعضهم البعض ، نظرا لأن المصنوعات المحلية بدأت تعرف طريقها للركود ، وفي الوقت نفسه أخذت التجارة الخارجية لمصر – خاصة المعاملات التجارية مع أوروبا – في التصاعد . ويمكن الاستدلال على التأثير العسكي من زيادة الواردات منخفضة الثمن نسبيا على أصحاب مصانع النسيج بالداخل مع استمرار خفض المنتجين المحليين للأسعار التي يطلبونها على منتجاتهم في أسواق القاهرة خلال ثمانينيات القرن الثامن عشر . وكما يذكر أندريه ريمون : "هذا الركود يعصف بكل شيء حتى إنه يتناقض مع الارتفاع العام في الأسعار المصرية المحلية ، وبالتحديد في ازدياد اسعار المواد اخلام اللازمة لصناعة النسيج المحلية . وبحلول عام 1798 بدأ الوضع غير المواتي للعاملين في صناعة الملابس مقابل تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء ينعكس على حجم المنشآت التي خلفها أصحاب مصانع النسيج : في خمسينيات القرن الثامن عشر زادت تركات منتجي النسيج بنسبة 38 في المائة في المتوسط عن تركات باقي أصحاب الصناعات الأخرى ، وبعدها بأربعة عقود لم تزد عن ممتلكات المصنعين الآخرين سوى بـ20 بالمائة فقط . وحدثت انكماشات مماثلة في صناعة الفخار والزجاج وتشغيل المعادن . وترتب على ذلك ارتفاع معدل التفاوت الاقتصادي داخل المجتمع المصري على نحو حاد ، بينما الطبقة الأفقر من السكان – وهم الصناع المهرة وأصحاب المحلات – قد تحملوا وطأة الوضع الاقتصادي الكارثي" مع وصول القرن الثامنم عشر إلى خاتمته .
وفي الوقت الذي كان فيه تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء يناضلون لتوحيد موقفهم في المجتمع المدني ، ووجه كبار ملاك الأراضي المصريون بوضع سياسي متهرئ في المجتمع الريفي كنتيجة للتشغيل الإجباري لعمال الزراعة على نطاق واسع . فالنظم الزراعية التي يحقق فيها كبار الملاك دخولهم عن طريق إرغام الفلاحين على العمل لديهم ، وكذلك من الاستحقاقات الثابتة الأخرى نسبيا تتجه بمرور الزمن لتوليد فائق يقل تدريجيا . ودون الاستمرار في ضم مساحات جديدة واستزراعها وزيادة حجم الملكيات "يتجه دخل الإقطاعيات بدوره إلى التناقص . وترتبط أزمة النظام الإقطاعي بهذه الظاهرة : لا تنجح الطبقة المسيطرة في الاحتفاظ بالأسس الاقتصادية لسيادتها" . وهذا الاتجاه لايظهر – إلى حد ما – ما بقيت أسعار المنتجات الزراعية منخفضة بشكل عام . لكن مع ارتفاع الأسعار ، يتفاقم هبوط دخل الإقطاعية نظرا للانخفاض البالغ في حجم المنتجات التي يتمكن المالك من بيعها . وهذا الهبوط نتيجة ضرورية للنظم الإيجارية ؛ حيث يتم زراعة النصيب الأكبر من المنتجات المخصصة للتجارة في الأراضي المملوكة للسيد الإقطاعي . وفي الأوقات التي ترتفع فيها الأسعار يستطيع الفلاحون نسبيا التخلص سريعا من الحصص التي يتقاضونها مقابل العمل ، أما المنتجات الأقل قابلية للتسويق فقد تعود إلى حوزة المالك . وبمجرد الوفاء بالالتزامات يركز الفلاحون جهودهم على أراضيهم الصغيرة ، التي لاتوفر لهم فقط الغذاء والبذور ، بل تنتج أيضا ما يتمكنون من مقايضته في الأسواق المحلية من المواد المصنعة الحيوية مثل : المحاريث والملابس والأواني الفخارية . ويترتب على ذلك أن المجتمعات التي يتشكل فهيا الإنتاج الزراعي أساسا بأساليب "غير سوقية" فسوف تعاني من انخفاضات دورية سواء في مداخيل كبار ملاك الأراضي أو حجم المنتجات القابلة للتسويق في ظل السيطرة المباشرة للنبلاء .
وخلال فترات ارتفاع الأسعار ، التي تشهد تآكلا مطردا لوضع الهيمنة لكبار الملاك بالمجتمعات الريفية من منطلق الإنتاج الزراعي الإجقباري ، فمن المتوقع أن يحاول ملاك الأراضي هؤلاء تغيير دفة ثرواتهم الاقتصادية الهابطة عن طريق زيادة السلع المنتجة في أراضيهم تحت سيطرتهم المباشرة . وقد يفعلون ذلك من خلال إما : (1) إعادة توزيع أراضي الإقطاعية بما يحقق مصلحتهم ، أو (2) زيادة العمل الإجباري المستحق لأراضيهم ، أو (3) التركيز على إنتاج محصول تجاري واحد ، ولا سيما محصول غذائي أساسي مثل القمح أو الجاودار ، أو (3) "الانتقال بعمليات التسويق من الأسواق المحلية إلى الخارجية" . وعلى الإجمال ، فإن هذه الإجراءات تمثل استراتيجيات من خلالها يمكن إعادة فرض علاقات اجتماعية إجبارية بشكل أساسي على العمال الزراعيين .
وبدون اتخاذ موقف حازم من السؤال الصعب عما إذا كان تنظيم الزراعة المصرية في عهد محمد علي ، تقريبا ، يناظر مباشرة الإقطاع الأوروبي الغربي ، فما زال ممكنا تحديد عاملين مماثلين أساسيين بين النظم الزراعية الأوروبية في القرون الوسطى ونظيرتها بمصر في أوائل القرن التاسع عشر .
أولا ، استقرت السيطرة على الأراضي الزراعية في أيدي السادة المحليين (الملتزمين) ، الذين كانوا يجمعون الضرائب المستحقة على أراضيهم (الالتزامات) وتوجيه هذه الأموال (الميري) إلى الإدارة المركزية بعد استقطاع حصة منها (الفايظ) لمصالحهم . ومع منتصف القرن الثامن عشر كان من يسددون الضرائب من الفلاحين الأغنياء قادرين على تمرير ممتلكاتهم من الأراضي مباشرة إلى ذويهم ماداموا يدفعون المصروفات المناسبة (الحلوان) إلى الحكومة بالقاهرة . واستنادا إلى "كينيث كونو" فإن الملتزمين انتهزوا فرصة عدم قدرة الدولة على تحديد الفايظ الصحيح على أي ممتلكات ، وذلك بتحديد رقم منخفض وثابت على نحو زائف خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر . وكما يقول "بالتخلي عن الإشراف المباشر على الضرائب بالريف ، فقدت السلطات العثمانية القدرة على تحديد المطالب الضريبية اللازمة تبعا للتغير في إنتاجية الأراضي" . إذ أوكلت الحكومة لمسئوليها فقط مهمة جباية المبالغ المستقطعة غير العادية (الكشوفيات) اللازمة للمصروفات الإدارية كوسيلة لزيادة عائدات خزينة الدولة من القطاع الزراعي بالاقتصاد المحلي .
ثانيا كان يتم تنفيذ خطط الإنتاج الزراعي من خلال الفلاحين ، وكان من حقهم زراعة المحاصيل لاستخدامهم الخاص على مساحات كبيرة (الأطيان الأثرية) ، لكن كان مطلوبا أيضا دفع الضرائب للملتزمين من أجل الحصول على حق استخدام الأرض . وفي معظم الأحيان كانت تُجبى هذه الضرائب كالتزامات في شكل القيام بأعمال بالأراضي المخصصة للملتزم لاستخدامه الخاص (الوسية) ، ويمكن أياض أن تتخذ شكل مدفوعات نقدية للسيد الإقطاعي (خاصة في الوجه البحري) ، ومدفوعات في صورة سخرة (خاصة في الوجه القبلي) لتنظيف وإصلاح الشبكات الممتدة لقنوات الري التي تعتمد عليها الزراعة المصرية . ويفسر العمل الأخير أنه إذا حلت ظروف عصبية كان بمقدور الفلاحين بيع أو رهن حقوقهم في حيازة (الأطيان الأثرية) ، لكن تظل هذه الصفقات مرهونة بموافقة الملتزم لكي يضمن استمرار زراعة الأراضي وسداد الضرائب عنها . وتلاحظ "هيلين ريفلين" Helen Rivlin أنه رغم أن الفلاحين كان بإمكانهم توريث أراضي (الأطيان الأثرية) لأبنائهم ، "إن توريث أراضي الأثر ، الذي هو تقليد أكثر من كونه حقا ، كانت له طبيعة مقيدة ... تعتمد على الطبيعة الخيرة للملتزم الذي تقع أراضي الأثر في دائرة اختصاصه" . أكثر من هذا ، فإن بعض الفلاحين لم يكن لهم حق الانتفاع بالأرض على الإطلاق ، ولذلك يمكن اعتبارهم معدمين . وهؤلاء الفلاحون المعدمون كانوا يعملون كأجراء : إما لدى الملتزمين ووكلائهم المحليين أو لدى فلاحين آخرين ، "ليس بالضرورة أن كل الفلاحين الذين يعملون لدى آخرين هم ممن لايملكون أرضا ، ومع ذلك فقد جرت التقاليد أن يعمل الفلاحون الملاك كأجراء لدى الغير إذا جاء القبضان منخفضا وعجز عن ري أراضيهم" .
ومع مطلع القرن التاسع عشر كانت الزراعة في مصر تشترك في خاصيتين هيكليتين مهمتين مع النظم الإقطاعية الزراعية . والعلاقات الاجتماعية المصاحبة لهذه الهياكل أنتجت آليات داخل المجتمع الريفي تتماثل حقيقة مع الآليات المحددة في دراسات العصور الوسطى الأوروبية التي اقم بها "جاى بوا" Gay Bois و "ويتهولد كولا" Withold Kula . ففي نهاية القرن الثامن عشر ارتفعت أسعار القمح والأرز إلى حد مبالغ فيه في أسواق القاهرة .
ونظرا لأن ربحية الزراعة التجارية مالت إلى الهبوط بشكل عام في الحيازات الكبيرة بمصر خلال العقود الأخيرة للقرن الثامن عشر ، لذلك انخرط الملتزمون في صراعات أشد عنفا فيما بينهم من أجل السيطرة على الموارد الاقتصادية بالبلاد . وبعد عام 1750 ، وفي محاولة من بكوات المماليك لدعم أعدادهم المتنامية اعتمادا على أعمال السلب بالقوة ، دأبوا على أن يستقطعوا لأنفسهم نصيبها أ:بر من حصة الميري المستهدف إرسالها مباشرة إلى الخزانة المركزية . زد على هذا ، ضاعف النبلاء مطالباتهم من الفلاحين من خلال الابتزاز والاغتصاب مثل (المضاف) أو الضريبة الإضافية) و(البراني) – وهي رسوم تضاف للفايظ لصالح مالك الأرض – وجميعها تخرج عن نطاق إشراف الإدارة المركزية . لذلك سيكون من الخطأ استنتاج أن الصراع المتصاعد بين أجنحة المماليك هو السبب وراء ازدياد مصاعب الاقتصاد بمصر خلال السنوات التي تلت مباشرة الاحتلال الفرنسي (رغم أن هذه الرؤية كانت تتمتع بجاذبية لدى مؤرخ مؤيد للنظام مثل عبدالرحمن الجبرتي في كتاباته نحو عام 1815) . وينبغي بدلا من ذلك النظر إلى المشاكل الزراعية بالبلاد بوصفها اندفاعا حاسما لدعم "الاستقرار السياسي" الذي كان سمة المجتمع المصري في السنوات القريبة من نهاية القرن .
وأحد مؤشرات ازدياد عدم ربحية المزارع التجارية الكبيرة قرب نهاية القرن الثامن عشر هو الارتفاع الحاد في عدد حالات الالتزام الذي شهدته تلك الفترة . فقبل مطلع القرن ، بلغت حالات الالتزام نحو 159 في جرجا ، و132 في البهنسوية (بمديرية بني سويف) ، و61 في الأشمونين (بمديرية المنيا) ، و28 في باقي مديريات الصعيد . وفي عام 1797 ارتفع إجمالي هذه الحالات إلى 200 ، 545 ، 219 ، 443 على الترتيب . فضلا عن ذلك ، أصبحت هذه المزارع في عام 1797 أصغر حجما بكثير مما كانت عليه في السابق ، وبات هناك ميل واضح لأن تئول إلى ملكيات مشتركة بين عدد من الملتزمين . وجاءت هذه التغيرات في إطار محاولة من يسيطرون على هذه الأراضي لتقليل خسائرهم الزراعية كأفراد بتوزيعها على عدد أكبر من حائزي الأراضي .
وفي الوقت نفسه ، بدأت تتكاثر الأراضي المخصصة للأوقاف في جميع أنحاء البلاد . وتقول عفاف لطفي السيد :
مع نهاية القرن ، انتقلت خُمس الأراضي المنزرعة إلى الأوقاف ، أي 600 ألف فدان . وعلى وجه اليقين فقد تحولت أيضا نسبة اكبر من العقارات إلى الأوقاف ، رغم أنه لا تتوفر لدينا أرقام للتدليل على ذلك ، إذ إن أرقام المتلكات المذكورة في معظم الوثائق تشير إلى نسب محيرة تؤدي بالابحث حتما إلى تلك النتيجة .
لم تكن هذه الأراضي معفاة فقط فعليا من الضرائب الحكومية ، لكن كان من المستطاع الاحتفاظ بها غالاب لتقتصر على استخدام الأسرة وذرية مالكها الأصلي . ولذلك كانت تشكل وسيلة لضمان هامش للأمن الاقتصادي لهؤلاء الملتزمين الذين كانت أوضاعهم الاقتصادية آخذة في التفسخ . ومع ازدياد عدد الأوقاف زاد تأثير رجال الدين الذيني تولون إدارتها وارتفعت مكانتهم . ونظرا لأن هذه الممتلكات لم تكن خاضعة فعليا للضرائب ، فقد وجد المسئولون عن إدارتها أنهم قادرون على تكديس ثروات معتبرة على نحو غير متاح سواء للملتزمين أو مسئولي الدولة .
وثمة مؤشر آخر للمصاعب الاقتصادية التي واجهت الملتزمين بمصر في العقود الأخيرة للقرن الثامن عشر ، هو ازدياد عدد العلماء وتجار الاستيراد والتصدير الأثرياء الذين اشتروا الممتلكات المفلسة من المماليك وحائزي الأراضي من البدو آنذاك . وقبل بداية القرن التاسع عشر كان حائزو الأراضي البدو يمتلكون 74% من حالات الالتزام في جرجا ، و78% في البهنسوية ، و95% الأشمونين ، و19% في مناطق غير محددة بصغيد مصر . وفي عام 1797 هبطت هذه النسب إلى 46% و66% ، و49% ، و59% على الترتيب . ورغم أن جزءا من هذا التناقص نجم عن تسجيل الأراضي بأسماء زوجات الملاك الأصليين أو أبنائهم ، فإن ثمة شكا بأن عددا من العلماء اشتروا أراضي الالتزام بأعداد كبيرة مع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته . وعلى المنوال نفسه ، فإن التجار المقيمين بالعاصمة وأثروا من تجارة البن والمحاصيل اشتروا المزارع الخاضعة للضرائب بأعداد كبيرة بعد منتصف القرن ، وأداروها كملاك غائبين .
ومع اتساع نفوذ هذه القوى الجديدة بالريف ، فلاحو مصر معرضين لمستويات أكبر من الاستغلال . كانوا يكابدون في ظل التجار والعلماء ملاك الأراضي الجدد ، التواقين للتربح من استثماراتهم ، وفي ظل المماليك أصحاب الممتلكات القدامى الذين عقدوا العزم على استعادة مزارعهم بعد الطلب المتزايد على الأراضي الزراعية . ومع نهاية القرن اصبح الفايظ يشكل المخصص الأكبر الوحيد المفروض جبايته على الفلاحين من السكان . فضلا عن هذا ، تم فرض العديد من الضرائب "غير الرسمية" على الفلاحين بعد منتصف القرن الثامن عشر لسعي الملتزمين لتدعيم وضعهم المالي . وإضافة إلى الضرائب المفروضة – النقدية أو العينية – زادت "الأعمال الإجبارية بأراضي الملتزمين ، وحفر قنوات الري ، وحمل الطمى ، وزراعة المحاصيل في مزارع الملتزمين دون تقاضي أجر على ذلك ، وأعمال السخرة ، وهي العلم بدون مقابل في أراضي المسئولين الإداريين وفي بناء الأسوار وغيهرا من المهام . وتمثل متطلبات العمل الجديدة هذه الوسيلة المؤثرة الوحيدة لأصحاب الأملاك لتحسين وضعهم الاقتصادي في اقتصاد غير سوقي . لكنهم لم يستطيعوا بمفردهم تحسين الوضع السياسي للإقطاعيين مقارنة بالقوى الاجتماعية الأخرى النشطة في الريف .
وترك لنا المراقبون المعاصرون صورا صادمة لعدد من المآسي تتعلق بالمجاعات وتفشي الأوبئة التي ضربت مصر قرب نهاية القرن الثامن عشر . وذكر المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي أن مجاعة عام 1784 أرغمت آلاف الفلاحين على الفرار من الريف إلى المدن الكبرى ؛ وهناك كانوا يقتاتون على ما يلقونه مصادفة : القمامة المكدسة في الشوارع ، فضلات الحيوانات الملقاة خارج محلات الجزارة ، جثث الحيوانات المدفونة على جوانب الطرق . وتضافرت حالات الرعب من هذه المجاعة مع ما تلاها من تفشي داء الطاعون الدُبّلى . وبعد ثماني سنوات أخرى قيل إن فقراء المهاجرين إلى المدن كانوا يأكلون جثث زملائهم الموتى .
وقد كان لهذه الكوارث الطبيعية تأثير مباشر على لاقطاعات الرائدة في الاقتصاد المصري . وبكلمات عفاف لطفي السيد مرسو : إن تعاقب تفشي الأوبئة والمجاعات خلال ثمانينيات القرن الثامن عشر أفضى إلى "فرض أعباء أكبر من ذي قبل على طوائف المدن" . ففي عام 1790 عندما أغلقت الحكومة الفرنسية أسواق بلادها أمام المواد الغذائية المستوردة ، فإن "الجماعة الحاكمة بمصر – في احتياجها لمزيد من الأموال وتعويض خسائرها – تحولت إلى فرض الضرائب على المزارع ، وأتت على كل ما فيها" وترتب على ذلك "أن أصيبت المهن الحرفية خاضعة لضرائب متصاعدة" . وعلى القدر نفسه كان للمجاعات والأوبئة آثار كارثية خارج المدن ، ويستنتج كينيث كونو :
أدت المجاعات الناجمة من ازدياد الفيضان أو تناقصه ، والأوبئة التي كانت تصاحبه دائما إلى خفض قوة العمل المتاحة للإنتاج الزراعي . كما أن المجاعات قللت من توفير الحيوانات للحرث أو الانتقال ، فقد كان فقر الحصاد يعني أيضا ندرة القش وأعواد الذرة والبرسيم التي تقدم غذاء لها . وفي ظل هذه الظروف كانت تباع الحيوانات الداجنة المخصصة للذبح في أسواق البيع قبل أن تنضج بما يكفي ، أو يأكلها الفلاحون وأهل المدن قبل أن تتفق . وبعد انتهاء مجاعة طويلة ، حينئذ ، فإن تعافى الإنتاج الزراعي ليبلغ المستويات السابقة ربما يلزمه أكثر من فيضان جيد في العام التالي ، نتيجة للخسائر في قوة العمل من الإنسان والحيوان .
لذلك فإن الأزمات المتراكمة التي أصابت الاقتصاد المصري خلال العقود الأولى للقرن التاسع عشر تفاقمت عبر الكوارث الطبيعية التالية التي حلت بالبلاد في هذه الفترة .
التهديد السياسي لنظام الحكم
سواء كانت النزاعات المحيطة بالأزمات المتراكمة المتعاقبة تمثل تهدديا خطيرا للوضع المهيمن للتحالف الاجتماعي الحاكم لمصر ، فقد كانت تعتمد على ثلاث فئات من الشروط التي تكمن فعليا إلى حد كبير خارج العملية الإنتاجية . أولا ، أن قدرة القوى التابعة على تحدي حكام البلاد كانت وثيقة الصلة بمستوى تنظيم خصوم نظام الحكم . وكما يقول باحثو الثورة الاجتماعية الجدد عن اقتناع : "الأفراد لا يتحركون بطريقة سحرية إلى العمل ، لا يهم ما يشعرون به من الظلم أو العدوان او الغضب . ينبغي أن يتجه غضبهم من البداية إلى نهايات جماعية من خلال واجبات موجهة ومنسقة نحو التنظيم ، بصورة رسمية أو غير رسمية . وإلا حاق بهم فحسب الاكتئاب البغيض ليطيح بهم خارج الملعب . ثانيا ، يمتلك المعارضون تهدديا كبيرا بوضوح لنظام الحكم القائم عندما تواجه الدولة أزمات مالية متصاعدة . ثالثا ، تجسد قوى المعارضة أقصى تهديد للتحالف الحاكم المستمر في الهيمنة حينما تنشأ صلات استراتيجية مهمة بين المدينة والريف في الحركات الثورية . والصلة بين هذه الشروط الثلاثة أسفرت عما هو أ:ثر من الانقطاعات الحادة في الشئون الداخلية لمصر ؛ إذ أنها أوجدت أيضا لاظروف التي بموجبها أمكن أن يتغير تشكيل التحالف المسيطر للقوى الاجتماعية ، فاتحا الباب أمام إمكانية أن يحل بدلا منها ممثلون جدد في حكم البلاد وتغيير تركيبها السياسي والاجتماعي .
ويفترض "رود آيا" Rod Aya في جدول أعمال بحثي أنه في الأوضاع الثورية يمكن وضع تمايزات محددة بين المقاصد الثورية (التي يمكن أو لايمكن الوفاء بها) والنتائج الثورية (التي قد تكون قليلة مقارنة بدوافع وأغراض الذين شرعوا في العمل الثوري) . والعنصر الأول في هذه الأجندة البحثية هو "الانتباه إلى الحقوق والواجبات الموضوعة – التي يشترك فيها مختلف فئات الناس – والتي في حال انتهاكها ، تقضي إلى الإحساس بالظلم . وبالتوصل لحل الأشكال النوعية للظلم التي أثارت عمليات التمرد ، لايمكن للباحث أن يدرك فقط الصلة بين "الإحباط والحرمان والإجهاد ، أو التميز في المعاملة" من جانب ، و "سياسات تقييم احتمالات تعبئة القوى الشاعرة بالظلم على أساس القضية المطروحة فضلا عن فرص العمل التنسيقي بين مختلف معارضي نظام الحكم القائم .
ويقترح العنصر الثاني أن التفسيرات الملائمة للأوضاع الثورية ينبغي أن تقر بصحة "موارد النفوذ التكتيكية المتاحة للجماعات الواقع عليها الظلم – أساسها الاقتصادي ، التنظيم المجتمعي ، الصلات السياسية بالأنصار في الخارج ، و(الأكثر أهمية) الانشقاقات في تركيب السلطة التي قد تنكشف من أعلى" . ويشمل عنقود العوامل هذا متغاير الخواص بعض ما يمكن تصنيفه تحت مفهوم أزمة التراكم التي تحددت خطوطها العامية فيما سبق ، وتضاف إلى متغير حاسم يتضمن تناقضات داخلية محتملة في التحالف المسيطر ستناقش في وقت لاحق . لكن تركيز العنصر الثاني لـ "رود آيا" ينصب على الترتيبات المؤسسية التي يتمكن بها معارضو نظام الحكم من تنظيم أنفسهم في نشاطات جماعية سعيا لأهداف سياسية . وهذه الروابط قد تتضمن "جمعية عادية الأصدقاء ذوي اهتمام مشترك .. وجمعيات للفلاحين من مختلف الأنواع ، أو الأحدث من ذلك ، الأشكال الجديدة مثل اتحادات العمال أو الأحزاب الراديكالية" . على أن تكون جميع هذه المؤسسات متاحة للمشاركين لتوزيع أعباء جهود العمل بين عدد من الأفراد ، وتحسين فرص الحفاظ على حرية الانتخاب كحد أدنى . أكثر من هذا ، تزيل المؤسسات الاجتماعية المنشأة معظم الغموض المتعلق بـ "ما يمثله السلوك التعاوني في كل حالة معطاة" . لذلك فإن وجود علاقات تنظيمية بين المعارضين المحتملين للتحالف المهيمن يحسّن بوضوح ليس فقط إمكانية تبني أي عمل جماعي ، بل أيضا يكلل بالنجاح العمل السياسي للمعارضين .
إضافة للاعتماد على وجود أسس للعمل الاجتماعي المنظم بين القوى الاجتماعية التابعة ، فإن مستوى التهديد السياسي الذي يواجه نظام حكم يتغير تبعا للوضع المالي المتعثر للإدارة المركزية . وكما أوضحت "ثيدا سكوكبول" Theda Skocpol تم الإطاحة بالثورات الفرنسية والروسية والصينية جميعها بسبب العجز المتنامي لأجهزة الدولة عن التعامل بنجاح مع ما تسميه "أزمات التحديث" أي المتطلبات الاقتصادية لخلق صناعة كبيرة وأجهزة إدارية أكثر مرونة . وبنص كلماتها : "متطلبات جمع الضرائب بكفاءة أعلى ؛ من اجل تمويل متواصل لجيوش أقوى وأكثر فاعلية ، ولتنمية اقتصادية وطنية "موجهة" . وكان يتردد صدى محاكاة النماذج الأجنبية المتاحة داخلة هذه المجتمعات خاصة بين رجال الإدارة والطبقات الوسطى المتعلمة" . إلى حد أن الدولة اكانت تحتوي على "حالات القصور التركيبية في صميم بنيتها العاجزة عن تعبئة موارد متزايدة" ، وبات نظام الحكم عرضة لتمرد الفلاحين و "الضغوط الأجنبية الكاسحة" .
ولقد أصابت حالات العجز في التمويل مسئولي الدولة بالشلل في جهودهم لمساندة نظام حكم معرض للتهديد على الأقل من طريقين منفصلين . الأول ، مع تناقص الموارد المتاحة للجهاز الإداري المركزي أصبح رجال الإدارة أقل قدرة على تعبئة قوات الجيش والشرطة للدفاع عن النظام القائم أمام المعارضة الأكثر نضالا . إذ أن نقص أموال الضرائب أو باقي الإيرادات العامة خصوصا يفاقم من تهديد نظم الحكم في المجتمعات التي لايوجد بها جيش متأهب تحت القيادة المباشرة للإدارة المركزية ، نظرا لأن عدم قدرة مسئولي الدولة على تجميع قوات مسلحة كافية تعمل لديها يدعم تأثير أولئك الذين يتحكمون في ميليشيات أو جماعات من الأتباع المعارضين للحكومة والمؤيدين لدوام الثورة . وفي ظل هذه الظروف ، فإن التحديات المحتملة من خارج التحالف الحاكم تحدد درجة التغييرات الأساسية في توزيع السلطة داخل التحالف ، وتفاقم بشدة من المصاعب التي تواجه الأعضاء أصحاب المصلحة الفعالة بالوضع الراهن .
الثاني يحول هبوط عائدات الدولة دون تبني الإدارة المركزية إجراءات من شأنها اختيار أو تحجيم قوى المعارضة . لذلك ففي عشية الحرب العالمية الأولى اضطرت الحكومة القيصرية إلى اتخاذ قرار متسرع بتخصيص الموارد الشحيحة المتاحة للمجهود الحربي ، وهو ما أدى بها إلى أن "تتأرجح" بين برنامج باهظ نسبيا وبين قمع الاتحادات النقدية المناضلة في المدن الكبرى وسياسة أكثر تسامحا وتساهلا لتشجيع خلق طوق "لإطار قانوني ينجح من خلاله العمال والإدارة في حل نزاعاتهم في محيط مستقل نسبيا للعمل الاجتماعي" سعيا من أجل إمكانية تفكيك وحدة حركة النقابات المهنية . وفي الإطار نفسه ، كنتيجة لتحصيصها حصصا أ:بر من العائدات للمشاريع الصناعية الكبيرة ، ومخصصات مالية للمواد الغذائية وباقي الضروريات ، فإن الإدارة المركزية في إيران في ظل الشاه رضا بهلوي أعبقت عن تنفيذ برامج للإسكان بالبلاد فضلا عن واسئل الاتصالات ونظم الرعاية الصحية في السنوات التالية لعام 1975 . وقد لعبت التباينات الواضحة التي ميزت المجتمع المدني دورا كبيرا في تعبئة "الشرائح الدنيا من الطبقة العليا – بالذات العمال والباعة الحائلين وصغار موظفي المصانع والعمال المؤقتين "للثورة ضد نظام الشاه في نهاية عقد السبعينيات" .
خلاصة القول : تمثل المعارضة أقصى التهديدات حدة على الوضع السياسي لأي نظام حكم قائم ما إن تنشأ صلات متينة بني عناصرها المدنية والريفية . وفي دراسة "جون والتون" John Walton عن الثورات الوطنية في البلدان الفقيرة يستنتج أنه : "شأن الثورات الأوروبية ، تستمد الثورات الوطنية أصولها من تفاعل الظروف الريفية والمدنية ، ونادرا ما يقود الفلاحون الثورة ، أيضا فإن الثورات قلما تنجح بدون دعمهم النشط . ويلزم لتطوير وضع ثوري تحالف "اندماج محتمل بين الفلاحين الشاعرين بالظلم وغيرهم من المظلومين بالطبقات الأخرى" .
وتوفر الصلات بين سكان المدن ونشطاء الريف الاحتمال الأكبر لخلق وضع ثوري حالما تمثل هذه الصلات ما هو أكثر من مجرد علاقات تكتيكية ، مدفوعين ممن يحاولون توليد حركة جماهيرية ، والصلات التي تمثل التهديد الأعظم هي التي "تضمنها آليات مؤسسية في صميم الترتيبات التنظيمية من أجل إدارة أوضاح التخلف" . وهذه الترتيبات ممثلة بأشكال لها طابع الدوام من العمالة المهاجرة ، و"شبكات من المهنيين من مختلف الأقاليم" ، أبناء الريف المدينين للنخب المدنية . وتخلق هذه الآليات التنظيمية توحيدا للمصالح من جانب القوى الريفية والمدنية ، يحيلهم إلى "حلفاء طبيعيين ، وليس لمجرد أنهم كانوا أحيانا نفس الناس الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة في أماكن مختلفة" .
على أن تلك القوى المسيطرة تعترف بعنف ما يواجهها من تهديدات يشهرها معارضون بالريف والمد، ويتضح ذلك من محاولاتهم المستميتة لشق صفوف هذه القطاعات . وتتضمن هذه الاستراتيجية عادة تشكيل تحالفات تكتيكية مع واحدة أو أكثر من القوى التابعة ، وفي الواقع للحيلولة دون احتمال قيام روابط سياسية قوية بين المدينة والريف . ويذكر "أنطونيو جرامشي" Antonio Gramci أنه في أعقاب ثورات فقراء الريف في صقلية عام 1894 وعمال ميلان في 1898 "بادرت الطبقة المهيمنة في (إيطاليا) بسياسة جديدة للتحالف الطبقي ، والتكتلات السياسية الطبقية من نوع الديموقراطية البرجوازية . واضطرت لاختيار – إما الديمقراطية الريفية ، بالتحالف مع الفلاحين بالجنوب ، وسياسة خفض التعريفات وحق الاقتراع العام ولا مركزية الإدارة وخفض أسعار المنتوجات الصناعية ؛ أو إقامة تكتل مع عمال الصناعة (هكذا) بدون اقتراع عام ، من أجل توفير الحماية ، من أجل الإبقاء على مركزية الدولة ... ، ومن اجل سياسة إصلاحية للأجور ، وتدعيم الحركة النقابية . ولايقتصر هذا البرنامج في اعتماده فقط على وجود أشخاص أذكياء في مجال التكتيك داخل نظام الحكم بل أيضا ، وللوهلة الأولى ، على الوصول إلى المصادر التي يمكن أن تدعم مشاركة سياسية واسعة وأسعار مدعومة للبضائع المصنعة ، وثانيا على حواجز تجارية فعالة تتضافر مع أجور أعلى . وباختصار ، فإن الوضع المالي يمتلك تأثيرا حاسما ، رغم أنه غير مباشر ، على قدرات المعارضة في تضفير علاقات سياسية قوية فيما بينها .
التهديدات التي واجهت نظام الحكم بمصر في مطلع القرن التاسع عشر
كانت حركات التمرد الشعبية ضد التحالف الاجتماعي المسيطر ملمحا متكررا للسياسة المصرية خلال العصر العثماني . واشتملت هذه التمردات على مدى واسع من القوى المحلية ، وكان الدافع وراءها تشكيلة متعددة من المظالم الاقتصادية والسياسية . وتزايد تكرار ومدى اتساع الاضطرابات الأمنية بالمدن في الربع الأخير من القرن الثامن عشر ، من جانب كنتيجة لـ "تنامي عمليات سلب الأموالب بالقوة من سكان المدن عن طريق بكوات المماليك الذين كانوا يتقلدون السلطة" ومن الجانب الآخر نتيجة "ازدياد استخدام الجنود المرتزقة في خدمتهم" الذين كانوا لايقيمون وزنا كبيرا لعادات ومشاعر أبناء البلاد . وترتب على ذلك أن بادر نظام الحكم بالتحول إلى القادة الدينيين البارزين طلبا لعونهم في حفظ الأمن العام . وفي منتصف تسعينيات القرن الثامن عشر ، غدا كبار علماء البلاد ، بفضل إمكانياتهم على تعبئة الجماهير ، قادرين على الضغط حتى على أكثر بكوات المماليك نفوذا من اجل تقديم تنازلات محدودة لأتباعهم . لكن بمجرد جلاء الحملة الفرنسية في عام 1801 بلغ مستوى التهديد للتحالف الاجتماعي الحاكم ذروته ، ممهدا الطريق لتحديات ثانية أثناء عصر محمد علي .
وفي قاعدة هرم القوى التابعة القادرة على تحدي نظام الحكم بالقاهرة استقرت الشبكة المعقدة لتنظيمات الطوائف التي كانت تتخلل الحياة الاقتصادية والاجتماعيةب المدن الكبرى والمراكز . وفي الفترة السابقة على القرن السابع عشر يتضح أن الطوائف بدأت نشاطاتها أساسا كجمعيات دينية أو أخوية ذات صلات محدودة بالإدارة المركزية لمصر ، وبعد ذلك بدأت هذه التنظيمات تعمل كفروع لجهاز الحكم ، وتتولى الدولة تعيين شيوخ الطوائف الكبيرة مع استخدام مقارهم كوسيلة لتقدير الضرائب وتحصيلها . وكرد فعل لهذا الميل تجاه الاندماج المتنامي داخل نطاق سلطة الدولة ، عمل أعضاء الطوائف على إعادة ترتيب تراكيب هذه الجماعات خلال سنوات القرن الاثمن عشر ، وبصورة أساسية بالحد من مسئوليات وظيفة شيخ الطائفة ومهام مساعديه (النقباء) . وهذا الحال لخصمه "جابريل باير" Gabriel Baer : "يتبين بوضوح من دراسة تاريخ الجبرتي أنه في مصر العثمانية لم يضعوا أسس أي مهام سياسية شبيهة مثلا بتلك المهام المحددة لـ "العلماء" أو بعض مشايخ البدو . فقد كان يتم تجميعهم ، من حين لآخر ، لأغراض اقتصادية : مثل جباية الضرائب أو تثبيت الأسعار أو الاحتفالات التقليدية التي كانوا يشاركون فيها مع طوائفهم . ومع ذلك كانوا أداة في يد الحكومة ، وليس قوة مستقلة .
لكن في العقدين الأخيرين من القرن الثامن عشر قد أكد قادة عدد من الطوائف المصرية على الأقل على استقلالهم عن الإدارة المركزية ، واضطلعوا بدور أكثر فاعلية في الشئون السياسية للبلاد . وكان لطوائف الجزارين والفكهانية والخضرية والشيالين بشكل خاص دور فاعل في الثورات التالية التي اندلعت بالقاهرة في السنوات الأخيرة للقرن الثامن عشر . وجمع قادة هذه التجمعات المساهمات سواء من أعضاء طوائفهم أو سكان الأحياء التي يقيمون بها من أجل تنظيم وتزويد الميليشيات غير النظامية لمقاومة الاحتلال الفرنسي للعاصمة في عام 1798 ، وعلى نحو خاص لعب شيوخ طوائف الجزارين والفكهانية دورا رائدا في العصيان الذي حاصر الولاة العثمانيين الذين أرسلتهم إسطنبول ليحلوا بديلا للإدارة النابليونية بعد عام 1801 .
ولقد انتشرت تنظيمات الطوائف في كل أنحاء المجتمع المدني بمصر مع مطلع القرن التاسع عشر . واستنادا إلى العلماء الذين صاحبوا الحملة الفرنسية : فإن 278 طائفة كانت تمارس نشاطاتها بالقاهرة الكبرى في عام 1801 ، ويذكر الجبرتي عددا من التجمعات الأخرى لا تضمها هذه القائمة . وكانت هذه الطوائف في أغلبها تتجمع في أحياء معينة بالمدينة . وكما يلاحظ "روجر أوين" Roger Owen فإن أغلبية الحرفيين :
كانوا يعيشون ويعملون داخل حدود القاهرة ، العاصمة القديمة للفاطميين ، إلى الشمال من القلعة ، وهناك ، شأن أي مدينة أخرى قبل – صناعية ، منطقة مكتظة بالسكان ، ضيقة الشوارع ، يتعذر الانتقال داخلها ، تنحصر بها المتاجر التي تورد البضائع للأسواق ، سواء خارج البوابات أو داخلها . وعلى أية حال يتم إنتاج المصنوعات الأكثر تخصصا في وسط الحي الفاطمي ، والكثير منها يقع على طول الشارع الرئيسي المركزي الذي يربط البوابات الشمالية بالجنوبية . والشوارع مثل المتاهة ، وبعضها مسدود في آخره ، وتسمى حارات ، حيث يستطيع أن يتجمع فيها السكان معا ، للدفاع عن أنفسهم أو تقديم العون لبعضهم البعض.
وداخل كل حارة يمارس مسئولو الطوائف مسئولياتهم في فض المنازعات وحفظ النظام وتنظيم الشئون الاقتصادية اليومية . لذلك كان شيخ الطائفة المسئول يتمتع بسلطة إصدا تراخيص مزاولة مهن معينة ، علاوة على تحديد عدد العاملين بالمهنة في كل حي من الأحياء . حتى إن حق بيع المحلات المرخصة لباقي الأسطوات المؤهلين لم يكن ليتم دون موافقة شيخ الطائفة .
على أن التضامن الاتحادي داخل الطائفة كان يتعزز بعدد من الآليات التنظيمية . وتقول "سوزان ستافا" Susan Staffa : "كانت الطوائف تستمد الكثير من قوتها من حقيقة أنها تتألف من أفراد يعرفون بعضهم البعض ، حتى إن هيمنة شيخ الطائفة ترجع إلى أنه يعرف كل واحد منهم معرفة شخصية" . وفضلا عن تمتعها بالصلات الشخصية القوية ، فقد تميزت هذه الجماعات بالتماسك الذي يعود إلى "أن أعضاء أي طائفة يشتركون في الدين ، ويتألفون من العرق نفسه ، مع استثناءات قليلة" . وتتحصل العلاقات داخل الطائفة على مزيد من الدعم عن طريق مجموعة رموز دينية صريحة تضاف إلى تركيب الجماعة . وشاعت بينها التقاليد المصاحبة للطرق الصوفية ، والجماعات الأكثر تقليدية (الفتوات) سواء في الشعارات أو العروض العامة للصناع المهرة أو طوائف الحرفيين . وتضيف ستافا أن كلا من محتوى وشكل الاحتفالات الاستهلاكية لتنظيمات الصناع المهرة كانت تنطلق غالاب مع احتفالات المذاهب الصوفية" . وكانت هذه التقاليد تترسخ من المشاركة الجماعية للطوائف في مثل هذه الشعائر مثل رحلة قافلة الحج سنويا إلى مكة ، واحتفالات زفاف الأعيان المحليين .
لذلك من الضروري ملاحظة أن الهبة الشعبية السابقة مباشرة على تقلد محمد علي للسلطة كوال لمصر قادها شيخان من شيوخ الطوائف غير المعروفين نسبيا وتبدت في نمط شعائري خاص . وفي الأسبوع الثاني من شهر يونيو عام 1805 اعترض سكان حي الرميلة موكبا للفرسان العثمانيين كان يحمل إمدادات للوالي العثماني المحاصر بالقلعة ، وخاضوا ضدهم حربا شرسة دامت طيلة الأسبوعين التاليين ، وكبدوهم خسائر فادحة تحت قيادة شيخ طائفة الخضرية وشيخ طائفة الجزارين . وفي تقدير الجبرتي أن هذا الحشد كان يتألف من جمهور كبير من القاهرة كلها ، وكان زعماء دينيون شعبيون على رأس جماعات من أتباعهم ، ومعهم أناس آخرون من المناطق المحيطة بالمدينة . وسار حجاج الخضري ، شيخ طائفة الخضرية ، شاهرا سيفه متقدما هذا الحشد . وتفسر هذه الملحمة ليس فقط الاعتبارات السياسية المتنامية للطوائف في العقد الأول من القرن التاسع عشر ، بل أيضا الاستقلال المتزايد لقادة الطوائف عن مسئولي الدولة أو العلماء الأغنياء الذين يتمتعون بالتبجيل . وأتاح استقلال جماعات الطوائف الواضح للقوى التابعة في المجتمع المدني سلاحا محتملا يمكن من خلاله معارضة التحالف الاجتماعي المهيمن على مصر في مستهل عصر محمد علي .
ومع تنامي مستوى التنظيم بين كبار القوى المعارضة لنظام الحكم ، أخذت عائدات الضرائب التي تحصلها الإدارة المركزية من البلاد تقل تدريجيا طوال سنوات القرن الثامن عشر . وكان كبير المسئولين بالقاهرة ، الوالي ، يحصل على دخله من توزيع الضرائب الزراعية الريفية والمدنية (الالتزامات) على الأعيان المحليين . وبنهاية القرن الثامن عشر بات الولاة يدركون على نحو متزايد تناقص الدخل من بيع الالتزامات أو نقلها لمسئول آخر ، لأن بيع هذه الضرائب الزراعية بدأ يتخذ شكل الديون . وقرب نهاية القرن الثامن عشر "غدا من الصعوبة بمكان تحصيل المبالغ المتبقية من أسعار بيع (الالتزامات) ممن يمتلكونها ، وتراكمت أرصدة كبيرة لصالح السلطان من (الحلوان) أصبح من المتعذر جمعها . أكثر من هذا ، وبصرف النظر عما كان يتم تجميعه في النعاية ، اضطر الباب العلاي لقول ما يطرأ من تخفيضات على الديون الخاصة بمن توافيه المنية من الملتزمين ، وآلت إلى حوزة آخرين الذين ربما انتقل إليهم الالتزام على سبيل الرهن ، بالإضافة لديون الضرائب المتبقية عليهم بالكامل لصالح الخزانة . زد على هذا بدأت هذه الالتزامات تدخل تدريجيا تحت النفوذ الدائم للمماليك كأفراد وجماعات في غضون تلك الفترة ، وهو ما أفضى إلى أن تتخذ على نحو ما شكل الملكية الخاصة ، وبالتالي صارت تنطوي على بعض الحقوق ، مثل حق نقل الملكية أو التوريث . ونظرا لأن هذه العلميات باتت تدريجيا لا تخضع لإشراف الحكومة ، لذا أصبح من المؤكد انخفاض إيرادات الدولة من تحصيل الضرائب على الأراضي الزراعية ولجأت بالتالي لفرض عدد آخر من الجبايات على الأنشطة الاقتصادية علاوة على ضريبة الميري الأساسية .
وقد نجمت هذه الآلية عن تعارض أصيل في المصالح أخذ يتنامى بين الجهاز الإداري المركزي للبلاد وكبار ملاك الأراضي . ومع تعزيز إدارات الدولة غدا لكبار المسئولين بها مصالح طاغية في تعظيم عائدات الضرائب على المدى القصير كوسيلة لضمان وضعهم لدى الباب العالي . غير أن المسئولين الإداريين والعاملين معهم لم يظهروا اهتماما حقيقيا لتنمية الاستثمارات وإدخال التحسينات التي من شأنها أن تفيد في زيادة الإنتاجية بمصر على المدى البعيد .
لكن في الوقت نفسه ، مع بداية إحراز كبار الإقطاعيين لحقوق أصحاب الأملاك كملاك دائمين للأراضي الزراعية ، باتوا أصحاب مصلحة في تعظيم دخولهم طويلة الأجل من الأرض . وأدى بهم هذا إلى إجراء عدد من الاستثمارات المختلفة قللت من عوائدهم قصيرة الأجل المحتسب علهيا الضرائب لصالح فوائد اكثر على المدى الطويل . وبهذه الطريقة ، فإن التحالف بين مسئولي الدولة وكبار ملاك الأراضي الزراعية الذي ساد المجتمع المصري طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر أخذ يتفكك باطراد في العقود الأخيرة لهذا القرن .
فضلا عن ذلك ، وخاصة خلال الفترة من 1800-1805 ، كان للانفجارات الدورية للعنف السياسي بالبلاد تأثير متباين على ثروات هاتين القوتين الاجتماعيتين . ففي تلك الفترة شرع النبلاء في الاعتماد على فرض ضرائب "غير قانونية" مختلفة على الخاضعين هلم ، وبالتالي تعرضوا لتهديدات خطيرة من احتمالات الإخلال العنيف بالنظام العام أو غيره من الصدامات المحلية الناجمة عن الاستغلال المفرط للعمالة الزراعية . أما الدخل الذي يصل إلى الجهاز الإداري بالدولة فكان ما يزال يتحدد في معظمه بناء على الناتج الاقتصادي المطلق لمصر ، وليس كنسبة مئوية ثابتة تُحدّد مسبقا . وكنتيجة لذلك ، استطاع رجال الإدارة الحكومية الاحتفاظ بمكانتهم لدى الباب العالي في مواجهة الأداء الاقتصادي البائس أو بالصدمات التي يتعرض لها الاقتصاد إلى حد يفوق كثيرا إمكانيات كبار ملاك الأراضي في الاحتفاظ بوضعهم في المجتمع المحلي في ظل الشروط نفسها . وأدى الضعف المتأصل للوضع الاجتماعي للنبلاء مع قرب انتهاء القرن الثامن عشر إلى أن يتولوا دورا أكثر فاعلية في تحصيل عائدات الضرائب بجميع أنحاء البلاد . ولعله يُعزى للحروب الدائمة التي اندلعت بين أجنحة المماليك ما يراه أغلب الباحثين على أن هذه الحروب هي أبرز الملامح قاطبة في السياسة المحلية المصرية خلال هذه الفترة .
على أن العلاقات بين المجتمع المدني والريف أواخر القرن الاثمن عشر في مصر اتخذت أشكالا متباينة . في المقام الأول ، فقد أنعشت المبادلات التجارية سلاسل مترابطة قوية ومتنامية بين هذين القطاعين في الاقتصاد المحلي . وأورد كينيث كونو وثائق عن أعمال البلاد الخاصة بـ "نظام التسويق الحصري – الريفي" عن السنوات التي تلت عام 1780 ، مشيرا إلى أن سكان القرى الزراعية في وادي النيل بأكمله كانوا جميعا يتشاركون في أسواق أسبوعية قريبة من أسواق المدن . ولايقتصر ما يجلبه القرويون لهذه الأسواق على المحاصيل والدواجن من نتاج أراضيهم فقط ، بل يجلبون معهم أيضا الملابس الكتانية والقطنية والكتان المغزول والصوف وأنواعا مختلفة من الأواني الفخارية ، وغيهرا من المنتجات المصنعة في ورش محلية ، وتباع هذه السلع إلى تجار من المدن ينقلونها بدورهم إلى مخازن بالعاصمة لشحنها لباقي أنحاء البلاد وكذلك للتصدير . ومن عائدات هذه المبيعات يشتري عمال القرى معدات من الحديد والنحاس والرصاص تحتاجها المعدات الزراعية ، وآلات غزل النسيج ، والصابون والأصباغ لتجهيز الكتان والقطن للنسيج والفحم لتشكيل الحديد والنحاس ، إضافة إلى مدى واسع من المنتجات .
في الواقع يشير كونو إلى أنه مع نهاية القرن برزت تقسيمات إقليمية معقدة للقوى العاملة داخل الاقتصاد المصري :
لم يكن كل من مديرية بني سويف أو الفيوم تزرعان القطن ، غير أنهما كانتا تغزلانه وتنسجانه . وربما يمكن افتراض أن أي منطقة تزرع القطن والكتان وتنتج الصوف ويوجد بها عمال لنسجه ، فإن الإنتاج المحلي يغطي الطلب المحلي . وربما كان هذا صحيحا على نحو ما في بعض المناطق ، وإن لم يكن كذلك في قرية بعينها .. على أن توزيع الخامات والمنسوجات شبه المصنعة عبر الأسواق الدورية بدرجات مختلفة في عملية الإنتاج يترك الباب مفتوحا أمام احتمالات الاكتفاء الذاتي في كل منطقة ، لكنه يتناقض مع أي فكرة حول انعدام المبادلات التجارية بين القرية والمدينة ، أو بين القرى وبعضها البعض . أكثر من هذا ، فإن إنتاج الأقمشة المنسوجة يستلزم استخدام الأصباغ . وكان صبغ النيلة اللازم لإنتاج الألوان الزرقاء يُزرع أساسا في الصعيد ، وبكميات صغيرة في مصر الوسطى والفيوم ، ونادرا ما يوجد بالوجه البحري . ويبرهن وجود الملابس زرقاء اللون بالوجه البحري في كل الأوقات على جلب صبغ النيلة من الصعيد .
وأدى اندلاع الحروب الأهلية بالأقاليم إلى تعطيل هذه الشبكات التجارية في كثير من المناسبات بين عامي 1780 و 1805 . ومع ذلك ، فإن الفلاحين والمهنيين باتوا مندمجين بقوة في نظام ريفي للإنتاج والتجارة مع نهاية القرن ، ورفع هذا بصورة أساسية من مستوى الاعتماد المتبادل بين قطاعات الاقتصاد الأولية بالمدن والريف .
وفي المرتبة الثانية ، ساعدت المستويات العالية من الديون الريفية لمقرضي بالأموال بالمدن وملاك الأراضي على تقوية الصلات بين الريف والمدينة خلال السنوات القليلة السابقة على نهاية القرن الثامن عشر ، وبداية القرن التاسع عشر . فتجار القاهرة الذين تعاملوا في تسويق المواد الغذائية مثل الأرز والقمح والسمسم سمعوا إلى زيادة إقراض الفلاحين لتغطية تكاليف البذور والعمالة والحصاد . ومن رأي كونو أنه : "ربما كان تقديم مبالغ مقدما أمرا ضروريا لتمكين الفلاحين والملاك من مواجهة تكاليف الزراعة ، التي كانت تُدفع أغلبها نقدا . ومن جانبهم وافق ملاك الأراضي على تسليم الأرز للمضارب التي يملكها مقرضوهم من التجار ، وفق سعر ابتدائي . وبذلك كان المحصول يستخدم كوسيلة ضمان لسداد الدين المدفوع مقدما" . وفي هذا النمط من الإدراءات يستفيد الفلاحون من تلبية احتياجاتهم من رأسمال التشغيل ، كما أنه ساعد في التأكيد على أن التجار سيكون في إمكانهم "ضمان جزء من المحصول مقدما بسعر مناسب" . وأفضت ربحية هذه التعاقدات ببعض التجار إلى لاشروع بالاستثمار مباشرة في الاقتصاد الريفي في الأعوام الأخيرة من القرن الثامن عشر . وكانت هذه الشراكات تشابه إجراءات الحصول على حصة في المحاصيل ، إذ يتولى أحد الطرفين تزويد البذور والأرض وباقي المداخل ، بينما الآخر يساهم بالعمالة ، لكنهما لايقتصران على المهن الزراعية : ويصف كونو عقدا أبرمه تاجر من رشيد يدفع النقود والصابون مقابل ملح النوشادر مع شيخ إحدى القرى بمديرية الغربية . وينص كلماته فإن هذه الصفقة : "توفر تفسيرا لكيفية ارتباط القرية بالمدينة من خلال علاقات التبادل هذه بالاقتصاد الإقليمي الأوسع في القرن الثامن عشر . كما أنه يقترح كيف يمكن للتغيرات الحادثة في الاقتصاد الأكبر أن تؤثر في ثروات تلك القرية : قرب نهاية القرن تغيرت أسعار ملح النوشادر من 50 إلى 60 بارة للرطل ، لكن أثناء الحملة الفرنسية والحصار البريطاني لها انخفض السعر إلى 40 بارة .
ثالثا ، زادت القوة الدافعة لميل أعيان المدن للاستثمار في الأراضي الزراعية خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر ، وهو ما أسفر عن تمتين الصلات بين الاقتصاديات الريفية والحضرية . ومع توسع التجارة المحلية والإقليمية في أعقاب عهد علي بك الكبير . تقول عفاف لطفي السيد مرسو :
لم يتحمل كثير من المماليك وأفراد الفصائل العسكرية طويلا سداد الضرائب عن التزاماتهم ، واضطروا إلى رهنها ، في حين أن فئة اجتماعية – اقتصادية جديدة ، هي التجار ، اقتحموا المجال وحلوا محلهم . ومنذ عام 1728 تبين السجلات أن التجار اشتروا الالتزامات من المماليك . وبمجرد فتح باب الالتزام لقطاع من النخبة المصرية أبناء البلاد ، بدأ باقي هذه النخبة ،وهم الأعيان ، في الظهور بسجلات الالتزام . وبمرور الوقت ، ستصبح هاتان الفئتان ومعهما النساء الجماعة الأكبر التي تتولى الالتزام بالبلاد .
على أن العديد من هذه الصفقات اتخذ شكل الاستئثار برهن معين حيث يمكن أن يتخلى صاحب الالتزام عن هذا الحق ليخصص الناتج الإضافي من الأراضي لدائن منا لمدينة "مثلما يحدث في الرهن" . وبنهاية القرن الثامن عشر تقلص حجم الالتزام التابع للمماليك والضباط العثمانيين على نحو ملحوظ ، بينما استمر نمو ما يملكه تجار المدن والعلماء – خاصة في المناطق الزراعية الخصبة مثل الفيوم والشرقية . وسيطر التجار الأغنياء على نحو 10% من أراضي الالتزام بالفيوم في عام 1797 ، واستحوذ كبار العلماء على قرابة 7% من هذه الحيازات بالشرقية في نفس الفترة . وهذه الملكيات تقل كثيرا عما كان في سنوات القرن السابع عشر ، لكنها كانت تمثل أعلى الأراضي ربحية وتعمل باستخدام مميزات رأس المال الكثيف .
ولقد بذل التجار والعلماء أقصى ما في وسعهم كي تتكامل العمليات على ممتلكاتهم الزراعية مع معاملاتهم التجارية والمنشآت الصناعية . إذ استمر تجار الأرز بالمنصورة في الأراضي المنتجة للأرز المحيطة بالمدينة ، بينما هيمن تاجر البن القاهري الكبير محمد الدادة الشرايبي على المناطق المنتجة للقمح في مختلف أنحاء البلاد ، وهو ما وفر له مصدرا آمنا للحبوب التي تشحنها مؤسسته التجارية إلى اليمن مقابل البن اليمني المخاوي . وبصورة عامة انعكس تنوع ملكيات التجار على تنوع البضائع التي يتناولها كبار أغنياء التجار المصرييين ، وكما يلاحظ عبدالرحيم عبدالرحمن ، فإن تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء "اشتروا كثيرا من الحصص (حقوق تشغيل الالتزامات) في مديريات مختلفة وأداروها بمعاونة جهاز إداري بالمديرية ، بينما ظلت إقامتهم بالقاهرة للإشراف على أشغالهم كتجار" . وفي هذه السياق ، فإن الملتزمين المقيمين بالمدن ساعدوا على تعزيز النزعة التجارية الناميةف ي ريف مصر طوال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر .
نظرا لأن القوى التجارية بالمدينة بدأت تضطلع بدور أكبر في القطاع الزراعي من الاقتصاد ، فقد تأثرت الميول في الأسواق الوطنية والإقليمية على حد سواء في المناطق الزراعية بصورة مباشرة أوضح . ويستخلص كونو أنه رغم الحالة المجزأة لبيانات الأسعار المتاحة عن صعيد مصر خلال القرن الثامن عشر ، فإنه يمكن أن نتبين عموما "في ضوء استخدام النقود بالريف ، تنكشف تحركات مماثلة للأسعار في القاهرة وقرى الدقهلية . وتقترح الحركة الموازية للأسعار بقوة أن قرى مصر في القرن الثامن عشر كانت تتأثر تماما بتقلبات الأسعار الجارية بالقاهرة ، المركز التجاري للبلاد" . أكثر من هذا ، اتضح أن الانكماشات الدورية في التجارة الخارجية قد ارتبطت بفرض أعباء متزايدة من خلال الابتزاز ، سواء بوسائل شرعية على سكان الريف . ويلاحظ عبدالرحيم عبدالرحمن أن عائدات الضرائب التي كان يجمعها الملتزمون في تسعينيات القرن الثامن عشر كانت تتجاوز في المعتاد الإيرادات التي تقدرها الدولة . ومما لا شك فيه كان الارتفاع الحاد في ضرائب الفايظ والبراني سببا جزئيا في النزاعات المنقطعة بين فصائل المماليك التي اندلعت في النصف الأخير من القرن الثامن عشر . ويقول عبدالرحمن "في أي وقت يقوم احد الطرفين باحتلال منطقة ما ، حينئذ يتم فرض ضريبة جديدة . ونتيجة لهذه السياسة تتمكن إحدى القوى بالكاد من سداد المبلغ المطلوب ، وما تلبث أن تصل المجموعة الأخرى فتفرض مبلغا آخر . بيد أن الضرائب الزائدة كانت تعكس أيضا جهد ملاك الأراضي من التجار والعلماء لتكامل أراضيهم الزراعية التي استحوذوا عليها في إطار تنويع الدخل الناتج عن التجارة والاستثمار في الصناعات بالمدينة .
الإستراتيجيات السياسية المتناقضة والسياسة التوسعية الخارجية
توصلت الدراسات الأخيرة حول أصول الثورات الاجتماعية إلى اتفاق جماعي واسع على الارتباط الوثيق بين درجة بارزة من الشقاق داخل التحالف الحاكم واحتمال متزايد لثوران يؤدي لتغيير النظام . وبسط "تشارلز تيلي" Charles Tilly الفكرة القائلة بأن وضعا سياسيا "متعدد السلطة" هو الشرط الضروري الأكثر أهمية لوجود وضع ثوري . ويبرز هذا الوضع حينما تتشقق القوى المهيمنة داخل مجتمع إلى مراكز متعادية من أجل النفوذ ، تتنافس على السلطة في بلد معين وعلى سكانه الذين كانوا يحكمونهم في السابق بصورة مشتركة . ويضيف "آيا" أن دراسات الثورات تفيد كثيرا في "التركيز على التوزيع الاجتماعي لاحتمالات النفوذ ، وعلى التحالفات التكتيكية بين مختلف المتصارعين ، وعلى اندلاع صراعات على السلطة في المستويات العليا ، وذلك ، دون سابق إنذار ، ربما يفتح الساحة السياسية للتدخل الشعبي " . ويواصل قائلا : بتحليل الثورات من هذا المنطلق ، تؤكد الدراسات المعاصرة "القانون" الدائم لأفلاطون بأنه لا تحدث ثورة دون أن تظهر وحدة الفئات الحاكمة وولاء قواتها المسلحة . إلى الحد الذي تبرز فيه الصراعات الأساسية حول المصالح بين القوى التي تؤلف التحالف الاجتماعي الحاكم ، ويغدو مستوى التهديد السياسي الذي يشهره معارضو نظام الحكم أعلى صوتا بصورة أساسية .
على أن القوى المسيطرة على المجتمع تمتلك استراتيجيات واسعة المدى تستطيع أن تتبناها لمواجهة تحديات خصومها السياسيين : بمقدورها توزيع وحدات الجيش والشرطة في محاولة لعرقلة نشاطات القوى الخاضعة لها ومحاصرة النشاطات الأساسية أو التخلص منها ، وبإمكانها تقديم خدمات سياسية أو اقتصادية سعيا لاستقطاب بعض المعارضين وإبعادهم عن قوى المعارضة ، وباستطاعتها إنشاء مؤسسات جديدة مهمتها استئصال الأفراد الذين يوفرون أسس النشاط الجماعي بين أكثر قوى المعارضة نفوذا ، وتستطيع حشد العناصر التي لم تشارك من قبل لدعم نظام الحكم ، وبالتالي يخلقون نوعا من التوازن في مواجهة أولئك المعبّئين ضد النظام القائم . لذلك فإن الصعوبات الأولية التي تواجه اي نظام حاكم في ظل حتى أقصى تهديد محلي لاتشكل استجابة محتملة لمعارضيه الفعليين أو المحتملين – غير أنه بدلا من ذلك يجد الإستراتيجية النوعية او خليط الإستراتيجيات التي تمكنه من تطويق خصومه بينما يحافظ نسبيا دون مساس على العلاقات المفيدة المتبادلة بين القوى الاجتماعية التي يتألف منها .
ويقول "جون إلستر" John Elster إن الاعتبارات التي تؤدي بأعضاء طبقة اجتماعية معينة لتبني إستراتيجية سياسية محددة أو إستراتيجية أخرى في مسار صراعهم مع أشد خصومهم نفوذا تتغير طبقا لكل من درجة وطبيعة التهديد الموجه لمصالحهم . إلا انه يتم تطبيق خليط متباين من الاستراتيجيات بواسطة تحالفات متماثلة للقوى الاجتماعية عندما تواجَه بتحديات مماثلة . وخلال عام 1848 ، على سبيل المثال :
شن رجال الصناعة الإنجليز ضغوطا مكثفة في الصراع مع ملاك الأراضي لصرف انتباه خصومهم التقليديين وهم العمال . ومضى رجال الصناعة في فرنسا لمدى أبعد عندما دخلوا في تعاون نشيط مع الأقسام الأخرى للبرجوازية من أجل قمع العمال . وفي إنجلترا كانت قمة التعاون الطبقي داخل البرجوازية هي تفكيك المنظمة المناهضة لقانون القمح ، وفي فرنسا بلغت الأحداث ذروتها في يونيو 1848 ، مع القمع الوحشي لعمال باريس . أو مرة أخرى : تعاونت الطبقات الحاكمة البريطانية للحيلولة دون تشكيل وعي الطبقة العاملية ، والفرنسية لقمع العمال الواعين طبقيا . وكانت هذه على الأقل وجهة نظر ماركس .
وينتهي "إلستر" في مناقشة عن التحالفات الطبقية بالتأكيد على مغزى "التشوش التام للصراع الاجتماعي ، حيث لايعلم معظم الممثلين ماذا يريدون أو كيف يحصلون عليه إذا ما عرفوه" .
وبمعنى آخر ، إذا افترض الباحث أن الطبقات تتقاسم عموما مواقع متماثلة في تركيب الإنتاج ، وآراء متطابقة عن العالم بالمعنى الواسع ، يبقى من المحال من الناحية الشكلية تحديد ماهية البرامج الخاصة التي ستنتهجها كل قوة على حدة لتدعيم مصالح طبقتها ، رغم أنه يمكن البرهنة عند استعادة الأحداث وتأملها على تقرير مدى الاستراتيجيات الأمثل التي يمكن لطبقة معينة أن تتبناها في ظل هذه الظروف .
ويمكن أن تطرح للمناقشة أن أهم وسيلة سائدة تستخدمها أي قوة اجتماعية لتخفيف الآثار الضارة على رفاقهم داخل نظام الحكم الناجمة عن البرامج التي تبنتها لتحقيق مصلحتها الذاتية هي استخدام جهاز الدولة . ولا يعني هذا أن الجهاز الإدراي للدولة ليس صاحب مصلحة أصيلة خاصة به : إذ يمكن إسهام "ماكس فيبر" Max Weber في دراسة المجتمع في بحوثه المتقنة عن هذه المصالح . لكن ذلك لا يعني ان كلا من التركيب مؤسسات الدولة ومجال سلطة الدولة يتحددان عموما بالصراع المتفاعل بين القوى الاجتماعية ذات النفوذ ، غير أنه حدث في حالات نادرة أن انعكست هذه العلاقة . ويقول "بيتر جوريفيتش" Peter Gourevich :
تتغير الدول تغيرا واسعا في أشكالها التنظيمية والمؤسسية ، ولاتزال هذه الحال قائمة ، غير أن كل الدول تُطَوّر أجهزة إدارية كبيرة وقدرات هائلة للتدخل . وشكل هذا التغير ليس خطيّا ؛ فالدول توسع قدراتها وتقلصها . ولذلك قد تكون القدرات المؤسساتية نتاجا لعملية بناء أو كناتج للتدمير طبقا لحالة الصراع السياسي في لحظة معينة .
على أنه خلال فترات التحديات المحلية الحادة المقترنة بعدم ملائمة البرامج التي تنفذها القوى المسيطرة على المجتمع تنشأ على الأغلب وظائف جديدة و أدوار مبتكرة في الإدارة المركزية . وهذا المنظور دائما ما يصنف بوصفه "توازن طبقي" أو رؤية بونابرتية للدولة . لكن كما أشار إليستر فإن هذا الاختزال يُمَوّه على عدد من الصعوبات المفاهيمية الخطيرة فميا يتعلق بالعملية المعقدة التي ينحت فيها عملاء الدولة مجالا مستقلا للعمل داخل الأطر المحددة من القوى الاجتماعية الأخرى .
وترتبط التحولات في تركيب مؤسسات الدولة ارتباطا وثيقا بالتغيرات في برامج السياسية الخارجية التي يتبناها نظام الحكم . وحالما توجد ترددات ثانوية نسبيا أو مباشرة في طبيعة جهاز الدولة تستطيع تيسير حل التناقضات الرئيسية داخل التحالف الاجتماعي المسيطر ، فإن القوى التي تؤلف نظام الحكم لن يكون لديها سوى حافز ضئيل في المجال الخارجي لتتعقب صراعاتها السياسية المحلية . ويقول "أرنو ماير" Arno Mayer :
ليست هناك حاجة لاختبار مدى تشجيع التناقضات الكامنة للمجتمعات المتوازنة بصورة أساسية على خوض الحروب في الأوقات الطبيعية . ويكفي بطبيعة الحال ، أن الأمم ذات المجتمعات المتكاملة ونظم الحكم المستقرة لديها نزوع قليل نسبيا للصراع الخارجي . وهذا لايعني أن حكومات هذه الأمم لا تخوض الحروب مطلقا باختيارها أو لا تُفرض عليها من حكومات أمم أخرى . المهم هنا ، مع هذا ، أنه عندما تخوض المجتمعات والحكومات المستقرة على نحو أساسي الحروب ، فإنها تحارب لأهداف محددة ، ومعلومة تماما وقابلة للتفاوض . وبكلمات أخرى : فإنها تدخل في نوع من النزاعات عالجه "كلاوزفيتز" Clausevitz بصورة مثالية ، وصنفه "سيميل" Simmel بواقعية وصدق : حرب كأداة مسيطر عليها لتحقيق أهداف محددة في الأرض والاقتصاد والعسكرية . وفي هذه الحرب الواقعية ، تلعب الأهداف والحوافز السياسية المحلية دورا ثانويا محددا لكن لايمكن إهماله .
ولصياغة هذه النقطة بلغة عصرية أوضح : تتخذ "صناعة الدولة" أولوية واضحة على "صناعة الحرب" خلال فترات تكون فيها خلال فترات تكون فيها التناقضات داخل نظام الحكم محدودة نسبيا .
غير أنه حين تكون البارمج المتبناه من بعض القوى داخل التحالف الاجتماعي المسيطر تمثل تهديدا مباشرا لمصالح قوى أخرى ، تبرز بحدة الحوافز بحثا عن وسيلة لحل هذه التناقضات من خلال التوسع الخارجي . والسياسات التي تحسن الوضع السياسي لأحد أجنحة نظام الحكم ، وتحقق ذلك من خلال تعريض مصالح شركاته للخطر ، تؤدي لضعف قدرة التحالف الحاكم في الحفاظ على الهيمنة الجماعية على المعارضين في الداخل – الفعليين والمحتملين – باستخدام الموارد المحلية فقط . ويترتب على ذلك أن يصبح إضافة أراض من خارج حدود البلاد عملا أكثر جانبية لنظام الحكم . ويتيح برنامج خاص بالتوسع الاستعماري للحكام الحصول على موارد جديدة هائلة يمكن استخدامها كميزة سياسية محلية ، كما أنها تتيح الفرصة لإجراء تعديلات في الإدارة المركزية التي ستفرض قيودا أساسية على أنشطة المعارضين .
باختصار ، عن طريق نقل الصراعات الداخلية إلى الساحة الدولية ، يتسنى لأعضاء التحالف الحاكم ليس فقط توحيد الأسس الاقتصادية والسياسية لهيمنتهم بل أيضا اتقاء خطر التحديات . غير أن صياغة النقاش بهذه الطريقة يجرده من جزء كبير من محتواه التحليلي . ويوضح كل من "روبرت بيتس" Robert Bates و "وليم روجرسون" William Rogerson أن تعاون القوى الاجتماعية غالبا ما تكون له عواقب خطيرة غير متعددة تحد من الأهداف الجماعية لتحالف ما أو تحرفها . ودون أن يترك الباحث الباب مفتوحا أمام احتمال أن تتخذ كل قوة اجتماعية على حدة خطوات داخل نظام الحكم قد تعرض للخطر استمرارية الحلف الحاكم ككل ، فلربما يرجع الابحث إلى المفاهيم الوظيفية أكثر مما ينبغي عن الممارسة الطبقية لتفسير نتائج سياسة خارجية معينة . وينبغي بحسم أن نضع في اعتبارنا أن الاستراتيجيات السياسية المحلية الخالصة تستلزم على الأقل تكاليف باهظة وأمورا متناقضة شأنها شأن السياسة الخارجية ، وأن "حل المصاعب الداخلية" لا يتحقق بالضرورة يبذل اهتمام متزايد بها . ولايمكن للعديد من البارمج السياسية المتعارضة أن تكون مجالات للتوقعات ، ومن النادر أن تكون نتاجا لسوء الإدراك . لذلك كلما زاد مستوى التهديد لنظام الحكم ومعه عدم التوافق المتبادل في استجاباته لهذا التهديد اكتسبت البرامج المرتبطة بالسياسة الخارجية أهمية متزايدة لأفراد النظام ككل .
وهذه الدراسة تطرح للنقاش أن التوسع الخارجي ليس ترفا يمكن صرف النظر عنه ما إن يصبح باهظ التكلفة لنظام الحكم . بل على الأرجح أنه وسيلة مركزية لتطويق الأوضاع الثورية البارزة في الشئون الداخلية وتُعجّل من أو تفاقم مايسميه ماير : "الانشقاقات الحادة في الطبقة الحاكمة" .
خلاصة
وفرت ثلاثة اتجاهات داخلية هي الأكثر أهمية أسس سياسة التوسع الخارجي لمصر في مطلع القرن التاسع عشر . وتسبب تضافر الأزمات المتراكمة لكل من القطاعين الحضري والريفي باقتصاد البلاد في تمزيق حاد للعلاقات بين الصناع المهرة وتجار الاستيراد والتصدير في المدن والمراكز ، في حين أدى إلى زيادة معدل المصاعب على نطاق واسع ، وفرض القيود على عمال الزراعة في الريف . ومع بداية القرن ، ولدت هذه التطورات ، التي تفاقمت من جراء المآسي المتكررة الناجمة عن انتشار المجاعات وتفشي الأوبئة في أنحاء البلاد ، معارضة عارمة لنظام الحكم داخل المجتمع المصري بين تشكيلة من قوى ذات نفوذ وإن كانت تابعة . وبدأت هذه القوى تمثل تهديدا بالغا للهيمنة المستمرة لنظام الحكم في بداية القرن التاسع عشر ، حيث كانت تتمتع بدرجة عالية نسبية من التنظيم ، في مواجهة إدارة مركزية تعاني من مصاعب مالية متأصلة ، مع الاستفادة من العلاقات الداخلية المتنامية بين نشاطات قطاعي الريف والمدينة في الاقتصاد الأهلي .
وفي مواجهة ذرى دورية عالية المستوى من تهديد المعارضين السياسيين المحليين ، تبنى نظام الحكم بالتعاون مع محمد علي باشا عددا من البرامج عززت من مصالح أعضاء التحالف المسيطر ، لكن على حساب شركاتهم في التحالف . وفي ثلاث مناسبات منفصلة شكلت هذه التناقضات خطرا على مجموعة الهيمنة لحكام مصر عن طريق خلق أوضاع كان النظام فهيا على وشك التفتتت طبقا للخطط التي أملتها مصالح الأفراد لكل جماعة أساسية . وفي ظل هذه الظروف ، امتدت هيمنة النظام على الأقاليم المجاورة إلى الجنوب والشمال والشمال الشرقي لتزويد التحالف الحاكم للبلاد بأنواع الموارد التي يحتاج إلهيا لقمع معارضيه المحليين بأسلوب المنافع المتبادلة . ونظرا لأن نظام الحكم حافظ على سيطرته على الوقات المسلحة المحلية ، ولأن خصومه كانوا يتشاركون في مصالح عامة محدودة ، ولأنه استفاد من ميزة امتلاك أعضائه لرؤوس أموال هائلة ، فقد نجح في التحالف المسيطر المكون من رجال الدولة وتجار الاستيراد والتصدير الأثرياء – وفيما بعد – كبار تجار العقارات ، في تنفيذ برنامج للتوسع الاستعماري خلال الثلث الأول للقرن التاسع عشر .
الفصل الثالث: حملة الحجاز
في منتصف يوليو عام 1805 ، بعد أكثر من أربعة سنوات من الصراعات الأهلية المدمرة في جميع أنحاء مصر تم الإعلان عن أن محمد علي باشا أصبح واليا للبلاد بواسطة مندوب خاص عن السلطان العثماني سليم الثالث . وقوبل هذا الإعلان بترحيب من تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء وكبار القادة الدينيين (العلماء) بالقاهرة ، بعد أن عارضوا محاولات الوالي السابق في جمع الأموال من خلال فرض ضرائب باهظة على تجار المدينة بقيادة السيد عمر مكرم وباقي الزعامات الحرفية بالمدينة ، الذين لعبت قواتهم دورا أساسيا في حماية العاصمة من عمليات نهب الفرنسيين ثم المرتزقة العثمانيين الذين أعقبوهم ، وتطلعوا لمحمد علي لكسر شوكة نفوذ قواتهم المسلحة مرة وإلى الأبد ، وبواسطة القناصل الأجانب المقيمين بالمدينة ، الذين أعجبتهم شجاعة ودهاء القائد العسكري القادم من "قولة" Kavala .
وعلى مدى الثمانية عشر شهرا التالية واجه الوالي الجديد ومعه حلفاؤه السياسيون تحديات القوات العسكرية العثمانية العاملة بالسلب والنهب ، الذين استمروا في نهب الريف بعد طرد الفرنسيين ، وكذلك بكوات المماليك الذين عسكروا في الفيوم ومصر الوسطى ، وبعثة عسكرية تركية تحت قيادة قبطان باشا لإعادة مصر لحكم المماليك . وصدت الميليشيات المحلية المكونة من الحرفيين الموالين لعمر مكرم بصورة أساسية اول هذه التهديدات ، وجاءت وفاة – ربما في ظروف تثير الشكوك – عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي لتفسد الثاني ، ويتضافر توسلات شعبية مع رشى ضخمة تحول التهديد الثالث إلى مصدر إضافي لشرعية الوالي .
ومع ذلك احتاج توطيد أركان نظام الحكم الجديد إلى أكثر من مجرد دهاء ورؤية محمد علي . وكما أشارت عفاف لطفي السيد مرسو ، واجه الوالي صعوبات محلية بالغة متعددة حتى بعد وفاة البرديسي والألفي . أهم هذه الصعوبات على الإطلاق كان تغيير حلفاء محمد علي الأوائل" . ففي سنواته الأولى بمصر تعاون الوالي بشكل وثيق مع عدد من كبار تجار القاهرة . وكذلك من قيادات الحرفيين بالمدينة ، ومع مجموعة متنوعة من الفصائل العسكرية غير النظامية والمرتزقة . وبنهاية العقد الأول وجد هذا التحالف نفسه في وضع متقلقل ومحفوف بالمخاطر . وظلت التجارة مع الصعيد وعلى طول البحر الأحمر مشكوكا فيها في أفضل الأ؛وال ، نتيجة نشاطات بكوات الماليك الخارجين على النظام في الأراضي الواقعة أقصى جنوب البلاد ونشاطات الحركة الوهابية في وسط وغربي الجزيرة العربية ، وكانت ميليشيات الحرفيين تشن هجمات مستقلة على حملة عسكرية إنجليزية تعمل خارج الإسكندرية ، وبدأ الدالاتية والجنود الألبان المشاركون يعربون عن استيائهم من فترة السلم الروتينية والرواتب غير الملائمة وهاجموا مقر الوالي مرتين في خريف 1807 . كانت هذه الصراعات لا تمثل سوى التناقضات الأساسية داخل المجتمع التي ساعدت على استحكام الأزمة الاقتصادية في نهاية القرن الثامن عشر والتحديات السياسية المواكبة لها . وشكلت هذه التناقضات الضمنية تهديدا متصاعدا للتحالف المهيمن في عام 1810 تقريبا ، وبالتالي مهدت الطريق أمام أول سلسلة من الحملات التوسعية شنها نظام محمد علي .
كبار حائزي الأراضي وتهاوي الفوائد الزراعية
في السنوات الخمس الأولى لعصر محمد علي ، استمر كبار حائزي الأراضي المصريون يعانون من تدهور ملحوظ لوضعهم السياسي في أنحاء الريف . وتفاقم هذا الاتجاه مع بدء عدد متزايد من الملتزمين بالريف التخلي عن مساحات كبيرة من وساياهم (جمع وسية) لملاك أصغر مستقلين أكثر فاعلية . ويبدو أن هؤلاء المزارعين كانوا كثيري العدد خاصة بالصعيد ، حيث تولوا أراضي مختلفة مخصصة للأوقاف الخيرية (أراضي الرزق) كانت في السابق تحت السيطرة المباشرة لكبار جامعي الضرائب الزراعية ، لذلك لم تعد تذهب عائدات هذه الأراضي إلى الملتزمين أو الخزانة المركزية . وغدا هؤلاء الحائزون الصغار أقل اعتمادا على نحو متزايد على كبار الملاك الذين استأجروا منهم أراضيهم في أوائل القرن التاسع عشر ، وشرعوا يدبرون ممتلكاتهم بشروط مواتية للغابة . وفي عام 1810 تقريبا باتوا في وضع افضل في المجتمع الريفي عندما اضطر عدد متزايد من الملتزمين إلى التخلي عن أراضيهم للدولة "نتيجة الضرائب الباهظة والدخول المنخفضة من الزراعة .
وتخصص صغار الملاك في زراعة المحاصيل التجارية المربحة "مثل قصب السكر والنيلة والأرز والقطن والعصفر (القرطم) ..إلخ ، التي لم يكن يزرعها إلا فلاح ميسور الحال لحاجتها إلى رؤوس أموال كبيرة . وفي عام 1808 زرع هؤلاء الفلاحون كثيرا من الحبوب التي ارتفع الطلب علهيا بسبب عدم انتظام شحنات الحبوب من الصعيد إلى القاهرة ، وازدياد مشتروات القوات البريطانية المتمركزة في مالطا وإسبانيا . غير أن الاتجاه نحو التخصص في المحاصيل النقدية خلق روابط اقتصادية قوية بين صغار الحائزين الميسورين ماديا والصناع المهرة بالريف ، خاصة بالصعيد الذي نقل إليه الأخيرون أعمالهم لتزويد الأسواق المحلية مع تناقص واردات المواد المصنعة الوافدة من أوروبا خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر .
وطوال السنوات السابقة مباشرة على عام 1810 أصبحت العلاقات بين صغار الملاك المستقلين وكبار الإقطاعيين مثيرة للنزاعات . ونظرا لأن ملاك الأراضي الزراعية التي ازدادت اتساعا باتوا أكثر عرضة لضغوط مالية كبيرة سواء كنتيجة للأزمات المستمرة في الإنتاج الزراعي وكذلك للجبايات المتصاعدة التي يفرضها مسئولو الدولة ، ونظرا لأن رد فعل الملتزمين عن طريق زيادة طلباتهم من العاملين بالإقطاعيات ، لذلك هرب الفلاحون من أراضي الالتزام وتولوا أعمالا موسمية في الملكيات الصغيرة . هذا التحول خلق قدرا ملحوظا من التناقص بين ملاك الأراضي من كل الأنواع بسبب الحاجة إلى العمالة اللازمة لمزارعهم . ومال المراقبون المعاصرون لرؤية هذا الوضع باعتبار أن انخفاض العدد الفعلي للعمالة في المناطق الريفية أدى إلى نقص عام لقوة العمل في الأقاليم . وربما هبط العدد الإجمالي للعمال الزراعيين بمصر في هذا الوقت من جانب كنتيجة لسلسلة من المجاعات والأوبئة التي ضربت البلاد بعد بداية القرن التاسع عشر .
لكن بالوضع في الاعتبار مجمل معدل الزيادة السكانية المعتدلة ، وإن كانت ثابتة خلال هذه السنوات ، فضلا عن المصاعب الواضحة التي واجهها كبار ملاك الأراضي في استخدام العمال واستعادتهم بعد بداية القرن مباشرة . يبدو على الأرجح أن فقراء الريف كانوا يهجرون بأعداد متزايدة أراضي الالتزام ليتجهوا إلى قطاع صغار الملاك المتنامي بالاقتصاد الزراعي بالريف .
وحتى في تلك الأراضي التي استعاد الملتزمون سيطرة اسمية عليها نحو عام 1810 ، فإن القوى الاجتماعية الأخرى كانت قد أمضت فترة طويلة منذ أن تولت فعليا مسئولية معظم الأعمال على الإقطاعيات الكبيرة . وبحلول نهاية القرن الثامن عشر كان الوكيل المسئول عن زراعة الوسية يمد سلطته لتشمل أعمال المساحة لكل أراضي القرية وتحديد واجبات العمل الإجباري على لاسكان المحليين . وبدأ هذا الوكيل أيضا في جمع الرسوم من القرويين لحسابه الشخصي حتى تضخمت أمواله في الوقت الذي أخذ فيه وضع كبار الملاك في الضعف . وبرز نموذج مماثل فيما يتعلق بكل من جامع الضرائب الزراعية (الصراف) ، وموثق العقود – الكاتب (الشاهد) ، وغيرهم من المعينين للعمل في الإدارة . وفي السنوات السابقة مباشرة على عام 1810 تنامت سلطة هذه الإدارات المحلية تناميا كبيرا نظطرا لأنهم بدأوا يخصصون لأنفسهم حصصا متزايدة من فائض الإقطاعية ، بينما كانوا يتمتعون بالاتجاه لأن تصبح أوضاعهم وراثية .
دخل الملتزمون في صراع مباشر مع العاملين الإداريين بهذه الإقطاعيات المحلية في مطلع القرن التاسع عشر حول مسألة تقدير الضرائب في القرى الملحقة بكل التزام . واكتشف عبدالرحمن عبدالرحيم أنه رغم الضغوط المالية الحادة التي واجهت معظم كبار الإقطاعيين في ذلك الحين ، فقد بذل كثير منهم جهودا متواصلة لتقليل نسبة ضريبة (البراني) على عمالهم كوسيلة لضمان ألا يهجروا العمل الزراعي بالإقطاعية كلية ويهربوا إلى المدن . ويضيف : "ومع ذلك ، كان العديد من الفلاحين مجبرين على دفع الضرائب للإداريين المحليين" . ويشير هذا إلى تفاوت متنام بين مصالح الملاك التقليديين للإقطاعيات الزراعية بمصر وهؤلاء الوكلاء الذين كانوا مسئولين عن إدارتها إدارة يومية . وإحدى وسائل رؤية هذا التناقض هو اعتباره صراعا بين أولئك الذين لهم مصالح تجارية طويلة الأجل في هذه الملكيات وبين من يتولون مسئولية إدارية فقط قصيرة الأجل . لكن على نحو أكثر تأصيلا فإن مقاومة المشرفين المحليين لأي تخفيض لمستوى الضرائب على الفلاحين أبقى فعليا على وضعهم المتميز داخل المجتمع الريفي . إذ أن استمرار ارتفاع الضرائب يشجع بالتالي على استمرار هروب الفلاحين من الإقطاعيات ، فمن الناحية الفعلية لا يستطيع حائز الأرض الغائب عنها الاستغناء عن الإداريين بكفاءة وسط عدد من العمالة المتناقصة . وأدت الحاجة إلى إشراف وثيق وفرض عقوبات قاسية على عدم الإنتاجية أو "التراخي" – التي يتم متابعتها مع المشد – إلى تقوية سلطات هؤلاء المشرفين وتدعيم وضعهم مقارنة بالملتزمين . ومع استمرار ازدياد الفلاحين الهاربين حتى اضطر الإقطاعي للتخلي كلية عن إقطاعيته ، أصبح هؤلاء المشرفون أنفسهم خصوصا على الدرجة نفسها من الأهمية للحائز الجديد مع اضطرار عمال جدد لحد ما للعمل بها . لتبدأ الدورة مرة أخرى .
وكنتيجة لهجرة الفلاحين من الإقطاعيات والوضع المتهاوي للملتزمين مقارنة بوضع الوكلاء بالريف فإن مساحات متعاظمة من الأراضي الزراعية سواء بالوجه البحري أو الصعيد تعرضت للبوار بين عام 1805 و 1810 . وتبين سجلات الضرائب على الأراضي فجوات كبيرة في جمع عائدات الميري والمضاف في هذه الفترة ، برغم جهود بعض النبلاء للاحتفاظ بحقهم التقليدي في ملكية هذه الإقطاعيات من خلال سداد الضرائب عليها بأنفسهم . وفي حين حاول الملتزمون الأغنياء انتهاج هذا السبيل لاستعادة أراضيهم ، فإن الإقطاعيين وحائزي الالتزامات الشاسعة وهم أصحاب المصلحة الأكبر في انعكاس ما يسميه عبدالرحيم عبدالرحمن "تدهور الوضع الاقتصادي بالقرى" والنهوض المواكب لصغار الملاك بالأقاليم واجهوا مصاعب كان يستحيل تذليلها في إدارة مزارعهم إدارة مرحبة . وترتب على ذلك طبقا لما يقول عبدالرحمن الجبرتي : "أفلس كثير منهم قرب نهاية العقد الأول من القرن التاسع عشر ، وسقطت أراضيهم من سجلات الضرائب الزراعية كلية .
والخلاصة ، أن القوى الراسخة المرتبطة بالأرض الزراعية داخل المجتمع المصري – خاصة الملتزمين بالريف ، الذين كانوا غالبا من بين بكوات المماليك أو شيوخ البدو – وجدوا أنهم أصبحوا غير قادرين على استعادة وضع الهيمنة في الريف في العقد الثاني من القرن التاسع عشر بالبلاد . وفي الواقع بات وضعهم مثار شك نحو عام 1810 نتيجة الحال الذي تشكلت به الزراعة التجارية على نطاق واسع بالبلاد . أكثر من هذا فإن تكاثر صغار الملاك المستقلين أدى إلى تآكل الوضع الجماعي لكبار حائزي الأراضي ، بالذات في مناطق الجنوب . وحاول الملتزمون استعادة الهيمنة على الريف عن طريق زيادة معدل الضرائب وحجم العمل الإجباري المفروض أداؤه على الفلاحين في إقطاعياتهم ، لكن في النهاية أصبحت هذه الإجراءات مناهضة للعملية الإنتاجية نظرا لأن الفلاحين هجروا أراضي الالتزام ليصبحوا عمالا : إما في المزارع التي يستأجرها صغار الملاك أو في ورش الحرفيين المحليين .
ولقد أدى تزايد ضعف قبضة أمراء المماليك وقبائل البدو إلى أن يتجهوا لنهب الأراضي الزراعية ومسارات النقل الرئيسية البعيدة عن مديرياتهم . وتكثر الروايات عن عمليات النهب التي اقم بها المماليك في السنوات الأولى لعصر محمد علي فيما كتبه الجبرتي عام 1805 . وفي لاسنوات ألأخيرة للاحتلال الفرنسي تهاوت إلى الحضيض الرحلات بين السويس والقاهرة نظرا لأن القبائل بالصحراء الشرقية دأبت على الإغارة دوما على القوافل التي تعبر هذه المنطقة ، بما فيها قوافل الحج المتجهة إلى الحجاز . وأدت هذه العوامل إلى زيادة لافتة للنظر في درجة عدم الاستقرار الاجتماعي في المناطق الواقعة خارج القاهرة : وتستنج "هيلين ريفلين" أن : "محمد علي سعى لتأكيد أنه الوالي الشرعي لمصر ، لكنه فعليا كان يسيطر على القاهرة فقط . وظلت بقية البلاد في يد أجنحة المماليك المتنافسة وقبائل البدو الذين استغلوا الاضطرابات السياسية لنهب الريف لحسابهم الشخصي . لذلك كان وضع محمد علي محفوفا بالمخاطر لحد كبير .
استئناف التجارة مع أوروبا
في الأعوام الأولى للقرن التاسع عشر انخفضت بشدة المبادلات التجارية لمصر مع جنوب أوروبا ؛ التي كانت تمثل نسبة كبيرة من إجمالي التجارة الخارجية للبلاد في الربع الأخير من القرن الثامن عشر . وحسب كلمات روجر أوين : "كانت معظم التعاملات التجارية مع أوروبا متوقفة في عام 1805 (رغم أنه) قبل سنوات قليلة من هذا كانت هناك مبادلات تجارية كبيرة الحجم مع فرنسا وتوسكانيا والبندقية على وجه الخصوص . ويفسر بيتر جران هذا الاتجاه بأنه يعني أن التجارة المباشرة بين الإسكندرية ومرسيليا توقفت برحيل قوات الحملة الفرنسية عن مصر ، مما أسفر عن تحول صوب التعاملات التجارية غير المباشرة بين التجار المقيمين في الموانئ المصرية ونظرائهم بجنوب أوروبا . لكن مع اندلاع الحرب بين روسيا وتركيا وتزايد الطلب على لاحبوب لتزويد القوات البريطانية المحاربة في إسبانيا ، قفزت صادرات القاهرة إلى الشركاء التجاريين التقليديين للبلاد خلال النصف الثاني من هذا العقد . وساعد النهوض الدرامي للتجارة الخارجية تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء على إعادة تعزيز وضعهم القيادي داخل الاقتصاد المصري ، لكن على حساب تولد احتكاكات حادة داخل مجتمع التجار .
ومع مطلع القرن التاسع عشر ، قامت المؤسسات التجارية المصرية بتصدير مدى واسع من السلع للأسواق الأوروبية . وإضافة للمنتجات الزراعية ، مثل الأرز والقمح والعدس والبقول وقصب السكر ، كان يتم شحن كميات هائلة من القرطم والنطرون والسنامكي وبعض الملابس الكتانية والقطنية المنتجة في البلاد ، وذلك للأسواق الفرنسية والإيطالية عن طريق دمياط والإسكندرية في ذلك الحين . وبعض المؤسسات التجارية الكبيرة زادت من هذه التجارة بإعادة تصدير للصمغ والبخور والزعفران الوارد من اليمن ومناطق أخرى بالجزيرة العربية عبر القاهرة إلى الموانئ الأوروبية . وهذه البضائع في معظمها كانت تنقل عبر البحر المتوسط في سفن صغيرة مملوكة لشركات أوروبية . لكن في بداية القرن التاسع عشر تقريبا بدأت سفن يونانية تبحر تحت العلم العثماني تستقطع حصة كبيرة من التجارة الخارجية لمصر ، تنقل البضائع أولا إلى موانئ شرقي البحر المتوسط لتشحن إلى تريستي وليفورنو والبندقية أو مرسيليا .
وفي مقابل هذه الصادرات كان التجار المصريون يتلقون مدى واسعة من المواد المصنعة الأوروبية ؛ حيث كانت الملابس من إنجلترا وفرنسا والبندقية وليفورنو تصل بانتظام إلى موانئ البلاد في خمسينيات القرن الثامن عشر . وشكلت المصنوعات الخفيفة المصنوعة في Languedoc الجزء الأكبر من هذه الواردات ، غير أن الأصواف من Sedan و Louviers وليون ، إضافة إلى الملابس الداخلية من مونبلييه ، وحتى الطرابيش العثمانية من بروفنس كانت تدخل إلى مصر بانتظام في ثمانينيات القرن الثامن عشر . أيضا كان يتم استيراد الحراير الرقيقة والأقمشة المطرزة بالقصب وغيهرا من البضائع المتميزة من ليفورنو والملابس المتنوعة الخفيفة المصنعة في البندقية تقليدا للملابس الفرنسية ، وذلك بكميات كبيرة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر . وفي تسعينيات القرن الثامن عشر تراجعت المعاملات التجارية رغم ان مصر بدأت في تصدير خيوط القطن من أنواع مختلفة إلى أوروبا ، وفي أوائل القرن التاسع عشر تقريبا كان التجار المصريون يبعثون بصادراتهم القطنية إلى مرسيليا ، والملابس المصنوعة من القطن والكتان إلى ليفورنو .
وفي حين أخذت المبادلات التجارية لمصر مع أوروبا تعاني من عدم الاستقرار نتيجة التحولات الاقتصادية والسياسة شرقي البحر المتوسط ، فإن فئة ثانية من تجار القاهرة تولت تجارة مربحة في شبكة الأسواق الممتدة والمتمركزة في موانئ البحر الأحمر خلال السنوات الأولى للقرن التاسع عشر . وكانت الشئون التجارية في ههذ المنطقة في معظمها تتصل بالدور الذي يلعبه ميناءا السويس والقصير كنقاط تجميع ومحطات على طريق الحجاج المصريين إلى مكة . وكان التجار الناجحون وأصحاب الحرف الأثرياء في وضع أفضل ماليا يتيح لهم القيام بالرحلات للحجاز ؛ علاوة على ذلك ، فإن كل من كان يقوم بتلك الرحلة يعود محملا بالبضائع من الجزيرة العربية – للأهل والأصدقاء ، إن لم يكن للتوزيع على نطاق أوسع . وترتب على ذلك أن وجد المسافرون الأوروبيون أن "روح التجارة تتضافر في كل الحالات تقريبا مع روح العقيدة" بين الحجاج الذين يمارسون شعائر الحج . ولاحظ أحد أوائل المراقبين أن التجار المصريين يجلبون إلى مكة في موسم الحج "الملابس الصوف الملونة ، والطواقي ، والزجاج من كافة الأصناف والألوان .. النحاس والصلب والأسلحة ، والعملات الذهبية ، والمرايات" . ومضى يقول إن هذه البضائع كانت ترسل إلى الهند وبلاد الشرق الأخرى . وبالتبادل مع هذه المنتجات يحصل التجار المصريون على العديد من السلع الهندية : مثل الحراير والموسلين ، وCallicos والتوابل والبن .. إلخ .
وظلت هذه الشبكة التجارية على حيويتها طوال سنوات القرن الثامن عشر . وفي زمن الاحتلال الفرنسي للقاهرة ذكر "ستانفورد شو" Stanford Show أن مصر كانت تستورد "التوابل والبن من اليمن ، والتوابل والبخور والأصواف بأنواع متنوعة من الهند والملايو" وفي المقابل يقوم تجار القاهرة بتصدير الدقيق والقمح والعدس والزيوت والسكر والقرطم والكتان إلى موانئ البحر الأحمر . وحتى خلال السنوات التي كانت تحارب فيها القوات المسلحة الفرنسية فلول المماليك والبدو في الوجه القبلي ، استمرت هذه التجارة على ازدهارها . وتسببت غارة لمخازن مملوكة لتجار جدة وينبع" . وبعد أربعة شهور من ذلك تجمع جيش من المماليك والفلاحين خارج جرجا مباشرة و "سلب قافلة تضم مائتي تاجر ، كانت قادمة من الهند عبر البحر الأحمر ، والقصير وقوص" . وفي الوقت نفسه كات المنسوجات الهندية القادمة في هذا المسار عبر الصعيد يتم تسويقها في مرزق بفزّان .
ومع نهاية القرن الثامن عشر كانت كثير من مدن مصر العليا تعمل كقواعد لهذه الشبكة التجارية . والجدير بالذكر أن قنا كانت أهم هذه المدن على الإطلاق ، إذ كانت نقطة مهمة لعبور السفن على نهر النيل في منتصف المسافة تقريبا بين جرجا عاصمة المديرية والأقصر العاصمة الفرعونية . وقد التقى مسافر فرنسي زار المدينة في عام 1799 بـ "العديد من التجار الأتراك ، وأهل مكة ، والمغاربة ، جاءوا لتبادل البن والأقطان الهندية مقابل الحبوب" وبعد عقدين من ذلك ذكر زائر آخر :
بعد الإسكندرية ودمياط ورشيد والقاهرة ، تعتبر (قنا) على الأرجح المدينة الأكثر أهمية في مصر ، فأسواقها عامرة ، ومع أنه لا توجد بها مطاعم مثل التي في باريس ، إلا أنك تجد في كل شارع دكاكين شواء وفطير تقدم أطعمة بالغة الجودة ، وإذا أرادت الحكومة تسيير مركبات ، لأصبح تصدير البضائع حتى ميدنة قنا أمرا غاية في السهولة .
ونظرا لتوسع المعاملات التجارية عبر القصير بعد منتصف ثمانينات القرن الثامن عشر ، فقد حلت قنا تدريجيا بدلا من جرجا بوصفها أهم مركز تجاري في اقتصاد الصعيد .
غير أن قنا لم تكن المدينة الوحيدة بصعيد مصر التي استفاد حرفيوها وتجارها من العلاقات التجارية للمنطقة مع الجزيرة العربية والهند . إذ أن المركز التجاري القديم في قوص تميز أيضا بنشاطه في تجارة منطقة البحر الأحمر من الحبوب والملابس في العقد الأخير من القرن الثامن عشر ، في حين احتفظت فرشوط ونقادة بالعلاقات التجارية مع الحجاز أثناء الحملة الفرنسية على المماليك . كما استخدمت قرية حجازة ، إلى الجنوب الشرقي من قنا ، كنقطة تجميع لقوافل الحج والتجار القاصدين إلى القصير . وقد نمت الأنشطة في ميناء القصير على نحو دراماتيكي قرب بداية القرن التاسع عشر . ويقول شو : "نتيجة لتعاقب زيادة تعريفات الجمارك بالسويس ، وغارات البدو على القوافل المارة بين السويس والقاهرة ، وتأثر ميناء السويس بالطمى ، نزح قسم مهم من تجارة السويس إلى القصير خلال القرن الثامن عشر . وكنتيجة لهذا وبحلول نهاية القرن . لم يكن يصل للسيوس أكثر من 60 سفينة في السنة ، بينما تستقبل القصير ما بين 10 إلى 20 سفينة شهريا . ومع الانهيار الي لحق بالسويس ، زادت الصلات التجارية أيضا بين كل من مصوع وسواكن على الشواطئ السودانية مع أمير مكة في جدة ، وذلك مع بواكير القرن التاسع عشر .
وأي ذكر للسودان يقتضي أن نضع في الاعتبار الشبكة التجارية الكبرى شالثانية التي كانت مديرية قنا جزءا منها في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر – التجارة بين سنار ودارفور والحبشة إلى الجنوب ، مع القاهرة وأوروبا إلى الشمال . وقد توسعت هذه الشبكة على مساحة هائلة وتعاملت تجاريا في سلع متنوعة . بعض ههذ السلع ؛ مثل ريش النعام وسن الفيل (العاج) وتراب الذهب تعتبر من السلع الفاخرة ، وكان العديد منها يعاد تصديره إلى أوروبا بمجرد وصولها إلى القاهرة . بيد أن المنتجات الأخرى الواردة من السودان كانت بغرض الاستخدام المحلي سواء في العاصمة أو في الأقاليم . كانت قرب المياه (جمع قربة) وغيرها من المنتجات الجلدية ، علاوة على التمر الهندي تحظى بتسويق جيد في أنحاء الصعيد في أوائل القرن التاسع عشر . وفي مقابل الجلود والصمغ وقرب المياه ترسل مصر إلى أراضي السودان مجموعة متنوعة من المصنوعات تشمل الملابس القطنية والكتان ، والأصواف وورق الكتابة ، وأصناف من الأدوات المعدنية والخردوات بأنواعها .
وشكلت حركة السلع من وإلى السودان جزءا من شبكة تجارية أكبر من أي شبكة تتكون فقط من الباعة والمشترين المصريين . وربطت صفقات متعددة لأصناف مختلفة بين سنّار ودارفور والحبشة بالجزيرة العربية ومنطقة البحر الأحمر الهندي بشبكة معقدة أشرنا إليها من قبل . وكانت عملية الحج جزءا من هذه الحركة عبر قنا والقصير . وقد التقى مسافر إنجليزي في قنا بـ "عدد من الناس البدائيين غريبي الأطوار من وسط أفريقيا" في طريقهم إلى مكة . وفي عام 1799 تقريبا كان "فيفانت دينون" Vivant Denon يرى المدينة باعتبارها في مركز شبكة تجارية ممتدة تربط بين الهند والسودان . وينقل حديثه مع "تاجر التقيت به في قنا ، ويهذب دائما إلى دارفور" ، وفي وقت سابق "وجد في جرجا أميرا نوبيا ، شقيقا لملك دارفور : كان عائدا من الهند ، وسيذهب إلى من طقة أخرى تابعة لأحد إخوته ، الذي كان يرافق قافلة أخرى للنوبيين من سنّار "هذا الأمير قال للفرنسي إنه يرغب في رؤية القصير وقد غدت مركزا تجاريا مشتركا للتجارة الأفريقية – الهندية شأنها شأن حلب بالنسبة لبلاد المسلمين" . ومنذ عام 1700 على الأقل كانت تجري هذه المعاملات التجارية بصورة أساسية عبر الموانئ بأقصى جنوب ساحل البحر الأحمر من جهة أفريقيا ؛ مثل سواكن وذيلع ومصوع ، لكنها كانت تتتحرك شمالا حيث تحتل كل من قنا والقصير موقعا مركزيا في تجارة صعيد مصر .
على أنه يصعب التحقق من علاقات مصر التجارية مع أرووبا وتجارتها بمنطقة البحر الأحمر والسودان . فمن الواضح أن كثيرا من المنتجات المصدرة إلى أوروبا في مطلع القرن التاسع عشر كانت من بين مزروعات الأراضي المصرية بالصعيد : وتشمل "الحبوب بجميع أصنافها وحبوب القطان (Pulse) والكتان والسكر والعسل ، والزعفران والقطن ولاصوف ، والسنامكي والأرز؟ . فضلا عن ذلك ذكرت تقارير أن أفضل سكر صعيدي كان يرسل إلى إسطنبول لمائدة السلطان شخصيا . أيضا كانت المنطقة تنتج العدس الذي كان السكان المحليون يخلطونه بالقمح لصنع الخبز ويشحنه التجار إلى القاهرة ثم إلى اليونان وإيطاليا . والأهممن ذلك ، بدأ تصدير المنسوجات المنتجة في مراكز المدن بالوجه القبلي إلى إفريقيا وأوروبا على حد سواء خلال الأعوام الأولى من القرن التاسع عشر . ولاحظ "فولني" C.F. Volney أنه في بداية ثمانينيات القرن الثامن عشر كانت الملابس القطنية المصنعة بالصعيد تُؤخذ إلى فرنسا لـ"يعاد شحنها إلى الهند الغربية الفرنسية ؛ وفيما بعد بدأ كتان الوجه القبلي المصري يجد له أسواقا في تريسته وليفورنو . ويرى "تيرنس والتر" Terence Waltz أنه مع بداية القرن اشتملت صادرات المنطقة إلى دارفور وسنّار على الكتان المصنوع في أسيوط والمصبوغ عادة باللون الأزرق في المدينة ، وأيضا الأنسجة القطنية المغزولة في قنا ، ومن المحتمل الملابس المصنعة في نقادة وكرداسة وهي غير مسجلة "في سجلات الحملة الفرنسية . ويضيف إلى ملاحظاته أن "العمامات خضراء اللون التي يتلفع بها المسلمون والمصنعة في مصر كانت شائعة الاستخدام في بورنو ودارفور" ، في حين أن كردفان كان بها سوق خاصة متميزة للملابس القطنية المصرية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر .
وبمجرد أن بات الصعيد يزود أسواق أوروبا والجزيرة العربية وأفريقيا بعدد من السلع لبيعها ، تسربت المنتجات الأوروبية إلى الشبكة التجارية بالصعيد في السنوات الأخيرة للقرن الثامن عشر . وكانت الملابس من إنجلترا وفرنسا والبندقية وليفورنو تدخل في منافسة دائمة من المصنوعات المحلية في جميع أنحاء البلاد في منتصف القرن تقريبا ، غير أن مقادير كبيرة من هذه الأقمشة كانت تجد طريقها إلى أسواق البحر الأحمر والسودان في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر . ويلاحظ "فالنشيا" Valentia "تعاملات تجارية هائلة في أصناف كثيرة من المنسوجات البريطانية" في مصوع . وفي ام 1767 استقر وكيلان فرنسيان في فرشوط في محاولة لتأسيس علاقات مباشرة أكثر مع الأسواق السودانية والآسيوية والمصرية داخل أفريقيا . وكدليل على مدى النفاذ الأوروبي لأسواق السودان والحبشية زيادة أعداد المسيحيين الأقباط في هذه المناطق نتيجة التأثير الفرنسيسكاني في العقود الأخيرة للقرن لاثامن عشر . وقد شهدت نهاية القرن الثامن عشر منافسة مباشرة على المعاملات التجارية للمنسوجات الأوروبية في إسنا مع المصنوعات المحلية المناظرة .
وفي غضون تلك السنوات ذاتها ، مع هذا ، أسفر عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي واكب الحروب النابليونية عن تهاو دراماتيكي في كميات الملابس الأوروبية الداخلة إلى الأسواق المصرية . وفي بدايات القرن التاسع عشر ، ومع بدء المنتجين المحليين في تصنيع انواع مختلفة من الأقمشة لتعويض النقص في المنتجات الأوروبية ، توسعت البلاد في صناعة الملابس محليا . غير أن صناعة الكتان المصرية – التي كانت توفر الملابس سواء للاستهلاك المحلي أو للتصدير خلال ثلاثينيات القرن الثامن عشر قبل الزيادة السريعة في الواردات الأوروبية التي بدأت في منتصف القرن تقريبا – انتعشت بعد عام 1790، وهو نفسه ما حدث في صناعة القطن بالبلاد .
وهذا الاتجاه المعاكس في الميزان التجاري لمصر مع أوروبا واكبه إعادة ترتيب مفاجئة في العلاقات السياسية بين تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء بالعاصمة وأصحاب الحرف والصناع الذين توفر أنشطتهم أسس الحياة الاقتصاديةب القاهرة وباقي المدن الكبرى . في المقام الأول ، أكد تجار المدن وطوائف الحرفيين تدريجيا على استقلالهم عن الحاميات العسكرية العثمانية التي كان قادتها يهيمنون على أعمالهم أغلب سنوات القرن الثامن عشر . وهذا الاتجاه ساعد عليه الإدارة الفرنسية التي ألغت نظام الضرائب غير المنتظمة التي كانت تفرض من قبل الضباط العثمانيين ، وخولت لشيوخ الطوائف مهمة جمع الضرائب اللازمة من كل طائفة منها . ومع انتهاء إشراف الانكشارية وأوجاقات الحامية ، ارتفع عدد تنظيمات الطوائف المستقلة بالقاهرة ، واستنادا إلى الجبرتي فإن الـ70 طائفة العاملة بالعصامة في بدايات القرن ارتفع عددها إلى نحو 106 طوائف في عام 1814. أكثر من هذا قامت هذه الطوائف بتطوير برنامج سياسي وليد في الربع الأخير للقرن الثامن عشر . وبكلمات أندريه ريمون : "كونت الحركات الشعبية أشكالا للاحتجاج البدائي ضد القهر" . وبات هذا الاتجاه أكثر تأكيدا نظرا لأن شيوخ الطوائف باشروا دورا مركزيا في مقاومة الاحتلال الفرنسي بعد عام 1798 .
ولبثت الميليشيات غير النظامية التي تشكلت من رجال الحرف بالمدن قوة فاعلة في الشئون السياسية للبلاد حتى بعد جلاء القوات العسكرية البريطانية عن الإسكندرية في عام 1807 . وفي الشهر التالي لعب مواطنون مسلحون من الأحياء المحيطة بالقلعة في القاهرة دورا رئيسيا في إخماد تمرد للقوات الألبانية والتركية اندلع بسبب خلاف حول رواتب متأخرة . وكانت قوات الميليشيا هذه تحت قيادة عمر مركم نقيب الأشراف بالعاصمة الذي قام بتنظيم وقيادة أعمال العصيان المسلح ضد الفرنسيين سواء في عام 1798 أو 1800 . وبسبب قدراته بوصفه قائدا لميليشيات الحرفيين المدنيين كان السيد عمر مكرم معارضا بارزا لمؤسسات التجار الأثرياء القائمة ، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الحاسمة عن كيفية توزيع السلع الغذائية بالبلاد . وعموما كان العاملون بالحرف يؤيدون حماية الإنتاج الزراعي من تقلبات الأسواق ، عن طريق تخصيص أراض زراعية معينة كأوقاف تحت إشراف كبار رجال الدين المحليين . وقد أثار هذا الإجراء خلافا بينهم وبين التجار الذينكانوا من جانبهم يفضلون تصدير نسبة كبيرة من الحبوب المصرية إلى الأسواق فيما وراء البحار. وكوسيلة لإضعاف قوة أصحاب الصنائع المنظمين جيدا ، بدأ أثرياء التجار بالعاصمة في زيادة حجم الواردات الوافدة إلى السوق المصري خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر . ففي عام 1802 بدأت تظهر الأقمشة الواردة من تريستي في محلات القاهرة ، وانتعشت المبادلات التجارية في المنسوجات مع لانجيودوك وبروفنس بعد ذلك بفترة قصيرة . وفي أعقاب المراسيم النابليونية في 1806-1807 التي تحظر التجارة بين القارات مع بريطانيا العظمى وسمتعمراتها ، وما تلاها من هجوم عسكري لفرنسا على إسبانيا ، ازدهرت فرص التجارة المصرية مع أوروبا باطراد . وبحلول يونيو عام 1808 تزايدت زيارات السفن اليونانية والتركية التجارية إلى ميناء الإسكندرية إلى حد أن قادة الأسطول البريطاني في المنطقة بدأوا في اعتراض تلك السفن في مسعى لمنعها من تزويد أعداء بريطانيا بالمواد الغذائية . وباقي المواد الخام الحيوية . ومع ذلك ، وبعد عشرة شهو وصل سبعة تجار فرنسيين من مرسيليا إلى الإسكندرية جالبين معهم تشكيلة من السلع لمبادلتها بالحبوب والسكر الخام والنطرون .
غير أنه لا التجارة غير المباشرة عبر اليونان ولا المعاملات التجارية المباشرة مع فرنسا كانتا تعادلان اتساع التجارة الخارجية لمصر التي تمخضت عن المفاوضات مع الحكومة البريطانية حول منتجات الحبوب لتزويد جيوشها في حملتها على شبه جزيرة إيبيريا . وأُبرمت اتفاقية بشأن إجراءات توفير الحبوب لتزويد هذه القوات في عام 1808 . كما خرجت في هذا التوقيت تقريبا من هذا الميناء كميات ضخمة من الأرز في طريقها إلى الحامية البريطانيةف ي مالطة . وتقول عفالطفي السيد مرسو : "كان دروفيتي Drovetti من الناحية الفعلية يقدم تقريرا شهريا عن السفن المحملة بالبضائع التي تغادر الميناء شهريا إلى مالطة" ، وهو ما أفضى إلى ارتفاع أسعار الحبوب إلى مستويات بالغة في أسواق القاهرة ، ومن المؤكد أن هذا الوضع أفسح المجال لعلاقات وثيقة بين تجار المدينة والتجار الإنجليز .
أتاح التوسع التجاري مع أوروبا لتجار الاستيراد والتصدير الأثرياء من القاهرة ودمياط والإسكندرية تحجيم ميليشيا أصحاب المهن وأرباب الصنائع المصريين وبالتالي المساعدة على إعادة تأسيس هيمنة التجار داخل اقتصاديات المدن والمراكز الكبيرة . وفي صيف 1809 عجلت خطط نظام الحكم الرامية إلى الزيادة الكبيرة في كميات الحبوب المصدرة إلى مالطة وإسبانيا بمواجهة بين أقرب مستشاري محمد علي وبين قيادات أصحاب الحرف بالعاصمة . واستنادا إلى عفاف لطفي السيد التقى رئيس الديوان مع عمر مكرم ومجموعة من أعوانه و(اقترح أن يذهب العلماء ليتحدثوا مع الباشا ، لكنه أضاف تهديدا ضمنيا هو الأول من نوعه عندما قال إنه يجب عليهم توخي الحرص في مناقشاتهم مع الباشا ، ذلك "لأنه شاب سليط اللسان ، جاهل ومستبد ، وربما يؤذيكم" . وفهم العلماء التهديد الضمني ، وأجابوا "لن نذهب أبدا ونلتقي به مادام هو يمارس هذه الأفعال") . ونتيجة لذلك ، وجد السيد عمر مكرم وأنصاره أنهم في خصام مع كبار العلماء المصريين ، مما اضطر معه رؤساء طوائف الحرفيين للبحث عن حلفاء جدد في صراعهم لمقاومة هيمنة التجار على مقدرات القاهرة .
ورغم النجاح في تفويض موقف المهنيين المدنيين ، فإن استراتيجية استيراد كميات كبيرة من السلع الأوروبية إلى مصر أثارت تناقضات حادة داخل جماعة التجار بحلول عام 1810 أو نحوه . كانت بعض عائلات التجار القائمة مثل عائلة القازدغلي والشرايبي قادرة على استيراد ثرواتها في العقد التالي على الاحتلال الفرنسي ؛ والكثير من مهذه المؤسسات كانت قد استثمرت أموالها المتراكمة الجديدة في الأراضي الزراعية ، بالذات في المزارع المنتجة للمحاصيل النقدية في الدلتا ، كوسيلة للهروب من الاقتصاد المديني الذي ازدادت اضطراباته . غير أن المؤسسات التجارية الكبيرة الأخرى التي تعادلها وجدت أنها أضيرت بالتوجه الجديد للتجارة الخارجية صوب البحر المتوسط ، والانصراف عن البحر الأحمر . وعانى تجار مثل محمد المحروقي وإبراهيم المويليحي ، اللذان كانت لهما علاقات ممتدة مع الحجاز ، من هذا التفاوت نتيجة تهاوي تجارة البحر الأحمر ، وعملا معا على بث الحياة مجددا في هذا العنصر الخاص من تجارة مصر الخارجية خلال السنوات الخمس الأولى من عهد محمد علي .
وفي الوقت نفسه ، فإن الأهمية المتزايدة لتجارة المنسوجات مع أوروبا عززت كثيرا من وضع التجار الشوام المسيحيين على حساب التجار المحليين . وهؤلاء التجار سيطروا على وظيفة رئيس جمرك القاهرة القديمة منذ سبعينيات القرن لاثامن عشر على الأقل ، وبسط أقوى المديرين نفوذا سلطانه على كبرى موانئ البلاد الأخرى عن طريق "تعيين أشقائه فقط وأقرب معارفه كرؤساء لإدارات الجمارك المحلية . وتعاون أبرز أعضاء هذه الجالية مع قوات الحملة الفرنسية في بداية القرن التاسع عشر تقريبا في مسعى للخروج بسلام من الأزمة التجارية العامة التي استحكمت في السنوات السابقة مباشرة على احتلال نابليون للبلاد . وترتب على ذلك ، أن بات التجار المسيحيون هدفا للاستياء الشعبي وحتى عرضة لأعمال غوغائية بمجرد جلاء جيش نابليون عن العاصمة . ومع ذلك ، شهدت السنوات التالية لعام 1905 انبعاث نفوذ الشوام مجددا داخل الشئون الاقتصادية للبلاد لحد كبير "نظرا لأنهم سيطروا على واردات الملابس الأوروبية وإعادة بيعها ، علاوة على أنهم هيمنوا على سوق الاستيراد والتصدير مع أوروبا" . وبحلول سنة 1810 كانت عائلات مثل البحري والبقطى والفرازلى قد طورت علاقات وثيقة مع الوالي ، وعمل أفراد من الأسرتين الأخيرتين كوكلاء شخصيين لمحمد علي في مرسيليا وليفورنو وستوكهلم .
لذلك فقد واجه تجار الاستيراد والتصدير المصريون الأثرياء سلسلة من المصاعب السياسية مع قرب وصول العقد الأول للقرن التاسع عشر من نهايته . أولا ، غدا هؤلاء التجار عاجزين عن التنسيق بين الشبكتين التجاريتين للبلاد مع الخارج ، الأولى المختصة بأوروبا ، والثانية حول البحر الأحمر ، مع تزايد عدم التوافق بين الشبكتين وبدء تصدير السلع المصنعة المنتجة في مصر سواء للشمال أو للجنوب الشرقي . ثانيا ، وجد تجار القاهرة أنفسهم يخوضونمعركة مع طبقة منظمة جيدا لأصحاب الحرف المهنيين في أعقاب الاحتلال الفرنسي ، طبقة كانت أنشطتها تمثل تحولا في العلاقات بين الحكام والمحكومين تمتد جذورها في المجتمع المصري إلى منتصف القرن الثامن عشر . وفي لانهاية فإن الوسائل التي تبنتها المؤسسات التجارية الأقوى نفوذا للحد من وضع الحرفيين أسفرت عن نتيجة غير مقصودة ؛ إذ فاقمت من الصراعات بين التجار الأغنياء أنفسهم . ومع التوسع في صادرات الحبوب المصرية إلى جنوبي أوروبا في مقابل المنسوجات وغيهرا من السلع المصنعة التي ينتجها حرفيو القاهرة ، سعى تجار المدينة صوب تقوية اتجاه بين المؤسسات المالية الأكثر ثراء على الاستثمار في الأراضي الزراعية بدلا من المشاريع الإنتايجة في المدن ، الأمر الذي بات يهدد سبل معيشة تلك المؤسسات التي كان أعضاؤها متخصصين في تجارة البرح الأ؛مر ، وتقوية الوضع الاقتصادي لجماعة الشوام المسيحيين الذين بدأوا كأفراد في احتلال مواقع التجار المحليين منذ أوائل سبعينيات القرن الثامن عشر . في ظل هذه الظروف اتجه كبار تجار الاستيراد والتصدير إلى الإدارة المركزية طلبا للمساعدة في تأكيد هيمنتهم على خصومهم السياسيين المحليين ، وفي بث الانسجام في العلاقات المتبادلة بين أقسامهم المتعارضين .
برامج الدولة والصراعات داخل نظام الحكم
ما إن أصبح محمد علي واليا على لاقاهرة ، حتى تشكلت الإدارة المركزية لمصر من : جهاز خزانة بالغ الضخامة ، ومجموعة من الفصائل العسكرية ، وشبكة من ولاة الأقاليم ، وديوان هائل الحجم ، ومقرها جميعا القاهرة ، وكان أعضاؤها يعملون طبقا لمشيئة الوالي ، الذي يقوم بتعيينه السلطان في إسطنبول . ومن الناحية الفعلية كانت جميع هذه المؤسسات قد أصبحت مخترقة من ممثلين غير حكوميين في النصف الأخير من القرن الثامن عشر . واستنادا إلى "شو" ، فإن جامعي الضرائب الزراعية المستقلين تولوا مسئولية "جمع الضرائب وتسليمها للخزانة" تاركين لموظفي الخزانة واجبات "تحديد ضرائب الأراضي الزراعية ، والتأكد من أن جامعي الضرائب ينفذون مهامهم حسب المطلوب منهم ، واستلام المحاصيل من عمالهم" . وفي الوقت نفسه كانت القوات العسكرية العثمانية تتألف أساسا من الجنود العبيد المحررين (المماليك) بصوفها كيانات تنظيمية كانت مثل "ليس أكثر من فصائل شرعية ، تتشكل كوحدات فقط بغرض تقاضي الرواتب من الدولة ، ولم يكونوا سوى أدوات ؛ حيث يحصل الأمراء أتباع المملوك المعتوق على الدخل والقوت من الخزانة بينما يستمرون في خدم سادتهم . باختصار "بالنسبة للقسم الأعظم ، فإن جميع المواقع ، جميع العائدات ، جميع السلطات المراتبية العثمانية في الحكومات كانت تكتظ برجال المؤسسات المملوكية ، بينما يحتل الأمراء اعلى المناصب العثمانية كبكوات ، ويشغل أتباع الكاشف المناصب العثمانية من الدرجة الثانية ، ويأتي تاليا لهم وظائف تحصيل العائدات الأقل أهمية ، فضلا عن عضويتهم الدائمة في الفصائل العسكرية التي يتقاضون أجرا عنها" .
على أن ثلاث سنوات من الاحتلال الفرنسي غيرت قليلا من هذه المؤسسات ، برغم جهد متناغم بذلته الإدارة النابليونية لإحلال نظام جديد بديلا عن الحكومة العثمانية يتألف من مجالس محلية "يقع ضمن مسئولياتها الحفاظ على النظام الشرعي ، والحيلولة دون نشوب مشاجرات بين عناصر السكان المخلتفة ، والأكثر أهمية : العمل كوسيط بين جموع الناس والسلطات الفرنسية" . واجتمع أول مجلس عموما مؤلف من ممثلين لمجالس الأحياء بالقاهرة في منتصف أكتوبر 1798 ، ويحث مدى واسعا من الإصلاحات المالية والإدارية قبل "إقالته لاتهامه التورط في الثورة الشعبية ضد الفرنسيين نهاية أكتوبر عام 1798" . أما المجالس العمومية الالية فقد كانت تعقد جلسات دورية حتى رحيل الفرنسيين في سبتمبر عام 1801 .
وبعد انسحاب قوات نابليون عاد الإشراف على الخمزانة إلى المكتب التقليدي وهو الدفتردار ، مع تابعه الاسمي الروزنامجي ، الذي كان يتولى متابعة الشئون اليومية لهذه المؤسسة . أما دور الفصائل العسكرية لاثعمانية التي طردتها القوات الفرنسية ، وكان يغلب عليها فصائل مرتزقة ؛ منها الدالاتية الشوتام والألبان بقيادة محمد علي باشا وطاهر باشا ، فقد ثبت أنها الأكثر فاعلية . أخيرا ، أعيد بناء الإدارة الإقليمية ، حيث يقوم الوالي بتعيين أقرب معاونيه كمشرفين على المديريات (الكاشف) "لإدارة تلك المناطق من البلاد الخاضعة لحكمه ، ويلتقي بهم دوريا ويبلغهم برغباته فيما يتعلق بالضرائب وجمع المحاصيل ، وأعمال الري وباقي الواجبات الإدارية" .
وهذا الجهاز الإداري ذو التنظيم غير املحكم نفذ مجموعة من البرامج المتباينة نسبيا لاستعادة النظام داخل مصر في لاسنوات الأولى لحكم محمد علي . ومن أهم ما يتسنى ملاحظته ، أن الحكومة المركزية استخدمت القوات المسلحة تحت قيادتها لإخماد بكوات المماليك وقبائل البدو الخارجين عن البلاد ، الذين خربوا ونهبوا الريف بغاراتهم في أعقاب جلاء الفرنسيين . وشهدت الأعوام التالية لسنة 1805 سلسلة من الحملات العسكرية التأديبية ضد المماليك المنشقين ، الذين أنشأ قادتهم قواعد آمنة لانطلاق عملياتهم فيالمناطق المحيطة بالبلاد . وبعد ثلاثة أشهر من إعلان محمد علي واليا على البلاد قاد قوة ألبانية تركية مشتركة ضد البكوات من إعلان محمد علي واليا على البلاد قاد قوة ألبانية تركية مشتركة ضد البكوات المتمركزين بالصعيد والموالين للألفي بك . وفي ديسمبر التالي مضى الوالي مرة أخرى ليواجه قوة مملوكية أشد بأسا ، هذه المرة في واحة الفيوم الزراعية . وتكرر شن الحملات من هذا النمط على مدى العالم التالي ؛ في واقع الأمر كان الوالي يقود حملة عسكرية حول أسيوط في مارس عام 1807 ، حينما أنزل الأسطول البريطاني قوات بحرية له على شاطئ الإسكندرية ، مما اضطره لعقد هدنة مشروطة مع البكوات ، ليعيد توجيه قواته صوب الدلتا .
وفي منتصف أغسطس عام 1809 ، بدأ الوالي يخطط لأكبر عمل عسكري ضد بكوات المماليك . وغادرت الحملة القاهرة في نهاية لاشهر ، وفي غضون أسبوعين احتلت المدن الكبرى على نهر النيل إلى الجنوب حتى جرجا ، واضطر المماليك إلى الانسحاب في الجبال شمال غربي المدينة . لكن برغم هذا النصر البين ، فقد أبلغ القنصل الفرنسي بالعصامة في 9 سبتمبر 1809 أن الجواسيس الإنجليز يتأمرون مع كل من المماليك وقبائل البدو في محاولة لتكرار أحداث عام 1807 ، عندما توغلت القوات العسكرية الإنجليزية في الدلتا ، وبالتالي يعضون محمد علي بين فكي كماشة . وكرد فعل لهذا التهديد أعلن الوالي عن خطط لتجهيز جيش قوامه . 20 ألف جندي ، وأنشأ أسطولا صغيرا من 20 مركبا بحريا لنقل قواته إلى الجنوب . وهذه التعبئة الكبيرة لموارد البلاد أرغمت جزءا كبيرا من المماليك وأتباعهم على الاستسلام والعودة إلى القاهرة ، غير أنها أثرت أيضا وبشدة على الحياة الاقتصادية سواء في المدن أو الريف . وذكر القنصل الفرنسي "دروفيتي" في منتصف يونيو 1810 أن الحملات العسكرية للحكومة على جنوب مصر لم تحقق سوى التدمير الذي حاق بالفلاحين الفقراء في الدلتا . وأن تكاليف الحرب مع بكوات المماليك قفزت في الشهر التالي عندما أضاف الوالي للخدمة ثلاثمائة فرد من جنود الدالاتية للدفاع عن الفيوم .
وهكذا ، فإن استخدام القوات العسكرية لاستعادة النظام في مصر الوسطى والصعيد زاد بشدة من التكاليف على الإدارة المركزية ، أكثر من هذا ، فإن الحروب المتواصلة مع بكوات المماليك عرضت للخطر ثروات التجار والعلماء الأغنياء على الأقل بطريقين يتبادلان التأثير . أولا ، فإن مصادرة المحاصيل والأعلاف إجباريا من الفلاحين لتمويل الحملات العسكرية المتتالية نقل الإنتاج الزراعي من التجارة الخارجية إلى مسالك أقل ربحية بكثير بصورة أساسية . وأصبح نقل الحبوب المعروضة للبيع من السوق على وجه الخصوص عملية شاقة لنظام الحكم بعد عام 1808 ، في ظل ارتفاع الطلب باطراد على الحبوب المصرية سواء في الأسواق الأوروبية أو ببلاد الشرق . وأسفر التدمير الناجم عن المعارك المتتالية في المديريات الزراعية بالفيوم ومصر الوسطى وأيضا على أطراف الدلتا عن تفاقم العجز في المحاصيل النقدية المتاحة للتصدير . أكثر من هذا ، فإن حالة الحرب الدائمة بين القوات المسلحة لنظام الحكم والمماليك حالت دون دوام علاقات تجارية منتظمة في بكرى الموانئ المصرية . وأصبحت المسارات عبر الدلتا من السويس إلى دمياط الإسكندرية محفوفة بمخاطر بالغة ؛ حتى أنه في مارس عام 1810 صادرت الحكومة سفينة مملوكة لتجار أوروبيين لتقوية الدفاعات حول السويس ، في حين قامت بتعيين وال جديد للإسكندرية لا يتمتع بخبرة في الأمور التجارية لكن بـ "إمكانيات لتحقيق النظام والعدالة" . ولم تكن لتُتّخذ هذه الإجراءات دون تجنب الأعباء المادية المتزايدة اللازمة لنشر الوحدات العسكرية ضد بكوات المماليك ، لكنها أوجت احتمالا بانصراف تجار البلاد عن الإدارة المركزية . وفي عام 1810 كان استخدام قوات الجيش لفرض النظام بالداخل ينطوي على تهديد بانقسام الشريكين المهيمنين على التحالف الاجتماعي الحاكم في مصر .
وتصاعدت الصراعات داخل نظام الحكم نتيجة لما فرضه مسئولو الدولة من ضرائب مرتفعة على تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء لتمويل عمليات حفظ الأمن التي تنولاها الفصائل العسكرية . واستنادا لعفاف لطفي السيد مرسو "بدأ الوالي بسلسلة من الخطوات المؤقتة ، الأولى كانت فرض قرض إجباري على بعض الأحياء أو ضريبة تسمى الفردة تدفع نقدا أو عينا . ويقول الجبرتي إنه تم فرض ثمانية أنواع من الفردة على أجزاء من الدلتا بين ربيع 1805 أصحاب الالتزام بالمدن والريف ، وفي منتصف 1807 فرضت الضرائب لأول مرة على الأراضي المخصصة لشيوخ القرى (أراضي المسموح) . وفي أكتوبر من العام نفسه فرضت ضرائب باهظة على أراضي المسموح للالتزامات المملوكة لأغنياء شيوخ القرى أيضا . أما الأراضي المخصصة للأعمال الخيرية (الرزقة) والوسايا فقد صارت عرضة لضرائب جديدة في عام 1809 . وفي يونيو من تلك السنة أقرت الدولة فرض ضرائب على الممتلكات التابعة للأوقاف الدينية ، وهو الإجراء الذي أبعد الإدارة المركزية عن العلماء الأغنياء الذين كانوا يتمتعون بإعفاءات ضريبية على مشترواتهم من المزارع في السنوات الأولى لعصر محمد علي . وبلغت الشقاقات داخل التحالف الحاكم حول الضرائب الجديدة ذروتها في عام 1810 ، حينما انعقد مجلس فوق العادة للتصديق على فرض فردة إصافية على النخبة الاقتصادية بالبلاد . وفوقا لما يقوله الجبرتي : "لم يتوصل الملجس إلى قرار لأن بعض الأعضاء اعترضوا على إعفاء العلماء من الفردة وأصبح العلماء متملقين ، لذلك أقيل المجلس" . وعقب حل هذا المجلس استدارات الحكومة إلى القطاع الزراعي من الاقتصاد المصري من أجل جمع الأموال ، ورفعت بشدة معدل الفردة المطلوبة من جامعي الضرائب بالدلتا ومصر الوسطى .
غير أن جهود الدولة لزيادة العائدات المستخلصة من الزراعة بالبلاد تلقت ضربة إثر كشف قوات الحكومة مخازن هائلة مخبأة هائلة مخبأة مليئة بالحبوب في مواقع المماليك الحصينة بالصعيد . وتم بيع القمح المصادر من الكبوات إلى أمناء الإمداد والتموين الإنجليز لمساعدة قواتهم في مالطا وإسبانيا في ربيع وصيف 1810 . وهذه المبيعات عادت بدخول كبيرة للخزانة المركزية ، في حين ادت إلى رفع الأسعار المحلية للقمح والذرة إلى مستويات جديدة . واتنادا إلى القنصل الفرنسي بالقاهرة ، فإن قمح الصعيد كاني تم تصديره بأسعار تترواح بين 62 و80 قرشا للأردب في مطلع عام 1811 ، وهو سعر يعادل خمس مرات سعره بالسوق المحلي ، ومع ذلك ، فإن شيئا لم يكن ليثني الإنجليز عن زيادة مشترواتهم . وفي بداية يناير أبرموا صفقة مع الوالي تصل قيمتها إلى قرابة 1.7 مليون قرش . وبعد شهرين سافر وفد بريطاني إلى القاهرة للتفاوض حول عقد يقتصر على صادرات الحبوب المصرية ، وفي أعقاب هذه المفاوضات أنشأت الحكومة المصرية مستودعا في مالطا يختص بتنظيم توزيع حبوبها في جميع أنحاء شمال البحر المتوسط .
أدى اتساع مبيعات الحبوب إلى أوروبا إلى تقوية وضع أولئك التجار ذوي الخبرة والعلاقات في العالم المسيحي . وبرهن المناخ التجاري الجديد بالقاهرة والإسكندرية على وجه خاص عن جاذبيته لرجال المال اليونانيين ، إذ كان لكثير منهم علاقات شخصية ممتدة ووطيدة بالوالي . وأقامت المؤسسات التجارية اليونانية العريقة فروعا لها بمصر خلال السنوات ألأولى لعهد محمد علي ، وبحلول عام 1810 ، فإن عائلات مثل أنستاسي وكازولي وزيزينا وتوسيجه Tossizzas كانوا يلعبون دورا نشيطا في أعمال السمسرة الخاصة بتجارة الاستيراد والتصدير بالبلاد . وفي موازاة هؤلاء التجار اليونانيين جاء "بوغوص بك" Boghos ، وهو أرمني مسيحي من "سميما" Smyma ، وكان تعيين بوغوص مديرا لجمارك الإسكندرية في عام 1810 مؤشرا على بداية حياة مهنية طويلة بوصفه المستشار الرئيسي للوالي في الشئون التجارية والخارجية . ومثل بروز هؤلاء التجار الأجانب خطرا على ثروات التجار من أبناء البلاد بوسيلتين متتامتين :
الأولى ، أن الاعتماد المتزايد للدولة على اليونانيين والإيطاليين وغيرهم من التجار "الغربيين" حال بين تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء بالقاهرة ، وبين نيل الامتيازات الكاملة من ازدهار المصادر المصرية .
الثانية ، والأكثر دلالة ، فإن اتساع صادرات المحاصيل النقدية إلى أوروبا زاد كثيرا من حدة الصراع بين المؤسسات التجارية الأهلية التي تعتمد ثرواتها على تجارة البرح المتوسط وأولئك الذين يزاولون التجارة بالبحر الأ؛مر . وتعرضت عائلات مثل المحروقي والمويلحي اللذين تخصصا في إرسال الحبوب المصرية إلى الحجاز ومبادلتها بالسلع اليمنية والهندية ، لأضرار بالغة من برنامج الحكومة بتشجيع تصدير الحبوب إلى البحر المتوسط . وحاول مسئولو الدولة تلطيف عدم التوازن المتنامي في التجارة الخارجية للبلاد من خلال استئناف جهد تنسيقي بتخصيص ميزانية لوسائل النقل على طول ساحل البحر الأحمر في ربيع 1810 ، وأمر الوالي ببناء 20 مركب شحن لنقل الشحنات التجارية إلى جدة والمخا في مارس من السنة نفسها ، وتم حمل هذه المراكب عبر الصحراء إلى السويس في منتصف إبريل ، لتصيب بالذعر قادة الأسطول البريطاني باملنطقة . وفي الوقت نفسه ، خصصت الإدارة المركزية فصيلا عسكريا من المماليك المسلحين لحراستها في طريقها إلى كل من السويس وقنا للحيلولة دون تعرضها لنهب البدو .. فضلا عن ذلك ، حاول مسئولو الحكومة تشجيع التجار الأثرياء على زيادة استثماراتهم في إنتاج الأرز في المناطق المحيطة بدمياط ورشيد . غير أن هذا النوع من البرامج الاقتصادية طويلة المدى لم يأت إلا بحصاد قليل في الحد من الصعوبات الفورية التي تواجه مجتمع التجار الأغنياء المحليين .
لذلك يتضح أن الإجراءات التي نفذها المسئولون في الإدارة المركزية لمصر لاستعادة النظام – سواء في المدن أو بالقرى المحيطة بها ولزيادة قاعدة دافعي الضرائب خلقت قيودا حادة داخل التحالف الاجتماعي المسيطر على لابلاد في السنوات السابقة على عام 1811 . وأفضى استخدام الجيش لقمع فلول بكوات المماليك والبدو إلى انقطاعات في عمليات الاقتصاد المحلي ، وتعريض ثروات التجار الأغنياء للخطر ، في حين جاءت الزيادات في الضرائب المتحصلة لتحويل برنامج نظام الحكم السلمي مباشرة لتنصب على كل من تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء وأصحاب المزارع بالريف والمدن دافعي الضرائب في جميع أنحاء البلاد . وأدى البحث عن عائدات أكبر بوكلاء الحكومة إلى زيادة أعمال الجباية زيادة حادة من أضعف القوى الاجتماعية السائدة بمصر وهم الملتزمون .
بيد أن اتساع الصادرات الزراعية زاد من احتمالات ان يبتعد تجار القاهرة باطراد عن الإدارة المركزية بسبب هذه الجبايات . وتنامت إمكانية اندلاع الصراع بين هاتين القوتين الاجتماعيتين مع تشجيع مسئولي الدلوة للتجار اليونانيين على الهجرة للبلاد ، ومع تنامي التعارض بين جناحي التوجه للبحر المتوسط والتوجه للحبر الأحمر بقطاع التجارة الخارجية في الاقتصاد المصري . ومثلت هذه التناقضات تهديدا بإضعاف الهيمنة المشتركة لتجار الدولة على لاشئون السياسية للبلاد ، وهو تطور كان من شأنه أن يعيد فتح الباب أمام المعارضة المنظمة لنظام الحكم من جانب الصداع المهرة المدنيين ومجموعة من القوى الريفية ذات النفوذ أكثر من هذا ، أصبحت تعاملاتهم أكثر حدة وبالتحددي في الوقت الذي ظهرت فيه تحديات خارجية خطيرة للتجارة المصرية على طول المسار من جدة إلى السويس .
تحديات التجارة المصرية بالبحر الأحمر
خلال العقد الأول للقرن التاسع عشر أسفرت منافسة التجار الأمريكيين بشكل أساسي عن تقليل أرباح التجار المصريين الأغنياء في تجارة إلى المتمركزة في المُخا باليمن ، فإن سفن الولايات المتحدة تهيمن على تجارة هذا الميناء سواء مع أمريكا الشمالية أو مع أوروبا في بداية القرن التاسع عشر تقريبا . فمن 13 ألف بالة من البن تصدر سنويا من المُخا في عام 1802 تقريبا ، كان التجار الأمريكيون يحصلون على 9 آلاف بالة . أيضا كانت الشركات الأمريكية تحصل على الصمغ الراتينجي (المر) والصمغ العربي المنتج باليمن بكميات تجارية في ذلك الوقت .
علاوة على ذلك ، أعاد تجار الولايات المتحدة فتح مسار البحر الأحمر – شرق أفريقيا المربح ، ومن النايحة الفعلية احتكروا هذه الشبكة التجارية .
كذلك من المحتمل أن السفن الأمريكية أقامت علاقات تجارية مع الوهابيين بوسط الجزيرة العربية نحو عام 1806 ، ويدل على ذلك رد الفعل الحاد لقادة الوهابيين لأمر السفينة الأمريكية إسيكس Essex من قبل وكيل فرنسي على الساحل الجنوبي للجزيرة العربية في أوائل ذلك العام . وهذه السفينة كانت تحمل على متنها بضائع قيمتها ما بين 8 إلى 10 آلاف دولار حين تم السطو عليها . وكنتيجة للنشاط الأمريكي باليمن ارتفع سعر البن في المُخا نحو 25% بين عامي 1802 و1809 ، من 56 إلى 75 دولارا للبالة .
وألحقت هذه المنافسة أضرارا بالغة بالتجار المصريين لكنها لم تخرجهم من المنطقة . وأثناء الحروب النابليونية استمرت الشركات المصرية تمارس نشاطا معتدلا في تجارة البحر الأحمر . وفي عام 1804 كانت تجار البن بين السويس وجدة تتألف من 30 ألف فردة من الحبوب ، كل فردة تبلغ قيمتها 500 فرنك . وهذه التجارة تشغل نحو 80 مركبا محليا . وقبل ثلاث سنوات من ذلك جرى طرد مؤسسة تجارية شهيرة كانت تتعامل في السلع الهندية واستقرت في مسقط من أجل أن تجد "مجالا أكثر استاعا للتجارة" في ذلك الجانب من شبه الجزيرة . وهذا دليل غير مباشر على أن تجارة البحر الأحمر كان يتم تداولها أساسا بين التجار المصريين والأميريكيين في هذا الوقت ، بدلا من المرور بميناء بومباي في طريقها إلى أوروبا . وأقر الأدميرال البريطاني "بلانكت" Blnkett بهذا حينما وافق في عام 1799 على تدمير كل التجارة في البحر الأحمر بدلا من ترك الشركات الفرنسية تحقق أي فوائد منها .
وبعد عامين من ذلك ، وفي عام 1801 ، هم المسئولون البريطانيون على تحدي السيطرة المصرية الأمريكية في التجارة مع الجزيرة العربية واليمن ، وبدأوا في اتخاذ تدابير عسكرية لعكس الوضع التجاري الضعيف لإنجلترا في المنطقة .
وتلقى الأسطول البريطاني الذي أنزل جنودا من الهنود في القصير في تلك السنة أوامر من مسئولي شركة الهند الشرقية East India Company بمحاولة استعادة مصر تجاري لليمن بوسائل أكثر فائدة لإنجلترا والهند . وفي عام 1805 كان المسئولون الإنجليز في بومباي يبذلون جهودا في ثلاث مسارات متشبعة لاستعادة حصتهم في تجارة البرح الأحمر عن طريق إرسال كميات كبيرة من مواد التجزئة الهندية إلى جنوبي الجزيرة العربية ، ومن خلال إعادة افتتاح الوكالة البريطانية في المُخا ، وتزويد التجار الهنود بحرس الأسطول حسب الطلب . وفي الوقت نفسه كان التجار الفرنسيون أيضا يحاولون تأكيد أنفسهم في هذه المنطقة بالتعاون مع تاجر محلي ثري وداهية اتفاد جيدا من تعاقداته مع الحكومات المحلية . وهذه النشاطات المدعمة من الفرنسيين حفزت السلطات البريطانية في الهند لتغدو حتى أكثر اهتماما ونشاطا بالبحر الأحمر بحلول منتصف عام 1806 . وفي مايو من عام 1809 أبلغ القنصل الفرنسي بالإسكندرية أن ثلاث سفن تجارية بريطانية – اثنتان من السنغال وواحدة من "سورات Surat" – وصلوا إلى السويس . لينهبوا بذلك فجوة داتمت عشرين عاما في تجارة بريطانيا مع هذا الميناء . وواصل القنصل ليشير إلى أن استئناف التجارة ف يالسويس تنذر بعلاقة تجارية دائمة بين الهند والقاهرة التي تم ترتيبها كجزء من المفاوضات المتعلقة بجلاء القوات البريطانية من الإسكندرية قبل عامين . وفي ربيع عام 1810 ، بدأت السفن البريطانية في القايم بزيارات لمصوع على الشاطئ السوداني ، وأعادت المعاملات التجارية المنتظمة مع الحبشة ووسط أفريقيا . وتشابكت هذه التحركات مع تحديات محلية أكثر لحصة تجار القاهرة في تجارة البحر الأحمر ، الأمر الذي أدى إلى زعزعة وضع التجار تماما في هذه المنطقة في عام 1811 .
خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر سقطت أغنى منطقة لزراعة البن اليمني تحت سيطرة الشريف أبو عريس ، الذي شرع في استخدام اللحية كحد نهائي لتجارة البن المنتج في أراضيه . وفي عام 1802 تقريبا أشار هذا الحاكم إلى أنه سيمنح التجار الإنجليز والهنود احتكار هذه التجارة في مقابل الأسلحة الحبشية التي يمكن لقواته استخدامها في الحرب مع الوهابيين . غير أنه قبل أن تتمكن السلطان الإمبراطورية في بومباي من اتخاذ قرار حول عرضه ، انخرط الشريف في صراع مباشر مع قوات الوهابيين ، وحال هذا بينه وبين إجراء آية مفاوضات أو التوصل إلى أي نوعمن الترتيبات مع الدبلوماسيين الأجانب بين عامي 1803 و1809 ، وفي نهاية 1809 رغم هذا ، أبرم الشريف تحالفا مع إمام صنعاء ، ونجح في إلحاق الهزيمة بقوات الوهابيين الناشطة بالمنطقة . وأدى هذا إلى وجود نظام حكم مستقر نسبيا في الجنوب الغربي لجزيرة العرب أمكنه التفاوض حول اتفاقيات ثنائية وتنفيذها مع الممثلين الإنجليز .
ومجرد التوصل لاتفاقية كهذه استلزم ارتفاع أعباء حماية تجار القاهرة العالمين بالمنطقة ارتفاعا لافتا . وأدت القرصنة الوهابية إلى الحد بشدة من أرباح التجار من هذه التجارة . كما أن الصراع مع الإجراءات البريطانية ورسوم الجمارك أصابت العائدات من هذه التجارة بمزيد من الأضرار ، دون أي تناقض في المقابل في الواردات الأوروبية لتجعلها أكثر ربحية . وفي هذا الوضع ، كان لدي تجار الاستيراد والتصدير المصريين حافز هائل للتعاون مع جيوش الدلوة سعيا من أجل إما (1) احتلال هذه المنطقة بأنفسهم وبالتالي زيادة أعباء الحماية على بريطانيا في البحر الأحمر والحصول على ما أسماه فريدريك لين Frederic Lane "أجرة حماية : A protection rent" على التجارة في المنطقة . أو (2) إنهاء التهديد الوهابي لجنوبي الجزيرة العربية ، بإزالة السبب الأساسي لشريف أبو عريش بتقديم تنازلات تجارية لبريطانيا في المنطقة . والهدف الأخير من بين جملة أهداف هو أكثرها بروزا في السجلات الحكومية المصرية وراء حملة الحجاز . وتذكر السجلات أن محمد علي أرسل مبعوثا لكل من الشريف والإمام ، يعرض عليهما عملا مشتركا ضد الوهابيين تقريبا في الوقت الذي غادرت فيه أول حملة على لاحجاز القاهرة . إلا ان الشريف أو الإمام لم يجيبا بالموافقة على هذا العرض ، مع ذلك ، نظرا لأن لديهما البديل بالتعاون مع بريطانيا العظمى بشروط بالغة الامتياز . لم يترك هذا أما التجار الدولة في مصر سوى خيار محدود لايخرج عن محاولة احتلا الجزيرة العربية بأنفسهم في مطلع عام 1811 ، وهذا التحرك ينطوي على ميزتين متكاملتين لنظام الحكم في القاهرة : الفوائد الاقتصادية المحتملة من إخضاع موانئ شبه الجزيرة للحكم المباشر لمصر ، والفوائد السياسية المباشرة من استخدام حملة عسكرية لحل التناقضات الضاغطة والناجمة عن الجهود المشتتة لأعضائها للحفاظ على هيمنتهم داخل المجتمع المصري .
الفوائد السياسية الداخلية من التوسع العسكري
أتاح التوسع في الأراضي جنوب شرق القاهرة لـ التجار / الدولةف ي مصر عددا من الوسائل لتحسين ، إن لم يكن حل ، مصالحهم المتناقضة في بداية العقد الثاني من القرن التاسع عشر . في المقام الأول ، وفر إرسال حملة عسكرية للحجاز وسيلة أرخص لقمع النبلاء الزراعيين المسلحين بالبلاد ورجال القبائل البدو بدلا من تأجير وحدات مرتزقة وإشراكهم في النزاع . وبحلول ربيع 1811 تم اختيار عدد من بكوات المماليك الأكثر نفوذا لإبرام اتفاقية سلام مع الوالي ، ومن بين أبرزهم كان شاهين بك ، قائد المماليك الموالين لمحمد بك الألفي . وجرت المفاوضات مع باقي الفصائل على نحو متقطع ، لكنها لم تحرز سوى القليل من النجاح ، أما العشائر الأخرى فقد ظلت ذاكرتهم تعي جيدا الأسلوب الذي اتبعه من البداية محمد علي مع عثمان بك البرديسي للتوصل إلى سلام ، ثم انقلب عليه بمجرد انحياز أتباعه إلى جانب الوالي . لذلك أصر المماليك الذين تحت قيادة إبراهيم بك على السماح لهم بالاحتفاظ بالتزاماتهم بالصعيد ، لا تخضع لإشراف الإدارة المركزية . ورفض محمد علي وأتباعه بحزم هذا الاقتراح ، مصرين على عودتهم إلى العاصمة "حيث يمكن للوالي أن يضع عينه عليهم" . وتم استقبال من عادوا طواعية باحترام وتولوا مناصب بالقوات المسلحة لنظام الحكم الجديد . واستنادا لعفاف لطفي السيد مرسو ، أنه في عام 1810 أو نحو ذلك تقريبا كانت المؤسسة العسكرية يهيمن عليها المماليك ، الذين احتلوا الرتب العليا للضباط ، رغم أن بعض المماليك مثل خورشيد باشا ، من جورجيا ، أو محّو بك من خيوس (إحدى جزر بحر إيجة) ، تولوا اعمالا في الإدارة المدنية . وهؤلاء المماليك كانوا إما أمراء سابقين بمصر انضموا إلى الجانت المنتصر ، أو أبناء أمراء ، أو عبيد تم جلبهم خصيصا بغرض تزويد فصائل الضباط بالجنود .
أتاح جمع تجريدة عسكرية لحملة الحجاز عددا من الفرص الواعدة للنخبة العسكرية المعزولة بالبلاد . وفي بواكير عام 1808 سعى الوالي لإعادة قاسم بك إلى القاهرة من المنيا حين عرض عليه كلا من قيادة الجيش الذي كان بصدد التكوين ليحارب الوهابيين ومنصب باشاوية في جدة بمجرد انتهاء الحملة . وأقنع هذا العرض قسمي مراد بك وإبراهيم بك بالدخول في مفاوضات مع نظام الحكم . رغم أن المحادثات انقطعت ما إن تم تجريد قاسم بك من أسلحته فور وصوله إلى العاصمة وإرساله إلى المنفى في سوريا . وفي أغسطس من عام 1811 ، حيث استئنفت فعليا الحملة العسكرية الأولى ، ثم إسناد القيادة العامة لقوات الجيش المصرية إلى طوسون باشاا ، أصغر أبناء الوالي ، بينما أسندت الأمور التكتيكية إلى أحمد بونابرت ، أحد كبار ضباط الفصيل الألباني الذي جاء إلى مصر مع محمد علي قبل عشر سنوات خلت . ومع ذلك ، تم تسليم بكوات المماليك البارزين قيادة عدة تشكيلات صغيرة في جيش الوالي ، أما وحدات الفرسان فقد كانت في غالبيتها تتشكل مع أبناء هؤلاء البكوات وكبار رجال القبائل المتحالفين معهم . وهذه القوات لعبت دورا كبير في الانتصارات المتوالية ضد مكة والمدينة في الأعوام التالية على عام 1811 ، ومع قوات المشاة الألبان في أعقاب معركة الخيف خارج ينبع ، حيث برزوا كأكثر قوة يعتمد عليها بين قوات الحملة العسكرية بالجزيرة العربية .
إضافة إلى توزيع طاقات أمراء المماليك على عملية عسكرية خارجية ، أتاحت الحملة على الحجاز للمسئولين في الهيئات الإدارية المركزية لمصر ترشيد جهاز الإدارة . فقد وفرت الحاجة لإمداد وتموين الجيش بالجزيرة لاعربية أسسا لوكلاء الحكومة لطلب المواد الغذائية المنتجة محليا في أنحاء الدلتا والفيوم في الشهور الأولى للحملة ، بينما ساعد فيضان استثنائي وفير لمياه النيل على إنتاج محصول وفير في خريف 1811 . على أن الانخفاض الحاد في أسعار المنتجات الزراعية التي نجمت عن هذا الفائض تسببت في إضعاف النخبة الزراعية بالبلاد إلى حد أتاح لإبراهيم باشا ، الذي تسمل مقاليد ولاية الصعيد في أوائل العام ، إصدار أمر بإجراء مسح لكل الأراضي الزراعية بالصعيد . وبناء على هذا المسح حددت الإدارة المركزية ماكان يستولي عليه ف يالسابق الملتزمون ومسئولو الأوقاف لأنفسهم من العائدات ، وعينت مسئولي الدولة (العمد) للإشراف على عمليات الإقطاعيات الكبيرة . وما إن احتج كبار العلماء بالعاصمة على استيلاء الحكومة على الأوقاف الدينية ، طلب من إبراهيم أن يرد قائلا : "نظرا لأن عائدات هذه الملكيات موظفة لشن حرب في الحجاز ضد الوهابيين ، أعداء الإسلام ، فإن استخدامها من قبل الدولة له الأولوية على توظيفها في باقي الأغراض الدينية" .
كما أن ظروف وقت الحرب وفرت للوالي ذريعة لزيادة رسوم الجمارك المفروضة على صادرات الحبوب في ميناء الإسكندرية . وفي مطلع نوفمبر 1811 أبلغ القنصل الفرنسي بالقاهرة أن محمد علي مد زيارة للميناء من أجل إعادة ترتيب السيطرة على إدارة الجمارك ، وذلك للبحث عن إمكانية إرسال مزيد من العائدات إلى لاجيش في الجزيرة العربية . وتقريبا في الوقت نفسه أصدرت الحكومة المركزية إجراءات جديدة تحظر استيراد للبن إلى البلاد من خلال وكلاء أمريكيين . وهذه التحركات منحت السلطات المحلية فرصة كبيرة في التعاملات مع ممثلي الحكومات الأجنبية ، مما دفع القنصل الفرنسي بالإسكندرية للشكوى في فبراير لاتالي من أن التجارة الخارجية في الميناء تغدو سريعا مدمرة لرعاياه .
ونتيجة لههذ التطورات باتت الشئون الداخلية في أنحاء البلاد تحت الإشراف الوثيق المتزايد للسلطات الموجهة من العاصمة خلال أوائل العقد الثاني من القرن التاسع عشر . وأدى إلغاء الالتزامات الزراعيةب الصعيد إلى احتكار تدريجي للمحاصيل النقدية في تلك المنطقة ، وفي عام 1812 كانت جميع الحبوب التي ينتجها الصعيد يستولي علهيا الكاشف المسئول عن كل منطقة . وطبقا لـ "ريفلين" Rivlin فإن هؤلاء المسئولين : لديهم تعليمات بحظر البيع المباشر للحبوب من قبل المزارعين إلى التجار ، وعليهم تجميع كل الحبوب ، بما فيها الكميات التي يحتفظ بها الفلاحون لاستهلاكهم الشخصي . ومن أجل ضمان عدم حجب الفلاحين أي حبوب لديهم ، يقوم وكلاء الحكومة بعمليات تفتيش غير متوقعة في بيوت الفلاحين ، ومصادرة أي حبوب يجدونها . ثم يتم تجميع هذه الحبوب في منقطة معينة لنقلها ويتم تحميلها في مراكب يوفرها الباشا ، لتشحن إلى الوجه البحري ، وتباع للأوروبيين بمائة قرش للاردب الواحد .
على أن الأرباح المستخلصة من احتكار الحكومة للحبوب وفرت لنظام الحكم الموارد الضرورية لتوسيع هيمنة الدولة على توزيع وبيع الأرز والبسلة والقرطم والسمسم والنيلة والكتان في السنوات التالية ، وكان يتم تجميع هذها لمحاصيل في مخازن تابعة للدولة بالمدن الكبرى ، حيث يقوم مفتشون من الحكومة بتصنيفها ووزن منتجاتكل حصاد وتخصيص ما يذهب منه للجيش أو للتصدير ، وفي ربيع 1817 ذكر القنصل البريطاني أن هذا النظام أتاح للوالي السيطرة على بيع 134 ألف أردب من القمح ، و230 ألف أردب من البقول ، 60 ألف أردب ذرة ، 20 ألف أردب حمص ، 26 ألف أردب عدس ، ومقادير كبيرة لمنتجات أخرى خلال العام السابق . وعلى الفور تقدم التجار الأجانب بسلسلة احتجاجات ضد شبكة احتكار الدولة قاتلين بأن تدخل الحكومة في إنتاج وتوزيع المحاصيل النقدية حال دون أن يعكس تدفق السلع الحالة الحقيقية للسوق . غير أنه يمكن إرجاع الارتباك المتزايد للقناصل في أغلبه الأعم باعتباره مؤشرا على النفوذ الذي كان يمارس به مسئولو الحكومة هيمنتهم على الشئون الاقتصادية للبلاد في أعقاب حملة الحجاز : وكما تقول عفاف لطفي السيد مرسو التجار "الأجانب الذين اشتكوا من نظام الاحتكار كانوا من التجار الذين لم يحصلوا على نصيب من الكعكة أو الذين أرادوا حصة أكبر" . وبعد عام 1811 كانت الإدارة المركزية هي التي تتحكم غالبا في حجم وشكل تلك الفطيرة .
والأكثر أهمية ، أن الحملة العسكرية إلى الحجاز قللت من الصراعات التي ثارت بين التجار المحليين المتعاملين مع تجارة موانئ البحر المتوسط وأولئك الذين يزاولون أعمالهم في تجارة البحر الأحمر . وانطوت الهيمنة على ساحل البحر الأحمر على وعد بالزيادة الحادة لتدفق السلع الفاخرة مثل البن والتوابل والحرير ، التي واصلت صنع الجزء الأكبر من القيمة الإجمالية للأعمال التجارية بين البحر الأحمر والقاهرة خلال السنوات الأولى لعهد محمد علي . ونظرا لأن تجار البحر الأحمر وجدوا أنفسهم يواجهون كلا من منافسة متنامية مع التجار المتخصصين بالبحر المتوسط ، وحركة قويةمن الصناع المهرة في المدن الكبرى والبنادر ، فإن تجارة السلع الفاخرة كانت تمثل سبيلا وحيدا يمكن من خلاله لهؤلاء التجار عكس ثرواتهم الاقتصادية الهابطة دون إضافة 0 في الوقت نفسه – لقوة خصومهم .
على سبيل المثال ، إذا حاول التجار المتعاملون مع الحجاز زيادة دخولهم بالتعامل في المنتجات الزراعية ، فإنهم بالتالي سيزيدون من اعتمادهم النسبي فعليا على المنتجين الزراعيين بمصر ، الكبير والصغير على حد سواء . بطبيعة الحال يمكن للتجار الأثرياء أن يتجنبوا هذا العاتق عن طريق استمرار توسيع ملكياتهم من الأراضي الزراعية ، وهي استراتيجية تبنتها عدد من عائلات مشاهير التجار في ذلك الحين تقريبا . غير أن حالات نشوب مواجهات سياسية محلية ساخنة سواء مع النبلاء المتبقين أو مع الفلاحين (مع إغفال ذكر احتمالات حدوث احتكاكات مع إدارات الدولة المتنامية) أن هذه الإستراتيجية المطلوبة تجعلها أقل مقبولية لتجار البحر الأحمر مقارنة بالخيارات الأخرى . وعلى لاجانب الآخر ، إذا سعى هؤلاء التجار من أجل إنقاذ ثرواتهم المتناقصة بالتركيز على تصدير المصنوعات المصرية مثل الملابس ، لأصبحوا بالضرورة أكثر اعتمادا على منتجي النسيج والملابس بالبلاد . على أن المصاعب التي ادت إلى قمع الصناع المهرة المدنيين في الأعوام السابقة مباشرة على عام 1810 وقفت حائلا قويا ضد استراتيجية كهذه .
لكن لاستناد انتعاشهم على لاسلع الافخرة التي لاتحتاج إلى تشغيل او تنقية في مصر كما يمكن أن تنتقل بسهولة إلى المستهلك (سواء المحلي أو الأجنبي) ، فإن تجار القاهرة في البحر الأحمر لم يتوقف الأمر بهم على إنقاذ ثرواتهم المالية المنهارة بل أيضا إلى تدعيم وضعهم السياسي نسبيا في مواجهة منافسيهم المحليين – مع الوضع في الاعتبار أن مسئولي الدولة كانوا شديدي الانشغال بالشئون العسكرية الأمر الذي حال بينهم وبين إدارة الشئون التجارية لمصر التيكانت فوق طاقتهم . لذلك لم يكن أمرا يثير الدهشة أن نجد محمد المحروقي يتولى مسئولية تنسيق حملة الحجاز بينما ابنه ينتهز فرصة الظروف المحيطة ويؤسس علاقات تجارية مباشرة مع الهند . على أن إعادة تجارة البحر الأحمر إلى أيدي المصريين لم يكن ليتيح لهذه البيوت التجارية فقط "استعادة القدرة على لاوفاء بالديون" ، بل جعل أيضا أنشطتهم تتوافق مع مصالح الأعضاء الباقين للتحالف الاجتماعي المهيمن على البلاد . وفي هذا السبيل لعبت الحرب في الحجاز دورا حاسما في حل الانقسامات الفعلية والمحتملة بين الأجنحة المتباينة بالنخبة التجارية لمصر في العقد التالي لعام 1805 .
وفي الوقت نفسه ، كانت العمليات العسكرية خارج حدود مصر بمثابة ورطة لأولئك الصناع المهرة وأصحاب الحرف خارج التحالف المهيمن الذين ربما شاركوا في تزويد قوات الحملة العسكرية التابعة للدولة . خلقت الحملة على لاحجاز وضعا استطاع من خلاله منتجو وموزعو الملابس وباقي السلع المصنعة زيادة أرباحهم قصيرة الأجل عن طريق توفير احتياجات القوات المسلحة . لكن من أجل عمل ذلك تعين عليهم التضحية بمصالحهم طويلة الأجل عبر ضمان درجة من الاستقلال عن تجار القاهرة ومسئولي الإدارة المركزية . وفقط عن طريق الاحتفاظ باستقلالهم عن هذه القوى أمكن للصناع المهرة وأصحاب المهن الأساسية ، خاصة في الأقاليم ، الحفاظ على وضعهم المؤثر داخل المجتمع المصري الذي حققوه بعد بداية القرن التاسع عشر . وخلقت العسكرية ظروفا كان يمكن من خلالها لرجال الحرف والصناعة "أن ينفصلوا" عن مصالح الصناع المهرة الجماعية طويلة المدى ويصبحوا أثرياء عن طريق دعم القوات المسلحة للدولة . وفي ظل هذه الظروف ، فإن الإغواء الذي واجهه كل منهم للقيام بالشيء نفسه ، في مسعى للتأكيد على المصلحة الاقتصادية لورشته ، أصبح مفرطا . أما أولئك الصناع المهرة قليلو العدد أو أصحاب المهن خارج المدن الكبرى بالدلتا الذين كانوا يقاومون سيطرة الدولة المتنامية على شئون الأقاليم أمكن حينئذ إجبارهم بسهولة على الخضوع أو التعاون مع نظام الحكم . وفي هذا الإطار ، لم تكن العمليات العسكرية في منطقة البحر الأحمر تمثل فقط إستراتيجية يمكن لتجار القاهرة في سياقها دعم وضعهم الاقتصادي والسياسي في مصر ، بل أيضا جاءت مرضية للمصالح المتبادلة ، التي تتقاسمها الدولة وجميع أقسام التجار ، بإخماد المنتجين المحليين وموزعي السلع المصنعة – وبالتالي عملت على توسيع السوق المحلي .
ولذلك فإن التوسع في الحجاز قلل من "أعباء حماية" مبادلات البحر الأحمر لتجار الاستيراد والتصدير الأغنياء ومسئولي الدولة ، بينما في الوقت نفسه توفر لهم مصادر اقتصادية يمكنهم استخدامها كميزة جيدة في صراعاتهم السياسية المحلية . وكانت هذه المصادر من نوع لايمكن استخدامه بسهولة من قبل حائزي الأراضي الزراعية بالبلاد والصناع المهرة لمصلحتهم الاقتصادية والسياسية .. لذلك فإن حملة الحجاز أعادت تقوية وضع الهيمنة لـ الدولة / التجار داخل مجتمع القاهرة بصورة مباشرة وغير مباشرة بتوفير وسيلة لنظام الحكم لحل أخطر صراعات المصالح الداخلية . في الوقت نفسه أسفرت عن تفويض وشق صفوف أقوى خصومهم نفوذا .
يتبقى توضيح بسبب قدرة التحالف الاجتماعي المهيمن بالبلاد على تنفيذ برامج في الأعوام من 1811 – 1814 استفادوا منها في مواجهة المعارضة القوية للمنتجين الزراعيين بمصر ، الكبار والصغار ، بالإضافة إلى الصناع المهرة وأصحاب الحرف .
أسس قوة الدولة/التجار في أوائل العقد الثاني للقرن التاسع عشر
ثمة ثلاثة عناصر تعزي إليها قدرة الإدارة المركزية لمصر / التجار الأإنياء على اتباع برنامج سياسي من شأنه تعظيم مصالحهم الجماعية من خلال السياسة التوسعية في 1811 – 1812 .
في المقام الأول ، انخرط التجار في تنظيمات بأشكال أتاحت لهم ميزات مهمة تفوقوا بها على خصومهم النبلاء والصناع المهرة . ومع نهاية القرن الثامن عشر ، باتت النخبة التجارية بالقاهرة صغيرة الحجم وتألفت أساسا من أعضاء جماعات الأقليات بالبلاد . ويذكر "ريمون" Raymond أن "القوة الأكبر" للبيوت التجارية الغنية مع نهاية القرن تقريبا تكمن في "التنظيم القومي للعائلة" الذي عزز من كفاءة المعاملات التجارية بعيدة المدى في ظل شروط غير مؤكدة .
كانت صلات العائلة تتكاثر في هيكل تنظيمات طائفة التجار في هذا الوقت . وكانت مناصب الطائفة تتنقل إلى أفراد من الأسر ذات الهيمنة الممتدة التي صنعت هذه الاتحادات ، وغالبا ما كانت المناصب العليا تتنقل من الأب إلى الإبن داخل العشائر الغنية وذلك في بداية القرن التاسع عشر . إضافة إلى ذلك ، يتم ترتيب معين . وفي الحدود القصوى ، فإن هذه الآليات عملت على إيجاد طوائف تتكون من عائلة وحيدة في حالات استثنائية . واستنادا إلى الجبرتي :
دائما كان أفراد عائلة الشرايبي يعهدون لواحد من عائلتهم برعاية شئونهم . ويخضع لأوامر ذلك الشخص الموظف وجامع الضرائب ، ويتسلم جميع العوائد ، والإيجارات ، وباقي الأشياء . ويتولى تقسيم الأرباح ، ويدفع لكل فرد نصيبه منها .. وفي نهاية العام يقوم بإعداد الميزانية .. وهذا النظام ظل قائما لفترة طويلة داخل العائلة ، لكن مع وفاة الكبار ، تشاجر أعضاؤه صغار السن . ومضى كل في طريقه ومعه ما يتسلمه . انفصلوا عن بعضهم وفقدوا رخاءهم الاقتصادي .
وبلا شك أسهمت العلاقات الوثيقة داخل الأسرة في الطبيعة الجماعية في صنع القرار داخل هذه الطوائف ، التي كان يمارس أعضاؤها تأثيرا بشكل دوري ، على أهداف شيوخهم الرؤساء ويقاومونهم . وكان الشيوخ يلجأون من حين لآخر إلى السلطات الخارجية خصوصا للاستعانة بهم للتحكيم في الخلافات الخطيرة التي تنشب بينهم وبين مرؤوسيهم . غير ان هذا لم يكن يحدث كثيرا وإلا أصبحت طوائف التجار هدفا لسيطرة الدولة . وفي المقابل ، يتضح أن التماسك الداخلي لطوائف التجار والتركيب الاتحادي أتاح لتجار العاصمة أن يتجنبوا الوقوع تحت إشراف مفتشي الأسواق الحكومية في بداية القرن التاسع عشر تقريبا . وفي واقع الأمر ، تولى التجار ذوو النفوذ من القطاع الخاص موقع سر التجار أو "الشهبندر" في مطلع التاسع عشر ، وهي وظيفة تتمتع بنفوذ عريض ، حيث يعمل من يتولاها كرئيس شرفي لجماعة التجار بالبلاد .
أتاحت هذه الخواص لطوائف تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء مد نطاق سلطتهم على مدى كبير من الأقاليم أكثر مما هو متاح لأصحاب المهن الرئيسية وطوائف الصناع المهرة بالمدن . واستنادا إلى السجلات الرسمية عن طوائف المدن التي اعدها ضباط نابليون ، فإن طوائف التجار الكبيرة كانت تشمل مدينة القاهرة بأكملها وضواحيها ، أما طوائف أصحاب المهن الأصغر فكانت تتوزع على الأحياء . أكثر من هذا ، فإن طوائف الصناع المهرة في أغلبها الأعم كانت أصغر حجما من طوائف التجار ، وترتب على ذلك ، أنهم وجدوا أنفسهم هدفا لنزاعات اقتصادية وسياسية أكبر داخل صفوفهم . وأدى هذا بصورة أساسية إلى الحد من قدرتهم على التعاون المتين ، حتى أن قدرة طوائف المهنيين على إشاعة الفوضى في الشئون اليومية للقاهرة باتت أمرا ملحوظا .
والعامل الثاني هو أن النزاعات المتنامية بين كبار ملاك الأراضي والمهنيين منعت هاتين القوتين من التعاون في معارضة البرامج التي يتبناها التجار / الدولة . وكان قد أمكن للنبلاء الزراعيين دعم وضعهم في السياسة المحلية قبل 1805 عن طريق احتكار أسواق الحبوب المحلية من خلال ترتيبات تتعلق بالزراعة تعتمد على فرض رسوم على العمالة وضرائب عينية . وهذا النظام بدأ يتلاشى خلال العقد الأول للقرن التاسع عشر ، ومع هذا ، نظرا لأن إجراءات ملكية الأراضي في الريف التي تعتمد فقط على مدفوعات نقدية باتت لها الغلبة . وفي ظل هذه الإجراءات الجديدة ، واجه ملاك الأراضي قدرا معينا من المنافسة من التجار المحليين الذين يزرعون المحاصيل بأراضيهم . وهذه المنافسة قللت كميات الحبوب الفعلية التي تخضع لسيطرة ملاك الأراضي الكبار ، سواء بسبب أن السعر الذي يتعين عليهم سداده في ذلك الحين قد أخذ في الارتفاع ، أو لأن الفلاحين ببساطة كانوا يبيعون منتجاتهم للتجار المحليين ويسددون رسوم العمالة نقدا .
ونظرا لاستمرار ارتفاع أسعار الحبوب في مصر بين عام 1810 و 1813 ، تفصلت بالتالي كميات الحبوب الخاضعة لسيطرة كبار الملاك ، وبات الأكثر فائدة على المدى القصير لملاك الأراضي إرسال حبوبهم خارج البلاد على أمل أن يجدوا سعرا أعلى لدى أوروبا في وقت الحرب عما في الأسواق المصرية ، حيث يتآكل جزء كبير من قيمته نتيجة التضخم السائد في تلك الفترة . غير أن هذا ترك الأمر في أيدي صغار ملاك الأراضي المحليين وتجار الأقاليم ليتحكموا في تسويق المواد الغذائية بالمناطق الريفية . ونتيجة لهذا ، وجد كبار ملاك الأراضي أنفسهم محرومين مما كان وسائل أولية دائمة للتأثير على الشئون المحلية تحقيقا لمصالحهم . وجعلهم ذلك عاجزين عن مقاومة مبادرات الدولة / التجار ، وذلك برغم حقيقة أنه على الأقل كان بعض هؤلاء التجار يشترون احتياجاتهم المعيشية من الحبوب التي تنتجها أراضي النبلاء .
ثالثا ، كانت المجتمعات القروية في أنحاء مصر في شكل تراكيب يتميز النشاط المشترك لسكانها بتسهيلات وتأثير خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر . وعموما فإن هذه القرى كانت تتمتع بـ "سيطرة مشتركة وإعادة توزيع دورية لأراضي القرى ، ومسئولية مشتركة في دفع الضرائب وتوفير قوة العمل" . على أن وجود مؤسسات موحدة مثل هذه جعلت الفلاحين بالبلاد في وضع أفضل كثيرا لمقاومة جهود كبار ملاك الأراضي لتوسيع نفوذهم على الشئون الداخلية أكثر مما كان يمكن أن يتاح من عدم وجود مواثيق مثل تقدير الضريبة الجماعية والملكية الجماعية لأرض القرية . أكثر من هذا ، كان يمكن التلاعب بهذه الإجراءات من قبل كبار الأعيان المحليين بأساليب من شأنها أن تثريهم على حساب كبار الملاك . وفي ظل هذه الظروف ، فإن محاولات كبار ملاك الأراضي لتحسين وضعهم المالي عن طريق توسيع نطاق سيطرتهم على ملكياتهم الاسمية قوبلت بموقف قوي في القرى . فضلا عن ذلك ، واجه نبلاء مصر في عام 1810 تقريبا تحديات لأوضاعهم في الريف ليس فقط من تجار الأقاليم والعمال الريفيين ، بل كذلك من مستخدميهم . وأدى هذا الضغط المتزامن من كل هذه القوى في المقاطعات الريفية إلى إضعاف كبار ملاك الأراضي إلى حد منعهم من التآمر أو التعاون مع الصناع المهرة بالمدن في صراع الأخيرين مع نظام الحكم الوليد لمحمد علي .
ولذلك كانت الفترة من 1810 – 1815 فترة بالغة الأهمية في التاريخ السياسي لمصر . ففي غضون تلك السنوات ، انتقل التحالف الحاكم للبلاد من نظام يتألف جوهره من كبار ملاك الأراضي وإداريي الدولة إلى نظام تحالف فيه الجهاز الإداري الحكومي بدلا من ذلك مع التجار الأثرياء العاملين في استيراد وتصدير سلع واسعة المدى في جميع أنحاء البلاد . وحدث هذاالتغير في إطار تحديات خطيرة للنظام السياسي داخل مصر من أسفل . نظرا لأن المصالح التي حققتها قوى الدولة في توسيع السلطة المركزية والحفاظ على الاستقرار الداخلي بدأت تتداخل مع مصالح التجار والعلماء الأغنياء ، أصبحت الإدارة المركزية هي القاطرة التي تمارس القمع على العمل الجماعي للصناع المهرة وأصحاب الحرف . ولعبت العمليات التوسعية العسكرية من قبل قوي الحكومة دورا مكملا في هذه العملية . غير أن فئة واحدة من الحملات العسكرية برهنت على عدم كفايتها في تأسيس نظام الحكم الجديد بشكل دائم ، وفي أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر واجه نظام الحكم فئة من التحديات السياسية المحلية سواء في الريف أو الحضر .
الفصل الرابع: الحملات العسكرية في بحر إيجة
لم تتوقف السياسة التوسعية لمصر في عصر محمد علي عند حد إنشاء وحدة سياسية واقتصادية تركزت حول القاهرة بعد إدماج الحجاز ، ثم السودان فيما بعد . فبداية من عام 1822 شنت القوات المسلحة المصرية سلسلة من الحملات في كريت والجزر المحيطة بها بلغت ذروتها في غزو إبراهيم باشا لأراضي اليونان بعد عامين من ذلك . وإلى حد معين كانت هذه الحملات تمثل استمرارا لصراعات أدت إلى كل من إعادة اندماج التحالف بين تجار البلاد وإداريي الدولة ، وإلى قمع حركة الصناع المهرة المواكبة للعمليات العسكرية التي نوقشت في الفصل السابق . بيد أن الحملات العسكرية على كريت واليونان اختلفت على نحو بارز عن مثيلتها التي جرت منذ عشر سنوات ، كانت نتيجة مباشرة للتحولات الجوهرية في مواقع أعضاء التحالف الاجتماعي المهيمن على البلاد ، سواء ما يتعلق منها بموقع كل منها بالنسبة للآخر أو لوضع خصوم نظام حكم محمد علي .
التغيرات في ملكية الأراضي الزراعية والسياسة الريفية
بعد عام 1820 استمرت الصادرات المصرية تشتمل على مقادير كبيرة من المنتجات الزراعية . وبحلول عام 1824 كان من بين أهم هذه الصادرات البقول والعدس والشعير . واستلزمت زراعة هذه المحاصيل الخاصة عددا قليلا من قوة العمل ، ولذلك توفر لكبار حائزي الأراضي القدر الأكبر من المنتجات القابلة للتسويق بالتوقيتات الزمنية المحددة اللازمة من العاملين بالمزارع بوصفها واجبا مفروضا عليهم . وبهذه الطريقة . كانت زراعة محاصيل من نوع البقول والشعير مصدر قوة لكبار ملاك الأراضي في صراعهم الدائم لحيازة السيطرة على الشئون الريفية من صغار الفلاحين المستقلين في الأقاليم .
ووجد ملاك الأراضي الزراعية الأكثر تركيزا في الريف المصري أنفسهم في وضع مميز على نحو متزايد في مواجهة الفلاحين الفقراء والصناع المهرة الريفيين نتيجة للآليات التي أدت إلى الحملات على الحجاز أثناء العقد الثاني للقرن التاسع عشر . وكانت الهيمنة المتنامية للفلاحين الأثرياء في السنوات التالية على عام 1815 تمثل جزءا من عودة ظهور عام للملكيات الخاصة الكبيرة في المناطق الريفية في هذا الوقت تقريبا . وكان لهذه العملية قواعدها في دمج ملكيات "الوسايا" في أنحاء الوجه البحري ومصر الوسطى بعد انتهاء الحملات على الحجاز . وكانت أرض الوسية – وهي تلك الأجزاء المحتفظ بها من الالتزامات القديمة ليقتصر استخدامها على الملتزم – تمثل نسبة كبيرة من إجمالي الأراضي الزراعية في هذه الأقاليم في عام 1817 . وتتوازن هذه الإحصائيات بمقارنة تقديرات إبراهيم عامر الذي يؤكد أنه خلال الجزء الأول من عهد محمد علي كانت 300 ألف فدان مملوكة كأبعاديات أو وسايا من إجمالي مليوني فدان من الأراضي المنزرعة بالبلاد . ويضع إبراهيم عامر 154 ألف فدان أخرى باعتبارها مسموح المشايخ . وهي الأراضي التي يملكها مشايخ القرى . وهذه الوسايا وغيرها من الملكيات الخاصة أعيد توزيعها بين أغنياء الفلاحين وشيوخ القبائل في أعقاب إلغاء نظام الالتزام في منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر . وتنامت أهميتها خلال السنوات العشر التالية نظرا لأنها غدت أكثر ربحية لملاكها : وتنعكس الربحية الكبيرة لهذه الملكيات في تزايد عائدات الضرائب التي تسلمتها الدولة منهم بين عامي 1817 و 1822 . وكما يتضح من الجدول 4 – 1 ، فإن زيادة عائدات الدولة من أراضي الوسايا يساوي 40% في لامتوسط من أقاليم الوجه البحري ، وتستند هذه الأرقام على معدل للضرائب قال عنه محمد علي في نقد عنيف "جهد أقل كثيرا .. من الخراج الجديد" حتى إن ملاك الأراضي المحليين ربما كانوا يقومون بجمعه بأنفسهم .
وبحلول عام 1841 ، فإن هؤلاء الملتزمين السابقين الذين نجحوا في استعادة السيطرة على جزء من ملكياتهم بدأوا يلتمسون من الحكومة المركزية أن ينالوا حق جمع نسبة من الضرائب الواجبة الأداء عليهم . واكتشف "كينيت كونو" Kenneth Cuno أن الدولة بدأت تدفع لكبار ملاك الأراضي اموال الفايظ نحو عام 1822 ، بينما يفسر علي بركات ذلك بأن كلا من أراضي الوسايا ومدفوعات الفايظ أصبحت تورث في وقت ما في غضون الأعوام الأولى لعشرينيات القرن 19 . وزادت الرغبة بالحصول على اعتراف رسمي لشخص ما بأنه المستفيد من أملاك الوسية نظرا لأن أرباح زراعة المحاصيل النقدية استمرت في الارتفاع . وحسب ملاحظة كونو Cuno : "بالنسبة لأغلب الملتزمين كان الاحتفاظ بوساياهم له أهمية كبرى مقارنة بالتضاؤل السريع للفايظ لديهم . هذه أرض كانت عرضة للاحتكارات الزراعية للحكومة المركزية ومن جانب آخر لاتحسب عليها ضرائب ، وبالتالي كان الاحتفاظ بعدة أفدنة يستحق ذلك" . ونظرا لأنه أصبح بالإمكان انتقال أراضي الوسايا من مالكيها إلى ورثتهم ، لذلك فإن عددا قليلا من الملتزمين السابقين – وإن مازالوا جماعة سياسية بارزة – عادوا للظهور بوصفهم "ملاك أراضي كبار ، ومتوسطون ،وصغار مميزون في القرى التي كانوا فيها ذات يوم من كبار الملاك" . وعلى سبيل المثال فإن الالتزام القديم لحسن باشا طاهر بالقرب من برديس في جرجا ، ظل قائما حتى عام 1823 على ألأقل . وبعد 14 عاما ، كانت ملكيات عائلة طاهر باشا تصل إلى 150 , 14 ألف فدان ، منها 100 فدان تدفع ضريبة بوصفها أرض المأمور . كما أن محّو بك ، وهو شخصية سياسية مهمة في البلاد ، بدأ في تجميع إقطاعية كبيرة جدا قريبا من قلقشندة تقريبا في 1820 وخلال العام المالي 1822 – 1823 ، بقيت أرض مساحتها 428 , 41 ألف فدان من أراضي الرزق الخاصة بصورة أساسية في جرجا ومنفلوط بالوجه القبلي . وهذه كانت تمثل أكثر من 8% من الأراضي المنزرعة في ريف هاتين المدينتين . وانتشرت الأبعاديات الكبيرة في أنحاء البلاد خلال أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر أيضا ، رغم أنها لم تحظ باعتراف رسمي حتى بعد عام 1826 .
وتمثل رد فعل العمال الزراعيين في مواجهة هذه الظروف في ثلاثة مسارب . هرب بعض الفلاحين الفقراء من المناطق التي بدأت تعاود الظهور بها الملكيات الزراعية الكبيرة نسبيا . ويلاحظ عبدالرحمن الجبرتي أنه في خريف 1818 هجر عدد كبير من الفلاحين الأراضي التي أغرقتها مياه الفيضان بصورة غير عادية ، وبعد 4 سنوات صار هروب الفلاحين أمرا معتادا حتى إن الإدارة المركزية أصدرت أوامر لوكلائها المحليين باتخاذ إجراءات للحيلولة دون مزيد من الهجرة ، وإعادة الذين هربوا إلى مواطنهم الأصلية . وأولى القناصلة الأجانب اهتماما خاصاص لأعداد الفلاحين الهاربين المتزايدة من الريف في منتصف عهد محمد علي ، وأوردت تقاريرهم أن تعداد سكان القاهرة والإسكندرية قد زاد إلى عشرات الألوف .. إذ بدأ ظهور الأكواخ المكتظة بالفارين من الأقاليم على حدود ضواحي كبرى مراكز المدن . ومارس عمال زراعيون آخرون تخريب أو تدمير معدات الإقطاعيات التي عادت للظهور . وفي خريف 1819 أدت الزيادة الحادة في حالات السرقة والنهب في أنحاء البلاد لعقد الجبرتي مقارنة بينها وبين تلك السنوات التي عاثت فيها الفوضى قبل الاحتلال الفرنسي مباشرة ، وهي الرؤية التي لابد أن شاركه فيها بالتأكيد النخبة الزراعية بالبلاد . ودأب فلاحون آخرون على التمرد الفعال في مواجهة التغيرات الحادثة في ملكية الأراضي بالأقاليم . وفي مايو من عام 1823 اندلعت ثورة واسعة النطاق بالمنوفية في مواجهة ارتفاع الضرائب المفروضة من أجل دعم ملاك الأراضي الجدد ، وترافقت هذه الثورة مع سلسلة من التمردات الكبيرة عمت الصعيد بين عامي 1820 و 1824 ، ورغم أنها كانت تتعلق أساسا بالتغيرات في عمليات الصناعة بالأقاليم ، إلا أنها كانت ترجع جزئيا إلى عودة ظهور طبقة كبار ملاك الأراضي في قرى الصعيد .
غير أنه يمكن البرهنة على أن أهم آلية سياسية داخل القطاع الزراعي بالبلاد حول عام 1820 كان مقاومة الأعيان المحليين في الأقاليم لعودة ظهور كبار ملاك الأراضي بمصر . ومع الإلغاء الرسمي للالتزام في عام 1813 تحسن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لشيوخ القرى في الريف بشكل لافت . ويوضح كونو Cuno أن هؤلاء المسئولين بدأوا ينتزعون لأنفسهم المقدمات النفدية وباقي أشكال العائدات غير العادية من وكلاء الحكومة بالريف في نهاية العقد الثاني من القرن الثامن عشر ، وفي الوقت نفسه باتوا يحتلون مواقع بوصفهم وسطاء بين الاحتكارات الحكومية والمنتجين الزراعيين والصناعيين المحليين . كان شيوخ القرى يجمعون المحاصيل لمخازن الحكومة خلال الأعوام الأولى لنظام الاحتكار ، ويشرفون على صيانة شبكات الري وتوسيعها في مناطق سيطرتهم ، ومع باقي مسئولي الحكومة المحليين كانوا ملزمين بمسئولية اتقان الفلاحين لأداء الأعمال الموكلة إليهم ، وربما كان بعضهم يتولى دورا إضافيا في الإشراف على غزل الكتان والقطن في مناطق الريف كوكلاء معينين من الإدارة المركزية .
وترتب على ذلك ، أن احتل شيوخ القرى وضعا قويا في الشئون السياسية والاقتصادية في نطاق هيمنتهم بين عامي 1820 و 1824 . ويذكر كونو أنه في قرى معينة كانت أسرة شيخ القرية تمتلك أكثر من نصف الأراضي المزروعة . واستفادت هذه العائلات من عدم التناسب في إعادة توزيع أراضي (الرزق) والوسايا التي واكبت إلغاء نظام الالتزام ، حتى إنهم استفادوا أكثر من قرارات الحكومة في بعض الأحيان نحو عام 1815 بإعفاء أراضيهم من الضرائب باعتبارها إما أراضي مسموح المشايخ التي كان تستخدم عائداتها كتعويض للمشايخ مقابل أدائهم لواجباتهم الرسمية ، أو أراضي مسموح المصاطب التي تستخدم لتوفير الضيافة للزائرين من أصحاب المقام الرفيع . وكنتيجة لهذه السياسات ، أصبح بعض شيوخ القرى هم ملاك الأراضي المهيمنين على قطاعاتهم .
على سبيل المثال ، واستنادا إلى كونو Cuno : "في غضون الفترة من 1813 إلى 1821 ، كانت توجد العديد من الأسر ذات الملكيات الكبيرة في قرية سلّنت ، كانت كل عائلات المشايخ ، قد تسلموا أراضي إضافية عند إعادة تنزيع الوسية في عام 1813 . وفي عام 1821 كان الشيخ دياب طاجن من أكبر ملاك الأراضي ؛ حيث كان يمتلك 137 فدانا . وأصبح على هاني ، من عائلة شيخ القرية ، يمتلك 65 فدانا بالمشاركة مع محمود دياب في عام 1821 .. في حين أن العائلات الأخرى من أصحاب الملكيات الكبيرة في سلنت فقدت أملاكها" .. وفي رأيه أن "قرية سلنت التي تتوفر لدينا معلومات عنها مقارنة بقرية بدواي أو ويش الحجر ، ربما كانت نموذجا لأغلب القرى في هذه الفترة ، حيث كان بمقدور أسرة واحدة من بين ثلاث أسر غنية الاحتفاظ بوضعها الاقتصادي وتحسينه ، بينما تتناقص ثروة الآخرين" .
استطاعت معظم هذه العائلات أن تجعل منصب شيخ القرية وراثيا في نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر . ويبين كونو Cuno أن 28 أسرة بالدقهلية احتفظت بمنصب شيخ القرية (العمدة) طوال عصر محمد علي . ويستخدم "جابريل باير" Gabriel Bear شواهد قصصية للتدليل على ان هؤلاء المشايخ حولوا بالتدريج أراضيهم إلى ملكيات خاصة بداية من عشرينيات القرن التاسع عشر . وتستنج عفاف لطفي السيد مرسو أنه نتيجة لهذه الاتجاهات "فإنه .. ليس أمرا يدعو للدهشة وجود عمد وشيوخ وكذلك بدو بين أوائل المتعهدين ، ولم يكن من غير المعتاد رؤية أن السيطرة على جميع المقاطعات تنحصر في عائلات محددة . على سبيل المثال فإن عائلة الشواربي في قليوب تتولى منصب العمودية في ثلاث قرى من خمسة . وفي الغربية ، تولى منصب العمدة من عائلة سالم خمسة أفراد" . لذلك أصبح مشايخ القرى قوة ذات نفوذ في السياسات الإقليمية في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر ، يتحدون ليس فقط إمكانية عودة بروز النبلاء لاحتلال مواقع مؤثرة في الريف بل أيضا قدرة الإدارة المركزية على توجيه عمليات احتكارات الدولة . وتركت هذه الاتجاهات نظام الحكم مرة أخرى معرضا لتحديات خطيرة من الفلاحين الفقراء والصناع المهرة بالأقاليم ، وهو ما يحض على مسئوليات أكبر لتدخل الدولة في الشئون الريفية مع افتتاح القرن التاسع عشر .
تدخل الدولة والصراع السياسي بالريف
في عام 1815 بدأ مسئولو الدولة يتولون دورا مباشرا أوضح في شئون الريف في محاولة للحفاظ على النظام في الأقاليم من خلال أوثق الصلات مع العاصمة . ونشرت الحكومة قوات عسكرية بمراكز المدن والقرى على الحدود الجنوبية للوجه البحري بداية من هذا العام ، ثم أنشأت معسكرات لإيواء هذه القوات في جمع انحاء الدلتا . وفي 1817 كانت الإدارة المركزية تعين مسئولين للمقاطعات تابعين لها في محاولة للإشراف على نشاطات مشايخ القرى ، وحصل هؤلاء المسئولون على لقب قائمقام ،وهو مستمد من فصائل الضباط الأتراك المتمركزين بالقاهرة ، وكانوا مسئولين عن زيادة كفاءة تحصيل الضرائب من مناطق الريف . وتلقت جهودهم دعما إثر عودة إبراهيم باشا من حملته على الجزيرة العربية في نهاية عام 1819 ، وقاد على الفور جيشه إلى المناطق الزراعية شمالي القاهرة لجمع الضرائب التي تأخرت عن موعد استحقاقها . وعلى حد قول الجبرتي أن صافي ما حصلته الحكومة يزيد عن 100 ألف كيس نقود من الضرائب المتأخرة والغرامات ، في حين اضطر العديد من شيوخ القرى والفلاحين إلى الفرار إلى الصحراء هربا من السداد .
وفي الأعوام الأولى من عشرينيات القرن التاسع عشر ، تزايد تدخل القادة العسكريين المقيمين بالأقاليم في الشئون الاقتصادية المحلية ، وفي ذلك الحين كثرت شكاوي شيوخ القرى بشأن أسلوب مصادرة القوات العسكرية الحكومية للإنتاج الزراعي وكذلك إرغام الفلاحين على العمل في الأراضي المحتفظ بها للدولة . وأدت هذه التقارير بمحمد علي إلى إذاعة تحذير لضباط الجيش عام 1823 ينص على أن ممارسات كهذه تتعارض مع النظام العسكري ، ويجب أن تتوقف في الحال . والأكثر دلالة ، بدأ ضباط الجيش في إقراض النقود لأعيان الريف بفوائد باهظة . وسرعان ما أبعدت هذه الممارسات شيوخ القرى عن العمل لدى الحكومة ، إذ كانت عمليات الإقراض توفر لهم أرباحا معقولة تؤدي لزيادة العائد الناجم عن الزراعة . واعترافا من الوالي بأن هذا الوضع قد يهدد بدق إسفين بين مشايخ القرى البارزين ونظام الحكم ، بذل جهدا كبيرا لحصار الإقراض باهظ الفائدة من الجنود غير أن التحذيرات الصادرة عن القيادة العليا ، أيا كانت حدة كلماتها ، لم تكن كافية في مواجهة الصراع المتنامي بين ضباط الجيش وملاك الأراضي ذوي النفوذ بالريف .
وجاء تعاظم تدخل الجيش في شئون الأقاليم ليستأنف مرحلة ثانية لمسح شامل في الريف فيما بين عام 1810 – 1821 . وفي هذا المسح صنف جميع الأراضي الزراعية طبقا لدرجة إنتاجيتهاه . وتحدد على أكثر الأراضي خصوبة معدل ثابت للضريبة ، وألأقل إنتاجية عوملت ضريبيا بمعدل متغير طبقا لخصوبتها . ويتم مراجعة ههذ المعدلات دوريا ، وذلك تماشيا مع تغير الظروف بالريف والتحولات في الأوضاع المالية التي تواجه الإدارة المركزية . والأهم من ذلك ، أتاح المسح الجديد لمسئولي الدولة إعادة رسم الحدود المحيطة بأرض الوسية في كل قرية ، وهو إجراء كان يواجه بمقاومة عنيفة من كبار ملاك الأراضي لأن إجراء كل مسح جديد كان يستفيد من وحدة قياس مختلفة ، ولذلك كان يتقلص دائما حجم الأراضي المعترف بها ضمن الوسية . ومع مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر بدأت محاولات دئوبة من الحكومة لتغيير تصنيف الأراضي الزراعية بمصر وتوزيعها ، وبالتالي تزايدت احتمالات النزاع بين سلطات الدولة من جانب وملاك الأراضي الكبار الناشئين في الأقاليم من الجانب الآخر .
وفي سنة 1820 تصاعدت الخصومات حين قامت الحكومة بتحديد العوائد المستحقة على أراضي المسموح في الأقاليم وبدأت في تعويض شيوخ القرى عن الحصة التي سبق تحديدها من هذه المبالغ كمكافأة عن خدماتهم . وعلى نحو درامي ادت هذه الخطوة إلى تزايد الأعباء الضريبية على شيوخ القرى ، ذلك لأن ذلك لم يقف عند حد التقدير الجزافي بما يعادل مخصصات عامين على هذه الأراضي ، بل أتاح للخزانة المركزية أيضا ان تراكم بسرعة مستحقات المنتجات الزراعية عندما تدفع أثمانها بعملات تنخفض قيمتها على نحو سريع . على أن المصاعب التي اعترضت القرى في في مواجهة الإجراءات المفروضة أدت بكثير منهم إلى هجر ممتلكاتهم تماما ، وهو اتجاه أضعفهم بشدة في مواجهة ولاة الأقاليم الذين أقدموا على مصادرة هذه الأراضي وأعادوا توزيعها على مرؤوسيهم .
وترافقت هذه السياسات مع جهد مكثف من المسئولين بالعاصمة لإخضاع شيوخ القرى لشكل معين من السلطة المركزية . وفي عام 1817 أصدرت الحكومة أمرا لجميع المسئولين بالأقاليم بالسفر إلى القاهرة لإبلاغهم بالمستحقات التي يتعين عليهم تحصيلها من القرى كزيادات في المبالغ الإجمالية من الخزانة ، وفي الوقت نفسه تحرك وكلاء الحكومة بشكل منظم في أنحاء الريف ليسألوا شيوخ القرى ويعقدون لقاءات مع فلاحين منتقين ليحصلوا على معلومات تفصيلية عن الشئون الريفية . وبعد عام من ذلك ، أنشأت الإدارة المركزية مجلسا عاما للإشراف على إنتاج وتوزيع جميع المحاصيل النقدية الزراعية . وهذا المجلس ، الذي كان مقره بالقلعة في القاهرة ، كان على قمته ضابط تركي برتبة الأغا . وذلك بلقب ناظر الأصناف . كما بدأ تنظيم الهيمنة المركزية على الأقاليم مرة أخرى مع إعادة الأصناف . كما بدأ تنظيم الهيمنة المركزية على الأقاليم مرة أخرى مع إعادة تنظيم الهيكل الإداري لمصر المعلن عنه في عام 1824 . وهذا الإجراء أدى بصورة أساسية إلى زيادة نفوذ ولاة الأقاليم ، وبات من بين سلطاتهم تنفيذ أي مبادرات من قبلهم لضامن أعلى كفاءة في تدفق عائدات الضرائب إلى العاصمة . وحين قاوم الأعيان المحليون جهود الحكومة لتنفيذ هذا المرسوم ، قام محمد علي بنفسه بجولة بالأقاليم في العام التالي ، ليبلغ مسئوليها أن الإصرار على نقص الاهتمام والتقدير من رؤساء الأقسام (مأموري الأقسام) أقنعه بزيارة أنحاء البلاد ، وملاحظة كل تقصير من جانب أي مأمور ، أو قائمقام ، أو رئيس منطقة (حاكم خط) ، أو شيخ أو مشرف (خولي) .
ومن أجل تمويل هذه المؤسسا الجديدة أو المعاد تنظيمها ، فرض وكلاء الدولة مجموعة من الضرائب غير العادية على الأراضي الزراعية المصرية في مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر . إذ تم فرض ضريبة الفردة على المزارع في عام 1822 وأدت لزيادة معدل الضريبة بصورة أساسية ، وتم الإعلان عن ضريبة جديدة على أشجار النخيل في السنة نفسها ، والتي أثارت معارضة في أعلى مستويات الجهاز الإداري المركزي . وفي عام 1823 أثارت هذه الضرائب استياء واسع النطاق في الريف من نظام الحكم ، وهذا السخط استحال إلى تمرد صريح في المنوفية في مايو من السنة نفسها . وفي الوقت نفسه اندلعت سلسلة من التمردات الشاملة في أنحاء الصعيد ، ورغم أن هذ التمردات تعزى إلى التغيرات التي طالت قطاع الصناعة في الاقتصاد الإقليمي ، إلا أنها وجدت دعما ملحوظا في المناطق الزراعية المأهولة بفقراء الفلاحين المحيرين على أداء مزيد من الأعمال في الإقطاعيات لسداد هذه الضرائب المتصاعدة . وللتهديدات التي تنطوي عليها هذه الصراعات الريفية للتحالف الاجتماعي الحاكم للبلاد في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر ، فإنها تتمثل بدقة في الاقتران بين التحديات الريفية والمدنية الحادة التي كانت تعرض للخطر الوضع السياسي الداخلي لنظام الحكم في الشهور الأولى لعام 1824 .
التحديات المدنية لهيمنة الدولة/التجار
نتيجة للاتجاهات التي نوقشت في الفصل السابق ، فإن تجار الاستيراد والتصدير المصريين الأغنياء ، خاصة من يتعاملون في السلع الغذائية ، أصبحوا على صلة وثيقة بالإدارة المركزية للبلاد في العقد الثاني من القرن التاسع عشر . وتدعمت هذه العلاقة من خلال احتكارات الدولة التي بدأت بعد عام 1811 ، والتي كانت تميل إلى دمج أهم التجار العاملين شفي مجالات محلية معينة في وظائفها ، وبالتالي يمكن تقوية وضعهم الاجتماعي القائم . وبالتالي من الخطأ افتراض ، مثلما يفعل أغلب من يدرسون فترة محمد علي ، أن الاحتكارات الحكومية هذه أدت إلى تحطيم تجار البلا وإزاحتهم من الصدارة . فإن ما حدث فعلا ، أنها قامت بتحطيم فعال لفقراء التجار ، خاصةمن هم بالأقاليم ، بينما أفادت الأغنياء منهم وأصحاب النفوذ في جميع قطاعات العاصمة .
ويمكن البرهنة على هذا التأكيد من الشواهد المرورية ، نظرا لأن مؤرخي هذه المرحلة لم يضعوا – حتى الآن قوائم شاملة لأبرز تجار مصر في أوائل القرن التاسع عشر . ويذكر الجبرتي أنه في عام 1813 تم تعيين سيد محمد المحروقي مفتشا للدولة بالسوق المركزي للقاهرة . وعلى المنوال ذاته ، كان الموظف المسئول عن وزن البضائع في سوق القاهرة (الوكالة) للمنتجات السودانية في بداية القرن التاسع عشر قد تم تعيينه وزّان الحكومة لبضائع القاهرة كلها في نهاية العقد الأول من القرن التاسع عشر . وفي عام 1827 تم التعيين سيد أحمد العزبي رئيس تجار الإسكندرية ، وكان يتولى الرئاس مع الشيخ مصطفى الصحن ومحمد شرارة . كما أن "بوغوص بوسفيان" من إزمير "ترقى من تاجر وملتزم جمارك الإسكندرية إلى ناظر التجارة والشئون الخارجية في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر . ويستنتج "تيرانس والز" Terence Walz أن احتكار الدولة للتجارة مع السودان تضمن ما يزيد قليلا على إنشاء مناصب جديدة استمر يشغلها أهم أصحاب النفوذ من قدامى التجار . ويوضح ف يكتابه حول تجار أسيوط ، أن من لم يعمل منهم بشكل محدد في السلع الفاخرة استمروا يزاولون أعمالهم على نحو أفضل كثيرا عما ألقوه في ظل نظام الاحتكار لكن في هيئة جديدة بوصفهم وكلاء الحكومة . ويتضح مدى الحقيقة في ذلك حتىب النسبة لمن انخرطوا في تجارة الرقيق بأفريقيا ، الذين أولاهم نظام الحكم اهتماما خاصا . وباختصار ، فإن من تولوا الإشراف على احتكارات محمد علي لم يكونوا من خارج النخبة .
ومع نهاية عام 1821 ، أخذ الوضع – بين هؤلاء التجار المندمجين في الدولة – بالنسبة لكل من كبار ملاك الأراضي الناشئين وللصناع المهرة بالمدن المصرية ولصغار المهنيين يسوء بسرعة ، فقد باءت بالفشل جهود الدلوة للإبقاء على النخبة الزراعية خاضعة لنظام الحكم من خلال إصدار أوامر بخفض الأسعار المسموحة على مختلف السلع الغذائية خلال شهور الصيف القاحلة نظرا لانهيار جميع أسواق التصدير الأوروبية في الخريف بعد ذلك . وأسفر هذا الوضع عن توفير مقادير كبيرة من الحبوب والبقول للأسواق المحلية وبأسعار منخفضة محليا لهذه المنتجات . وأتاح الضعف النسبي الذي تعاني منه الدولة / التجار في هذه الفترة لأصحاب المهن الفقراء بالمدن ، الذين لم يستفيدوا من الصلات المباشرة بالدولة أن يثوروا على التحالف المسيطر بمجرد أن ارتفعت الأسعار من جديد في الربيع التالي . وترتب على ذلك أنه في عام 1822 وجد التجار الأغنياء ومسئولو الدولة بالعاصمة أنفسهم مهددين ليس فقط من المنتجين الزراعيين على نطاق واسع الذين كان بمقدورهم من خلال الاقتصاديات الكبيرة التحكم في توفير المحاصيل النقدية والسلع الأساسية في الريف ، بل أيضا من القوى المدنية الذين تم وضعهم في وقت سابق موضع اختبار من خلال التلاعب بالتجارة الخارجية للبلاد .
ومن أخطر تمردات الصناع المهرة حدة تلك التي اندلعت في مدن ومراكز الصعيد . ففي الفترة من 1820 – 1821 هبت ثورة كبيرة في قرية السالمية بين قنا وفرشوط ، وبعدها بعامين قامت ثورة أخرى في البحيرات أمام مدينة الأقصر ، وفي سنة 1824 وقعت ثورة شملت كل مديرية قنا ضد نظام الحكم . وهذه المناطق تضم أهم مراكز ومنتجي الملابس من الصناع المهرة ، حيث توجد معامل النسيج في المدن التي تقوم بتشغيل نساء من القرى المحيطة يغزلن الخيوط من القطن والكتان سواء من المحاصيل المزروعة محليا أو من القطن على الرتبة المستورد من الشام . ويذكر علي باشا مبارك أنه خلال عشرينيات القرن التاسع عشر كان القطن المحلي يؤخذ إلى إسنا "وتقوم النساء بغزله وتحويله إلى قماش – ليس فقط نساء المدينة ، بل مع نساء أخريات من القرى المحيطة" . ويمكن أن نجد صورة حية لتكنولوجيا الصناعة بالريف لقرية صغيرة معاصرة شمالي السودان في كتاب الرحلات "لإجناتيوس بالمي" Ignatius Pallme لا يستطيع النساجون العمل إلا في مواسم الجفاف ، ذلك لأن منازلهم صغيرة الحجم إلى حد لايتيح لهم توفير مكان لدول بهاء ، لذلك يعضون الإطارات قريبا من مداخل أكواخهم ويشتغلون في هذا الوضع .. وعند أي لحظة يمكن تتقطع الخيوط ، وهو ما يقتضي ضعف الوقت لإعادة ربطها" .
ويتم تسويق معظم الأقمشة المنتجة في هذه المصانع الصغيرة في أنحاء البلاد . غير أن بعض المنسوجات الصعيدية كان يتم تصديرها لأسواق البحر المتوسط خلال العقد الثاني من القرن التاسع عشر . وكانت منتجات الكتان على وجه الخصوص تجد لها مشترين متأهبين في تريستي وليفورنو في ذلك الحين . وبلا شك فإن المنتجات الكتانية والقطنية شكلت أيضا بندا أساسيا في التبادل التجاري مع موانئ شمال أفريقيا مثل درنة وبنغازي . وعلى الرغم من أن المصنوعات المصرية لم تجد ذكرا لها غالبا لدى الوكلاء التجاريين الأوروبيين في المصنوعات المصرية لم تجد ذكرا لها غالبا لدى الوكلاء التجاريين الأوروبيين في المصنوعات المصرية لم تجد ذكرا لها غالبا لدى الوكلاء التجاريين الأوروبيين في المراكز التجارية العثمانية ، فإنه بيدو من غير المحتمل أن تكون ألأقمشة المنتجة بالبلاد قد فشلت على الأقل في الحصول على حصة صغيرة في أسواق إزمير وسالونيكا و الإسكندرية في السنوات التي قفز الطلب فيها على لاسلع البريطانية في رومانيا وروسيا . وفي عام 1821 اتضح أن العوائد المحصلة من صناعات الحرير والأنسجة تفوق مثيلتها المتحصلة من صادرات القمح أو الأرز . ونظرا لأن إشراف الدولة لم يبدأ تنفيذه على صناعات النسيج بالوجه القبلي إلا في عام 1821 ، ولذلك فمن المحتمل جدا أن صادرات الصعيد إلى الجزيرة العربية والسودان لم تكن تدخل في هذه التقديرات ، فلربما كانت الأنسجة المصرية تشكل القطاع الأكبر لاقتصاد البلاد في عام 1820 تقريبا .
وبدأت تتفاقم بشدة مشاكل هذا القطاع من الاقتصاد المصري مع إعادة فتح الدولة / التجار البلاد أمام واردات خيوط النسيج بداية من عام 1810 . وكانت صناعات الأنسجة في لانجدوك وبروفانس قد انتعشت خلال هذه الأعوام ، وبدأت في إرسال الأقمشة إلى أسواق البحر المتوسط بكميات آخذة في التزايد . وفي عام 1820 بلغت صادرات الأقمشة الفرنسية إلى مصر ما يعادل صادراتها في الثلاثين عاما السابقة ، وأخذت تواصل نموها ، بنيما في السنوات من 1783 إلى 1792 كانت فرنسا مازالت تستورد بعض الأقمشة القطنية وخيوط الغزل من مصر ، وفي عشرينيات القرن التاسع عشر كانت تتكون تجارتها في القطن مع مصر فقط من السلع التامة التصنيع . وكتب القنصل الفرنسي في مصر في يوليو من عام 1822 إن الأقمشة الفرنسية هي المفضلة دامئا ، وإن وارداتها عام 1820 فاقت واردات عام 1779 ، والتي كانت تقدر بنحو 750 بالة .
إلا أن فرنسا لم تكن أكبر قوة تجارية في شرقي البحر المتوسط خلال هذه الفترة . وبعد عام 1815 كانت صادرات المنسوجات الفرنسية تتجه إلى بلاد المشرق وساكسونيا وسويسرا ، وخاصة إنجلترا . وبالذات في مصر أزاحت المنسوجات القطنية المصنعة آليا بإنجلترا الأقمشة الفرنسية غالية لاثمن والمصنوعة يدويا ، وأتاحت للإنجليز سوقا واسعة ومريحة . ويلاحظ "ادوارد لين" Eduard Lane أنه في نحو عام 1825 كانت الغالية العظمى من قماش الشيت والموسلين والشيلان (جمع شال) الموجودة في الأسواق المصرية مصنوعة في إنجلترا أو أسكتلندا ، رغم أن الأصواف كانت أساسا من فرنسا . وفي سنة 1823 نصحت سيدة تركيةف ي سوق بالقاهرة J.A. St John سانت جون بشراء قماش الموسلين صناعة مانشستر بدلا من الكتان المصنع محليا لتفصيل عمامة كان يريد صنعها .
وخلال العقدين الثاني والثالث من القرن التاسع عشر تمزقت أيضا أوصال الشبكة التجارية الراسخة التي تربط صعيد مصر والحبشة والجزيرة العربية والهند نظرا لأن السلع الأوروبية بدأت تدخل المنطقة مباشرة . وقبل هذه الفترة كان التجار الغربيون الذين يرغبون في إقامة صلات تجارية مباشرة في منطقة البحر الأحمر يعملون من خلال شركات تابعة أو وسيطة مقرها القاهرة أو الهند . ومن هذه الشركات الوسيطة شركة الهند الشرقية البريطانية . أو بوساطة القنصلية الفرنسية بالقاهرة ، التي كانت تعمل من خلال الأنظمة التجارية التقليدية بالمنطقة دون محاولة تغييرها ، وعلى سبيل المثال ، في عام 1805 أخفقت بريطانيا في إبرام معاهدات تجارية ثنائية سواء مع مكة أو صنعاء ، ولكن في ظل المناخ التجاري الجديد عقب سنوات الحرب النابليونية ، نجح "سنا" Sanna أخيرا في إبرام معاهدة في 15 يناير 1821 ، بعد حصار المخا وقصفها بالمدفعية لنهب وسرقة الوكالة وهذه الوكالة بدأ تشغيلها بالمخا منذ عام 1763 في ظل إدارة هندية بشروط تفضيلية مناسبة ، وبعد تدميرها كانت البضائع المرسلة إلى البحر الأحمر مباشرة من الجزر البريطانية وعبر المخا أكثر قدرة على المنافسة مع المنتجات الأوروبية الأخرى بالمنطقة ، خاصة الفرنسية . وبذلت المصالح التجارية البريطانية جهدا حثيثا من أجل محاصرة النفوذ الفرنسي في الحبشة أيضا في هذا الوقت تقريبا . ونتيجة لهذا ، باتت جدة مركزا إقليميا لجميع المواد المصنعة في أوروبا ، خاصة الملابس . وغدت السودان سوقا متنامية للأصواف الأوروبية والمنسوجات الأخرى ، ودامئا المصنعة فعليا في مانشستر .. تقليدا للأقمشة الهندية . لذلك فإنه في منطقة البحر الأحمر ، شأنها شأن البحر المتوسط ، كانت المنتجات الأوروبية في عام 1820 تتنافس بنجاح مع الأصواف المصرية .
ولحقت الأضرار البالغة بصناعة المنسوجات التي يقوم بها الصناع المهرة بمصر سواء من المنتجات الأورويية التي غزت الأسواق المحلية أو تلك التي في أسواق التصدير . وفي أوائل القرن التاسع عشر دخلت كميات ضئيلة من المنسوجات الأوروبية إلى الميدان التجاري في مدينة إسنا بالوجه القبلي في منافسة مباشرة مع المصنوعات المحلية . وخلال عشرينيات القرن التاسع عشر انتشرت الملابس الأوروبية في الأسواق المحلية الأخرى ، رغم أنها ظلت باهظة الثمن إلى حد يعجز عن شرائها غالبية المستهليكن من أبناء البلاد . لكن نظرا لأنها نجحت في احتلال الأسواق الخاصة بأغنياء الريف في أنحاء الصعيد وسواحله على البحر الأحمر والمناطق النائية بالسودان ، فإن هذه الواردات أدت إلى تدمير الصناع المهرة بالوجه القبلي الذين ينتجون الملابس لأثرياء المنطقة والذين ليسوا بالغي الثراء أيضا .. وقد باع بعض الصناع المهرة الريفيين اليائسين منتجاتهم من الملابس إلى مسافر أوروبي في عام 1824 بأسعار بخسة إلى أقصى حد . ومع استمرار دخول السلع النمساوية والبريطانية إلى السوق المصري بكميات متزايدة خلال هذا العقد ، فإن مصير العاملين المحليين بالمنسوجات – دون أدنى شك – كان يتماثل مع مجموعة من الصناع المهرة المحليين ، وإن كانوا أقل عددا وأهمية ، وهم "العاملون بالأخشاب" الذين كانت مهمتهم الأساسية صنع النوافذ ، وكانوا بأعداد كبيرة ، ويتسم عملهم عموما بالاتقان عما هو حادث حاليا : أصبحوا الآن قليلي العدد ، نظرا لأن نوافذ المنازل الحديثة غدت تصنع من الزجاج المستورد من ألمانيا .
وخلقت هذه التطورات اضطرابات عميقة في مجتمع الصعيد بدأت من عام 1820 . وواجه الصناع المهرة بالقرى والعاملون بصناعة الأقطان الذين ينتجون الملابس في مديرية قنا منافسة شرسة حتى على المستوى المحلي من أعداد كبيرة من معامل الغزل الأوروبية التي استفادت من نوعيات إنتاجها المعيارية التي يمكن للآلة أن توفرها . ومع تزايد الحصص التي أتاحتها هذه السلع المستوردة في الأسواق المحلية ، فقد واجه عمال الأقاليم أوقاتا عصيبة في تسويق سلعهم التي تعتمد عليها مستويات معيشتهم ، إن لم تكن أخص أمورهم الحياتية . وفي الوقت نفسه ، بات من الصعوبة بمكان الحصول على الحبوب في ذلك الجزء من البلاد ، إذ إن الأرض التي كان يتم زراعتها بها تقليديا غدت تزرع قصب السكر والبقول للتصدير . ونظرا لأن قصب السكر كان يتم تصديره في الشكل الخام ، فقد تراجعت المعامل وعمليات التكرير المحلية مما قذف بجماعة أخرى من عمال الأقاليم خارج العمل أيضا .
لذلك لم يكن الأمر يدعو للدهشة أن نجد مراكز صناعة المنسوجات في قنات تشهد الكثير من التمردات التي اندلعت بالوجه القبلي طيلة عشرينيات القرن التاسع عشر ، سواء بسبب المناطق ذاتها التي تدور على أرضها هذه الثورات أو لأنها كانت هدفا لأعمال التمرد . وفي عامي 1820 – 1821 كان مركز التمرد في منطقة حجازة ، على حدود قفط مباشرة ،وهي قرية كان لها صلات مهمة بالجزيرة العربية في أواخر القرن الثامن عشر . والملفت للنظر ، أن الثورة اندلعت فعليا في قرية السالمية ، وهي موقع مهم لزراعة المحاصيل النقدية في الجزء الشمالي من الإقليم . وكان مركز الثورة الثانية عام 1822 1823 هو المنطقة المحيطة بأرمنت ، وهي بلدة تقع جنوبي الأقصر وكانت مركزا مهما لتكرير السكر في عام 1815 تقريبا . ومن هناك انتقلت الثورة إلى إسنا في الجنوب وقنا في الشمال ، لتصل إلى المناطق المحيطة بالبلدتين . وشاركت معظم مديرية قنا تقريبا في ثورات عام 1824 . وحوصرت إسنا وقنا من جديد ، وكذلك المركز التجاري في قوص .. ويذكر أن أرمنت كانت داخل نطاق الثورة . غير أن أكثر الثورات إثارة للاستياء كانت موجهة ضد فرشوط ، التي هي أكبر منطقة بالإقليم تعمل بتكرير السكر ، وكذلك كانت مركزا لصناعة المنسوجات . وأصبحت القلاقل سمة دائمة في المناطق المحيطة بدشنا والقرنة مع بداية القرن التاسع عشر ، وتشتهر دشنا خصوصا بأنها مركز قديم لنسج الصوف الذي تعرض اقتصاده للتهديد البالغ الناجم عن توسع في اقتصاد القطن الجديد بالإقليم خلال هذه السنوات .
لهذا ، رغم أن كلا من "ريفلين" Rivlin و"جابريل باير" Gabriel Baer و"آلان ريتشاردز" Alan Richards ، وفي الواقع كل باحث آخر في التاريخ المصري يطلق على الثورات الريفية في عشرينيات القرن التاسع شعر بالوجه القبلي "ثورات الفلاحين" فإنه ينبغي بدلا من ذلك رؤية هذه الثورات بوصفها ثورات للعاملين بالحرف بالقرى والمشتغلين بالمهن ضد تجار الأقاليم والمشرفين الذين يسيطرون على السكر المحلي والقمح وصناعات المنسوجات . ولم تكن فقط المراكز الحضرية التي يتخذ منها هؤلاء المشرفون والتجار مقارا لهم وأسواقا – مثل فرشوط وقنا وإسنا – هي هدف الاعتداءات الثورية ، بل إن تركيب أعمال التمرد كان يعكس أيضا مصالح الصناع المهرة ومشاعرهم ، ولعل الفلاحين ثاروا بالفعل ضد نظام حكم محمد علي في الواقع بسبب الأهداف البسيطة من نوع الحيلولة دون تحصيل اضرائب وتجنب التجنيد الإلزامي ، إلا أن أهداف ومسار الثورات في قنا في عشرينيات القرن التاسع عشر كانت مختلفة على نحو بارز عن الثورات "الفلاحية" وقد نظمت ثورة 1820-1821 قيادة لها على غرار المجالس الحكومية بالقاهرة : وقامت بفرض الضرائب على الإقليم الذي تسيطر عليه الثورة . وأصدرت قيادة ثورة 1822-1823 فعليا ورقة مختومة كإيصال مقابل البضائع الصادرة ، في حين من الثابت أن المشاركين في هذه الثورة تناقشوا في خطط وأهداف في اجتماع عام في أرمنت . وفي هذا الاجتماع اضطر قادة الثورة إلى التدخل لحماية الممثلين التجاريين الأوروبيين المحليين ، وبعض أصحاب الصنائع الأقباط من أتباعهم الأكثر تحمسا . وفي ضوء حركات شعبية مقارنة ، من العسير تجاهل طبيعة الصناع المهرة في أنشطة كهذه . وبقدر مماثل يتعذر تصور مستوى معيشة الفلاحين الذين يتحمل توليد هذه الأنشطة .
تزامنت حالات الإخلال بالنظام بالوجه القبلي مع قلاقل سياسية في الوجه البحري والعاصمة أيضا . ويلاحظ لين أن معدل الجرائم تزايد في المناطق المدنية الكبرى بمصر زيادة كبيرة خلال عشرينيات القرن التاسع عشر . وفي الوقت نفسه كان يتم التعبير عن أشكال الاحتجاج الأقل انفتاحا بوسائل شعائرية غير تقليدية يمارسها أعضاء الطرق الصوفية من العاملين بالحرف الماهرة بالبلاد . وأوضح "بيتر جران" Peter Gran أن بعض هذه الطرق الصوفية القديمة بدأت تنفصل على أسس طبقية خلال هذا العقد ، مع بروز قيادات جديدة لتزيح هؤلاء الذين كانوا يعوقون النشاطات السياسية لأعضائها في الماضي . على أن مثل هذه التغيرات بين العاملين بالمهن والحرفيين في المدن وضعتهم مرة أخرى في موقف استخدام العنف تحديا لنظام الحكم في عام 1822 تقريبا . وكوسيلة لتجنب هذا التهديد ، أصدر حكام القاهرة أمرا بخفض أسعار المواد الغذائية بالقاهرة في الوقت نفسه الذي كانت فيه الحملة العسكرية المصرية تتأهب استعدادا لغزو الموره . غير أن هذا الإجراء لم يكن سوى إزاحة مؤقتة لبواعث الاضطرابات الشعبية . على أن إبقاء أسعار المواد الغذائية على انخفاضها أبعد النخبة الزراعية البارزة عن باقي أعضاء التحالف الحاكم لمصر . كما أن الحفاظ على انخفاض الأسعار بطرق مصطنعة لم يفعل شيئا من أجل تفويض نفوذ قوى الصناع المهرة بالمدن والمراكز .
واستجابت الحكومة المركزية لمصر لهذه الإضطرابات المتنامية للصناع المهرة عن طريق زيادة حجم قطاعها الصناعي الجديد . وأثناء المراحل الأولى لعملية التصنيع ، كان بناء المصانع يشكل وسيلة لزيادة الإنتاج ، وكذلك أسلوبا فعالا للسيطرة على أعداد كبيرة من العمال المحتمل أن يثوروا . وخلال عشرينيات القرن التاسع عشر كان هذا صحيحا لمؤسسات الدولة المصرية التي لم يكن بمقدورها الإشراف تماما على تكتلات العمال المهرة الذين يشتغلون لحساب الحكومة . وأنشئت مصانع جديدة لإنتاج السلع القطنية بمدن الأقاليم في أنحاء الوجه البحري في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر . وأقيمت كبرى المصانع خارج العاصمةف ي المنصورة ودمياط ودمنهور ورشيد والمحلة الكبرى . وتأسست مصانع أخرى في قليوب وزفتي وميت غمر وفوه . وأضيف إليها مصانع الكتان والخشب والحرير ، علاوة على معامل للصباغة والتلوين وكذلك مصانع لتكرير السكر .
وللحيلولة دون تفويض هذه العمليات نتيجة للواردات الأوروبية أقدمت الإدارة المركزية لمصر على تنفيذ سلسلة من فرض التعريفات الجمركية وأعمال الحظر على السلع الأجنبية خلال الأعوام بين 1816 و 1825 . وهذ هالقثيود كانت غير قانونية داخل الإمبراطورية العثمانية في ذلك الحين ، غير أن مسئولي الحكومة حاولوا باستمرار بشتى الطرق الرسمية وغير الرسمية تنظيم الواردات الأجنبية رغم قرارات إسطنبول بإيقاف هذه الممارسات . وتزايدت هذه الحواجز من خلال "الحماية الطبيعية" التي تمتعت بها الصناعات المصرية من التكاليف العالية لنقل السلع إلى مدنها من الموردين الأوروبيين آنذاك . وأتاحت هذه القيود ، سواء المصطنعة أو الطبيعية ، على التجارة الخارجية للبلاد ، أتاحت للصناعات المحلية الناشئة أن تزدهر خلال الأعوام الأولى عشرينيات القرن التاسع عشر ، غير أن هذا الازدهار تحقق جزئيا على حساب شركاء الدولة من التجار الأثرياء .
كانت التجارة الخارجية تشكل موردا سياسيا حيويا للدولة / التجار في مصر خلال السنوات الأولى لعهد محمد علي . غير أن استيراد المصنوعات الأوروبية ، الذي كان يجري بنشاط خلال العقد الأول للقرن التاسع عشر كإستراتيجية استطاعت من خلالها الدولة / التجار بالقاهرة حظرها من قبل من بعض التجار البارزين ، حتى بعد أن بدأت الإدارة المركزية فرض قيود تجارية على السلع التي يمكن أن تنافس المنتجات المصنوعة محليا . وهؤلاء التجار الأثرياء الذين طوروا علاقات وثيقة مع الشركات الأجنبية كان الحافز لديهم ضئيلا للاستسلام لهم نظرا لأن برنامج الدولة للتصنيع كان مستمرا . نتيجة لهذا ، تواصل ورود بعض المنتجات الأوروبية من القطن والسلع المعدنية إلى البلاد رغم إجراءات الحظر الحكومية . ويوضح "رالف ديفيس" Ralph Davis أن واردات المنتجات القطنية البريطانية إلى لاشرق الأوسط إجمالا زادت بنسبة 66% (من 99 ألف إلى 499 ألف جنيه إسترليني) في الفترة بين عامي 1814-1816 والفترة من 1824-1826 . وتبين قيم السلع الأخرى زيادة مقارنة . ويبدو من المحتمل أن بعض هذه المصنوعات دخلت إلى السوق المصري خلال هذه الفترة ، بالوضع في الاعتبار حقيقة أن عدد التجار الإنجليز المقيمين بالقاهرة زادوا زيادة كبيرة بين عام 1821-1824 . ورفض تعيين صمويل بريجز Samual Briggs قنصلا لبريطانيا بالإسكندرية في عام 1824 على أساس أن هذه الوظيفة كانت في تلك الآونة بالغة المشقة مع ازدياد التجارة المباشرة إلى بريطانيا . وفي بعض الأحيان كانت هناك زيادات ملحوظة خاصة في الواردات الأوروبية إلى البلاد . كان يتم استيراد كميات كبيرة من السلع إلى مصر من أوروبا خلال شتاء 1824-1825 . وزادت قمية هذه المنتجات عن إجمالي فاتورة الاستيراد المصرية طوال الخمسة عشر عاما السابقة عليها . وفي الوقت نفسه وردت إلى البلاد مقادير كبيرة من المنسوجات والأسلحة الفرنسية . لذلك عن طريق استخدام القدرة التصنيعية النامية لأوروبا لصالحهم ، فقد حاول تحالف الدولة / التجار بالقاهرة على الأقل الإبقاء على أصحاب الحرف المحليين في وضع التابع لهم . إلا أن هذه الإستراتيجية خلقت توترا متزايدا داخل تحالف الدولة / التجار في السنوات الأولى لعشرينيات القرن التاسع عشر . وحاول طرفا التحالف بالتالي إيجاد طرائق جديدة لضمان قدر يسير من التعاون المتبادل كوسيلة لاستعادة هيمنتهم على خصومهم السياسيين المحليين .
وأوقف تجار القاهرة لحد كبير الاستثمار في الممتلكات المدنية كمصادر للدخل ، وبدأ التركيز بدلا من ذلك في السيطرة على إنتاج المواد الأولية . ومن الملاحظ أن ملكية التجار للورش في المدينة خلال السنوات الأولى للقرن التاسع عشر كانت بالغة الندرة عموما وكانت تمثل أكثر قليلا من امتداد لإجراءات عقد من الباطن عن السنوات السابقة . وأدى هذا إلى ترك القطاع الزراعي بمصر كمجال واعد لاستثمارات التجار الأثرياء . وفي نهاية القرن الثامن عشر استثمر بعض التجار كأفراد معظم أرباحهم من التجارة في الأراضي الزراعية . على سبيل المثال ، ذكرت التقارير أن محمد أفندي البكري اشترى أراضي بالريف ومخزنا للحبوب بعد أن أصبح شيخ السجادة البكرية . وعلى المنوال نفسه ، ففي نحو عام 1798 مول التجار الدمايطة زراعة الأرز بالوجه البحري ، كما مولوا إدارة مضارب الأرز . غير أن هذا الاتجاه بات أكثر شيوعا بعد عام 1820 مع فيض الديون الذي بات صغار الفلاحين غارقين فيها . ويلاحظ على مبارك أن تاجر العطور السابق علي بك بدراوي استحوذ على أرض كنحة بالقرب من سمنود بالوجه البحري خلال هذه الفترة . كما يذكر بورنج Bowring أن التجار الأثرياء بدأوا يبتاعون ملكيات زراعية صغيرة ويدفعون أجورا لمن يديرونها . وهذ الملكيات كانت تنتج المواد الأولية سواء للتصدير أو للتسويق محليا . ومع إدخال زراعة القطن استحوذت أسر مشاهير التجار على ملكيات بقيت في حوزتهم طول هذا القرن . ويشير هذا كله إلى أن تجار البلاد بدأوا فعليا في ترحيل ثرواتهم بعيدا عن العقارات بالمدن إلى الممتلكات الريفية بصورة لافتة قبل منتصف القرن التاسع عشر ، والذي حدث فيه ، كما أثبت "باير" Baer ، أن بدأ رسميا حظر شراء التجار للأراضي الزراعية بمساحات كبيرة .
وفي الوقت نفسه ، بذل التجار الأثرياء بالقاهرة أقصى جهد لزيادة تحكمهم في تجارة مصر – غالبا في السلع الفاخرة – مع السودان . وبدأ تجار القاهرة إقامة علاقات قوية مع أغنياء التجار بالمدن السودانية مثل بربرة وسنار بمجرد فتح الإقليم . وقبل عام 1824 لم تكن تجارة السودان خاضعة لرسوم الجمارك الحكومية . وبالتالي كانت تشكل عملا مربحا استثنائيا للمثلين التجاريين بالعاصمة . لكن بحلول منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر بدأت التجارة بين مصر ولاسودان تؤثر عليها النزاعات الاقتصادية ذات الصلة بالتحالف بين مجموعة التجار الأغنياء بالقاهرة ومسئولي الدولة بها . كان وكلاء الحكومة ينشئون هيئات الجمارك لإدارة التجارة مع السودان أينما يمكنهم ذلك ، خاصة على طول المسارات التجارية الأكثر استخداما . وفي الوقت نفسه ، كان وكلاء الدولة يزيدون من سيطرتهم على طائفة تجار العبيد السودانيين بالقاهرة فضلا عن ذلك ، بدأ المسئولون بالدولة في القاهرة مع منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر ، في إحلال الصناع المهرة المصريين بالسودان في مسعى لتحسين قاعدة الضرائب بالمنطقة . وتضافرت هذه الأنشطة مع مساعي التجار لتوسيع المبادلات التجاريةب ين الأقاليم السودانية والقاهرة – الإسكندرية ، وبالتالي هددوا بتقويض تحالف التجار / الدولة بمجرد أن أصبح يواجه مرة أخرى تحديات قوية من خصومهم المحليين الأساسيين .
خلاصة القول : وجد تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء بمصر أنفسهم عاجزين لحد كبير عن الحفاظ على وضع هيمنتهم داخل الاقتصاد الحضري بالبلاد في نحو عام 1822 . إذ أن أصحاب الحرف بالأقاليم والمدن الذين حافظ التجار على خضوعهم لهم من خلال المناورة بالتجارة الخارجية للبلاد بعد سنة 1805 كانوا مرة أخرى بالإضافة إلى كبار ملاك الأراضي بالريف يهددون أرزاق أثرياء التجار . ونظرا لأن هاتين القوتين كانتا تتحديان التجار الأغنياء في السيطرة على الاقتصاد المصري ، تبنت الدولة والتجار استراتيجيات مضادرة كانت تهدف إلى مساعدتهم في الحفاظ على هيمنتهم على إنتاج وتوزيع السلع بالأسواق في أنحاء البلاد . ووسع المسئولون بالدولة من برنامجهم للتصنيع ، وأبقوا على رسوم جمركية صارمة لاستمرار تحقيق ههذ المصانع الجديدة للربح . من الجانب الآخر ، واصل التجار الأغنياء بالقاهرة والإسكندرية العمل كوكلاء أو حلفاء للشركات الأجنبية التي لها مصلحة في فتح السوق المحلي بمصر ، وكوسيلة لتخفيف خلافاتهم مع مسئولي الدولة سعى التجار في اتجار استراتيجيتين متكاملتين نسبيا نحو عام 1820 . اندفعت أسر مشاهير التجار في اتخاذ الإجراءات التي من شأنها تمكينهم من السيطرة على الأراضي الزراعية المخصصة للمحاصيل الزراعية ، وبدأ التجار الآخرون المنتسوب للدولة في زيادة حصتهم من تجارة البلاد مع السودان والجزيرة العربية .
غير أن هاتين الإستراتيجيتين لم تتمكنا بذاتهما من حل الصراعات المتنامية التي كانت تنأى بتجار مصر عن الإدارة المركزية ، التي كان يشكل مسئولوها أهم الحلفاء السياسيين المحليين بعد عام 1820 ، وذلك لأن كان عامل منهما استمر في حاجة إلى الآخر لمواجهة التحديات المتبادلة من العمال الريفيين والمدنيين بين عامي 1820 و 1825 ، وأصبحت نشاطات التجار والدولة تنحصر من جديد في مجموعة من السياسات ترتبط بحميمية بالسياسة التوسعية الخارجية ، واشتملت هذه السياسات على :
1- برنامج مترابط لتطوير الأسطول تزاوجت من خلاله البعثات العسكرية والتجارية بشكل وثيق .
2- زيادة حجم وأهمية وحدات التجنيد الإلزامي النظامية داخل القوات المسلحة للبلاد . وكانت هذه التحركات تمثل أهم استجابة قصيرة الأجل قابلة للتطبيق من قوى الدولة / التجار في مواجهة أشد خصومهم السياسين نفوذا بالداخل .
التغيرات في تنظيم القوات المسلحة المصرية
خلال السنوات الأولى للحملات العسكرية لمصر كانت القوات المسلحة للبلاد تتكون أساسا من الفرسان المجندين ، أي قوات غير نظامية يجندها قادة هؤلاء الفرسان . وتألفت القوة المرسلة إلى الحجاز في عام 1811 من الفرسان الألبان والمماليك وقوات إضافية من البدو تشرف عليها قيادات متباينة . أما قوات الحملة التي اندفعت إلى السودان بعد تسع سنوات من ذلك فقد تشكلت من وحدات للفرسان والمشاة ، منظمة على أساس علاقاتهم كأفراد بالقادة العسكريين الذين أتوا بهم وأعدوهم ، كما يقومون بتوفير البدائل الضرورية لتغطية ما يحدث من خسائر . وباختصار ، ففي خلال هذه السنوات "كانت" آلة الحرب ، بما فهيا تلك المعدة آنذاك ، تبدو متواضعة . فقد كان الجيش حشدا من رجال تم تجنيدهم من هنا وهناك : أتراك وألبان وسوريون ومغاربة .. رجال بلا هدف قومي ، جامحون لا تحركهم راية موحدة بل يحركهم الراتب العسكري أو الغنيمة . وعلى أية حال ففي مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر ، حدث تغيران كبيران في طبيعة حال ففي مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر ، حدث تغيران كبيران في طبيعة القوات المسلحة المصرية . الأول : بدأت هذه الجيوش تشتمل على عدد أكبر من السفن الحربية . وكانت جهود الحكومة لإنشاء أسطول حربي قد بدأت نحو عام 1809 ، واستهدفت تشكيل أسطول من السفن الصغيرة في البحر المتوسط والأحمر بحلول عام 1815 . وكانت السفن الحربية الأولى ليست إلا أكثر قليلا من سفن تجارية متحولة ، رغم أن نظام الحكم سرعان ماتعاقد مع شركات لبناء السفن في إسطنبول ورودس لبناء أسطول حديث . وفي نهاية العقد الثاني للقرن التاسع عشر ، انهمكت موانئ بومباي وليفرنو والبندقية في تصنيع سفن حربية للبحرية المصرية ، وطلب محمد علي تصريحا من السلطات الفرنسية في عام 1821 للتعاقد مع أحواض للسفن في طولون ومرسيليا ، وتمت الموافقة على هذا الطلب في العام التالي . ويلاحظ "دافيد فرحي" David Farhi أنه في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر ، كان الباشا يقوم بحملة لتنظيم أسطوله.
واشتمل هذا على تجنيد ما أمكن من المصريين ، الذين لديهم خبرة بالملاحة النهرية ، ليحصلوا على تدريب نظامي على يد معلمين أوروبيين. أما الضباط فيتلقون تدريبهم من خلال مناهج خاصة بالبحرية . إضافة إلى تلك السفن التي في حوزة الحكومة المصرية، مورست ضغوط على عدد من السفن الأوروبية الراسية في موانئ البلاد لتعمل خلال المراحل الأولى للحرب اليونانية في أداء خدمات في النقل وتزويد العمليات العسكرية. لذلك يتضح أن وحدات الأسطول كانت تؤلف مكونا أساسيا للمؤسسة العسكرية المصرية في بداية عشرينيات القرن التاسع عشر ، كما تزايدت أهميتها في السنوات التالية من هذا العقد .
ثانياً: وإلى جانب السفن الحربية ، بدأت القوات المسلحة لمصر تضمن بين صفوفها عددا كبيرا من قوات المشاة المنتظمة في بداية عشرينيات القرن التاسع عشر . وهذه الوحدات والمعروفة باسم (النظام الجديد) تم تجميعها عن طريق التجنيد الإجباري تحت إشراف الحكومة من مختلف أنحاء البلاد . وفي عام 1822 أصدر المسئولون بالقاهرة أمرا باستقدام أربعة آلاف رجل لأداء واجبات عسكرية من منطقتين كبيرتين بالصعيد . والأشخاص الذين تم جلبهم من المنطقة الواقعة بين منفلوط وقنا صدرت الأوامر بتجميعهم للتدريب في معسكر تابع للحكومة خارج فرشوط ، والقادمون من المنطقة بين قنا وأسوان تم تجميعهم في أسوان . وتقرر دفع الرواتب الخاصة بهم من العائدات التي تحصلها الحكومة ، وليس عن طريق قادتهم ، وتحددت الفترة الأولية لأداء واجباتهم بثلاث سنوات . وتقرر أن يتم إحلال بدائل لهم بالاختيار من قوائم تضم من تقع عليه القرعة مستقبلا يجهزها الضباط المسئولين عن معسكري التدريب كجزء من نظام شامل لإحصاء السكان بالقرى . وتتلقى الوحدات المجندة إلزاميا تدريبا عسكريا نظاميا وفقا لنظم التدريب الأوروبية ، وتم بالتالي ضمهم إلى تشكيلات ووحدات محددة بدقة . وتشكلت وحدة مركزية للقيادة لكي تشرف على توفير السلاح والملابس والمعدات والمؤن لهذه الفصائل العسكرية المشكلة حديثا . وقامت الدولة بتنظيم نوع من الحملة الدعائية لتدعيم خططها الجديدة في التجنيد الإلزامي ، وحث علماء الدين ذوي النفوذ في العاصمة على كتابة الخطب التي تجيز هذه الممارسات المبتكرة .
من العسير أن يكون محض صدفة أن التجنيد الإلزامي للنظام لأول مرة موجها لرجال من المنطقة الواقعة بين منفلوط وأسوان – وهي المنطقة التي كانت منطلقا لأكبر ثلاثة عصيانات ريفية واسعة النطاق في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر . وفي الواقع فإن الأمر الصادر بتكليف هذه الوحدات اشترط أن يكون المجندون من بين السكان المستقرينب القرى الواقعة في هذه المنطقة ، وليس من الفلاحين غير المستقرين الذين يتنقلون بين القرى آنذاك . أكثر من هذا ، فإن المقيمين بهذه المنطقة لم يتأثروا بنفس القدر بالتجنيد العسكري طبقا لمرسوم حكومي صدر في 23 يناير 1826 ، إذ استهدف ألا بتداخل التجنيد الإلزامي مع الإنتاج الزراعي بالصعيد . وهذا القرار يربط التجنيد الإجباري في المناطق الريفية ربطا مباشرا بانتعاش القطاع الزراعي في الاقتصاد . وكما يوضح "باتريك أوبراين" Patrick O Brien فإنه نظرا لنمو الإنتاج الزراعي بمعدل كبير بي عامي 1820 و 1880 ، فإن من اضطروا لدخول الخدمة في القوات المسلحة للبلاد بعد عام 1822 ربما لم يكونوا من بين الفلاحين العاملين في أكبر الأراضي الزراعية إنتاجية . على الجانب الآخر ، فإن صغار الملاك المستقلين والعاملين بالحرف في الريف لم يهربوا من أداء الخدمة العسكرية بمنتهى السهولة . ويذكر "إدوارد لين" Lane Edward أنه من أجل الوفاء بحصصهم في قوائم المطلوبين ، فإن مشايخ القرى دائما ما يأخذون أبناء الأشخاص الذين يحوزن أكبر الملكيات . وهؤلاء هم الذين يمكنهم تجنب الخدمة العسكرية برشوة مشايخ القرى أنفسهم . وارتفعت مبالغ الرشاوي هذه عدة مرات ، إلى حد التدمير الاقتصادي للمنتجين المستقلين .
ويتضح أن الصناع المهرة بالريف تم تجنيدهم في خدمة الحكومة منذ عام 1813 . ويلاحظ الجبرتي أنه تم أخذ عدد كبير من الخبازين من الفيوم في تلك السنة حتى أصبح هناك عجز في أعدادهم بالمنطقة ، وفي الوقت نفسه ، اضطر عمال تصنيع الطوب وعمال البناء لدخول الخدمة الحكومية لبناء معسكرات للجنود في عدد من الأقاليم . وفي عام 1815 تم تجنيد العمال المهرة من الوجه البحري للعمل في أحواض السفن الحكومية الجديدة بالإسكندرية ، ويرى "بيتر جران" Peter Gran أنه كان يتم تجنيد أصحاب الحرف إلزاميا بالمصانع والجيش في الوقت نفسه في السنوات التالية ، ومع اقتراب هذا لاعقد من نهايته لوحظ أن التجار والصناع المهرة بقنا كانوا يخشون بشدة من التجنيد إلى حد أنهم كانوا يغلقون محالهم عندما تروج الشائعات عن اقتراب قوائم التجنيد من المنطقة . على أن مجموعة من العاملين بالحرف من الأقاليم كانوا في أحد الأسواق بالقاهرة وتم إجبارهم على الدخول في القوات المسلحة في تاريخ لاحق لحد ما ، في حين كتب القنصل العام البريطاني في تقريره في يونيو 1832 : في يوم 14 من الشهر الجاري أسكت فجأة كتائب التجنيد بالذكور من سكان القاهرة ، والتي انتشرت في جميع الأحياء في لحظة محددة ، وبعد دقائق قليلة أصبحت الشوارع مهجورة إلا من مجموعات من النساء تولولن على أقاربهن المقبوض عليهم وأغلقت جميع المحلات . لذلك فإن كتائب التجنيد استهدفت في معظمها الصناع المهرة والعاملين بالحرف ، وهو نفسه ما حدث للعمال الزراعيين .
ومع التوسع في وحدات الأسطول والتشكيلات النظامية للقوات المسلحة المصرية أمكن لتجار الاستيراد والتصدير الأثرياء الحصول على مكانة راقية سواء على مستوى الشئون الريفية أو الحضرية ، بينما وفقوا في الوقت نفسه مصالحهم مع الإدارة المركزية . وتوحدت مصالح التجار والدولة فيما يتعلق التوسع في بناء الأسطول إلى مدى بعيد ، ذلك لأن وحدات الأسطول استطاعت أن تلعب دورا تجاريا وحربيا مزدوجا على نحو لم تكن تقدر عليه القوات البرية ، وبمجرد بناء أول سفينة حربية بدأت مشروعات تحويل السفن التجارية إلى سفن حربية بتسليحها بمعدات عسكرية ، لذلك كانت السفن الحربية الحكومية تستخدم بانتظام كناقلات تجارية ، تحمل البضائع ، والمواد الغذائية والسلع الأخرى بين مصر والشركاء التجاريين مثل أوروبا وسوريا وتركيا والجزيرة العربية . وخلال نهاية العقد الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل عشرينياته ، بدأت المراكب التابعة للدولة في حمل معظم الإنتاج الزراعي للبلاد من مناطق زراعتها إلى أسواق المدن لتباع فيها . وارتفع عدد المراكب النهرية التي تحمل هذه البضائع على طول نهر النيل من 1600 خلال فترة الاحتلال الفرنسي إلى 3300 مركب بحلول عام 1840 ، تملك الدولة منها على الأقل 800 مركب . كما أقامت الحكومة أحواضا للسفن في السودان فوق كل واحدة منها مجموعة عن المعدات ، لبناء السفن المخصصة لحمل المحاصيل المنتجة بالمنطقة لنقلها إلى الوجه البحري . وأسفرت هذه النشاطات عن انتعاش الحركة الداخلية للحبوب لمنفعة تجار البلاد ، بموافقة الإدارة المركزية .
وفي الوقت نفسه تقريبا فإن سيطرة الدولة على جمع رسوم الجمارك على طول نهر النيل ، التي استفادت من السفن الحربية على الأقل منذ منتصف القرن الثامن عشر ، باتت شأنا عسكريا بحريا أكثر صرامة . ويقول "روكفورت سكوت" Rochfort إنه في المنيا : "شأنها شأن الموانئ الرئيسية على النيل ، أقيم عرض لقوة بحرية – نوع من السفن المجهزة بمدفعية مثبتة بدون حركة في الطمى المحيط بالمدينة . كما استفادت حملات حفظ النظام التي جرت خلال هذه الفترة كثيرا من البواخر النهرية ، إذ كانت وحدات المشاة النظامية تأتي على طول النهر من أسوان إلى الأقصر في مراكب تملكها الدولة للمساعدة في قمع التمرد الذي اندلع حول تلك المدينة في سنة 1824 . وبالتالي أصبح بناء السفن والنشاط البحري الذي واكبها مجالا قويت من خلاله أواصر العلاقة بين تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء بمصر مع مسئولي الدولة في الوقت نفسه الذيت عاظمت فيه صراعاتهم المتبادلة مع كبار ملاك الأراضي بالبلاد وأصحاب الحرف المستائين .
غير أن بناء الأسطول لم يكن هو الوجه الوحيد للتوسع العسكري الذي تداخلت فيه مصالح التجار والدولة . فقد كانت المصانع الحكومية سواء بالعاصمة أو الأقاليم على ارتباط وثيق بتجهيز وتسليح القوات النظامية لمصر في السنوات التالية مباشرة لعام 1820 ،ويزعم عدد من الباحثين أن هذه المصانع في الواقع أنشئت أساسا لتصنيع المعدات العسكرية . ويخلص مسح ميداني حديث إلى أن أهداف محمد علي في إنشاء هذه المصانع تنطوي على مظهر عسكري كبير ، رغم أنه ليس الأرجح .
بفحص أعماله أكثر من تصريحاته نجد أنه أولى عناية خاصة للصناعات ذات الصلة بالجيش والأسطول . وكانت مصانع الأسطول والمعدات العسكرية مجهزة تماما وإدارتها جيدة ، ومن المحتمل أنها كانت أكثر منشآته الصناعية نجاحا . وعندما بدأ يقلص واردات الفحم ويستخدم الآلات البخارية ويعتمد غالبا على قوة الحيوانات فقط كان يقوم بعمل استثنائي ، إلا أن هذه الأولويات صنعت حسا اقتصاديا .. وقد وفر الجيش للصناعة سوقا هائلة ومحمية . وعملت مستودعات للسلاح مع دور السبك التابعة لها وورش المعادن على تدريب العمالة الماهرة ، وزودت المصانع الأخرى بقطع الغيار والمعدات الخفيفة ، هنا مرة أخرى ، تفسير عسكري بسيط قد يفشل في تحقيق الإنصاف لمحاولته . وكانت الأهداف أكثر تعقيدا والأساس المقدم للصناعة أوسع من المطلوب لهدف عسكري .
من العسير تصور أن هذه الورش الحكومية – قام بتخطيطها والإشراف عليها مسئولون في أعلى المناصب بجهاز الدولة الإداري – كان يعمل بها فلاحون ليس إلا من الريف ، الأكثر احتمالا أنهم كانوا غالاب من أصحاب الحرف المهرة يتمتعون بخبرة في تصنيع السلع التي تنتجها هذه المصانع الجديدة .
على أن تجنيد الصناع المهرة وأصحاب المهن للعمل في منشآت الدولة وشغل مواقع في الوحدات العسكرية النظامية للقوات المسلحة المصرية عزز التعاون بين التجار وإداريي الدولة في مجالين متكاملين في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر . الأول ، التجنيد الإجباري لأصحاب الحرف من المدن والأقاليم في الخدمة الحكومية يسر كثيرا تهدئة الأوضاع في الريف عموما . ومضى المراقبون المعاصرون كثيرا في ملاحظة أن الأفراد الذين انضموا إلى القوات المسلحة تمتعوا برواتب وبمقار للسكني أفضل مما كان متاحا لهم أن يوفروه بقواهم الذاتية كمدنيين ، ويرى الدبلوماسيين البريطانيون صلة مباشرة بين هذه الفوائد وبين قلة وقوع حودث الهروب نسبيا في صفوف القوات المسلحة النظامية . وبحلول ربيع 1824 أحرزت الوحدات النظامية انتصارا على تمردات بالصعيد على أطراف إسنا . ومن وجهة نظر نظام الحكم أن كفاءة هذه القوات النظامية كانت تمثل تحسنا هائلا مقارنة بكفاءة القوات المرتزقة القديمة ، الذين قد ينضم جنودها عادة إلى التمرد ويغيرون على العاصمة بمجرد تأخر رواتبهم عن الموعد المحدد . ولاحظ مسافر بريطاني إلى الوجه القبلي في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع شعر أنه رغم فشل سياسات نظام الحكم الخاصة بالتصنيع والتجنيد الإلزامي في تحقيق أهدافها الظاهرية فإنها كانت مفيدة بوضوح في ضمان تهدئة الأوضاع الداخلية لمصر . أكثر من هذا اتاح غقامة النظام الجديد للدولة الحفاظ على قدر كبير من المؤسسة العسكرية دون اللجوء إلى فرض ضرائب استثنائية على التجار ، والتي كانت ضرورية في أوقات سابقة لدعم وحدات المرتزقة لحماية البلاد .
على الجانب الآخر ، أسفر التجنيد الإلزامي لعدد محدود من الفلاحين في القوات المسلحة عن إضعاف الإقطاعيين الصاعدين ، الذين كانوا يعتمدون على وجود مخزون كبير من العمال الزراعيين للحفاظ على ربحية إقطاعياتهم التجارية . وكان المراقبون الأجانب جميعهم يشكون من أن التجنيد العسكري أتاح للقطاع الزراعي بالبلاد الوصول إلى كامل طاقته كمورد للمواد الغذائية والمحاصيل الأخرى إلى الأسواق الأوروبية . وفي الوقت نفسه تزامنت السنوات الأولى للتجنيد الإلزامي مع تحسن ملحوظ في مستوى المعيشة الذي كان يتمتع به معظم العمال الزراعيين . وكتب "هنري سالت" Henary Salt في 1817 : "إنني ألاحظ ، وتأكدت من آخرين لديهم فرص متعددة في التيقن من الحقيقة ، أن الفلاحبن أو زراع الأراضي يلقون معاملة أفضل كما أنهم أكثر قناعة عما كان عليه الحال لسنوات عديدة خلت ، بلا شك كنتيجة للطلب المتنامي على العمالة في الملكيات الزراعية الكبيرة . على أن حالات القصور المتتالية التي نجمت عن التجنيد الإجباري للفلاحين في الجيش أفضت ببعض كبار ملاك الأراضي إلى الإفلاس . غير أن مسئولي الحكومة كانوا حريصين على إعفاء الأملاك الزراعية للتجار التي تنتج المحاصيل النقدية للتصدير من حملاتهم للتجنيد الإلزامي خلال السنوات الأولى لعشرينيات القرن التاسع عشر ، في الوقت نفسه الذي كان يوجه فيه اللوم لقادة قوات المرتزقة من النمط القديم لمحاولاتهم استغلال العمل الإجباري لمصلحتهم الشخصية . لذلك كان تبنى برنامج لبناء الأسطول والتجنيد الإلزامي بالجيش يحقق مصالح متبادلة لتجار الاستيراد والتصدير المصريين وإداريي الدولة في السنوات السابقة واللاحقة لعام 1822 . وأتاح برنامج كهذا فرصة لإحلال قوات لا يمكن الوثوق بها بين صفوف القوات المسلحة للبلاد بقوات أكثر انضباطا تحت سيطرتهم المباشرة ، وكذلك تحجيم الوضع السياسي النسبي لكل من الصناع المهرة وكبار ملاك الأراضي الزراعية الأكثر ثراء . فضلا عن هذا منحت هذه السياسات لنظام الحكم وسيلة لمواجهة تحديات خارجية خطيرة للتجارة المصرية في شرق البحر المتوسط ، كانت تعرض للخطر مداخيل كل من التجار والاحتكارات الحكومية مع بدء عشرينيات القرن التاسع عشر .
التهديدات للتجارة المصرية في شرقي البحر المتوسط
نظرا لأن الائتلاف غير المستقر للتوسع في التصنيع وتعزيز التجارة الخارجية بات مصدرا لإشكالية متزايدة للقوة الاقتصادية والسياسية للتجار المصريين والحكومة المركزية في صراعاتهم المتبادلة مع كبار الإقطاعيين الصاعدين والصناع المهرة على الهيمنة المحلية ، فقد بات أمن شرقي البحر المتوسط أكثر حيوية بكثير لنظام الحكم في لاسنوات التالية لعام 1820 . كان تجار الاستيراد والتصدير المصريون الأثرياء مستغرقين لحد كبير في تجارة الأرز والقرطم والصمغ العربي والبن والتوابل والسلع الفاخرة داخل الإمبراطورية العثمانية ، خاصة في إزمير وإسطنبول . ومن العسير أن نجد أرقاما دقيقة لحجم هذه التجارة ، لكن في عام 1849 كانت تركيا لاتزال هي ثاني اكبر شريك تجاري لمصر بعد بريطانيا العظمى من بين الدول التي تمارس تجارتها بالإسكندرية . ونظرا لأن الأرز وباقي السلع الغذائية المقررة لإسطنبول كان يتم شحنها أساسا من رشيد ودمياط ، فمن المحتمل أن تجارة مصر مع تركيا في منتصف عهد محمد علي كانت أكبر من هذا . زد على هذا أن البن والتوابل والسلع الفاخرة كان يتم شحنها أيضا من مصر إلى موانئ سوريا والأناضول الصغيرة في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر . وبالتالي ، كانت منطقة بحر إيجة وسيلة اتصال ونقل حيوية لتجار مصر الأغنياء ، شأنها شأن منطقة البحر الأحمر منذ عقد سابق .
وفي الأعوام التي أجبرت فرنسا فيها برلين وميلانو على إصدار مراسيم تحظر تدفق التجارة مع وإلى القارة الأوروبية ، ازدهرت التجارة في منطقة بحر إيجة . وتحرك التجار البريطانيون إلى المنطقة عنوة في العقد التالي لعام 1806 في مسعى لإيجاد أسواق جديدة تعويضا عن الأسواق التي أغلقتها فرنسا ، وأرسوا قواعدهم بداية في مالطة ثم فيما بعد في جزر الأيونية . وفي الوقت نفسه ، برزت الموانئ الحرة في تريسته وليفورنو كمستودعات كبرى للسلع المتدفقة إلى وسط أوروبا بالإضافة إلى هولندا وكذلك الصادرات الفرنسية إلى الإمبراطورية العثمانية . وفي الشرق ، بدأت تتزايد معاملات سالونيك وفارنا التجارية مع دول البلقان والنمسا من جانب ودول البحر المتوسط من الجانب الآخر . وشهد العقد الأول من القرن التاسع عشر توسع أوديسا كمركز تجاري للأراضي الزراعية الخصبة في أوكرانيا وبولندا .
على أن ما ربط هذه الشبكات التجارية المتباينة معا كان تنوع "المجتمع اليوناني" لساحل بحر إيجة ، الذي يؤلف أعضاؤه الأغلبية العظمى من الوسطاء وأصحاب الشاحنات والباعة الجائلين الناشطين في المنطقة . وكان الألبان الأرثوذكس الشرقيون يقيمون في جزيرة "هيدرا" Hydra و "سبتساي" Spetsai خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر ، بينما يستقر اليونانيون الأرثوذكس في "بسارا" Psara . وكما يذكر "ترايان ستويانوفيتش" Traian Stoianovich : "في عام 1800 تقريبا ، كان أكثر من ثلثي الحمولة بالأطنان ونصف السفن للبحرية التجارية الألبانية اليونانية النامية يملكها سكان جزر هيدرا وسبتساي وبسارا ، محدثو النعمة في منطقة بحر إيجة . ويحصل التجار الجدد وأصحاب السفن على التمويل ، في جزء منه وهذه حقيقة ، من الرأسماليين من جزيرة خيوس أزمير ، كما يحظون بالمساعدة في نموهم الاقتصادي من سيطرة Phanariot على شئون منطقة بحر إيجة . وترى "إلينا فرانجاكيس – سيريت" Elena Frangakis – syreet أنه خلال الأعوام الأولى للقرن الرابع عشر "كان التجار الإنجليز يجلبون المنسوجات البريطانية إلى مالطا أو كورفو Corfu (بعد أن أصبحت الجزيرتان تحت السيطرة البريطانية) ويتعاقدون مع التجار اليونانيين ، الذين استقروا بهما ، كي يبعثوا بالمنسوجات إلى شركائهم بالخارج ، أو بإقامة شراكات في منطقة شرق البحر المتوسط ، وأغلبها في أزمير . وفي الوقت نفسه "بين عامي 1784 و 1818 سيطر التجار اليونانيون من الناحية العملية على صادرات المنسوجات الهولندية Dutch إلى أزمير وإلى باقي الأناضول" ، كما انهم في آن واحد استولوا على التجارة بين تريستي وأزمير . أكثر من هذا ، هيمن التجار اليونانيون على التجارة المزدهرة بمنطقة البحر الأسود من قاعدتهم في أوديسا . واستنادا إلى فيرنون بريير Vernon Puryear : "ائتلاف بعض الظروف بالتالي جعل اليونانيين في الواقع هم التجار الأكثر نشاطا في مياه الشرق . إذ كانت سفنهم العددية تغدو ذهابا وإيابا بين أوديسا ومالطا ، وبين مرسيليا وباقي الموانئ الرئيسية على البحر المتوسط ، وفي معظمها احتفظ اليونانيون بمؤسسات تجارية مزدهرة .
واستفادت الدولة / التجار بمصر لأقصى مدى بالوساطة "اليونانية" مثلهم مثل الأوروبيين والعثمانيين . وفي 1811 أرسل محمد علي وفودا من الوكلاء "اليونانيين" إلى مالطا والبرتغال وأسبانيا للتفاوض حول بيع الحبوب المصرية للجيوش الإنجليزية التي تعمل في غربي البحر المتوسط . وعندما رفض الإنجليز بيع السفن الحربية لنظام الحكم في نهايات هذا العقد ، "حث الوالي أصدقاءه ومعارفه على الاستثمار في السلاح والشحن نيابة عنه . وقام وكيلاه اليونانيان توسيجه وأناستاسي ، ببناء ثلاث سفن في عام 1818 عملت في التجارة بمياه مجموعة الجزر اليونانية" . كما أن تاجرا يونانيا آخر شهيرا هو زيزينيا Zizinia "اشترى سفينة وجهزها لزيادة الأسطول التجاري لوالي ، وزوده بفرقاطته الحربية الأولى" ، إضافة إلى أنه أصبح عدد من اليونانيين من أهل الجزر هم قباطنة هذا الأسطول الجديد ، وتحول بعضهم لاعتناقالإسلام . وبداية من عام 1812 ، كانت السفن التي تحمل العمال وأرباب الحرف اليونانيين تأتي سنويا من "هيدرا" Hydra و"سبيزيا" Spezia . وبنهاية هذا العقد غدت التجارة الخارجية للبلاد متكاملة بقوة في الشبكة التجارية التي يهمين عليها "اليونانيون" وتتركز في منطقة بحر إيجة .
واجهت هذه الشبكة عددا من التوقفات في الأعوام التالية لعام 1820 . في المقام الأول ، بدأ التجار الإنجليز غير التابعين لشركة الليفانت في إقامة علاقات مباشرة مع الموانئ العثمانية بأعداد آخذة في التزايد . ويقول كننجهام A.B Cunnigham أن ستة تجار إنجليز وصلوا إلى أزمير في عام 1805 والاثمن عشر تاجرا في عام 1814 ، و23 تاجرا في عام 1815 ، و50 تاجرا في عام 1820 ، ويستنتج أن "أزمير لم تكن وحدها مقصد التجار ، ففي عام 1812 قامت أول سفينة بريطانية منذ 9 سنوات بزيارة سالونيكا . وأعيد افتتاح القنصلية بحلب في سنة 1810 والتي كانت مغلقة لسنوات عديدة . وفي 1817 أبلغ القنصل بالإسكندرية عن أول سفينة بريطانية وصلت إليها مباشرة من إنجلترا على مدى العشرين عاما الماضية ، وفي عام 1822 وصلت إلى بيروت 20 سفينة بضائع بريطانية ، "ولم يكن قد وصل إليها أي سفن طيلة 20 عاما . على أن تصاعد مشاركة بريطانيا في تجارة شرقي البحر المتوسط كان يمثل تحديا مباشرا لنظام التبادل التجاري الضعيف والمعقد الذي نشأ بالمنطقة أثناء الحروب النابليونية . وحاول المسئولون بالقاهرة خلق أفضل وضع ممكن لتكوين شراكة مع بريجز آند كومباني في لندن عام 1816 ، إلا أن هذه الخطوة انطوت على مخاطرة سياسة في ذاتها" .
علاوة على التهديد البريطاني ، زاد التجار الأمريكيون بشدة من أنشطتهم في هذا الجزء من العالم في السنوات حول عام 1820 . وبحث الوكلاء التجاريون والدبلوماسيون ، المقيمون في إزمير ، إمكانية إقامة مقار قنصلية في إسطنبول وأوديسا بداية من 1819 ، وبعدها بعامين ، قام قائد الأسطول الأمريكي بالبحر المتوسط الذي وصل حديثا بإرسال إحدى سفنه الشراعية إلى أزمير وأمر باستطلاع إمكانية استئناف علاقة منتظمة مع منطقة البحر المتوسط وجمع معلومات تجارية حول الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط .. وكما يذكر جيمس فيلد James Field "كان وصول السفينة سبارك Spark في 12 أكتوبر من عام 1820 يمثل أول وجود لسفينة حربية أمريكية بالعاصمة التجارية للشرق" . وأجرى قبطان السفينة مسحا ميدانيا لفرص تجارة كبرى للولايات المتحدة في هذا المركز التجاري الصاخب ، ثم رحل إلى العاصمة العثمانية ؛ حيث التقى بالسفير الروسي وممثلين رفيعي المستوى من الميناء . وفي محاولة لموازنة كل من النفوذ البريطاني المتزايد في الشرق الأدنى وكذلك المطالب الروسية للوصول بحرية إلى منطقة البحر المتوسط ، يتضح أن ممثلي الميناء عرضوا على هذا القائد إبرام معاهدة تجارية طويلة الأجل ، واقترحوا "أن هدية من السفن ستكون تعويضا مقبولا مقابل الامتيازات التجارية" . وكنتيجة لهذه الجهود قفزت التجارة الأمريكية في إزمير التي بلغ إجماليها نحو 2.3 مليون دولار في الأعوام الثلاثة من عام 1820 إلى عام 1822 ، إلى أكثر من 1.2 مليون دولار في عام 1823 فقط . وكان جزء أساسي من هذه التجارة في منافسة مباشرة مع الصادرات المصرية المربحة إلى الإمبراطورية .
وفي الوقت الذي كان يندفع فيه الوكلاء الإنجليز والأمريكيون إلى شرق البحر المتوسط ضاعف المغيرون التجاريون من الجزر اليونانية من هجماتهم على السفن التجارية في بحر إيجة . كانت عصابات القراصنة عناصر ثابتة طوال العام اللحياة في هذا الجزء من العالم ، إلا أن حجمهم ومدى نشاطاتهم قفزا بشكل لافت خلال سنوات حملات شبه الجزيرة ضد نابليون ، عندما كانت بضائع المواد الغذائية وغيرها من السلع بكميات كبيرة تعبر مياه البحر المتوسط بكثرة . وزاد هؤلاء القراصنة من مجال عملياتهم بعد عام 1815 مع تناقص ازدهار التجارة زمن الحرب تدريجيا . . واستنادا إلى "ريتشارد كلوج" Richard Clogg فإنه : بعد عام 1815 انخفض متوسط الأرباح إلى 15% كما أن الأرباح المجمعة لتجار هيدرا ، على سبيل المثال ، هبطت من 7.749.510 قرشا في 1816 إلى 1.375.039 قرشا في عام 1820 ، هذا التراجع الكبير في الدخل كان بلاشك عاملا معجلا في انحدار ثروة ملاك السفن وقباطنة البحر من الجزر لينظموا أنفسهم ، وإن عن كره في البداية ، مع المتمردين . وكنتيجة لذلك انتشرت القرصنة المنظمة في أنحاء حوض بحر إيجة ، مما جعل الصفقات التجارية المعتادة بالمنطقة باهظة التكلفة وعرضة للمخاطرة عما في السابق . واتخذ المدافعون عن القضية اليونانية وجهة نظر أكثر دموية في هذا الاتجاه تقول : "خلال زمن الحرب من أجل استقلال اليونان . كانت عمليات الأسطول اليوناني ضد الأسطول التركي في المياه القبرصية كثيرة وناجحة بشكل عام . وفي أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر ، كان لدى السفن الحربية بقيادة القراصنة اليونانيين القدرة على شن هجمات حتى على الموانئ المحصنة جيدا مثل الإسكندرية ودمياط . وفي ظل هذه الظروف ، كان لنظام الحكم بالقاهرة مصالح قوية في السيطرة على كريت ورودوس وقبرص وساحل المورة كوسيلة لخفض أعباء هؤلاء المغيرين المفروضة على التجارة المصرية في شرق البحر المتوسط .
وأضافت التطورات الزراعية في الجنوب الشرقي لأوروبا في ذلك الحين لهذه المصالح أن التجار المصريين وحلفاءهم في الإدارة أضمروا احتلال المواقع المهمة استراتيجيا على ساحل بحر إيجة . وبعد عام 1720 تقريبا كان قد بدأت زراعة القطن قصير التيلة بكميات تجارية في مقدونيا وأماكن أخرى في شمالي اليونان . وكان يتم إرسال هذا القطن إلى وسط أوروبا سواء باستخدام الطرق البرية من خلال زيمون Zemun على نهر الدانوب (بالقرب من بلجراد) أو بواسطة البحر حول المورة حتى تريسته . لذلك كان القطن اليوناني المصدر إلى باقي أوروبا يزرع في آن واحد مع زراعته في مصر ، لتحصل على أي شيء كبداية طفيفة للانطلاق . وبعد عام 1795 انتقلت هذه التجارة على نحو دائم بشكل أو بآخر من المسار البري إلى البحر نتيجة لتفشي وباء خطير في زيمون . لذلك من أجل السيطرة على المورة وكريت استطاعت هذه القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة من تجارة القطن المصرية مع أوروبا ، إلى حد ما ، زيادة "تكاليف الحماية" على من يتعاملون في هذه التجارة المقدونية ، وبتلك الوسيلة أيضا قيدوا المنافسة التي كانت تواجهها منتجاتهم القطنية من اليونان ومن باقي المنتجين في البلقان . والأهم من ذلك ، أنهم استطاعوا بفاعلية أن يتلاعبوا بالطلب المتنامي من غربي ووسط أوروبا على القطن بعيدا عن المنتجات قصيرة التيلة التي تزرع في مناطق الجنوب الشرقي من القارة لصالح الأصناف التي بدأت مصر في تصديرها . يتبقى توضيح السبب في أن الدولة / الجار كانوا قادرين على تبني برنامج سياسي اقتصادي متعدد الأوجه مترافق مع التوسع في بحر إيجة بنجاح في مواجهة المعارضة المتناغمة للإقطاع والصناع المهرة .
أسس قوة الدولة/التجار في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر
بدأ توزيع النفوذ السياسي الذي كان يميز المجتمع المصري في العقد الثاني للقرن التاسع عشر يتغير في الأعوامل الأولى للعقد التالي بطرق أساسية . كان خلفاء الملتزمين الزراعيين يعيدون تدريجيا تأسيس هيمنتهم على أملاك زراعية كبيرة سواء في الدلتا أو الصعيد وبالتالي أحرزوا موقعا يتحدون من خلاله الدولة / التجار في السيطرة على البلاد .. وفي الوقت نفسه ، شرع الصناع المهرة بالمدن مرة أخرى في ممارسة أنشطة سياسية جعلتهم يبتعدون عن نظام الحكم انطوت على احتمالات التطور إلى نوع من التمرد واسع النطاق هز المجتمع الحضري خلال السنوات الأولى للقرن التاسع عشر . وفي رد فعل لهذه التحديات ، اتخذ التجار المصريون الأثرياء ومسئولو الحكومة عددا من الإجراءات المترابطة أدت بهم إلى إرسال سلسلة من الحملات العسكرية إلى بحر إيجة بداية من عام 1822 ، وترجع قدرة الدولة / التجار على تنفيذ هذه السياسات إلى أربعة عوامل ، والتي حالت في النهاية دون عودة كبار المزارعين إلى إحراز موقف مهيمن بالبلاد أثناء النصف الأول من عشرينيات القرن التاسع عشر .
أولا ، من عام 1822 فصاعدا ، نما سريعا الطلب الأوروبي على المنتجات الزراعية لمصر . إذ وفرت الأرباح المتزايدة من المبيعات الخارجية من منتجات أراضي الإقطاعيين لمشايخ القرى وسيلة للسيطرة على قوة العمل الزراعية بالبلاد دون العودة إلى استراتيجية بكوات المماليك السابقة بالاحتفاظ بأتباع مسلحين بتكلفة باهظة ، وأحيانا يتعذر التنبؤ بولاتهم . وكان كبار ملاك الأراضي عموما قادرين على إيجاد وسيلة خاصة بهم في أمور العمالة حتى دون الاعتماد على قوات عسكرية تابعة لأحد الأجنحة المملوكية ، أساسا بسبب وضعهم المتميز مقابل عمال الزراعة المحتملين . وأصبح هذا الوضع مواتيا أكثر نظرا لأن عددا أكبر من الصناع المهرة الريفيين وكذلك صغار الملاك المستقلين طردوا من أعمالهم من خلال جهود الدولة للسيطرة على كل من إنتاج وتوزيع السلع في أنحاء البلاد . وبات صغار الملاك والفلاحون المعدمون أكثر اعتمادا على كبار الملاك الإقطاعيين وتجار – وموظفي الأقاليم للافتراض ، نظرا لأنه غدا من العسير عليهم في الأسواق المحلية تبادل إنتاجهم الفائض بالنقود والضروريات مثل آلات العمل . وفي ظل هذه الظروف وجدت أغلبية الفلاحين المصريين (الناجحين) أن الأكثر فائدة على المدى القصير كان التركيز على تشغيل أراضيهم ، بدلا من العمل معا على عكس التغيرات التي كانت في صالح ائتلاف التجار والإداريين بالمركز .
لمي كن الأمر مجرد نقص في الدوافع وراء منع كبار الملاك الأراضي الصاعدين من محاولة إعاقة المبادرات السياسية للدولة / التجار بعد عام 1820 . ثانيا ، أعيق الصناع المهرة المحليون وصغار الملاك من العمل كحلفاء سياسيين للفلاحين الأغيناء في هذه السنوات ، حتى في الشئون ذات المصالح المتبادلة مثل مقاومة الهيمنة الكلية للدولة / التجار على توزيع السلع . وانقسمت هاتان القوتان ببساطة من خلال العديد من الصراعات النوعية الأمر الذي جعلهما عاجزتين عن العمل التعاوني في التعامل مع الآخرين . أما الصناع المهرة والريف الذي كان مستوى إنتاجهم وهامش أرباحهم منخفضا بالضرورة ، فقد أضيروا بشدة حتى بالزيادات الطفيفة في تكاليف الغذاء أو المواد الخام . وساعد هذا على خلق علاقة تكافلية تقريبا بين أصحاب الصناعات الصغيرة وصغار مزارعي الكتان والنيلة والذرة – المحاصيل الأساسية في معظم ريف مصر بين عامي 1800 و 1825 . لكن لأن المحاصيل النقدية الأكثر ربحية ، مثل قصب السكر والقطن ، بدأ زراعتها بكميات تجارية من قبل على المساحات الكبيرة للأراضي الزراعية ، وتم استبعاد الفلاحين الصغار من إنتاج القصب ، فقد أتاحت الاقتصاديات الكبيرة للعمد السيطرة على هذا القطاع من اقتصاد البلاد . ولم يعتمد المنتجون الكبار على آلات التشغيل المحلية لتحويلهم محاصيلهم إلى سلع قابلة للاستخدام ، إذ إن حجم العمليات جعل من الأجدى لهم التعامل مع آلات تشغيل من خارج القرية ، أو حتى خارج البلاد ، ومنحهم هذا الوضع ميزة لافتة في مقابل من يقومون بتشغيل منتجاتهم على نطاق صغير ، وهو ما حال دون أي نوع من السلوك التعاوني بين كبار ملاك الأراضي والصناع المهرة بالأقاليم ، ربما فيما عدا النوع الأساسي الأهم لخضوع الصناع المهرة / الفلاحين لمصالح الإقطاعي . ونظرا لأن القوى الريفية كان من الأرجح أن تتفجر احتمالات الثورة لديها اكثر من الخضوع لهيمنة كبار الملاك ، فإن النخبة الزراعية لمصر لم يكن لها حلفاء محتملون يؤازرونهم خاصة بعد ما أصبح صراعهم مع التجار الأغنياء ومسئولي الدولة أكثر وضوحا بعد عام 1820 . على أن نقص الحلفاء المحتملين شجع مشايخ القرى والإقطاعيين الصاعدين على القبول بحوافز اعتبار مهامهم تنحصر في الزراعة من أجل الربح .
ثالثا ، أحرز تحالف الدولة / التجار في مصر عددا من المميزات التنظيمية على خصومهم السياسيين بالداخل خلال النصف الأول من عشرينيات القرن التاسع عشر . وظلت طوائف التجار تتسم بارتباطاتها العائلية القوية بين أفرادها . لكن في ذلك الحين تكاملت ارتباطاتها بالصلات الداخلية المتنامية بين مؤسسات التجار وجهاز الدولة ، ويشير "تيرنس والز Terence Walz أنه بحلول عشرينيات القرن التاسع عشر استطاعت مجموعة صغيرة من التجار العاملين في تجارة السودان الاستفادة من التوجيهات الحكومة التي حددت أسعار بضائعهم بمستوى منخفض مصطنع ، في حين بقيت أسعار التصدير بالغة الارتفاع . أكثر من هذا ، كان بمقدور هؤلاء التجار استخدام المخازن الحكومية في تخزين بضائعهم حتى تظهر شروط تفضيلية لهذه السلع في السوق . كما أن التعاون بين الحكومة / التجار كان يجد التسهيلات من خلال آليات أخرى . إذ كان يتم اختيار تجار الاستيراد والتصدير الدائمين من قبل النظام للإشراف على مصانع الدولة المنتجة للسلع التي يتداولونها ، وكان الشهبندر يتمتع بسلطة الإشراف على الصناع المهرة وأصحاب المحلات بالبلاد ، علاوة على أن التجار الأثرياء كانوا عادة تحت سلطة الشهبندر . وفي أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر ، بلغ التعاون بين التجار / الدولة حدا هيمن فيه الجهاز الإداري للدولة على علميات الطوائف رسميا . وساعد هذا الاتجاه على تقوية التحالف السياسي القائم بين التجار الأثرياء وإداريي الدولة ووفر لهم موارد إضافية أتاحت لهم مواجهة المعارضين الأقوياء .
رابعا ، في بدايات عشرينيات القرن التاسع عشر تم تدعيم تضامن أكبر في تنظيم وعمليات طوائف التجار بمصر من خلال حدوث تغييرات في معاملات المهن التجارية . وقبل هذا التاريخ كان التجار يتعاملون في مدى واسع من السلع في الوقت نفسه كوسيلة لحماية أنفسهم من تراجع غير متوقع في الطلب على سلع معينة . ويذكر الجبرتي ، على سبيل المثال ، أن أحد مشاهير التجار في تسعينيات القرن الثامن عشر كان يقوم بتصدير كل من الحرير الخام والبقوليات . كما كان لدى آخرين في مخازنهم حبوب البن والملابس الفاخرة . لكن بعد عام 1820 تقريبا أصبح التجار في العاصمة أكثر تخصصا . فبدلا من التعامل في مدى واسع من السلع ، قام التجار المزدهرون بالتركيز على مجالات محددة ، وأحيانا على سلعة واحدة . وهذا الاتجاه جعل التجار أكثر تكاملا لبعضهم البعض ، وتوافق هذا تماما مع جهود الدولة في إدارة تجارة البلاد بطريقة أثكر مركزية . كما أنه زاد من الميزات التنظيمية لنظام الحكم إزاء الصناع المهرة والمزارعين بالبلاد ، الذين أصبحت نشاطاتهم أقل انسجاما ، وبالتالي انخفضت قدرتهم على مقاومة مبادرات الدولة / التجار .
زد على هذا ، واصل شيوخ القرى وكبار ملاك الأراضي الجدد مواجهة المجتمعات الريفية الراسخة بحزم والقادرة على تعزيز مصالح الفلاحين . وبأشكال معينة عملت التراكيب الريفية القائمة كأساس للنفوذ المتنامي للعُمد بعد عام 1820 ؛ فقد كانت الأراضي العامة بالقرى مخصصة لاستخدام المشايخ في المهام الاحتفالية . بيد أن هذا التطور ساعد أيضا على إيجاد مستوى معين من المقاومة الريفية للمزارعين للكبار الناهضين . وترتب على ذلك أن ظل شيوخ القرى معتمدين على ارتباطاتهم مع الدولة من أجل الحفاظ على نفوذهم بالريف ، وحال هذا دون ظهور تحالف الصناع المهرة / الفقراء / الفلاحين / العمد بالقرى في مواجهة الدولة / التجار .
وأتاحت هذه العوامل لتحالف الحكومة المركزية / التجار الأثرياء بالبلاد اتباع إستراتيجية في التوسع الخارجي في الأعوام التالية على عام 1822 كوسيلة لدعم وضعهم السياسي الداخلي في مواجهة التحديات الخطيرة من القرى الأخرى داخل المجتمع المصري . غير أن الحملة العسكرية في بحر إيجة لم تمكن الدولة / التجار من وضع أنفسهم كتحالف حاكم دائم داخل البلاد . كما أن التغيرات في تركيب وحجم التجارة الخارجية لمصر التي استمرت خلال عشرينيات القرن التاسع عشر ، أدت إلى تقوية وضع تلك القوى الريفية المنتجة للمحاصيل النقدية المخصصة للتصدير وأضعفت التجار الأثرياء والمسئولين الحكوميين الذين كانوا يملكون حصة كبيرة من هذه التجارة . وكنتيجة لهذا ، استمر الوضع السياسي الداخلي للنظام محفوفا بالمخاطر طوال هذا العقد .
الفصل الخامس: الحملة الأولى على الشام
في نهاية أكتوبر عام 1831 اجتازت الجيوش المصرية صحراء سيناء ، وغزت الشام . وكانت هذه الحملة أكبر عملية عسكرية نفذتها القوات المسلحة والأسطول المصريان خلال سنوات حكم محمد علي باشا كوال على القاهرة ، وضمت أكثر من 25 ألف جندي توزعوا على خمس وحدات مشاة ، وأربع وحدات للفرسان ، وعدة فصائل غير نظامية من فرسان البدو مع وحدات مساعدة . كما أنها كانت أكثر حملات الوالي أهمية من الناحية الإستراتيجية والدبلوماسية ، فقد كانت حملة على منطقة مركزية للإمبراطورية العثمانية ، وبالتالي كانت تمثل تحديا مباشرا لنفوذ السلطان في إسطنبول . أكثر من هذا يغزو إمارات الشام ، باتت الجيوش المصرية تمثل تهديدا خطيرا للمصالح التجارية الإنجليزية والفرنسية شرقي البحر المتوسط ، وأثارت اهتماما بالغا في لندن وفيينا فيما يتعلق بمبدأ الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الإمبراطورية العثمانية .
وأخذا في الاعتبار أهميتها الإستراتيجية الواضحة ، فإن المؤرخين الدبلوماسيين عرضوا بشكل عام أصول وآثار هذه الحملة فيما يتعلق بعلاقات مصر بالقوى العظمى في أوروبا ، ويرى أغلبهم أن الغزو المصري للشام كان الزا الذي وفر الحافز لسلسلة من الأحداث الدبلوماسية بلغت أوجها في تقارب هش بين الباب العالي وخصمه الدائم في سانت بطرسبورج ، تمت مواجهته بمقاومة شرسة من حكومتي لندن وباريس . ومع ذلك تفتقر هذه الدراسات إلى تفسير مناسب عن سبب استئناف مصر لهذه الحملة بعون خارجي قليل للغاية ، وفي وقت حرج كهذا . وحسب كلمات "فرنون بوريير" Vernon Puryear ، فإن محمد علي : "لم يستغل في الحال فرصته في ضرب تركيا قبل أن يكون لديها الوقت للشفاء من آثار الحرب التركية اليونانية والروسية . على أن ربط الحملة على سوريا بالتناقضات بين القوى الأكثر نفوذا داخل المجتمع المصري يمكن أن يوفر تقييما أكثر إقناعا لهذه الحملة الخطيرة عن أي تفسير سابق .
زراعة المحاصيل النقدية والنضالات السياسية في القرى
خلال النصف الأخير من عشرينيات القرن التاسع عشر أصبح الإنتاج الزراعيف ي مصر يتألف من أكثر من المحاصيل النقدية المخصصة للبيع في الأسواق الخارجية والمحلية على حد سواء . وبين عام 1824 وأوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر زادت بمعدل دراماتيكي الأراضي الزراعية المخصصة لزراعة القطن . ورغم أن الأرقام الدقيقة زادت خمسة أضعاف في عام 1830 مقارنة بالأعوام السابقة . كذلك زادت المساحات المنزرعة بقصب السكر خلال الفترة نفسها . ويذكر أحمد الحتة أن مقادير السكر المنتج لصالح الاحتكارات الحكومية نما باطراد بين عامي 1826 و 1833 . وفي موسم 1829-1830 كانت المساحات المنزرعة بقصب السكر تبلغ 1.874 فدانا في الصعيد ، وفي العام التالي زادت إلى 7.540 فدانا في الدلتا و950 ألف فدان بالوجه القبلي . وفي عام 1833 بلغت المساحة المخصصة لقصب السكر بين مرة ونصف ، وثلاث مرات ضعف العام السابق .
وسجلت المحاصيل النفدية الأخرى معدلات نمو مؤثرة على المستوى نفسه خلال نهايات عشرينيات القرن التاسع عشر . واستمر إنتاج البقول والعدس اللازم للتصدير ثابتا بشكل عام بين عامي 1821-1832 . بيد أن إنتتاج الشعير الخاص بالتصدير ارتفع من 600 ألف أردب في عام 1821 إلى 975 ألف أردب في عام 1832 . أما إنتاج الأرز للأسواق الخارجية المزروع في الإقطاعيات الكبرى بدلتا النيل فقد زاد أيضا بصورة مستمرة بين عامي 1823-1829 . وقد تغيرت لحد كبير مساحات الأراضي المنزرعة بالنيلة في مصر عاما بعد عام خلال هذه الفترة طبقا للطلب عليها سواء في الأسواق الأوروبية أو الإقليمية . ففي الفترة بين عام 1816 وأربعينيات القرن التاسع شعر كان هناك ما أسمته "هيلين ريفين" Helen Rivin ظاهرة الزيادة في الزراعة للسمسم بوصفه محصولا نقديا . أكثر من هذا ، بدأت زراعة نبات الخشخاش بكميات لافتة للنظر بالبلاد بعد عام 1824 . وتوسعت كذلك زراعات القنب والقرطم بعد عام 1825 تقريبا واستمرت على أهيمتها كسلع للتصدير في غضون السنوات التالية .
كنتيجة للتوسع في زراعة المحاصيل النقدية في جميع أنحاء مصر خلال عشرينيات القرن التاسع عشر ، فإن حجم الأراضي المتاحة لزراعة المحاصيل الرئيسية مثل الذرة ولافول تقلصت بشكل ملحوظ . وفي الدلتا حلت محاصيل مثل الكتان والقطن ولاسمسم بدلا منا لحبوب (فيما عدا المخصصة للتصدير) باعتبارها المنتجات الزراعية الأولية للمنطقة . وعلى القدر نفسه ، في الوجه القبلي ، أحرزت زراعات القطن والكتان وقصب السكر والنيلة والحبوب النصيب الأكبر من الأراضي المنزرعة بعد عام 1825 . وأدى هذا الاتجاه إلى زيادة دراماتيكية في أسعار الحاصلات الأولية بالأسواق المحلية للبلاد .
أسفر التوسع في زراعة المحاصيل النقدية في أنحاء مصر عن ارتباط اقتصاد البلاد بصورة أوثق مع الاقتصاديات الأوروبية باعتبارها موردا للمواد الأولية والإنتاج الزراعي . ويتضح هذا التطور في حالتي القطن والكتان الذين ازداد الطلب عليهما من المصانع الأوروبية خلال هذه السنوات . لكن الأمر لايقل أهمية كذلك فيما يتعلق بالحاصلات الأخرى . فعلى سبيل المثال ، في عام 1828 ، كان يتم تصدير القمح والشعير والأرز ، والبقول ، والنيلة من مصر إلى النمسا . وهذه المحاصيل نفسها كان الطلب عليها كبيرا في أنحاء أوروبا في ههذ الفترة . كما أن مزروعات الخشخاش كانت تشكل سلعة مربحة في التجارة الخارجية ، خاصة بين مصر والولايات المتحدة . وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر كان يتم إرسال ما بين 15 و 20 ألف أردب من الترمس المصري إلى ليفرنو سنويا . وعندما كان يتم تفريغ هذه الشحنات يتم توزيعها على مزارعي توسكانيا Tuscan ، الذين يستخدمونها في أراضيهم المجدية باستزراعها ، وما إن تصير أوراقا ، يحرثونها في الأرض . وفي الوقت نفسه كان يتم تصدير كميات كبيرة من الخس من مصر سنويا . وسواء كانت المحاصيل النقدية تنمو هيمنتها أم لا داخل الاقتصاد المصري والتخصص المتزايد للصادرات المصرية في المواد الأولية مرتبطان بالضرورة فليست تلك هي المسألة . فإن الأمر اللافت للنظر في هذا السياق أو الزراعة المصرية أصبحت مخصصة بالدرجة الأولى لإنتاج المحاصيل النقدية خلال السنوات السابقة على عام 1831 مباشرة ، وأن هذ المحاصيل غدت ترتبط بشكل وثيق بالتجارة الخارجية ، كذلك باتت مرتبطة بقوة بالاحتكارات الزراعية الحكومية .
ومع أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر أصبحت احتكارات الدولة هي المؤسسات التجارية الأكثر أهمية بالبلاد.. ويذكر "جون بورنج" John Bowring أن هذه الاحتكارات مكنت الحكومة من أن تمارس غالبا سيطرة كلية على الأمور الزراعية . وحسب كلماته : "في توزيع المنتجات الزراعية ، عموما ما تأخذ الحكومة المبادرة ، عن طريق تحديد كمية ما سيتم زراعته من محصول معين في منطقة معينة ، ويتحدد السعر قبل موعد تسليم المحصول . ومن خلال هذا النظام تأتي أغلبية منتجات الأراضي إلى أيدي الحكومة بالشروط التي تحددها . وهذا التقرير صدر عن شخص في منتصف عام 1829 ، الذي لاحظ أن الدولة كان بمقدورها تماما أن تسيطر على بيع لاسلع والمنتجات المحلية إلى التجار الأجانب (في رأي القنصل ، إلى الإضرار بتجارة مصر) .
وبداية من 1828 ، بدأت الدولةف ي زيادة استخدامها لهذه الاحتكارات في محاولة لتخفيف حدة المصاعب السنوية المتصاعدة آلتي تواجه الإدارة المركزية . وبتغيير معدلات سداد أثمان المنتجات الخاضعة للاحتكار مثل القطن ،والنيلة والزعفران ، رواد الأمل مسئولي الحكومة في حل مشاكل التدفقات النقدية الحالية للدولة . وقام الوالي بنفسه بجولة تفتيشية على المناطق المنتجة للقطن والأرز بمديرية المنوفية وذلك من أجل تقوية الإشراف المركزي للحكومة على الشئون الداخلية وبنفس الطريقة مع بدء تزايد صادرات الأرز من دمياط إلى سوريا في نهاية العام ، تم وضع الإدارة المحلية المختصة بهذه السلعة تحت توجيه أكثر إحكاما لمسئولين بالعاصمة . وقد سهل من هذا الإجراء العلاقات الاجتماعية التي تربط متنجي الأرز بهذه المنطقة . وظلت عملية زراعة الأرز وبيعه للتصدير تحت السيطرة الحازمة لعدد محدود من تجار دمياط الأثرياء لعدة سنوات . ونظرا لأن هؤلاء التجار عملوا كوكلاء تباعين لاحتكارات الدولة ، فإن هذه المؤسسة كانت تمثل أكثر قليلا من أسلوب جديد في ترتيب الهيمنة على الشئون الاقتصادية للنخبة التجارية المحلية . وتحققت السيطرة المركزية على إنتاج الأرز بسهولة أكثر عن السيطرة مثلا على توزيع النيلة ، التي لم يتم السيطرة عليها من أي قوة اجتماعية وحيدة ، وثيقة الصلة قبل أن تخضع لاحتكار الحكومة .
وتشير البعثات التي تشكلت في عام 1829 و 1830 إلى أن انتقال أرز الدلتا إلى مخازن الحكومة المحيطة بدمياط كان يتم بيسر بعد عام 1828 . كما أن كميات كبيرة من المحاصيل الأخرى ، والكثير منها كان معدا للتصدير ، كان يتم شحنها إلى المخازن بالإسكندرية . وفي أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر ، أصبح ولاة الأقاليم مسئولين عن نقل المنتجات الخاضعة للاحتكار من المخازن المحلية إلى هذا الميناء سواء لشحنها إلى لاخارج أو للتوزيع المحلي . باختصار ، فإن الاحتكارات الحكومية في مصر لم تبدأ في تخفيف قبضتها على الاقتصاد المحلي للبلاد حتى بعد منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر . لذلك فإن التوسع في إنتاج المحاصيل النقدية بالريف سحب مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية من الزراعة الأولية ، في الوقت الذي حافظ فيه تحاف الدولة / التجار الأثرياء على السيطرة على توزيع منتجات المزارعين الفقراء من بيع محاصيلهم في الأسواق المحلية أو استبدالها مقابل المزروعات الأولية الضرورية . وأحد نتائج هذا لاوضع الأشبه بالمقص في مناطق الريف كان زيادة عدد العمال الزراعيين المعدمين ، الذين ازداد اعتمادهم في المعيشة على من يهيمنون على الممتلكات الزراعية الكبيرة .. تمثلت النتيجة الثانية في بروز أوضاع لها ارتباط بالاضطرابات السياسية بالريف .
وبعد أخماد تمرد منظم جرى عام 1826 في مديرية الشرقية ارتبط برفض الحكومة الإقرار بمستنداتها الدالة على سداد الضرائب ، أصبحت التمردات الكبيرة ضد النظام من سكان الريف نادرة الحدوث خلال ما تبقى من عهد محمد علي . غير أن هذا لايعني أن الريف المصري بقى سهل الانقياد بعد عام 1827 . على العكس ، ففي نحو عام 1830 تكررت كثيرا للشروط التي أدت إلى تمردات جيدة التنظيم اندلعت في الوجه القبلي في أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر . وفي عام 1829 مكنت هذه الظروف سكان واحة سيوة في غربي الدلتا من تنظيم تمرد كبير ضد الحكومة في القاهرة . بيد أن هذا التمرد ظل محليا ولم تنجم عنه تمردات في المناطق المركزية بالبلاد . وبلا شك لم يكن انعزال تمرد سيوة يرجع جزئيا إلى قمع الصناع المهرة بالأقاليم وتجنيدهم إلزاميا أثناء مسار الحملات اليونانية في الفترة من 1824-1827 ، ويه الأعمال التي حرمت التمردات من مصدر مهم للدعم الخارجي . كانت أيضا نتيجة للأسلوب التدريجي المتبع لإدخال المحاصيل النقدية في أقاليم مصر الوسطى ،وهي علمية لم تتح للفلاحين بالمنطقة أي فرصة لرد فعل عدائي "أخلاقي – عرفي Moral" لإدخالها . لكنها يمكن أن تعزي أساسا للتركيب المختلف بصورة أسياسية للقوة الموجودة بالريف المصري في عام 1829 مقارنة بما كانت عليه منذ خمس سنوات مضت . وكان هذا التوزيع للقوة مرتبطا بشكلها الخاص للعنف السياسي .
فقد حلت أعمال اللصوصية بدلا من التمرد بوصفها شكلا مميزا للاضطرابات الريفية في ميدريات مصر في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر . فالسياسة التي تبنتها الدولة وحلفاؤها من التجار الأثرياء في نقل السلع الغذائية من الريف لبيعها في الأسواق الخارجية ، بالإضافة إلى توزيع المحاصيل النقدية على الأراضي المنزرعة بالبلاد ، أدت إلى الحد البالغ من قدرة فقراء الريف على احتمال مواسم الحصاد البائسة ، مثلما حدث في موسم 1829-1830 . وفي ظل هذه الظروف ، غدت اللصوصية هي الشكل الأساسي للعمل السياسي الجماعي للقرويين في محاولتهم لأن يكلفوا لأنفسهم جزءا من السلع الزراعية المنتجة في أراضيهم أو السلع المارة خلالها . لذلك فإن هذه النشاطات تماثل الأشكال الأخرى من ردود الفعل الجماعية للتغير الاقصتادي الضار ، مثل هروب الأسر ، الذي اتسع مداه بصورة متزايدة في الريف المصري في غضون هذه السنوات . فضلا عن ذلك ، بدأت السرقات من مخازن الدولة تغدو عملايت شائعة في جميع أنحاء البلاد بعد عام 1828 . وفي عام 1831 باتت القرصنة على طول نهر النيل مرة أخرى أمرا متكررا ، خاصة في مناطق معينة من الدلتا .
في السنوات حول عام 1830 ، غدت مصر الوسطى شهيرة بالعدد الكبير من قطاع الطرق واللصوص . ويورد أحد المسافرين أنه اضطر للنزول في إحدى الأمسيات "بالقرب من الواسطى ، وهي قرية سكانها من المسلمين فقط ، وتشتهر بأعمال اللصوصية" . وفي بني سويف ، المدينة التالية على نهر النيل ، واجه مع زملائه بعض اللصوص ، ويقول : "في تلك الليلة نمنا في خيمتنا المجهزة ، وتعرضنا على الأقال لثلاث هجمات من اللصوص ، الذين كانوا في ذلك الحين يملأون البلاد" . وكانت التوترات في هذه المناطق بالغة الشدة نتيجة للتوسع في إنتاج المحاصيل النقديرة في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر ، وتفاقم الوضع بتفشي وباء خطير في مدن مصر الوسطى في نهاية هذا العقد . وأسفر هذا الحال عن عدم زراعة مساحات كبيرة من الأراضي بين بني سويف والمنيا ، وتحول قاطنوها إلى أعمال السرقة كوسيلة للبقاء على قيد الحياة . وانتشر هذا النوع من النشاط السياسي جنوبا في السنوات القليلة التالية . وفي أربعينيات القرن التاسع عشر ، على سبيل المثال ، بات مألوفا وجود عصابات لقطع الطرق بالمناطق المحيطة بدشنا في مديرية قنا .
كما أسهم تشريد العمالة الريفية في ظهور الأنماط الأخرى للعنف السياسي قبل عام 1830 مباشرة . وثمة شواهد على زيادة أعمال الاغتيالات لمسئولين حكوميين محليين في ذلك الحين . أكثر من هذا ، فإن الحقول المزروعة بالقطن وباقي المحاصيل النقدية تكرر إضرام النيران بها وحرقها . وفي الفترة من 1823 إلى 1824 ، فرض المسئولون الحكوميون بالقاهرة عقوبات قاسية على إحراق المحاصيل . ورغم هذا ، أخفقت هذه الإجراءات في الحيلولة دون حدوه هذا النوعمن الاحتجاج من الانتشار في أنحاء الريف في الأعوام التالية . واشتملت جهود الدولة للسيطرة على اندلاع القلاقل الساسية في المناطق الريفية بمصر في نهاية العقد الثاني للقرن التاسع عشر على إنشاء عدد من المؤسسات الجديدة في نهاية العقد الثاني للقرن التاسع عشر على إنشاء عدد من المؤسسات الجديدة على المستوى المحلي في كافة أنحاء البلاد . وباتت سجون القرى مشاهد مألوفة في الأقاليم ، شأن المساجد التي تشرف عليها الحكومة وملاجئ الفقراء . حتى إن الهجرة الموسمية للعمال الزراعية من منطقة لأخرى خضعت بدورها للإشراف الرسمي الصارم . وبرغم كل هذا ، أصبحت القلاقل الريفية تمثل تهديدا واضحا للنظام مع بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، وعلى وجه التحديد نظرا لأن علاقات القوى التي تعمل للحفاظ على النظام بالريف بدأت في التفكك .
من جانب ، مارس مشايخ القرى المصرية كل وسائل الابتزاز على الفلاحين المستقلين والنصاع المهرة في الأقاليم إلى الحد الذي لم يعد بإمكان هؤلاء وأولئك دعم أنفسهم في السنوات التالية لعام 1928 . وفي أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، ذكر المراقبون أن حالة سكان الريف بالبلاد في مجملهم بائسة . وفي فبراير 1830 طلب المسئولون بالقاهرة من محافظ قنا البحث عن أسباب الانخفاض الملحوظ في إنتاج الحبوب بمحافظته ، وهذا الوضع بلا شك كان يمثل أحد نواتج انهيار المنتجين الزراعيين الصغار في قنا . وبعد خمسة أشهر من ذلك تم نقل حاكم إسنا بسبب سوء حالة الزراعة في منطقته ، "والخراب الذي أصاب البيوت بها" . وقد نجم هذا الانخفاض في ناتج الزراعات الصغيرة بمصر إلى حد معين من هبوط فيضان النيل عدة أعوام وتفشي الأوبئة على الدوام في معظم البلاد بعد عام 1828 . غير أنه كان أيضا نتيجة لتغيرات مهمة في تكنولوجيا الزراعة بالأقاليم التي زادت حاجتها إلى عمال القطن وقصب السكر ، وعمال الزراعة ، وغيرها من الأعمال الوضيعة ، التي تضع صغار منتجي المحاصيل النقدية على شفا الخسائر .
وكنتيجة لهذه التطورات ، تعمد مشايخ القرى بالبلاد إنقاص عوائد الضرائب التي يقدمونها للإدارة المركزية لحد كبير في الأعوام السابقة مباشرة على عام 1831 . ولاحظ المسافرون الأجانب أن خزانة الدولة بمصر أخذت تنضب تدريجيا في ذلك الحين ، وذلك مع زيادة إفقار الريف . وبين عامي 1827 و 1833 ، كانت هناك فكرة سائدة في الدوائر الحكومية بأن مشايخ القرى يقتطعون لأنفسهم نسبة لا بأس بها من إجمالي عائدات الضرائب بالريف .
وفي أغسطس 1829 صدر أمر إلى معظم المناطق الزراعية بالصعيد والوجه البحري يقضي بأن على مسئولي الأقاليم تحويل الاستقطاعات الأسيوعية والشهرية التي فات أوان استحقاقها إلى العاصمة "بسبب أهميتها لسمعتنا الطيبة" . وتبرز "ريفيلين" Rivlin أمرا آخر من الحكومة المركزية لمأموري المناطق يطالب بسداد الضرائب المستحقة . وفي الأمر يبين الوالي : "سواء كنت تحتجز حامل الرسالة أو تؤجل التحويل إليه جميع الأموال المستحقة ، بمجرد أن يصل إلى علمي ، فستتعرض للجزاء ، وتأكد أنني سأقطعك إربا ، وينبغي عليك أن تتصرف على هذا الأساس " . غير أن المشايخ كانوا في حالة عسر تام ؛ فلم يكن يوجد بينهم من يمكن الحصول منه على العوائد المطلوبة .
في عام 1830 أدى هذا الأمر إلى وضع مشايخ القرى في مصر في صراع مباشر مع باقي الجهاز الإداري للدولة ، الذي كان يواجه مشاكل مالية حادةمن جانبه . ويرى أسد رستم أن حاجة النظام الماسة لعوائد جديدة كانت موضع اعتبار مهم في قراره بغزو الشام عندما أقدم عليه . وبين عامي 1822 و 1833 يتضح أن حجم الفائض المتبقي للدولة بعد حساب مصروفاتها تقلص لحد كبير ، حتى مع حساب هذا الفائض باستخدام أرقام المسئولين ، والمتوقع أن يكون مبالغا في توقعات العائد السنوي للحكومة . ففي خلال عام 1827 ، على سبيل المثال ، لم يكن لدى الدولة دخل يكفي للوفاء بالتزاماتها المتنوعة في المشتروات ، وهو ما حدا بمسئولي الحكومة لمحاولة تصحيح مساوئ استعمال السلطة التي جرت في الأعوام السابقة من خلال قمع العمد ووضعهم تحت الإشراف الصارم . وكان من المحتمل في عام 1828 أن تفرض الدولة نوعا جديدا من الضرائب – ضريبة مباشرة على الرؤوس باستخدام الاسم القديم لها وهو الفردة – على الجميع . وهذا النوع الجديد من الضرائب كان يتم تحصيله مباشرة عن طريق مأموري الأقاليم بخلاف الأشكال القائمة للضرائب التي كانت تتيح لمشايخ القرى قدرا أكبر من حرية التصرف بوصفهم جامعين للضرائب ومددين لنسبتها . وتدل هذه الأعمال على أن العلاقة بين الإدارة المركزية بمصر ومشايخ القرى ، التي كانت قد برهنت على تطابق طفيف للمصالح أثناء حرب اليونان ، بدأت في التحلل بعد عام 1827 ، نظرا لأن هاتين القوتين أخذت تزداد بينهما الصراعات حول فائض ريفي متقلص .
ويمكن إرجاع هذا للنفوذ المتضائل على الشئون الداخلية الذي كان يمارسه مشايخ القرى في مقارنته بما كان يمارسه باقي المسئولين المحليين . وفي أثناء كتابة تقرير "بورنج" Bowring في عام 1839 ، يبدو واضحا أن هؤلاء المشايخ كانوا خاضعين كليا لباقي أفراد الإدارة الحكومية . ومن بين أهم هؤلاء المسئولين يبرز مأمورو المدن ، الذين أصبحوا أهم السلطات الحكومية نفوذا خارج العاصمة منذ أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر . وفي ذلك الحين بات المأمور يضطلع بكثير من المهام التي كانت في السابق من مسئوليات مشايخ القرى . واستنادا إلى "بورنج" Bowring فإن مأموري المراكز ، بالإضافة إلى مديري المديريات ، كانوا يديرون معظم نشاطات العمال الزراعيين القاطنين بالقرى ؛ طبقا لبنود الأمر الزراعي العام الصادر في يناير 1830 ، الذي أتاح لنظار الأقسام حق منح الإعفاءات الضريرية وغيهرا من الحوافز للفلاحين الراغبين في استزراع الأراضي البور أو غي المستعملة . ويذكر "باتريك كامبل" Patrick Campell في عام 1840 أن المأمور يحدد في كل قرية عدد الأفدنة التي يتعين زراعتها بمحصول معين ، ويحدد الشئون التي تخزن بها المنتجات المختلفة ، سواء كانت للحفظ أو مخصصة للبيع كصادرات ، ويشرف على الجبايات المخصصة للجيش والأسطول ، أو لأي أغراض أخرى . أما شيوخ القرى فيقتصر عملهم على الإشراف العام أي يتولون تنفيذ أوامر المأمور . وفي عام 1830 تم إنشاء مدرسة للإدارة العملية في بولاق لتدريب مأموري المديريات وغيرهم من المسئولين ، بما فيهم مشايخ القرى ، لتنفيذ المهام الموكلة إليهم بوسائل أكثر اتقانا . وأدت هذه الإجراءات إلى التأثير بعمق في استقلالية المشايخ التي كانوا يتمتعون بها في الزمن السابق .
وتزامنت هذه التغييرات في إدارات الأقاليم مع تراجع مهم في إنتاجية الزراعة المصرية . ففي سنة 1928 انخفضت إنتاجية محاصيل النيلة والقطن والشعير وقصب السكر بمعدل ملحوظ مقارنة بموسم 1825-1826 . ويذكر "روجر أوين" أن الانخفاض في إنتاج القطن في تلك السنة يعود أساسا للإنهاك الذي تعرضت له شتلات القطن بعد أن مضي أربع سنوات على أول زراعة لها "وبالتالي تم إحلال بديل لها في عامي 1826 و 1827 والتي ثبت عدم جدواها نتيجة العجز في العمال الزراعيين واضطراب فيضان النيل في الريف . وأدى هذا الهبوط المفاجئ في الإنتاج الزراعي إلى نقص حاد في فوائض إيرادات كبار المزارعين . أكثر من هذا ، كانت كميات فائض القطن المزروع محليا مناسبة تماما لتشغيلها في مصانع النسيج التي تمتلكها الدولة في نهاية عشرينات القرن التاسع عشر ، وما يزيد عليها يأخذ طريقه إلى الأسواق التجارية . وفي الوقت نفسه تقريبا جاء فيضان النيل المرتفع ليشيع الدمار في كل المزروعات بأنحاء البلاد التي تخصصت في إنتاج المحاصيل النقدية مثل النيلة والشعير والقطن . وأفضت تلك التطورات إلى تهديد بالغ لثروات كبار ملاك الأراضي بالبلاد ولمشايخ البدو أصحاب المزارع . وعلى وجه الدقة أصبحت الندرة هي السمة الغالية للمنتجات ، وتسببت هذه المصاعب في زيادة التأثير السياسي لمنتجي هذه السلع النادرة . ونتيجة لهذا ، ومع نهاية عشرينيات القرن الثامن عشر كان كبار ملاك الأراضي في مصر يمثلون تحديا خطيرا لتحالف المسيطر على المجتمع المصري المكون من الدولة / التجار .
ولمواجهة هذه التحديات ، حاول مسئولو الدولة في البداية إيجاد مصالح زراعية بالقرى تكون على اتصال وثيق بالمصالح المملوكة للدولة ، حيث قاموا بمنح مساحات كبيرةمن الأرض الزراعية لأشخاص ذوي خطوة لدى الإدارة المركزية . وكانت من "الأراضي غير المستصلحة" والأراضي التي هرب منها الفلاحون . وشكلت الأراضي الممنوحة والأراضي المستصلحة حديثا أبعاديات معفاة من الضرائب بدأت في الظهور بالقرى حول العام 1830 . والأراضي المستصلحة في المنطقة المحيطة بترعة المحمودية (التي تم الانتهاء منها في عام 1820) تم منحها كأراضي أبعاديات بأعداد متزايدة بعد عام 1829 . وفي غضون تلك الفترة أضيف 60 ألف فدان في مديرية أسيوط للأراضي الزراعية بالمنطقة "خلال عامين أو ثلاثة أعوام" لتصل المساحة الكلية للأراضي المنزرعة إلى 600 ألف فدان . وبلغت مساحات الأراضي الجديدة في الوجه القبلي بأكمله نحو 100 ألف فدان في هذه السنوات . وكانت هذه الأراضي المستصلحة حاسمة في إنقاذ الإنتاج الزراعي المصري عقب السنوات العجاف بين عامي 1827 و 1831 . غير إن الأراضي الجديدة كانت ستغدو عديمة الجدوى دون عدد كاف من العمالة وشبكة ري مناسبة ، فكلاهما ضروري إذا كان المطلوب نجاح زراعة محاصيل نقدية مريحة .
ومع بدء حصول الموظفين المختارين من الإدارة المركزية على إقطاعيات زراعية كبيرة خلال نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر ، شرعوا باستخدام مختلف أشكال القهر الاقتصادي لإجبار الفلاحين النازحين ليصبحوا عمالا في أراضيهم . وأدى هذا إلى تقليص توفير العمالة المأجورة المتاحة للفلاحين الأثرياء وشيوخ القرى وجعل من الصعوبة بمكان عليهم إدارة ملكياتهم متوسطة الحجم لتحقق ربحا . ونتيجة لهذا اضطر العديد من هؤلاء الفلاحين الصغار إلى هجر أراضيهم ، مما خلق انطباعا بين المراقبين الأجانب بأن وادي النيل هو وادي الدموع ، وكانت أعداد كبيرة من الفلاحين تهاجر إلى سوريا . وظهر واضحا على نحو خاص أثر النقص المتنامي للعمالة الناجم عن هروب الفلاحين من الريف في المناطق التي تحتوي على إقطاعيات جديدة نشأت نتيجة الإعفاء من الضرائب وغيهرا من الأراضي المستصلحة . وهذه الاتجاهات عززت قدرة ملاك الإقطاعيات الجديدة على توسيع ملكياتهم على حساب كل من شيوخ القرى وشيوخ البدو مع نهاية هذا العقد .
ومع استمرار تناقص توفير العمالة الزراعية ، حاول ملاك الإقطاعيات الجديدة بمصر استقدام عمال من أوروبا والسودان . بيد أن استخدام العبيد السود والمزارعين المهرة المغتربين أثبت أنه باهظ التكلفة ، وسرعان ما تم التخلي عن هذه الخطط . وبدلا من ذلك ، لجأ الإقطاعيون الجدد بمصر إلى أعمال السخرة المطلوبة بشكل متزايد على أسس ثابتة بحلول عام 1831 . كما أعاد ملاك الإقطاعيات الكبيرة إحياء زراعة المحاصيل التي تحتاج لعمالة قليلة مثل القمح في غضون تلك السنوات ، وهجروا زراعة القطن والدخان مؤقتا . غير أن هاتين الإستراتيجيتين لم يكن بمقدورهما إيجاد فرائض في النوع الذي كان متاحا في عامي الازدهار 1825-1826 ، ومع ذلك ، وبحلول عام 1831 ، وجد كبار ملاك الإقطاعيات المصريون أنفسهم منساقين إلى الصراع بين الفلاحين الأغنياء ، ومشايخ القرى ، ومسئولي الإدارة بالدولة كمنافس رابع في الهيمنة على الفائض الزراعي المتناقص للبلاد .
باختصار ، غدت الزراعة المصرية مخصصة أساسا للمحاصيل النقدية مع نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر ، وهذه المحاصيل هي التي مارست عليها الدولة وحلفاؤها من التجار الأغنياء هيمنة كبيرة الشأن . لكن بداية من موسم عام 1830-1831 بدأت الزراعة التجارية بالبلاد تعاني من عدد من المشاكل الحادة . إذ أن الابتزاز المتواصل من السلطات المحلية المتربطة بإدارة الدولة أدى إلى تحطيم صغار ملاك الأراضي المستقلين بمصر وألجأهم إلى العمالة المأجورة على أراضي الغير أو إلى الفرار من الريف . وفي الوقت نفسه ، أصاب قصور فيضانات النيل بشدة إنتاج المحاصيل النقدية في الإقطاعيات الكبيرة ، وهدد هذا التطور بتحطيم أولئك الذين يهيمنون على الزراعة التجارية كبيرة الحجم إلا من استطاعوا انتهاز فرصة حالات القصور لتقوية وضعهم السياسي في مناطق الريف . وجاء رد فعل الإدارة المركزية على النفوذ المتنامي لكبار ملاك الأراضي المستقرين عن طريق إنشاء إقطاعيات زراعية جديدة تحت السيطرة المباشرة لأفراد من حاشية محمد علي . غير ان الإستراتيجيات التي تبناها هؤلاء النبلاء الجدد لضرب الفلاحين الذين استفادوا من سياسات النظام الأولى الخاصة بالأراضي انتهت في عام 1830 إلى تراجع الإنتاج الزراعي عموما . وغدا الريف المصري بالتالي ساحة تشابكت فيها عدة قوى مؤثرة في تنافس متصاعد على الفوائض الزراعية المتقلصة وعائدات الضرائب المستخلصة منه . ومع اشتداد حدة هذا الصراع فإن سكان الريف الذين بقوا خارج حدود الإقطاعيات الكبيرة نفذوا أعمالا للمقاومة المنظمة في مواجهة اتساع الزراعة التجارية في الريف . وتمثلت أهم المشاهد المرئية تعبيرا عن هذه المقاومة في قطع الطرق واللصوصية وحرق المحاصيل . وعلى مدى العامين التاليين أسهم هذا الوضع أيضا في إحداث تغييرات مهمة بعلاقات القوى بين القوى الاجتماعية المدنية بالبلاد .
التحديات الحضرية في مواجهة نظام الحكم
نظرا لأن الإنتاج الزراعي في مصر أخذ في التراجع خلال السنوات التالية لعام 1827 ، فقد بدأ أغنياء التجار بالبلاد يفقدون مواقعهم العالية داخل المجتمع المحلي التي حققوها في زمن حملات بحر إيجة . على أن الدرجة المتضائلة التي كان بمقدور تجار الاستيراد والتصدير الأغنياء أن يمارسوها في الشئون الداخلية تتضح في التغيرات التي حدثت في مجالين منفصلين وإن لم يكونا غير مرتبطين للنشاط الاقتصادي . الأول ، نمو الوكالات التجارية الأجنبية بنفوذ أشد في الإنتاج والتوزيع المحلي عن أي وقت سابق لها . الثاني ، غدا التجار في مصر أقل قدرة في السيطرة على نشاطات العمال المدنيين بالبلاد والاحتفاظ بهم هدفا للإدارة الحكومية المركزية .
ومع نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر ، كان تجار مصر الأثرياء يتحملون الجانب الأعظم من الصعاب المتصاعدة لميزان المدفوعات بالبلاد . وكانت السلع الأوروبية تدخل إلى الموانئ المصرية بكميات متزايدة بعد عام 1825 وتباع بانتظام في أسواق الأقاليم ، مثل طنطا ، بحلول عام 1830 . وكان يتم استيراد هذه السلع على الحساب نظرا لأن تراجع إنتاجية المحاصيل بالريف لم يترك لتجار الاستيراد والتصدير المحليين إلا أقل القليل من القطن والنيلة لطرحها في تبادل مباشر معها . وكانت واردات الملابس والدخان ، مثلا ، تباع على الحساب بصورة متزايدة في هذا الوقت تقريبا . وفي عام 1830 غدت الإجراءات السوقية للمنتجات الزراعية المصرية بالغة التعقيد حتى إن مسئولي الحكومة كثيرا ما عجزوا عن تحديد مسار البضائع المتضمنة . وأدى هذا إما إلى مضاعفة المشتروات من نفس المحصول لجهتين مختلفتين أو تأخير المدة لأقصى حد بين بيع المنتج وتسليمه للعملاء الأوروبيين . وفقط في السنوات التي كان يصل فيها إنتاج المحاصيل لأفضل حالاته يحدث توازن بين واردات وصادرات مصر من المواد الغذائية وغيرها من المنتجات الأولية . ومع ذلك ، كما حدث في الفترة من عام 1828 إلى عام 1830 ، وجدت المصالح التجارية المصرية نفسها في وضع سيئ مقارنة بشركائها التجاريين في الخارج ، وخاصة الأوروبيين .
ومع نهاية عام 1825 ، كان التجار الأجانب وممثلو القنصليات عرضة على الدوام لإجراءات مجحفة من الحكومة المصرية . وتكررت شكاوي هؤلاء التجار لحكوماتهم من المعاملة التي يلقونها على يد السلطات المحلية . غير أن هذه الشكايات لم تجد إلا استجابات محدودة للغاية من الممثلين المحليين لحكوماتهم ، الذين كانوا يقرون بالوضع الثانوي الذي يشغلونه في تعاملهم مع الوالي . في واقع الأمر "اتخذت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت موقفا بالغ الواقعية ، وأصدرت تعليماتها للتجار الفرنسيين بالامتثال لشروط الحياة بمصر بصرف النظر عن بنود الامتيازات الأجنبية" ، التي كانت تتيح لهم أوضاعا متميزة .
وبعد خمس سنوات من ذلك ، تغيرت للعكس تماما الأوضاع النسبية للوكلاء التجاريين الأوروبيين ورجال الإدارة في مصر . في عام 1829 تبنت الحكومة المصرية إجراءات جديدة تسمح لأي مؤسسة تجارية أوروبية لديها ما يكفي من الأموال تدفعها للمحاصيل التجارية بالبلاد (بالإضافة لأولئك الذين على علاقات شخصية بمسئولي الدولة) بشراء هذه المحاصيل . وكان هذا الإجراء مطلبا دائما لحماية التجار الأجانب في مصر ، الذي وقف في مواجهته المسئولون المحليون لحماية التجار الأجانب في مصر ، الذي وقف في مواجهته المسئولون المحليون ماداموا قد كانوا في موقع يتيح لهم ذلك . فضلا عن ذلك ، بدأ القناصلة الأجانب في ممارسة قدر كبير من النفوذ على أوجه النشاطات التجارية الأجنبية الأخرى بمصر وعلى الشروط التي تجري بها خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر . وفي عام 1834 حث تقرير مقدم إلى وزير الخارجية الأمريكي "فورسيث" Forsyth حكومة للولايات المتحدة على إنشاء مكتب قنصلي في مصر لكي يتمكن من ممارسة نفوذ مؤكد في الشئون التجارية المحلية .
واللافت للنظر أن نفوذ الأجانب اتسع بعد عام 1828 خارج المراكز التجارية في القاهرة والإسكندرية ليمتد إلى الريف المصري . وعلى سبيل المثال كان التجار الفرنسيون والإيطاليون يتولون دورا نشيطا في "العرض التجاري بالغ الوضوح" القائم في مدينة أطفيح بالدلتا في نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر . زد على هذا أن بدأ الأجانب في الاستحواذ على ملكيات كبيرة من الأراضي الزرايعة في غضون تلك الأعوام . واستنادا إلى "ريفلين" Rivlin : "تم منح امتيازات الأبعاديات ، وكذلك أراضي المعمور للأجانب ، خاصة لليونانيين الذين استقروا في البلاد . إذ إن كثيرا من اليونانيين ، الذين أحرزوا نجاحا في التجارة ، وراكموا رؤوس أموال كبيرة ، أقدموا على استثمارها في استصلاح الأراضي . والآخرون الذين لم يكونوا يملكون رؤوس أموال ، لكن لديهم خبرات زراعية ، فقد ساعدهم محمد علي وقدم لهم الأموال اللازمة للاستثمار في تربية الماشية والمشروعات الزراعية واستزراع الأراضي" . ويذكر "بورنج" Boring أن أحد الأوروبيين كان يملك إقطاعية في الفيون مساحتها نحو 800 فدان يزرعها بنبات النيلة . وكان أوربيون آخرون يمتلكون أبعاديات أكبر من ذلك في تلك الفترة .
غدا النفوذ الأوروبي المتزايد داخل المجتمع المصري واضحا في أشكال محسوسة وإن كانت أقل خلال هذه الفترة . وكان القادمون من الأجانب ، الذين كانوا بشكل أو بآخر يراعون عادات ومشاعر أبناء البلاد في الأعوام السابقة ، قد اصبحوا في ذلك الحين يهددون ويؤذون السكان المحليين تحميهم الامتيازات الأجنبية . ويقول الكاهن "ستيفن أولين" Stephen Olin أنه بعد عام 1830 : "شاهدت بنفسي عدة مرات أحد الفرنجة غير المسلحين يستخدم الكرباج في مواجهة عدد من الفلاحين دون أن يبدوا أدنى مقاومة ، وفي أكثر من موقع نما إلى علمي أن أحد الفرنجة قام بجلد الجنود وكانوا يحملون بنادق عتيقة الطراز في أيديهم ومثبت بكل منها سونكي ، ولم يظهر أي اعتراض على هذه الانتهاكات التي لاتطاق ، فيما عدا الجري بعيدا بأقصى ما يستطيعون . وينظر موظفوا الحكومة لمثل هذه الأفعال دون حتى أي احتجاج ، وفي بعض الحالات أعلم السبب وراء تبريرهم وتشجيعهم لمرتكبيها . وفي ضوء هذه الاتجاهات ، يتضح جليا أن الوضع الواهن لتجار مصر الأثرياء والوكلاء التجاريين للدولة ، الذي كان أساسا نتيجة للقصور في الزراعة نحو عام 1828 ، أسفر عن سيطرة أجنبية أكبر على مختلف أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد .
وقد أثر تزايد معدل سرعة هذه التغييرات على أسعار السلع المحلية وقيمة النقود التي كانت سمة لعهد محمد علي في مجمله . وعلى نحو خاص ، تميز العقدان الثاني والثالث من القرن التاسع عشر بأنهما فترات التضخم الحاد في مصر . ويبدو من المحتمل أن : "قيمة النقود المتبادلة (في مصر) عام 1833 كانت خمس (1/5) قيمتها فقط خلال الجزء الأول من القرن" . وأصاب هذا التضخم الذين يتعاملون في السلع الأجنبية أكثر بكثير مما أصاب من لايتعاملون بها . وكنتيجة لهذا التضخم العام ، فإن أي سلع مستوردة يتأخر سدادها إذا كان عينيا تصبح أغلى بكثير فيما لو كانت غير ذلك . ويرجع هذا إلى أن محصول العام التالي – إذا لم يكن محصولا واعدا – ربما يعادل الطلب عليه سلعا أكثر في الأسواق العالمية عما كان قد جرى التعاقد عليه أصلا . حقا ، بذل تجار الاستيراد والتصدير المصريون الأثرياء جهودا كبيرة لزيادة إنتاج المحاصيل النقدية بالبلاد كوسيلة لمواجهة عجزهم المتزايد عن سداد أثمان الواردات من أوروبا بمجرد وصولها . وصدر مرسوم في عام 1830 ، على سبيل المثال ، يخصص مساحة أكبر لزراعة قصب السكر مقارنة بالعام السابق . وبوسائل كهذه ، حاول التجار المصريون الأثرياء تقليل التكلفة على أنفسهم من الورادات الأوروبية مع الإبقاء على ارتفاع مستويات الواردات .
وقد أتاح زيادة كمية السلع المصنعة الواردة إلى البلاد في نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر للتجار المصريين عدم إزاحتهم من الأسواق المحلية على يد المؤسسات الأوروبية . غير أن هذا البرنامج نجم عنه إحلال مطرد لعمال الصناعة المصرية ، أوجد المناخ لإمكانية اندلاع قلاقل واسعة النطاق في المدن الكبرى والمراكز الصناعية بالأقاليم بلغت ذروتها مع اقتراب هذا العقد من نهايته . فقد وقعت الإضرابات بمشاركة العمال في المصانع التابعة للدولة بالمنصورة في عام 1826 ، وفي عدد من مصانع الأسلحة والذخيرة عام 1827 ، وفي المجمع الصناعي الكبير بالخرنفش في 1828 . وكتب المراقبون الإنجليز والفرنسيون عن حالات استياء عالية المستوى بين السكان في القاهرة والإسكندرية في الفترة من عام 1829-1830 . وفي الوقت نفسه تقريبا غدت أعمال التخريب للصناعة أمرا أكثر اعتيادا في عموم البلاد . ويلاحظ البريطاني "سانت جون" J.A.St. John الذي زار مصر في عام 1830-1831 أنه "لاتوجد منشأة صناعية واحدة أنشأها محمد علي لم تضرم فيها النيران مصادفة أو عمدا . وترتب على ذلك . لم يكن حكام مصر يواجهون فقط المصاعب المتزايدة في السيطرة على الريف في نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر ، بل أيضا التهديدات المتزايدة بالعصيانات المدنية في الأعوام الأولى لثلاثينيات القرن التاسع عشر .
تبنى مسئولو الدولة وحلفاؤهم التجار الأثرياء استراتيجيتين متناقضتين لاستعادة قبضتهم الجماعية على العمال المدنيين بالبلاد في الشهور السابقة مباشرة على عام 1831 . من جانب ، نشرت الحكومة وحدات من القوات المسلحة التابعة للدولة في المراكز الصناعية الأكثر أهمة للحيلولة دون اندلاع القلاقل العنيفة . وفي عام 1828 أصدر مسئولو الدولة أمرا إلى وحدات المشاة النظامية بالعودة من حملة المورة ليتم توزيعها في المدن الصناعية بالدلتا ، خاصة بالمنصورة ، ونبروه والمحلة الكبرى ورشيد . وفي الوقت نفسه ، نفذت الدولة مناورات عسكرية واسعة النطاق حول طنطا لتكفل حفظ النظام أثناء الاحتفال بمولد السيد البدور والمعرض الذي يقام مواكبا له .
على صعيد آخر ، استأنف مسئولو الحكومة موجة ثانية للتصنيع في الأعوام قبل وبعد 1830 . وكان المقصود جزئيا من هذا الإجراء الحفاظ على الموارد المصرية التي كان النظام يعتقد بأنها تتسرب إلى البلاد الأجنبية في صورة مدفوعات للسلع المصنعة المستوردة . بيد أنها كانت أيضا تمثل أسلوبا لمواجهة تأثير هذه الورادات على قوة العمل المحلية بالإضافة إلى كونها وسيلة لإخضاع العمال بالبلاد لهيمنة مركزية أكبر . وبنهاية عشرينيات القرن التاسع عشر بذلت الدولة جهدا ملحوظا لإعادة إنتاج الحرير في الدلتا كجزء من برنامج لاستبدال واردات الملابس الفاخرة بأنواع منتجة محليا . وتم افتتاح مصانع جديدة لحلج القطن في مليج وشبين الكوم والمحلة الكبرى في عام 1827 وفي أسيوط بعد عامين من ذلك . واستنادا إلى مصطفى فهمي كانت المحالج المصرية تقوم تقريبا بتشغيل ربع المحصول الكلي لمصر من القطن طويل التيلة في عام 1830 . وفي عام 1827 تم إنشاء مصنع لغزل النسيج مملوك للدولة في مأوى ، كما تم بناء مصنع جديد للتيلة في بني سويف تقريبا في هذه الفترة .
والأكثر أهمية من هذه المنشآت الصناعية الجديدة كانت جهود النظام المستميتة لإخضاع الصناع المهرة بمصر إلى شكل معين من الإدارة المركزية في عشرينيات القرن التاسع عشر ، والتي بلغت ذروتها . ففي عام 1827 ، تم توحيد صناعة دبغ الجلود في مصنع أنشئ حديثا يشرف عليه مدير فرنسي الجنسية يحصل على أجره من الدولة ، وكانت هذه الصناعة تتولاها في السابق تنظيمات الطوائف بالقاهرة . أما منتجات الكتان ، التي كانت تتم في الأعوام السالفة كصناعة صغيرة (منزلية) ، غدت في ذلك الحين خاضعة لنظام شامل من الإجراءات الحكومية منذ عام 1830 ، وتم افتتاح مصنع للورق تابع للدولة في عام 1831 وذلك للاستفادة من الفضلات المختلفة من مصانع القطن الحكومية والأوراق المستعملة من كافة الهيئات الإدارية الحكومية التي توجد مقارها بالقاهرة .
ومع بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر برهنت هاتان الاستراتيجيتان أنهما غير متوافقتين على نحو متزايد . إذ كان قادة الجيش يفرضون النظام على المناطق المدنية بالبلاد دون اعتبار تقريبا لتأثير أعمالهم على النظم التجارية والصناعية العادية . وفي أبريل 1831 أحاطت وحدات الفرسان في العاصمة بأجنحة التجار الذين يشاركون في معرض تجاري سنوي ، ونقلوا بضائعهم بالقوة ، وجرّوا عددا من هؤلاء التجار لينضموا للقوات المسلحة . وحدثت وقائع مأساوية مماثلة في السوق التجاري المقام بالإسكندرية في ذلك الربيع نفسه . وبدأت فرق عسكرية نظامية تشن غارات على الأكواخ المحيطة بالمدن الكبيرة ، يطاردون العمال الزراعيين الهاربين ، الأمر الذي أعاق بشدة تزويد المصانع ومواقع بناء السفن التي تديرها الدولة بالعمال . وخلقت هذه السلوكيات صعوبات متزايدة للصناعات المحلية كي تعمل بانتظام – وتدنت ربحيتها كثيرا ، ونتيجة لهذا ، سرعان ما غدت المصانع المنشاة في مصر الوسطى مهجورة ، مما حد كثيرا من فرص عمال الزراعة الذين حلوا بدلا منهم في الحصول على وضع معيشي أفضل من السابق . زد على هذا أن السلع المنتجة من المصانع المنشأة بالدلتا في نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر أصبحت مع بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر خاضعة لسيطرة التجار المغتربين ، الذين كانوا يشحنون الملابس رخيصة الثمن إلى تريستي وليفورنو ليعاد تصديرها إلى أمريكا اللاتينية .
لذلك ، ورغم أن كبار ملاك الأراضي في مصر كانوا يواجهون مصاعب اقتصادية خطيرة في الفترة التالية لعام 1828 ، وجد مسئولو الدولة / التجار الأثرياء بالبلاد أنفسهم في وضع أقرب لكونه محفوفا بالمخاطر في المجتمع المحلي . إذ بدأ تجار الاستيراد والتصدير بمصر تدريجيا يفقدون السيطرة على التجارة الداخلية لصالح الوكالات التجارية الأجنبية في نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر . وفي الوقت نفسه كانوا مجبرين على دفع أسعار أعلى للسلع المصنعة المستوردة في محاولة للحفاظ على درجة معينة من الهيمنة على الصناع المهرة وعمالة المصانع بالبلاد . وجعلهم هذا معرضين تماما لجهود منتظمة من جانب النبلاء الجدد لتولي أشكال متباينة من الإدارة المحلية داخل الريف واستخدامها لصالحهم . وكان احتمال اندلاع صراع بين كبار ملاك الأراضي من جانب والدولة / التجار الأثرياء الحلفاء من الجانب الآخر يفاقم منه التركيب الاقتصادي للقطن بمصر في ذلك الحين .
وكما في أجزاء أخرى من العالم ، فقد تشاركت اقتصاديات كبيرة المستوى في حلج القطن المصري المنتج في القرن 19 . وهذه العمليات كانت تحت سيطرة الدولة خلال عهد محمد علي ، وكانت تنفذ بأسلوب يستفيد منه عموما من يتولون مناصب في الإدارة المركزية . غير أنه في الوقت نفسه ، بدأت اقتصاديات كبيرة مشابهة في التأثير على زراعة القطن في مصر ، كنتيجة لكل من الاستثمار الأولى الضخم اللازم لشراء معظم الأنواع السوقية للأقطان ، وكذلك للجهد الهائل المطلوب لضمان الزراعة المناسبة في ريف قاحل إلى حد كبير . وهذا الاتجاه خلق تناقضا أساسيا بين المصنعين والزراع داخل قطاع القطن في اقتصاد البلاد ، نظرا لأن كبار المنتجين كانوا بحاجة إلى بيع محصولهم بأعلى سعر ممكن لحماية استثماراتهم ، في حين كان المطلوب من كبار العاملين بالصناعة التابعة للدولة عرض أقل سعر لشراء القطن الخام من أجل تعظيم العائدات الحكومية . لذلك فإن أي نوع من التعاون للفائدة المتبادلة لهاتين القوتين كان متعذرا من الناحية الفعلية .
وترتب على ذلك أنه في مقابل الشروط الزراعية مثل ما شهدته السنوات التالية لعام 1828 ، وجدت الدولة / التجار أنفسهم في مأزق سياسي على المستوى المحلي ؛ فقد وضعت حالات القصور الملحوظة في القطن كبار المنتجين في وضع أفضل كثيرا في مقابل العاملين بالصناعة والتوزيع عما كان متاحا من قبل . وفقط من خلال التحالف مع الفلاحين والصناع المهرة بالبلاد استطاع تحالف الإدارة المركزية / التجار الأثرياء الحفاظ على هيمنتهم من خلال وسائل محلية بحتة . غير أن الجهود للحد من الزراعة الكبيرة خلق وضعا مناسبا تماما لإمكانية حدوث تغير جذري في العلاقات الاجتماعية بالبلاد – مثل التحول إلى المحاصيل الغذائية أو الإنتاج الصغير . من جانب آخر ، كان يمكن لبرنامج الحكومة في التصنيع أن يعاني بشدة إذا ما حاول التجار تحويل ثرواتهم الاقتصادية أو إعادة التأكيد على هيمنتهم على العمال العمحليين من خلال زيادة كميات مايستوردونه من السلع القادمة إلى البلاد . لذلك فإن الاستيراتيجيات المحلية البحتة التي يمكن أن تستفيد منها الدولة أو التجار بمفردهم قد تفاقم من الصراعات العلنية داخل التحالف الاجتماعي الحاكم . ومثل هذه الاستراتيجيات لا تجدي كثيرا في تجنب عدد من التهديدات الخارجية لأمن التجارة المصرية التي نهضت قبل عام 1831 مباشرة مع شرقي البحر المتوسط ومنطقة البحر الأحمر .
التهديدات الخارجية للتجارة المصرية
مع بداية العقد الرابع للقرن التاسع عشر ، لم تكن حدود مصر مع فلسطين مجرد نقطة ضعيفة فقط – إن لم تكن الأضعف – في المحيط الاستراتيجي للبلاد ، بل كانت أيضا سلسلة حاسمة للنشاط التجاري بين الإسكندرية – القاهرة – السويس من جانب والجزيرة العربية – اليمن – الهند من الجانب الآخر . كانت السلع المصنعة القادمة من أوروبا تعبر دلتا النيل بمصر لكي ترسل إلى البحر الأحمر بكميات كبيرة في غضون تلك الفترة ، بينما تأخذ السلع الهندية والأثيوبية المسار نفسه في طريقها إلى الموانئ الأوروبية . وتتكون الواردات الهندية إلى البحر الأحمر أساسا من النيلة والمنسوجات ، لكي ما إن يغدو الأرز سلعة نادرة أو باهظة الثمن في الأسواق المصرية ، يتم جلب الأرز الهندي إلى البلاد ويباع بأسعار تضخمية . ومع هبوط قدرة تحالف أثرياء التجار / الحكومة على تأكيد وضعهم السياسي الداخلي من خلال معالجة السياسة الصناعية والتجارية بالبلاد مع أوروبا ، تحول اهتمام أعضائه – كما حدث في العقد الثاني من القرن التاسع عشر – إلى البحر الأحمر ، وغدا حماية حصة القاهرة من تجارة هذه المنطقة أمرا حيويا أكثر فأكثر .
اتخذ المسئولون المصريون عدة إجراءات لتشجيع المعاملات التجارية بين السويس والموانئ التي على طول سواحل الجزيرة العربية والسودانية في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر . على أن الجهود الحكومية لتأمين مسار الصحراء الشرقية من القاهرة إلى البحر الأحمر ألغى الحاجة للقوافل التي تشرف عليها الدولة التي كانت تعمل لحماية التجار المسافرين في هذه المنطقة ، كما زاد النظام الحاكم من عدد السفن الحكومية المصرية ، العسكرية والتجارية على حد سواء ، العاملة من ميناء جدة على شاطئ الجزيرة العربية . وهذه الإجراءات ساعدت كثيرا على تهدئة الصراعات بشأن الهيمنة على تجارة البحر الأحمر التي عرضت للخطر التجار العاملين من ميناء السويس في مقابل الذين لهم علاقات بالقصير الميناء القديم . وفي محالة لإحباط المنافسة بين التجار ، عملت الإدارة المركزيةب القاهرة في عام 1830 على تقوية تفوق ميناء السويس الذي تديره الدولة من خلال الدخول في مفاوضات مع شركة أوروبية لإنشاء خط سكة حديد بين القاهرة والسويس . لكن قبل أن تتوحد تجارة البحر الأحمر في أيدي المصريين وأهل السويس ، تعين تأمين حدود مصر من ناحية سيناء . وكان محمد علي يدرك هذا بمجرد أن بدأت الحملات العربية بواسطة الجيوش المصرية بعد عام 1811 ، لكن مع حلول عام 1831 غدت السيطرة على المناطق الحدودية المحيطة لفلسطين أمرا حاسما عما كان قبل تأمين مسار السويس .
بدأت غارات البدو على سيناء من فلسطين تصبح أكثر غزارة قبل عام 1831 مباشرة . وترجع أهم وقائع نشاط البدو هذا إلى حد كبير إلى التطورات في شمال شرقي سوريا ؛ ففي نحو عام 1830 تخلى والي بغداد عن المنطقة المحيطة بالدير وبالتالي سقطت تحت سيطرة البدو . وهذا التحول في الأحداث لم يقتصر تأثيره فقط على توقف المعاملات التجارية بين دمشق وبغداد ، بل إنه أسهم أيضا في ازدياد غارات البدو في جميع أنحاء الشام ، خاصة في المناطق المجاورة لغزة . وحاولت الجيوش المصرية مواجهة هذا الاتجاه عن طريق تحصين المناطق المحيطة بالسويس وإنشاء خطوط دفاعية في العريش . لكن طالما كانت هذه الإجراءات محصورة بالأراضي المصرية – تاركة أفضلية الحركة ، والهجوم والمفاجأة للبدو – فإنها ظلت بلا تأثير لحد كبير .
فضلا عن ذلك ، بات واضحا بحلول عام 1831 أن تحالف الدولة / أغنياء التجار بالقاهرة غير قادر على الهيمنة على تجارة البحر المتوسط من خلال الوسائل البحرية بمفردها . وحازت السفن التجارية الأمريكية التفوق على حركة السفن بهذه المنطقة في عشرينيات القرن التاسع عشر . ونتيجة لنشاطاتها في جنوبي الجزيرة العربية ومياه شرقي أفريقيا ، استطاعت سفن الولايات المتحدة تكديس ثروات هائلة لملاكها في السنوات قبل وبعد عام 1830 . وبينما ظلت المسارات الشمالية من وإلى البحر الأحمر غير مؤمنة ، أمكن توقع أن يبقى وضع مصر في المنطقة محفوفا بالخطر . وأقر عبدالله باشا ، حاكم عكا ، بازدياد وضع مصر غير الحصين وبالتالي تحرك لاستغلال هذا الأمر . ويذكر "بورنج" Bowring : "لقد أنشأ شبكات للمراسلة في كل جزء بالجزيرة العربية" في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر ، وهو ما كان يمثل تحديا مباشرا للتنظيم القائم للتجارة الإقليمية . غلا أن نظام الحكم بالقاهرة كان يستطيع فرض قبضته على الحركة البحرية بالبحر المتوسط إذا كانت حدوده مع سوريا مؤمنة وشاع السلام بالمنطقة . وإلى حد ما كانت إزاحة الأجانبي من تجارة البحر الأحمر هو دافع الحكومة المصرية لاستئناف غزوها لسوريا في خريف 1831 .
الفوائد السياسية الداخلية للتوسع
بالإضافة إلى تأمين الدولة/تجار القاهرة لأهم صلة تربط بين الشبكات التجارية للبحر الأحمر وشرقي البحر المتوسط ، وبالتالي تمكين التجار من تحصيل ربع حمايتهم في هذه التجارة ، كانت هناك ثلاث وسائل أخرى من خلالها أمكن تقوية وضع التحالف الحاكم في مصر بالحملة العسكرية على سوريا في مواجهة كبار ملاك الأراضي بالبلاد وعمال المدن بعد عام 1830 . الأولى ، إعادة فرض التجنيد الإلزامي على جموع السكان الذي عمل بوصفه كابحا للنفوذ السياسي الناهض لملاك الإقطاعيات الكبيرة الصاعدين في الريف المصري . الثانية ، أن الاستيلاء على المناطق الغنية بإنتاج الغذاء في وسط وجنوبي الشام أتاح سبيلا لتدعيم التحول داخل القطاع الزراعي للاقتصاد المصري إلى زراعة المحاصيل – من أجل التصدير . والثالثة ، تمثل الشام كنزا نفيسا للمواد الخام الصناعية ، التي يأمل النظام في القاهرة من استغلالها إعادة تنشيط الإنتاج الصناعي بمصر .
ويمكن رؤية التجنيد العسكري الإلزامي في السنوات بعد عام 1830 كأفضل ما يكون بوصفه محاولة من الإدارة المركزية بمصر وكبار ملاك الأراضي (الإقطاعيين) المتحالفين معهم تحالفا وثيقا لإزاحة الفلاحين المعدمين من الريف الذين كانوا يمثلون عمالا يمكن التعاقد معهم للعمل في أملاك الفلاحين الأثرياء . ومن خلال تعيين ممثلين إقليميين ذوي سلطة لإجبار العمال الفقراء على الخدمة بالجيش ، أتاحت الدولة الفرص لوكلائها لزيادة نفوذهم داخل المجتمعات المحلية ، بينما تهيئ التسهيلات لانتشار الإقطاعيات الكبيرة المعفاة من الضرائب . وأينما يوجد ملاك صغار مستقلون أو صناع مهرة محليون يهددون الهيمنة على نظام الحياة الريفية في أي جزء بالبلاد ، كان مسئولو الدولة يبادرون بإرغامهم على الانضمام للخدمة العسكرية في هذه المنطقة كوسيلة لتأكيد نفوذ حلفائها المحليين .
وفي عام 1830 تقريبا لم يكن صغار الملاك الفقراء قد يرنوا بعد من سياسات التجنيد الإلزامي التي اختطها النظام من 1822-1824 . لكن في بعض المناطق بالبلاد بقيت المشكلة المتنامية حول ما يمكن عمله بشأن نشاطات المنتجين الزراعيين الذين فقدوا أراضيهم السابقة ، والذين يقاومون انتشار زراعة المحاصيل النقدية . وبلغ هؤلاء المزارعون المزاحمون عددا كبيرا خاصة في مناطق زراعة القطن بالدلتا ، وكذلك في مصر الوسطى . وكانت هذه المناطق على وجه الدقة هي التي شهدت تركيز الموجة الثانية للتجنيد العسكري الإلزامي . وفي عام 1828 صدرت أوامر لمشايخ القرى بتجميع الرجال من ذوي البنية القوية الصالحين للجيش وإرسالهم إلى مأموري الأقاليم . وبعد عام من ذلك تم تجنيد 6.800 رجل بأسلوب مشابه من المنطقة المحيطة بأطفيح في مصر الوسطى . وفي فبراير من عام 1831 جرى إجراء ممثال ، حيث أمكن أيضا سحب أغلب هؤلاء المجندين من مصر الوسطى والفيوم .
وجاء إعادة إحياء التجنيد الإلزامي ليتعد مغزاه ببساطة لتأكيد سيطرة الحكومة المركزية على المناطق التي سادتها القلاقل نسبيا داخل مصر في الأشهر السابقة على أكتوبر عام 1831 . فقد أتاح أيضا لمسئولي الدولة بالأقاليم وحلفائهم من كبار الإقطاعيين الفرصة في الإبقاء على شيوخ تلك القرى وخصومهم من البدو في وضع أدنى سياسيا والسيطرة على النفوذ المتنامي للرعايا الأجانب على الشئون الداخلية بمصر . على أن عملايت التجنيد الإلزامي التي جرت في غرب الدلتا ، مثلما حدث في يناير 1831 ، نقلت العمال الزراعيين من المناطق التي اخترقها التجار الأوروبيون وكبار ملاك الأراضي . وبالمثل ، جرت الأمور نفسها بالدلتا والفيوم في كبرى الإقطاعيات الجديدة التي أقيمت بها ، وبلغ الصراع خلال التركيز على آليات التجنيد في هذه المناطق حرمان هذه الملكيات الصغيرة والإقطاعيات التي يديرها أجانب من العمالة غير الماهرة وبالتالي الاحتفاظ بصغار الفلاحين تحت سيطرتهم .
وفي الوقت الذي تم فيه تطبيق التجنيد العسكري الإلزامي في الريف المصري ، أعاد كبار قادة الجيش تنظيم الوحدات التي تحت قيادتهم ، وعلى نحو خاص بدأ ناظر (وزير) الحربية تدريب وحدات الفرسان على النمط الأوروبي في الأعوام الأخيرة من عشرينيات القرن التاسع عشر . وكان يتم استخدام الجنود المدربين حسب الأصول الأوروبية بأعداد متزايدة ، في تزويد السفن الحربية الحكومية وإداراتها والتي تم بناؤها في أحواض بناء سفن الأسطول الجديد بالإسكندرية . وكانت هذه الإجراءات جزءا مكملا لجهود نظام الحكم في خلق طبقة لكبار ملاك الأراضي في البلاد تتضافر معه في مصالحه السياسية . ومع الاستمرار في تنظيم القوات المسلحة المصرية ، احتفظت الدولة / التجار بأهم أساس مؤسساتي للنفوذ السياسي الداخلي للبكوات المماليك السابقين بعيدا عن أن يصل إليه شركاؤهم كبار ملاك الأراضي الناشئون حديثا . ولم يقتصر هذا البرنامج على أن يوفر للدولة / التجار أداة نافذة للاستخدام في الاستيلاء على الموارد الخارجية لمصلحتهم الجماعية ، بل إنه ضمن أيضا أن ملاك الإقطاعيات الجد لن يستطيعوا تطوير أنفسهم إلى نوع من النخبة العسكرية بالأراضي الزراعية التي كان عليها بكوات المماليك مع نهاية القرن الماضي .
وبحلول عام 1831 لم يعد بغمكان الدولة / التجار في مصر الاحتفاظ بوضعهم المهيمن داخل المجتمع المحلي من خلال القيام بتوزيع السلع الأوروبية المستوردة أو إنتاج المصانع المحلية بطريقة تتيح في الوقت نفسه السيطرة على الصناع المهرة بالمدن وإبقاء كبار الإقطاعيين بالريف في وضع التابع . فقد غدت الواردات باهظة الثمن مع نهاية عشرينيات القرن 19 ، بينما أخفقت المصنوعات المحلية في التغلب على حالات القصور التنظيمية والإدارية الأساسية . وفي ظل هذه الظروف ، كان للنظام مصلحة حيوية في الهيمنة على منطقة تنتج السلع الزراعية والصناعية لتلائم كأفضل ما يكون استكمال اقتصاد المحاصيل النقدية المزدهر في مصر . وكان الشام هو هذه المنطقة بالتحديد .
وفي السنوات حول عام 1831 كان يتم زراعة العديد من المحاصيل الغذائية المهمة في سهول سوريا ووديانها . واشتمل هذا الإنتاج على الشعير والقمح والدخان والعدس والسمسم بكميات كبيرة . وأمكن لهذه المحصايل الغذائية الأساسية أن تحقق أقصى فائدة لتحالف الدولة / التجار في مصر في صراعها ضد كبار الإقطاعيين الناشئين بالبلاد ، وعمال المصانع وصغار ملاك الأراضي الزراعية . وبتوجيه هذه المحاصيل الغذائية إلى الأسواق المصرية استطاع النظام أن يضمن إخضاع عمال الزراعة والصناعة بالبلاد ، والتالي حث خصومهم المحليين على التركيز على إنتاج المحاصيل النقدية وغيهرا من سلع التصدير . لم يعد من الضروري إعطاء عمال الزراعة قطع أراضي كبيرة لاستخدامهم الخاص من أجل إنتاج محاصيل سيئة لعدة سنوات أو في السنوات التي يهبط فيها الطلب على الصادرات المصرية ، مادامات مخازن المصادر الرئيسية للدولة تحتوي على مايكفي للحفاظ على بقائها على قيد الحياة . وبالتالي بات هؤلاء العمال يعتمدون أكثر على إعانة تدبرها الحكومة ليس فقط خلال فترات الركود بل أيضا في كل الأحوال ، شأن ما كان يفعله ملاك الإقطاعيات الذين يحتاجون لقوة عملهم . وترتب على ذلك أن اختط النظام سياسة الإبقاء على ، دون مساس فعلي ، تركيب مليكات الأراضي السورية التي استولى عليها ، وجمع الضرائب من الشوام المحتلين غالبا بصورة عينية وليست نقدية . ولعل هذه الإجراءات تعكس في جانب منها احتياج الحكومة الدائم للعوائد . بيد أنها تمثل جهدا للاستحواذ ليس فقط على النقود ، بل أيضا على الإنتاج الزراعي بالشام .
في أعقاب تهدئة الأوضاع في الريف عن طريق جيوش إبراهيم باشا ، شجع المسئولون المصريون استمرار زراعة المحاصيل الغذائية الأساسية ، وزيادة حجم المحاصيل النقدية في جميع أنحاء الشام . وعلى نحو خاص فإن اهتمام نظام الحكم المكثف بالتوسع في إنتاج الحرير "أفضى إلى نهوض سريع في مساحة الأراضي المخصصة لزراعة أشجار التوت . ولم يتوقف الأمر عند حد الفلاحين الذين حولوا أراضيهم لأشجار التوت ، بل بدأ سكان المدن في شراء أو تأجير الأراضي ، واتخاذ إجراءات من شأنها مقاسمة الفلاحين في هذه الحاصلات . وازدادت الأراضي المخصصة لزراعة أشجار التوت من 25% إلى 50% ، كنتيجة مباشرة لتشجيع المصرين . وأظهر إنتاج الزيتون القطن والدخان قفزات مماثلة في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر . وكان المراقبون الأجانب مأخوذين بشكل خاص بالتغيرات الجديدة في زراعات القطن التي تم إدخالها في المناقط المحيطة بنابلس ، مؤكدين أنها تفوق كثيرا مثيلتها المزروعة في الشمال . على أن الثقة في الأرباح التي يمكن جنيها من زراعة المحاصيل النقدية أقنع حتى التركمان والرعاة الأكراد في سهول أضنة بالتخلي عن أعمال الإغارة على مسارات التجار في شمالي سوريا والقبول بشكل مستقر للمعيشة .
وفضلا عن السلع الزراعية ، كانت الشام تنتج مدى واسعا من السلع المصنعة في ذلك الحين ، وأهمها على الإطلاق المنسوجات . وكان الحراير المنسوجة في قرى ومدن الساحل الشامي ترد إلى مصر في أوائل القرن التاسع عشر . وكانت المنسوجات القطنية والمصنعة ، والموسلين والملابس الحريرية صناعات قائمة بالفعل في حلب أثناء الاحتلال المصري . وكانت الملابس الصوفية من منتجات المنطقة المحيطة بهذه المدينة سواء للاستهلاك المحلي أو للتصدير إلى فرنسا وليفورنو وتريستي بإيطاليا . وكانت ورش المنسوجات في حلب وكذلك في دمشق تمثل مصدرا موثوقا للسلع عالية الجودة للأسواق المصرية . كما أنها كانت بديلا لمراكز تصنيع الملابس في أوروبا ، إذا أنها استطاعت أن تزود تحالف الدولة / التجار في مصر بأساس قوي لاستمرار هيمنتهم المحلية . لذلك لم يكن مستغربا أنه تم احتكار هذه المؤسسات في أول فرصة لاحقة ، وسرعان ما تم وضع عمال الصناعة الشوام تحت الإشراف الوثيق للمصانع الحكومية المصرية التي تم إنشاؤها بالمنطقة . ومن خلال هذه الوسائل استطاعت الدولة / التجار في مصر توفير السلع الفاخرة للأسواق المحلية دون الاعتماد على التجار الأوروبيين المقيمين بالقاهرة والإسكندرية . كما استطاعوا الحد من قوة العاملين في صناعة المنسوجات المحليين ، الذين كان وضعهم السياسي يهدد بالتحسن مع استمرار ارتفاع أسعار المنتجات الأوروبية .
أكثر من هذا ، كانت الشام تزود المحتلين بمدى كبير من المواد الخام الصناعية . وتؤكد بالمراسلات بين إبراهيم باشا ومحمد علي الأهمية التي يوليها كل منهما لأخشاب الغابات في شمالي الشام ، إذ كتب إبراهيم لأبيه في عام 1833 : "وبالنسبة لبنودنا التالية ، فإن حافزنا للمناطق في الأناضول ، وقيلقية وألايا هو احتياجنا للأخشاب . فالبلاد التي لديها أساطيل تحتاج إلى الأخشاب . ويلاحظ وليم بولك William Polk أن استغلال غابات البلاد كان غالبا هو أول ما جذب انتباه إبراهيم باشا في الشام . وخضعت الأخشاب لاحتكار الحكومة . وأقدمت الحكومة على توظيف عمال القطع والتشذيب وغيرهم لتوصيل الألواح الخشبية إلى ميناء الإسكندرونة ، وتؤخذ من هناك إلى الإسكندرية . وفي عام 1839 بلغ حجم الأشجار المنقولة سنويا ما بين 70 ألف شجرة . ويبدو أن القاهرة كانت تتوقع أن جبال لبنان تحتوي على مناجم فحم وخام الحديد بكميات كبيرة . واستخدم المسئولون المصريون الفلاحين اللبنانيين في أعمال السخرة بمناجم الفحم بالمنطقة ، إلا أنه فتر اهتمامهم بهذا المشروع عندما اكتشفوا أن هناك صعوبة بالغة في نقل المنتجات نتيجة تكاليفها العالية . وتكفل زلزال شديد بإزالة مناجم الفحم والحديد بعد أن ضرب الشواطئ اللبنانية في عام 1837 .
وبكل هذه الوسائل وفر التوسع العسكري في الشام موارد حيوية لتحالف الدولة / التجار الحاكم في مصر وفي وقت كانت فيه الصراعات السياسية على الموارد الشحيحة داخل البلاد باتت تزداد حدة . فضلا عن ذلك ، بينما كانت الحملة تشق طريقها باستخدام قوات مسلحة نظامية من المجندين إلزاميا ، فإنها أدت إلى إضعاف كبار ملاك الأراضي الزراعية بمصر على الأقل من خلال وسيلتين هامتين : وضع التجنيد الإجباري القوة العاملة الزراعية التي كان يعتمد علهيا ملاك الإقطاعيات ذات الإنتاج التجاري تحت هيمنة الإدارة المركزية . وفي الوقت نفسه حالت تماما دون نشوء نخبة عسكرية زراعية داخل البلاد . كما ساعد التجنيد الإلزامي على إعادة تأسيس هيمنتة الحكومة على أسواق المنسوجات بمصر وعلى باقي الصناع المهرة المستقلين ، الذين بدا وضعهم بتحسن بالنسبة للتجار مع بدء معاناة التجار من مشاكل ميزان المدفوعات وغيرها من الصعاب المتعلقة بالسلع المستوردة . ومما يتعين بيانه فيما تبقى هو السبب في استطاعة مسئولي الدولة / والتجار الأثرياء بمصر أن تكون لهم الغلبة ، عن طريق التوسع الخارجي ، وفي هذا الصراع السياسي المحلي أساسا رغم العارضة لاواضحة من كبار ملاك الأراضي الناهضين ومشايخ القرى ، وصغار الملاك ، والفلاحين المعدمين ، والصناع المهرة بالمدن وعمال المصانع .
أسس قوة الدولة/التجار بعد عام 1830
ترجع قدرة الدولة/التجار في مصر على إحراز الغلبة في صراعاتها السياسية مع أقوى خصومها المحليين أثناء أول حملة على لاشم إلى ثلاثة عوامل . الأول : واصلت المجتمعات الريفية في مصر تركيبها وفق أسلوب أتاح لوكلاء الدولة في الأقاليم حيازة مميزات لافتة للنظر في مقابل كلا من كبار الملاك الأثرياء والفلاحين الفقراء على المستوى المحلي . وذكر كل من "جون بورنج" John Bowring و"باتريك كامبل" Parrick Campell أن القرى كانت مسئولة مجتمعة عن دفع الضرائب خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، كما يلاحظ "كلوت بك Clot – Bey في ذلك الحين .
ونظرا لأن كبار ملاك الأراضي حاولوا استعادة الهيمنة على قوة العمل وجمع الضرائب من الريف في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر ، فإن مأموري الأقاليم وجدوا أنهم المستفيدون من معارضة الفلاحين لهذه التغيرات . وليس معنى هذا القول إن عمل مسئولي الدولة في القرى كان تلقي دعم الفلاحين : فرغم كل شيء فإن هؤلاء الموظفين أنفسهم كانوا هم المنفذين لسياسات النظام في التجنيد الإجباري . وعلى الإجمال ، ما لبثت مقاومة الفلاحين لانتشار المحاصيل النقدية الجديدة وترتيبات ملكية الأراضي ، في إطار المجتمعات القروية المتماسكة ، أن قوضت من وضع مشايخ القرى وملاك الأبعاديات في مواجهة الفلاحين ، وأبقتهم في وضع أدنى مقابل الإدارة المركزية وحلفائهم من أثرياء التجار . وتنامت هذه الميزة النسبية وغدت واضحة للفلاحين ، حتى إن العمال الزراعيين في الإقطاعيات التجارية الكبيرة المملوكة لأقارب الوالي وأقرب زملائه كانوا إلى حد كبير معافين من التجنيد الإجباري بالجيش .
وفي الوقت نفسه ، استمر تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء بمصر يمتلكون عددا من المميزات التنظيمية تفوق خصومهم المحليين . وظلت العلاقات العائلية بين القطاع التجاري الأجنبي أمرا شائعا . ويلاحظ "بيتر جران" Peter Gran في عام 1833 إن رئيس مجلس التجار بالقاهرة هو أحمد الغربي ، وشقيقه محمد كانا من أشهر تجار العاصمة ، وأخوه الثاني اسمه أحمد أيضا وكانت له علاقات تجارية واسعة مع شمال أفريقيا . فضلا عن ذلك ، فإن أفراد الأقليات كانوا يحوزون وضعا مهيمنا في الشئون التجارية بمصر . فقد انتشر التجار اليونانيون في أنحاء البلاد في أعقاب حملة إيجة . وذكر البارون "دي بوالكونت" DE Boislecomtre في عام 1833 أن نحو ثلاثة أرباع الأجانب بالإسكندرية يتألفون من المالطين واليونانيين . وهذه الجاليات ينضم إليها مجموعات صغيرة من الأرزمن الذين لهم صلات وثيقة مع "بوغوص باشا يوسف" Boghos Pasha ، وكذلك بالعائلات الشامية الشهيرة ليوسف البقطي والإخوان بحري Bahri ، ويذكر توماس فيليب أن حنا بك بحري ترقى إلى رتبة البكوية في الإدارة المالية . وفي عام 1820 أصبح على نحو ما مستشارا خاصا للشئون السورية . وكانت العلاقة بين الأمير بشير الثاني ومحمد علي قد توطدت عبر حنا البحري وقريبه بطرس كرامة الذي كان في الوقت نفسه السكرتير الأول للأمير بشير الثاني . وفيما بعد أصبح حنا المدير العام للمالية والتنظيم في الحملة على لاشام . ومن عام 1832 حتى عام 1840 كان يهيمن على كافة أوجه افدارة المدنية في الشام . وجعله هذا ، من الناحية العملية ، وإن لم يكن رسميا ، والي دمشق . واصبح شقيقه جرمانوس Jirmanus مساعدا له في رئاسة إدارة حلب . وهذه العلاقات كان من المتعذر تحديها .
العامل الثاني ، والأكثر بروزا ، أن طوائف التجار بالقاهرة والإسكندرية كانوا مع نهاية عشرينيات القرن التاسع عشر قد أصبحوا أكثر اندماجا في جهاز إداري مركزي وثيق الصلة بجهاز الدولة .و يقول "جران" Gran : "إن صورة اكثر دقة للطبقة الحاكمة التي برز في عام 1830 قد تشمل أسرة محمد علي ، والقادة الألبان والأتراك ، والتكنوقراط الأجانب ، وممثلين مجلس التجار الجديد" . وقد تأسس مجلس التجار في عام 1826 بفرعيه في القاهرة والإسكندرية ، وفي عام 1826 أضيف إليه مجلس للمفتشين ليكون مسئولا عن تقديم التقارير عن الشئون الزراعية والتجارية في جميع أنحاء البلاد . وفي هذا التنظيم الجديد ، لم تعد لدى شيوخ مختلف الطوائف سوى مسئوليات لا تزيد عن تدبير شئون الطائفة ، ولم يعد لدى باقي مسئولي الطائفة أي وظائف يؤدونها . وبعد عام 1820 تقريبا يتضح أن رؤساء الطوائف التجارية يستمرون في مناصبهم لفترات تقل كثيرا عن السابق ، وهذا الاتجاه أتاح نفوذا أكبر لكبار أعضاء الاتحاد الذي يقدم النصائح لشيوخ الطوائف ككل . ومن الناحية الفعلية باتت صراعات المصالح بين التجار وقوى الدولة مستبعدة في ظل هذا التنظيم الجديد ، الذي مكن الدولة / التجار من تنسيق السياسات التجارية والصناعية داخل البلاد على نحو لايتيح للإقطاعيين الناشئين أو الصناع المهرة المدنيين أن يتوافق معه .
الثالث : أتاح النام الحكومي الخاص بمخازن الدولة لتحالف الإدارة المركزية / التجار الأثرياء بدقة الموارد التي يمكن استخدامها للإبقاء على الوحدات النظامية العسكرية . وقد تم إنشاء هذه المخازن (المستودعات) خلال السنوات ألأولى لعهد محمد علي ، أساسا كوسيلة لتيسير تدفق المحاصيل النقدية إلى يد الدولة من أجل التصدير . لكن عندما انكمش إنتاج القطن في مصر في عام 1830 تقريبا ، استمرت المخازن تتلقى إمدادات الحبوب وغيهرا من المواد الغذائية من الأقاليم . وهذا الأمر جعل بمقدور الدولة / التجار مساعدة عدد كبير من الناس في أواخر عشرينيات القرن التاسع عشر ، وأوائل الثلاثينيات ، حتى مع انخفاض عائدات الحكومة من التجارة الخارجية . وترتب على ذلك أن كانت الدولة في موقف تستطيع من خلاله تجنيد وتزويد أعداد أكبر من العسكريين ، ف يالوقت الذي فقد فيه الإقطاعيون الناشئون قدرتهم على الحفاظ على المخازن الكبيرة من الاستيلاء المسلح . وفي ظل هذه الظروف حاز تحالف الدولة / التجار الأثرياء في مصر ميزة مهمة في مواجهة كبار ملاك الأراضي بالبلاد فيما يتعلق بالبرامج العسكرية خلال السنوات قبل وبعد عام 1831 .
الفصل السادس: الخاتمة
يمكن التوصل إلى إجابة مرضية تماما عن سبب أن مصر بادرت بشن سلسلة من الحملات العسكرية على جيرانها خلال الثلث الأول من القرن التاسع عشر بالوضع في الاعتبار إطار الصراعات السياسية التي دارت داخل البلاد أثناء العقود الأولى لعهد محمد علي . في هذه الفترة كان نظام الحكم يتألف من تجار الاستيراد والتصدير الأثرياء ، وكبار العلماء والموظفين الأكثر ثراء داخل الجهاز الإداري المركزي بالقاهرة المنهمك في صراعات متواصلة لترسيخ هيمنته على الشئون الداخلية بالبلاد – في البداية في مواجهة أولئك الذين يسيطرون على الإقطاعيات الزراعية الكبيرة بالمناطق الريفية بمصر (وإن كانت فيما بعد بالتعاون مع نخبة زراعية جديدة) ، ودائما في مواجهة التحديات السياسية من الصناع المهرة والحرفيين المحليين سواء بالمدن أو الأقاليم . وكل قوة من القوتين اللتين تؤلفان هذا التحالف الحاكم كانت لها مصالح اقتصادية وسياسية أساسية تتعارض مع مثيلتها لدى حليفها . لكن مع تنامي قوة الصناع المهرة داخل المدن المصرية واتخاذ العنف السياسي الحضري طابعا دائما بعد عام 1800 ، انتهت هذه القوى الثلاث إلى اقتسام مصلحة مشتركةف ي قمع الاضطرابات الداخلية .
وبالتعاون معا على المستوى السياسي ، استطاعت ههذ القوى أن تعالج مسألة العصيان الحضري بنجاح فاق كثيرا إمكانية أي قوة منها أن تعالجه بمفردها . ولم يكن بمقدور مسئولي الدولة إيقاف التمردات الحضرية بأنفسهم خلال هذه السنوات ؛ فإن تحالفا يضم الحرفيين والتجار المعارضين كان بإمكانه منع الحكومة من إحكام قبضتها على لامدن . وإذا كانت الدولة قد حاولت فرض النظام داخل المدن والمراكز بالبلاد من دون التعاون الفعال مع التجار الأغنياء ، لذهبت هذه الجهود عبثا ، وربما ساعدت على تصاعد مستوى العنف السياسي الداخلي بدرجة كبيرة . وفي واقع الأمر ، يمكن تصور أن الدولة ، إذا كانت قادرة على التصرف بمفردها ، لكان اهتمامها أقل بإخماد العنف الحضري من أجل تعزيز سلاسة عملية تحصيل الضرائب من النشاطات الاقتصادية أكثر من السماح للتمردات الحضرية بالاستمرار حتى النهاية لزيادة هيمنتها على الشئون الداخلية . وبالطريقة نفسها ، لم يكن باستطاعة التجار الأثرياء قمع الصناع المهرة بالبلاد بمفردهم عن طريق إدارة التجارة الخارجية لمصر بعد عام 1805 أو نحوه . وفي هذا الوقت لم يكن أصحاب الصناعات بالمدن على درجة من القوة تتيح لهم السيطرة دون نوع معين من الترتيبات العسكرية ، لكن أيضا كان لديهم خبرة عملية لعدة سنوات في تنظيم أنفسهم من أجل التمرد على نظام الحكم . لذلك لم يكن باستطاعة إداريي الدولة أو التجار تحقيق مصالحهم السياسية المحلية إذا تصرف كل منهما بمفرده .
غير أن التعاون كان على الإجمال غير ملائم لكل قوة من هاتين القوتين مادام أن التعاون كان قد انحصر أساسا في الشئون الداخلية . وقد استفاد تجار مصر الأثرياء من فترة الهدوء الاجتماعي الداخلي ، لكن بدأت تصيبهم أضرار اقتصادية وسياسية عندما تبنت الدولة بداية خاصة بتنظيم إدارة المهن الحرفية والصناعات من أجل الحفاظ عليها . وتنظيم إدارة المهن الحرفية ، أو احتكارات الدولة ، جعلت من هؤلاء التجار عملاء للجهاز الإداري للدولة ؛ وبالتالي وضعتهم تحت الهيمنة المركزية . وخضعت الصناعات لإجراءات ضريبية فرضت قيودا على لانشاطات التجارية للتجار الأثرياء وأرباحهم وفي الوقت نفسه بدأ برنامج لإحلال الواردات يقوض أسس وضعهم في مقابل القوى الأخرى بالمجتمع المصري . وبالتالي كان لا يمكن تجنب الصراعات الناجمة عن هذه البرامج مادام اهتمام النظام الأساسي منصبا على المجال الداخلي .
على صعيد آخر ، وفر التوسع العسكري الخارجي أساسا للتعاون بين هاتين القوتين أمكن أن يحقق لهما فوائد متبادلة ؛ وبالتالي بث فيهما حيوية سياسية ، وأتاحت سياسة التوسع التي خففت تكاليف الحماية للتجار في تجارتهم الخارجية – لهم إحياء جهود الحكومة في تنظيم إدارة عمليات الاقتصاد المحلي . ونظرا لقدرة التجار الأثرياء على الاستفادة في هذا الإطار من التعاون مع الدولة ، استطاع التحالف الحاكم بالبلاد أن يديم أمد بقائه . أكثر من هذا ، عن طريق احتلال الأقاليم المجاورة ، حاز حكام القاهرة السيطرة على الموارد الاقتصادية التي أمكن استخدامها في تفويض الوضع السياسي لخصومهم المحليين . وتباينت الموارد الأكثر أهمية للدولة / التجار حسب تغير طبيعة النشاطات الاقتصادية داخل مصر مع استمرار محمد علي في الحكم . ففي البداية ، استمد الدور التقليدي للقاهرة كمركز تجاري للسلع الفاخرة قوته عن طريق غزو السواحل شمال شرقي البحر الأحمر وأجزاء من السودان . وفي منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر تضافرت أهمية التجارة المصرية في شرقي البحر المتوسط وتوفر الذرة والقطن بأراضي اليونان على جذب الدولة / التجار إلى منطقة بحر إيجة . وفي النهاية ، فغن ثروة سوريا من السلع المصنعة والمواد الخام وفرت لحكام مصر الوسائل لتنفيذ برنامجهم المزدوج الخاص بتطوير الصناعة والإنتاج الزراعي اللازم للتصدير . وبإيجاز ، فإن هذه الديناميكية السياسية الداخلية تفسر القوة الدافعة العامة للسياسة الخارجية لمصر بين عام 1805 و 1835 .
ويمكن تفسير التوجهات البارزة للحملات العسكرية المتميزة التي شنتها القوات المسلحة لمصر خلال هذه السنوات عن طريق التغيرات قصيرة الأجل في توزيع السلطات بين القوى الاجتماعية بالبلاد .
أولا : حددت هذه التغيرات توقيت الحملات العسكرية الثلاث الواردة تفصيلا في هذا الكتاب . إذ شكلت كل فئة من الحملات العسكرية تلبية من التحالف الحاكم بالبلاد في عمليات تزايد قوة التحديات السياسية الداخلية . وتميزت التحديات الموجهة لنظام الحكم بالشدة على نحو خاص عندما تضافرت القوى الريفية والمدنية . وكقاعدة عامة ، عندما يوضع منتجون زراعيون في موقف سياسي قوي نتيجة ازدياد الطلب على منتجاتهم ، وفي الوقت نفسه يجد الصناع المهرة بالمدن والريف أنهم قادرون على الثورة على نظام الحكم ، يتم وضع قوى الدولة / التجار في موقف غير حصين بشكل خاص . وعندما يستجيب مسئولوا الدولة لهذا الظرف بزيادة هيمنتهم على الشئون الاقتصادية الداخلية لمصر ، تجري بعض المحاولات لاحتلال أراض جديدة تكون مواردها قادرة على حل الصراعات بين الإداريين في المركز وحلفائهم التجار الأثرياء .
ثانيا : لقد حدد أسلوب توزيع النفوذ السياسي في مصر طبيعة الإصلاحات الفنية والتنظيمية التي كانت تجري في القوات المسلحة لنظام الحكم خلال عصر محمد علي . فقد تم تشكيل وحدات لسلاح الفرسان من المجندين إلزاميا ، وكذلك وحدات تابعة للأسطول كوسيلة للهيمنة على العمال الزراعيين والمدنيين غير المنضبطين على نحو متزايد ، ليس كتقليد أعمى للأفكار الأوروبية . وبالتالي وفرت العوامل السياسية المحلية تفسيرا موثوقا به ليس فقط للاندفاع العام للسياسة التوسعية لمصر خلال هذه السنوات بل أيضا للتوقيقت ، وتحديد المدة ، وغيهرا من الملامح الهامة لكل حملة كبيرة شنت خلال عصر محمد علي .
ومن دواعي الإغراء الإستنتاج من هذه السلسلة من الوقائع النتيجة العامة بأن التوسع الخارجي عزز الأمن الاقتصادي والازدهار لأولئك الأفراد بالتحالف الحاكم لأوائل القرن التاسع عشر بمصر الذين كانوا يعانون أشد الصعوبات في أي وقت آخر . وعلى الإجمال ، أولئك هم غالبا التجار . إذ أن التجار الأثرياء بالقاهرة كانوا مستهدفين لتقلبات بالغة في أسس حياتهم المادية عما كان عليه الأمر بالنسبة لمسئولي الدولة خلال العقود الأولى للقرن التاسع عشر ، ويرجع ذلك لحد كبير لاعتمادهم على السوق العالمي لإمدادهم بالسلع التي يتعاملون فيها والطلب عليها . وبالتالي يرتبط ازدهار التجار على نحو وثيق بالسياسة التوسعية لمصر خلال عصر محمد علي . وكانت الحملات العسكرية المتتالية يعجل منها لحد كبير المشاكل الدورية للتجار الأثرياء في الحفاظ على وضعهم الاقتصادي والسياسي في مناطق المدن بمصر .
غير أن استنتاجا كهذا ربما يقودنا إلى استخلاص أن الدولة في مصر كانت مجرد أداة لتلجار بين عامي 1805 و 1835 . وهذا على وجه الدقة نوع من التبسيط الوظيفي للتحليل الطبقي الذي يتعين استبداله بدراسة أكثر دقة حول التعاون والصراع بين القوى الاجتماعية الأكثر نفوذا بالبلاد . ومن منظور هذه الدراسة ، ربما يكون الأكثر دقة القول إن التحالف الحاكم لمصر تعامل كوحدة واحدة في الاستجابة للمشاكل السياسية لأضعف أعضائه خلال هذه السنوات . وكانت الجهود المبذولة للسيطرة على الموارد الخارجية حقا نتيجة للشروط التي تهدد على نحو استثنائي النخبة التجارية للمجتمع المصري في أوائل القرن التاسع عشر . وبهذا المعنى المحدد ، لعل السياسة التوسعية رغم هذا كانت ظاهرة برجوازية في عهد محمد علي . غير أنه إذا ما تركت القوى التجارية بمفردها ، فحتى في هذا المجتمع لم تكن تستطيع تنفيذ إستراتيجية توسعية ، ولا كانت تملك بالضرورة مصلحة في الاضطلاع بها . بل لم يكن ليحدث ذلك ما لم يلجأ التجار الأثرياء للعمل من منطلق المصالح المتبادلة بالتعاون مع الدولة لقمع كل من الاضطراب السياسي الداخلي والتحديات الخطيرة لهيمنتهم (المتبادلة) إلى حد تبني سياسات خارجية عدوانية كوسيلة لتماسك تحالف الدولة / التجار المتناقض غالبا . وفي ظل هذه الظروف كان التوسع الخارجي يشكل أهم طريق حيوي لهذا التحالف الحاكم بالبلاد للدفاع عن أنفسهم في مواجهة التحديات المحلية ، وفي الوقت نفسه بدون تفويض موقف أي منهما في المجتمع المصري .
حالات مقارنة
من بين كل الولايات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية ، كانت مصر هي الوحيدة التي تحتوي على المزيج الصحيح للصراعات الداخلية ، وجهاز الحكم ، والتناقضات داخل نظام الحكم لتطلق شرارة سياسة توسعية خارجية في أوائل القرن التاسع عشر . وكانت الأنظمة المصاحبة للوالي أحمد بك في تونس (1837-1855) ، والوالي داود باشا في بغداد (1817-1831) تقوم بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والإدارية على غرار ما قام به نظام محمد علي في القاهرة ، بيد أن تأثير هذه السياسات والأطر السياسية الداخلية التي تم تبنيها داخلها كانت تختلف على نحو ملحوظ عن مصر . ونتيجة لذلك ، فإن الأزمات المتراكمة المتعلقة بهاتين الولايتين لم توفر حافزا يدفع التحالفات الحاكمة في كل منهما لتباشر برنامجا خاصا بالسياسة التوسعية الخارجية .
وعلى مدى ثلاثة عقود كانت تونس تعاني من انكماش اقتصادي في بداية القرن التاسع عشر ، بدأ بسنوات مجاعة متتالية في أعوام 1816 ، 1817 ، 1818 . وبعد فترة انتعاش قصيرة الأجل في قطاع الزراعة في المدة 1824-1826 ، أعقبها محصول هزيل على مدى عامين في الفترة من 1828-1829 وجفاف كارثي في عام 1830 . ونجم عن الصلة بين هاتين الواقعتين وضع أصبحت فيه . تونس تملك قوة عاملة محدودة ، وتراجعت المساحات المنزرعة ، ولم تعد البلاد تستطيع إنتاج ما يكفي لاحتياجاتها . وفي الوقت نفسه تهاوت قيمة العملة التي سكتها الحكومة المحلية باطراد ، وفي زمن حكم أحمد بك ، أصبحت قيمة القرش التونسي تعادل نصف قيمته تقريبا منذ خمسين عاما مضت . وترتب على ذلك أن زادت صادرات زيت الزيتون إلى مرسيليا لاستخدامه في صناعة الصابون المنتشرة في هذه المدينة ، وإذا ما جاءت بعض المواسم بإنتاج منخفض بات الحاكم عاجزا عن تسليم الكميات التي وعد بها للوكلاء التجاريين الفرنسيين ، وتمكنت المصالح الأجنبية من إحكام قبضتها على الأراضي الزراعية وعلى عمليات تشغيل الزيوت في جميع أنحاء الولاية .
وفي ظل هذه الظروف تحول نظام الحكم الجديد لأحمد بك إلى إعادة تنظيم نظام الضرائب بالبلاد بعد فترة قصيرة من توليه السلطة في أكتوبر 1837 . وخضع أصحاب أشجار الزيتون على السواحل لتقديرات رفعت بشدة الضرائب السنوية بداية من عام 1840 "وكان المطلوب منهم سداد القدر نفسه سنويا سواء كان المحصول جيدا أم سيئا" . وبعد فترة قصيرة بدأ فرض الضرائب على الفواكه والخضراوات والدواجن المباعة في الأسواق المحلية ، وتلاحظ "ليزا أندرسون" Lisa Anderson أنه : "كانت الضرائب على الحيوانات – بنسبة 25% من ثمن بيعها – أول ضريبة جادة تفرض على البدو الرعاة من مجلس الوصاية على العرش" . غير أن محاولات تعزيز درجة الإشراف المركزي على جامعي الضرائب بالمنطقة في الريف أخفقت بسبب تقسيم العمل طويل الأمد لكن غير الرسمي الذي خلف عدم وجود منافس قوي داخل الإدارة بين (1) ولاة الإمارة المسئولون عن النظام العام وإدارة جيدة لكن مجرد جامعي رسوم الضرائب ، (2) عمل محدد لجامعي الضرائب ، (3) قسم منفصل للحسابات . وكنتيجة "كان مهمة الولاة تنحصر في جمع الضرائب ، وكل من الولاة وجامعي الضرائب كانت لهم المصلحة نفسها في الحصول على أكبر قدر ممكن وكانوا يقمعون الاحتجاجات . ولم تكن لدى طبقة الموظفين سلطة فرض المعايير" . وقد تعزز هذا الوضع من خلال اوضع المستقل نسبيا الذي أعده ولاة الأقاليم (قادة) لأنفسهم في منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، واستنادا إلى "كارل براول" L-Carl Brown : "كان يميل كثيرا لممارسة هذه السيطرة على الآخرين إلا على نحو عشوائي فيما عدا الحالات الاستثنائية ، والقائد يعرف ذلك أيضا . فأي رجل غير أمين لكنه ليس شديد الطمع يمكنه أن يستفيد كثيرا . وأي رجل أمين مهتم بأداء الوظيفة باقتدار تمنح له حرية أدائها" . وهذا الترتيب أدى إلى تفاقم ما أسماه "براون" Brown تحفظ ملحوظ في قبول القيادة القائمة "في جميع أنحاء الريف التونسي ، المتأصل في حاجة القرويين إلى الحماية من غارات قبائل البدو بقصد السلب والنهب .
زد على هذا ، أن تركيب العلاقات الاجتماعية في القطاع الصناعي التونسي كمان يعمل ضد العمل السياسي واسع النطاق من جانب القوى التابعة داخل البلاد كرد فعل على الأزمات التي نشبت في أوائل القرن التاسع عشر . ويلاحظ "لوسيتي فالنسي" Lucette Valensi أن صناعة النسيج كانت تتوزع على عدة مناطق ، كل منها تنطوي على علاقات مختلفة تماما بمختلف نواحي الإنتاج . وفي مناطق البدو إلى الجنوب الغربي من العاصمة ، كانت تجري عمليات الغزل والنسيج للاستخدام العائلي فقط ؛ وفي واحات الجنوب ، كانت تتم هذه الأنشطة في ورش عائلية وتجهز للبيع في الأسواق المحلية ، بالرغم من أن "الإنتاج استمر تنظيمه في إطار محلي ، فإن حلول الصناع المهرة لم يصبح عملا منفصلا عن عمل الفلاحة" ، في المدن الكبرى التابعة لجربة والساحل – وكذلك في تونس وبنزرت وصفاقس والقيروان – وقد تركز انتشار الصناع المهرة في أسواق المدن ، رغم أنه من رأي فالنسي Valensi "لم تصبح المنسوجات من ضمن السلع في واقع الأمر نظرا لأنها لم تمر عبر القنوات التجارية" ، حتى عندما تم تصديرها إلى ليفورنو وبلاد المشرق . وفي ضوء ملامح صناعة الملابس المحلية هذه ، لعلنا لانتوقع أن الحرفيين المدنيين يمتلكون الموارد أو الهوية الاتحادية اللازمة للانخراط في عمل جماعي . وحتى عندما سلحهم النظام للمساعدة في قمع تمردات الحامية التركية في تونس عامي 1811 ، 1816 ، فإن سكان المدن في ضاحية باب سويقة أدركوا القليل عن استقلال أو مبادرة أنصار السيد عمر .
الأكثر أهمية ، يبدو أنه تمت جهود لإنشاء قوات مسلحة على النمط الغربي من تونس على نحو حد من درجة توقف الاقتصاد المحلي . وتم تشكيل القوات النظامية على مستوى صغير بداية من الفترة 1831-1832 . وبكلمات أندرسون Anderson : "جاءت بدايات تشكيل الجيش النظامي متواضعة ؛ ففي 1835 ، لم يكن هناك سوى 1800 جنيد في الوحدات الجديدة" . وخلال هذه السنوات الخمس الأولى بعد إنشائه ، أعاق النبلاء المحليون باستمرار محاولات القادة العسكريين لزيادة حجم القوات ، وأعاقوا جهودهم في عمل قائمة شاملة بالفلاحين المؤهلين للتجنيد الإلزامي . واستمر نظام أحمد بك في اعتماده على الأتراك والسباهية والمماليك المتطوعين في شغل وحدات الفرسان ، بينما كان يتم بدقة تسريح الجنود الإلزاميين من وحداتهم المستقدمة من الساحل مع إحلالهم ببدائل كافية . هذا الإجراء مكن أسر الجنود الذين وقعت عليهم القرعة "ان تداعب الأمل بأن التجربة ربما تعاد ، وأن هذه المجموعة قد تعود إلى موطنها بعد عدة سنوات" . أكثر من هذا ، لم يكن التجنيد العسكري الإلزامي مصحوبا بتغييرات أساسية في ملكية الأراضي التي ولدت تحولات في الطلب على العمالة الزراعية شبيهة بالتغيرات التي ميزت مصر في عهد محمد علي ، رغم أنها استلزمت برنامجا ممتدا للتصنيع العسكري . لذلك فإن الإصلاحات التي نفذها قادة (ولاة) تونس في عهد أحمد بك كانت دافعا فقط لتمردات متفرقة ومعزولة جغرافيا ، ركزت لحد كبير على النزاعات المحلية أو المظالم . وهذه الأعمال لم تجسد سوى تحديا محدودا للتحالف الاجتماعي المهيمن ، وتم قمعها بيسر نسبيا .
فقط ومع تفكك البرنامج الإصلاحي الذي نفذه أحمد بك أقدم النظام على شن حملة عسكرية خارجية واسعة النطاق . ففي يوليو عام 1852 تعرض البك إلى ضربة متعمدة ، وبعد ستة أشهر أقنعه مستشاروه بتسريح القوات النظامية للدولة لتخفيف الضغوط التي يسببونها لمالية البك . وهذا الإجراء كان تلخيصا للانحطاط المطرد لسلطة الإدارة المحلية في مواجهة ممثلي القنصليات الأوروبية المقامة في العاصمة ، وهو اتجاه تسارع بعد رجوع محمد بن عياض المستشار المالي لأحمد بك إلى باريس بعد أن قضى زمنا طويلا في منصبه ، قبل شهرين من إصابة البك بالجلطة . وفي سبتمبر عام 1854 ، تدخل القنصل الفرنسي نيابة عن مسئول محلي بارز على نفس المستوى وهو فرحات جلولي ، مما دفع البك إلى الرد بانفعال : "ألم أعد أنا مسئولا عن بلدي؟ من منا يدير هذه البلاد؟ إلى أي حد سيتم سحب رعاياي من تحت سلطتي؟ واستنادا إلى "براون" Brown . كتب القنصل في تقريره "أخذ بعض الوقت في تهدئة البك "في أعقاب هذا الانفعال .
وبمواجهة ليس فقط تفكك برنامجه العسكري – الاقتصادي الشامل ، لكن أيضا الضغط الزائد من الإنجليز والفرنسيين للبقاء على الحياد في الأزمة المتصاعدة حول القرم ، تبنى النظام في ربيع عام 1854 إعادة نظام التجنيد الإجباري ، لفرض عدد من الضرائب الباهظة ، للتعاقد مع "مجموعة من تجار جربة المقيمين في إسطنبول لتوفير ما يحتاجه جنود حملة عسكرية أثناء وجودهم بالميدان" ، ولإرسال نحو 6 آلاف جندي للقتال إلى جانب جيش السلطان ضد الروس . لكن قبل التمكن من توحيد الجهد الحربي ، مات أحمد بك . وأقدم خليفته على تخفيض إسهام تونس في الحملة العثمانية تخفيضا كبيرا ، وسرح التشكيلات العسكرية النظامية بمجرد عودتهم إلى أرض الوطن . والمغامرة بكاملها في رأي براون : "عجلت من اليوم الذي يلجأ فيه البك إلى بعض القروض الأجنبية الربوية ومطالبات الضرائب التي لاترحم من الرعايا التونسيين – اندفاع مجنون بعيد عن الواقع .. يؤدي حتما إلى ثورة سنة 1864 ، وإلى إشهار الدولة إفلاسها في سنة 1869" . وسواء كانت هذه النهاية المنتقصة من القدر مبررة أم لا ، يبقى لافتا للنظر أن تونس لجأت إلى النشاط العسكري الخارجي فقط بعد بدء انهيار إصلاحات النظام ، مما أدى إلى بروز صراعات متزايدة الخطورة بين مجموعة من الإصلاحيين القدامى المحصنين في الإدارة المركزية للبلاد وطبقة نامية من تجار الاستيراد والتصدير يعملون تحت حماية القناصل الأوروبيين .
وتوفر العراق في أوائل القرن التاسع عشر حالة ثانية فشلت فيها أزمة تراكم في أن تكون قوة دافعة لبرنامج خاص بالتوسع الخارجي ، ولكنها جاءت مصحوبة باضطرابات اجتماعية وسياسية . ومنذ عام 1800 حتى 1824 عانى القطاع الزراعي التابع للباشا في بغداد من مصاعب مستمرة تجتمعت عن هجمات البدو على المناطق المستقرة ، وهجرات كبيرة من القبائل شبه المستقرة ، ونشوب حروب دائمة بين وحدات القوات المسلحة للولاية ، والجيش الكردي ، وجنود موالين لجيرانهم أتباع الإقطاعيين ولأسرة القاجار في إيران . وأدت هذه المصاعب إلى انخفاض ملحوظ في الأراضي المنزرعة بالمناطق في شمال وجنوب العاصمة ، ونقص مقدار الفوائض الناجمة عن الحصاد في الأراضي الزراعية الأخرى بالبلاد . وجاء رد فعل الملتزمين المحاصرين على الانخفاضات المتكررة في الإنتاج الزراعي بزيادة مستوى الضرائب على ممتلكاتهم ، وهو ما أوجد اشكالا لولبية " اتجهت نحو الإقلال من عمل المزارعين إلى مستوى عمل سيزيف" . (نسبة إلى أسطورة سيزيف الذي كان يحمل حجرا ليصعد به إلى قمة معينة لكنه لايلبث أن يقع الحجر قبل وصوله لنقطة النهاية ليعيد الكرة من جديد – م) والأهم من ذلك ، فإن الضرائب الثقيلة المفروضة على المزارعين في الريف نادرا ، إن لم تكن تماما ، ما تحولت إلى عوائد كبيرة للإدارة المركزية : ووجد الولاة المتعاقبون في بغداد أنفسهم مضطرين إلى فرض ضرائب باهظة خلال الثلث الأول للقرن التاسع عشر للاحتفاظ بوضعهم المالي والسياسي في المجتمع المحلي . وفي خريف عام 1815 ، قطعت الإدارة المركزية "شوطا كبيرا" بأن أصدرت أمرا إلى القوافل التجارية بين البصرة وحلب بالمرور على بغداد ، من أجل أن يتسلم الوالي مدفوعات الجمارك مرتين" .
وفي منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر ، واجه والي المماليك في بغداد سعيد باشا ، وضعا سياسيا – اقتصاديا يتعذر الدفاع عنه : "نضوب الموارد المالية ، تصاعد القلاقل القبلية ، وأعمال اللصوصية لتفوق وسائله المحدودة على السيطرة ، ركود تجاري ، مناطق الأكراد تتصرف باستقلالية ، استياء بين سكان المدن الذين تقدموا باحتجاجات متزايدة على ارتفاع الأسعار في مواجهة نقص الغذاء وضلوع كبار مسئولي الحكومة في المضاربة على أسعار المواد الغذائية" . وهذه الظروف حفزة داود باشا القائد العسكري السابق الطموح على تجمعي أنصار له من كبار ضباط الجيش ، ومن بين قادة القبائل المحيطة ببغداد ، ومن بين نخبة العاصمة حرس جورجيا من أجل الإحاطة بسعيد باشا من السلطة . واستنادا إلى القنصل الفرنسي بالمدينة فقد تلقى هذا التحالف دعما قويا من سكان المدن أيضا :
السكان الذين يعاون الأسعار المرتفعة ، وندرة الطعام ، إلخ . كان الناس يفضلون وضع نهاية لنظام سعيد باشا الضعيف ، فإنه فقط من خلال استعادة النظام تحت قيادة وال قوي مثل داود باشا يمكن إيجاد ظروف معيشية معقولة . والأمر نفسه كان صحيحا لمعظم التجار وكل المهتمين بالهيمنة على المسارات التجارية ، بطبيعة الحال مع استبعاد تلك المسارات وثيقة الصلة بالنظام . وبات التجار الأثرياء خصوما لسعيد باشا نظرا لحقيقة أنهم مضطرون لسداد ، من خلال القروض الإجبارية ، جزءا من مصروفاته السياسية الأساسية مثل مدفوعاته للباب العلاي من أجل تثبيته في موقعه . وكان التجار المسيحيون ، بشكل خاص ، على علاقة مسيئة مع سعيد .
وبادر سكان حي الشيخ بالثورة عند ارتفاع أسعار الحبوب في خريف عام 1816 ، واندلعت التمردات في أنحاء العاصمة . وانتهز القادة الموالون لداود باشا التمرد لدخول بغداد ، واحتلوا القلعة ، وأعدموا سعيد باشا واعتقلوا أنصاره .
وحالما فرضوا قبضتهم على المدينة ، أعلن داود باشا وحلفاؤه خفض الضرائب تخفيضا كبيرا ، وعينوا مسئولين للإشراف على إصلاح قنوات الري في الريف وإعادة نشاطها ، واستنوا برنامجا لبناء المصانع يشابه تقريبا ما فعله نظام محمد علي في مصر . وهذه السياسات ، بالتضافر مع حملات عسكرية ناجحة لاستعادة النظام حول الموصل والبصرة ، أعادت ملء الخزانة المركزية ووضعت أسس تحسين المحاصيل الزراعية خلال العامين التاليين . ومع ذلك ، نظم رجال القبائل المنشقين في المناطق الشمالية والجنوبية لأراضي الباشا تمردات واسعة النطاق ضد الإدارة المركزية اندلعت فعليا بين عامي 1817 و 1824 . وقطع رجال البد المتمردون عدة مرات مسارات التجارة التي تصل بين البصرة وبغداد وحلب ، بينما الخان المجاور لكرمنشاه وقطع الأسطول البحري البريطاني الراسية في الخليج قد قطعوا الطريق بصورة دورية على السفن المحملة بالبضائع والقادمة إلى البلاد . وأدى عدم الاستقرار الاقتصادي المتواصل بالضباط ذوي النفوذ من حرس جورجيا إلى نسج مؤامرة للإطاحة بداود باشا بدعم ضمني من بعض أفراد أسرة بابان قوية النفوذ ؛ وتزامنت هذه النشاطات مع احتمال متنام لعصيان عسكري شعبي في العاصمة ما إن ارتفعت أسعار المواد الغذائية مرة أخرى بعد موسم الحصاد الكارثي في سنة 1819 . إضافة لذلك ، تفشي وباء زحف على البلاد في الفترة من 1820-1821 ، رغم ما يبدو من أنه أصاب مدن الأقاليم بدرجة أشد مما حدث في بغداد .
في ظل هذه الظروف ، أعاد نظام داود باشا نشر جنود الإنكشارية المرابطة بالعاصمة في صيف عام 1821 . وكان قد تم تسريح هذه القوات قبل تسع سنوات بعد أن وجه تجمع الأغوات أصحاب النفوذ تحديا للأسرة المملوكية من أجل السيطرة على القوات المسلحة ببغداد . ووفرت عملية نشر قوات الانكشارية وطائفة الجزارين وسكان حي الشيخ وحي باب الوسطاني . وبعد عمليات انتقامية محدودة ضد التجار الأثرياء المشتبه في تخزينهم للسلع الغذائية ، وضعت نشاطات قوات الانكشارية المعاد تشكيلها أساسا للنظام بالمدن العراقية والمراكز الكبرى . وفي عام 1826 اندمجت رمسيا القوات المرابطة في بغداد والبصرة والحلة في قيادة القوات النظامية للدولة ، وهو تطور سهل من إجرائه التخلص من جنود الانكشارية باسطنبول في العام نفسه ، الأمر الذي حث الجنود بالعراق على أن يصبحوا أنصارا نشطين لاستمرار استقلال المماليك عن السلطان العثماني .
على أن مجموعة التجار الأثرياء ببغداد أذعنوا للسياسات التي نفذها نظام حكم داود باشا لسببين رئيسين : استمرار اعتماد التجار بصورة أساسية على الإدارة المركزية ، وكان الكثير من أبرز العائلات الشهيرة يحتلون مواقع الذروة في المجتمع المحلي . وإلى مدى أبعد بكثير من تجار القاهرة ، فإن تجار بغداد والمدن العراقية الأخرى كانوا يدينون بسبل معيشتهم لمسئولي الدولة الذين يقومون بتوزيع الاحتكارات التجارية والصناعية . وكان العديد من هذه الاحتكارات تخضع لمراجعة سنوية ؛ نتيجة لعجز التجار الأثرياء عن تأكيد ملكياتهم من حيث الواقع أو من خلال حق الإرث . وترتب على ذلك ، وحسب كلمات Tom Nice wenbuis : "معارضة النظام القائم .. أدت بسهولة إلى ضياع الحقوق الضرورية ، وكانت الشراكات مع مسئولي الدولة غالبا مفضلة" . إذ أن هيمنة الدولة على التجار أحالتهم إلى مجرد تابعين ، وأطاحت بأي شكل من أشكال التناقضات داخل النظام والذي كان مميزا لمصر في عهد محمد علي .
إضافة إلى ذلك ، خلال الثلث الأول للقرن التاسع عشر : "كانت طبقة التجار بالمنطقة من غير العرب على نحو متزايد" ، باستثناء المناطق الشمالية حول الموصل . فقد كانت أهم المؤسسات التجارية العاملة في بغداد تتألف من عائلات فارسية مغتربة ، وعائلات يهودية محلية ، وعائلات من الأرمن لهم صلات وثيقة بحلب . وتمتعت المؤسسات اليهودية خصوصا بعلاقات عميقة بأقوى جماعات المماليك نفوذا ، ومع ذلك : "فإن المسيحيين سواء في الموصل أو بغداد في تلك الفترة كانوا يلقون غالبا احتراما أكبر من اليهود" . فق وبعد انهيار نظام داود باشا عام 1831 بدأ تجار البلاد يحرزون وضعا سياسيا بارزا تبعا لموقفهم الاقتصادي ، وذلك لحد كبير من خلال التعاون المتزايد مع الممثلين التجاريين للإنجليز والفرنسيين الذين انتقلوا إلى العراق من المراكز التجارية بإيران وجنوبي الخليج . وقفز معدل الورادات الأوروبية الداخلة إلى البلاد ، في أوائل ثلاثينيات القرن التاسع عشر نتيجة لذلك ، مما أدى إلى تحطيم المؤسسات الصناعية المنشأة في عهد داود باشا.
والأكثر بروزا في هذا السياق عن العراق في أوائل القرن التاسع عشر أن النظام في بغداد أتيحت له فرصة مؤكدة لانتهاج سياسة خارجية توسعية بمجرد صعود داود باشا للسلطة ، لكنه تجنب تبني هذا البرنامج . ووجد حكام البلاد الجدد أنفسهم منهمكين في مواجهة عسكرية طويلة الأمد مع حكام كرمنشاه في الفترة من 1819 إلى 1823 . وتدرج هذا الصراع من نزاعات على الحدود ترجع إلى بداية القرن ، عندما استولت القوات الإيرانية على المناطق المحيطة بالسليمانية ، وكوى سنجق وزاحو ؛ وبذل داود باشا جهدا مضنيا لاستعادة السيطرة على هذه الأراضي ، لكن على وجه الإجمال : "حاول الحيلولة دون حرب صريحة ، وإدارة حوار والتفاوض لأقصى حد ممكن بدلا من خوض قتال باهظ التكلفة وغير ناجح ضد المدفعية الإيرانية المتفوقة" . وحتى بعد أن مات الخان السابق على غير توقع لإصابته بالكوليرا ، وبرهن الخان الجديد على عجزه عن مواصلة الحرب بينما يحاصر في اوقت نفسه الجيوش الروسية في جيب إلى الشمال ، فقد فشل النظام العراقي في استغلال هذه الفرصة الإستراتيجية .
في نوفمبر 1823 ، تفاوض داود باشا لإبرام معاهدة صلح ، لكن بثمن باهظ ، وكانت المبالغ المطلوبة للفرس ، والسيطرة التي مازالت محدودة لبغداد على مناطق الأكراد الجنوبية التي يوافق عليها الباب العالي تعتبر نتيجة طيبة للمفاوضات ، لكنها تعد علامة أخرى على ضعف الهيمنة المملوكية في المناطق الواقعة اسميا تحت سيطرة قيادة بغداد . وبقيت جيوش الفرس في السليمانية ، مركز الأكراد العراقيين في تلك الأوقات ، حتى منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر .
ويستنتج Nieuwenhuis أنه "ما لم يكن هناك بديل مباشر لداود باشا ، فإن الحرب أجبرت حتى المعارضة على مساندة داود باشا أو القبول به ، وإن لم يكن قبولا خالصا . لكن كانت هناك فرصة لطريق يتيح مجالا للدولة تمارس فيه هيمنتها على بعض موارد السلطة .
وتأسيسا على التناول المقدم هنا ، من الأرجح أن نظام داود باشا استجاب للتحديات المحلية الخطيرة في أواخر العقد الثاني للقرن التاسع عشر ، وأوائل عشرينياته على نحو حد من الصراعات بين أعضاء التحالف الاجتماعي الحاكم ، وبالتلاي تخلص من الحاجة إلى تنفيذ برنامج يعزز التوسع الخارجي . ويوفر Nieuwenhuis بعض الشواهد على إمكانية صحة هذه الفرضية : حتى مع تصاعد المواجهة مع خان كرمنشاه ، فقد واجه حكام بغداد سلسلة من التمردات القبلية ، خصوصا تلك التي جرت في زبيد إلى الشمال وعبيد بالجنوب . والانهماك في المناوشات مع هذه القبائل أسفر عن خسائر كبيرة لتجارة بغداد عن طريق سلب شحنات البطاطس" و"قطعت خطوط الاتصال ، خاصة بين بغداد والبصرة . وفي الوقت نفسه ، أفضت نشاطات قبيلة عنيزة إلى توقف قوافل التجارة المتبادلة عبر الصحراء من البصرة إلى حلب ، وأغار قطاع الطرق علىمسار القوافل على طول نهر الفرات . وقد تفادى داود باشا هذه الاعتداءات من خلال تزاوج بارع بين التفاوض مع رؤساء القبائل المتمردة والتعامل مع منافسيهم الداعين للانقسامات داخل قيادات العشائر الكبيرة . أكثر من هذا ، يبدو من المحتمل أن أعمال السلب التي نفذها البدو أدت إلى توفير دعم قوي من التجار للوالي ؛ حتى رغم أن أخطر منافس لداود بين النخبة المملوكية تصادف وهرب إلى إيران .
لذلك يتضح أن الصراعات المحلية ترتبط بالسياسة التوسعية الخارجية إلى حد كبير شأن الوضع في مصر في عهد محمد علي ، وتونس في عصر أحمد بك ، والعراق في فترة داود باشا . وفي البلدان الثلاث جميعا ، أدت أزمات التراكم إلى تبني حملات عسكرية متماسكة فقط عندما واجهتهم تحديات قوية على التحالف الاجتماعي المهيمن ، وعندما حاول النظام مواجهة هذه التحديات من خلال سياساتكانت تهدد بشق التحالف الحاكم . وفي تونس حدثت أزمة طال مداها دون أن تولد معارضة لحكام البلاد واسعة الانتشار أو جيدة التنظيم خلال النصف الأول للقرن التاسع عشر . وفي العراق ، كان النظام قادرا على الاحتفاظ بهيمنته في مواجهة التمردات المتكررة من خلال إجراءات أدت إلى تقوية تكاملية المصالح السياسية والاقتصادية للقوى المختلفة التي كانت تؤلف التحالف الاجتماعي المهيمن . ويتعين أن تجري بحوث أكثر تفصيلا عن هاتين الحالتين قبل أن نصل إلى استنتاج أنهما يوازيان ما حدث في عهد محمد علي . غير أن الخطوط العامة لكل حالة منهما تبدو واعدة ، إذ تعزز مصداقية تفسير السياسة التوسعية لمصر في مطلع القرن التاسع عشر كدالة للصراع الاجتماعي المحلي .
تطبيق معاصر
بعد 159 عاما من الإطاحة بداود باشا كحاكم لبغداد على يد جيش عثماني بقيادة علي رضا باشا ، اجتاحت جيوش العراق جارتها دولة الكويت . وهذا الغزو كان مؤشرا بارزا على بلوغ أوج خيط طويل من تأكيد الحكومات المتعاقبة في بغداد أن أراضي الكويت جزء اقتطعه الإنجليز من العراق ، الذين كانوا يرغبون في الحيلولة بين العراق ووصوله للخليج والاحتفاظ بالهيمنة الغربية على الاحتياطات البترولية الكبيرة التي تم اكتشافها في الكويت في عشرينيات القرن العشرين . على أن الحكومة الوطنية بقيادة نوري السعيد ، بينما كانت تصارع المؤسسة الليبرالية للملك غازي للسيطرة على دولة العراق في شتاء 1938-1939 ، أطلقت حملة دعائية تطالب بدمج الكويت مع العراق . وأعاد نظام عبدالكريم قاسم الأكثر وطنية تأكيد مزاعم العراق في الكويت في سياق مناوراته مع الأحزاب الشيوعية بالبلاد والحزب الوطني الديمقراطي وغيرها من التنظيمات السياسية لفرض الهيمنة على الجمهورية الجديدة خلال منتصف عام 1961 . وفي مارس عام 1973 احتلت قوات عراقية نقطة على حدود الكويت في السميطة ، بينما كان حلفاء أحمد حسن البكر وصدام حسين يختتمون المراحل الأخيرة من أعمال تصفية منافسيهم التي دامت خمس سنوات داخل حزب البعث والسيطرة على مجلس قيادة الثورة . غير أن أيا من التأكيدات العراقية المبكرة أو التحركات لم يحدث لها أن بلغت مستوى الغزو الذي شنته في أغسطس عام 1990 .
وعلى غرار الحملات العسكرية المصرية في مطلع القرن التاسع عشر ، حدث الاجتياح العراقي للكويت في إطار تصاعد حاد لأزمة التراكم الداخلي . وفي ختام ثمانينيات القرن العشرين ، تبني النظام في بغداد سلسلة من السياسات تهدف إلى تشجيع نمو المشروع الخاص وعلاقات إنتاج السوق في الشئون الاقتصادية بالبلاد ، داخليا وخارجيا على حد سواء . وبدأت شواهد هذا البرنامج منذ عام 1985 ، عندما بيعت 42 منشأة صناعية تابعة للدولة إلى القطاع الخاص ، وفي 1987 ، ومع بيع 47 شركة حكومية إضافية للقطاع الخاص أيضا ، بدأت العجلة تستمد قوتها الدافعة . ومع استكمال هذه المرحلة الثانية من الصفقات ، بات القطاع الخاص يحوز موطنا متينا في الصناعة الثقيلة المحلية وتصنيع المواد الغذائية ، واستكمل هيمنته القائمة في الصناعات الخفيفة ، والبناء والعقارات . وتأكد التزام الحكومة بالخصخصة في خريف ذلك العام مع استبدال وزير الصناعات الثقيلة بمدير شركة الاستثمار الصناعي العربي ، وفي الوقت نفسه إنشاء هيئة جديدة للتخطيط تكون مسئولة عن تحديد مدى جدوى المشروعات الجديدة للقطاع الخاص والإشراف على مؤسساته في أنحاء البلاد .
وأفضت هذه الإجراءات إلى نقص حاد في رأس المال في الاقتصاد العراقي ، والذي حاول مسئولو الدولة التخفيف من آثاره بزيادة الافتراض من المؤسسات المالية الخارجية . وبلغ إجمالي الدين الخارجي للبلاد نحو 50 مليار دولار في أغسطس 1987 ، و"نسبة متزايدة بشدة" منه جاءت من البنوك التجارية الخاصة التي لاتقدم خصما على أسعار الفائدة . فضلا عن ذلك ، ونتيجة لاستمرار الحرب العراقية الإيرانية ، كان الاقتصاد المحلي يعاني من توقفات طويلة في تدفق الآليات الحيوية وقطع الغيار القادمة من الموردين بالخارج ، كما أن المصاعب التي واجهتهم في الحفاظ على إنتاجية المصانع المحلية أدت إلى استقالات إجبارية لوزيري الداخلية والتجارة في نهاية الصيف . وجاء رد فعل النظام على الأزمة في عام 1987 بزيادة سرعة عجلة الخصخصة لتشمل فعليا جميع قطاعات الاقتصاد المحلي . وقام مسئولو الحكومة بتأجير الأراضي الزراعية المملوكة للشركات الحكومية إلى ملاك من القطاع الخاص ، وقدموا الدعم لأنشطة المستأجرين الجدد من خلال قروض منخفضة الفائدة من بنك التعاون الزراعي . وأقدموا على فتح الأسواق المحلية لواردات القطاع الخاص والوكلاء التجاريين وضاعفوا احتياطيات البنوك التجارية شبه المستقلة سعيا لتوسيع عملياتها في الإقراض والاستثمار . وفي أوائل فبراير عام 1988 أعلن وزير التجارة عن زيادة مخصصات الدولة بنسبة 22% في تمويل واردات القطاع الخاص ، بالإضافة إلى زيادة نسبتها 13% لرؤوس الأموال المتاحة لاستيراد سلع رأسمالية جديدة لكل من شركات القطاعين العام والخاص . وازداد الاتجاه صوب تقوية الخصخصة من خلال مرسوم رئاسي صدر في ذلك الخريف يشجع على زيادة المنافسة من جانب المشروعات الخاصة ؛ وفي أول أكتوبر أعلن النظام عن إعفاء الاستثمارات الصناعية الجديدة للقطاع الخاص من الضرائب ، وكذلك من إعداد إجراءات المشاركة في الأرباح على حد سواء طوال السنوات العشر الأولى من بدء عملياتهم .
وفي الوقت نفسه استبدلت الهيئات الحكومية ضوابطها في السيطرة على الأسعار على نطاق واسع على السلع التي تنتجها شركات القطاع الخاص . وجاء رفع السيطرة على الأسعار ليؤثر بدرجة أساسية على زيادة تكلفة المدخلات ، خاصة للشركات الخاصة العاملة في الصناعات الخفيفة ، وهو ما أرغم هذه الشركات على أن تتحمل – أكثر من أي وقت مضى – عبء منتجاتها النهائية . والأهم من ذلك ، أدى إلغاء السيطرة على الأسعار لارتفاعها بحدة على السلع الغذائية مثل البيض والدواجن والفواكه والخضراوات المزروعة محليا . وأفضت زيادات الأسعار بوزير التخطيط في أول سبتمبر لإصدار توجيهات تحث على الإكثار من الاستثمارات في مزارع الدواجن وتربية الماشية وإنتاج الحبوب ، ومزارع الأسماك . وأخذت المشاكل الناجمة عن التضخم جزءا كبيرا من جداول اجتماعات القيادة العراقية القطرية لحزب البعث ومجلس قيادة الثورة في الشهر التالي ؛ ووجه الرئيس صدام حسين في هذه النقاشات تحذيرا شديد اللهجة لتجار القطاع الخاص بألا يتورطوا في ابتزازات الأسعار . لكن لم يكن قد عاد هناك مجال لفرض السيطرة على الأسعار ، ولم يثمر التحذير إلا قليلا من الناحية العملية .
وحظيت الخصخصة بقوة دافعة في الربع الأخير لعام 1988 . وذكر وزير المالية حكمت عمر الحديثي للمراسلين الأوروبيين في أوائل أكتوبر أن الخطوة التالية في إعادة تنظيم وخصخصة الاقتصاد العراقي ستشمل المصارف والمؤسسات المالية . وكانت المرحلة الأولى في هذه العملية إنشاء بنك استثماري جديد يعمل بنفس شروط بنك الرافدين ، وبالتالي حفز درجة كبيرة من المنافسة في الشئون المالية المحلية . وكان سيتتبع هذا الإجراء الترخيص بتأسيس عدة بنوك مختلطة الملكية يديرها مديرو الرافدين السابقون ، الذين ستقدم لهم عروض مغرية للاستقالة من مناصبهم الحالية لينضموا للمؤسسات الجديدة . وفي منتصف نوفمبر وضع مسئولو الدولة خططا من شأنها إنشاء منطقة حرة للمشروعات الصناعية . وبدلوا يقدمون إغراءات لشركات ألمانية وكورية للإسهام في مشروعات مشتركة مع الشركات المحلية . وفي الوقت نفسه تم إنشاء شركة جديدة تكون أغلبية حملة الأسهم بها من القطاع الخاص "مع موافقة مكتب الرئيس" من أجل تصنيع التمر المزروع محليا وتصديره . وكان هذا الإجراء مؤشرا للتنازل عن لجنة التمر العراقي التابعة للدولة التي انهارت عملياتها بشدة من خلال مرسوم سابق أتاح لتجار القطاع الخاص شراء التمر مباشرة من الفلاحين ، وبالتلاي يمكن تجنب الإجراءات المفروضة من هذه اللجنة .
وفي أول ديسمبر عام 1988 ، أعلنت وزارة الصناعة والتصنيع الحربي عن عرض 70 مصنعا تابعا لها للبيع . وكانت المنشآت المعروضة أساسا شركات صغيرة تعمل في تصنيع المواد الغذائية ، والمنسوجات ومواد البناء . وأضاف متحدث رسمي باسم الوزارة أن الدولة ستستمر في إدارة الشركات التي أخفقت في إنتاج المواد التكنولوجية المتقدمة أو صناعات التصدير ، بينما توفر المواد الخام اللازمة والخبرة للمصانع المخصخصة . وفي الوقت نفسه طرحت وزارة المالية إنشاء سوق للمال لتيسير بيع وشراء الأسهم للشركات المساهمة في القطاعين الخاص والمختلط ، وأشادت بالبنك الصناعي لجهوده في تحفيز تجارة الأسهم . وفي الربيع التالي ، وضعت وزارة الصناعة والتصنيع الحربي خططا لبيع الصناعات المعدنية وباقي مصانع الصناعات الخفيفة : "لن تكون هناك أفكار عن التجميع في السياسة التصنيعية للوزارة" ، حسبما ذكر مديرها للمراسلين في نهاية إبريل . وبدلا من ذلك ستوجه الوزارة اهتمامها للبحوث والتطوير إضافة إلى التنسيق بين المشاريع المشتركة مع المؤسسات الأجنبية .
وفي 20 إبريل 1989 تبنى مجلس قيادة الثورة قانونا جديدا يسمح للوكلاء التجاريين من القطاع الخاص للعمل كسماسرة بين الهيئات الحكومية والشركات الأجنبية . وهذا الإجراء ، المعروف بالقانون 45 لسنة 1989 ، أزال جميع المعوقات عن نوعية السلع التي يجلبها هؤلاء الوكلاء إلى البلاد ، كما سمح للوكلاء باستيراد السلع الرأسمالية التي تصل قيمتها إلى 100% من عمولاتهم وباقي السلع حتى 30% من عمولاتهم . وبعد ثلاثة شهور وافق مجلس قيادة الثورة على إدخال تعديلات في القانون المتعلق بتنظيم عدد المكاتب الفرعية التي تعمل من خلالها الشركات الأجنبية بالبلاد . وسمحت القواعد الجديدة للشركات بفتح فروع بالتعاقد مع وكلاء محليين بدلا من الوكالات الحكومية ، وهو ما أتاح الفرص إلى حد كبير أمام المؤسسات التجارية من القطاع الخاص . ونتيجة لهذه التعديلات في التنظيمات التجارية ، قفز معدل الواردات الداخلة إلى البلاد القادمة من الولايات المتحدة خلال النصف الأول من العام .
وفي خريف 1989 اتخذت الإدارة المركزية أولى خطوات مؤقتة لخصخصة صناعة البترول العراقي ، وهو القطاع الوحيد في الاقتصاد المحلي السابق استبعاده من حملة الخصخصة . وذكر وزير البترول لمراسلي الإعلام في 6 سبتمبر عام 1989 أن وزارته ستضع خططا من خلالها تطرح للبيع خزانات وناقلات البترول المستخدمة في نقل أسطوانات الغاز الطبيعي : "كحافز إضافي للعاملين في القطاع الخاص في محطات البترول ومراكز توزيع اسطوانات الغاز" . وسوف يقدم الملاك الجدد امتيازات في الفوائد على مدى عدة سنوات لا تقتصر فقط على وسائل النقل نفسها بل تتعداها إلى منتجات الوقود التي يوزعونها . وصدرت قائمة بالمواد المتاحة أمام تجار القطاع الخاص لجلبها للبلاد باستخدام عملاتهم الأجنبية في أول نوفمبر وهي الأثاث ، شاحنات تحوي أجهزة تبريد ، آلات المزارع المعدات الكهربائية من مختلف الأنواع بأغلب ملحقاتها . وأعقب ذلك صدور قائمة إضافية في نهاية الشهر بعد الإعلان عن نتائج الشركات الحكومية لخدمات البيع والتجارة التي أوردت أن معدل نشاط المؤسسات التجارية للقطاع الخاص زاد عن التوقعات خلال الشهور الثمانية الأولى من العام . ومع نهاية عام 1989 ، أعلن بنك التعاون الزراعي عن خطط لطرح قروض طويلة الأجل منخفضة الفائدة لدعم بناء شبكة من مخازن القطاع الخاص مجهزة بثلاجات حديثة في خطوة لدع التنمية الزراعية والإسراع منها ، بينما توجهت الدعوة للقطاع العام للاستثمار في شركة للمواد الصيدلانية منشأة حديثا تابعة للقطاع الخاص .
ومع مطلع العام التالي تصادعت بعض الاحتكاكات في خصخصة تجارة الجملة بين مديري القطاع العام من جانب ورجال الصناعة والتجار بالقطاع الخاص من الجانب الآخر . وأفردت ميزانية الدولة لعام 1990 موارد أكبر للاستثمارات الصناعية والزراعية غير أنها خفضت دعم الحكومة لتمويل الواردات بنحو 70 مليون دينار عراقي . وفضلا عن ذلك أشار المخططون بالدولة إلى أن وزارة الصناعة والتصنيع الحربية سوف تستأنف دورا أكبر في تزويد المصانع المحلية بالمدخلات الضرورية ، من الناحية الظاهرية كوسيلة لخفض العجز المتراكم في ميزان المدفوعات . زد على ذلك ، ذكر نائب رئيس الوزراء سعدون حمادي للمراسلين في 28 ديسمبر من عام 1989 أن الإدارة المركزية تضخمت بدرجة كبيرة ، وأن مكتب الرئيس وزرع مذكرة على كل الهيئات الحكومة "تدعو إلى تعديلات تنظيمية اكثر ، من المحتمل أن تشمل الزائدين عن الحاجة ، وتنص على أن الرواتب ستنخفض في العام 1990 .
ومع تنفيذ الميزانية الجديدة ، بدأ يظهر العجز في السلع ورأس المال العامل في الاقتصادي المحلي ، مما أسفر من جديد عن ارتفاعات في الأسعار وأوجد جيوبا معزولة لنشاط السوق السوداء . وفي منتصف يناير اضطرت وزارة التجارة لإعادة تقديم إعانات مالية للحبوب والسكر والشاي والطعام ، بينما قدم مكتب الرئيس خمسة ملايين دولار إضافية بالعملة الصعبة لتمكين شركات القطاع الخاص الصناعية المقامة حلو شمالي مدينة الموصل لاستيراد مواد خام وآلات كانوا في حاجة إليها لاستمرار تشغيل مصانعهم على نحو مربح . وفي جولة تالية قام بها الرئيس في أسواق الأقاليم ومراكز التسويق ببغداد والبصرة اقتنعت الحكومة بالترخيص بالسداد الفوري لمبلغ 50 مليون دولار أخرى لدعم استيراد مواد غذائية إضافية وغيرها من السلع الاستهلاكية الأساسية ، وفي منتصف فبراير أمر الرئيس بتقديم 600 مليون دولار .
على أن مسئولي الدولة استكملوا ضخ الأموال مع استراتيجية معقدة تتضمن زيادة مديونية البلاد قصيرة الأجل من أجل تمويل المشروعات الجديدة المخصصة لوضع الأساس لتوسعات المستقبل في الصادرات غير البترولية ؛ وبالتالي أضافوا عائدات البترول كمصدر مستقبلي للعملة الصعبة . ففي منتصف عام 1989 بلغ حجم اقتراض العراق قصير الأجل نحو 4.7 مليار دولار ، بارتفاع يزيد على 5% عن إجمالي المسجل في الأشهر الستة السابقة . وفي مسعى للاستمرار في سداد المدفوعات عن هذه القروض الباهظة نسبيا ، أرسل النظام مسئولية رفيعي المستوى للدائنين الرئيسيين للعراق ، يطلبون إجراء جدولة للالتزامات المالية للبلاد طويلة الأجل في انتظار حل مصاعب السيولة قصيرة الأجل : التي تمسك بخناق البلاد . وأبدت وزارة التجارة الدولية والاستثمار اليابانية استعدادها لقبول شحنات أكبر من البترول كبديل للنقود لسداد الديون القائمة ؛ إلا أن الحكومة الفرنسية وبنك الاستيراد والتصدير بالولايات المتحدة أعربا عن شكوكهما في أن بغداد يمكن أن تخفض خدمة الديون بما يكفي لضمان الحصول على قروض جديدة .
ومع الأموال التي افترضها النظام العراقي من الخارج شرع في تنفيذ برنامج ضخم لتوسيع وتطوير خدمات موانئ المنفذ الجنوبي في خور الزبير وأم القصر . وأصبح خور الزبير موقعا لمصنع معالجة الغازات البترولية المسألة وكذلك مجمع تخوين بقيمة 113 مليون دولار ، على أن يتصل بحوض جديد لتفريغ السفن بعيدا عن الشاطئ وبتكلفة تصل إلى 61 مليون دولار لإنشاء حوض جاف يتسع لثلاث سفن يكون قادرا على إصلاح السفن التي تبلغ حمولتها القوى 6 آلاف طن . وكان من المقرر في أم القصر أن يصبح الميناء التجاري الرئيسي للبلاد ؛ ففي مارس تم الإعلان عن خطوط لمضاعفة السعة التخزينية للحبوب في هذا المنفذ ، إضافة إلى عشرة مراس إضافية للسفن – تشمل حوضا جافا بأحداث المواصفات للشحن والتفريغ ، بقدرة تشغيل نحو 2.5 مليون طن بضائع سنويا على أن يتم افتتاحه في إبريل ، إضافة إلى 12 مرسى سفن تحت الإنشاء. على أن نحو 2 مليون طن من البضائع (تتألف أساسا من بضائع بالعملة الصعبة – كصادرات للأسمدة ، والكبريت والأسمنت والبلح ومنتجات البترول ، ومن واردات السلع الغذائية والبناء وغيرها من آلات التصنيع الثقيل) عبرت خلال هذين المينائين في الربع الأول لعام 1990 .
وأصبح تشجيع الصادرات المربحة ، خاصة الكبريت ، والمنتجات الكيماوية ، والفوسفات مكونا أساسيا لاستجابة النظام العراقي للأزمة الداخلية في عام 1989 – 1990 . غير أن التجارة غير البترولية ما زالت تمثل أقل من 2% من عائدات التصدير الإجمالية للبلاد في أواخر ثمانينيات القرن العشرين ؛ وببساطة لم تستطع الأموال الجديدة القادمة من الخارج أن تحل التعارضات بين القطاعين الخاص والعام في الداخل . وبعد إجراء مسح ميداني دام ستة أشهر لنحو 3 آلاف شركة محلية ، قامت الهيئة المركزية لضبط المعايير والجودة بإغلاق 94 مؤسسة صناعية ، وقدمت للمحاكمة 62 شركة أخرى لإنتاجها سلعا غير مطابقة للمواصفات وذكرت الهيئة هناك تحسن في جودة منتجات الطقاع المختلط ، لكن توجد مصنوعات رديئة للقطاع الخاص ، خاصة في قطاع المواد الغذائية . ولوحظ تدهور في جودة مواد البناء والزيوت ، ومنتجات البترول والأجهزة الكهربائية ، وعلى وجه الدقة فإن هذه المجالات هي الأكثر اختصاصا بشكل مباشر في إنتاج السلع المخصصة للتصدير . وكوسيلة لحفز استثمارات أكبر للقطاع الخاص للإنتاج المحلي ، أعلنت الحكومة في نهاية مايو أنها ستنفذ خططا لإنشاء سوق للمال لتنظيم الاستثمارات في مشروعات القطاعين الخاص والمختلط ؛ وفي نفس الوقت أمر الرئيس صدام حسين شخصيا بتخفيف إجراءات التوظيف لشركات القطاع الخاص في جميع القطاعات . وأعقب هذه الإجراءات الإعلان عن خطوط عامة جديدة لجذب مستويات أعلى من الاستثمارات العربية في الاقتصاد العراقي .
بيد أن الاستياء الكامن بين كبار رجال الأعمال بسبب الانقطاعات الناجمة عن الانتقال إلى نظام اقتصادي محلي خاضع للسوق أبرز تحديا محتملا خطيرا لنظام الحكم في بغداد مع نهاية ثمانينيات القرن الشعرين كنتيجة للإقصاء المطرود لاتحادات العمال التي يشرف عليها الحزب وصاحبت برنامج تحرير الاقتصاد . ففي ربيع 1987 ألغت الحكومة الأسس القانونية للاتحادات المهنية المحلية التابعة للدولة واستبدلتها باتحادات للعمال تابعة للشركات في شركات القطاع الخاص الكبرى . وكشف الرئيس صدام حسين عن السياسة الجديدة بإبلاغه قيادة الاتحاد العام للنقابات المهنية المحتضرة بأن مصطلح العامل تم إلغاؤه وأنه من الآن فصاعدا سيطلق على أعضاء النقابة المهنية اسم المسئولين بدلا منه ،وأضاف أنه ترتيبا على ذلك ، سيتم حل اتحادات العمال سلميا الآن أصبح الجميع مسئولين بالدولة . وانخفض أعضاء الاتحاد الوطني للنقابات المهنية لأقل من 8 آلاف عامل في أعقاب هذه الإجراءات .
والأكثر أهمية ، فإن تحرير تجارة الجملة في نهاية ثمانينيات القرن العشرين خلق انكماشا نسبيا وطبقة ذات نفوذ من أصحاب المصالح الأكثر غنى من القطاع الخاص داخل البلاد . وتلاحظ Kiren Choudhry أن الاتجاه صوب الخصخصة أدى بشدة لانحراف توزيع الثروة في المجتمع المحلي . ومن رأيها : "أن ملكية المؤسسات المخصخصة حديثا مركزة بدرجة عالية . إذ أن 13 مصنعا من المصانع المخصخصة بيعت لعائلة واحدة . ومع استبعاد تقدير عدد المشاريع الزراعية ، فإن هذه العائلة بالذات تمتلك 36 من كبريات الشركات الصناعية وأكثر من 45 مليون متر مربع من الأراضي . وأفراد هذه البرجوازية الناشئة في جانبهم الأقصى يقيمون صلات شخصية وعائلية وثيقة مع النخبة الحاكمة ، غير أن محدودية عددهم تتيح لهم درجة من الفعالية والنفوذ الجمايع تمثلان تحديا طويل الأجل للتحالف الحاكم لمسئولي حزب الدولة . وحاول التحالف الحاكم بالعراق أن يحول دون بروز معارضة سياسية علنية لنظام الحكم من جانب هذه البرجوازية الوليدة يطرح إنشاء شبكة من المؤسسات الديمقراطية الليبرالية داخل المجال السياسي المحلي . وفي 3 مارس 1989 ذكر عزة إبراهيم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة أن أعضاء مجلس الشعب (البرلمان) الذين سيتم انتخابهم بعد يومين سيتولون مسئولية التصديق على دستور جديد تسمح مواده بتشكيل أحزاب سياسية رسمية وتضمن حرية وسائل الإعلام ؛ كما أشار إلى أن مجلس قيادة الثورة نفسه سيحين أجل حله ، وأن الرئيس سيختاره أو يصدق عليه من خلال الانتخاب الشعبي . وردد الرئيس هذه المقولات بعد ثمانية أشهر ، وذكر أنه "بعد تفكير عميق ، تم اختيار التعددية كجزء من اتجاهات حزينا" . وتكراره لهذه النقطة في نهاية العام شجع طه ياسين رمضان النائب الأول لرئيس الوزراء بأن يعتبر عام 1990 هو "عام الدستور الجدي الذي سيعرض للاستفتاء العام من الشعب العراقي" وذلك في مقابلة نشرت في أوائل فبراير . وبعد عشرة أيام أبلغ الرئيس مجموعة من مسئولي حزب البعث بأنه يتعين عليهم إنشاء قواعد أكثر فاعلية للاستماع للمظالم الشعبية والاستجابة لها ؛ ويضيف ملاحظا ، إذا كان محظورا على عامة الناس التبعير عن الآراء المخالفة فسوف ينضمون للقالية الذين يتحدثون في الخفاء . وبعد شهر من ذلك ، ترأس صدام حسين اجتماعين مشتركين الأول للجنة الخاصة بالدستور من مجلس قيادة الثورة والآخر لأعضاء رفيعي المستوى من حزب البعث اجتمعوا لمناقشة تنفيذ مسودة دستور تم إعداده تحت إشراف عزة إبراهيم نائب الرئيس .
وفي 7 يوليو 1990 صدقت القيادة القطرية لحزب البعث على مسودة الدستور وأحيل إلى مجلس الشعب للتصديق عليه . وذكر الرئيس لمراسل صحيفة فرنسي بعد فترة قصيرة من ذلك أن الاستفتاء العام اللازم للتبني الرسمي لهذه الوثيقة سوف يجري في أول الخريف ، وأنه عقب الاستفتاء العام مباشرة ستجري الانتخابات الثانية ، فإن مجلس قيادة الثورة الحالي سيحل محله لجنة استشارية جديدة تكون مسئولة عن مناقشة سياسة الحكومة والتصديق علهيا بالتعاون مع مجلس الشعب . واستجاب مجلس الشعب للمسئوليات المقترحة على نحو بعث السرور في نظام الحكم – وذلك بتنبيه قرارا باختيار صدام حسين رئيسا مدى الحياة.
بيد أنه في الوقت نفسه الذي كان فيه الرئيس وأنصاره في مجلس قيادة الثورة يحصدون الثمار الأولى لجهودهم في ضمان استمرار تفوقهم عن طريق دمج مصالح القطاع الخاص الناشئ في مؤسسات تتحد مع نظام سياسي ديمقراطي ليبرالي ، أقدم المسئولون في الإدارة المركزية التي يسيطر عليها الحزب على تنفيذ سلسلة من المبادرات كان تهدد بتفويض الاستقلال المستقبلي لمؤسسات القطاع الخاص . وكان قد بدأت تعمل في ربيع 1990 العديد من مشروعات التصنيع الثقيل التابعة لإدارة وزارة الصناعة والتصنيع الحربي ، وأكثرها أهمية كانت تنتج المعادن والكيماويات ، وغيرها من المدخلات التي كانت تستخدمها شركات الصناعة الخفيفة المملوكة للقطاع الخاص . على أن الاعتماد الأكبر على السلع التي تنتجها مصانع وزارة الصناعة حظي بتشجيع علني كوسيلة للحفاظ على الاحتياطات المحدودة للعملة الصعبة . وهذه الوزارة تولت مسئولية تخصيص نحو 200 مليون دولار في يوليو من أجل دعم المؤسسات المخصخصة حديثا العاجزة عن تحمل أعباء المعدات المستوردة . وفي الوقت نفسه قامت وزارة التجارة بتخفيض مدى المواد المسموح للمستوردين من القطاع الخاص بجلبها إلى البلاد باستخدام الأموال المحتفظ بها في الخارج . وجاءت هذه التطورات واعدة على تقوية وضع وزارة الصناعة والتصنيع الحبي كمنافس رئيسي للصناعات الخفيفة المختارة التابعة للقطاع الخاص .
وعادت هيئات الدولة لتحتل دورا في الشئون الاقتصادية الداخلية والخارجية للعراق مع تقلص حجم الاعتمادات المالية الأجنبية للمؤسسات المحلية في ربيع وصيف عام 1990 . وأدت قروض العراق المتواصلة بالسلطات الفرنسية إلى تقليص قروض جديدة مقدمة لبغداد في مطلع العام ، رغم أن وزير الدفاع الفرنسي التقى مع حين كامل حسن ، وزير الصناعة والصناعات الحربية ، في نهاية يناير لبحث إمكانية تجميع الطائرات والصواريخ الفرنسية في المصانع التابعة للوزارة . وأدى تصاعد المشاعر المناهضة للعراق في الكونجرس الأمريكي إلى تقديم مذكرتين في منتصف إبريل تخفضان – إلى حد كبير – معدل القروض المقدمة لبغداد من وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) ومن بنك التصدير والاستيراد ، رغم العارضة العنيفة لاقتراحهم من جانب إدارة الرئيس بوش (الأب) ، وقيادات الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ ، وأصبحت التوقعات بأن يتلقى العراق أموالا إضافية من واشنطن أكثر تشاؤما في شهري يونيو ويوليو . وكنتيجة لتساؤل رسمي عن صرف اعتمادات سابقة كانت امتدت إلى منتصف الصيف ، فقد تقلصت القروض المقدمة من وزارة الزراعة الأمريكية بدرجة أكبر . وأثبتت البدائل المعقدة بقروض وزارة الزراعة الأمريكية أنها غير عملية بالمرة ، مما حدا ببغداد إلى الاعتماد أكثر على ترتيبات المقايضة كانت ترتبط قيمتها بشكل وثيق بأسعار البترول الخام في الأسواق العالمية .
وقد فاقمت مشاكل التنسيق المتعلقة بالنوع (ذكر / أنثى) من المصاعب الناشئة عن آليات اقتصادية تقليدية أثناء هذه الشهور . فقد كانت النساء تلعب دورا نشيطا استثنائيا في الاقتصاد العراقي خلال العهد البعثي . لكن خلال فترة الحرب التيدامت ثماني سنوات مع إيران قفز الإسهام النسوي فعليا في جميع قطاعات الاقتصاد المحلي . وفي صيف 1983 ذكر مراقب بريطاني : "طوال العام الماضي ، كان للحرب تأثير بالغ الوضوح على قوة العمل . إذ إن جميع الشباب تقريبا ذوي الخبرة تم استدعاؤهم للجيش ، وحل بدلا منهم فتيات مؤهلات جدا لكن دون خبرة . وفي خريف 1983 أعلن الاتحاد العام للمرأة العراقية عن توقعه بأن 28% من عمال الصناعة بالبلاد سيكون من النساء بحلول منتصف العقد ، في حين أن المعدل أكبر من ذلك في بعض المصانع : "في أحد المصانعا لتي تنتج اللمبات الكهربائية فإن نصف العاملين به الآن والبالغ 400 شخص من النساء ، ونصف عدد الرجال من الصينيين" . وقدر اتحاد المرأة أن أكثر من 15 ألف امرأة اجتزن برامج تدريب على الصناعات في ثمانينيات القرن العشرين . كما قامت عضوات الاتحاد بتشكيل نحو 7 آلاف سوق عام خلال هذه الأعوام . ودخلت الفتيات إلى الإدارة المركزية والمعاهد التعليمية المدعومة من الدولة بأعداد كبيرة مع استمرار الحروب ؛ وبمرور الوقت وبعد وقف إطلاق النار كانت الطالبات يمثلون الأكثرية العظمى للمقيدين بالدراسة في البرامج الأعلى تقنية في الجامعات بالبلاد . وكنتيجة لكل هذه النشاطات ، بات الاتحاد العام للمرأة هو الأقوى في التنظيمات الشعبية الموالية للحزب : كان أكثر من 56% من كل النساء البالغات ينتمين إلى الاتحاد في عام 1988 .
وبالأخذ في الاعتبار وضع النساء داخل قوة العمل المحلية ، دون ذكر لمعدلات ارتفاع البطالة بين الرجال العراقيين خلال شتاء 1989-1990 ، وجد نظام الحكم أنه يستحيل إجراء تسريح شامل للقوات المسلحة للبلاد بانتهاء الحرب مع إيران . وترأس الرئيس صدام حسين نفسه الاجتماع الذي جرى في أواخر سبتمبر عام 1989 الذي قررت فيه القيادة العامة تسريح خمس وحدات نظامية من الجيش ، بما يعني إضافة نحو 35 ألفا من الشباب إلى سوق العمل المحلي المكتظ . ومن المحتمل أن هذه الخطوة تزامنت حقيقة – وليس على سبيل المصادفة – مع تغير أساسي في الإجراءات التي تحكم حجم الأموال العراقية التي يمكن للعمالة العربية تحويلها إلى أوطانها . وفسرت السلطات المصرية العجز الحاد في التحويلات النقدية المسموح بها كوسيلة لطرد العمالة الأجنبية من العراق . أما من حاولوا الاعتراض على الإجراءات الجديدة فسرعان ما تعرضوا للاعتقال والترحيل على يد السلطات الأمنية للبلاد . وفي ربيع 1990 أصحبت المشاكل الناجمة عن إعادة الجنود العراقيين للاندماج في الاقتصاد المحلي ضاغطة بشدة حتى إنه تم منح رئيسة اتحاد المرأة دورا نشيطا في مناقشات مجلس قيادة الثورة . ومن المعلوم أن الرئيس كان يصغي لها باهتمام .
في ظل هذه الظروف ، بات من المتوقع أن يحدث تحرك عسكري إلى الكويت في أغسطس 1990 ليوفر للنظام الموارد اللازمة للقوى المؤلفة له سواء للحد من صراعاتهم مع بعضهم البعض أو لمنع الخصوم الناشئين من الاستحواذ على قاعدة صلبة تنطلق منها لتحدي هيمنتهم الجماعية . والأكثر بروزا ، أن احتلال حقول البترول الغنيةب الكويت كان من المحتمل أن يوفر لبغداد سبيلا آمنا حتى لقدر أكبر من العملة الصعبة ، التي يكن استغلالها جيدا في انتقال هادئ لنظام اقتصادي محلي خاضع لقوى السوق . وكانت الاحتياطات المؤكدة للبترول في الكويت تبلغ نحو 94.5 مليار برميل في نهاية عام 1989 ، وهو رقم يعادل ما لدى العراق في رأي المراقبين المستقلين . ومبيعات هذه الكمية من البترول حققت لحكومة الكويت نحو 8 مليارات دولار في عام 1988 ، تمثل أكثر من 3.200 دولار سنويا لكل مواطن بالإمارة . أكثر من هذا ، إذا ماتولى حكام العراق مباشرة مسئولية إنتاج الاحتياطيات الكويتية لأصبحوا في وضع أفضل لتنظيم مخرجات آبار جارتها على نحو يتيح إيقاف تهاوي أسعار البترول العالمية وربما تحويلها للعكس ، حيث تنحو بغداد بالائمة على الكويت لزيادة إنتاجها . وذكر سعدون حمادي نائب رئيس الوزراء في حديث لإذاعة محلية في أول سبتمبر عام 1990 : "أن العراق الموحد الجديد" سوف يتقيد بحصص الإنتاج المحددة من قبل منظمة الدول المصدرة للبترول (الأوبك) . وأضاف قائلا : "وعائدات العراق ، إذا قدرت في ضوء حصتها الحالية البالغة 4.6 مليار برميل يوميا (الصحيح : مليون) ، وبحد أدنى للسعر البالغ حاليا 25 دولارا للبرميل ، فسوف يصل إلى 38.3 مليار دولار سنويا . أكثر من هذا أنه أعرب عن توقعه أن أسعار السوق العالمية سرعان ما ترتفع إلى 30 دولارا للبرميل ، الأمر الذي يسفر عن عائدات سنوية تصل إلى نحو 43.6 مليار دولار . وهذه الأموال ستتيح للعراق "سداد ديونه في غضون عامين إلى أربعة أعوام وتستثمر في التنمية ما بين 10 إلى 30 مليار دولار" .
ثانيا ، فإن القيام بغزو الكويت ينطوي على توقع بإعادة تثبيت وضع الأجهزة الحرربية والإدارة المركزية بوصفها الفاعل الأساسي في الاقتصادي العراقي ، وبالتالي توفير إطار أكثر تنظيما يمكن من خلاله إجراء توسع ثان للقطاع الخاص . وأعلن مجلس قيادة الثورة في 11 أغسطس سنة 1990 أنه إذا ضبط أي شخص يختزن مواد غذائية أو يضارب في أسعارها سيتعرض للإعدام ؛ ونبه المرسوم إلى أن الحزب والتنظيمات الجماهيرية والسلطات المختصة مسئولة عن متابعة المخازن بدقة . وفي أول سبتمبر من عام 1990 تم تحديد حصص الدقيق والشاي والسكر والأرز ، وتولت وزارة الصناعة والتصنيع الحربي أمر بتوزيع الأسمدةعلىالمزارعين في نهاية هذا الشهر . وفي إطار الحدود التي وضعتها الهيئات الحكومية استمر تشجيع منشآت القطاع الخاص : صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بتاريخ 5 سبتمبر 1990 بفتح أراضي الدولة ليزرعها الفلاحون الأفراد بإيجارات بالغة الانخفاض . ولاحظ سعدون حمادي نائب رئيس الوزراء أنه نتيجة لدمج 833 مؤسسة صناعية مقامة في إقليم الكويت السابق إلى الاقتصاد الجنوبي للعراق تم توسع القطاع الخاص في العراق الجديد ... وبناء عليه ، فإن القدرة الصناعية للعراق قد اتسعت وأصبحت أكثر فعالية ونشاطا عما كانت عليه في السابق .
أخيرا ، فإن الحملة العسكرية على الكويت أتاحت لنظام الحكم الفرصة لعلاج البطالة المتنامية بالعراق ومشاكل التنسيق المرتبطة بالنوع (الذكر / الأنثى) وبإعادة تجنيد الذكور في الوحدات العسكرية . وفي صباح يوم الغزو أصدر الرئيس قرارا بإلغاء القيود التي كانت مفروضة على حجم الجيش الشعبي وواجباته ، في حين أن القائد العام للقوات المسلحة أعاد للخدمة العسكرية 13 وحدة مشاة نظامية ومعهم قائد وحدات من إقليم الأهوار ، يلتحق كل من تم تسريحهم على قوة الاحتياط من مواليد أعوام 1961 ، 1962 ، 1963 ، 1964 ، 1965 ، 1966 إلى مراكز التجنيد التابعين لها كي يمكن إرسالهم إلى وحداتهم بمراكز التدريب . وتزامن إعادة تجنيد القواتالمسلحة بالبلاد مع تغير ملحوظ في التوجه العام لنظام الحكم تجاه تجنيد القوات المسلحة بالبلاد مع تغير ملحوظ في التوجه العام لنظام الحكم تجاه النساء اللاتي تركن بمفردهن مع توجه الرجال إلى الحرب ؛ ففي 12 أغسطس أذاع الرئيس مناشدة شخصية لكل النساء العراقيات يقر فيها بأن الأعمال المنزلية ، وفي المزارع ، والمصانع والمؤسسات التعليمية ، ومجالات الثقافة والفنون ، إضافة إلى كل مجالات النشاط والعمل الأخرى ، تشكل بابا واسعا للنصر أثناء مجرى الصراع مع إيران . ومع ذلك واصل قائلا :
اليوم ، أيتها المرأة العراقية المجيدة ، عليك دور إضافي ومسئولية قمت بأدائها في ظل ظروف وشروط سابقة . مطلوب منك أداء دور رائد ومحدد في كل مسارات الحياة ، وفي الوطن خصوصا . يختلف قليلا عن الدور السابق نتيجة اختلاف الظروف والمهام . الدور الرائد الذي أحثك على القيام به اليوم ، أيتها المرأة العراقية المجيدة ، هو إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية للأسرة . وإعادة التنظيم هذا والنشاطات في كل المجالات الأخرى سوف تساعدنا على إعادة تنظيم الحياة الاقتصادية للبلاد كلها . دورك ، أيتها المرأة المجيدة ، يقتضي أنه تعودوا أنفسكن وأفراد أسركن أن تنتهجوا أسلوبا جديدا في الحياة ، من خلاله يصبح تعاملكن مع الطعام والملبس وكل الممتلكات والمصروفات أقل كثيرا مما اعتدتن عليه في السابق .
وتم سن قانون بهذا الإجراء كاستجابة للحطر الاقتصادي الذي فرض على العراق من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ؛ حيث تم فرض حصار من السفن الحربية للولايات المتحدة الراسية في مياه الخليج والبحر الأحمر . غير انه كان يعالج مشكلة أعمق بكثير بإعادة ترتيب العلاقات بين الجنسين من أجل تخفيف حدة الاحتكاكات الباقية من ثمانينيات القرن العشرين والمصاعب المحتمل أن تنشأ من محاولة خلق توازن بين العمل ومصالح الأسرة في عراق أقل تخطيطا مركزيا في تسعينيات القرن العشرين .
لذلك ، شأن الحال بصمر في عهد محمد علي ، فإن السياسة التوسعية الخارجية لعراق في ظل صدام حسين تمثل إستراتيجية بمقتضاها يمكن حل التناقضات الأساسية بين البرامج السياسية الداخلية المتبانه من القوى المكونة للتحالف الاجتماعي المهيمن . الأمر المختلف فيما يتعلق بهذه الحالة الأحدث كان قدرة نظام الحكم في العراق على أن يعمل من خلال تغيير استراتيجي في مواجهة خصومه المحليين المحتملين . وبدلا من الانتظار حتى تتمكنا لبرجوازية الناشئة بالبلاد من ترسيخ قاعدة تتحدى وضعها ، تحرك حكام العراق المعاصرون لتفويض أسس القطاع الخاص بالبلاد بإعادة فرض درجة أكبر من التخطيط المركزي على الاقتصاد المحلي في علاقته بالحملة العسكرية على الكويت . على أن نجاح نظام الحكم في تنفيذ العملية يمكن أن يدل ببساطة على الدرجة التي يمكن للقيادة العراقية بها أن تمارس السيطرة على الساحة الداخلية ، وبالتلاي أن تنفذ فعليا أي برنامج تشاء . لكن من المحتمل أيضا أن يكون التحليل التالي ، كما حدث في حالة ألمانيا الاشتراكية الديمقراطية ، سيظهر أن معارضة لافتة للنظر للتحالف المهيمن كانت قائمة بالمجتمع العراقي ، لكن أضعفت فاعليتها الاستراتيجيات المتبناه من القيادة في صيف 1990 .
وكما في حالة مصر في أوائل القرن التاسع عشر ، كان للسياسة التوسعية الخارجية التأثير الإضافي للتعامل بحسم مع التطورات الخارجية الذي كان يشكل تهديدا مباشرا للمصالح الإقليمية للعراق . والأكثر وضوحا ، كان احتلال الكويت يكفل لبغداد اتصالها بالبحر حيث التسهيلات التجارية الكبيرة والعسكرية في مينائي خور الزبير وأم القصر . وقد حاولت السطلات العراقية في ثمانينيات القرن العشرين التقدم بعرض لتأجير طويل الأجل لجزيرتي بوبيان وواربة التابعتان للكويت والخاليتان من السكان ؛ حيث تتحكم سواحلهما في الجنوب الشرقي في مسار ضيق يصل إلى أم القصر ، غير أن حكومة الكويت واصلت تجاهلها لكل العروض ، خشية أن عملية التأجير هذه تنقل السيادة على الجزيرتين فعليا من الكويت إلى العراق . وتزايد غضب بغداد نتيجة تصلب موقف الكويت في هذا الأمر وبات علنيا في صيف 1990 ، وتعمق إلى شكوك صريحة مع انتهاج قادة الكويت لبرنامج يتعلق بتحسين علاقات الإمارة مع الجمهورية الإسلامية في إيران .
وفي أعقاب إيقاف النار بين إيران والعراق في أغسطس 1988 عادت القيادة الكويتية إلى سياستها الخارجية التقليدية بالتلاعب بالمشالك بين أقوى جيرانها في مواجهة بعضهم البعض كسبيل لحماية استقلال الكويت ، وعلى نحو خاص أعادت حكومة الكويت علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية إلى سابق عهدها في نهاية عام 1989 ، وقبلت اعتماد أوراق السفير الإيران في الربيع التالي . وأدت هذه العلاقات الودية بمسئولي الكويت إلى السماح ببدء الرحلات المتظمة بين الكويت والموانئ على طول الساحل الإيراني في الوقت نفسه الذي كانت فيه الكويت ترفض الطلبات العراقية بإنشاء مسار جوي تجاري يربط الكويت بالبصرة . وعند هذه المرحلة تحددت زيارة رسمية للكويت يقوم بها وزير الخارجية الإيراني على أكبر ولاياتي ، في أوائل يوليو 1990 . وفي ختام مباحثاته مع قادة الكويت أعلن ولاياتي أن الطريق اممهد الآن لمزيد من التعاون في مختلف المجالات بين الحكومتين . وكان قيام أي تحالف بين الكويت وطهران يعرض للخطر ليس فقد منفذ العراق الوحيد على الخليج – نظرا لأن ميناء البصرة كان لا يزال مقاطعا بسبب السفن والمعدات العسكرية الغارقة في مسار النهر حتى شط العرب – بل أيضا قدرة العراق على التأثير في الأحداث المستقبلية بالمنطقة .
وتزامن إعادة الكويت لعلاقاتها مع إيران مع العملية العسكرية للولايات المتحدة في الخليج التي فسرتها بغداد على أنها تعاون نشيط بين آل الصباح وإدارة الرئيس بوش (الأب) . وفي منتصف يوليو ذكرت جريدة الثورة وهي الصحيفة الناطقة بلسان حزب البعث : "بعض حكام دول الخليج يستخدمون البترول وفق سياسة مدمرة وقصيرة النظر لا تخدم سوى أعداء الأمة العربية ... ووصفت الصحيفة سياسة هؤلاء الحكام العرب بأنها "أمريكية" وأضافت "أن هذا يحدث بناء على تعليمات الولايات المتحدة" . وفي 22 يوليو زعمت صحيفة "الثورة" أن السياسة الكويتية مخصصة من أجل تسهيل إرسال القوى الأجنبية التي تسعى للتدخل في المنطقة .. قادة الكويت يرفعون علم الولايات المتحدة على سفنهم لتسمح لعناصر من الأسطول الأمريكي للاستمرار في مياه الخليج برغم توقف الاعتداءات بين إيران والعراق . وكان راديو بغداد يوجه الانتقادات خصوصا للتدريبات البحرية والجوية المشتركة التي تقوم بها السفن الحربية التابعة للولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة في الأسبوع الثالث من يوليو ، واصفا إياهم باعتبارها : "جزءا من المؤامرات الشاملة ضد الأمة العربية وضد العراق خصوصا من الإمبريالية الأمريكية والصهيونية" . وحذر الرئيس صدام حسين بنفسه في أواخر فبراير بأنه من المتوقع زيادة معدلات التدخل الأمريكي في شئون المنطقة في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وتراجع النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط ؛ على أن أحداث يوليو على حدة أكدت قراءته للوضع في الخليج .
ودخول العراق في الكويت مجال مفتوح لمدى واسع من التفسيرات المحتملة بيد أن تصميم تجربة حاسمة يمكنها أن تختبر الوقائع الموضوعية بالنسبة لمختلف الرؤى من غير المحتمل أن يكون ممكنا حتى تهدأ المناظرات الخلافية والمشاعر التي ثارت نتيجة للغزو . لكن رغم هذا من الممكن صياغة تفسير متماسك وكاشف لهذه الواقعة المحددة للسياسة التوسعية العراقية باستخدام مصطلحات التباول التي قدمتها لتفسير مسار السياسة التوسعية لمصر في عصر محمد علي . واستخدام هذه المعالجة في بناء مزيد من العمل تأسيسا على المصادر المحلية للسياسات الخارجية في العالم العربي هو الذي ولد اقتناعا لدي بأن كل الجهد المطلوب تنفيذه – وقراءته – دراسة لعصر معين بعيدا عن يدنا مثل المعروض هذا ، في النهاية يصبح عملا جديرا بالاهتمام.