ابراهيم باشا في سوريا (كتاب)
إبراهيم باشا في سوريا
المحتويات
- القائد ابراهيم وتجربة الشام: دراسة
- مقدمة المؤلف:
- محمد علي منذ ولادته إلى أن تولى حكم مصر.
- محمد علي منذ توليته على مصر إلى وقت الزحف على سوريا
- طموح محمد علي إلى التوسع والاستيلاء على سوريا.
- التمهيد لغزو سوريا.
- أسباب الحملة على سوريا.
- موازنة بين السلطان محمود ومحمد علي.
- لمحة عن حالة تركيا وسوريا عندما غزاهما إبراهيم باشا.
- الزحف على سوريا والاستيلاء عليها.
- من قونية إلى كوتاهية.
- حكومة محمد علي في سوريا.
- مظالم حكومة محمد علي.
- الثورات على حكومة محمد علي.
- بين اتفاق كوتاهية وموقعة نزب.
- تدخل الدول الأوروبية في المسألة السورية.
- انسحاب ابراهيم باشا من سواريا.
- تأثير حكومة محمد علي في سوريا.
- الخاتمة
- الكشاف
- الكتب المخطوطة والمطبوعة
القائد إبراهيم وتجربة الشام: دراسة
ما قبل الشام
لم يكن يدور بخلد محمد علي على انه عندما تزوج – وهو في سن صغيرة – من أمينة الشربجي وأنجب منها ثلاثة ذكور (ابراهيم وطوسون واسماعيل) وأنثيين (توحيدة ونازلي) ان ابنه الكبير ابراهيم سوف يكون له الدور المهم على الساحة الدولية.
ولد ابراهيم عام 1204هـ/1789-1790 في نصرتلي بعد انتقال والده اليه من قولة. وقد أثيرت قضية نسبه فيما بعد – كان وراءها المناهضون من أتباع عباس ابن طوسون الذي يكن له الكراهية – بأنه ليس من صلب محمد علي وانما هو ابن لزوجته من آخر، ولكن أدحض ذلك لأكثر من سند:
الأول: ان الزوجة كان قد عقد عليها زوج قبل محمد علي، ولم يدخل بها حيث توفى، وهذا ما أكده محمد علي لكامبل – المبعوث البريطاني بقوله ان زوجته لم يكن لها قد بعل سواه. والثاني: ان محمد علي أسماه ابراهيم على اسم ابيه ابراهيم اغا. والثالث: في يناير 1812 ذكر محمد علي في احدى مراسلاته للسلطان ان ابناءه اعزاء لنفسه كحياته أو بصره، ولا يستطيع ان يفترق عن احدهم، وانه ارسل ابنه الكبير للسودان لمطاردة المماليك. والرابع: هذا الشبه الكبير بين الابن والاب، ليس في ملامح الوجه فحسب، وانكا كذلك في اعضاء الجسم، مثل قصر الذراعين. والخامس: ما اكده السفير النمساوي في استنابول (الآستانة) بان ابراهيم هو الابن البكر لوالي مصر. والسادس: ان الجبرتي الذي لم يكن الحب لمحمد علي وابنه، لم يكن ليغفل ذلك في سفره الضخم الذي كتبه. والسابع: فرمان ولاية ابراهيم على مصر، مما يبرهن على اليقين من بنوته لمحمد علي. والأخير: انه اثناء حكم سعيد، اناب عنه اسماعيل بن ابراهيم في فترة غيابه، وهو الذي ورثه على عرش مصر، وبالطبع فانه لن يقدم على ذلك الا اذا كان متأكدا من ان ابرهيم هو اخوه.
اهتم محم علي بتعليم اولاده الدروس التركية على يد احد شيوخ القرية، ووضح تميز ابراهيم، نظرا لتطلعه للمعرفة، وقد صحب والده في رحلاته وسط جبال وتلال مقدونيا الشرقية، وكان ينصت الى الناس ويعي حديثهم.
وترك الاب اولاده وأبحر الى مصر مع الحملة العثمانية، وتلاحقت الاحداث في مصر، واصبح واليا عليها عام 1895، وهنا ارتأى له احضار اسرته، وكان أول الوافدين ابراهيم البالغ من العمر وقتئذ الست عشرة سنة، وأخوه طوسون ذو الاثنى عشر ربيعا، فوصلا القاهرة في 28 أغسطس من العام نفسه، وما لبث ان اصطحب محمد علي ولده ابراهيم الى القلعة، وعينه محافظا عليها.
وسرعان ما وقعت حادثة اثرت في كيان ابراهيم، حيث قرر الباب العالي رحيل محمد علي من مصر وتسلمه السلطة اما في كاندي أو سالونيك، وعندئذ استخدم الوالي سياسته وتفاوض مع القبطان باشا على ان يقدم لاستانبول مبلغ 4.000 كيس – 2 مليون قرش – ولما تعذر ذلك، قدم ابراهيم رهينة للباب العالي حتى يسدد المطلوب منه، فأبحر مع القبطان باشا في 18 أكتوبر 1806 حاملا معه الهدايا، حيث قضى حوالي العام هناك، وقد شكل له الاهمية، اذ تلقى التعليم، وتعرف على بواطن الكثير من الأمور في عاصمة الخلافة، وادرك حالة الضعف التي وصلت اليها الدولة عن قرب، ومن ثم اتضحت امامه صورة العثمانيين دون رتوش، فامتلأ صدره بالحنق عليهم، وأسفر ذلك عن موقفه المعادي للدولة بصفة عامة، والعنصر التركي بصفة خاصة.
وعقب عودة ابراهيم باشا على مصر، وفي 24 ديسمبر 1807، ومع صدور فرمان تجديد الولاية لمحمد علي وانسحاب الحملة الانجليزية من مصر، عين ابنه دفتردارا، وهو منصب يعد بمثابة وزير المالية، وأصبح عليه أن يدبر الأموال الازمة لاحتياج حملة شبه الجزيرة العربية، ولتحقيق سياسة أبيه، فقام بواجبه، واشتدت يده على الملتزمين. ومما يذكر أنه عارض والده في مسالة فرض ضرائب جديدة على الفلاحين، حتىى لا يتركوا الارض ويتسحبوا.
وعندما عقد محمد علي العزم على تولي طوسون حملة شبه الجزيرة العربية، منحه السلطان محمود الثاني لقب الباشوية، مما أثر على ابراهيم باشا الذي لم يكن والده يستغني عنه حينئذ داخل البلاد، اذ عده خليفته المنتظر، في وقت ضربت فيه الفوضى أطنابها بالصعيد، اذ وقعت اضطرابات المماليك والبدو وقطاع الطرق، وهنا أيقن محمد علي ان ابراهيم لديه القدرة على ضبط الامور، فعينه حاكما على الصعيد، واصدر بذلك فرمانا في يوليو 1813. وقد تمكن بمهارة من تدعيم نفوذ الدولة على صعيد مصر، فاستتب الأمن، واستخدم أدواته الصارمة، فأقام مذبحة للماليك في اسنا، ومسح جميع الاراضي الاميرية والاقطاعات – التأريع – التي كانت للمتلزمين والأمراء الهوارة وذوي البيوت القديمة، وأراضي الرزق والأحباسية والأوقاف وغيرها، وذلك لتقدير الضرائب، وغير نظام الحيازة – بدأ الغاء نظام الالتزام في الصعيد أولا ثم انتقل للوجه البحري عام 1814 – ونجح ابراهيم باشا في فرض نظام صارم عن طريق القسوة، والشدة لغير المتعاونين معه، وكان قد سبق ان طلب محمد علي من الباب العالي منح ابراهيم رتبة ميرمان – أمير الأمراء – فمنحت له في عام 1813.
كانت الحملة المصرية على شبه الجزيرة العربية – توجهت بناء على تكليف من السلطان – قد قطعت شوطا من النجاح، ومع تقدم طوسون داخل نجد، طلب عبد الله بن سعود الصلح، وعقدت الهدنة بين الطرفين، ووصل طوسون للقاهرة في 8 نوفمبر 1815، وذلك في وقت أعدت فيه حملة جديدة، وعقدت قيادتها لابراهيم – كان آنئذ في سنة السابعة والعشرين، فودع أمه التي كان لها الأثر الكبير في أعماقه – ووصل ينبع في 29 سبتمبر 1816، وهو اليوم الذي توفى فيه طوسون ووالى انتصاراته على الوهابيين، وهدم الدرعية العاصية في سبتمبر 1818، تنفيذا لتعليمات محمد علي. وقد مثلت الحرب في الصحراء صعوبة بالغة سواء من حيث المناخ أو السكان، وتمكن ابراهيم من تطويع الظروف، وأثبت أنه رجل حرب، وفي الوقت نفسه رجل ادارة وسياسة، ففي كثير من الاحيان تلازمه الشدة والصرامة والحزم، كما أنه أولى عناية خاصة بتسهيل مهمة حجاج بيت الله الحرام. وقد لفتت براعته الحربية نظر حكومة الهند البريطانية، فبعثت سادلير احد ضباطها ليتعاون مع ابراهيم في حملة عسكرية ضد راس الخيمة، لكن محمد علي رفض هذا التعاون. وتقديرا لما قام به ابراهيم، منحه السلطان في 19 يناير 1817 الباشوية ذات الثلاثة أذناب – تخول لصاحبها حمل ثلاث خصلات من شعر ذنب الخيل، وتوضع فوق الرمح الذي يتقدم الباشا في الحفلات الرسمية، وهي أعلى رتبة يمنحها السلطان لوزراء الدولة – وخلعة الوزارة.
دخل ابراهيم القاهرة في 9 ديسمبر 1819 مكللا بالغار، فاقيمت له الاحتفالات، وذلك أثناء الاعداد لحملة السودان التي تولى قيادتها اسماعيل أصغر أبناء محمد علي، وتحركت في يوليو 1829، وضمت المدن. ولمواجهة الصعوبات التي اعترضتها، سافر ابراهيم الى السودان لانقاذ الموقف، وتم التخطيط للاستيلاء على ما تبقى من أراضي سودانية، ولكنه لم يستكمل مهمته ، واضطر الى العودة لمصر بسبب اشتداد مرض الدوستناريا عليه.
وفي مصر تفرغ للادارة، حيث أصدر محمد علي امرا في مارس 1821 باستعادته لمنصبه الخاص بتنظيم الاقاليم القبلية ومسح ارض القرى، وبذل همته في ذلك متوخيا الدقة المتناهية، مستعينا بالمهندسين الاجانب ، هذا بالاضافة الى توليه وظيفة الكخيا أي النيابة عن ابيه – ابان سفره – للنظر في الاحكام والشكاوى والدعاوى.
ونظرا لسياسة السلطان واحتياجه لمجهودات ابراهيم ، ورد للأخير الفرمان الشاهاني سنة 1823 بتوليه ولاية جدة والحبشة ومشيخة الحرم المكي ومحافظة المدينة المنورة، مما جعل له المقام الاول بني امراء الدولة العثمانية، واصبح على مرتبة من محمد علي، وربما أراد السلطان ان يضع حجر اساس للعداء بين الشخصيتين ليكون هو الفائد باستقطاب المنعم عليه.
وسرعان ما تولى ابراهيم قيادة حملة جديدة أقلعت الى المورة في 19 يوليو 1824 تلبية لطلب السلطان ، لتشترك مع اسطول الدولة لاخماد الثورة هناك، وأبلى في البحر بلاء حسنا، وراى ان الهزيمة الساحقة لليونانيين تكون بالتعاون بين الجيش والبحرية، وعليه سقطت في يديه مدن يونانية بعد ان استخدم مواهبه الحربية، ومنحه السلطان ولاية المورة. ولكن ما لبثت ان تدخلت الدول الأوروبية – بريطانيا ، فرنسا ، روسيا – خشية عوامل عدة، اهمها الا يتحول البحر المتوسط الى بحيرة مصرية. ومن ثم انتصرت أساطيلها وحطمت الاسطولين المصري والعثماني في معركة نفارين في 20 أكتوبر 1827.
وعاد ابراهيم الى مصر ليكون الذراع اليمنى لمحمد علي، اذ نظمت الادارة ، وتلى ابراهيم مديري الشرقية، فقام باستحداث طرق جديدة، وخاصة فيما يتعلق بالادارة المالية، كما أشرف على أعمال الترسانة البحرية بالاسكندرية التي تولت تجديد عمارة الاسطول، وأصبح على رأس الادارة المدنية والعسكرية، وكان لا يمل ولا يكل من الحركة الذاتية في المتابعة والمراقبة والتفتيش.
وفي الفترة الممتدة من 3 أغسطس الى 14 يونيو 1830 فاوضت فرنسا محمد علي وابراهيم ، وركزت على الاخير – وفقا لنصيحة قنصلها في مصر – وذلك بشأن توليه قيادة حملة عسكرية لصالحها في الجزائر، واعطاء والده حق المفاوضة مع المسئولين الفرنسيين، فأدارها بدبلوماسية وحزم، ومما يذكر انه كان أحد أسباب فشلها، حيث كان يرنو ببصره للشرق.
ووفقا لسياسة محمد علي، وفي عام 1829، وبناء على ما أشار به ابراهيم، تم انشاء مجلس المشورة وهو الهيئة شبه النيابية الأولى التي عرفتها مصر، وكانت سلطته استشارية، وشارك فيه المصريون بعدد لا بأس به من الاعيان، وذلك لمكانتهم الاقتصادية والاجتماعية لدى الناس. وحتى تصبح هناك مرونة في اداء التكليفات، تولى ابرهيم رئاسة المجلس، ووصفه بانه برلمانه مما يدل على أوتقراطيته. ومن المعروف وقتئذ أن تلك الصفة، اتسم بها أصحاب السلطة ليس فقط في مصر ، وانما في خارجها.
انتصارات الشام المدوية
من الامور المسلم بها ان اشتراك مصر بحملتي شبه الجزيرة العربية والمورة، قد جاء تلبية لطلب السلطان، بمعنى ان القيادة التي تولاها ابراهيم كانت تحت المظلة العثمانية، وفي الواقع فانه لم يحمل اي تقدير للاتراك منذ ان كان رهيبة لدى استنابول، واتسعت الهوة في حرب المورة نتيجة للاحتكاك المباشر مع قادتهم من ذوي المستوى المتدني، بالاضافة الى زيادة معرفته بخفايا الدولة العثمانية وما وصلت اليه من تعثر وتخبط، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان فترة ما بعد هزيمة نفارين، وحصول اليونان على استقلالها، مثلت فترة نشطة لمحمد علي وابنه ، تم فيها اعادة البناء وترتيب الاوراق. وأسفرت النتيجة عن الخروج من تحت عباءة العثمانيين، وخاصة بعد الانتصارات التي حققها الجيش المصري الذي ثبت خضوعه لقيادة على أعلى درجة من الكفاءة وتمتعه بأحدث النظم العسكرية الحديثة.
واختمرت في ذهن الاب والابن مسألة الاصرار على نجاح المشروع التوسعي، وبالتالي أصبح لابد من مواجهة الدولة صاحبة السلطة الشرعية على مصر وجسدت الشام هذه المواجهة، وغدت بيت القصيد لتحقيق الغرض، لأهميتها الاستراتيجية، والاقتصادية، والدينية والثقافية، اذ كان محمد علي وابنه على وعي بحركة التاريخ، زد على ذلك موقعها المتميز على خريطة المشروع، فيحدث ابراهيم أباه عن أن مصر لن تأمن على حياتها وتطمئن الى سلامتها، الا اذا كانت حدودها الشرقية آمنة، وينوه الى غزوها عن طريق برزخ السويس، وأن الواقع يفرض أن تكون حدودها الشمالية جبال طوروس، وأن ضم الشام اليها لن يكون هجوما وعدوانا وانما دفاعا وتأمينا.
وكان باشا مصر قد سبق وأبدى السلطان رغبته فيها، منذ أن طلب منه الأخير المعونة الحربية، لكنه سوف الطلب. وعلى جانب آخر، وتدريجيا شغلت الشام الحيز في السياسة المصرية، وعمل ابراهيم جنبا الى جنب مع محمد علي في الاسهام بالاتصالات مع حكام الشام، لدرجة أنه – الابن – كان يبعث المراسلات المتضمنة المعارك العسكرية التي انتصر فيها اثناء حرب المورة الى عبد الله باشا والي صيدا، وسرعان ما ساءت العلاقات بين الطرفين، وهيأت الفرصة لوالي مصر بعد أن أعد عدته لحملة الشام.
من المعروف ان للشام طابعه الخاص الذي منحه شكلا أثر في تكوينه السكاني، فضم بين جناحيه التنوع العنصري واللغوي والعقائدي، فهناك الساميون والأكراد والسريان والأتراك والبشناق والكريتيون والألبان والأرمن والأوروبيون. ونتج عن هذا الخليط اختلاف اللغة والدين والعادات والتقاليد، ومن ثم اصبح من الصعب أن يربط هذا المجتمع سياج من الوحدة الطبيعية، لذا فتحديد الوجود البشري يعتمد على التقسيمات الدينية التي أصبحت المقياس للحصر، فالتركي والعربي على قدم المساواة، وانما التفرقة بين المسلم والمسيحي الذي تبعه التفرقة في المذاهب الدينية، مما نتج عنه حشد متباين، تمثل في العداوات والمشاحنات والمشاغبات التي فرضت نفسها على المجتمع ، لتتبلور في قلاقل تصاحبها ثورات، حيث يقوم السلاح بدوره في هذا الشأن، ومن هنا أصبح التعصب المفتاح في انفجار أية أزمة.
وقضت هذه الاواضح بجعل حكم المنطقة وادارتها غاية في الصعوبة، ولذا اخضعتها الدولة العثمانية لنظام اداري تعددت فيه الباشاوات، اذ كان غير الملائم تطبيق المركزية. وبضعف الولة ، فقدت السيطرة على ولاتها الذين عاثوا في ارض الشام فسادا، بالاضافة الى ما اقدم عليه جنودها من سلب ونهب للأهالي. وفي الوقت ذاته عانى المجتمع من الاقطاع الذي تجلى بصورة واحضة في جبل لبنان، ومما زاد الامر وبالا بالاضطهاد الذي تعرض له اهل الذمة، وبالتالي ألقت الفوضى والفساد بظلالها على المجتمع الذي أصبح يئن بعد أن طفح به الكيل، وكان ذلك عاملا مهما لتمهيد السبيل ومنح التسهيلات لنجاح الحملة المصرية على الشام.
أعدت الحملة البرية على الشام في نوفمبر 1831 وفقا للتقنية العسكرية الحديثة، وصحبها الأسطول ، وأنيطت القيادة العليا لابراهيم صاحب الانتصارات العسكرية الحديثة، ومعه نخبة من القادة، بالاضافة الى الاجانب من ذوي الخبرة، ودون حرب أصبحت المنطقة من غزةالى يافا في أيدي ابراهيم، وخضع متسلموها وشيوخها للوافد الجديد، وقلدهم القائد أمر الحكم وألبسهم الخلع. وقد دل ذلك على الترحيب بالوجود المصري، وتم تفويض الأمير بشير بحكم لبنان، وحاصر ابراهيم عكا، وأعد الخطة للاستيلاء على باقي المدن الشامية، ثم استسلمت عكا في 27 مايو 1832 للقائد الذي منحها الأمان وأصدر أوامره بترميم واصلاح ما تهدم بها، ونهى عن السلب والنهب.
وتباعا أصبحت موانئ الشام في قبضة ابراهيم الذي أعطى أعيانها وعلماءها الأمان، وكان قاسيا على من لا يتبعه، ومنذ اللحظة الأولى أثبت سطوته وقوته، وان كان قد تخللتها الرأفة أحيانا، وجاء الدور على دمشق التي وصفت بأنها "احدى جنات الدنيا" فاستسلمت بعد مقاومة عابرة، وتلا ذلك دخول ابراهيم حمص، ولم يتطلب ما تبقى من مدن المجهود. وهزم ابراهيم قوات السلطان في حلب، ورحب أهلها به، وعرض أعيانها مشاكلها عليه، فوعدهم خيرا بما ترتاح اليه انفسهم، واستقبل وفود اورفا وديار بكر التي اعلنت خضوعها للحكم المصري.
وواصل القائد تقدمه، وانسحبت القوات العثمانية من أمامه، وضم بيلان والاسكندرونة وبنياس وانطاجية واللاذقية والسويدية وطرطوس، وزحف تجاه الأناضول، ودخل أدنة وعنتاب ومرعش وقيصرية، واستولى على قونية في 21 ديسمبر 1832 بعد انتصار باهر على الاتراك، وغدا الطريق مفتوحا أماما الى استنبول.
وأصبح ابراهيم يمتلك القوة التي تمكنه من مواصلة انتصاراته، وخاصة أنه أدرك تماما أن أصحاب الشام يؤيدونه ويستنجدون به للخلاص من أيدي العثمانيين الظالمين، فاستمر في النديد بالحكم التركي ، وكان قبل قونية قد هاجم السلطان، وركز على ما يتعرض له الاسلام من أخطار بتسلط الدولة الأوروبية وتحكمها في هذه الشخصية، وطرح سؤالا على المفتين: اذا كان امام المسلمين متهما بعدم استقامته، فهل للمسلمين الحق الشرعي في اسقاطه؟ فجاءه الرد بشرط أن يكون باجماع 12 ألفا.
واستأذن والده في أن يحمل خطباء المساجد على القاء الخطب باسمه لأنه يريد ان يسلك المعدن وهو حام، ولكن يرفض محمد علي، اذ رأى أن تكون الفتوى "من بلاد السلطان لا من مصر، حتى يقال ان الشعب هو الذي أسقط سلطانه" ولم يقتنع الابن متعللا بالقول "ان الأمة لا تملك المقدرة على العمل، فالواجب ان نعمل نحن، ثم نطلب ثقتها".
وبعد أسبوع من انتصار قونية، كتب ابراهيم الى محمد علي ليأذن له بالتقدم – وخاصة بعد أن أسر مصطفى رشيد باشا القائد التركي – كما أبلغه مقدرته على خلع السلطان، وزحف واستولى على كوتاهية، وكتب الى أبيه موضحا بأنه لا توجد في طريقه قوة تقاومه حتى دخول استنابول – المسافة 50 فرسخا – ورجاه بقوله "بحق حبنا للأمة الاسلامية وغيرتنا الدينية، أرى الواجب المحتم علينا لا العمل لمصلحتنا فقط، ولكن العمل فوق كل شئ وقبل كل شئ لمصلحة هذه الأمة كلها، من أجل ذلك يجب علينا خلع السلطان المسئوم، ووضع ابنه ولي العهد على العرش، ليكون ذلك بمثابة محرك يحرك هذه الأمة من سباتها العميق، فاذا اعترضت على بأن اوروبا تعتضرنا، قلت لك إننا لا ندع لها الوقت للتدخل، وبذلك ينتفي الخطر من ذلك الجانب، لأن مشروعنا ينفذ قبل أن يعرف، وبذلك نضع أوروبا أمام الأمر الواقع، واذا كانت اوروبا تغتنم الفرصة لاشباع مطامعها من هذه الدولة فأية تبعة تقع علينا"؟
ولم يقر محمد علي ذلك الاتجاه آنئذ، وتلقى ابراهيم الأمر منه بالتوقف عن الزحف، بناء على السياسة الأنجلو فرنسية حيال التدخل الروسي في شئون الدولة العثمانية والمحافظة على الوضع الراهن ، الذي كان في طريقه للإنزواء بانتصارات القائد. وأجريت الاتصالات الأوروبية مع محمد علي وابراهيم لحسم الموقف مع السلطان، وأمام ذلك رأى ابراهيم أن يكون استقلال مصر مقدما على كل شئ في المناقشات لحيويته، وأنه بناء على عدم الحصول عليه، تصبح المجهودات التي بذلت هباء منثورا، وتجعل مصر تحت سيطرة الدولة الخبيثة – العثمانية – وأنه بعد الاعتراف بالاستقلال ، تضم الى مصر أضاليا وأدنة، لشدة الحاجة الى الاخشاب، وكذلك قبرص لتكون مركزا للأسطول ولسد الطريق أمام الباب العالي، وان أمكن طرابلس وتونس، وأنه لا مانع من طرح مسألة ضح بغداد في المباحثات.
من هنا يتضح ان ابراهيم عندما وجد أن هناك عقبات أمام تقدمه لأستبول، وأهمها عدم موافقة أبيه الذي كان يتلقى منه الأوال، نظرا لاختلاف الرؤية نتيجة للظروف التي أحاطت بالأخير، اتجه الى توسيع حدود مصر، فهل كان ذلك الأمر يحمل أبعادا عربية؟
الواقع أن فكر القومية العربية لم تكن قد تبلورت بعد أثناء القرن التاسع عشر في الشرق، حيث تواجد نفوذ الدولة العثمانية، وهي الدولة الأم ذات الطابع الديني التي خضعت لحكمها الولايات العربية – ما عدا المغرب الأقصى الذي كانت تربطه به علاقة طيبة، ولكن بحكم احتكاك ابراهيم بجنوده المصريين، وبالعرب سواء في شبه الجزيرة العربية أو الشام، ومشاعره العدائية للأتراك، قد جعله يميل للعنصر العربي، وبالتالي فانه عندما رصد قناصل الدول تصرفاته، التقطوا صورا تنم عن ذلك الارتباط، ونقولها الى مسئوليتهم ، منها أن المنشورات والتوجيهات والتعليمات الصادرة لجنوده كانت باللغة العربية، وان الاشادة بأمجاد العرب ترددت على لسانه في وقت ازدادت فيه نقمته على الاتراك، وتشير لتصريحه بأنه جاء مصر صغيرا، وحرارة شمسها صهرت ما يجري في عروقه من دماء، فانسابت دماء عربية نقية.
ان شخصية ابراهيم استحوذت عل المكانة في المراسلات، فيسجل القنصل النمساوي في 16 يوليو 1833 قوله عنه "انه ابن هذا العصر، وقد تربى تربية عصرية، وتنزه عقله عن الانبطاع على الخضوع على السلطان بحكم المبادئ الدينية، واني لأرى الى جانب ضعف الباب العالي وهزاله، جيشا عربيا قويا ممرنا على أحدث أساليب القتال، وأرى اسطولا قوية، وكلاهما يسهل مضاعفته". ويسطر القنصل البريطاني في 6 نوفمبر 1833 ليصف حالة البؤس التي عليها بغداد، مصرحا بأن "أنظار الشعب العربي متجهة في هذه المحنة نحو ابراهيم" معنى هذا ان الرغبة في الدخول تحت الحكم المصري كان لها العامل المشجع لدى رؤية ابراهيم.
وفي خضم ذلك، نجحت فرنسا في الوسط بين باشا مصر والسلطان، وانتهى الأمر بعقد اتفاق كوتاهية (أبريل-مايو 1833) وبموجبه تنازلت الدولة العثمانية عن الشام لمحمد علي، وثبتت ولايته على مصر وكريت، ومنحت ابراهيم مقاطعة أدنة، وجددت اسناد ولاية الحجاز لعهدته، مقابل الانسحاب من الأناضول مع دفع 32 ألف كيس – 16 مليون قرش – ووفقا لذلك أصدر السلطان فرمان الولاية.
ولم تكن النية خالصة، فعقدت الدولة العثمانية معاهدة "هنكار اسكله سي" مع روسيا في 8 يوليو من العام نفسه، وحشدت جيشها ، وتأهبت لاسترجاع الشام، ودست دسائسها ضد الحكم المصري، وعلى جانب آخر حصن ابراهيم حدود الدولة الجديدة استعدادا للقاء القادم.
وسعت الدول لتحجيم محمد علي، وتزعما بريطانيا الموقف، ومما أقلقها خشيتها من غزو ابراهيم لبغداد، واتساع دائرة الدولة المصرية الفتية وفي ذلك ما يضر بمصالحها الامبريالية، وبذلت مجهوداتها لدى السلطان الذي أصدر فرمان ديسمبر 1835، بالغاء احتكار محمد علي للحرير في الشام، ثم عقدت معاهدة بلطة ليمان في أغسطس 1838 بين الطرفين التي ألغيت الاحتكار في جميع الولايات العثمانية.
وأثمر العمل المكثف ضد الحكم المصري في الشام الذي نتج عن تعاون عثماني بريطاني استغل اجراءات فرضها هذا الحكم على الأهالي عن قيام الثورات، مما عجل بتجدد القتال، فقد تحركت القوات العثمانية لاستراداد الشام، وجاء اللقاء في 24 يونيو 1839، بين الجيشين العثماني والمصي في نصيبين، وانتهى بانتصار ساحق لابراهيم وانهيار تام للعدو، وعليه استطاع المحافظة على تلك الاراضي الشاسعة التي سيطر عليها، ولم يتوقف وتقدم فاستولى على بيره جك وعينتاب ومرعش وأورفا.
والواقع أن تاريخ ابراهيم العسكري يشهد له بالتفوق، حيث انتهج الأساليب القتالية الحديثة دون التمسك حرفيا بما هو مدون في كتب الفنون الحربية، لكنه في الحين ذاته كان يأمر بترجمتها، كما أنه لم يترفع عن أن يقوم بالتدريبات كأحد الجنود، وكانت له استراتيجيته التي عدت آنئذ أهم أدواته في الحصول على النصر، وخاصة أنه قضى الكثير من سنوات عمره على أرض المعركة، فأصبح صاحب الخبرة في شتى الميادين، حارب في البر والبحر، فخبر الصحراء والوديان والسهول والبقاه والمياه، والتزم بما خططه من مبادئ أهمها: المحافظة على الهدف، حشد وادخار القوى، خفة الحركة، المفاجأة والسرعة، حرب العصابات، تعاون الأسلحة، الوقاية، البساطة، اختيار القواعد، طريقة الهجوم، الضبط والربط، التدريب، المطاردة، الاعتماد على لليل، دراسة سيكولجية العدو ونقاط ضعفه، سرعة التصرف والمبادأة، بعد النظر ، الهدوء ، الرقابة، تشجيع القوات.
وكان ابراهيم باشا في مقدمة جيشه، وقد مثل القدوة لجنوده المصريين الذين أحبوه لما يقدم عليه من مشاركة في الأعمال الشاقة، والنوم في العراء على الثلج – وتسبب له ذلك في الاصابة بمرض الروماتيزم والدرن – وكانت تثور ثائرته عندما تتأخر رواتبهم ، ويبعث لأبيه ليبين له مغبة ذلك، ويركز على ارتباط الجيش بمصر والمصريين، ويقارنهم بالجنود الأتراك الذين يتسلمون روابتهم بانتظام.
وأقدم ابراهيم على خطوة مهمة، اذ قرر ترقية جنوده – أي من تحت السلاح – الى رتبة يوزباشي (نقيب) بعد أن أيقن ما يتمتعون به من صفات الشجاعة في الميدان، تلك التي لا تتوفر في الضباط الأتراك، ودخل في مساجلات مع أبيه لتبرير ما أقدم عليه، وكيف أنه خبر المصريين – أطلق عليهم العرب – ولم يكن يستطيع حينئذ أن يخصل لهم على راتب أعلى لمعارضة باشا مصر صاحب الهوية العثمانية. وزاد الأمر بأن طلب استحداث أوسمة لبعضهم، ولكنه في الوقت ذاته لم يتهاون معهم، واستخدام سياسة الشدة، وكان قاسيا على المخالفين، وعقابه هو الردع في الحال.
أضحى لزاما على الدول الأوروبية أن تتدخل بشكل حاسم، وكان السلطان عبد المجيد قد اعتلى عرش السلطنة في أول يوليو 1839، ومما زاد الموقف تعقيدا استسلام السلطان العثماني لمحمد علي بالاسكندرية، وهذا الأمر قوى من مركزه، ومن ثم غدا جليا ان التوازن الدولي الذي حافظت عليه الدول والمرتبط بالمسألة الشرقية في سبيله للإنهيار، وبالتالي أصبح الهدف الرئيسي هو المحافظة على الوضع الراهن، بمعنى الحرص على استمرار وجود الدولة العثمانية – الرجل المريض – كما هي، وضرب مشروع محمد علي ووأد طموحاته التي تتعارض مع المصلحة الامبريالية، وابعاد التدخل الروسي عن المنطقة، وضمان الأمن الأوروبي، أي أن الأمر لم يكن مؤامرة بقدر ما هو خطة دولية مرسومة، ومن هذا المنطلق أبرت معاهدة لندن في 25 يوليو 1840 التي وقعتها بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا وكريت لاستنابول، وأن يسمح له بولاية مصر وراثية، وولاية عكا مدى حياته، وحددت الفترة الزمنية للقبول بعشرة أيام بالنسبة لعكا ومثلها لمصر. وبلغت المعاهدة لمحمد علي في 17 أغسطس، وانتهت المهلة الأولى فسقطت عكا، في وقت حاصرت فيه قطع الاساطيل البريطانية والنمساوية والعثمانية السواحل الشامية، واستولت على أهم مدنها.
ولم تجد الاستعدادات الحربية التي أقامها ابراهيم الذي وجد نفسه قد فرض عليه قبول الأمر الواقع، بعد التدخل الدولي والثورات والخيانات، وسرعان ما أمره محد علي بالانسحاب بعد أن فقد الأمر في الاستمرار، وخاصة عندما تخلت فرنسا عنه. وتم تنظيم رحلة العودة الى مصر، وجسدت أشد أنواع المعاناة سواء ما اختص بالحالة المعنوية أو الحالة البيئية أو الحالة المعيشية، وتفرعت الرحلة الى ثلاثة فروع، وسلك كل منها طريقا، وتولى ابراهيم احداها، وتم الانسحاب من غزة في 19 فبراير 1840 وشكل خسائر فادحة.
بعيدا عن المعارك الحربية
تمكن ابراهيم أثناء تقدمه على أرض الشام من دراسة المواقف تجاه أصحاب المناصب من أهل البلاد، ومن رأى فيه القوة والتعاون والترحيب، ثبته في وظيفته، ووضع له الشروط التي تنم عن رؤيته لنجاح الادارة، ون رأى فيه ما يخالف هذه الشروط عزله وحاكمه في الحال، وبذلك وضع القواعد في الاعتماد على الشوام لما لهم من دراية وخبرة بأحوال بلادهم، مما يخدم الحكم الجديد من ناحية، وحتى يغمرهم الاحساس بالمشاركة في الادارة وشئون الحكم من ناحية أخرى، وتتابعت بيانات ابراهيم باشا كلما دخل مدينة ، مصرحا بأنه جاء لمصلحتها وراحتها، وراعى اختيار الأهالي سواء في تعيين المسئولين أو في رغبتهم التخلص منهم عندما أساءوا استخدام سلطتهم.
وانكسر النفوذ الاقطاعي، وأصبحت هناك دولة مركزية، واختار ابراهيم أن تكون دمشق عاصمة لها، ورأى أن يكون هناك حاكم عام ليسهم في التخفيف من أعبائه، وتم تعيين شريف باشا كتخدا محمد علي وحاكم الصعيد في أواخر أكتوبر 1832، ونقل له ابراهيم الأسس التي انتهجا في الادارة لتكون هديا له، ولم يمنع ذلك ان استمر طوافه واشرافه على طول البلاد وعرضها، واتخذ أنطاجية مقرا له. هذا بالاضافة الى أن شريف كان ينهي الأمور الى ابراهيم ، وهو بدوره لابد أن يرجع لمحمد علي.
وشكلت مسألة معالجة امراض الادارة من رشوة واختلاس وابتزاز وخلافه الأهمية، واستخدم ابراهيم أشد أنواع القسوة والعقاب الصارم على من أصابتهم تلك الأمراض، وفي الحين نفسه فقد قرنت تصرفاته ببعض النواحي الانسانية. ومن أجل وجود مشارك في اتخاذ القرار، صدر أمر ابراهيم في يونيو 1832 بانشاء مجلس شورى دمشق، وتبعته مجالس مماثلة في مدن أخرى، رغبة في احلال نظام جديد، واحتواء وامتصاص واستجلاب محبة واحترام وولاء كبار الشخصيات الذين سوف يشكلون المجالس دون تمييز في العنصر او الدين، ووكلت اليهم القضايا التي تسهم في تسيير الادارة والقضاء وفقا لما استحدث، وخضعت تلك المجالس لرقابة وتفتيش ابراهيم، وبالتالي ضبطت الأمور، حيث أدت المركزية دورها في هذا الشأن.
وخضع القضاة للسلطة الادارية، وأصبحوا مراقبين في أحكامهم، قلقين على مراكزهم، بعد أن سلب منهم ما كانوا يتمتعون به من امتيازات، وفرضت عليهم الارشادات والتنبيهات، كي لا يحيدوا عن العدل والانصاف. حقيقة أن ضغيان السلطة التنفيذية على السلطة القضائية ظاهرة غير صحية، ولكن بسبب سوء الظروف التي كان يعيشها المجتمع الشامي، كان سلوك هذا الطريق حتى تقصي الأيادي عن العبث بالعدالة.
وحرص ابراهيم على اللقاء بالقضاء، وحثهم على تطبيق الأحكام الشرعية، ولم يبخل عليهم، فكثرت انعاماتهلهم. وبجوار المحاكم الشرعية، وجدت سلطات قضائية أخرى لتساير متطلبات الاتجاه الجديد في التحديث، فأضحى لمجالس الشورى اختصاص قضائي، وتمتع الحاكم بسلطة قاضي الاحالة، وحد من قسوة العقوبات السائدة، واهتدى بالقانون الفرنسي، وكان لقضاء كل من لبنان وأهل الذمة والأجانب الوضع الخاص.
وأمسك بزمان المالية حنا بحري الشامي المسيحي، وذلك لثقة الادارة المصرية فيه ولخبرته، وكان لابراهيم النشاط في العمل على اضافة الاموال والحرص على زيادتها، فهو دائم التنقل والتفتيش على مصادر الايرادات، التي اعتمدت على الضرائب والرسوم الجمركية، وتعددت منافذ المصروفات وشملت الجزية وخراج السلطان، وتكاليف الجيش، وما يتعلق بالحرب والهدايا والثورات والتحديث. ومن ثم خرجت من مصر الامدادات المالية لسد العجز حتى لقد صرح محمد علي بأن امتلاكه للشام لم يفد خزانته.
وفي البداية أصدر ابراهيم مرسومه الى متسلمي الشام يشرح فيه النظام الضرائبي الجديد، مبينا أنه سيراعي أسباب راحة الأهالي، وألغى ضريبة الصليان – تعرف أيضا باسم الساليانية، وتفرض على المقاطعات لتغطية مرتب الوالي – ولكن الحاكة الى الاموال تطلبت التوسع في فرض الضرائب: الميري، والحرير، العشورية، الجزية على أهل الذمة، الفردة التي عدها المسلمون جزية، الاعانة، نقل الملكية، العوائد، الانتاج، الصابون، الملح، الطباق، الزيت، الحدائق، الأشجار، المنافع العامة، الحيوانات، الأسماك، الفاكهة، الطواحين، الأوقاف، الخمور ... الخ، وخضعت الضرائب لنظام الالتزام، ولم يكن ابراهيم سلبيا أمام ما كان يلقاه الشوام على أيدي الملتزمين فأخضعهم لمراقبته وتفتيشه. وأمام تفاقهم الامر التمس من محمد علي تخفيض الضرائب على المناطق الفقيرة، وتحقق له ما أراد، ولكنه استمر على غير رضاه في مسألة ثقل الضرائب.
أما عن الجمارك، فقد حددت الداخلية على رسوم التسريح على المحصولات والسلع ورسوم الداخلية على الحيوانات، ولكن خفض بعضها ورفض البعض الآخر نظرا للصعوبات التي واجهتها، وبالنسبة للرسوم الخارجية، فقط طبق عليها نظام الامتيازات الأجنبية، وذهبت اجراءات الحد منها سدى بعد فرمان 1835. وأدخلت الرسوم المتعلقة بالأهالي تحت نظام الالتزام، وكانت العملة قد تأثرت بالفوضى السابقة، مما أدى الى سعي ابراهيم لوضع الأسس لتوحيدها، لكنه وجد العقبات أمام التنفيذ.
ومثلما حدث في مصر بشأن الغاء النظام الاقطاعي، اتخذت تلك الخطوة في الشام ، اذ أعيد توزيع الأراضي، ولكن طبق نظام الالتزام، لما في ذلك من مصلحة الحكومة. وكان ابراهيم مولعا بالزراعة نظرا لخبرته في شئونها على أرض مصر، فشجعها وواجه العقبات التي تعتبريها، وركز على أدوات الانتاج، فقدم المساعدات للفلاحين، وأوجد ما يمكن أن نطلق عليه "بنك التسليف الزراعي" وأقام الصيارفة في المدن لتقديم السلفيات والمنح لهم، كما حد من سطوة المرابين والتجار الأجانب عليهم، وصد عنهم هجمات البدو، وأقدم على عقاب الموظفين الذين أساءوا استخدام سلطتهم في الضغط عليهم، ووظف رؤوس الأموال في المشروعات الزراعية وباشرها بنفسه.
وتعددت لقاءات ابراهيم بالفلاحين، ولأجل استمرار دفع عملية الانتاج اعفاهم من الضرائب لفترة معينة. وتمثل عودة الفلاحين الذين تركوا قراهم فيما سبق نموذجا للنشاط الزراعي حين أعيد توطينهم، وأصدر ابراهيم أوامره بتعمير القرى التي خربها الأتراك، وبذلك عادت الحياة الى القرى المهجورة، والنتيجة تضاعف الانتاج الذي تعددت أنواعه: التوت، الزيتون، الكروم، القطن، الحبوب ، القنب، نباتات الصباغة، بالاضافة الى الاخشاب، كما أرسلت مصر البذور المختلفة، واهتم ابراهيم بالحيوانات، وسعى الى تحسين السلالات وخاصة الغنم، وتصدى لأسراب الجراد، وأسهم في اجراءات الابادة، ونجح في انقاذ الزراعة من عدوها.
وتصدرت العقبات أمام ابراهيم، فالتجنيد الذي ألزم به محمد علي الفلاحين، لم يكن الابن يوافق عليه، وكتب له يقترح تأجيله الى ما بعد مواسم الزراعة، ولكن يصله الرد الذي يتهمه بالاهمال. كذلك كانت هناك السخرة التي أخضع لها الفلاحون، وايضا حيواناتهم. كما عارض ابراهيم سياسة الاحتكار التي طبقها محمد علي في مصر وأراد فرضها على الشام، نظرا لنتائجها السلبية على المجتمع، وخاصة ان الشام له طبيعته المختلفة عن مصر، وبين لأبيه ان هذا النظام يؤتي أكله سريعا، لكنه سرعان ما تجنى من ورائه الثمار المرة، وبذلك اختلف مع محمد علي، وأشاره له الى خطورة احتكار الحرير المنتج الرئيسي، موضحا ان معيشة السكان قائمة عليه، وفسر له كيف ان الاحتكار مع الضرائب سوف يهوي بالبلاد. ومع هذا صمم الأب على موقفه، ولم يكتف بالحرير، وانما أدخل عليه القطن لفترة والصوف والقنب، وعارض الأجانب ذلك لما يصيبهم من ضرر، وتولت بريطانيا ضرب احتكار الحرير في فرمان 1835، وقضت على باقي الاحتكار في معاهدة 1838.
وعمل ابراهيم على تشجيع الصناعة، وخاصة اليدوية التي اشتهرت بها الشام مثل: الغزل والنسيج من حرير وأصواف، الزيوت، الصابون، الزجاج، سروج الخيل، السيوف، شمع العسل، النبيذ، الخشب وغيرها. وارتفعت أجور العمال، لكنهم في الحين ذاته فرضت عليهم السخرة في أعمال الحكومة، واهتم ابراهيم بالثروة المعدنية التي شكلت ثقلا في الميدان الصناعي، فاستقدم الأجانب للبحث والتنقيب عنها.
وواجهت ابراهيم الصعوبات في التجارة، ومعروف أهميتها بالنسبة للشام، واحتل الأجانب الذين تمتعوا بالامتيازات الأجنبية ومن أسبغوا عليهم حمايتهم ، الموقع المتميز فيها، وحاولت الادارة الجديدة ووضع المعايير لتسلطهم، وكثفت حجم التجارة الخارجية، وبينما سمحت للأجانب بامتداد نشاطهم للداخل بعد ان كان مقصورا على السواحل، فإنها وضعت القيود لحماية الانتاج المحلي. ولكن كما حدث في الاحتكار جرى على التجارة وفقا لفرمان 1835 بتخفيض الرسوم الجمركية على التجارة البريطانية، ثم طبق الأمر على باقي الأوروبيين، وحتى تلك الرسوم البسيطة تهربوا منها، مما أسفر عن خسارة وضحت في الميزانية العامة ، ومع هذا ازدادت الواردات نظرا لوجود قوات الجيش واحتياجات المجتمع المستحدثة كذلك ارتفع مؤشر التصدير. وأولى ابراهيم عنايته بالموانئ والشحن، وانعكس النشاط التجاري الخارجي على التجارة الداخلية، وانتعشت المدن، وأعدت الطرق النهرية.
ورغم الجهود التي بذلها ابراهيم في دفع عجلة الاقتصاد، فان العراقيل وقفت بالمرصاد، فبالاضافة للامتيازات الأجنبية وما صاحبها، كانت سياسات الاحتكار والتجنيد الجباري والسخرة، وما نتج عن ذلك من ثورات وارتفاع الأسعار واستغلال المستفيدين من ذلك. وأمام الأمر الأخير، حددت تعريفة الأسعار وأنشئت وظيفة المحتسب، وفرضت الرقابة الصارمة، واطلع ابراهيم على البيانات، وتابع بنفسه حركة الأسواق، وفرض العقوبات على المخالفين.
وأولى ابراهيم عنايته بالخدمات التي تدخل في دائرتها برامج التحديث، وبالنسبة للتعليم، فقد كان يتفق مع أبيه في حبه له، ويرى فيه نهضة الشعوب. وفي عام 1835 وضعت خطة لانشاء مدارس حكومية في المدن للاعداد العسكري للشباب وفقا لنظام مدارس الليسيه النابولينية، ولكن خوف الاهالي من التجنيد لم يساعد على نجاح هذا النوع من التعليم، وفضلت المدارس النظامية، فتأسست في دمشق وحلب، ووضعت الأسس لارسال البعثات الى القاهرة، وجلبت منها الكتب.
وعن الصحة، فانها نالت اهتمام ابراهيم، فأنشئت المستشفيات نظرا لمتطلبات الجيش، فبالاضافة الى خدمة الأهالي، وبالذات مع انتشار الأوبئة مثل الكوليرا، والطاعون، وما تبع ذلك من حجر صحي، وقد طلب القائد احضار لائحته من الخارج ليستعين بنوعية العقوبات التي تفرضها على من لم يلتزم بالنصوص. وصدرت أوامره المتعلقة بالحرص على النظافة وتطهير المياه، كذلك باشر أمر تعبيد الطرق، وأصبحت مسألة تقدم وسائل النقل والمواصلات وخاصة البريد الحربي والآخر الحكومي أمرا واقعا.
وكان من مقدمات الاستقرار اخضاع البدو للسلطة المركزية، ولابراهيم موقفه منهم، وله التجارب السابقة معهم أثناء حرب شبه الجزيرة العربية، فخصص لهم قوات نظامية لصد غاراتهم، وكان يرد الأموال التي استولوا عليها من الأهالي ثم يتولى القصاص منهم، وحرم عليهم تحصيل الخوة – هي اتاوة فرضوها وألزموا بها العابرين – وكذلك عوائد الحج. وفي الوقت ذاته استخدم معهم سياسته الخاصة بالاستفادة منهم في معرفة الطرق الوعرة ومنافذها، واستقطابهم ضد أعدائه، كما استغل التنافس بينهم، وألبس الخلع لشيوخهم، وعمل من أجل توطينهم سواء بانشاء قرى جديدة لهم أو على الحدود مما أعطاه مركزا استراتيجيا، وأسفر عن نوع من التغيير الاجتماعي، ومع هذا فلم يكن ابراهيم متلهفا على تجنيدهم – ما عدا القلة – لأنه على يقين من اتجاهاتهم، وبالتالي خشى انحرافاتهم.
وتوفر الأمن، وأجمع شهود العيان الشوام والأجانب على ذلك، وتوالت توصيات ابراهيم بوجوب المحافظة على راحة الأهالي وتأمينهم، وضع نظام للجوازات، وأحكمت الحراسة، وتعددت المخافر، وكثرت مراكز الشرطة، وشاركت قوات الجيش في متابعة الأمن، وطبقت مسألة التضمين في المسئولية. وفخص ابراهيم الشكاوى، ولم يترك سيئة ترتكب دون القصاص من فاعلها، ونزل الى المواقع ليحقق ويدقق في حوادث الاجرام، هذا فضلا عن احكامه الرقابة على جنده، فانه يخرج ليلا متنكرا للوقوف بنفسه على حركاتهم وسكناتهم، كما أجبرهم على ايفاء ثمن ما يبتاعونه من الأهالي، فلم يجر أحد منهم على مد يده، ولو لاقتطاف ثمرة مشمش من على شجرتها، واذا حدث استثناء، يردع صاحبه في الحال، حيث أصدر ابراهيم قانونا عسكريا تضمن العقوبات في هذا الشأن.
واشتهر ابراهيم بالعدل، فهو يتفقد رعاياه ليقف على كل صغيرة وكبيرة، ويخصص وقتا لاستقبال طالبي الحاجة، وعندما يحل بأية مدينة، يعلن عن ذلك ليبت في المظالم، وأصبح يضرب به المثل في عدله وانصافه، وقد صحبتهم الصرامة، فخشى الناس عقابه، وارتعد الموظفون منه، اذ تصدى للخارجين عن القانون. وحتى المشكلات المتعلقة بالأحوال الشخصية، تدخل للعمل على حلها، وكذاالخاصة بالملكية والمواريث، رغم أن مكانها المحاكم، ولكن الكثير فضل رفع الأمر اليه لما وجدوه من استجابة. كذلك حرص على تطبيق العدالة بين العناصر والطوائف المختلفة، أيضا فانه مثل النموذج الحي، حيث التزم بالبساطة في المظهر والمسكن والمعيشة والتحركات.
وكانت الشئون الدينية على أجندته، فاعتنى بأمور الحج، ووفر وسائل الأمن والاطمئنان والراحة للحجاج أثناء سفرهم للحجاز لأداء الشعائر المقدسة، ولبى متطلبات بيت المقدس، وعمل على تعمير بيوت الله، ومراقبة نظار الأوقاف. أما عن المسيحيين الذين تعددت طوائفهم، فقد أعلن عن برنامجه المتعلق بالمساواة بين الأجناس والديانات، ومنح الحرية الدينية الكاملة، بما خالف الأوضاع التي كانت سائدة من قبل، وألغى الأعباء المالية عن مرتادي القدس، وأعفى الكنائس من العوائد ، وأمن طريق القدس، وتدخل في حل المنازعات بين الطوائف الخاصة بكنيسة القيامة، وأصدر الأوامر بترميم الكنائس والأيرة. ولم يقتصر الأمر على القدس فحسب، وانما امتد عبر الشام، ونزل المفتشون من قبل ديوان ابراهيم لعمل التحقيقات السرية عن الأوضاع من أجل اقامة حياة هادئة بعيدة عن التعصب والاضطهاد ، وجرت معاقبة الذين أساءوا للمسيحيين.
وطبقت المساواة أمام القانون، وفتح باب الوظائف بمختلف أنواعها للمسيحيين، وأصبحوا أعضاء في مجالس الشورى، وصرح ابراهيم بفصل الدين عن السياسة، وكذلك الأمر بالنسبة لليهود – فيما عدا بعض الاستثناءات – فمنحهم التسهيلات، ولكن رفض طلبهم بشأن تبليط المكان الملاصق لحائط المسجد الأقصى وموضع البراق. وبذلك تمتع أهل الذمة بحريتهم، وخرجوا للحياة الاجتماعية دون محظورات كانت مفروضة عليهم فيما سبق. ومما يذكر في هذا الصدد أن ذلك الأمور انعكس على المسلمين بالرفض، فهاجموا تصرفات ابراهيم وألقوا التهم عليهم، اذ ان اقامة دولة مدنية كان يتعارض مع ما ألفوا عليه من قبل، وقد عزف الباب العالي على هذه النغمة، مما شكل عاملا مهما في اذكاء روح الثورة ضد الحكم القائم.
أما عن الاجانب ، فوفقا للسياسة المرسومة، ومع سياسة الانفتاح تم الترحيب بهم، وفتحت لهم المدن الداخلية تجارا وسائحين، وتعاقبت أوامر ابراهيم بحسن معاملتهم، وتمتع قناصلهم ومن في حمايتهم بالمكانة، ولكنهم أساءوا استغلالها، فاضجر ابراهيم من تصرفاتهم، ووجد نفسه مكتوف الأيدي أمامهم، فرفع شكواه لمحمد علي، ولكن كان للأخير الاسلوب المهادن لعدم اثارة دولهم، واستمروا في نشاطاتهم المعادية، ومثلوا احدى أدوات الهزيمة.
المواجهة
مما لا شك فيه ان الالتزامات التي فرضت على الشوام، أسهمت في سقوط الدولة الجديدة، فرغم ما أغدق عليهم من امتيازات نقلتهم من أحوال كانوا يئنون تحتها الى أحوال أخرى صبت في صالحهم، فانهم ضاقوا بما أجبروا عليه من حيث تغطية احتياجات القوات العسكرية من مواد تموينية وماشية ونقلها، والمساهمة في الاعمال التي تطلبتها سياسة الادارة – أي الاشغال العامة – من بناء ثكنات وتقطيع أشجار ونقلها.
وأجمعت الآراء على ان التجنيد الاجباري كان أكبر العقبات، ولم يكن ابراهيم راضيا عن هذا الاسلوب، وبين لمحمد علي اختلاف الأوضاع بين مصر والشام، ولكن الأخير رأى أن الأمر ضروري للحرب القائمة، ولكسر شوكة العصبيات، ولاستباب الأمن، ولاعادة تشكيل طبيعة الشوام باخضاعهم لنظام عسكري صارم. وفي البداية واجه ابراهيم الصعوبات، نظرا لهروب الاهالي الى الجبال، ومن ثم أمر باستخدام القوة، فأقدموا على ما سبق أن قام به المصريون من احداث عاهات مستديمة بأجسامهم، ومع ذلك ألحقوا بفيالق المؤخرة.
وطبق نظام الكفالات على المجندين، وكذا نظام البدل في بعض الاحيان، ولم يكن ابراهيم مؤيدا لذلك، ولجأ قليلا الى اطلاق سراح البعض من الجند لظروفهم الاجتماعية القاسية. وعلى جانب آخر، وبناء على توجيهه أقدم البعض على الالتحاق بالجندية، ومن الملاحظ أنهم كانوا من أبناء الأعيان، ومنحوا الرتب العسكرية وفقا لمركزهم الاجتماعي، وذلك رغبة منه في احتواء تلك الطبقة.
وتوسعت جبهة الرفض من أمر نزع السلاح ، وقد تعود الشوام على اقتنائه نظرا للظروف الطبيعية والاجتماعية والنفسية التي يعيشون فيها، ورثى أنه طالما أسبغت الحكومة المركزية حمايتها على البلاد أصبح لا داعي لحمل السلاح، ومن ثم فرض ابراهيم اقصى العقوبات على المخالفين، وشدد على المسئولين، وتم جمع السلاح اذ قدرت الاعداد وفقا لدفاتر ضريبة الفردة، معنى ذلك أن كل فرد كان يمتلك سلاحا، وخضع الدروز والموارنة لهذا الاجراء بعد الغاء استثنائهم.
كان أمرا طبيعيا أن تكون مثل تلك الالتزامات غير مقبولة لدى الكثير من الشوام، خاصة الذين تمتعوا بالسطوة والجاه والقوة والعصبية، وبالتالي فقد ساءهم الخضوع لتلك الاوامر التي عدوها لمصلحة غيرهم.
وبدأت ترجمة الرفض في الجنوب بقيام الثورة الفلسطينية، وجاءت مبكرة، وذلك عندما ضربت مصالح البدو الذين تحكموا في المنطقة، وسرعان ما فرضت الجندية، فكان الرد هو الثورة التي قامت في مايو 1834 برفض اطاعة الأوامر، وانتشرت سريعا، وامتدت أعمال التخريب، حتى لقد ادى الامر الى ان يدخل ابراهيم القدس ليقود المعركة ضد الثوار.
وحضر محمد علي في 29 يونيو والتقى مع ابنه في يافا، واتفقا على تحطيم قوة الثوار والقضاء عليهم، وفي الوقت نفسه تم اغراء بعض الشيوخ الثائرين، وتمكن ابراهيم من قهر الثوار في نابلس، كما أخمدت في باقي المدن الفلسطينية، وصدر الحكم على قادتها بالنفي.
وسرت الانتفاضات المضادة، وماجت مدن الشام بالاضطرابات في الفترة بين عامي 1834 و1836 في دمشق وطرابلس وعكار وصافيتا والحصن وحلب وأنطاجية وبعلبك وبيروت وصيدا وكرلس، كما ثار الأكراد. وبناء على طلب أبيه، سافر ابراهيم للقاهرة في أوائل عام 1835 للمشاورة في تحقيق الخطة المرسومة بالنسبة للبنانيين وعاد الى عكا للتنفيذ.
ومثلت الثورة الدرزية (1837/1828) تحديا عنيفا لابراهيم، رغم أن جبل لبنان قد قدم المساعدات للادارة المصرية، وأسهم في المعارك واخماد الثورات، وقام حاكمه الأمير بشير بدور متعاون، ولكن أعداءه من الاقطاعيين انضموا للقيادة العثمانية، فانتصر ابراهيم عليهم.
ومع سحب امتيازات الدروز الخاصة بعدم التجنيد وحمل السلاح وغير ذلك، قامت ثورة دروز حوران، وتحالفوا مع البدو المعارضين، واثاروا باقي الدروز، فطلب ابراهيم الامدادات من مصر، وحضر الجنود الالبان من كريت، وشنت الحرب على الدروز في المناطق الجبلية ، حيث طور ابراهيم نظام وحدات جيشه، فأنشأ آلايات القناصة، وخاضر المعارك للاجهاز على الثورة التي اتسمت بالقوة، وانتهت بالحصول على النصر الذي كان غاليا، اذ فقد الكثير من الرجال والأموال.
ومما يذكر أن الموارنة أسهموا في القضاء على الثورة، وذلك لعلاقة العداء التي تربطهم مع الدروز. ومنح ابراهيم الآخيرين العفو والأمان، واسترجع لهم الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، وطلب من ابراهيم انزال العقوبة بهم، لكنه رفض امتناعهم عن تأدية الضرائب، وطلب من ابراهيم انزال العقوبة بهم، لكنه رفض ورأى اغماض العين لتهدئة الخواطر واتباع الحسنة، وقطع العشائر الطرق وهددوها وثارت قرى عنتاب وجبل الأكراد، لذا وجد ابراهيم أنهم لن ينقادوا الا بالقهر والتدمير.
واندلعت الثورة اللبنانية (مايو-أغسطس) – وهو العام الذي نفذت فيه الدول الخطة المحكمة لوأد الدولة المصرية في الشام – عندما تقرر تحصيل الأموال ونزع السلاح ، وحينئذ ترك الدروز والموارنة العداء جانبا ليقفوا امام العدو المشترك (ابراهيم والأمير بشير) ورفضوا التنفيذ، وأيدهم المسلمون، وعمت الثورة الجبل وامتدت الى بيروت، وحاول ابراهيم ان يحد من الموقف، فأكد لهم أنه لن يجد منهم أحدا، وتغاضى عن متطلبات السلطة، لكنه هدد الثوار الذين ازدادوا غضبا ووصلت التعليمات من محمد علي لابنه باستخدام كافة الامكانات للقضاء على الثورة، وعليه جمع السلاح، وقبض على زعماء الثورة ونفذت العقوبات الصارمة من سجن ونفي واعدام.
وثبت أن الأيدي الخارجية قد أدت مهامها على احسن وجه في تلك الثورات وتمثلت في الدولة العثمانية التي اصبحت رهن اشارة الدول الاوروبية وخاصة بريطانيا، ولعب الجواسيس ادوارهم على ارض الشام، ونشط العملاء الذين أعلنوا عن قرب الخلاص من النظام القائم، وانتشرت المنشورات التي تضمنت الدعاية لعودة الحكم العثماني، كما كان لظهور السفن الاجنبية على السواحل الاثر، اذ نادى القائد البريطاني بالثورة معلنا بأن الدول اخذت على عاتقها مسئولية انهاء الحكم القائم والدفاع عن الشام، وسرعان ما أبلغ محمد علي بمعاهدة لندن 1849، واضطر مرغما اصدار أوامره بالانسحاب من الشام لتعودة مرة أخرى لما كانت عليه، ولتبدأ من جديد تدور في حياة تفيض بالتعصب والصراعات.
ما بعد العودة
من الطبيعي أن الظروف التي مر بها ابراهيم ابان المرحلة الاخيرة، قد تركت الآثار السيئة على نفسيته، وهو الرجل الصلب الذي لم يكن من السهل ان يتقبل الهزيمة، وذلك بسبب يقينه من قدراته التي رأى أنها الرابحة في مواجهة التدخل الاوربي، ومن ثم اختلفت رؤيته عن أبيه الذي عرك فنون السياسة، كما تطرق الاختلاف في استخدام سياسة المال، فالاب يجيدها، والابن يعتمد على قوته. وعلى أيه حالة، فان تناقض الاتجاهين في احيان كثيرة لم يكن يسقط احترام ابراهيم لابيه وتنفيذ قراراته، والواقع انه كان ذا صفات متميزة، فرغم صراحته وقسوته وحزمه، فانه طيب القلب، متسامح النفس، ضحوك الوجه، ودود، يشارك في الولائم والمجالس، ويسمع الموسيقى ويفتن بالطرب ويتذوق الشعر.
عقب عودة ابراهيم الى مصر، وجه عنايته الى زراعة جفالكه، واستخدم التقنيات الحديثة في فلاحتها، وكان يردد مقولة ابراهيم بك "اذا طلبت في مصر الذهب، فانكش وجه أرضها". ولكن ما لبث ان ازداد عليه المرض، وبدأ رحلاته العلاجية بالخارج منذ عام 1845 التي عرج فيها على بريطانيا وفرنسا، واستقبل بالترحاب والتقدير في كل منهما، فهو الحاكم المنتظر بعد محمد علي، وقد ذكر كرسي عرش مصر لم يفارق ذهن الاب ولم يغب عن عيون الابن، بمعنى ان الاول كان حريصا على التمسك به تماما آنئذ، ويخشى من سعي الابن له عن طريق التخلص منه، والآخر توجس خيفة من أبيه، ومضى في تحصين نفسه ودرئها عن الخطر، وذكر أيضا ان عباس كان يعمل وراء الكواليس لاشعال الموقف بين الطرفين لكراهيته لابراهيم.
ومع ام 1847، وباعتلال صحة محمد علي ، سعى ابراهيم للاحلال مكانه، وفي 8 أبريل 1848 تشكل مجلس من الباشوات البارزين ومديري الدواوين، وتقرر تولى ابراهيم ادارة دفة الحكم باسم أبيه، وان يوقع بدلا منه على الاوراق الرسمية، وفي أول سبتمبر من العام نفسه، صدر فرمان احالة ولاية مصر وملحقاتها الى ابراهيم، وقد اجتهد اثناء فترة ولايته في العمل على اعادة ترتيب الاوراق الخاصة بنهضة مصر واستمر في الحكم حتى 10 نوفمبر، اذ فاضت روحه الى بارئها بعد عمر بلغ التسعة والخمسين عاما، وذلك في حياة أبيه.
تلك كانت صورة موجزة لرحلة ابراهيم باشا عبر الحياة، وقد وضع التركيز فيها على فترة وجوده في الشام التي لم تتعد حوالي العشر سنوات، لما يتفق ذلك مع الكتاب الذي تقرر اعادة نشره لما له من قيمة عظيمة.
محمد علي منذ ولادته إلى أن تولى حكم مصر
أنجب النصف الثاني من القرن الثامن عشر عددا من أعاظم الرجال، نذكر منهم اثنين من مؤسسي الدول لعلاقتهما بموضوع كتابنا هذا، وهما نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا ومحمد علي عزيز مصر.
ولد هذان العظيمان في سنة واحدة وهي سنة 1860، ونشأت بينهما علاقة تاريخية خالدة الأثر في تاريخ مصر وسوريا. فقد كات حملة بونابرت على مصر سببا لقدوم محمد علي إليها في عداد رجال الحملة العثمانية التي جردت لمحاربة الفرنسويين، وبدأت شهرته ونال ترقياته الأولى في سلك الجندية في أثناء تلك المحاربة، كما أن ما قامت به الحملة والبعثة الفرنساويتان من الأعمال العسكرية والادارية والعلمية في القطر المصري مهدت أمام محمد علي سبل التغلب على المماليك ، وتنفيذ خططه الاصلاحية في البلاد. وقد اشترك كل من بونابرت ومحمد علي في وضع أساس النهضة السياسية والأدبية في الشرق الأدنى. ومما كان يثير الطموح في نفس محمد علي ولادته ونابليون بونابرت في سنة واحدة، ونشوؤه في البلاد التي نشأ في الإسكندر ذو القرنين، فكما أن الاسكندر مكودني الأصل، كذلك محمد علي ولد في بلدة قولة وهي ميناء صغير من موانئ مكدونية.
على أن عظمة محمد علي لم تستمد من زمان ولادته، ولا من مكانها، ولا من نسب أو نشب ورثة من أسلافه، لكن كبار المطامع والنفوس يرون في كل بارقة ما يحملهم على سعة الأمل، ويشحذ همتهم للمضي في طلاب العلا. أما العوامل الحقيقية التي ذللك أمامه الصعاب ودفته إلى قمة المجد، فهي ارادته الحديدية وذكاؤه النادر والحزم والدهاء اللذان كانا عدته في كل شدة، مع مقدرة قليلة المثال على اغتنام الفرص التي سنحت له.
نشأته وفواتح أعماله
توفى ابراهيم أغا والد محمد علي ثم عمه طوسون أغا وهو لا يزال قاصرا ولم يتركا له مالا يستحق الذكر، فكفله حاكم قولة صديق أسرتهم، وربى محمدعلي فقيرا يتيما، غير أن مضاء عزيمته وسعة حيلته جعلاه منذ حداثته من المتفوقين على أقرانه، كما ان مربيه زوجه من احدى قريباته، وكانت سيدة ذات يسار فمكنته من الاتجار في الدخان، ولقى في عمله هذا مساعدة من احد التجار الفرنسويين ربما كان لها شئ من التأثير في ميوله نحو أبناء الشعب الفرنساوي. ومما يروى عن فواتح أعماله أن سكان احدى القرى التابعة لحاكم قولة، رفضوا دفع الأموال الأميرية، فتطوع محمد علي لتحصيل تلك الأموال منهم بقوة من الجند لا تزيد على عشرة رجال، فقبل الحاكم تطوعه شاكرا وأصحبه بالرجال الذين طلبهم، فتوجه بهم الى مسجد البلدة العاصية، ودعا اليه أربعة من وجهائها، فهرولوا الى لقائه وهم لا يعلمون الغرض من هذه الدعوة فقبض عليهم واستاقهم مكتوفي الأيدي إلى مقر الحاكم، وأفهم أهل بلدتهم أنه اذا بدت منهم حركة عدائية أنزل بأعيانهم المأسورين الموت العاجل فلزموا السكينة وبادروا الى دفع المال المطلوب.
واتفق مرة مع جماعة من زملائه على المسابقة بالقوارب من ميناء قولة إلى جزيرة طشيوز الواقعة قبالتها، ولما أن أوان السباق كان البحر هائجا هياجا شديدا فخارت عزائم مناظريه وعادوا أدراجهم قبل انتهاء السباق، أما هو فثبت على مغالبة الأنواء والأمواج، وبقى مجدا في التجديف إلى أن بلغ جزيرة طشيوز بعد شديد العناء. ومن يتصفح تاريخ هذا الرجل العظيم يرى أن المزايا التي كفلت له النجاح في هذه الأمور الصغرى هي هي نفس المزايا التي مكنته من التغلب على ما اعترضه من العقبات في معترك السياسة، ودفعته الى القيام بجلائل الأعمال.
قدومه إلى مصر
نزلت الحملة الفرنسوية في مصر بقيادة الجنرال نابليون بونابرت في أول تموز (يوليو) سنة 1798 قاصدة حسب الظاهر الاقتصاص من المماليك لاعتدائهم المتكرر على التجار الفرنسويين. أما الغرض الحقيقي من ارسال هذه الحملة، فهو اتخاذ القطر المصري قاعدة للتوسع ومزاحمة الإنكليز في آسيا وأفريقيا، ومقاومة نفوذهم الاستعماري، وجعل البحر المتوسط بحيرة فرنسية. فاتفقت الحكومتان الإنكليزية والعثمانية على وجوب اخراج الفرنسويين من مصر، وجهزت كل منهما حملة لهذا الغرض، وكان محمد علي أحدرجال الحملة العثمانية ، اذ جاء مع فرقة جندها حاكم قولة وتولى قيادتها ابنه علي أغا، وكان محمد علي وكيلا لذلك القائد، فوصولوا الى القطر المصري في تمز (يوليه) سنة 1799، وبعدما اشتركت هذه الفرقة في محاربة الفرنسويين، اضطر قائدها علي أغا الى مغادرة مصر والعودة الى وطنه فخلفه محمد علي في قيادة الفرقة ورقى الى رتبة بكباشي.
واستمر النزاع مع الفرنسويين الى حزيران (يونيه) سنة 1801 حيث أبرم معهم اتفاق يقضي بجلائهم عن مصر، فانسحبوا منها في شهر أيلول (سبتمبر) من تلك السنة، وعادت السلطة على مصر الى الدولة العثمانية ، فعينت خسروا باشا واليا عليها، فتقرب محمد علي اليه وتولى قيادة فرقة من الألبانيين، عدد رجالها ما بين ثلاثة وأربعة آلاف ، وكانت رتبته حينئذ تضاهي رتبة أمير لواء في أيامنا هذه.
النزاع بين الوالي والمماليك
دخلت مصر في حوزة سلاطين آل عثمان سنة 1517 م على يد السلطان سليم الأول، فرأى أن بعدها عن السلطنة يحول دون حكمها كغيرها من الولايات العثمانية، فجعل لها نظاما خاصا ظنه يضمن توطيد سلطة الدولة العثمانية فيها ويمنع اتحاد كلمة الحكام المحليين وخروجهم عن رجال السلطنة، فجعل أحد الباشاوات ممثلا للسلطان في مصر، فتبلغ بواسطته أوامر دار السلطنة لديوان الحكومة، ويرسل المال السنوي المفروض على مصر الى دار السلطنة، ويناط به حماية البلاد من الاعتداء الخارجي، وحفظ التوازن بين أمراء المماليك في الداخل، ووضعت تحت امرته قوة من الجند، كانت في بادئ الرأي مؤلفة من ست فرق، ثم زيدت إلى سبع فرق. وأنشأ مجلسا مؤلفا من ضباط هذه الفرق فوض اليه ادارة أعمال الحكومة وخوله سلطة ايقاف تنفيذ اجراءات الوالي ، واستئنافها الى الآستانة.
وقسم البلاد الى أربعة وعشرين سنجقا، ووضع على رأس كل سنجق واحدة من بكوات المماليك. غير أن كرور الأيام أثبت أن هذه التدابير كانت قيمتها نظرية أكثر منها عملية، فلم تمنع ازدياد سلطة المماليك، بل ما لبثوا أن صار لهم القول الفصل في كل أمر وتضاءلت سلطة الوالي حتى غدا بازائهم أضعف من الظل، وكانت الدولة العثمانية تشعر بضعفها عن كبح جماحهم بالقوة، فأقامت تتحين الفرص لالقاء الفتن بينهم، وانتزاع السلطة منهم، على أنها بقيت من الضعف على الحال التي وصفنا الى أن نزلت الحملة الفرنسوية في مصر بقيادة الجنرال بونابرت، فبطش هذا بقوات المماليك بطشا شديدا خصوصا في وقعة الأهرام الشهيرة، فل عددهم وضعفت قوتهم الحربية وانخفضت منزلتهم في عيون خصومهم وعيون أهل البلاد الذين ذاقوا الأمرين من جور أحكامهم.
فلما انجلى الفرنسويون عن مصر أوعزت الحكومة العثمانية الى خسرو باشا أن يعمل على محق ما بقى من سلطة المماليك. أما هؤلاء فأخذوا في لم شعثهم والتحفز للقبض على أزمة الأحكام، كما كان شأنهم قبل الاحتلال الفرنسوي، وكان الانجليزي يؤيدونهم في ذلك. غير أنه وقع التزاحم بين زعيميهم عثمان بك البرديسي ومحمد بك الألفي على الاستئثار بالحكم، لكن رغما عن سوء عقبى هذا التزاحم، بقى المماليك مستولين على أهم موارد البلاد التي لا يستيطع الوالي بدونها فتح باب النزاع بين الوالي والمماليك لطمع كل منهم بالتسلط بينه وبين جنوده بسبب تأخر المرتبات، ثم بينه ايضا وبين الطامعين في الولاية من الباشوات.
مواطن القوة والضعف في صفوف المتنازعين
كان النزاع الأكبر بين المماليك والوالي. فالمماليك كانوا يرون أن التسلط على البلاد من حقهم لأنهم توارثوه عن أسلافهم. ومع أن المصريين كانوا يعتبرون المماليك غرباء عنها، فمما لا ينكر أن مصر كانت وطنهم الدائم، وقد تسلسل بعضهم من أسلاف قدموا إلى مصر منذ أجيال. أما الذي ينازعهم السلطة فيها وهو الوالي فهو الذي كان غريبا عنها، والوطني أحق بالحكم من الغريب، فشعورهم بأن الحق في جانبهم أكسبهم قوة معنوية جعلهم يتفانون في سبيل الذود عنه.
زد على ذلك أن تفوقهم على الأتراك في أساليب القتال، وخبرتهم الطويلة بالبلاد وأهلها، وبقاء معظم مواردها في أيديهم أضاف إلى قواهم المعنوية قوى مادية لم يكن لدى منازعيهم ما يوازيها. أما أسباب الضعف في صفوفهم، فأهمها التزاحم بين زعمائهم على الاستئثار بالحكم ونفور الشعب المصري منهم لما أنزلوا به من الجور والامتهان وتناقص عدد رجالهم لكثرة ما خسروا في وقائعهم مع الفرنسويين.
أما الوالي فكان رجاله أكثر عددا من رجال المماليك، وهم معروفون بشدة البأس، لكنهم مفتقرون إلى الاخلاص من افتقار سيدهم الى المال الذي كان لابد منه لارضاء جنود مأجورين. وكان في صفوف جنوده اختلاف في النزعات لتكونها من عناصر مختلفة كالإنكشارية والدالاتية والترك والألبانيين. وكان الجنود كثيري الاعتداء على الناس، ولا رادع يردعهم، فكانوا في نظر الأهلين هم المماليك في مستوى واحد. ومن فظيع الأغلاط التي اشترك فيها الفريقان المتنازعان، فقدانهم الشعور بأي واجب نحو أهل البلاد التي يحكمونها وعدم مبالاتهم بما تحدثه معاملتهم للأهلين من السخط أو الرضا، ولم تكن الحكومة في عرفهم سوى أداة لابتزاز الأموال.
طموح محمد علي الى منصب الولاية
هكذا كانت الحال في مصر حينما اخذ محمد علي يطمح الى منصب الولاية. ولا يستبعد ان تكون تلك الحال نفسها حملته على الطموح الى هذا المنصب بعد اقتناعه بعدم اقتدار احد من كبار الرجال المشتركين في النزاع على التغلب على منازعيه والاستئثار بالحكم وادارة شؤون البلاد بالحكمة والحزم. أما النزاع بين الوالي والمماليك ، فكان لابد من دخوله سريعا في دور حاد لأن الوالي كان مدفعوا الى الاسراع في منازلة المماليك بالأوامر التي وردت عليه من الآستانة، وبشدة حاجته الى المال لدفع مرتبات الجنود. على أنه ما كاد ينازل المماليك حتى تبين له خصم جديد من قواد جيشه، وهو محمد علي الذي كان قبلا من أصدقائه المقربين، لكنه لما اختبر ما عند محمد علي من المقدرة والطموح صار يرى فيه صديقا مخيفا، ولم يكن مخطئا في رأيه كما سنرى.
عندما تسلم خسروا باشا منصب الولاية في القاهرة، كان المماليك مسؤولين عن الوجه القبلي من الديار المصرية وعلى معظم الوجه البحري، فوجه اليهم فرقتين من الجند احداهما بقيادة يوسف بك، والثانية بقيادة محمد علي. فنازل المماليك فرقة يوسف بك وهزموها شر هزيمة قبل أن يصل محمد علي بفرقته الى ساحة القتال، فنسب انكسار فرقة يوسف بك الى تعمد محمد علي التأخر في نجدتها، فاستدعاه خسرو باشا ليلا الى مقره في القلعة زاعما انه يرغب في مفاوضته في أمر هام، وهو انما كان يقصد الايقاع به، فأدرك محمد علي قصد خسرو باشا، وجاوبه انه سيحصر لمقابلته نهارا على رأس فرقته. وعلى أثر ذلك ثار الجنود على الوالي طالبين مرتباتهم المتأخرة، ولم يستطع الوالي دفع المتأخر لهم، فرغب طاهر باشا كبير قواد الجيش التوسط بينه وبين الجنود الثائرين، فرفض خسرو باشا مفاوضته، فانحاز طاهر باشا الى الجند وسار بهم الى القلعة، فألجأ خسرو باشا الى الفرار، وتولى الحكم بعده بالوكالة سنة 1803.
منذ ابتداء الحوادث صار معلوما أن هنالك محركا غير منظور يدير من وراء الستار حركات الجنود والطامعين بالولاية في بحذاقة لاعب الشطرنج البارع وكان ذلك المحرك محمد علي، لكنه رغما عن طموحه الشديد الى منصب الولاية، لم يتعجل الأمر بل اتبع خطة تضمن له الوصول الى الولاية بعد أن تقضي على سائر المرشحين لها والطامعين فيها، وتزيل من طريقه العناصر المعادية. وبمقتضى تلك الخطة أصبح كل من يتولى الحكم عرضة للقتل أو العزل العاجل، بعد أن ينال محمد علي بواسطته بعد مآربه. فعليه بعد أن تولى طاهر باشا اعمال الولاية، حمله محمد علي على مراسلة البرديسي أحد زعيمي المماليك الكبيرين ليتقرب من المماليك، ويأمن شرهم في أثناء العراك القائم بسبب الولاية ، لكن عهد ظاهر باشا بالولاية لم يطل لأن الإنكشارية ثاروا عليهم مطالبين بمرتباتهم، فأدى ذلك الى خصام بين الباش والضباط الذين انتدبهم الإنكشارية لمفاوضته، وانتهى الخصام بقتل طاهر باشا، واغتنم محمد علي الفرصة فاتفق مع المماليك.
وكان في مصر حينئذ أحد وزراء الدولة العثمانية المدعو أحمد باشا قاصدا الى المدينة المنورة التي عين واليا عليها فأراد الإنكشارية إجلاسه على كرسي ولاية مصر، غير أن محمد علي لم يوافقهم على ذلك. وبالاتفاق مع المماليك طردوا أحمد باشا من القاهرة، ثم بطش الألبانيون بالإنكشارية باغراء محمد علي، ولم يبق في مصر من الرجال المنتمين الى حكومة الآستانة الذي يخشى محمد علي شرهم سوى خسرو باشا الوالي السابق الذي كان مقيما في دمياط فهاجمه محمد علي وعثمان بك البرديسي برجالهما وأحضراه الى القاهرة. وهكذا لم يبق لمحمد علي خصم ظاهر من رجال الآستانة، كما أن عثمان بك البرديسي صارت اليه السلطة العليا بين المماليك، لأن مناظره محمد بك الألفي كان قد ذهب الى انجلترا طامعا بالاستقلال بالحكم في مصر بمساعدة انجلترا.
واتصلت بالدولة العثمانية أخبار الحوادث المصرية، فراعها اتحاد المماليك والألبانيين، فوجهت علي باشا الجزائري واليا وأصبحته بألف جندي وبعد مناورات لا محل لذكها، اعترضت الجنود الألبانية علي باشا في طريقه من الاسكندرية الى القاهرة ففتكت بجنوده وقادته أسيرا الى القاهرة ثو وجوه الى سوريا لكنهم قتلوه في الطريق.
وفي أوائل سنة 1804 عاد محمد بك الألفي من انكلترا.، حاملا الكثير من التحف والأموال، وصعد نحو القاهرة في النيل. ولما كان وجوده في مصر يهدد محمد علي وعثمان بك البرديسي على السواء، اتفقا على مقاومته فاعترضه رجالهما في النيل ونهبوا الأموال والتحف التي جاء بها، أما هو فبادر الى النزول الى البر ونجا بنفسه واختبأ عند العرب.
يظهر للقارئ مما تقدم أن محمد علي كان له نصيب كبير في تدبير جميع الحوادث التي سلف ذكرها، غير أنه مع هذا كان بعيدا عن كل مسئولية تجاه الشعب والجند. فكان اذا تأخر دفع مرتبات الجند وقعت المسئولية على من يتولى ادارة البلاد وثارت الجنود عليه لا على قائد الجند، واذا فرضت الأموال على الأهلين واستثقلوا وطأتها نقموا على الحكام الذين فرضوها. أما محمد علي فكان في تلك الأحوال يشارك الجند والشعب في التوجع لما أصابهم، ويظهر الاهتمام بتحصيل حقوقهم وتخفيف كروبهم، فأصبح صديق الجند والشعب. وهذه أهم النتائج التي يبغي الحصول عليها قبلما يرشح لمنصب الولاية، لأن على الجند والشعب يتوقف تثبيت قدمه في البلاد.
واتفق أن مرتبات الجنود كانت متأخرى فثار الألبانيون على عثمان بك البرديسي وطالبوه بدفعها، ففرض على أهل القاهرة ضرائب فادحة ليتمكن من دفع مرتبات الجنود، فأغضب ذلك الأهالي، ونزعوا الى الثوةر، فتدخل محمد علي في الأمر، وأظهر عطفا شديدا على الأهلين ووعدهم بالمساعدة لرفع هذه المظلمة عنهم، فثابوا الى السكون. وكان المماليك قد أخذوا يشعرون أن محمد علي يبطن لهم العداء، والحقيقة أنه كان حينئذ في غنى عنهم بل صار اضعافهم خيرا له، فبدأ المشادة بين الفريقين.
وتجددت الثورة في القاهرة على المماليك بتفاق الأهالي والألبانيين، وحدث قتال عنيف وبرز محمد علي نفسه الى ميدان القتال، فتغلب على المماليك، وألجأ جميع أمرائهم الى الفرار من القاهرة. فعندئذ أصبح محمد علي صاحب العقد والحل في القاهرة لأن زمام الجند والشعب كان في يده، غير أنه لم يتسرع في طلب الولاية لنفسه، ولعله حاول هذه المرة اثبات اخلاصه للدولة العثمانية حتى لا تناوئه متى آن أون ترشيحه للولاية. وكان لا يزال موجودا في القطر المصري اثنان من الباشوات العثمانيين، أحدهما خسروا باشا والثاني أحمد خورشيد باشا حاكم الاسكندرية.
فدعا محمد علي علماء البلد وأعيانها الى اجتماع أظهر لهم في اثنائه وجوب المبادرة الى تعيين وال على البلد، واقتراح اخراج خسرو باشا من معتقله وتقليده منصب الولاية، فوافق العلماء والأعيان على ذلك. غير أن الزعماء الألبانيين اعترضوا على هذا التعيين وطلبوا من محمد علي اخراج خسروا باشا من البلاد، فأذعن الى طلبهم وأعاد خسرو باشا الى الآستانة. ولا يخفى أن الألبانيين كانوا رجال محمد علي الذين عليهم جل اعتماده ولديهم تودع أسراره، فلا يعقل والحالة هذه انه كان يجهل شعور زعمائهم نحو خشرو باشا عندما اقترح رده الى منصب الولاية، بل يستشف من عمله التواطؤ مع الزعماء الالبانيين على اتخاذ ترشيح خسروا باشا لمنصب الولاية واخراجه من معتقله، كان وسيلة لاخراجه من القطر المصري، فيقرب محمد علي خطوة جديدة من الولاية بدون أن يكون في مظهره ما يغضب الباب العالي. والمشهور أن خسرو باشا كان يعتقد سوء النية في محمد علي، فأظهر نحوه أشد العداء بعد عودته الى الآستانة وتوليه المناصب العالية فيها. وكان للعداء بينهما شأن عظيم في النزاع الذي وقع بعد ذلك بين السلطان محمود ومحمد علي. فبعد اخراج خسرو باشا من القطر المصري، لم يبق فيه من كبار العثمانيين من يصح تعيينه واليا سوى خورشيد باشا، فاتفق العلماء والأعيان وزعماء الجند على تعيينه واليا وتعيين محمد علي قائم مقام له. ووافق الباب العالي على ذلك في سنة 1804 ، أما خورشيد باشا فلقى ما لقى أسلافه من الصعوبات في الحصول على الأموال، وفي دفع مرتبات الجنود، فقرض الأموال الطائلة على أهل القاهرة، وابتز كثيرا منها من بعض الأفراد وخصوصا من المنتسبين الى المماليك، فشمل الاستياء منه جميع الطبقات. وكان في الوقت عينه يشعر بعدم اخلاص محمد علي، وبشدة وطأته، وظن أنه يتخلص منه باشغاله بمحاربة المماليك، غير ان انتصارات محمد علي في تلك المحاربة، وشدة عطفه على الأهلين والجند، زاده رفعة في عيون الجميع، ووطد مكانته في البلد خصوصا لدى العلماء والأعيان.
فرأى الوالي انه لابد له من قوة من رجال الدولة العثمانية تقف بجانبه وتعزز مقامه، والا أضحى بين يدي محمد علي كريشة في مهب الريح، ففاوض رجال الدولة في ذلك، بينما كان محمد علي بعيدا عن القاهرة مشتغلا بمحاربة المماليك، فوجهوا اليه ثلاثة آلاف مقاتل من طائفة الدالاتية، غير أن وجودهم في القاهرة لم يزد موقفه الى ضعفا وارتباكا، لأنهم عمدوا الى السلب والنهب وارتكاب شتى المنكرات والمحرمات، فزاد سخط الأهالي على خورشيد باشا، لأنه لم يشأ أو لم يستطع كف أذى الجند عنهم. كما أن محمد علي لما بلغه قدوم الدالاتية الى القاهرة عاد اليها، وأخذ يدس الدسائس على الوالي ويستميل عنه حتى رجاله الدلاتية. وبما أن تأخر دفع مرتبات الجنود كان من القواعد المطردة في ذلك الزمن، ثار الألبانيون عليه مطالبين بدفع مرتباتهم، فوقف الدالاتية على الحياد، فوجد خورشيد باشا نفسه في موقف حرجا عما كان عليه قبل قدوم الدالاتية.
وفي أثناء ذلك ورد مرسوم من الآستانة بتولية محمد علي باشا على جدة. وانما جرى ذلك بناء على مخابرات سابقة بين الباب العالي وخورشيد باشا درءا للخطر الذي خشيا وقوعه عليهما فيما لو بقى في مصر، فأظهر محمد علي استعداده لتنفيذ مرسوم الآستانة، وأخذ يتأهب للسفر، غير أن الجند والشعب الساخط على الوالي رجوا منه أن يبقى في مصر لاقتناعهم بأنهم لن يجدوا حاكما أرأف من محمد علي بحالتهم أو أقدر منه على انالتهم حقوقهم أو أكثر كفاءة لتولىي الاحكام، فاتفق زعماء الجند والعلماء والأعيان على اسقاط خورشيد باشا من منصب الولاية، وانتخاب محمد علي بدلا منه. وكتبوا الى الآستانة في ذلك، فأجيب ملتمسهم، وتلقى محمد علي مرسوما بذلك في تموز (يوليه) سنة 1805. أما خورشيد باشا فانه قاوم هذا التعيين ، لكنه اضطر اخيرا للتسليم وأعيد الى الآستانة.
وما كاد محمد علي يفرغ من مناهضة الباشوات العثمانيين حتى برز الإنكليز لمقاومته، طالبين من الباب العالي اسقاطه، وتسليم ادارة الأحكام للماليك، بزعامة صديقهم محمد بك الألفي الذي ذكرنا قبلا علاقته بإنكلترا، فأرسل الباب العالي القبطان باشا بأسطوله الى مصر لتنحية محمد علي باشا عن كرسي الحكم، غير أنه وجد الشعب والجند يؤيدانه، ورأى الشقاق سائدا على المماليك، كما أنه أطلع على غرض إنكلترا من عزل محمد علي واعادة حكم المماليك، وبناء على ذلك وعلى ما عرضه المصريون الى الباب العالي بواسطة ابراهيم باشا ابن محمد علي الذي أوفدوه الى الآستانة، صدر مرسوم جديد بتثبيت محمد علي في منصبه، فوصل هذا المرسوم الى مصر في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1806. وقد كان لمساعي قنصل فرنسا في الاسكندرية لدى القبطان باشا ولسفير فرنسا في الآستانة وللمال والهدايا التي يبعث بها محمد علي الى الآستانة تأثير عظيم على هذا التثبيت.
وهكذا بلغ محمد علي أخيرا بفرط دهائه المقرون بالشجاعة وضبط النفس المنصب الذي كان يتوق اليه، فكان ذلك مصداقا لبيتي أبي الطيب المتنبي المشهورين:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني واذا هما اجتمعا بنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان
محمد علي منذ توليه على مصر الى وقت الزحف على سوريا
يمكننا أن ندعو الدور الذي روينا حوادثه الدور الأول من حياة محمد علي السياسية، وهو دور الطموح الى الولاية ونيلها. والمتأمل في الخطة التي اتبعها لأجل بلوغ تلك الغاية، يرى فيها تمهيدا لما هو أبعد مرمى من مجرد الحصول على الولاية، ويظهر ذلك جليا حتى قابلنا حالته عند ارتقائه الى منصب الولاية بحالة غيره من الولاة السابقين. فقد كان كل من تقدمه من الولاة اذا ما وطئ أرض مصر يشعر كأنه يقيم على أرض بركانية تهدده في كل لحظة بالانفجار، اذ يرى الاعداء تحيط به من كل صوب، ورابطة الاتصال بينه وبين الآستانة أو هي من خيط العنكبوت، فالمماليك كانوا أصحاب الحول والطول في جميع أنحاء البلاد، وكان الشعب ناقما على المماليك والولاة على السواء. والجنود التي عليها اعتماد الولاة ، كان دأبها المشاغبة واقلاق الراحة العامة بدلا من اقرارها ، وحكومة الآستانة يمنعها بعد الشقة والضعف المتناهي عن تأييدهم بالقوة.
هذه كانت حالة الولاة الذين تقدموا محمد علي. أما هو فقد خاط ثوب الولاية لنفسه بنفسه، ومهد طريقها بيده، ولم يرق اليها الا بعد أن سلط بعض العناصر المقلقة على البعض الآخر ، فتطاحنت حتى انتهت قواها. وامتلك في أثناء ذلك قلوب الأهلين، ونال ثقة الجنود واخلاصهم ، وبقى الالبانيون، وهم أشد الجنود بأسا وأكثرهم تعلقا به أصحاب التفوق على غيرهم، فخضع جميع الطبقات من شعب وحكام وجنود لسلطته، اما طوعا أو كرها واجتمعت في قبضة يده القوية أزمة الأحكام والقيادة العسكرية، التي كان يتجاذبها في العهد السابق الوالي والمماليك وقواد الجنود.
نعم ان البلاد لم تخل تماما من أمور مزعجة، كتذمر الجنود وتمردهم أحيانا واعتدائهم على الأهلين، والصعوبة في الحصول على الأموال غير أن شدة حزمه وسعة حيلته ورحابة صدره وتعلق العلماء والأعياء وزعماء الجند به، مكنه من الحصول على ما يسد الحاجة من المال، ومن القضاء على كل اضطراب.
ان بعد ارتقاء محمد علي الى منصب الولاية، انقضى دور العمل من وراء الستار، حيث كان هو الدافع وغيره العامل، وهو صاحب التدبير وعلى غيره تحمل المسئولية. انقضى ذلك الدور وانحصر في تصريف الأمور وحل المشاكل، ومقاومة الخصوم في الخارج والداخل. فالمماليك ضعفت قوتهم ولانت ملامسهم نوعا ما، لكن نفوسهم ما برح تحدثهم باسترجاع سلطتهم وسابق مجدهم متى سنحت الفرصة.
ومصالح الانكليز في الهند كانت آخذة في النمو، وبنموها ازدادت مصر أهمية في نظرهم، لتسهيل وسائل النقل بين انكلترا والهند بطريق البحر المتوسط ومصر والبحر الأحمر، بدلا من الطريق البحرية الطويلة حول راس الرجاء الصالح. وهذا الذي كان قد دفعهم قبلا الى قماومة حملة بونابرت على مصر وسوريا واجتذاب محمد بك الالفي احد زعماء المماليك الى جانبهم، وبذلك جهد عظيم لتسليمه مقاليد الحكم في البلاد المصرية لقاء امتيازات ينالونها منه، غير أن تفرق كلمة المماليك، وحزم محمد علي، أحبط مساعيهم كما روينا قبل.
ونظرا لاشتباك انكلترا في حرب مع الدولة العثمانية وشدة شكيمة محمد علي وحرصه على ابعاد كل تدخل أجنبي عنه، لم يأمل الإنكليز الاتفاق معه، لاسيما أنه كان شديد الميل الى الفرنسويين اللذين أخذوا بناصره حينما كان الانكليز يدفعون الدولة العثمانية الى عزله. فلذلك عزم هؤلاء على استخدام قوتهم وقوة المماليك لنزع البلاد من يد الدولة العثمانية، وتنحية محم علي عن الولاية، وتسليم زمام الأمور للمماليك.
لكن جرت التقادير ضد التدابير، فان عثمان بك البرديسي توفى في أواخر سنة 1806 وزميله محمد بك الألفي توفى في أوائل سنة 1807، فسادت الفوضى شئون المماليك لفقد زعيمهم الكبيرين، ولم يدرك الانكليز مبلغ الضعف الذي أصاب حلفاءهم وظنوا أنهم ما برحوا يستطيعون الاعتماد على معاونتهم، فوجهوا الى القطر الصمري حملة مؤلفة من نحو خمسة آلاف جندي يقودها الجنرال فريزر، فوصل الى الاسكندرية واحتلها في شهر آذار (مارس) سنة 1807، ثم حاول احتلال رشيد أولا، وثانيا ليفتح طريق المواصلة بينه وبين المماليك، وفي كلتا المرتين اخفق اخفاقا تاما، اذ امعنت الجنود العثمانية في الحملتين قتلا وتشريدا، وأخذت عددا كبيرا من الأسرى نقلوا الى القاهرة. أما المماليك فلزموا السكينة ولم يمدوا لمساعدة الانكليز يدا وأخيرا دارت المفاوضة بين محمد علي والانكليز وانتهت بالاتفاق على أن يخلي محمد علي سبيل الأسرى، وان تتجلى الجنود الانكليزية عن الاسكندرية فغادروها في شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1807.
فكان للانتصار الذي أحرزه محمد علي صدى عظيم في مختلف أنحاء البلاد، ونال ارتياح الباب العالي وتأييده. واغتنم المماليك هذه الفرصة للقرب منه، فتوكدت سيادته في القطر المصري، وعظمت هيبته في النفوس، واتخذ محمد علي على الخطر الذي كان يهدد البلاد من الخارج حجة لتحصين الثغور، وشحن الاسكندرية بالمقاتلة، وتولى الدفاع عن الثغور المصرية بنفسه، وقد كان قبل ذلك يقوم بالدفاع عنها قائد البحرية العثمانية (القبطان باشا) وهكذا استقل بادارة الاحكام في القطر المصري وبالدفاع عنه في الداخل والخارج.
نكبة المماليك وحرب الوهابيين
أما رجال الدولة العثمانية، فرغما عن ارتياحهم لانتصار محمد علي باشا على الانجليز الذين حاولوا الاعتداء على بلاد عثمانية، كانوا ينظرون بعين الحذر والخواف الى نمو قوته وانتشار صيته وسطوته. وكانت في أثناء ذلك قد انتشرت الدعوة الوهابية في البلاد العربية، ثم تحول أصحابها الى جيش، فاتح فغزا الحجاز واستولى على مكة المكرمة والمدينة المنورة، فارتاع لذلك العالم الاسلامي، ولم يستطع الجنود العثمانيون صدهم، بل امتدت غزواتهم الى العراق وسوريا.
فانتدبت الحكومة العثمانية محمد علي لمقابلتهم، وهي تقصد بذلك تشريفه ظاهريا بالدفاع عن الكعبة والمدينة، أما حقيقة الحال فهي أنها كانت في حاجة الى من يرد عن ولاياتها غارات الوهابيي، كما أنها كانت أمل ان المصادمة بين محمد علي والوهابيين، تلقيه في ورطة عظيمة ربما قضت عليه وعلى الوهابيين معا. على أن انتدابه لهذه المهمة الشريفة زاد مكانته رفعة في عيون المسلمين في جميع الأقطار.
فأخذ في تجهيز الجنود واعداد وسائل النقل الى الحجاز بحرا. فكانت هذه أول حركة صناعية كبرى قام بها اذ جمع لها المواد والصناع من جميع أنحاء القطر المصري، وأنشأ المصانع في بولاق، حيث جهزت السفن أجزاء، ونقلت كذلك الى السويس حيث ركبت فكان ما أنشأه بضع عشرة سفينة.
ولما اقترب أوان تسيير الحملة الحجازية، رأى من الحكمة أن يطهر البلاد من المماليك الذين كان قد قاتلهم قتالا شديدا في الأعوام الماضية حتى خضد شوكتهم، وظن أن لن تقوم لهم قائمة بعدها، ثم قرب كبارهم منه، وأقطعهم الاقطاعات، لكن لما شرع في اعداد الحملة على الوهابيين أخذوا يكيدون له ويتآمرون عليه، فعلم بمؤامراتهم لكن تجاهلها.
وعول على نكبتهم ، واختار لذلك أول آذار (مارس) 1811، وهو اليوم الذي عينه لعقد لواء الحملة الحجازية في قلعة الجبل لولده طوسون باشا . فدعا الى الحفلة كبار رجال حكومته وأمراء المماليك، وبعد انتهاء الحفلة ركب المماليك خيولهم وهموا بالخروج فوجدوا باب القعلة موصدا في وجوههم، وكان الجنود قد أحدقوا بهم وأمطروهم وابلا من الرصاص وأجهزوا على من بقى حيا بالسيوف، فلم ينج منهم أحد من الذين شهدوا حفلة القلعة، فكان في ذلك اليوم القضاء الأخير على قوة المماليك في مصر، ولم يبق في البلاد من العناصر التي اعتادت الكيد للولاة واقلاق راحة العباد سوى طوائف من الجند.
حرب الوهابيين
بدأت هذه الحرب في سنة 1811، وانتهت في سنة 1818. قاد حملتها الأولى طوسون باشا من سنة 1811 الى 1815، وأصيبت جنوده في بادئ الأمر بانكسار شنيع، لكن عاد فاستولى على مكة والمدينة وجدة، والطائف بعد متاعب وأخطار جمة، ثم ذهب محمد علي بنفسه الى الحجاز في آب (أغسطس) 1813 ليشرف على الأعمال الحربية فمكث هناك الى شهر حزيران (يونيه) سنة 1815.
ثم تولى قيادة الحملة الوهابية ابراهيم باشا من أواخر سنة 1816 الى أن انتهت في أواخر سنة 1814، فقهر الوهابيين واستولى على مدنهم، وأكره زعيمهم عبد الله بن السعود على التسليم والذهاب الى مصر، ومنها أرسل الى الآستانة فقتلته الحكومة العثمانية على أثر وصوله. فكان للقضاء على الوهابيين فرح عظيم في العالم الاسلامي اقترن به ذكر محمد علي بالاعجاب والتكريم. وظهرت في أثناء هذه الحرب كفاءة ابراهيم باشا وصفاته العسكرية الممتازة، وبها ابتدأت شهرته التي طبقت الآفاق في ما تلاها من الحروب ومكافأة له على انتصاراته الباهرة أنعم عليه السلطان بولاية جدة.
وعدا الشهرة الواسعة التي نالها محمد علي في البلدان الأجنبية لتغلبه على الوهابيين، ازدادت سلطته رسوخا في القطر المصري، وخصوصا على رجال الجيش، لأن محاربة عدو باسل مدة سبع سنين في بلاد مقفرة أهلكت عددا كبيرا من الضباط والجنود المشاغبين، إما قتلا في المحاربة أو موتا بالأمراض، كما أن الانكسارات الأولى التي أصابت الجيش قضت على خيلاء بعض كبار ضباطه، بل أذلتهم ونزعت من الجنود الثقة بهم، فاغتنم محمد علي هذه الفرصة لتمكين قبضته لضباطهم، فكان اذا انتقل الضابط من جهة الى أخرى انتقلت جنوده معه، كأنما هم مماليكه ولا علاقة لهم مباشرة بالقيادة العامة.
حادثة لطيف باشا
كان لطيف باشا من مماليك محمد علي المقربين اليه، فلما فتحت المدينة المنورة على يد طوسون باشا، انتدبه مولاه لحمل مفاتيحها الى الآستانة. وبعد رجوعه الى مصر ظهر تغير في سلوكه فنسب اليه التآمر على محمد علي ليحل محله بينما هو غائب في الحجاز. وقد اختلفت الروايات عن هذه الحادثة. فالرواية الكثيرة الشيوع هي أن رجال الآستانة رأوا من لطيف باشا في أثناء اقامته في عاصمة السلطنة اغترارا بنفسه وحبا بالسيادة، فأنعم عليه السلطان برتبة الباشوية، وأغرى على اغتصاب منصب مولاه، فانقاد الى هذه الوساوس، وبعد رجوعه الى القاهرة أخذ ينفق المال عن سعة لاجتذاب المريدين الذين يعضدونه في تنفيذ مآربه. وشعر محمد علي بتغير سلوك لطيف باشا ، فملا عزم على السفر الى الحجاز أوعز الى كاخيته وصهره محمد بك ليراقبه مراقبة دقيقة، فصدع بالأمر وأكتشف مؤامرة دبرت لقتله هو نفسه، ولاعلان وفاة محمد علي باشا في الحجاز وتولية لطيف باشا على مصر.
فبادر الكاخية الى محل اجتماع المتآمرين، بعد أن فر لطيف باشا من منزله عاد فوقع في قبضتهم، فحوكم وأعدم في القاهرة في 15 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1813. على أن بعض المعاصرين رووا أن قتل لطيف باشا كان مبنيا على تعليما تركها محمد لكاخيته لاظ محمد بك، لأنه نقم على لطيف باشا لأسباب عديدة وهي ان لطيف باشا كان يجتمع كثيرا في أثناء وجوده في الآستانة بأشخاص معروفين بعدائهم لمحمد علي، وهذه الاجتماعات أثارت الشبهة في نفس محمد علي، ثم ان لطيف طلب التزوج بابنة محمد علي، ولما رفض طلبه تفوه بكلام يزري بقدر مولاه، وأتى أمورا أخرى تدل على عدم الأمانة لولي نعمته. وقيل أيضا ان محمد علي أخذته الغيرة لأن السلطان منح مملوكه نفس الرتبة التي منحت لأولاده. ويؤيد أصحاب هذه الرواية كلامهم بكثرة القوات العسكرية في مصر التي كانت تؤيد محمد علي، وكلها تحت قيادة أقاربه أو مريديه الأمناء، بينما الذين كانوا يؤيدون لطيف باشا لم يتجاوز عددهم مائتي رجل، فلم يكن من المعقول أن يحاول لطيف باشا قلب الحكومة والحال كما ذكر.
تنظيم الجنود وتمردهم
ان محمد علي كان شديد الرغبة في تنظيم جيشه على الطراز الأوروبي لاختباره تفوق الجنود المنظمة على سواها في أثناء محاربة الحملة الفرنساوية، ففي سنة 1815 لما عاد محمد علي من الحجاز اغتنم فرصة غياب أكثر الضباط والجنود المشاغبين في البلاد العربية، وعمد الى تدريب فرقة من الجنود المقيمين في مصر، مهددا كل من يقاومه بالطرد من الجندية ومن القطر المصري، فتمرد الضباط والجنود وتآمروا على قتله، غير أنه أنذر بمكيدتهم فنجا منها، لكنه اضطر الى ارجاء امر التدريب العسكري الى حين، وهدأ خواطر الجنود وضباطهم، وطمأن الأهلين الذين كانوا يخشون شر الجنود المتمردين.
وفاة طوسون باشا
وفي 6 تموز (يوليه) سنة 1816 أصيب محمد علي بوفاة ولده طوسون باشا ، فجزع عليه جزعا شديدا، وكان الحزن عليه عاما بين أهل القاهرة، لأنه كان محببا الى جميع طبقات الشعب لما أوتيه من دماثة الخلق وحب الخير، وامتاز على صغر سنة بالحزم وسداد الرأي وشدة البأس، وقد تولى قيادة الحملة على الوهابيين قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وكان لوالده وشعبه فيه آمال كبار.
الشروع في التوسع والاصلاح
ان أظهر صفات محمد علي على بعد النظر والحزم والمرونة السياسية. أدرك برأيه الصائب أن اقتباس الأنظمة الأوروبية ومجاراة الأوروبيين في الأساليب العمرانية أمور لابد منها لرقي بلاده، وتثبيت دعائم حكومته التي كانت حكومة الآستانة تعمل على تقويضها، فلما أخفق في محاولته تنظيم الجيش للمرة الأولى ستر اخفاقه بلباقته السياسية، لكنه بقى مصرا على العودة الى التنظيم عند سنوح أول فرصة، وتمهيدا لذلك استمال اليه بوسائل مختلفة بعض كبار الضباط المعارضين. وجهز حملة لفتح السودان بقيادة ابنه اسماعيل باشا اقصت الباقين من هؤلاء الضباط ومن تابعهم من الجنود.
جعل محمد علي للحملة على السودان ثلاث غايات وهي: التخلص من الضباط والجنود الذين كانوا يقاومون التنظيم العسكري والقضاء على المماليك الذين فروا من القطر المصري الى دنقلة بعد مذبحة القلعة المشهورة، والحصول على مصادر جديدة للثروة والتجنيد. والسودانيون قوم بسل، ظن محمد على أنه يستطيع ان يؤلف منهم جيشا يحل محل الألبانيين وغيرهم. فبلغت الحملة غرضيها الأولين، لكنها لم تأت بالفائدة المادية المرجوة ولا حققت الآمال في التجنيد ، نظرا لعدم مناسبة جو مصر للسودانيين.
فعمد الى تجنيد الفلاحين المصريين وانتدب لتنظيم الجيش ضابطا فرنساويا قديرا وهو الكولونيل ساف Seve المعروف باسم سليمان باشا الفرنساوي، وأنشأ المدارس الحربية وبنى الأسطول. ومع اصلاحاته هذه نمت الصناعة في البلاد، واستعان على القيام بكل ذلك برجال الفنون والصنائع الأوروبيين ، وكان أكثرهم من الفرنسويين لحسن علائقه السياسية بهم واقبالهم على بلاده. واهتم ايضا بنشر المعارف في البلاد وتحسين الأحوال الصحية، فأنشأ المدارس والمستشفيات ، وأرسل البعثات العلمية الى أوروبا، واستقدم منها أرباب الاختصاص.
ومن اصلاحات محمد علي المشهورة وانشاء قوة منظمة من البوليس، واقرار الأمن في جميع انحاء البلاد حتى ضاهت مصر في ذلك البلدان الأوروبية الراقية.
ووجه اهتماما عظيما الى الاصلاح الاقتصادي ، لأن جميع مشاريعه لاقوام بها الا بالمال، فنشط الزراعة والتجارة فدرت عليه الخيرات، وبذل الجهد المستطاع في سبيل ترقية الصناعة، لكنها لم تكن رابحة. أما أعماله الزراعية، فأهما زراعة القطن الأمريكي والنيلة، واستيلاؤه على أكثر أملاك القطر المصري بطرق جائرة وتسخيره العمال لاجل القيام بمشاريعه الزراعية التي وضعها تحت مراقبة رجال الحكومة في المديريات، فنجحت أعماله وكثرت أرباحه، لكنه أنزل الضنك بعدد عديد من الملاكين، والعمال باغتصابه الأملاك وتسخير الرجال. وزاد على هذه المظالم استعمال منتهى الشدة في تحصيل الأموال الأميرية وفرض ضريبة جديدة وهي الفردة أو ضريبة الرؤوس، وكانت تجبي من رجال البلاد على اختلاف مذاهبهم.
لكن رغما عن هذه المظالم، فان اصلاحاته الجمة وتسامحه الديني جعله محترما في عيون الأوروبيين، فازدادت العلائق بين البلدان الأوروبية والمصرية، وكثر عدد مريديه والمعجبين به من الأوروبيين، نظرا لما كان يبديه من البشاشة في استقبالهم والحذق في أحاديثه الممزوجة بالظرف والفكاهة.
اشتراكه في اخماد ثورة اليونان
ان الاصلاحات والتنظيمات التي قام بها محمد علي كانت خطوات في سبيل الاستقلال، ولم يفت الدولة العثمانية ادراك ذلك، لكنها كانت في شغل شاغل عنه باضطراباتها الداخلية، فلم تكن من مصلحتها مشاكسته أو التعرض لأي عمل من أعماله، بل لم تلبث أن وجدت نفسها في حاجة الى الاستعانة به على محاربة ثوار اليونان. ويقال أنه هو نفسه تطوع لتقديم هذه المعونة ملتمسا اعطاءه الولاية على سوريا واعفاؤه من دفع الجزية السنوية في أثناء المحاربة حتى ينفقها على الجيش المحارب.
اشترك محمد علي بجيشه وأسطوله في اخماد ثورة اليونان في سنة 1824 الى سنة 1827 وانتصرت جنوده على الثوار انتصارات باهرة، غير ان نحياز انكلترا وفرنسا والروسية الى اليونان حال دون الحصول على ما كان يرجوه من وراء هذه الانتصارات، بل ان الأسطولين الإنكليزي والفرنساوي دمرا الأسطولين العثماني والمصري في موقعة نافارين الشهيرة في 20 تشرين أول (أكتوبر) 1827. واضطر الى سحب جنوده من المورة بناء على اتفاق خاص عقده مع دول الحلفاء المتحيزين لليونان.
فحرب المورة كلفت محمد علي خسارة معظم أسطوله غير أنها اكسبته ولاية كريت التي كان قد اخضع ثورتها. ورفعت مكانة الجيش المصري في عيون الأوربيين وزادت شهرة قائده ابراهيم باشا ومكنته من درس حالة الجيش العثماني عن كثب، والوقوف على أسباب الضعف في القواد والجنود، كما أن اتصاله بقواد الجنود الأوروبيين الذين قدموا الى بلاد اليونان زاده خبرة بنظام الجندية الأوربية. وأظهرت هذه الحرب بكل جرء تفوق الجنود المنظمة على غيرها، فضاعف اهتمامه بتنظيم الجيش وخصوصا الخيالة، لأنهم كانوا لا يزالون غير نظاميين. ثم ان انفراده عن السلطان بالاتفاق مع الحلفاء، كان بمثابة اعتراف دول الحلفاء ضمنا بمقامه الممتاز. وكأن تأثيرات حرب المورة بعثت فيه نشاطا جديدا وعلمته أن الحق في أفواه المدافع وشفار اسيوف، فجد في تنظيم جيشه وفي بناء أسطول جديد تأهبا لفتح سوريا التي كان يطمع في ضمها الى مصر من زمن بعيد.
طموح محمد علي الى التوسع والاستيلاء على سوريا
بعد ما استقر محمد علي في ولاية مصر، وأوقع بالمماليك فامن شر المزاحمين، ووطد أركان الأمن في البلاد، وعمل على انماء ثروتها الزراعية والتجارية، وأحدث نهضة صناعية، وصار ذا جيش محكم التدريب يتولى ادارته أمهر القواد المعاصرين، أخذ يتأهب لغزو سوريا والاستيلاء عليها.
وسوريا ومصر شقيقتان طالما جمعتهما دائرة حكم واحد، هذا فضلا عما بينهما من روابط المصلحة والجنس واللغة. فلم يكن مستغربا طموح محمد علي الى الاستيلاء عليها، لاسيما وهو الرجل الذي لا يفوته ادراك أهمية موقعها الجغرافي وماله من المزايا الحربية والاقتصادية. وقد شبه أحد الكتاب مصر وسوريا بالنسبة الى ما وراءهما من البلدان الشرقية بشقتي باب واحد. فكل واحد من هذين القطرين متمم للآخر والجمع بينهما فيه الخير كل الخير لهما.
ان الحملة التي وجهت الى سوريا بقيادة ابراهيم باشا بدأت الزحف في خريف سنة 1831. أما طموح محمد علي الى الاستيلاء على سوريا، فظهرت بوادره قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة أي في سنة 1810 عندما ألجأ اليه يوسف باشا الكنج والي الشام فورا من وجه سليمان باشا والي صيدا. فسعى محمد علي لدى رجال الحكومة العثمانية لاعادة يوسف باشا الى إيالة الشام، مشترطا عليه أن يكون معينا له على مد رواق سيطرته على سوريا، غير أن رجال الآستانة لم يتلقوا طلبه بالارتياح، ومع هذا لم يقطع الرجاء من تنفيذ مأربه. وقد تبين مرارا من أحاديثه أنه يبغي اعادة يوسف باشا الى منصبه في دمشق، وتولية ولده طوسون باشا على عكا وصرح باكثر جلاء بمطامعه في سوريا وأمله بالحصول عليها في حديث له في سنة 1811. فقد قال المسيو دروفني قنصل فرنسا في مصر حينئذ في رسالة الى حكومته "ان محمد علي طامع في باشاوية سوريا، وقد قال لي في أحد الأيام انه غير مستبعد حصوله عليها بتضحية مبلغ من المال يتراوح ما بين سبعة وثمانية ملايين من القروش، يدفعها الى الخزينة السلطانية، وقد أخذت فكرة الاستقلال تزداد قوة منذ تغلبه على أعدائه وعلى مشاغبات الجنود والارتباكات التي كانت تسود مالية البلاد".
وقد أذاعت في سوريا أخبار مطامعه حتى ان سليمان باشا والي الشام وصيدا بعد ان كان قد اخذ في اعداد حملة لمقاتلة الوهابيين ، عدل عن ذلك وأقام متوقعا هجوم عدونه الجديد من جهة الحدود الجنوبية. كما أن في مصر نفسها رغما عما كان معروفا عن تجهيز حملة طوسون باشا لأجل محاربة الوهابيين، اخذت الشكوك في غرضها تخامر أفكار الأجانب والوطنيين على السواء وقد قال المسيو دروفني عن هذه الحملة في رسالة ثانية الى الحكومة "ان جميع التأهبات التي يقوم بها تدل على انها ستخترق الصحراء وتتجاوزها الى سوريا، وغرضها الحقيقي لا يزال سرا مكنونا في ضمير الباشا، وهو لم يحد في هذه المرة عن خطته المعهودة، وهي التأني ثم التصرف بحسب مقتضيات الأحوال".
فيتضح مما تقدم أن الاستيلاء على سوريا مشروع قديم لم يتمكن محمد علي قبلا من اتخاذ خطة حازمة لتنفيذه، لأنه من سنة 1828 ظل منشغلا بمحاربة الوهابيين ففتح السودان، فالاشتراك في محاربة ثوار اليونان، وبعد ذلك شرع في بناء أسطول جديد كان لابد منه لمعاونة الجيش البري على فتح سوريا. أما الاستيلاء على سوريا فكانت تعترضه ثلاث عقبات. الأولى مقاومة الدولة العثمانية، لأن احتفاظها بسوريا على أعظم جانب من الأهمية نظرا لموقعها بالنسبة الى غيرها من الولايات العثمانية. فسوريا تعترض على ما بين مصر والبلدان العثمانية في آسيا، وهي أيضا مفتاح البلاد العربية التي كان لمحمد علي نفوذ عظيم فيها بعد تغلبه على الوهابيين، بل كانت له عليها سيطرة فعلية، لأن رجاله كانوا يديرون شئونها، وجنوده كانت لا تزال مرابطة فيها، فلو ضمت سوريا الى مصر، لأصبح في حيز الامكان انفراط عقد جزيرة العرب من جيد آل عثمان، وزوال سلطانهم عن مصر وقيام دولة إسلامية جديدة، الى جانب أن الدولة العثمانية تمتاز عليها بتجانس عناصرها وانتظام ادارتها ونظام جنودها، وربما نازعتها الملك والخلافة، اما اعتمادا على حق اكتسبته بما لديها من قوة ومنعة يجعلانها أكثر من آل عثمان اقتدارا على القيام بحماية الحرمين الشريفين، والدفاع عن حوزة الاسلام، أو اندفاعا بعوامل الطموح الى الملك وحب الانتقام من السلطان محمود ووزيره خسروا باشا لأنهما كانا يضمران اشد العداء لمحمد علي وطالما نصب الشراك لاصطياده والايقاع به، فنجا من كيدها بشدة حزمه ودهائه.
والعقبة الثانية أحوال سوريا نفسها التي تجعه مهمة الفاتح والحاكم محفوفة بالمشقات، لاختلاف نزعات السكان وصعوبة مراسهم، ووعورة المسالك، وانتشار النظام الاقطاعي، وكثرة المتغلبين وأصحاب الامتيازات المحلية، والامتيازات المحلية لم تأت أصحابها عفوا بل نشأت في أكثر الأحوال عن أسباب وضرورات كانت مبررة لوجودها عند نشوئها، كقيام أصاحبها بنصرة حزب أو مبدأ أو عجز الدولة عن حماية أرواحهم وأموالهم، واضطرارهم للذود عن حياضهم بسلاهم. وعلى كل حال فان من تمتع بحق ما ردحا من الدهر لا يهون عليه التنازل عنه بدون عوض يسمح بقيام مملكة في وسط مملكة. وثبات الملك وانصاف المحكومين يستوجبان نفوذ سلطة الحاكم ومساواة الرعايا في الغنم، كحماية الأرواح والحقوق، وفي الغرم كالتجند ودفع الضرائب ولا سبيل الى بلوغ هذه الغايات الا اذا كان شعار الحكومة الحكمة والعدل، واهتمامها موجها الى اسعاد الرعية وتوطيد دعائم العمران والأمن وكانت لديها قوة يرهبها ويحترمها المحكومون.
أما وقد كانت أحوال سوريا وأهلمها كما وصفنا، وكان محمد علي شديد الاصرار على نزع الامتيازات المحلية، وفرض التكاليف المادية الثقيلة على شعب فقير، وصوق شبانه الى ساحات القتال لمدد غير محدودة، ومشاركة الأفراد في ثمرات أتعابهم ومزاحمتهم على استثمار الموارد الزراعية والتجارية في بلادهم – لما كانت هذه خطة محمد علي كان لابد من بعد حلول جيشه في سوريا واقامة حكومته فيها من اصطدام مصلحته وسلطته بالمصالح والتقاليد المحلية، وما يرافق ذلك ويعقبه من الاضطرابات وشبوب نار الثورات.
أما العقبة الثالثة فهي تصادم مصلحة محمد علي والمصالح الأوروبية ، وعلى الأخص الإنكليزية الشرقية. وهذه العقبة كانت عقدة العقد التي تعذر حلها على محمد علي كما تعذر على نابليون من قبله.
ان أهمية هذه العقبات لم تكن خافية على محمد علي، غير أنه لما عول على مهاجمة سوريا في سنة 1831 كانت الأحوال السياسية في أوروبا والبلاد العثمانية مبشرة بنجاح مهمته، فلم يخش مقاومة العثمانيين لعلمه أن حكومتهم كانت منشغلة باخماد ثورة البوسنة، وتسكين الاضطرابات في ألبانيا، كما أن سوريا كانت خالية من قوات تدافع عنها، فحامية حلب كان قد وجهت الى بغداد لمحاربة واليها المتمرد داود باشا، وكانت الفوضى ضاربة أطنابها في دمشق لانتفاق أهلها على الوالي سليم باشا وقتلهم اياه، وكانت أحوال ولاية صيدا مضطربة بسبب حوادث نابلس ومحاصرة قلعة سانور قبل ذلك. هذا فضلا عما أصاب الدولة العثمانية من الضعف لتواصل الثورات الداخلية، واشتباكها في حرب مع الروسية.
أما الدول الأوروبية، فكانت منهمكة في تسكين الاضطرابات واخماد الثورات التي نشأت عن تأثيرات مبادئ الثورة الفرنسوية في نفوس شعوبها. وسوف نرى أنها لم تندفع لمقاومته الا بعد ما فتح جميع البلاد السورية، وأوغل في بلاد الأناضول حتى هدد الآستانة نفسها. وكاد يثير حربا أوروبية بسبب المشاكل الدولية التي كان يخشى حدوثها فيما لو بلغت جنوده عاصمة السلطنة العثمانية.
أما أهل سوريا فيظهر أنه لم يحسب لمقاومتهم حسابا، لأنه كان قد استوثق من ميل حاكم جبل لبنان وأكثرية اللبنانيين الى جانبه، ولم تفته معرفة استياء السوريين كافة من الحكم العثماني، لتوالي انتفاضهم على حكامهم وسيادة الفوضى والظلم في بلادهم.
ونظرا لتأثير جبل لبنان في أعمال حملة ابراهيم باشا، ولعلاقة عبد الله باشا والي صيدا بحوادث الهجوم على سوريا، سنذكر في الفصل التالي بعض التفاصيل عن الأعمال التمهيدية في عكا ولبنان التي سبقت توجيه تلك الحملة.
التمهيد لغزو سوريا
في أواخر تموز (يوليه) سنة 1822 فر الى مصر الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان ملتجئا الى واليها محمد علي باشا، وكان سبب فرار انحيازه الى عبد الله باشا وزير ولاية صيدا الذي كان قد أغضب الدولة العثمانية بنزاعه مع درويش باشا وزير الشام، فصدرت الأوامر بعزل عبد الله باشا عن ولاية صيدا، وعزل الأمير بشير عن امارة جبل لبنان. أما عبد الله باشا فلم يرضخ للأمر القاضي بعزله، فصدر أمر السلطان محمود الى درويش باشا والي زميله مصطفى باشا وزير ولاية حلب بالحزف على عكا لاخضاع عبد الله باشا والاقتصاص منه.
فجاء هذا الحادث فرصة ثمينة لتدخل محمد علي في سوريا، وتوثيق عرى المودة مع بعض حكامها واتخاذهم عدة لوقت الحاجة، واستمالة وزير ولاية صيدا وأمير عظيم في لبنان تعتبر خطوة واسعة في سبيل تحقيق أمنيته وهي الاستيلاء على سوريا، لأن عكا التي كان يقيم فيها وزير ولاية صيدا تعتبر من الوجهة الحربية مفتاح البلاد السورية، كما أن لجبل لبنان أهمية حربية عظيمة لمناعة موقعه، وشدة بأس أهله، واشرافه على الطرق المؤدية الى أمهات مدن سوريا كبيروت وصيدا وعكا وطرابلس الشام ودمشق.
سنحت هذه الفرصة لمحمد علي فاغتنمها، وتوسط لدى الحكومة العثمانية في العفو عن الباشا والأمير، فتكلل سعيه بالنجاح. وما روى عن أحاديث محمد علي مع الأمير بشير وحفاوته به، وعن شدة اهتمامه بابقاء عبد الله باشا وزيرا على ولاية صيدا وما جاورها من البلاد الفلسطينية الممتدة جنوبا الى حدود القطر المصري، يدل دلالة واضحة على مطامع محمد علي في سوريا. وفيما يلي بعض التفصيل عن اجتماعه بالأمير بشير، وعن الجهود التي بذلها لأجل استصدار العفو عن عبد الله باشا منقولا عن كتاب "أخبار الأعيان" الذي كان مؤلفه معاصرا لمحمد علي والأمير بشير. قال:
"وسار (الأمير بشير) الى القلعة فتلقاه المدبر بالاكرام، وبعد أيام حضر العزيز من شبرا الى القلعة واستدعى اليه جميع العلماء وبعض رؤساء العساكر وأمر باحضار الأمير، فحضر فاستقبله العزيز بالترحاب، وأمر له بالجلوس وشرب القهوة، وأخذ يحادثه بألطف حديث ثم أصرفهم العزيز، وأمر بابقاء الأمير وحده وأسر اليه جميع ما يرغبه منه في جبل لبنان من الخدمة عند الحاجة، لأنه كان مزمعا أن يتملك بلاد الشام بالسيف. ثم استأذنه الأمير وذهب الى منزل الخزنة دار، ثم عاد الى حيث كان نازلا فأرسل له العزيز أربع حلل من ملابسه وأربعة آلاف ذهب فندقلي. وفي ذات يوم حضر العزيز الى القلعة، واستدعى الأمير اليه وطمأنه على اجابة ما طلب. ثم رجع الأمير الى منزله ونظر العزيز أن الخيل المقدمة لركوب الأمير ليست جيادا فأمر أن تبدل بخيل جياد، وكان الأمير يحضر كل يوم لمقابلة العزيز حسبما أمره. وفي أثناء ذلك أمره العزيز أن يرسل أحد خدمه الى عكا يخبر عبد الله باشا أني أرسلت الى الدولة أسأل رجوعه كما كان، ويشدده بالثبات على الحصار، فأرسل الأمير أحد خواصه يبشر عبد الله باشا بذلك".
"وبعد أيام حضر فرمان من الدولة بالعفو عن عبد الله باشا، وأنه يخرج من عكا بماله ورجاله ويذهب الى مصر أمنا، فشق ذلك على العزيز وأنفذ رسولا الى الدولة يقول للصدر الأعظم: "انه اذا لم يرجع عبد الله باشا كما كان، يضطره الأمر الى الخروج عن الطاعة"، فأتاه الجواب ان عبد الله باشا يبقى في عكا من دون ولاية، فراجع العزيز طالبا رجوع الولاية لعبد الله باشا، وورد تخبير من الاسكندرية أن رسول العزيز خرج من إسلامبول ومعه فرمان العفو لعبد الله باشا".
"وبعد أيام وصل رسول العزيز من إسلامبول مصحوبا بذلك الفرمان، ثم استحضر العزيز جميع العلماء ورؤساء العساكر، فتلا عليهم ثلثة فرمانات: الأول بالعفو عن عبد الله باشا وخروجه الى مصر بماله ورجاله آمنا، والثاني بالبقاء في عكاء، والثالث برجوع المنصب له. ثم أنعم العزيز على الأمير وولديه بثلث فروات، وثلثة من الخيل الجياد المزينة، وأكرمه بماية وخمسين ألف غرش وأذنه بالسفر مع السلااح دار".
وفي سنة 1823 بينما كانت الحكومة العثمانية غاضبة على عبد الله باشا، حاول محمد علي أن يتخذ لنفسه حزبا في عكا نفسها، فأرسل اليها وفدا برئاسة أحد كبار رجاله مزودا بمبالغ كبيرة من المال آملا أن في أثناء اقامة الوفد في تلك المدينة. يتمكن من استمالة بعض أهلها الى جانبه، وكانت مهمة هذا الوفد في ظاهر الأمر العمل على ازالة أسباب الجفاء ما بين الباب العالي وعبد الله باشا، غير أن عبد الله باشا ارتاب في أمرهم وبدلا من أن يستقبلهم في المدينة، نصب المضارب لهم في خارجها، وهناك تلقاهم بالترحاب، وأكرمهم وفادتهم الإكرام اللائق بمقام مرسلهم وفي الوقت عينه عينه حال دون نجاحهم في المهمة السرية التي حضروا من أجلها.
على أن نجاح محمد علي في استصدار العفو عن عبد الله باشا والأمير بشير أولاهما فضلا جزيلا، كما أنه أظهر للملأ ما عنده من قوة وما عليه رجال الآستانة من الضعف بازائه. ثم ما فتئ أن تدخل في شئون سوريا تدخلا ذا سلطان، اذ أمر الأمير بشير عندما تقرر رجوعه الى لبنان "أن يهيئ أربعة آلاف مقاتل من بلاده ليرسلها الى المورة لمعونة ولده ابراهيم ان مست الحاجة الى ذلك". ثم أردف هذا الطلب بآخر مثله الى عبد الله باشا مكلفا ايه تهيئة عشرة آلاف مقاتل لبنانيين مشهورين بالشجاعة.
وفي سنة 1825 أدى التحاسد والغيرة على السلطة والمصلحة الى استفحال أمر الفتنة في جبل لبنان ما بين الأمير بشير حاكم الجبل حينئذ وبين صديقه وعضده القديم الشيخ بشير جنبلاط كبير مشايخ الدروز لذلك العهد، فنشبت الحرب بينهما وترامى خبر هذه الفتنة الى محمد علي، فكتب الى عبد الله باشا يستحثه على المبادرة الى انجاد الأمير بشير بعسكره، ففعل وكان النصر حليف الأمير.
وقبل أن يصل خبر هذا الانتصار الى مسامع محمد علي ، عاد فأرسل "باش جوخداره" يصحبه أربعون هجانا الى لبنان ليقفوا على جلية الأمر، وبعث معهم بكتاب الى الأمير بشير يخبره أنه جهز لنجدته حملة مؤلفة من ألفي فارس وأربعة آلاف رجل من الجنود النظامية، وأنه أرسل الجوخدار وصحبته "تتر" لكي يطلع على الحالة ويعيد التتر اليه سريعا بالخبر اليقين حتى اذا كان هنالك ما يستوجب ارسال النجدة أتته على جناح السرعة. وانما بادر محمد علي الى ارسال هذه البعثة، وتأهب لارسال نجدة الى الأمير بشير ليتخذ شبوب نار الفتنة في لبنان ذريعة للتدخل في شئون سوريا، واحتلال أمنع موقع من مواقعها الحربية، وظن أن انشغال الدولة حينئذ في ثورة اليونان مما يحول دون تعرضها لمقاومته، كما أن اشتراك أسطوله وجيشه في مساعدتها على اخماد تلك الثورة ، يبرر المطالبة بوضع سوريا تحت حكمه مكافأة له على تلك المساعدة.
غير أن الفتنة اللبنانية كانت قد انتهت بفوز الأمير بشير قبل وصول البعثة الكشافة من مصر، ولم تبق له حجة للتدخل العسكري، لكن ما لبث أن وجد مساغا للتدخل السياسي تدخلا جعل لخليفه الأمير بشير السيادة المطلقة في لبان. وبيان ذلك هو انه بعد فوز الامير بشير على خصمه الشيخ بشير جنبلاط، لجأ الشيخ وكثيرون من أصحابه الى ولاية الشام، فطلب عبد الله باشا من وزير الشام أن يقبض عليهم ويرسلهم الى عكا، فأنفذ الوزير من احتال للقبض على الشيخ بشير والشيخين علي العماد وأمين العماد وغيرهم، وكان الثلاثة المذكورون أكثر الزعماء تأثيرا على مقاومة الأمير بشير، فقتل الشيخ علي العماد على أثر وصوله الى دمشق. أما الشيخ بشير جنبلاط والشيخ أمين العماد فأرسلا الى عكا حسب طلب عبد الله باشا وحبسا هناك.
أما الأمير بشير فلم يطمئن باله لوجود الشيخ بشير في عكا بقرب عبد الله باشا ، نظرا لما كان عليه الشيخ من الثروة والاقتدار، ولتلون سياسة الولاة في ذلك الزمان، واتخاذهم المنازعات المحلية وسيلة لتقوية نفوذهم في جبل لبنان، وملء جيوبهم من أموال المتنازعين. عرف الأمير ذلك بالاختبار فبادر الى تلبيغ عبد الله باشا أن لا سبيل الى استباب الراحة في جبل لبنان ما دام الشيخ بشير حيا، وطلب منه أن يقتله فتظاهر الباشا بالاستعداد لتنفيذ طلب الأمير، غير انه لم يتعرض للشيخ بسوء بل أحسن معاملته، ولعله أبقى على الشيخ حفظا للتوازن بين أحزاء الجبل، لاسيما بعد أن شعر بمطامع الأمير محمد علي في سوريا، وبميل الأمير بشير اليه.
فلما علم الأمير بشير بما لقيه الشيخ بشير من حسن المعاملة في عكا، أوجس خيفة من مراوغة عبد الله باشا وابقائه على الشيخ بشير، فبادر الى انفاذ أحد خواصه الى مصر مصوحبا بكتاب الى ولده الأمير أمين، يوعز فيه اليه أن يرجو من العزيز أن يؤيد طلبه من عبد الله باشا، وهو الايقاع بالشيخ بشير فلبى محمد علي رجاء الأمير، كما أن عبد الله باشا عمل بحسب مشيئة محمد علي فقتل الشيخ بشير وقتل معه الشيخ أمين العماد، بناء على طلب الأمير بشير.
فكان لهذه النكبة أسوأ وقع عفي نفوس أحزاب الشيخ بشير، وبنوع خاص في نفوس اكثر الدروز الذين كان له عندهم أسمى مقام. فقد كان الشيخ بشير لا يقل نفوذا عن أمير الجبل نفسه، لأنه كان زعيم أكبر حزب في البلاد وأعرض أرباب المقاطعات جاها وأكثرهم ثروة ورجالا، فكان يحكم مباشرة مقاطعات الشوف واقليم الخروب واقليم التفاح واقليم جزين وجبل الريحان، وكان يملك أكثر قرى هذه المقاطعات ومعظم قرى البقاع. فيما كان لديه من المال والرجال كان عاملا فعالا في تكييف سياسة الجبل، وفي تولية الحكام وعزلهم، وكان فوق ذلك من نوابغ اللبانيين في الذكاء وعلو الهمة والاقدام، فبقتله وقتل زعيمين من حلفائه آل عماد ، تخلص الأمير بشير من أشد أعدائه نفوذا وبأسا وطاب له الحكم في لبنان بدون منازع. وبما أنه كان مدينا بذلك لتدخل محمد علي ازداد الارتباط بينهما متانة، وكان ذلك من الأسباب التمهيدية لغزو سوريا وفتحها. بقى أمر الاستيلاء على سوريا نصب عيني محمد علي، فكلما سنحت فرصة اغتنمها لأجل تنفيذ مآربه فيها. فبعد انتهاء حرب المورة طلب من الدولة العثمانية أن تجعل ولاية صيدا تحت حكمه مكافأة له على اشتراكه في محاربة ثوار اليونان، فلم تجب طلبه بل ولته بدلا منها حكم جزيرة كريت التي كان قد أخضع ثورة أهلها. على أن نظره لم يتحول عن سوريا، ولما عجز عن الحصول عليها برضا الدولة العثمانية صمم على الاستيلاء عليها قسرا. ومن ذلك الوقت أخذ في مجافاة الدولة العثمانية وعدم الانصياع لأوامرها، فلما نشبت الحرب بينها وبين الروسيه رفض الاشتراك فيها ضد الروسية، وواصل الجد في تنظيم جيشه البري وتجديد أسطوله الذي كان قد أتلف معظمه في موقعة نافارين كما ذكرنا في فصل سابق.
أسباب الحملة على سوريا
كانت قاعدة ولاية صيدا في أوائل القرن التاسع عشر عكا ذات الشهرة حينئذ بمتانة أسوارها ومناعة موقعها الحربي، وكانت سلطة واليها تمتد جنوبا الى حدود المصرية. فعبد الله باشا الخزندار الذي جرت غزوة سوريا في عهده، كان يتولى الحكم على ولاية صيدا، وحمله الطمع والغرور على الطموح الى ضم ولاية الشام أيضا، فكان ذلك سببا لنزاع بينه وبين واليها درويش باشا، وأثار على نفسه غضب الدولة العثمانية التي أيدت درويش باشا.
وقد أوضحنا قبل أن محمد علي والي مصر كان طامعا في سوريا ولا يجد فرصة الا اغتنمها لتمهيد السبيل للحصول عليها ، فتدخل لدى الباب العالي لأجل حسم النزاع والعفو عن عبد الله باشا، وهو يظن أن بتدخله في الأمر والحصول على رضا الدولة العثمانية عن عبد الله باشا وحملها على استبقائه في ولاية صيدا، يصبح عبد الله باشا صنيعته، ويكون معينا له على تحقيق أمانيه في سوريا. الا أن ظنه هذا لم يصب، اذ تبين له عندما آن أوان تنفيذ مطامعه أن عبد الله باشا كان أشد المقاومين لها، ولذلك قد نسب الى عبد الله باشا عدم الوفاء ونكران الجميل على أنه ليس من الانصاف الصاق هذه التهمة به بدون بحث ولا تحقيق.
فقد ذكرنا في فصل سابق أن محمد علي أرسل الى عكا في سنة 1823 وفدا غرضه في الظاهر ازالة الخلاف بين الدولة العثمانية وعبد الله باشا، لكن ان وراء ذلك الغموض مهمة سرية ترمي الى استمالة أهالي عكا الى جانب محمد علي، واتخاذ حزب له فيها يعتمد عليه عند الحاجة. وكأن أمر هذه المهمة اتصل بعبد الله باشا، فلم يترك للوفد فرصة للاختلاط بأهل عكا بل استقبله خارج المدينة، حيث نصب المضارب لنزوله بحجة تفضي الوباء داخلها. فترى من هذا أن عبد الله باشا أدرك منذ سنة 1823 أن توسط محمد علي لدى الدولة العثمانية لم يكن منزلها غن غاية شخصية، بل كان يرمي الى استصناعه وتسخيره لمطامع يؤدي تحقيقها الى زوال نعمته وزحزته عن كرسي ولاية صيدا التي كان يحكمها حكما يكاد يكون مطلقا.
ومع هذا فان خطة التسامح التي جرى عليها مع ممد علي بعد استصدار العفو عنه تدل على شعوره بالجميل. ففي أثناء حرب المورة طلب محمد علي منه تهيئة عشرة آلاف مقاتل من لبنان لايجاد ولده ابراهيم، فتلقى الطب بالقبول على أنه لم يطلب منه تنفيذه. ثم لما وقع النزاع بين الأمير بشير صديق محمد علي وبين الشيخ بشير جنبلاط ، كتب الى عبد الله باشا يستحثه على ايجاد الأمير بشير، فلبى عبد الله باشا هذا الطلب.
ثم عاد محمد علي فأرسل الى لبنان شرذمة كشافة، وأعد حملة لتأييد حزب الأمير بشير، ولم نسمع أن عبد الله باشا احتج على ارسال هذه الشرذمة مع أن في ارسالها استخفافا به، وتدخلا صريحا في شئون ولايته. ولما حقت الغلبة للأمير بشير، وأصبح الشيخ بشير سجينا في عكا، طلب محمد علي اعدام الشيخ ارضاء للأمير بشير، فأجاب عبد الله باشا طلبه. رضى عبد الله باشا بهذه الأمور وأمثالها مع أنها تحط من هيبته، وتجعله بالنسبة الى محمد علي بمنزلة التابع من المتبوع، ولا نخال أنه كان يرضى بذلك لولا رغبته باظهار شعوره بحسن الصنيع.
على أن كثرة تدخل محمد علي في شئون ولاية صيدا، واطلع عبد الله باشا على ما يرمي اليه أدى الى وقوع الجفاء بينهما. ولا يبرأ عبد الله باشا من التأثر بعوامل الحسد من نمو قوة محمد علي وبزوغ شمس سعده، ولاسيما أنه كان شديد الاعتداد بنفسه، ويغلب عليه نزق الشباب، فيزعم أنه شجاع كمحمد علي ووزير مثله، وأن له من مقامه في عكا ذلك الحصن الحصين عزة قعساء ليست لأحد غيره من الوزراء، وكان يفخر بأن حصون عكا منيعة لا تنال. حاصرها نابليون في عهد الجزار وارتد عنها خائبا، كما انه هو نفسه شق عصا الطاعة على الدولة العثمانية مرتين فحاصرته فيها ولم تقو على فتحها.
فاستمرار المجافاة بين الوزيرين وتحريض حكومة الآستانة لعبد الله باشا، ولد الحوادث التي تعد أسبابا مباشرة لتوجيه الحملة على سوريا على أنه لابد لنا من التمييز بين الأسباب التي جعلت محمد علي يطمح الى الاستيلاء على سوريا، وبين الأسباب التي اتخذها ذريعه لغزوها.
فالعوامل الحقيقية التي دفعت محمد علي الى الاستيلاء على سوريا هي طموحه الى توسيع دائرة حكمه وتوطيد أركانه باستخدام ما في سوريا من خيران ورجال، وبابعاد عاصمة بلاده عن الحدود العثمانية، واقامة حاجز حصين بينهما، وقد ظهر هذا الغرض فيما كتبه كلوت بك حيث قال: "ان ضم سوريا الى مصر كان ضروريا لصيانة ممتلكات العزيز. فمنذ تقرر في الأذهان ان انشاء دولة مستقلة على ضفاف النيل يفيد المدنية فائدة عامة، وجب الاعتراف بأنه لا يمكن ادراك هذه الغاية الا بضم سوريا الى مصر. وقد رأينا فعلا ان شكل البلاد الحربي لا يجعلها بمأمن من الغزوات الخارجية خصوصا عن طريق بوغاز السويس، فاذا استثنينا غزوة الفاطميين المغاربة وغزوة الفرنسويين بقيادة بونابرت، نجد أن سائر الغزوات جاءت عن طريق سوريا غزوة قمبيز والاسكندر والفتح الاسلامي وغزوتي الأيوبيين والأتراك. وعليه لا يمكن الاطمئنان الى بقاء مصر مستقلة الا باعطائها الحدود السورية، لأن حدودها ليست في السويس بل في طوروس.
هذا ما قاله كلوت بك في كتابه المطبوع سنة 1849 وهو من كبار رجال حكومة محمد علي، وقد كتب ما كتب في أثناء حياة سيده، فسوريا الكثيرة الجبال والوديان يسهل على جيش منظم أن يجعلها سدا منيعا في وجه الغزاة من الشمال ، كما أن سكانها معروفون بشدة البأس وكان عددهم حينئذ نحو المليونين، فيهم يزداد جيش محمد علي قوة وتخف وطأة التجنيد على الفلاح المصري. وفي سوريا الأخشاب والفحم الحجري والنحاس وغيرها، مما لا وجود له في القطر المصري مع حاجته لتوسيع نطاق المشاريع الصناعية. كما أن تربة البلاد السورية أكثر من القطر المصري ملاءمة للأعمال الصناعية. ناهيك عما لها من الأهمية الاقتصادية والسياسية لاتصالها بالأناضول، ولعلائقها التجارية بأواسط آسيا. وفيها تمر القوافل ما بين خليج العجم وموانئ البحر المتوسط، حاملة حاصلات الشرق الى الغرب، ومصنوعات الغرب الى الشرق ما انها طريق الحجاج الى بيت الله الحرام. ولدمشق وهي باب الكعبة أهمية دينية، كما أنها كانت ذات صناعات أنيقة ومركز تجارة واسع. فكل هذه الاعتبارات جعلت محمد علي شديد التشبث بوجوب ضمها الى مصر.
ومطامع محمد علي لم تنحصر في الاستيلاء على سوريا، بل كان يتوق الى تثبيت قدمه في شبه جزيرة العرب. فبعد شروعه في محاربة الوهابيين ظهرت رغبته في احتلال جزر البحر الأحمر وشواطئه الشرقية. فدخول سوريا في حوزته يقطع خط المواصلة بين شبه جزيرة العرب وعاصمة السلطنة العثمانية، فيخلو له الجو للتبسط في البلاد العربية.
ومن رأى بعضهم أن عداء السلطان محمود ورجاله لمحمد علي، ومحاولتهم اسقاطه من منصة الحكم، دفعاه الى محاربة الدولة العثمانية ومهاجمتها في سوريا عملا بالمثل القائل "اتغدى بالذئب قبل أن يتعشى بك". ومما قيل تأييدا لهذا الرأي هو أن السلطان محمد ورجاله هم الذين دفعوا لطيف باشا الى التآمر على خلع محمد علي، وسعوا لالقاء بذور التحاسد والشقاق بين ابراهيم باشا ووالده محد علي، اذ انعم السلطان على ابراهيم باشا بولاية جدة ولقب شيخ الحرم المكي، وهذا يجعله مقدما على والده في المقامات الرسمية. كما أنهم يروون أن السلطان أخلف وعده لمحمد علي بمنحة باشاوية سوريا بعد حرب الوهابيين، ثم بعد حرب المورة، لكن في المرة الأخيرة أبدله منها جزيرة كريت التي كان خرجها يزيد على دخلها نحو ضعفين.
وينسب عداء السلطان محمود لمحمد علي الى أسباب عديدة أهمها:
1- نزعة محمد علي الاستقلالية، والعداء القديم بينه وبين خسروا باشا، والحسد الذي كان يجيش في صدر السلطان لنجاح محمد علي في جميع مشاريعه. 2- انسحاب جنود محمد علي من المورة بناء على اتفاق عقد بينه وبين دول الحلفاء مباشرة بدون اذن الباب العالي. 3- محاولة محمد علي اقناع الحكومة العثمانية بعدم محاربة الروسيه، ثم احجامه عن الاشتراك معها في تلك المحاربة. 4- تحريضه أهالي الروملي وألبانيا عل الانتفاض على الدولة العثمانية، ووعده مصطفى باشا والى أشقودره بامداده بالمال والرجال، كما ثبت من رسائل وقعت في قبضة الحكومة العثمانية ومن اقرار مصطفى باشا نفسه.
فلجميع ما تقدم من الأسباب، كانت مراجل الحقد تغلي في صدور المتخاصمين، ولم يبق أمام الفريق الراغب في فتح باب النزاع الا ان يجد عمله لمهاجمة الآخر، وسرعان ما وجد محمد علي هذه العلة في المشادة التي وقعت بينه وبين جاره عبد الله باشا والي صيدا في زمن سادت فيه فوضى الأحكام في الولايات العثمانية.
بدأ النزاع بين محمد علي وعبد الله باشا بتصادم مطامعهما فمحمد علي كان راغبا في التوسع، وعبد الله باشا كان يطمع في ضم ولاية الشام، كما كانت في عهد سلفه سليمان باشا. فلو وافق محمد علي على تنفيذ مقاصده في سوريا لحضى بأمانيه القديمة وأصبح اما تابعا له أو مقصيا عن منصة الأحكام، ولا يخضع لذلك بدون مقاومة سوى الضعفاء أو الزهاد ، وعبد الله باشا لم يكن من أولئك ولا من هؤلاء.
وحقد عبد الله باشا على محمد علي لمخاطبته اياه بلفظة "ولدنا" بينما كان يخاطب الأمير بشير حاكم جبل لبنان ، وهو تابع لعبد الله باشا بلفظة "أخينا" فتوهم عبد الله باشا أن استعمال لفظة ولدنا مما يزري بقدره. وحمله الغضب وشدة النزق على التفوق بكلام جارح في حق محمد علي على أن لفظتي "ولدنا" و"أخينا" استعملهما محمد علي لعبد الله والأمير بشير مراعيا سن كل منهما. لأن عبد الله باشا كان في نحو ثلاثين من عمره، والأمير بشير في نحو الثالثة والستين، أما محمد علي فكان في نحو الستين من العمر.
وعلى كل فان اختلاف المصلحة كان السبب الأكبر في وقوع النزاع، فأصبح الوزيران المتجاوران عدوين، فتكررت مشاكسات عبد الله باشا وشكايات محمد عليه منه، وهي الأسباب المباشرة للزحف على عكا وتلخص فيما يلي:
أولا – ان طمع محمد علي في الاستقلال والتوسع وحروبه في الحجاز والمورة واهتمامه الشديد في انجاز مشاريعه الزراعية والصناعية، جعلته شديد الوطأة على المصريين ، لكثر ما ابتزه من الأموال، واظهاره منتهى الشدة في تحصيلها، وانتزاعه شبان البلاد من أحضان عائلاتهم لأجل الخدمة في الجيش لمدة غير محدودة، وتكليفه الألوف من الرجال القيام بأعمال السخرة. فهذه المظالم حملت نحو ستة آلاف منهم على الارتحال الى البلاد السورية المتاخمة للبلاد المصرية، وكان بين هؤلاء بعض الشذاذ والمجرمين الذين غادروا البلاد لينجو من القصاص.
فالاغضاء عن المهاجرة الى بلاد مجاورة يؤدي الى اضرار جسيمة في جندية البلاد وشئونها الاقتصادية، كما انه مخل بالأمن العام، لأنه متى علم الأشرار على اجتيازهم الحدود المصرية ينجيهم من العقاب، ازدادوا جرأة على ارتكاب الجرائم والعبث بالأمن. فتلافيا لأضرار المهاجرة، ووقفا لتيارها طلب محمد علي من عبد الله باشا أن يعيد المهاجرين المصريين الى بلادهم، فأبى عبد الله باشا اجابة هذا الطلب، محتجا بأن المصريين من الرعايا العثمانيين كالسوريين، ولهم حق الاقامة حيث شاءوا من الولايات العثمانية، فحنق محمد علي لهذا الجواب، وكتب اليه متوعدا أنه سيذخب بنفسه لارجاعهم جميعا وزيادة عليهم واحد.
ثانيا – أنه عندما تدخل محمد علي لدى الباب العالي لاستصدار العفو عن عبد الله باشا وابقائه في ولاية صيدا، اشترط الباب العالي على عبد الله باشا دفع ستين ألف كيس الى الخزينة السلطانية، وحيث لم يكن لديه كل هذا المبلغ استلف بعضه من محمد علي، لكن أبى بعدئذ هذه السلفة.
ثالثا – كان محمد علي قد أخذ في تنشيط زراعة التوت وتربية دود الحرير في القطر المصري، وكان يأخذ بذره من جبل لبنان عندما يورق التوت، لأنه لو أبقى البذر في طقس مصر الحار لنفق قبل ايراق التوت. ففي سنة 1831 منع عبد الله باشا اخراج البذر من لبنان لاستحكام الجفاء بينه وبين محمد علي.
رابعا – اتهم محمد علي عبد الله باشا بأنه كان يشجع تحويل تجارة الحاصلات المصرية الى طريق صحراء سيناء، بدلا من تصديرها عن طريق الموانئ المصرية وفي هذا التحويل ضرر عظيم بمصلحة محمد علي. وعدا الاسباب المتقدم ذكرها، أذاع محمد علي بين السوريين أنه انما ينوي الهجوم على عكا لأجل الانتقام للسلطان من عبد الله باشا لمروقه مرارا من طاعة مولاه، حيث تظاهر بالاستقلال، ودك قلعة سانور الى الحضيض بدون اذن السلطان، واستعمل آلات الموسيقى التي يستعملها الإنكشارية، مع أن السلطان محمود كان قد أبطلها بعد ان بطش بأصحابها.
خلاصة الأسباب التي اتخذت حجة لغزوسوريا. على أن السلطان لم يكن راضيا عن توجيه هذه الحملة، لأن الغرض منها كان منافيا لمصلحة الدولة العثمانية. فعزم على محاربة محمد علي، واستصدر فتوى بتكفيره، فكان جواب محمد علي على ذلك أن أعلن خروجه على السلطان واستمال الى جانبه شريف مكة، فأذاع في الأقطار العربية وخصوصا في مكة والمدينة منشورا طعن فيه على السلطان محمود ناسبا اليه المروق من الدين، والاسترسال في تقليد الكافرين معلنا أن من كان مثله لا يليق لتبوؤ منصب الخلافة والجلوس على عرش آل عثمان، وأتبعه ذلك بنداء الى المؤمنين كافة يستنهضهم الى نجدة الدين الذي يهدده من يجب عليه أن يكون أشد المدافعين عنه.
وهكذا عادة محمد علي فانتحل للحملة على سوريا غرضا جديدا وهو القيام بواجب مقدس يحتمه عليه الدين، والمحافظة عل كيان المسلمين من خطر أوقعهم فيه سلطان كثير المساوئ انتهك حرمة المساجد، وخالف شرائع نبيه الكريم، وأوقع بالعلماء الذين أعلنوا كفره وقاوموا ما حاول ادخاله الى ديار المسلمين من الأزياء والعادات المخالفة لنص الفتاوى وأحكام القرآن الشريف الذي جاء به السرول العربي الأمين.
موازنة بين السلطان محمود ومحمد علي
ذكرنا فيما تقدم مجمل الأسباب التي أدت الى نشوب الحرب بين محمد علي والسلطان محمود . ولأول وهلة ربما عرت القارئ الدهشة لاقدام تابع يحكم ولاية واحدة على مناجزة متبوع عظيم يتولى أمر سلطنة مترامية الأطراف ، تمتد من خليج العجم شرقا الى البحر الادرياتيك غربا، وله فوق شرف الانتساب الى سلالة قامت بأعباء الملك أجيالا طوال، عظمة الخلافة التي تنحني أمامها رؤوس المسلمين في الخافقين إكبارا وإجلالا.
على أن كثيرين من الاحياء يذكرون أن مثل هذه الدهشة عرت فريقا كبيرا من الناس في أواخر القرن الماضي، عندما أقدمت اليابان على محاربة الصين، وعدد اليابانيين حينئذ لم يتجاوز عشر عدد الصينيين.وجرى ما يقرب من ذلك في أوائل جيلنا الحاضر عند وقوع الحرب بين روسيا واليابان، وقد كانت روسيا الى ذلك العهد غول أوروبا، لها الموقف المنيع والجيش الذي لا يقهر، ومع هذا فان اليابان الصغيرة فازت على جارتيها العظيمتين، وكان لمزايا القواد وميزات الأنظمة القول الفصل في تقرير مصير المتحاربين. فهذه العوامل نفسها رجحت كفة الميزان الى جانب محمد علي في نزاعه مع السلطان محمود.
ان كلا من التابع والمتبوع المتنافسين بذل ما في وسعه في سبيل الاصلاح، وأراد لبلاده مجارة البلدان الغربية في نظاماتها ومباراتها في مضمار الرقي والعمران، غير أن محمد علي كان أمضى عزيمة من مولاه وأوسع منه حيلة وأكثر خبرة واقتدار على تصريف الأمور، كما أن المصاعب التي قامت في وجه السلطان محمود لم يقم مثلها في وجه محمد علي، فالمماليك – وهو أعظم خصوم محمد علي في مصر – كان قد هلك أكثرهم، وأنهكت قواهم في وقائعهم مع جيش بونابرت، وبعد ذلك دب دبيب الشقاق بين زعمائهم، وانحاز فريق منهم الى جانب محمد علي ثم مات زعيما الحزبين، وانتشرت الفوضى في صفوفهما، فهان أمرهم على محمد علي وحيث رأى أن لا أمان عليه من مكايدهم كاد هو لهم وبطش بهم بطشته المشهورة. فلم تبق بازائه في مصر قوة يخشى معارضتها، لأن الشعب المصري لين العريكة مطواع لحكامه، كما أنه قد استعد بعض الاستعداد لتبدل الأحكام في اثناء اقامة الحملة الفرنسوية في مصر، ووجد في حكومة محمد علي من الانتظام ما لم يجد مثله في عهد المماليك.
ثم ان البلاد المصرية ضيقة النطاق منبسطة الأرض سهلة المسالك، ولها من النيل خير وسيلة لتقريب المواصلات بين عاصمة البلاد وقواعد أقاليمها، كما أن الارتباط بين ولي الأمر وحكام الأقاليم كان وثيقا وأوامره نافذة، وفي كل ذلك ما يحول دون نشوب الثورات ويسهل قمع أي انتفاضة على سلطة الحكومة قبل استفحال أمرها.
تولى محمد علي الحكم في مصر سنة 1895، ولما عول على غزوة سوريا في سنة 1831 كان قد وطد أركان الأمن والاصلاح في بلاده، فنظم الادارات الملكية والعسكرية ، وأنشأ المدارس والمصانع، وكانت جيوشه قد خاضت حروب الفتح والتأديب في السودان وبلاد العرب والبت أحسن بلاء في مقاتلة ثوار اليونان في المورة وكريت، ونالت في جميع هذه الحروب انتصارات باهرة، فبعد صيت محمد علي، وزادت شهرة قواد جيشه، وثبت ما للجنود المنظمة من المزايا على الجنود غير المنظمة.
أما السلطان محمود ، فارتقى الى عرش السلطنة في سنة 1808، وادارة البلاد وجنديتها فوضى، وسلطته اسمية في الأقاليم البعدية، لانتشار النظام الاقطاعي وتغلب حكام الولايات القاصية كمصر وسوريا، وبغداد وألبانيا وغيرها، ونمو الروح القومية ما بين رعاياه المسيحيين في اليونان، وولايات البلقان الذين كانوا يلاقون معاونة وتشجيعا من الدول والشعوب الأوروبية، فهذه الأحوال القلقة في مختلف أنحاء السلطنة مع الأخطار الدائمة التي كانت تهدده من جهة الروسيه ، جعلت مهمته الأولى تقوية السلطة المركزية باخضاع العناصر المشاغبة. فنجح في قهر كثيرين من الولاة العصاة وأرباب الاقطاعات، واستعصى عليه اخضاع الباقين كثوار اليونان ومحمد علي، فكان له في كل ذلك، وفي حروبه مع الروسيه ما يحول دون الاصلاح الذي كان ينشده ويستنزف أموال الدولة ويضعف جنديتها، على أن ذلك لم يزده الا اقتناعا بوجوب الاسراع في اصلاح طرق الحكم، وادخال الانظمة الأوروبية في الادارات الملكية والعسكرية.
لكن اكن له من وجاق الانكشارية خصم عنيد. وخصومة الانشكارية حينئذ كانت شديدة الخطر، لأنهم بعد أن كانوا فيما مضى جيش الدولة الدائم ومصدر قوتها وحاملي رايات النصر من قطر الى قطر، كثر عدد الرعاع في صفوفهم، وضعفت فيهم الروح العسكرية، وارتخت روابط النظام، فصاروا بؤرة فساد، ومصدر اضطراب وخطرا دائما على السلطان ووزرائه ورعاياه، يتدخلون في مختلف شئون المملكة، ويقاومون كل اصلاح بقوة السلاح. وكانوا يسومون الأهلين صنوف العذاب، وليس في الدولة قوة تردعهم، فأصبحوا ولهم الأمر المطاع حتى اذا ما قاموا بمظاهرة ضد الحكومة نفسها شاركهم الأهلون في ذلك مكرهين بدون أن يعرفوا بسبب التظاهر، ومن غرائب اعمالهم أنهم حاولوا مرة أن يدفعوا الى كرسي الحكم على احدى الولايات حلاقا من عامة الناس ، لمجرد كونه صديقا لهم. فجندية هذا شأنها لم تبق ذات قيمة حربية بازاء الجندية الأوروبية التي كانت تتقدم في التنظيم العسكري تقدما سريعا.
وكان السلطان سليم الثالث قد شرع في تنظيم جيش جديد على النمط الأوروبي، فأسخط الإنكشارية، فثاروا عليه وخلعوه ثم قتلوه، وبقيت هذه التهم من التمرد والاستبداد الى عهد ابن عمه السلطان محمود ، فصمم على التخلص منهم، لكنه تريث الى أن ضج العلماء والوزراء وعامة الشعب من طغيانهم والتفوا حوله للانتقام منهم ، وكان قد أتم تدريب وتسليح فرق من رجال المدفعية على الطراز الجديد، فتالب جميع الطبقات على الإنكشارية وبطشوا بهم في سن 1826، وكانت ثورة اليونان حنيئذ حامية الوطيس، وتخللها تدخل الدول الأوروبية تدخلا عسكريا، وتلتها الحروب مع الروسيه فأودت بالبقية الباقية لدى السلطان من المال والرجال، فحق له أن يقول عندئذ:
كان هم واحد لاحتملته ولكنه هم وثان وثالث
بل وأكثر من ذلك لأن العقبات السابق ذكرها على خطورتها لم تقم وحدها في سبيل الاصلاح، بل ان العلماء وهو حفظة الدين والمتسلطون على عقول جموع العامة الساذجين، كانوا يقاومون الاصلاح لاعتقادهم أن كل جديد بدعة، وجاراهم في ذلك جيش الموظفين الجرار، وبينهم أكثر الوزراء وحكام الاقاليم وكبار القواد.
فهؤلاء كانوا يحسبون أن ادخال الأنظمة الأوروبية ضررا بمصالحهم الشخصية، وانقادت عامة الشعب اليهم والى العلماء، فاعتبرت التجدد كفرا وقاومته أشد المقاومة. نعم ان السلطان قام ببعض الاصلاحات ، لكن لم يظهر منها للعيان الا ما كان سطحيا، كتغيير أزياء الموظفين ورجال الجيش. أما ما سوى ذلكن فنظرا لاتساع نطاق السلطنة وصعوبة مواصلاتها، فذهب كقطرة في بحر، كما أن القيادة العلاي لو شاءوا تنفيذ الاصلاح لما استطاعوا ذلك، لجهلهم طرقه وعدم وجود مأمورين في دوائر حكمهم عارفين بالنظام الجديد.
وكانت الحكومة المركزية ضعيفة بازاء الشعب ورجال الدين، ومن الأمثلة على ذلك أن حكومة الآستانة شاءت تسمية شوارع العاصمة ووضع الأرقام على منازلها، لكنها أحجمت عن ذلك خوفا من ثورة الأهالي عليه. وشاء السلطان محمود أن يستخدم لتعليم ولي الهد أستاذا فرنسويا واسع الاطلاع على اللغات الشرقية، غير أن المفتي لم يجز ذلك فاضطر السلطان الى الرجوع عن عزمه. ولزيادة ايضاح رأي عامة العثمانيين في السلطان محمود واصلاحاته نورد خلاصة حديث لرحالة أوروبي مع أحد أغاوات الأناضول. قال صاحب الحديث ما خلاصته:
ساقني الحديث مع أغا "رد كلا داغ" الى الكلام عن ملابس السلطان محمود، فسألني عما اذا كنت متأكدا من أن السلطان يرتدي ملابس الكفار، فأجبته بالايجاب، وقلت له ان ذلك غير محصور في السلطان وحده، بل ان رجال جيشه وجميع المسلمين الداخلين في خدمة حكومته يرتدون الملابس الإفرنجية. فقال الأغا ان محمود الثاني مجنون لا يفكر في مستقبل أمته. ان رجوع مياه نهر "القزل يرمق" صعودا الى منبعها لأيسر من حمل العثمانيين على احتذاء مثال الغربيين. انه يريد تجديد السلطنة العثمانية، لكن ألم ترد أن منذ شروعه في التجديد المزعوم لم يكن نصيب السلطنة سوى الضعف والفشل؟ ان تركيا الجديدة، تركيا ذات الاصلاح قد غلبها على أمرها ثائر من رعاياها! ففي أي زمان من تاريخنا بلغ السلطان من الضعف مبلغا أعجزه عن تأديب تابع ثائر؟ ان محمودا سلسل عثمان ووارث الخلفاء. سلطان السلاطين وخاقان الخواقين مانح التيجان المسيطر على البحرين الابيض والأسود ومالك بر آسيا والبلاد العربية وأفريقيا وأوروبا أخا الشمس وأبا النجوم ابن عم القمر وظل الله الظليل على الأرض – ان محمود هذا خاف ان يسحقه ذلك الباشا المقدام الجالس على ضفاف النيل، فاستغاث بالروسيه لتحميه من محمد علي. وما أدراك ماذا ستجر هذه الحماية من الويل على البلاد؟ فمن ذا الذي يجعل مطامع المسكوب في سلطنة آل عثمان؟ فوا أسفي على هذه السلطنة التاعسة الجد. ان المصائب التي تهددها بينما حكامها لا يدركون الخطر المحدق بها"ز وقد روى صاحب هذا الحديث أنه سمع مرارا عديدة في أثناء تجواله في الأناضول، مثل الآراء التي أبداها أغا "درك كلا داغ".
ولابد من ذكر عامل آخر كان من أشد العوامل في نجاح محمد علي واخفاق السلطان محمود وهو أعوان كل منهما. فقد كان أكبر أعوان محمد علي أولاده وأحفاده وأنسباؤه وأبناء جلدته أو غيرهم من الذين نشأوا تحت حكمه أو ممن أحسن اختيارهم من الإفرانج والأرمن والسوريين، فكل واحد من هؤلاء عرف ما فطر عليه محمد علي من حب التدقيق في العمل والسهر على تنفيذ الأوامر والأحكام، وتحقق أيضا أن في البلاد ارادة واحدة طاعتها ومخالفتها غرم، وهذه الارادة هي ارادة محمد علي. فعمل كل في دائرته على تنفيذ مشيئة مولاه بدون تردد ولا ابطاء. ووجدوا بالاختبار أن في انجاح مشاريع مولاهم سعادة لهم، لأنه كان يغمر رجاله المفلحين بأنعامه، فكثيرون منهم صاروا من أصحاب المقامات الرفيعة والثروات الطائلة بما نالوه من المكافآت على اخلاصهم في الخدمة، والنجاح في الأعمال التي قاموا بها. ففي هذا التضافر على تنفيذ مشيئة محمد علي في الاصلاح السر الأعظم في تكلل مساعيه بالنجاح.
أما السلطان محمود فلم يسعده الحظ بأعوان كأعوان محمد علي ، مع أنه لم يكن أقل منه حبا بالاصلاح واهتماما به. ورغبة في رفع مقام شعبه الى مستوى الشعوب الراقية. لكن حب الاصلاح شيء وتنفيذه شيئ آخر، وأنى للسلطان محمود أن ينفذ مشيئته وهو عاجز عن اختيار أستاذ قدير لتعليم ولي عهده في وسط قصره. أو كيف يستطيع القيام بتجديد واسع النطاق في سلطنته ما دامت حكومته في حالة من الضعف تمنعها من تسمية شوارع العاصمة وتنمير منازلها خوفا من ثورة الأهالي عليها.
وقد قال اللورد بونسونبي Ponsonby سفير إنكلترا في الآستانة في ذلك العهد ان السلطان محمود كان حسن القصد ، شديد الغربة في اصلاح بلاده، لكنه لم يجد حوله من يستعين به على انجاز الأعمال الاصلاحية التي كان يرغب القيام بها.
ان هذه الحالة كانت معروفة عند محمد علي تمام المعرفة، لأنه كان واقفا على مجاري الأمور في السلطنة العثمانية، مطلعا على ما أصابها من التضغضغ والاختلال. ولهذا أقدم على محاربتها غير هياب ولا وجل.
لمحة عن حالة تركيا وسوريا عندما غزاهما ابراهيم باشا
اختار محمد علي لمنازلة السلطان محمود الوقت الذي كانت فيه الدول العظمى منهمكة بالشئون الأوروبية ومقاومة مبادئ الثورة الفرنسوية، كما أن الدولة العثمانية كانت خائرة العزم منهوكة القوى بسبب النكبات والخسائر التي نزلت بها كثورة علي باشا حاكم يانيا، وثورة اليونان الكبرى التي انتهت بنيلهم الاستقلال وفي أثناء تلك الثورة بطش السلطان بالإنكشارية في حزيران (يونيه) سنة 1826 الذين كانوا أشد أعداء النظام والاصلاح، غير أن القضاء عليهم أفقد الجيش العثماني قوة كان يرهب جانبها. وقبل أن تتمكن الحكومة العثمانية من تدريب جيش جديد، وقعت الحرب مع روسيه، فكبدت العثمانيين خسائر جسيمة في الرجال والأموال، وقضت نهائيا باستقلال اليونان.
فلما جاءت على أثر ذلك الحملة المصرية على سوريا، اضطرت الدولة الى جمع الجنود من هنا وهناك، فتألف منها جيش عديم التجانس تعوزه الدربة، وكان ضباطه قليلي الخبرة بالفنون العسكرية، وكثيرون منهم لم يرقوا الى رتبهم عن استحقاق بل رفعتهم اليها عوامل المحسوبية والمحاباة.
أما حالة الجيش المصري فكانت تختلف عن ذلك كل الاختلاف. كان قائده ابراهيم باشا كبير أبناء محمد علي وهو قاهر الوهابيين ومدوخ المورة. وكان يعاونه سليمان باشا الفرنساوي منظم جيش محمد علي، وابراهيم باشا وسليمان باشا من أشهر قواد عصرهما عزما وحزما ودربة ولجنودهما، بها ثقة تامة لأنهما قاداها الى مواطن النصر مرارا.
ولم يكن عبد الله باشا الذي كان محمد علي ينوي تأديبه أنهم بالا عن هؤلاء السلطان، ولا كانت ولايته خالية من المغارم والفوضى السائدة في سائر الولايات العثمانية. فقبل ذلك بقليل حدثت ثورة في نابلس لم يستطع قمعها الا بعد محاربة بضعة أشهر، والاستعانة بالأمير بشير الشهابي ورجاله اللبنانيين الأشداء، وكان القلق لا يزال مستوليا على الأفكار، كما أن حبل الأمن كان مضطربا والحكام كبارهم وصغارهم لاهون عن اقرار السكينة وتأمين الحقوق، بتكديس الأموال ومباراة غزاة البادية في السلب والتخريب.
وقد وصف قاضي غزة لذلك العهد حالة البلاد وصفا جليا في حديث له مع أحد الإفرنج ، هذه خلاصته قال: "ان مسعود الماضي كالمطرقة الثقيلة على رؤوس الغازين لا يهمه من أمر هذا الشعب سوى سلب أمواله، ان حاكمنا كرمال الصحراء دائم الظمأ ، تتسرب ثروة البلاد الى خزائنه كما تتسرب مياه الأنهار الى البحر، بينما السكان يتململون ويئنون ، وكأن لم يكفهم ثقل وطأة الضرائب الفادحة حتى تذهب ثمار أشجارهم وغلال حقولهم طعاما لعريان البادية الشرهين. ان هؤلاء العرب السلابين ينهبون في كل عام من منطقة غزة ما تقدر قيمته بأكثر من عشرة آلاف كيس. هم يفعلون ذلك ومتسلمنا لا يأتي بأي عمل لايقاف تعدياتهم. حينما كان أبو نبوت حاكما على هذه البلاد، كان البدو قليلي الجسارة، وكانت الحاصلات في حزر حريز. وبفضل سهره على اقرار الأمن وفرض العقوبات على المجرمين ألجأهم الى الاخلاد الى السكينة.. أما اليوم فالبلدو يسرحون ويمرحون حيث شاءوا، وأكثر من ستة آلاف منهم منتشرون في البادية المجاورة، فعلى هؤلاء كن يجب أن يجرد عبد الله باشا جنوده لا على الفلاحين النابلسيين. لقد طفح كيل الاستياء من هذه الحالة، وكل واحد هنا يطلب التغيير. انهم يتهامسون أن محمد علي سيمد حكمه قريبا الى بلادنا. ويقولون أيضا ان امتكهم التي استولت على الجزائر تفكر في الاستيلاء على سوريا. فيا أيها البيك الفرنساوي ان الفاتح يلاقي عندنا أحسن استقبال، ويجد أعظم حفاوة من أية جهة جاء. ان الحالة التي نحن فيها لا يمكن احتمالها طويلا، واذا تأخر قدوم الغازين فان شعبنا رغما عن ضعفه سيثور.. أما ترى أن الضغط واليأس قد يدفعان الهر الى اقتلاع عيني النمر".
هذا ما قاله قاضي غزة مع علمه أن المصريين كانوا يشكون مر الشكوى من صرامة حكم محمد علي، وثقل وطأة التكاليف التي فرضها عليهم حتى لجأ الألوف منهم الى غزة نفسها والى غيرها من بلاد فلسطين، لكن ان يعرف أيضا أن في دائرة حكم محمد علي قد شمل الأمن طول البلاد وعرضها، كما أن دعاته في سوريا كانوا يذيعون بين أهلها أنه اذا استوى على بلادهم لا يكلفهم سوى دفع الأموال الأميرية. فشعب بلغ منه الاستياء الدرجة التي وصفها قاضي غزة لم يكن عبد الله باشا ليرجو منه نصرا، كما أن الأمير بشير حاكم جبل لبنان الذي كان في ما مضى عدته في وقت الشدة، غدا شديد الارتباط بمحمد علي، فلم يبق له ما يعتمد عليه في مقاومة حملة ابراهيم باشا سوى حصون عكا وشجاعة حاميتها.
على أنه لم يداخله الخوف من هجوم هذه الحملة لأن أفكاره كانت مشبعة بمناعة أسوار مدينته، حيث عجز بونابرت عن فتحها في عهد الجزار، ولأنها زادت مناعة على ما كانت عليه في ذلك العهد، اذ أضاف الجزار الى تحصيناتها القديمة بعد انسحاب الفرنسويين سلسلة ثانية من التحصينات، وحفر أمامها خدنقا عميقا. ولم تقتصر تحصينات عكا على أسوارها بل كانت تحميها أبراج عديدة من جهتي الشرق والشمال، وكانت مباني الحكومة محاطة بأسوار عالية. أما من جهة البحر فكانت أسوارها أقل متانة من الأسوار القائمة الى جهة البر، لأن المياه في مينائها قليلة العمق، ولا تستطيع السفن الكبيرة الرسو فيها، وكانت جميع التحصينات في حالة جيدة لأن عبد الله باشا كان دائم العناية بترميمها وتسليحها. أما حامية المدينة فكانت مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل أشداء من الدالاتية والألبانيين والعرب ومن هؤلاء كان حرس عبد الله باشا الخاص. وكان لدى الحامية مدفعية قوية ومياه وافرة وكميات كبيرة من المؤن والذخائر بها الكفاية لاحتمال حصار طويل.
الزحف على سوريا والاستيلاء عليها
ان الحملة التي وجهها محمد علي باشا الى عكا بقيادة ولده الأكبر ابراهيم باشا كان عدد رجالها نحو ثلاثين ألف رجل، معها أربعون مدفعا من مدافع الميدان، وعدد أكبر من ذلك من مدافع الحصار. واشتركت معها قوة بحرية مؤلفة من ثلاث وعشرين سفينة حربية وسبع عشرة سفينة نقل بقيادة أمير البحر عثمان نور الدين بك. كان رؤساء هذه الحملة من القواد المحنكين وسبق أن ثبتت كفاءتهم في حروبهم السابقة، كما أن جنودهم، كانوا مدربين تدريبا حسنا ، لكنها كانت مفتقرة إلى مهندسين ماهرين. وبدأت أعمالها الحربية في أول فصل الشتاء وهو أقل الفصول مناسبة لجيش تعود التعريض لحرارة الشمس وطول فصل الصحو.
شاع عزم محمد علي على غزو سوريا في أوائل سنة 1831، وكان ينوي تسيير الحملة عليها في صيف تلك السنة، غير أن تفشي الهواء الأصفر (الكوليرا) أوجب التأجيل الى فصل الخريف، أي الى ما بعد زوال الوباء. فبدأ الزحف في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1831 فسار بعضها برا بطريق العريش فغزة فيافا فحيفا بقيادة ابراهيم باشا الصغير. أما القائد ابراهيم باشا الكبير فذهب بحرا من الاسكندرية الى يافا ثم حيفا ومعه أركان حربه وقسم من جيشه والمدافع الضخمة والذخيرة. فاستولت القوة التي اتخذت طريق البر على المدن والبلاد التي مرت فيها بدون أن تلقى مقاومة، واجتمعت القوتان في حيفا التي اتخذت ابراهيم باشا لأعماله الحربية، ومستودعا للمؤن والذخيرة.
وبعد وصوله الى حيفا وفد عليه شيوخ القدس ونابلس وطبريا وقدموا خضوعهم له ، لأنهم كانوا شديدي الاستياء من عبد الله باشا، فكان لخضوعهم أهمية عظيمة، لأنه مكن ابراهيم باشا من بسط حكم والده على بلادهم بدون قتال، وأصبح خط مواصلاته البرية بمأمن من الاعتداء، وتفرغ لتوجيه جميع جهوده الى محصارة عكا.
وبما أن موقف اللبنانيين كان له أهمية كبرى، كتب ابراهيم باشا الى الأمير بشير يستقدمه اليه، فلم يلب الأمير الدعوة، وحاول التزام خطة الحياد، كما فعل في عهد بونابرت والجزار الى أن يتبين له رجحان كفة أحد الفريقين. فبلغ ابراهيم باشا والده خبر تردد الأمير بشير فغضب العزيز، وكتب الى الأمير كتابا أنذ فيه أنه اذا تأخر عن الانضمام الى ابراهيم باشا "يخرب مساكنه ويغرس موضعها تينا". ثم حضر الأمير بشير ببعض رجاله، وأبدى المعاذير التي أوجبت تأخيره ، فأحسن ابراهيم باشا استقباله، وبالغ في اكرامه وأبقاه رهينة عنده.
الشروع في محاصرة عكا
شرعه ابراهيم باشا في محاصرة عكا في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1831، فاستبسلت حاميتها في الدفاع عنها، وخرج الدالاتية في الأيام الأولى، فهاجموا احدى استحكامات ابراهيم باشا في الجهة الشرقية، وغنموا مدفعين وأسروا نحو عشرين رجلا. فقابل ابراهيم باشا هذا الهجوم باطلاق المدافع على المدينة في 8 كانون الأول (ديسمبر) من الجهة البرية اطلاقا متواصلا، ثم استأنف اطلاقها في 9 منه واشتركت السفن الحربية في ذلك، فجاوبتها مدفعية عبد الله باشا بشدة، فكان ذلك اليوم من الأيام الرهيبة على أنه لم يأت بتأثير يذكر على حالة عكا، لكن مدفعية عكا أحدثت أضرارا في السفن المصرية التي حاولت الاقتراب من الأسوار البحرية.
واستمر ابراهيم باشا على مواصلة الحصار وتشديده، كما أنه أخذ في احتلال المواقع المهمة في ولاية صيدا، فوجه في 14 كانون أول (ديسمبر) سنة 1831 قوة مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل، فاحتلت صور وصيدا وطرابلس، وطلب من الأمير بشير أن يرسل اللبنانيين لعضد الحملة، فأنفذ الى طرابلس في 20 كانون ثاني (يناير) سنة 1832 ولده الأمير خليل ومعه ألف مقاتل من الدروز.
احتلال القدس
أرسل ابراهيم باشا في كانون أول (ديسمبر) سنة 1831 حامية من جيشة الى القدس، وشفعها بمرسوم الى شيخ الحرم القدسي والمفتي والنائب وغيرهم من الحكام في ولاية صيدا ومنطقتي القدس ونابلس، يأمرهم بالتسامح في معاملة المسيحيين واليهود، ورفع جميع التكاليف التي كانت تؤخذ منهم جورا وظلما سواء أكان هؤلاء المسيحيون واليهود من الوطنيين أو الإفرنج الذين يزورون بيت المقدس. وبمقتضى هذا المرسوم ألغيت رسوم الحفر التي كانت تجبى من المسيحيين عند زيارة كنيسة القيامة ، وعند نهر الشريعة وكل رسم غير قانوني، ومنعت كل معاملة يقصد بها تحقير النصارى واليهود.
وبعد توزيع الحاميات على المدن التي احتلتها جنود ابراهيم باشا، بقى لديه حول أسوار عكا نحو عشرين ألف رجل وستة وثمانين مدفعا من مدافع الحصار وغيرها، ولم يكن لدى عبد الله باشا على أسوار عكا الأمامية سوى ستة وثلاثين مدفعا. وبالغ ابراهيم باشا في تشديد الحصار، فاستمر اطلاق النار بشدة تسعة أيام، وحاول رمي البلد بالصواريخ غير أن جهل المهندس الذي كان يدير حركات الرماية جعلتها ترتد على الجنود المصرية فترديها، وبعد هذا الحصار الشديد ظن ابراهيم باشا أن عبد الله باشا قد صار ميالا الى التسليم، فعرضه عليه وأباح له الخروح من عكا آمنا، فلم تأت المفاوضة بنتيجة سلمية. فاستأنف التشديد في المحاصرة واطلاق النار على الحامية، فأحدثت مدفعيته أول ثغرة في السور الشرقي بقرب البوابة، وكان ذلك في 23 كانون أول (ديسمبر) سنة 1831.
موقف الدولة العثمانية
أما الدولة العثمانية فاضطربت لغزوة سوريا، لكنها لم تكن حينئذ قادرة على دفع محمد علي عنها بالقوة، فأوفدت مصطفى ناصف أفندي الى مصر ليفاوض محمد علي ، ويدعوه الى وقف القتال وسحب جنوده من سوريا، وحتى يبين له أن الحرب ستعطل الحج الى بيت الله الحرام، ويبلغه أن عبد الله باشا سيدعى الى الكف عن اتيان أي عمل فيه ما يسئ الى مصر. ولما كان محمد علي مصرا على المضي في أعماله العدائية الى أني تم له الاستيلاء على سوريا، أبقى مندوب الآستانة في المحجر الصحي ثلاثين يوما معتذا بالاشاعات التي بلغته عن تفشي الوباء، وكان في الوقت نفسه يرسل النجدات تباعا الى سوريا، ويلح على ابراهيم باشا بتشديد الحصار على عكا. ولجأ الى المماطلة في المفاوضة والى تعداد خدماته الجلي في مصر وفي محاربة الوهابيين وثوار اليونان، مكررا المطالبة بوضع إيالتي صيدا ودمشق تحت حكمه.
وأخيرا صرح بعزمه على فتح سوريا والبقاء فيها، ولم يبق أمام الدولة العثمانية الا أن تدفع القوة بالقوة، وكانت قد شرعت بالتأهب لذلك، فطلبت من ولاة وحكام المعدن وقيسارية وقونية وسيواس ومرعش وأدن وبياس أن يجمعوا الجنود ويحشدونها في حلب، وعينت محمد باشا حاكم الرقة واليا على حلب، وجعلته سر عسكر سوريا وبلاد العرب ليقود الجيوش التي تحتشد في حلب لصد هجوم ابراهيم باشا.
وفي أثناء ذلك، عينت عثمان باشا اللبيب نائب والي الشام سابقا حاكما على طرابلس الشام التي كانت تحت حكم والي صيدا، وكانت جنود ابراهيم باشا قد احتلتها ، وعين حاكما عليها من قبله مصطفى أغا بربر.
وكانت عادة الحكومة العثمانية في تلك الأيام أن تعلن بمناسبة حلول عيد الفطر "التوجيهات" وهي التعيينات الجديدة والترقيات والتثبيت في المناصب القديمة لجميع كبار رجال الدولة. فصدرت التوجيهات في أول شوال سنة 1247 هـ = 3 آذار (مارس) سنة 1832 م، مندرجا فيها عن محمد علي وابراهيم باشا ما يلي: "أصدرنا أمرنا بتأجيل التعيين لمناصب حكومة مصر وحكومة جدة وكريت الى أن يجيب محمد علي وابراهيم باشا على الخطاب السلطاني الأخير الخاص برجوعهما عن العصيان". وحول هذا الوقت الذي أعلنت فيه الدولة العثمانية سخطها على محمد علي وابراهيم باشا، كان هذا التأخير مشددا لحصار على عكا فأصلاها نارا حامية استمرت ستة أيام بلياليها كان ابتداؤها في 4 آذار (مارس) سنة 1832، وكان يتفقد بنفسه خطوط النار، ويشجع رجال المدفعية، فتمكن من تعطيل أحد الأبراج بواسطة لغم، وأحدث ثغرة في السور، فعول على اقتحام تلك الثغرة بجنوده ودخول المدينة منها.
ففي صباح 10 آذار (مارس) بكرت جنوده في الهجوم، وسلطت المدافع قنابلها على المدينة عند مطلع الفجر، ودقت الطبول لاثارة حماسة الجنود، فاقتحموا الثغرة واجتازوا الخندق الواقع بينها وبين السور، واشتبكوا في قتال عنيف مع الحامية، وكان النصر حليفهم حتى انتشروا في المدينة، فانصبت عليهم نيران البنادق من المنازل وانفجرت الألغام تحت أقدمهم، فأوقعت الذعر والاضطراب في صفوفهم وقتلت مائتي رجل منهم، فتقهقروا من المدينة بدون انتظام، غير أنهم ما لبثوا أن استرجعوا قوتهم المعنوية. أما حامية عكا، فرغما عن دفاعهم المجيد وفوزها في رد هذا الهجوم العنيف، أخذت تفقد الثقة باقتدارها على الدفاع طويلا، وفي آخر شهر آذار (مارس) غادر المدينة أربعمائة ألباني من رجال الحامية بأسلحتهم وأمتعتهم بناء على وعد ابراهيم باشا بالعفو عنهم ثم انضم بعضهم الى جيشه.
ولما رأت الحكومة العثمانية أن ما ذكر في التوجيهات السنوية عن محمد علي وابراهيم باشا لم يبلغها الغرض المقصود، عزمت عل ارسال قوة جديدة من جيشها لمحاربتها، واستصدرت فتوى بأن محمد علي وابراهيم باشا قد خانا الدولة ومرقا من دين الملة، وعزلت محمد علي عن منصبه. وفي أواسط آذار (مارس) سنة 1832 عينت حسين باشا قائدا عاما للجيش الموجه لمحاربته، وولته حكومة مصر وكريت والحبشة وتوابعها، فقابل محمد علي ما أجرته الحكومة العثمانية باستصادر فتوى من الشريف محمد بن عون أمير مكة بتكفير السلطان محمود، كما أنه زاد اهتماما بمواصلة أعماله الحربية في سوريا بمنتهى الشدة.
ومن ذلك الحين شرع رجال الدولة العثمانية في سوريا في أعمالهم العدوانية ، فنهض عثمان باشا اللبيب الذي عين حاكما على طرابلس من حلب الى اللاذقية، يقود بضعة آلاف من الخيالة غير النظامية، يصحبها أربعة مدافع ميدان، وأخذ يستنفر الأهلين الى مقاومة محمد علي وابراهيم باشا لمروقهما من طاعة السلطان. ومن اللاذقية توجه في أواخر آذار (مارس) 1832 الى قرية المنية ومنها تقدم نحو طرابلس ونصب مدافعه أمامها، وكانت حامية طرابلس مؤلفة من ألف وخمسمائة جندي مصري وألف درزي لبناني، يقودهم الأمير خليل ابن الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان، وخمسمائة من النابلسيين، فأغارت خيالة عثمان باشا على المدينة ودخلتها، لأنها لم تكن ذات أسوار، فتلقتها الحامية بنار آكلة وألجأتها الى الفرار، فاغتر الميرالاي ادريس بك قائد الجنود المصرية بانهزام العدو وتعقبه بنحو ستمائة مقاتل، فطمع بهم عثمان باشا لقلة عددهم وكر عليهم بجميع قواته وهزمهم شر هزيمة. وحملة الغرور على مهاجمة طرابلس ثانية، فخرجت حاميتها الباسلة للقائه، ففتكت بكثيرين من رجاله وبينهم أكثر زعمائهم وأكرهته على الارتداد الى معسكره.
اتصل بابراهيم باشا خبر هذه الحركات وهو قائم على محاصرة عكا، فرأى من الواجب وقف تيار الهجوم من الشمال قبل اشتداده، فنهض من عكا الى طرابلس في 2 نيسان (أبريل) يقود فرقة الحرس وفرقة من الخيالة النظامية وفرقة من خيالة البدو وستة مدافع، فلما علم عثمان باشا باقترابه من طرابلس انهزم ليلا نحو حماة ، تاركا وراءه خيامه ومدافعه ومؤونة جيشه والجرحى من جنوده فوقعوا جميعا في أيدي عدوه.
أما جنوده فانفرط عهدهم، وذهب كل فريق منهم في طريق، فتعقبهم ابراهيم باشا الى حمص، وكان عازما على التقدم الى حماة، غير أن الذخائر لم تكن متوفرة لديه، فعاد من حمص متجها نحو بعلبك ليتناول منها الذخائر اللازمة ويستأنف مطاردة العدو، فغادر حمص الى خان القصير، ومنه انتقال الى سهل الزراعة، فتوهم العدو أن ابراهيم باشا انقلب راجعا لخوفه منه، فعاد عثمان باشا يصحبه واليا قيسارية والمعدن بجنودهم الى اقتفاء آثار ابراهيم باشا، فلما علم بتقدمهم نحوه صمد لهم في سهل الزرﱠاعة وهيأ جيشه للقتال.
موقعة الزرﱠاعة
في ذه القعدة سنة 1247 هـ = 14 نيسان (أبريل) سنة 1832 م كانت قوة الجيش المصري في موقعة الزرﱠاعة مؤلفة من آلايين من المشاة وآلاي من الخيالة النظامية وبعض خيالة البدو، وكانت مدفعيته قوية وجملتها نحو ستة آلاف مقاتل، فصفها سليمان باشا الذي تولى ترتيب هذه الموقعة صفا بديعا وستر مدافعه عن أبصار الأعداء الذين كانوا يفوقونه عدا، وانضم اليهم كثيرون من فرسان العرب والأكراد، فأحاطوا بجيش ابراهيم باشا الذي كان منظره ضئيلا في عيونهم، نظرا لقلة عدد رجاله، وتراص صفوفهم ، واختفاء مدافعه عن الأنظار.
ولم يداخل الأتراك شك في أنه أصبح في قبضة أيديهم، لكن لما بدأوا في مهاجمته، نشر ابراهيم باشا صفوفه بغتة، فانكشفت مدافعه المحكمة الوضع، وصبت عليهم قنابلها المهلكة، فأوقعت الرعب والاضطراب في صفوفهم وردتهم على أعقابهم. وحالما ظهر التضعضع في صفوف العثمانيين، أمر ابراهيم باشا جنوده بالهجوم، فجدوا في أثر عدوهم الذي لجأ الى الفرار، ولم يقف حتى بلغ نهر العاصي، ومكث في حماة ينتظر الامداد. أما الجيش المصري فنظرا لحسن ترتيبه للقتال لم يصب في هذه المعركة بخسارة تستحق الذكر، بينما كانت خسائر الجيش العثماني ثلاثمائة قتيل وغنم المصريون منهم ثلاثمائة حصان.
ان موقعة الزرﱠاعة تعتبر موقعة صغرى، غير ان انتصار ابراهيم باشا فيها، شدد عزائم جنوده ومحالفيه ونزع الشكوك من نفوس المتريثين الذين كانوا يرتقبون رجحان احدى كفتي الميزان لينحازوا اليها، فأقبل كثيرون من السوريين على اعلان ولاتهم لحكومة محمد علي، وأخذوا يمدون جيشه بما يحتاج.
أما الأخبار التي أذيعت في الآستانة وبين الأتراك والمستتركين في مصر، فكانت تخالف الحقيقة، اذ نسبت الانتصار الى العثمانيين، فظهرت بدوار الثورة في القاهرة، لكن محمد علي قضي عليها بشدته المعهودة وهي في المهد. ثم عمد الى تشديد الحصار على عكا، لأنه رأى أن فتحها أمضى سلاح من أسلحة الدعاية.
أما ابراهيم باشا فتوجه بعد موقع الزرﱠاعة إلى بعلبك وكان قد قدم اليها قباس باشا بن طوسون باشا قادما من عكا عن طريق صفد فمرجعيون فالبقاع، يقود فرقة من مشاة الجيش وفرقة من الخيالة مستصحبا ثمانية عشر مدفعا برجالها، فجعل ابراهيم باشا بعلبلك مركزا لمرابطة قوة من جيشه، مؤلفة من آلاي من الحرس وثلاثة آلايات من المشاة وآلايين اثنين من الخيالة المنظمة وبعض جماعات غير منظمة، وانما اختار بعلبك مركزا لهذه القوة لأنها تشرف على الطرق المؤدية الى دمشق وحلب وطرابلس وعكا، كما أن قربها من لبنان زاد موقعها أهمية، فالعدو الذي يزحف طرابلس أو دمشق أو عكا يعرض أحد جناحيه أو كليهما للأخطار.
وبينما كان ابراهيم باشا في بعلبك بلغه نزوع اللبنانيين الى الفتنة فتوجه الى بيت الدين في 28 نيسان (أبريل) سنة 1832 يصحبه أربعة آلاف جندي، فسكن الأحوال بالوعد والوعيد، وحبس بعض مثيري الفتنة، وأخذ رهائن من بعض الاسر الكبرى، أما الناقمون عليه من آل جنبلاط وآل نكد وغيرهم، فكانوا قد غادروا الجبل وانحازوا الى جانب الحكومة العثمانية، فضبطت أملاكهم وحرقت منازلهم.
في أثناء هذه الحوادث كانت القوة المرابطة أمام عكا قد انخفض عدد رجالها الى نحو عشرة آلاف. فاغتنم عبد الله باشا هذه الفرصة فقام بهجوم عنيف على محاصريه، فأتلف بعض استحكاماتهم الأمامية ورد جنودهم الى الوراء، واستولى على بعض مدافعهم وأدخلها الى عكا ليحاربهم بها. واتصل خبر هذه الوقعة بابراهيم باشا فلم يحدث اي تغيير في خطته، لكن لما فرغ من وقعة الزرﱠاعة وما عقبها على التدابير، غاد الى تشديد الحصار على عكا.
وكان في هذه الأثناء قد أنفذ محمد علي الى عكا مهندسا قديرا فأخذ يدير الأعمال الفنية المتعلقة بالحصار بغاية الدقة والاعتناء، ورغما عن شدة مقاومة الحامية الباسلة، تمكن المحاصرون من فتح ثغرتين في الجهة الشرقية من السور، ووسعوا احداهما باطلاق المدافع وبث الألغام، كما أنهم أمطروا المدينة وابلا من الرصاص والقنابل والصواريخ برا وبحرا، فأحدثوا في المدينة تخريبا عظيما واضطر عبد الله باشا الى الانتقال من قصره الى برج الخزنة، وكانت حامية المدينة حينئذ قد انخفضت الى نحو ألفين، ومع ذلك لم تفتر عزائمها عن الدفاع بمنتهى البسالة.
فتح عكا
وفي أواخر شهر أيار (مايو) كانت مدينة عكا قد أصبحت ركاما، نظرا لما أصابها من قذائف المدافع، وفتحت في أسوارها ثلاث ثغرات يتسنى للجنود المهاجمة الدخول منها الى المدينة، احداها عند قبو برج، والثانية تجاه النبي صالح، والثالثة عند الزاوية. فعزم ابراهيم باشا على القيام بهجوم عام، لكن قبل الشروع في ذلك دعا عبد الله باشا الى التسليم فأبى.
حينئذ عين السابع والشرين من شهر أيار (مايو) سنة 1832 للقيام بهجوم عام. وفي 26 منه دعا اليه قواد الفرق والكتائب المختلفة فشرح لهم خطة الهجوم، ثم أعطى كلا منهم التعليمات اللازمة، وسلط قذائف المدافع على المدينة وأسوارها طول ذلك الليل. وفي صباح 27 منه عند طلوع الشمس، صدر أمر القائد العام بالهجوم، فاقتحم المهاجمون ثغرتين، وثبتوا أقدامهم في داخلهما. أما القوة التي قصدت الاسيتلاء على الثورة الثالثة الواقعة عند قبو برج فلاقت مقاومة عنيفة منعتها من التقدم بل ألجأتها الى التقهقر، فأبصرها ابراهيم باشا وبادر الى سوق الجنود الاحتياطية لنجدتها، واندفع أمامهم وهو شاهر سيف، وبعد جهد جهيد اقتحموا هذه الثغرة أيضا، غير أن الحامية دافعت في ذلك اليوم دفاعا مجيدا، فأعادت على مهاجمتها الكرة بعد الكرة، وأوقعت بهم خسائر جيسمة ولم تلق سلاحها وتكف عن القتال، الا بعد ما اعتراها الكلل وخاب كل أمل بصدر تيار الأعداء.
وفي عصر ذلك اليوم تقدم الى ابراهيم باشا وفد من أعيان المدينة، يعلن تسليمها، وتلاه وفد آخر مؤلف من رؤساء المدفعية والمفتي وامام عبد الله باشا يطلبون العفو عن رجال الحامية، فعفا عن أرواحهم وأموالهم وأبقى لهم سلاحهم. أما عبد الله باشا فضمن له حياته فقط، وعند نصف الليل حضر عبد الله باشا ومعه كاخيته يحرسه أمير اللواء سليم بك لأجل التسليم، فاستقبله ابراهيم باشا بالاكرام اللائق بمقام وزير. ثم ركب ابراهيم باشا وعبد الله باشا وكاخيته وتوجهوا الى قصر البهجة وقضوا بقية ليلتهم هناك.
سفر عبد الله باشا الى مصر
وفي 29 ذي الحجة سنة 1247 هـ = 29 أيار (مايو) سنة 1832 م، سافر عبد الله باشا ومعه كاخيته وبعض الأتباع الى الاسكندرية، فوصلها في 3 محرم سنة 1248 هـ = 2 حزيران (يونيه) فأرسل محمد علي زورقه الخاص وبعض ضباطه ليحسنوا استقباله ويقلوه الى الشاطئ، ورغما عن اقامة حجر صحي، لم يكلفه الانتظار مدة الحجر. وعند نزوله الى البر أطلقت المدافع تحية له، واستقبله كبار رجال الحكومة ثم توجه توا الى قصر العزيز، وحالما دخل القاعة نهض العزيز واقفا واستقبله باسما، فدنا عبد الله باشا منه، فلثم ثوبه والتمس العفو، فمد له محمد علي يده، وأجلسه بجانبه وتلطف كثيرا في مخاطبته حتى انه قال انه نسي الماضي وانه سيعامله كأحد أولاده، وأهدى اليه علبة سعوط وسيفا ذهبيا، ثم اجتمعا اجتماعا سريا ذهب بعده عبد الله باشا الى قصر خصص له بجوار قصر محمد علي ممتطيا جواد العزيز، وسار في ركابه عدد من الضباط مضاة وواكبه حرس شرف، وبعد حين انتقال من الاسكندرية الى مصر وسكن منزلا أعد له في جزيرة الروضة وأبقيت في حوزته مجوهراته فقط، وأذن لعائلته بالالتحاق به والسكن معه.
الخسائر والغنائم: أما المدينة واهلها الأبرياء البائسون، فلم يلاقوا من الرفق وحسن المعاملة ما لاقاه عبد الله باشا والحامية الباسلة. فرغما عن الأوامر المشددة بالامتناع عن النهب، ووعد ابراهيم باشا أن المدينة لا تصاب بسوء، لم يمكن كف شر الجنود واقرار النظام الا بعد ما أمعنوا في الأذى والسلب والنهب، غير أن ابرهيم باشا رد الى الأهلين بعدئذ ما أمكن استرجاعه من المنهوبات. أما الغنائم التي وقعت في أيدي الجيش ، فمنها مقادير كبيرة من البارود والرصاص والقنابل وعدد عديد من المدافع، ووجدوا في المخازن من المؤن كالقمح والشعير والأرز والعدس وغيرها ما كانت به الكفاية للحامية مدة طويلة، ولم يكن ينقصها من الأغذية عند التسليم سوى اللحم. أما الحامية فمعظمها اما هلك في أثناء الحصار، أو انسحب من المدينة وانضم الى جانب المحاصرين، على أن خسارة الجيش الفاتح كانت أعظم من خسارة حامية المدينة، فبلغت نحو أربعة آلاف وخمسائة قتيل ما عدا الجرحى.
تطاول مدة الحصار: من رأى بعض الخبراء العسكريين ان المدة التي قضاها جيش ابراهيم باشا في محاصرة عكا طالبت أكثر مما ينبغي، وأنه لا يمكن تبرير ذلك بمقابلتها بالمحاصرات السابقة التي قام بها بونابرت في زمن أحمد باشا الجزار وولاة الشام وحلب ضد عبد الله باشا، لأن بونابرت لم تكن لديه مدافع حصار، وكانت حامية عكا حينئذ تكاد تضاهي الجيش الذي يحاصرها في عددها، وأبراج المدينة وأسوارها مجهزة بعدد كبير من المدافع، زد على كل ذلك أن الأسطول الإنكليزي كان يحميها من جهة البحر، بل هو الذي أكره نابليون على رفع الحصار عنها، أما الولاة الذين حاصروا عبد الله باشا، فكانت تنقصهم المعرفة الفنية والدرية العسكرية ومدافع الحصار، بينما نرى ابراهيم يحاصر عكا برا وبحرا وعساكره نحو عشرة أضعاف حامية عكا، وكانت مجهزة بما يلزم من مدافع الحصار.
ومن رأي بعضهم أن من الأسباب التي قضت بتطاول مدة الحصار عدم وجود مهندسين أكفاء منذ ابتداء المحاصرة، وتفشي الحمى بين الجنود المصريين، وعدم اعتيادهم التعرض للبرد والأمطار، كما أن الحامية دافعت عن المدينة مدافعة الأبطال. وقيل أن محمد علي تراخى في أمر الحصار حرصا على سلامة الجنود، لأنه كان يأمل أن المحصورين لا يلبثون طويلا حتى يطلبوا التسليم، على أن هذا العذر لا يؤيده الواقع.
وعلى كل حال ان بوقوع عكا أخيرا في قبضة ابراهيم باشا زالت من طريقه أكبر العقبات العسكرية، وبما أنها كان قد ثبت أقدامه في طرابلس وبعلبك، وكان لبنان مواليه له فلم تبق أمامه عقبه ذات شأن الا عند حدود سوريا الشمالية، على عكا مهد أمامه طرق الزحف شمالا وهو مطمئن على خط مواصلاته.
وبعد فتح عكا عمد ابراهيم باشا الى عادة تحصينها تحت مراقبة مهندس ماهر، ووزع المدافع في حيفا وغيرها من المدن الساحلية، ووضع في عكا حامية كافية، وأناب في ادارة شئونها رئيس ديوانه منيب أفندي، وفوض الى الخواجة حنا بحري القيام بالأعمال المدنية والتجارية.
فتح دمشق في 16 تموز (يوليه) سنة 1832
بعد أن رتب شئون عكا، عزم ابراهيم باشا على التقدم الى دمشق، فأرسل كتابا الى واليها علو باشا يدعوه الى تسليم المدينة، وكتب الى أحمد بك اليوسف ربيب يوسف باشا الكنج الذي كان قد فر الى مصر ولجأ الى محم علي في سنة 1819 يخبره عن عزمه على التقدم بعساكره الى دمشق، وكتب مثل ذلك الى أعيان المدينة. وفي 9 حزيران (يونيه) نهض تسعة آلاف من الجنود المنظمة ، وتسعة آلاف من الدروز والبدو المصريين والعربان السوريين، يتبعها أربعة وعشرون مدفعا.
أما أهالي دمشق ، فأظهروا عزمهم على المقاومة، ودعا أغاوات البلد أهلها الى حمل السلاح والاستعداد لمقاتلة جيش ابراهيم باشا، فلبوا الدعوة وترتبوا جماعات جماعات، وقاموا بتظاهرات عظيمة، وأخذت كل حارة تقوم بالاستعراض على حدتها، فتدخل دار الحكومة "حتى ينظر الوزير ويطمئن" واستمرت هذه التظاهرات ثلاثة ايام. هذا ما قام به الدمشقيون بعدما عرفوا بعزم ابراهيم باشا على الاستيلاء على مدينتهم، مع أنهم لم يكونوا راضين عن حكم الولاة العثمانيين وسياسة الدولة العثمانية نحوهم، ولعلهم فعلوا خوفا من الجنود العثمانية التي بلغهم قرب وصولها مع مبالغات عظيمة بكثرة عددها.
وفي 15 حزيران (يونيه) وصل ابراهيم باشا الى ضواحي دشق، فخرج علو باشا وجمهور من الدمشقيين لمقاتله، لكن راعهم ما شاهدوه من مظام جنوده وحسن استعدادها، ولم تبد منهم سوى مقاومة ضعيفة، ثم انهزموا ولم يقتل منهم الا عدد يسير. ثم خرج وفد من أعيان المدينة، وقدموا خضوعهم له. أما علو باشا فانسحب من دمشق قاصدا الى حمص يحرسه ألف وخمسائة خيال وخمسمائة رجل، فدخل ابراهيم باشا مدينة دمشق في 16 حزيران (يونيه) سنة 1832.
وفي اليوم التالي أخرج جيشه ونصب مضاربه في سهل القابون. أما اللبنانيون الذين كان يقودهم الأمير بشير حاكم جبل لبنان فبقوا في المرجه، واستعرض الجيش في القابون، فدهش المتفرجون لحسن نظامه، كما أنهم أعجبوا بحسن سلوك الجنود في أثناء اقامتهم في المدينة وبجوارها، اذ لم يحدث منهم أي اعتداء، فكانوا يحضرون الى المدينة ويعودون منها، وفي طريقهم البساتين الحافلة بالأشجار المثمرة، فلا يمسون شيئا منها، وكل ما احتاجموااليه اشتروه ودفعوا ثمنه، وهذا غيرها ما عرفه الدمشقيون في الجنود العثمانية، وما سمعوه عن الجيش العثماني النازل في حمص من كثر الاعتداء على الأموال والأعراض واتلاف المزروعات.
أقام ابراهيم باشا في دمشق ثمانية عشرة يوما وحضر صلاة الجمعة في الجامعة الأموي، وفي أثناء الخطبة حار الخطيب بين أن يخطب باسم السلطان أو باسم محمد علي، ورفع الأمر الى ابراهيم باشا فأجابه بأنه عبد السلطان، وأن الخطبة يجب أن تكون باسم السلطان والدعاء لمحمد علي.
وبعد وصوله الى دمشق جعلها قاعدة لحكمه، ونظم الادارة فيها على النمط المتبع في مصر، وأقام أحمد بك اليوسف متسلما عليها، ورتب ديوان حكم مؤلفا من عشرين عينا من أعيان دمشق سماه ديوان المشروة، وجعل فيه أعضاء تنوب عن اليهود والنصارى، وكان هذا المجلس ينظر في دعاوى الرعية والحكومة، وبطل حكم رجال الساري. مما فعله في دمشق تعيين النصارى في وظائف الحكومة، والسماح لهم بركوب الخيل، وكان ذلك محظورا عليهم سابقا. ومن التدابير التي قام بها في دمشق ضبط الأمن ضبطا تاما، واقامة المخافر العديدة لرجال الحفظ، ووضع حامية مؤلفة من ثلاثة آلاف ومائتي رجل من الجند النظامي، وولى عليها مؤقتا ابراهيم باشا الصغير.
ان استيلاء ابراهيم باشا على دمشق ذات الأهمية الدينية والسياسية بعد استيلائه على البلاد الساحلية والجبلية، جعل في قبضة يده أكثر البلدان السورية أهمية من مختلف الوجوه.
وبعد أن قام في دمشق بالتدابير التي ذكرناها وأعطى جيشه نصيبا من الراحة، عول على الزحف على حمص لملاقاة الجيش العثماني المحتشد فيها، وقبل سفره جمع خمسة وسبعين من أغاوات الشام ومعهم نحو ألف من رجالهم وأمرهم بالذهاب معه الى الحرب ومساء السبت 2 صفر سنة 1248 هـ = 1 تموز (يوليه) سنة 1832 م نهض بعسكره من دمشق وتبعه الأغاوات برجالهم في اليوم التالي . وقام من دمشق مع ابراهيم باشا الأمير بشير شهاب وولده الأمير خليل وأمراء وادي التيم الشهابيون ومشايخ جبل نابلس. فكأنه كان يستصحب أعيان البلاد التي دخلت في حوزته والمتنفيذين فيها كرهائب ليأمن شر الفتن، كما أن وجودهم معه يفيده من وجوه أخرى.
موقعة حمص في 8 تموز (يوليه) سنة 1832
لما وصل ابراهيم باشا الى النبك في طريقه الى حمص، أمر الأمير بشير ومن معه أن ينزلوا في قرية دير عطية، أما هو فتقدم الى القصير ومن القصير توجه نحو حمص، ونزل على ضفة نهر العاصي عند تل النبي مندو، ومنه تقدم الى قرية قطينة، ولم يبق بينه وبين مدينة حمص سوى ثلاثة أميال، وأصبح بينه وبين الجيش العثماني نحو ميلين ، فاشتبك القتال في 8 تموز (يوليه) سنة 1832 وكانت قوة العثمانيين نحو خمسة وعشرين ألف مقاتل بقيادة محمد باشا والي حلب منها 10471 من الجنود النظامية.
أما رجال ابراهيم باشا فكانوا نحو ثلاثين ألفا، غير أن الجيش العثماني كان سيئ النظام خاليا من القواد الأكفاء كما ظهر ذلك منذ بدء التأهب للقتال، فان القائد العثماني رتب جيشه كله في صفين اثنين جاعلا جناحه الأيمن في مكان منفصل عن سائر الجيش في جزيرة واقعة ما بين مجرى نهر العاصي وقناة ماء، حاسبا أن في مثل هذا الموقع المنعزل يصعب على جيش العدو اقتحامه، لكن جهل أن العقبات التي تعيض جيش العدو عن الوصول اليه تعيض أيضا ذلك الجناح من جيشه عن المبادرة الى انجاد سائر الجيش العثماني عند الحاجة. وأضاف الى خطته هذا خطأ آخر، اذ وزع مدافعه بنسبة مدفع واحد لكل كتيبة، فأفقدها هذا التوزيع التأثير المنتظر من نيران المدافع المجتمعة.
أما ابراهيم باشا فرتب جيشه في ثلاثة صفوف، جعل جناحها الأيسر متكئا على نهر العاصي، والجناح الأيمن الى جهة البادية، ووضع الصفوف المشاة في الوسط، والخيالة على الجناحين. أما المدافع فقسمها الى قسمين فقط، فوضع ثلاثة بطاريت في الصف الأول، واحدة منها على كل جانب وواحدة في الوسط، ووضع الأربع البطاريات الباقية مع مدفعي (هويتزر) وراء صف المشاة الثاني.
وبعد أن أتم ترتيب جنوده وأدرك نقط الضعف في عدوه، أطلق خيالة العدو لمناوشة العثمانيين، ثم سلط النيران الحامية على ميسرتيهم وقلبهم فضعضعهما، ولم تستطع الميمنة المبادرة الى نجدتهما، لما أوضحناه قبلا من صعوبة الموقع الذي خصها به قائدها العام، وعبثا حاول العثمانيون اعادة تنظيم صفوفهم، لأن المصريين هاجموهم هجوما عنيفا وسلطوا نيرانهم الآكلة على جموع اعدائهم المختلة النظام، فلم يتركوا لهم فرصة لاستجماع قوتهم أو الثبات في مواقفهم فلجأوا الى الفرار.
وفي اليوم التالي دخل ابراهيم باشا مدينة حمص، فاسر فيها من العثمانيين ألفا وخمسمائة رجل، واستولى على مضارب العدو وعلى وعلى مؤونته وذهائره وعلى واحد وعشرين مدفعا وأوراق محمد باشا القائد العام التي فاته أخذها لسرعة انهزامه. وكانت خسارة الجيش العثماني في موقعة حمص نحو ألفي قتيل وألفين وخمسمائة أسير، أما خسارة جيش ابراهيم باشا فبلغت مائة واثنين من القتلى ومائة واثنين وستين جريحا. وفيما يلي تفاصيل عن الموقعة كما وصفها ابراهيم باشا:
"قدوة وافتخار الأماجد الكرام ذوي المجد والاحترام متسلم طرابلس الشام حالا بربر زاده السيد مصطفى أغا زيد مجده. غب التحية والتسليم بمزيد الاعزاز والتكريم المبدى اليكم أنه أمس تاريخه نهار السبت المبارك الواقع في 9 شهر صفر سنة 48 الساعة في السبعة من النهار قد كان ابتداء وصول عساكرنا المنصورة التي بمعية ركابنا الى بحرة حمص، وفي تلك الساعة نفسها نظروا قدومنا العساكر الخيلي التركية المحتشدين بمعونة الباشاوات بمدينة حمص، وحالا هجمت عليهم العساكر المنصورة خيالة الجهادية والعرب وضربوهم وشتتوا شملهم وأذاقوهم كؤوس الوبال والنكال، فقد ولوا هاربين والى النجاة طالبين فاتبعوا آثارهم عساكرنا (بالظفرة) فظهر أمامهم أربعة آلايات عساكر نظام استيانيه ليه قرابة وثلاثة آلايات خيالة، فعند ذلك تقدمت لمحاربتهم بقية العساكر المنصورة، وترتبت الصفوف على الرسم البديع وهجموا عليهم هجوم الأسود الكواسر، وأذاقوهم كؤوس المنايا بطعن الحراب وفتك السيوف البواتر ولم يحتملوا سوى ساعة واحدة الا وولوا الأدبار صارخين الفرار الفرار من بعد أن وقع منهم ما بين قتيل ومجروح ينوف عن ألف وخمسمائة نفر، وأخذ منهم أسرى بمسك اليد ينوف عن ألفين وخمسمائة من ضمنهم أورطتين قد كانوا أبقوهم في قلعة حمس للمحاصرة عندما كانوا عزمهم على الهرب مع جانب عساكر أرناؤود وبمجرد حلول ركابنا في أردي الباشاوات الفارين في صحرا حمص، واستيلائنا على أطوابهم وخيامهم وجبخاناتهم وسائر ذخائرهم، وصاروا جميعهم غنيمة لنا فالأورطتين والعساكر الأرناؤود الذين كانوا في القلعة عندما نظروا هذا الهول المريع والظفر البديع استغاثوا وطلبوا الأمان، فحيث ان العفو زكاة الظفر، فقد أغثناهم ومرحمة منا اعطيناهم الأمان وخرجوا من القلعة آمنين مطمئنين فنحمده تعالى على هذه النعمة العظيمة والموهبة الكبيرة الجسيمة فالآن لأجل تبشيركم، أصدرنا لكم مرسومنا هذا فيلزم منكم بوصوله تشهروا ذلك الى كافة الرعايا بعمل شنك واعلان البشائر الى سائر المقاطعات والبلاد لكي يكونوا جميعا دائما متبادرين على تأدية الدعا الخيري بدوان دولة وتأييد صورة سعادة أفندينا والدنا المعظم وقهر أعداه المخذولين على ممر الأيام والسنين اعلموه في 10 صفر سنة 1248 . الحاج ابراهيم.
سر عسكر مصر"
وكتب الى والده وهو ثمل بخمرة النصر يبشره بفوز جنوده في هذه المعركة يقول: "اني لا أتردد في القول انه لا يخامرني أقل اضطراب فيما لو كان لدي جيش مؤلف من مايتي ألف أو ثلاثماية ألف من أمثال هؤلاء الجنود".
أما الجيش العثماني فاستمر بعد موقعة حمص منهزما نحو حلب ومر في حماة، لكن لم يقف فيها وترك في الطريق أحد عشر مدفعا وكثيرا من الأسلحة والعتاد، فاستولى عليها ابراهيم باشا، وتتبع عرب عنزة فلول الجيش المنهزم حبا بالسلب والانتقام ، فكبدوه خسائر جسيمة. أما الأسرى فأرسلوا الى عكا، وطلب ابراهيم باشا من نائبه أن يمده بثلاثمائة من رجال المدفعية ليتولوا ادارة المدافع التي غنمها من العثمانيين.
وقبل أن يستأنف الحزف على حلب، نظم الادارة في حمص وحماة، وعين أحد أبناء حمدان الدمشقيين متسلما على حمص، وأقام رشيد آغا الشوملي الدمشقي أيضا متسلما على حماة.
ان موقعة حمص كانت الموقعة الأولى التي تنازل فيها جيشان نظاميان في هذه الحرب، فظهر تفوق الجيش المصري على الجيش العثمني في النظام وحسن القيادة ظهورا رائعا، وكانت لانتصار ابراهيم باشا تأثير أدبي وسياسي عظيم. وقد كانت الدولة العثمانية الى ذلك العهد تتوهم أن القوة ترتكز على المظاهر البراقة وضخامة الألقاب، فكان في جيشها الذي حارب ابراهيم باشا في حمص ثمانية باشوات غير محمد باشا القائد العام وهم: عثمان باشا والي المعدن وعثمان باشا والي قيسارية وعلو باشا والي الشام السابق ومحمد باشا الكريتلي ونجيب باشا ومحمد باشا وديلاوار باشا. غير أن كثرة عددهم وضخامة ألقابهم لم تجد نفعا في موقعة حمص، وذهب انخذالهم فيها وسرعة انهزامهم منها بما في نفوس الأهلي من تحيب لسلطة الدولة العثمانية، ولهاذ رأينا أن قبائل العربان اقتفوا آثار جنودها المنهزمين، وأمعنوا فيها قتلا وسلبا، ثم أبت مدينة حلب قبول حسين باشا سر عسكر جنودها الجديد، فاضطر الى الانسحاب من أمامها والانقلاب الى بيلان.
احتلال حلب في 15 تموز (يوليه) سنة 1832
في أوائل سنة 1832 قر رأي الباب العالي على الحاق حملة جديدة بحملة محمد باشا اذ حقق اصرار محمد علي باشا على فتح سوريا، وأدرك أن حملة ابراهيم باشا أقوى من الحملة التي يقودها محمد باشا والي حلب.
وفي أواسط آذار (مارس) سنة 1832 عين حسين باشا قائدا للجيوش العثمانية في تركيا آسيا مع لقب سردار أكرم ومشير الأناضول، لكنه لم يغادر الآستانة الا في 11 ذ القعدة سنة 1247 هـ = 12 نيسان (أبريل) سنة 1832 م، وكان حسين باشا مشهورا بالاقدام والقوة الجسدية، وهو الذي ساعد السلطان محمود على البطش بالإنكشارية سنة 1826.
وقد كان هو ورشيد باشا أشهر القواد العثمانيين حينئذ، وبما أن رشيد باشا كان مشتغلا في اخماد الثورات وتسكين الاضطرابات في تركيا وأوروبا انتدب حسين باشا لمقاومة ابراهيم باشا في سوريا. وبعد ما أخفقت المفاوضات مع محمد علي، وانقطع كل رجاء من تسوية الخلاف معه بالطرق السلمية صدرت فتوى بمروقه ومروق ولده ابراهيم باشا من الدين، وعزلا من منصبهما وولي حسين باشا على مصر وكريت والحبشة وتوابعها فوق منصبه العسكري والألقاب التي كان قد منحها قبلا. غير ان ابطاء الدولة في استعداداتها الحربية، وتثاقل حسين باشا في تقدمه نحو الهدف الموجهة اليه حملته، دلا على عزيمة ضعيفة وارتباك شديد.
ولم يكن ذلك بالأمر العجيب، نظرا لكثرة المشاكل الداخلية ونضوب الموارد المادية وصعوبة المواصلات وفقدان النظام وعدم تبادل الثقة بين الحاكمين والمحكومين. فلهذه الأسباب حل شهر تموز (يوليه) سنة 1832 والحملتان العثمانيتان لم تتحدا. فتمكن ابراهيم باشا من قهر محمد باشا بقرب حمص، وشتت شمل حملته ، فمال جمهور من السوريين الى جانبه، وحدث تبدل عظيم في موقفه وموقف العثمانيين بازاء سوريا، فبعد أن كان ابراهيم باشا وجيشه يعدون غرباء في سوريا، أصبح قواد جيوش السلطان وجنودهم الغرباء بل الأعداء. ولا يخفي ما لذلك من التأثير المادي والمعنوي في الجيشين المتحاربين.
وصل حسين باشا الى أنطاكية، بينما كان جيشا ابراهيم باشا ومحمد باشا على وشك الاشتباك في موقعة حمص. ثم بارحها قاصدا الى جسر الشغر ليتقدم منه الى حمص، ولما بلغ الشغر التقى بالمنهزمين وعرف منهم نتيجة الموقعة، فارتد نحوحلب، وقد انضمت اليه فلول حملة محمد باشا، فلما وصل امام المدينة طلب من زعمائها ان يمدوه بالمؤن والرجال، فرفضوا طلبه، ولم يمكنوا سوى العساكر المرضى والجرحى من دخول المدينة وأغلقوا أبوابها في وجه من بقي وصارحوا حسين باشا أنهم أتباع من غلب. وبما أن ابراهيم باشا كان قد اقترب من حلب، أسرع حسين باشا ورجاله في الانسحاب الى بيلان. أما خيامه وما كان لديه من المؤن والذخائر مع ستة عشر مدفعا فتركها غنيمة للأعداء.
أما ابراهيم باشا فبعد أن رتب أمور حمص وحماة وأخذ جيشه نصيبا من الراحة، استأنف الزحف على حلب، وفي طريقه اقتنص من بعض العربان لقطعهم الطريق والاعتداء على القوافل. وبلغ حلب في 15 تموز (يوليه) ، فخرج القاضي والمفتي وبعض زعماء البلد للقائه وتقديم خضوعهم له. وكان حزب الانكشارية في حلب لا يزال قويا، فعول ابراهيم باشا على الانتفاع به وتقريب رجاله، فعين احدهم عبد الله آغا انكشار آغاسي متسلما على حلب ووضع حامية في قلعتها، ومكث في حلب بضعة أيام لاراحة جيشه وتجهيز المؤن والمهمات الحربية وتفقد المدافع وغيرها من معدات القتال، وفي أثناء مكثه هذا بعث بفرقة كشافة الى جهة الفرات. وبعد ما أتم أهبته بارح لب بجيشه ووجه بعض جنوده غير النظامية لتأمين الطريق الى أنطاكية، وسار هو بعساكره للقاء الجيش العثماني في بيلان.
موقعة بيلان في 29 تموز (يوليه) سنة 1832
ان مضيق بيلان واقع على طريق القوافل بين حلب والاسكندرية من مركز طبيعي منيع له شهرة حربية عظيمة في التاريخ. فهو أحد مفاتيح سوريا الشمالية وممر الغزاة من قديم الأزمان ففيه مر الاسكندر المكدوني في طريقه الى الشرق، واقتفت أثره جيوش الصليبيين التي غزت سوريا قادمة عن طريق القسطنيطينية. فحسين باشا أحسن الاحسان كله باختياره هذا الموقع للاعتصام به والتصدي لمنع العدو من اجتيازه، غير أنه أفقد منعته وأضاع قيمته الحربية باهماله احتلال بعض المرتفعات.
وكان عدد جنود حسين باشا ستين ألفا منها 45 ألفا من الجنود النظامية وكانت جيدة السلاح ولديها مائة وستون مدفعا، غير أنها كانت مفتقرة الى المؤن وحالتها المعنوية منحطة، لأن بينها عددا غير يسير من الجنود الذين ذاقوا مرارة الانكسار بقرب طرابلس وفي موقعتي الزراعة وحمص، وعدا ذلك كانت الادارة العسكرية في أسوأ حال، فلا مناورات ولا تفتيش على أسلحة الجيش ومعداته الحربية، ولا عناية بأي أمر من الأمور التي تجع الجيش دائما على قدم الاستعداد للقتال.
أما القائد العام حسين باشا فكان من الشهود لهم بالبسالة غير أنه كان من الطراز القديم لا خبرة له بالفنون الحربية الحديثة، وكان السر عسكر خسروا باشا يزيد أعماله عرقلة بتدخله تدخلا غير مشروع، وبتشديد عزيمة صنيعته محمد باشا والي حلب على مقاومته، فسادت الفوضى واختل نظام ادارة الجيش العليا.
واذا رأيت الرأس وهو مهشم أيقنت منه تهشم الأعضاء
أما جيش ابراهيم باشا فمع أنه كان أقل عددا وعدادا من جيش عدوه، فانه كان يمتاز عليه بحسن الادارة العسكرية ودقة النظام والخبرة التامة بالفنون الحربية، وبالقوة المعنوية التي اكتسبها في الانتصارات المتتابعة، فبهذا الجيش الشديد التحمس المتقن التدريب أقبل ابراهيم باشا على بيلان في 29تموز (يوليه) الساعة الثالثة بعد الظهر، فبادر الى تفحص مواقع العدو، فاكتشف أن العثمانيين قد أغفلوا احتلال المرتفعات القريبة منهم المشرفة على مواقعهم، وحيث وجد أن جيشه يستطيع تسلق تلك المرتفعات، حتى لا يترك للقائد العثماني فرصة لادراك أخطائه أو لاستقدام النجدات من الاسكندرية وبياس.
أما جبهة الجيش العثماني فكانت منيعة لا تنال، لأنها صعبة المرتقى متينة الاستحكامات مشحونة بالمقاتلة ولديها مدفعية قوية مسلطة على الوادي الذي تحتها ، لأن العثمانيين كانوا يحسبون ان ابراهيم باشا سيهاجمهم من تلك الجهة. أما هو فتظاهر أنه عازم على ذلك، فقام قسم من جيشه بمناورة قبالة الجبهة العثمانية أوهمت العثمانيين أنها مقدمة للهجوم المنتظر، فهتللوا لذلك نظرا لثقتهم بمناعة مواقعهم واقتدارهم على اهلاك جيش العدو بأسره دون أن يستطيع الوصول اليهم.
وبينما هم يعللون نفوسهم بالمحال، كان معظم الجيش المصري يقوم مسرعا بحركة التفاف وتصعيد حتى بلغ المرتفعاتت الواقعة فوق خنادق العثمانيين واستحكاماتهم، كما أنه احتل الطريق المؤدي الى الأناضول ليحول دون انسحاب او انهزام العثمانيين من تلك الجهة. وحالما اتخذت الجنود المصرية مراكزها سلطت نيرانها الحامية على أعدائها الذين أصبحوا تحت رحمتها، ولم يمض أكثر من ساعتين حتى تقلقلت الجنود العثمانية من مراكزها، وأركنت الى الفرار متجهة نحو الأناضول غير أن المصريين سدوا عليها باب الخلاص من تلك الجهة وكبدوهم خسائر جسيمة ، ولما لم يجدوا طريقا صالحا لمرور قوات كبيرة، تفرقوا شراذم واتجهوا نحو الاسكندرونة آملين أن يجدوا الأسطول العثماني هناك، فيلجأوا اليه غير أن أملهم لم يتحقق. وقد بلغت الخسائر العثمانيين في هذه الواقعة خمسة وعشرين مدفعا ونحو ألفي أسير، وعددا كبيرا من القتلى والجرحى. أما جيش ابراهيم باشا فكانت خسارته زهيدة جدا.
وفي اليوم التالي تقدمت الجنود المصرية الى الاسكندرونة، فملكتها بدون مقاومة واستولت فيها على أربعة عشر مدفعا وبعض الأسرى وعلى مقادير كبيرة من المؤن. ووصل اليها بعد انكسار حسين باشا سبعة عشرة مركبا عثمانيا حاملين المؤن والذخيرة للجيش العثماني، فاستولى المصريون عليها، ثم تقدمت فرسان الجيش المصري الى بياس وتغلبت على القوة العثمانية النازلة فيها، وأسرت منها ألفا وتسعمائة رجل.
وعلى أثر موقعة بيلان أرسل ابراهيم باشا الى متسلم الشام الكتاب التالي:
"افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام الحاج أحمد بك. غب السلام التام بمزيد العز والاكرام نبدي اليكم انه نهار الأحد المبارك الواقع في 2 ربيع أول سنة 1248 هـ قد شرفت حلول ركابنا بالعساكر المنصورة الى مرحلة خان قراموط لأجل ضرب عساكر المحتشدين في بوغاز بيلان. وفي الساعة الستة باليوم المذكور قد تحرك ركابنا من مرحلة الخان المذكور بالعساكر المنصورة وآلة الحرب المهولة حيث ان البوغاز المرقوم المتحصنين فيه بالقرب من المنزلة التي تحول ركابنا بها، وفي الساعة التاسعة من النهار قد كانت المصادفة في عسكار الدشمان وابتدأ ضرب الأطواب عليهم، وبخصوص تحصينهم بعمل الطوابي وعسر الطرقات، وفي هذا جميعه ما أفادهم شئ سوى أنه مسافة ساعتين زمان الذي تبقى منهم بعد الذي قتلوا وانمسكوا باليد ما بين مجروح وقتيل قد فروا هاربين والنجاة طالبين مهزولين الى ناحية أدنة عند طريق اسكندرونة وتركوا أطوابهم وموجوداتهم، فعند ذلك حالا صدر أمرنا بتوجيه خيالة العساكر المنصورة الجهادية والعرب لأجل اتباع أثرهم ومسكهم جميعا بحيث انه لا ينقذ منهم أحد، وبحوله تعالى لابد من حصول المراد وتدمير الجميع، فبناء على ذلك أصدرنا لكم مرسومنا هذا لكي بوصوله تعلنوا البشائر الى جميع المقاطعات، لكي يكونوا جميعا حائزين على السرور والفرح على هذه النصرة العظيمة والمنة الجسيمة، لكيونوا دائما مداومين بالدعوات الخيرية بدوام بقاء هذه الدولة السعيدة بوجود دولة أفندينا ولي النعم والدنا عزيز مصر المعظم، فبناء على ذلك أصدرنا لكم مرسومنا هذا اعلموه واعتمدوه غاية الاعتماد".
أما ذلك القائد المنكود الحظ الذي بالأمس مناط آمال أمته وموضع ثقة مليكه، فأغدق عليه انعاماته وجعله قائدا عاما لجيشه في آسيا ولقبه مشيرا أكروم وسماه حاكما على مصر وكريت والحبشة، ذلك القائد الذي كان حتى ساعة نشوب المعركة واثقا بالنصر المبين وبانزال القضاء المبرم بالجنود المصريين، لم تمض ساعاتان منذ نشوب نار القتال حتى أمسى شديدا طريدا بين المضايق والآكام فلم يقفوا له بعد الوقعة على أثر ولا سمع عن مصيره الحقيقي أي خبر.
لكن شاعت عنه شائعات، ولم يمكن على ما نعلم اثبات صحة واحدة منها. فاحدى هذه الشائعات هي أنه فر مع حاشيته ومعه أموال وقسم من أموال الجيش، فاستأجر مركبا يونانيا لهم جميعا ولما درى ربان المركب بما لدى ركابه من الأموال طمع فيها فأنزل الباشا وأتباعه في جزيرة صغيرة وأخذ المال لنفسه. فهذه الشائعة عليها مسحة القصص الموضوعة كقصة السندباد البحري، أما الشائعة الثانية فهي أنه لجأ الى احدى البلدان الصغيرة في جهات برصة وقضى بقية حياته مجهولا، وهذا غير معقول عن رجل ذائع الشهرة في المملكة معروف لدى الألوف من الأتراك لو شاء كتمان أمره لما اختار الاقامة في بلاد قريبة من دار السلطنة كبرصة وما جاورها. وقال آخرون أنه فنى الى الطونه. فاذا صح أنه بقى حيا بعد معركة بيلان وفر ومعه الأموال الطائلة فغير مستبعد أن يكون قد طمع رجاله بأمواله، ففتكوا به في أثناء انهزامه ليلا في تلك البلاد الموحشة وأخفوا أثره وكتموا عن الغير خبره.
موقعة قونية في 21 كانون أول (ديسمبر) سنة 1832
ان الانتصار في موقعة بيلان مكن ابراهيم باشا من الاستيلاء على الاسكندرونة فبياس وسلمت له أنطاكية واللاذقية والسويدية ، وتقدم جيشه الى منطقة أدنة فاحتل طرسوس، وفي 27 تموز (يوليه) سنة 1832 دخل مدينة أدنة. وبالاستيلاء على أدنة وما جاورها من البلاد الغنية بالأخشاب التي كان محمد علي شديد الحاجة اليها لأعماله الصناعية، وبعد وصول الجيش المصري الى جبال طوروس الحد الطبيعي ما بين سوريا والأناضول، بلغ ابراهيم باشا الغاية التي كان يرمي اليها والده فوقف عن التقدم منتظرا الاوامر من مصر، لأن محمد علي كان يظهر للدولة العثمانية بعد كل انتصار رغبته في المسالمة.
والتريث في هذه المرة وعدم التوغل في الأناضول فورا قبل التثبت من الخطة التي تتخذها الحكومة العثمانية كانا مما يقتضيه حسن السياسة والحكمة، ولم يكن في التريث خطر على مصلحة محمد علي، لأن الجيش العثماني كان قد أصبح عاجزا عن اتخاذ خطة هجومية عاجلة بعد أن حل ما محل فيه من القتل والأسر والتشريد وفقدان قائده العام، كما أن الجيش المصري كان في حاجة الى الراحة التي لم يذق لها طعما منذ حمص. بينما اتساع البلاد التي افتتحها ووجوب المحافظة عليها، كانت تقضي بتوزيع الحاميات في جهات مختلفة، والحصول على امدادات جديدة وعلى كميات وافرة من الميرة والذخيرة والمهمات الحربية.
فبعد ما وصل ابراهيم باشا الى أدنة جمع معظم جيشه فيها، ووجه فرقة مؤلفة من آلايين من الجنود المشاة وقوة من الخيالة غير المنظمة، فاستولوا على مدينة أورفا ليراقبوا الطريق الممتد من أرزروم وسيواس فديار بكر، واحتلوا مدينةمرعش ليقفوا على حركات العدو في تلك الجهة من جبال طوروس. وكانت معظم مواصلاته مع القطر المصري بعد احتلال أدنة بواسطة السفن.
وظهر من حركات العثمانيين في هذه الأثناء أنهم لا يزالون مصرين على العدوان فحصنوا "تشفت خان" وتأهبوا لتحصين "أولو قشلاق" وكانت كل الظواهر تدل على السعي الى حشد جيش جديد. وعليه لما استوفى جيش ابراهيم باشا نصيبه من الراحة، وخفت عنه وطأة المرض الذي كان منتشرا فيه، واستكمل المعدات اللازمة لاستئناف الزحف الى الأمام، وجهت بعض الطلائع في 18 جماد الأول سنة 1248 هـ = 14 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1832 م لاستكشاف مضايق جبل طوروس التي كان يحتلها الأتراك، وكانت هذه القوة مؤلفة من فرتقين احداهما نظامية تقدمت الى نمرود، والثانية غير نظامية تقدمت الى تشفت خان لتقوما بحركة التفاف حول موقع الأعداء، فاضطر هؤلاء عندما شعروا بحركات الجيش المصري الى الانسحاب من مواقعهم الى أركلي، ثم أخلوا أركلي أيضا فاحتلتها طليعة الجيش المصري، ومكث فيها من عشرين تشرين أول إلى 12 تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1832.
موقعة قونية: ثم ان هذه القوة أخذت من المؤمن والعلوفة ما يكفيها ستة أيام وسارت الى قونية، وكانت قد تقدمت الى تلك المدينة ايضا فرقة غير نظامية عن طريق كرمان، وبعد ذلك تبعتهما بقية الجيش امرتبة مشاته في خمسة صفوف متوازية. أما المدافع فوضعت في الوسط، بينما الخيالة سارت على جانبي الجيش ، وبارحت هذه القوة كورخان في 17 تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1832. أتصل بابراهيم باشا ان الاتراك أخلوا قونية، فوجه قوة الخيالة ومعها اثنا عشر مدفعا وأمرها أن تجد السير وتستولي عليها، فصدعت بالأمر واستولت على قونية بدون مقاومة، واستحوذت على كميات وافرة من الميرة والذخائر وعدد من المدافع.
وفي 18 تشرين الثاني (نوفمبر) أنفذت قوة من الفرسان مؤلفة من أربعة آلايات ومعهم البدو و12 مدفعا ليتعقبوا الأتراك في طريق "أك شهر" فلما أدركوهم جرت بينهم مناوشة، أخذ المصريون في أثنائها بعض الأسرى وعادوا الى قونية. واتخذ ابراهيم باشا الحيطة لوقاية جيشه من هجوم عثمان باشا الذي كان يقود الجنود العثمانية في سيواس، فأنفذ في 9 كانون أول (ديسمبر) سنة 1832 من أركلي الى قيسارية لواء من الخيالة وبعض كتائب من المشاة وبطارية من المدافع بقيادة محمد بك ، لصد قوة عثمان باشا عند اللزوم، ورأى بعين بصيرته امكان حصول الموقعة الكبرى في قونية ، فأخذ في درس الخطة التي سيتبعها، وتفحص الجهات المحيطة بها بكل دقة وعمد الى تمرين جيشه على الحركات في الأماكن التي فرض انها ستكون ساحة النزال، حتى أصبح الجيش بأسره عارفا تلك الأماكن، وألف الحركات التي سيقوم بها متى اصطلت نار القتال.
وفي 18 كانون أول (ديسمبر) ظهرت طلائع الجيش العثماني على مسيرة ساعة ونصف الى غربي قونية، وكان يقودها رءوف باشا، فجرت بينها وبين قوة من الجيش المصري يقودها ابراهيم باشا مناوشات تغلب فيها ابراهيم باشا واستولى على ثمانية أعلام وستة مدافع ووقع في يده ألفا أسير. وتجدد القتال في اليوم التالي عند خان واقع على طريق "لادك" فانهزمت الخيالة العثمانية التي بقيت محاصرة في الخان البالغ عددها سبعمائة وخمسين مقاتلا ومعها كريدلي أوغلو محمد باشا بلا شرط ولاقيد. وفي مساء اليوم نفسه حضر الى المعسكر المصري ما بين خمسمائة وستمائة من الأرناؤوط عارضين تطوعهم للخدمة في الجيش المصري.
وفي عشرين كانون أول تحقق ابراهيم باشا أن رشيد باشا الصدر الأعظم قائد الجيش العثماني العام أخذ يتقدم نحو قونية وصار على مقربة منها، فتهيأ الجيش المصري لخوض معركة عامة. وكانت قوته لا تزيد على ثلاثين ألف مقاتل مؤلفة من خمسة آلايات من المشاة يشتمل كل واحد منها على أربع كتائب مع ستة آلايات خيالة، وست بطاريات جملة مدافعها ستة وثلاثون مدفعا يتبع ذلك بعض البدو وغيرهم من الجنود غير المنظمة.
وربما خيل للقارئ أن ابراهيم باشا كان مخاطرا بنفسه مغررا بجنود لتوغله بجيش صغير في بلاد الأناضول معقل الأتراك الأشداء على أن الخطر والتغرير كانا بعيدين عنه، لأن أهل الأناضول كانوا شديدي الاستياء من حكامهم، لماكانوا يعانون من عسفهم واستبدادهم وسوء ادارتهم وفساد أخلاقهم، كما أنهم كانوا ناقمين على السلطان محمود لتوهمهم أن مشاريعه الاصلاحية المبنية على الأنظمة الغربية مخالفة للنصوص الدينية، وكان كثيرون منهم يعتقدون أن محمد علي وابراهيم باشا انما يذودون عن حوزة الدين، ويبغون انقاذهم من مخالب الظلم، وان يبسطوا فوقهم رواق العدل، وينشروا رايات الأمن. ولهذه الأسباب كانت ترد على ابراهيم باشا العرائض من أهل الولايات المختلفة يدعونه فيها الى القدوم اليهم وبسط سلطته عليهم.
هكذا كانت حالة الأناضوليين قبل مصادمة الجيشين في قونية. أما الجيش العثماني، فكان مؤلفا من نحو ستين ألف مقاتل، فيها فرق قوية من الخيالة وعدد كبير من المدافع، غير أن جنوده كان يعوزها التدريب والحنكة، كما أن قائده رشيد باشا الذي كان محمود الصفات معروفا بالبسالة والاقدام، لم يكن واسع الاختبار بالفنون العسكرية الحديثة، ولا به الكفاءة لمنازل قائد قدير كابراهيم باشا.
وفي 21 كانون أول (ديسمبر) سنة 1832 رتبت الجنود المصرية في مراكزها واستعدت للقتال، وكان يسترها حجاب كثيف من الضباب، وكانت الجنود العثمانية تتقدم نحوها في الوقت عينه مرتبة ترتيبا حسنا، غير أن رشيد باشا أخطأ في توزيع مدافعه، كما أخطأ محمد باشا قبله في موقعة حمص، اذ انه بدلا من جمعها صفوفا لتكون نيرانها المجتمعة شديدة التاثير، وزعها بين كتائب جيشه فاختص كل كتيبة بمدفعين.
ولما صار الجيش العثماني على بعد نحو خمسمائة متر من الجيش المصري، بدأ في اطلاق النيران وهو يكاد لا يرى العدو الذي بقى ملازما السكون والسكوت فجرأه ذلك على التقدم، فاندفع المصريون اليها بينما كانت مدفعيتهم تصب قنابلها على جموع العدو صبا شديدا، وهاجمت خيالتهم الخيالة العثمانية بمنتهى الشدة فردتها على أعقابها ، ثم انها وجهت هجومها على مشاة العثمانيين، وساعدتها مشاة فرقة الحرس، فأكرهت المشاة العثمانيين على التسليم. أما ميمنة الجيش العثماني فكانت قد احاطت بميسرة الجيش المصري، ففتكت المدفعية المصرية بميسرة وقلب فرق الخيالة العثمانية الهاجمة فتكا ذريعا قبل أن تشتبك ميمنتها في قتال عنيف، وتمكنت ميسرة المصريين التي أنجدتها المدفعية الاحتياطية من الثبات في مواقفها رغما عن هجمات العثمانيين المتوالية. وكان رشيد باشا قد شاهد التضعضع الذي طرأ على صفوف خيالته، فأسرع نحوها ليلم شعثها، غير أن تكاثف الضباب جعله يضل الطريق وأوقعه في أيدي البدو التابعين للجيش المصري، فأحاطوا به وقادوه مسرعين الى ابراهيم باشا. فلما ذاع بين العثمانيين خبر أسر قائدهم وانكسار ميسرة جيشه ، توقف الباقون عن مواصلة القتال، وأسرعوا في الانسحاب.
ان انتصار ابراهيم باشا في موقعة قونية أعظم انتصار ناله منذ ابتداء زحفه على سوريا وكانت خسائر الجيش العثماني في هذه الموقعة ثلاثة آلاف قتيل وعشرة آلاف أسير واثنين وتسعين مدفعا. أما جيش ابراهيم باشا فبلغت خسائره مائتين واثنين وستين قتيلا وخمسمائة وثلاثين جريحا. وقد كان لهذا الانتصار دوي عظيم في جميع أنحاء السلطنة العثمانية، وخصوصا في بلاد الأناضول، حيث قدم من أنحائها المختلفة الوفود لتقديم خضوعهم لابراهيم باشا، ولو شاء حينئذ لاستولى على ما بقي من البلاد بدون قتال، ولو واصل الزحف الى الآستانة لما لقي في طريقه مقاومة، وان كان يصعب التكهن عما يعقب وصوله اليها من الحوادث الخطيرة، نظرا لما في الاستيلاء على الآستانة من تصادم المصالح وتضارب السياسات.
من قونية الى كوتاهية
مكث ابراهيم باشا في قونية الى 20 كانون ثان (يناير) سنة 1833، ثم نهض بجيشه نحو الآستانة فاحتل كوتاهية بدون أن يلقى مقاومة. ولابد من التساؤل عن سبب تأخره نحو شهر قبل الزحف على عاصمة السلطنة، فلو كان غرضه الحقيقي الاستيلاء على الآستانة لكان من الواجب ان يجد في أثر العدو المنهزم حتى لا يترك له فرصة ليلم شعثه ويستفيق من روعة الانكسار.
نعم ان من المعقول ان يتريث جيش منتصر في موقعة كبرى عن مواصلة الزحف في بلاد عدوه حتى يعيد تنظيم صفوفه، ويستكمل ما يلزمه من الميرة والذخير وغيرها، لكن موقعة قونية على أهميتها لم تستغرق وقتا طويلا ، لأن وقوع رشيد باشا فجأة في الأسر وتخاذل رجال جيشه ونكوصهم عن القتال حالما بلغهم ذلك، كفى المصريين شر عراك عنيف، وحال دون تكبدهم خسائر جسيمة ومتاعب عظيمة تستدعي طوال الاستراحة واعادة تنظيم الصفوف. وكان معلوما أن الدولة العثمانية ليس لديها مدد جديد، كما أن قلوب أهل البلاد كانت متغيرة على السلطان محمود وحكومته، وعرتهم الدهشة من انتصارات ابراهيم باشا الباهرة وأعجبوا غاية الاعجاب بما أوتيه من الحزم والاقتدار. وكان لا يزال شائعا بينهم أنه انماكان يدافع عن حوزة الاسلام للمسلمين من سلطان مرق من ربقة الدين وفتنته زخارف مدينة الغربيين.
فمتى استعرضنا هذه الأمور اتضح لنا أن تريث ابراهيم باشا في قونية، لم يكن ناشئا عن خوفه من قيام أهل البلاد عليه أو من اصطدام جيشه في أثناء زحفه الى الآستانة بجيش عثماني أقوى منه، بل كان هنالك أسباب سياسية منشأها تضارب سياسة محمد علي والسياسة الأوروبية نخص منها سياسة روسيه وإنكلترا، فالأولى وهي الطامعة بالآستانة والبواغير لا ترضى عن قيام حكومة قوية في عاصمة آل عثمان، تقطع أملها بالحصول على ميراث قريب. أما إنكلترا فلم يرق لها انتصار ابراهيم باشا ، لأنها كانت تخشى أن يؤدي تقدمه الى الآستانة الى تدخل الروسيه تدخلا عسكريا يهدد مصالحها في البحر المتوسط، ولو فرض احجام الروسيه، عن التدخل، فان احتلال الآستانة ربما قاد محمد علي الى الطمع في عرش آل عثمان، والى اقامة دولة فتية على شواطئ البحر المتوسط، وفي طريق الهند تحارب الغربيين بسلاحهم، وتدعو العالم الاسلامي الى التجدد ، وتبث مبادئ الاستقلال في نفوس المسلمين في كل مكان.
ان ذلك لو تم لكان خطره شديدا على مصالح الانكليز في الشرق، فالمشاكل السياسية التي لها هذه الخطورة كان حلها منوطا بمحمد على الجالس على ضفاف النيل. وهذا الذي أقعد ابراهيم باشا عن مواصلة الزحف نحو الآستانة بعد موقعة قونية ودعاه الى انتظار تعليمات والده للعمل بموجبها، ولا يستبعد أن زحفه بعد ذلك على الآستانة لم تكن غايته الاستيلاء عليها، بل تهديد السلطان لاكراهه على قبول مطالب محمد علي، وحمل الدولة الأوروبية على تأييد تلك المطالب تفاديا من تطاير شرر الحرب اليها.
ان توغل ابراهيم باشا في الأناضول أبلغ النزاع بين السلطان محمود ومحمد علي درجة دقيقة جدا جعلته ذا صبغة سياسية عامة، وأصبحت تسويته خاضعة لمقتضيات السياسة الأوروبية. فالروسيه أظهرت التحيز لجانب الدولة العثمانية منذ ابتداء النزاع، واغتنمت فرصة تقدم جيش ابراهيم باشا في بلاد الأناضول لعرض مساعدتها على السلطان محمود لأجل حماية الآستانة، لأنها كانت تخضى أن يؤدي انخذال تركيا الى ترتيبات جديدة تخالف مطامعها، وتقلل من نفوذها في الآستانة. بينما فرنسا وهي ذات ضلع مع محمد علي كانت قبل حصول موقعة قونية، قد تدخلت في أمر الصلح بين السلطان محمود ومحمد علي وعرضت مطاليب هذا الأخير، غير أن السلطان رفض قبول وساطة فرنسا في الأمر.
أما بعد انتصار قونية وما أحدثه من اضطراب الافكار في الآستانة، ونشاط الروسيه الى مفاوضة السلطان، احتجت انكلترا وفرنسا على الاتفاق بين روسيا والسلطان محمود، وثار ثائر العلماء في الآستانة على اقتراحات روسيه، وكان الباب العالي أيضا يقاومها. أما السلطان فتمسك بصداقة الروسيه، وكان الباب العالي أيضا يقاومها. أما السلطان فتمسك بصداقة روسيه، لكنه أذعن أخيرا الى مشورة وزرائه بارسال مندوب خاص الى الاسكندرية لمفاوضة محمد علي، ثم ان الجنرال مورافيف الروسي غادر الأستانة قاصدا الى الاسكندرية لمفاوضة محمد علي، وقبل سفره طلب الى ابراهيم باشا ألا يتقدم بجيشه بل ينتظر عودته من الاسكندرية.
وصل الجنرال مورافيف الى الاسكندرية في 13 كانون ثان (يناير) سنة 1833، وكانت خلاصة مفاوضاته مع محمد علي ايقاف الزحف على الآستانة، والاهتمام اهتماما جديدا في مصالحة السلطان، وقال له بلهجة لا تخلو من التهديد ان الروسيه لا تسمح بتجزئه السلطنة العثمانية التي ترمي اليها مطامعه. واتخذت النمسا اللهجة نفسها في مخاطبة محمد علي لا مجازاة للروسيه بل منعا لاتساع الخرق بين السلطان محمود ومحمد علي، لأن ذلك يمهد السبيل لتدخل الروسيه لمصلحة السلطان ، ولازدياد نفوذها في الآستانة، وتسلطها على سياسة الدولة العثمانية ، وهو مالا يتفق مع مصالح النمسا.
أما مندوب السلطان فاستقبل في الاسكندرية بالحفاوة والاكرام، ووافق محمد علي باشا على المبدأ الذي اقترحه الباب العالي، وهو تسوية الخلاف ما بين الآستانة ومصر مباشرة بدون تدخل الأجانب، وأرسلت نتيجة المفاوضات الى الآستانة. وكان محمد علي بعد المفاوضة مع الجنرال مورافيف قد أنفذ أمره الى ابراهيم باشا ليوقف الزحف على الآستانة، لكنه لم يفتر عن ارسال النجدات الى سوريا حتى يبقى موقفه العسكري مكينا فيما لو أخفقت المفاوضات السلمية. أما ابراهيم باشا فصدع بأمره والده ووقف بجيشه في كوتاهية، رغما عن ذلك بقى السلطان مواصلا المفاوضات سرا مع روسيه، كما أن هذه بادرت الى ارسال أسطولها الى مياه الآستانة فرسا هناك في 20 شباط (فبراير) سنة 1833، ووجهت جيشا بريا فنزل على ضفة البوسفور الآسيوية، وجهزت جيشا آخر لنجدته عند اللزوم، زاعمة أن نزول ابراهيم باشا بجيشه على مقربة من الآستانة قد يحدث الاضطراب فيها.
أما فرنسا وانكلترا فكانتا متفقتين حينئذ في سياستهما، وكانتا تسعينان الى التوفيق بين السلطان ومحمد علي، والى مقاومة مطامع الروسيه - وكانت فرنسا نظهر اهتماما خاصة بحادث الشرق الأدنى، فأنفذت سفيرا الى الآستانة البارون روسان فبادار الى الاحتجاج على اقامة الاسطول الروسي والجنود الروسيه في المياه والاراضي العثمانية. وطلب الى السلطان ارجاعها الى حيث أتت، ثم دارت المفاوضات بينه وبين الحكومة العثمانية، ثم مع محمد علي.
ونظرا لحداثة عهده بالسفارة والسياسة الشرقية، وعدم وقوفه على دقائق المسألة وتفصيل المفاوضات التي جرت بين الباب العالي ومحمد علي، تسرع في عقد اتفاق مع الباب العالي خلاصته أن السلطان قبل مساعي دولة فرنسا لحسم النزاع بينه وبين تابعه محمد علي باشا، على شرط عودة محمد علي الى طاعة السلطان، فيقبل السلطان طاعته ويعفو عنه ويمنحه الحكم على بلاد عكا والقدس ونابلس وطرابلس الشام ويرفض كل نوع من المساعدات الأجنبية، ومتى نفذ السلطان هذا الشرط الأخير يتعهد السفير باسم ملك فرنسا بامضاء اتفاق بوجه السرعة بالشروط المتقدم بيانها، ثم ان السفير خاطب محمد علي ملحا عليه بوجوب قبول الشروط الآنفة الذكر، فرفض محمد علي اقتراحات السفير، وتحرج الموقف بينه وبين قنصلتي إنكلتراة وفرنسا العامين في مصر بسبب ذلك.
والكتابان التالين اللذان كتبهما بهذا الشأن يوضحان خطورة الحالة وثبات جأش محمد علي بازاء المصاعب وجرأته في مقاومة ممثلي الدول العظمى.
فالكتاب الأول وجه محمد علي الى قنصلي إنكلترا وفرنسا في مصر وهو:
"انما بما لي من القوة التي استمدها من شعبي ومن القانون المقدس، والفتاوى الشرعية الموجهة الي من جميع علماء البلاد العربية وبر الأناضول، قد أصبح من واجبي الذي لا محيد عنه أن أوطد أركان حكومتي ومكانة قومي بجميع الوسائل. وما تلك الوسائل سوى الحصول على كل البلدان التي أطلبها وهي البلاد التي استوليت عليها. وبما أني قد بذلت في سبيل ذلك وقتا طويلا وجودها جهيدة، فمن الواجب على الأقل أن يتركوا في هذا الكون شيئا من الشهرة، ولن يحملني حب الراحة على ارتكاب عار التخلي عن شعبي الذي وضع كل ثقته بي، بل اني سأكون سعيدا بأن أموت شريفا في سبيله، فأرجو والحالة هذه من دولتي إنكلترة وفرنسا أن تتخذا نحوي قرار مطابقا للعدالة والانصاف ولمصالحهما الخاصة".
أما الكتاب الثاني وهو مؤرخ في 8 مارس سنة 1833 فكان جوابا على رسالة وردت عليه من البارون روسان سفير فرنسا لدى الباب العالي وهذه ترجمته:
"قد اعترضت علي يا سعادة السفير في رسالتك المؤرخة في 22 شباط (فبراير) بأن لا يحق لي بالمطالبة فيما سوى بلاد عكا، والقدس ونابلس وطرابلس الشام، وأنه يجب علي والحالة هذه أن أسحب جنودي حالا، وقد أنذرتني بسوء العاقبة فيما لو رفضت ذلك، كما أن حاجبك قد أبلغني شفاها بناء على التعليمات التي زودته بها أني اذا بقيت مصرا على مطالبي، سيتظاهر الاسطولان الإنكليزي والفرنساوي، أما الشواطئ المصرية. فيا سعادة السفير بأي حقل تعمل هكذا على تجريدي مما غنمته؟ ان شعبي بأسره يعضدني ما علي الا أن أحرض أهل الروملي والأناضول ليثوروا، ولو شئت لتمكنت بمساعدة الشعب العثماني من احداث حدث جديد. فبينما أسيطر على ولايات عديدة والنصر حليفي في كل المواقع، قد اكتفيت بأخذ سوريا التي أقيم فيها بقوة السلاح وتأييد الرأي العام. كما أني قد اكتفيت بأخذ سوريا التي أقيم فيها بقوة السلاح وتأييد الرأي العام. كما أني قد أوقفت جنودي عن التقدم ولا قصد لي سوى عدم اراقة دم الأتراك عبثا، وحتى أتمكن من تعرف راي الدول الأوروبية. فكانت المكافأة على حلمي هذا وعلى الضحايا التي قدمها شعبي الذي مكنني بمساعدته الفعالة من الحصول على انتصارات باهرة، كانت المكافأة على كل ذلك أن أطالب الآن بالتخلي عن البلاد التي احتلها، وأن أسترجع جيشي الى منطقة صغيرة يسمونها باشاوية! الا ترون أنكم بذلك تصدرون علي الحكم بالموت السياسي؟ ان لي وطيد الأمل بأن فرنسا وإنكلترا لا تأبيان معاملتي بالانصاف والاعتراف بما لي من الحقوق. ان شرفهما يقضي بذلك. أما اذا كنت مخدوعا فيما أملت فاني سأطيع قضاء الله لا غير، وسأفضل الموت على احتمال الضيم وسأقدم نفسي بكل ابتهاج فدى لمصلحى قومي، وأشعر بأني سعيد بأن أخدمهم حتى أغيب في لحدي. هذا هو قراري الذي وطنت النفس عليه وقد روى التاريخ أكثر من شاهد واحد في مثل هذه المفاداة".
فلهجة محمد علي الحازمة، وتدخل الروسيه، تدخلا عسكريا راع النمسا وإنكلترا وفرنسا، فألححن على السلطان محمود بوجوب عقد الصلح وقبول مطاليب محمد علي، ولم تجد الروسيه مناصا من مواقفة سائر الدول على ما طلبته من السلطان. كماأنه لم يسع السلطان بعد أن غلب على أمره في ميداني السياسة والقتال الا القبول باضافة سوريا واقليم أدنة الى دائرة حكم محمد علي.
وعلى أثر ذلك صدر خط شريف في 16 ذي الحجة سنة 1247 هـ = 6 أيار (مايو) سنة 1833 م، قاضيا بتأييد حكم محمد علي باشا على مصر وكريت، ومنحه الحكم على سوريا ومنطقة أدنة، مع تجديد ولاية ولده ابراهيم باشا على جده وتليقه شيخ الحرم المكي، وجعله محصلا لاقليم أدنة، وفي 24 ذي الحجة سنة 1248 هـ (14 أيار سنة 1833م) عقد اتفاق كوتاهية بين السلطان محمود ومحمد علي، فوقعه البارون روسان سفير فرنسا في الآستانة بالنيابة عن السلطان، وابراهيم باشا بالنيابة عن والده، وبمقتضى هذا الاتفاق الذي بني على أساس الخط الشريف تعهد محمد علي بأن يدفع عن سوريا الأموال التي كان يدفعها الولاة السابقون، وأن يسحب جنوده من الأناضول الى البلاد التي وضعت تحت حكمه.
أما روسيا فاغتنمت فرصة ضعف تركيا واستيائها من إنكلترا وفرنسا لاحجامها عن نجتدها، والحاحها عليها بالتسامح مع محمد عي، فعقدت معها في 8 تموز (يوليه) سنة 1833 معاهدة "خنكار إسكله سي" التي تعد بمثابة بسط الحماية الروسيه على المملكة العثمانية كما يتضح من المادة التالية.
"انه نظرا لشدة رغبة جلالة امبراطور الروسيين في استمرار وثبات الدولة العثمانية مستقلة استقلال تاما، يتعهد جلالته أن يقدم للباب العالي عند الحاجة للدفاع عن الأملاك العثمانية برا وبحرا، الجنود والقوات التي يرى الفريقان المتعاهدان أنه لازمة لذلك".
وأضيف الى هذه المعاهدات مادة سرية هذه ترجمتها:
"بمقتضى احدى فقرات المادة الأولى من المعاهدة الدفاعية الحاضرة المنعقهدة بين الحكومة الامبراطورية الروسيه، والباب العالي، يتعهد الفريقان المتعاقعدان تعهدا متبادلا أن يقدم كل منهما للآخر معونة جوهرية ويساعده أشد مساعدة على صيانة ممتلكاته. لكن نظرا لرغبة جلال امبراطور الروسيين في عدم تكليف الباب العالي العثماني القيام بالنفقة أو تجشم المشقة بسبب تقديم المعونة الجوهرية، فان جلالته لا يطالب الباب العالي العثماني بتقديم تلك المعونة فيما لو قضت الأحوال بتقديمها طبقا لتعهداته، انما بدلا من المعونة المكلف بالقيام بها عند الحاجة طبقا لمبدأ التبادل المنصوص عنه في المعاهدة، يحصر الباب العالي عمله لمصلحة الحكومة الامبراطورية الروسيه في اقفال بوغاز الدردنيل أي في ألا يسمح لاية سفينة حربية أجنبية أن تدخله بأية حجة من الحجج".
فهذه المعاملة الشديدة الضرر بالدول الأوروبية وبالدول البحرية منها خصوصا أثارت غضب واحتجاج تلك الدول، وزادت إنكلترا تشددا في سياستها المضادة لمحمد علي لتجتذب تركيا نحوها وتبعدها عن الروسيه، واتحدت فرنسا معها على مقاومة السياسة الروسيه.
حكومة محمد علي في سوريا
بعد عقد اتفاق كوتاهية ، انسحب ابراهيم باشا بجيوشه من الأناضول الى البلاد التي تقرر ضمها الى حكومة محمد علي، وتولى منصبي الحاكم العام والقائد العام فيها، لكنه وجه اهتمامه الى الشؤون العسكرية، فحد في العمل لتأمين الحدود، واقرار الأمن والسكينة في البلاد، ورمم أسوار عكا، وحصن الحدود الشمالية تحت مراقبة مهندسين أوربيين لصد هجوم الأتراك فيما لو حدثتهم نفوسهم أن يسترجعوا سوريا. ووزع جيشه الذي كاني بلغ نحو سبعين ألف مقاتل في جهات مختلفة من سوريا، انما جعل معظمه في شماليها لأجل حماية الحدود، كما أنه جعل مقره العام في أنطاجية مراعيا في اختياره اياها دون سواها موقعها الحربي، وجودة هوائها، وكثرة العلف في جوارها، هذا فضلا عن قربها من مصدر الخطر التركي الذي كان لابد له من السهر على مراقبته بنفسه. وزيد جيشه فيما بعد حتى بلغ نحو خمسة وثمانين ألفا، هذا ما عدا المتجندين الحديثين من سوريا.
التقسيم الاداري والتشكيلات الجديدة
كانت سوريا قبل أن يستولي عليها ابراهيم باشا مقسمة الى أربعة أقسام كبرى وهي: إيالات حلب وطرابلس ودمشق وصيدا، وكانت القدس ويافا وغزة داخلة في هذا التقسيم. غير أن الوزير الذي كان يتولى الحكم على ايالة صيدا كان يبسط سلطته أحيانا على البلدان المذكورة وعلى ولاية طرابلس الشام. وهكذا كانت الحال لما زحف ابراهيم باشا بجيشه على سوريا، فان عبد الله باشا والي صيدا كان متوليا ادارة ايالة طرابلس الشام ومتسلطا على بلاد فلسطين حتى برية سيناء. وكانت حكومة الآستانة المرجع الأعلى لحكام البلاد السورية.
أما بعد استيلاء ابراهيم باشا على سوريا وانضمام كيليكليا اليها، أصبحت حكومة محمد علي في القاهرة المرجع الأعلى لحكومة سوريا وكيليكليا. ووضع تشكيل اداري جديد لحكومة البلاد، فجعل ابراهيم باشا حاكما عاما وقائدا عاما كما ذكرنا قبلا، وضمت عكا وسائر بلاد فلسطين حتى برية سيناء الاى ولاية الشام. وفي خريف سنة 1832 عين شريف باشا أحد أقارب محمد علي حاكما عليها، وأطلق عليه لقب "حكمدار عربستان" لأنه في أثناء السنين الأولى كان يتولى ادارة الآيالات السورية جميعها، وكان ابراهيم باشا قد فوض الى كاخيته منيب أفندي ادارة شؤون الحكومة في عكا عند استيلائه عليها، فاستبدله في رمضان سنة 1249 هـ = كانون ثان (يناير ) سنة 1834 بالشيخ حسين عبد الهادي من زعماء نابلس وجعله تابعا لشريف باشا.
أما المدن الساحلية وهي صور وصيدا وبيروت وطرابلس ، فكان ابراهيم باشا قد وجه متسلمين اليها عند فتحها في كانون أول (ديسمبر) سنة 1831، ثم عاد في تشرين أول (أكتوبر) سنة 1832 ففوض ادارة شؤون بيروت وصيدا وصور الى الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان، فولى عليها متسلمين من أقاربه ، لكن عند ارجاء التشكيلات الجديدة بعد عقد الصلح بين السلطان محمود ومحمد علي رفع سلطة الأمير بشير عن السواحل، وعين متسلمين اختارهم بنفسه.
ولم تبق التشكيلات الادارية على حال واحدة في أثناء قيام حكومة محمد علي في سوريا بل ان كثرة الاضطرابات ، واتساع دائرة الأعمال أوجبتا مراقبة الأمور مراقبة شديدة لا يقوى عليها حاكم واحد. فولى سليمان باشا الفرنساوي على إيالة صيدا التي كانت قد سلخت عنها عكا، وجعل مقره مدينة صيدا وسليمان باشا كان أليق رجال ابراهيم باشا لهذا المنصب، لأنه كان أكثرهم أهلية لتنشيط التجارة، وأوسعهم خبرة بمعاملات الأجانب الذين كانت بيروت مركز قناصلهم، وكان فيه أكثر وأكبر بيوتهم التجارية. أما حلب فولى عليها في سنة 1838 اسماعيل بك أحد أبناء عم ابراهيم باشا، وعين أحمد منيكلي باشا حاكما على أدنه، وبعد انتقاله منها خلفه خورشيد باشا.
فبعد ذلك بقى شريف باشا متوليا على ايالة الشام والبلاد الفلسطينية بما فيها عكا. أما توليته في بادئ الرأي على جميع البلاد السورية، فواضع من تلقيبه "حكمدار عربستان" ويعززها الأوامر الصادرة منه الى أنحاء مختلفة من الآيالات السورية، والنصوص الواردة في تأليف بعض المعاصرين كنوفل نوفل وغيره. فقد قال نوفل في كتابه "كشف اللثام عن محيا الحكومة والأحكام" ص 493: ان جريدة ضبط مجالس المشورة كانت ترسل الى الشام ليراجعها يوحنا بك البحري". وهذا يدل على أن الشام كانت مركز الادارة العامة حينئذ.
وقال في الصفحة نفسها ما هو أكثر من هذا صراحة وهو: "ونصب لكل بلدة متسلما من أهل الاسلام، ومرجع الكل هو مركز الحكم العمومي الذي في الشام، وفيها يقيم الحكمدار العام الذي هو شريف بك خزينة دار محمد بك باشا سابقا.. وكذلك مدير الحسابات الذي هو الخواجة يوحنا بحري وهو بمنزلة دفتر دار عمود أيالات سوريا، وأخيرا صيره مير لواء وصار يدعي بحري بك". وقال معاصر آخر: "وهوفي 9 جماد الثاني 1249 عـ (1833م) حضر كتاب من شريف بك في حلب الى الأمير بشير الشهابي أن يأمر بعدد أهالي جبل لبنان، ويتحرر دفاتر بأسامي كل مقاطعة ببيان قراها، وتقسم على عشر مراتب، كل مرتبة فئة معلومة على قدر احتمالها بوجه العدل، وتختم الدفاتر من مشايخ القرى، وبعده تختم من أمراء المقاطعة وترسل الى عنده".
المتسلم: كان لكل مدينة متسلم يتولى ادارة أعمال البلد ومراقبتها، ويقوم في أحوال كثيرة بالأعمال التي يقوم بها قضاة الصلح والمجالس البلدية.
المباشر: كان بمثابة أمين سر المتسلم، ويتولى أيضا وظائف الصراف أو مدير المال وادارة حسابات المدينة وأموال الفريضة والميري. وكان المباشرون عادة من المسيحيين، لأنهم كانوا أكثر من سواهم خبرة بالأعمال الحسابية.
ديوان المشورة: وألف في كل مدينة عدد سكانها من عشرين ألف نفس فما فوق مجلس سمي "ديوان المشورة" عدد أعضائه يتراوح ما بين 12 و21 عضوا مراعين في ذلك عدد السكان، وكان هؤلاء الأعضاء ينتخبون من بين أعيان البلد وكبار تجارها ويمثلون جميع المذاهب، ففي دمشق مثلا كان هذا المجلس مؤلفا من واحد وعشرين عضوا ينتخبون من بين أعيان البلد وكبار تجارها ويمثلون جميع المذاهب ، ففي دمشق مثلا كان هذا المجلس مؤلفا من واحد وعشرين عضوا من المسلمين والنصارى واليهود، ورئيس هذا الديوان كان من أهل البلد أيضا. ولم يكن هذا المجلس خاضعا لسلطة المتسلم أو حاكم البلد، وفي بيروت كان مؤلفا من اثني عشر عضوا وقد ورد ووصف ديوان المشورة باسهاب في كتاب حروب ابراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول، ج1 ص37 و38 وهو:
"في 14 رمضان 1249 هـ (1834 م) أمر ابراهيم باشا يصير ديوان مشورة في بيروت، وجعل اثني عشر رجلا من أكابر بيروت أصحاب فطنة والمتسلم لا يبدي بشئ الا بما يبرز به الحكم من ديوان المشورة بموجب كتاب منه الى أرباب الديوان المذكورة، وهم ستة: اسلام عبد الفتاح حمادة ناظر المجلس، عمر بيه (بيهم)، أحمد العريس، حسن البربير، أمين رمضان، أحمد جلول، وستة نصارى وهم: جبرايل حمصي، بشارة نصر الله، الياس منسا، ناصيف مطر، يوسف عيروت، موسى بسطرس، وترتيب الديوان المذكور:
(1) تعيين وقت معلوم كل يوم الى حضور أرباب المجلس، وعند حضورهم يحرر الكاتب أسماءهم بقايمة برتبة حضورهم لا برتبة مقامهم. (2) الكاتب يحرر كل يوم الأشغال الموجودة عنده وحين يحضر أرباب المجلس يعرضها عليهم حتى يعملوها ولا تبقى من يوم الى يوم. (3) اذا كانت هذه الأشغال لا تنتهي في ذلك اليوم فيصير الاجتماع ثاني يوم قبل الوقت المعين بزمان كاف لنهيها. (4) الأشغال المذكورة المتبقية من اليوم السابق لا تتقيد في أعماله بل في اليوم الذي تنتهي فيه. (5) حين يقرأ الكاتب الدعوى يطلب الجواب ممن هو خبير بها من أرباب الديوان قبل الجميع، وبعده يأخذ رأي الباقي بحيث لا يبقى أحد بدون تكلم، واذا وجد واحد من أرباب المجلس تكلم مع آخر في حديث خارج عن الدعوى ينبه عليه الكاتب أولا وثانيا، فاذا ما أفاد فيحرر في مضبطة المجلس ان فلان مشغول يشغل أحاديث خارجة عن المصلحة، والكاتب لازم يحرر كلما يتقرر بالمجلس ولا يترك منه شيئا وكلما يتقرر يكون مكتوبا ولا يتحرر الا الذي موافق الحق. (6) بعد نهاية المجلس وتمام رؤية المصالح التي نظر فيها واستقر الحكم عليها باستحسان الجميع يحررها الكاتب بمسودة، وثاني يوم يبيضها ويوجهها لمحلاتها، وبعد ذلك تتقيد في سجل المجلس، وهذه الخلاصات بعد تحريرها يأخذها الكاتب كل يوم للمجلس لكي بعد نهايته يقرأها بأعلى صوته بحضور الجميع ، فان استحسنوا رأيا أوفق من الذي تقدم فيغيروا الخلاصة، وتتقدم الخلاصات لناظر المجلس فيختمها بختم مجلس الثورة، وبعد القيد تصل الى صاحب الأمر لكي يشرح عليها الى أصحابها أمرا باجراء ما يتضمن من الحكم، واذا ما كان سعادة الحاكم دار موجودا ينشرح من طرف متسلم آغا. (7) الكاتب يمسك دفترين الواحد الى صورة المجلس المتضمنة التقرير، والآخر الى الخلاصات من بعد ختمها ويلزم حفظ المسودات اليومية ضمن كيس أيضا".
وكانت قرارات مجالس الشورة في المدن الصغيرة، تستأنف عند الاقتضاء الى مجلس مشورة عكا أو مجلس مشورة دمشق، واذا اقتضت الحال تميز قرارات هذين المجلسين الى القاهرة. على أنه لم يرو أنه حدث أي تمييز.
ومن التغييرات الادارية التي أحدثتها حكومة محمد علي القضاء على الحكم الاقطاعي، وجعل أصحاب الاقطاعات في بادئ الرأي موظفين بمرتبات مقررة لا تساوي عشر ما كانوا يستولون عليه من اقطاعاتهم، وتدرجت من ذلك الى عزلهم وتولية سواهم في أماكنهم. هكذا عاملت الامراء بني الحرفوش في بعلبك والأمراء آل شهاب في بلاد حاصبيا وراشيا، وكذلك زعماء فلسطين وغيرهم.
على أن هذه التنظيمات رغما عما لهامن حسن المظهر ومع ما في وضعها من حسن القصد، أدى تطبيقها الى خلل في الادارة واجحاف شديد بحقوق الأهلين، لأن الحكام كانوا يجهلون أو يتجاهلون حدود سلطتهم، فاتسع المجال للفوضى الادارية والاستبداد، نظرا لتجاوز كل منهم حدود وظيفته واعتدائه على سلطة غيره، وقيامهم بأعمال متناقضة وهذا ما يحدث عادة عن قلة الاختبار عند تطبيق النظامات الجديدة. انما أشاد أسباب الشكوى نشأ عن فساد العمال واستبدادهم بالعرية، من أمثلة ذلك أن شريف باشا حكمدار عربستان كان صارما مستبدا مولعا بجمع المال بطرق غير مشروعة، وحملته قرابته لمحمد علي على الظن أنه لا يحاسب على ما يفعل.
وكان اسماعيل باشا حاكم حلب محبا للمال، احتكر لنفسه الاتجار باللحوم والفواكه والبقول وما شاكل ذلك. وكان يستثمر بعض الأراضي الزراعية، ويبيع محصولاتها للتجار بالمزاد ولا يسمح لغير الذين اشتروا منه أن يبيعوا ما عندهم من جنس محصولاته، الا بعد ما يفرغ الذين اشتروا منه ما بيع ما اشتروه.
ويقال ان حنا بك بحري وأخاه جرمانوس الذي كان يتولى ادارة أموال وحسابات ولاية حلب لم يكونا أكثر نزاهة ورفقا بالأهلين من شريف باشا واسماعيل بك. وكان حنا بك يتخذ مختلف الوسائل ليزيد دخل الخزينة، وينال الحظوة لدى محمد علي وابراهيم باشا، من ذلك أنه كان يلزم بعض الاصناف التجارية في المدن كاللحم والبقول وغيرها بأسعار عالية، ويسمح للملتزمين ببيعها بأكثر من ضعفي ثمنها، فتربح الخزينة والملتزمون أرباحا فاحشة، كما يخسر الأهلون خسارة جسيمة لغلاء لوازم معيشتهم.
وكان جرمانوس يحذو حذو أخيه في سياسته المالية ، ويشارك اسماعيل بك حاكم حلب في ابتزاز الأموال. وكان المباشرون بمن تقدم، ولم يكونوا مكلفين بتقديم ضمان مالي يخشون فقده فيما لو اختلسوا الأموال، كما أن مرتباتهم كانت صغيرة لا تكفي لسد حاجاتهم واعاشة عائلاتهم، فالحاجة والفساد الاداري المنتشرة بين عمال الحكومة على اختلاف طبقاتهم، كانت تدفعهم الى اتخاذ أساليب مختلفة لكسب المال بطرق غير مشروعة. ووجود ديوان المشورة لم يحل دون وقوع المظالم بل كان هو نفسه مصدرا لكثير منها.
على أنه لا يسع المنصف الا الاعتراف بأن المبادئ التي شاء محمد علي أن يؤسس عليها الادارة والقضاء في سوريا كانت صحيحة بوجه عام، لأنها كانت ترمي الى تنظيم الأعمال وتوزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة، ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بالنصوص القانونية، وتدريب الأهلين على ادارة شئونهم المحلية، غير أن جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وفطرتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على أعمالهم، وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعاداتها، وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت تلك القوانين من أجلها.
ولابراهيم باشا فضل خاص في السنين الأولى بعد الفتح في ضبط الأحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الأهلين، وقد كان شديد الوطأة على المستخدمين الذين يحيدون عن السبيل القويم، فعاقب كثيرين منهم بالطرد والضرب والحبس والاعتداء على أهل البلاد أو عدم النزاهة أو غير ذلك مما يخرج عن جادة الاستقامة، فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم الحكيم لملكت قلوب السوريين.
القضاء
كان القضاء العثماني في سوريا قبل عهد محمد علي مستمدا من الشرع الشريف، وكان النظر في القضايا الجزائية من اختصاص الباشا أو كاخيته (كتخداه) أما القضايا المدنية فكان النظر فيها من اختصاص القاضي. وكان العدل في الاحكام يتوفق على نزاهة القاضي أو الحاكم على أن كفة العدل كانت راجحة. ومن مزايا المحاكمات في ذلك العهد هو أن المرجع المختص بها كان معينا تعيينا جليا يعرفه الخاص والعام مقترنا ببساطة الاجراءات، وقلة النفقات، وسرعة الحكم والتنفيذ.
أما حكومة محمد علي في سوريا، فوضعت أنظمة جديدة مشابهة بوجه عام لأنظمة بعض البلدان الأوروبية، وابقت على القضاء الشرعي مراعاة لشعور الشعب الاسلامي. وهكذا تعددت السلطات وتوزعت الأعمال القضائية ما بين الحاكم والقضاي المنفرد والمحاكم وديوان المشورة، وكانوا جميعا قليلي الاختبار بالأعمال الذين انتدبوا للقيام بها والقوانين التي عهد اليهم العمل بموجبها، كما أن المتقاضين حاروا ما بين هذه المراجع المختلفة، بل ان أصحاب الاختصاص أنفسهم كانوا يخطئون في تعيين المسائل التي يعود اليهم حق النظر فيها، ويتعدون حدود كانوا يخطئون في تعيين المسائل التي يعود اليهم حق النظر فيها، ويتعدون حدود سلطتهم، فكر الارتباك في دوائر القضاء ، بسبب غموض بعض النصوص، وحداثة عهد النظام، وقلة اختبار القائمين بتطبيقه.
أما بوجه عام فقد كان اختصاص السلطات القضائية كما يلي:
كان في كل مدينة قاض ينظر في القضايا الجزئية، كالمنازعات المحلية، والمعاملات التجارية، ويتولى التصديق على عقود البيع والهبة وما شاكل ذلك، ويتقاضى رسما للتصديق قدره ما بين واحد واثنين وربع في المائة من قيمة العقار المسجل.
أما القضايا الكبرى فكانت تنظر في المحاكم المؤلفة من قاض وعضوين أو أكثر، وكان لكل محكمة كاتب لتسجيل أحكامها. أما المراجع الاستئنافي فكان قاضي القضاة. وكان الحكم بالاعدام من اختصاص كبار الحكام كشريف باشا وسليمان باشا وخورشيد باشا، وكان هؤلاء يرسلون الأحكام عادة الى ابراهيم باشا لأجل التصديق، وفي بعض الأحوال كانوا ينفذونها قبل التصديق عليها منه. وكان الجزاء التأديبي الضرب بالعصى، وكان لصغار المأمورين وشيوخ البلدان سلطة الحكم بالضرب، وكثيرا ما كان هؤلاء يسيئون استعمال هذه السلطة في الحكم والتنفيذ.
أما دواوين المشورة، فقد ذكرنا قبلا طريقة اجراءاتها أما اختصاصتها فقد ذكر عنها نوفل ما يلي:
"ان القاعدة الأساسية في تلك المجالس هي مراعاة صوالح الميري، وقلما تتداخل في غير ذلك من الدعاوى التي لا علاقة بها في الأموال الأميرية، وليس لأحد غير الأعضاء حق الدخول اليها ليسمع المفاوضات والمذاكرات التي تجرى فيها .. وفي هذه المجالس كانت تستمع دعاوى الأراضي وأموال الأطيان المرتبة على الفدن، ويبحث فيها ضائعات الميري وعائدات القرى، وتعطى المقاطعات والأقلام الالتزامية والرسوم الميرية بعد أن يقر مزاد بدلاتها على الراغبين، ومنها ما كان من البدع المكروهة التي تشمئز نفوس الأكثرين منها ومن استماع دعاويها كقلم الخمارات وغيرها .. وكانت المذاكرات التي تحصل بين الأعضاء تكتب في جريدة بالضبط تحت اسم المتكلم، وفي رأس كل شهر ترسل تلك الجريدة الى الشام ليراجعها يوحنا بك البحري وينقحها، واذا وجد فيها رأي متقدما من أحد الأعضاء مخلا بفائدة الميري، اعترض عليه وضمن الخسارة لصاحب ذلك الرأي، لكن لم يقع من ذلك الا ما ندر للغاية، اذ ان هذه القاعدة أوجبت الأعضاء بأن يستوفوا للميري فوق حقوقها ولو أضر ذلك بالأهالي وأجحف بحقوقهم.
المالية
ان الفوضى كانت سائدة على مالية السلطنة العثمانية من دخل وخرج سيادتها على غير ذلك من الشؤون، لان الانظمة لو وجدت لما أمكن العمل بموجبها الا بطريقة عامة لعجز حكومة الآستانة عن تنفيذ أوامرها ونظاماتها في الولايات البعيدة كالولايات السورية، فقد كان ولاة صيدا مثلا كأحمد باشا الجزار ثم عبد الله الخزندار يسيرون الأمور في البلاد التي يحكومنها حسبما شاءت أهواؤهم ومطامعهم. ومع أن الضرائب المفروضة على بلاد السلطنة كانت أنواعها ومقاديرها مقررة بوجه عام، وهي مال الميري والجزية والرسوم الكمركية – وأحيانا كانوا يلجأون الى احتكار بعض الأصناف – فأن الولاة لم يتقصروا على ذلك، بل كانوا يكلفون الأفراد والجماعات بدفع اعانات مختلفة ينتحلون لابتزازها شتى الأسباب.
وهذا جبل لبنان مع ما كان له من الامتياز الخاص، فيما أن حاكمه كان يتلقى خلعة الولاية من والي صيدا، كان أهله يكلفون ما يفوق طاقتهم دفعه من الأموال، ويسامون صنوف العذاب في تحصيلها. فالتولي على لبنان كان موضوع التنافس بين الأمراء وعرضه للمساومه بينهم وبين والي صيدا. فلما وقع التنافس بين الأمير بشير الكبير وبين طالبي الولاية من أقاربه، أكره الأمير على التنحي عن الولاية للأميرين قعدان وحيدر شهاب، لكن بعد حين رضى عنه الجزار وأرجعه الى الولاية "بعدما أخذ رهينة على المال ابنه قاسم" الخ، لكن "بعد مدة أيام ظهر ابنا الامير يوسف وكاخيتهم جرجس باز ونزلوا عكا .. فلبسهم الباشا حكام الجبل .. واستقاموا حكاما أيام. ومن طمبع الباشا رتب عليهم مالا كثيرا، وقبلوا فيه غصبا، وصار طلب الغرش من الناس بما يفوق الاحتمال. فمن اتصال الطلب هاجت العامة وطردوا أولاد الأمير يوسف ورجعوا الأمير بشير".
على أنه لم يمض زمن طويل حتى عزل الأمير بشير وأعيد ابنا الأمير يوسف الى الحكم "تحت مال معلوم" و"أخذ جرجس باز يفرض المال على الناس من مشايخ وعامة ومطارنة ورهبان حتى ما بقى أحد سالم من دفع غرش حتى من الغريبة (الأجانب) وكل مدة يجد طلب وشئ ما له نهاية".
أما حكومة محمد علي فقضت على هذه الفوضى، لكنها لم تخفف عن عواتق الأهلين الأثقال المالية، بل أضافت الى الضرائب التي كانت تجبى قبلا ضرائب جديدة وهي الفردة والدخوليات، واحتكرت محصول الحرير، وأوجبت دفع الأموال الأميرية عن الأملاك الموقوفة مع أنها كانت معفاة منها في عهد العثمانيين، ومع أنها ألغت الاعلانات التي كان يتقاضاها الحكام العثمانيون، فان الالغاء لم يك الا اسميا، لأنها أضافت الى مال الميري الاصلي جميع ما كان يبتزه الموظفون والملتزون في العهد العثماني، كما سنبين ذلك في الفصل التالي.
وعدا الضريبة العامة على العقار ، كانت حكومة محمد عي تجبى مالا خاصا عن الأشجار كالتوت والزيتون وغيره من الأشجار المثمرة تقدر بخمسة بالمائة من دخلها في سنة معتدلة الاقبال، وكانوا يحسبون ذلك بأن يفرضوا على كل أرض مشجرة مسطحها خمسون قدما قرشين ونصفا، يضاف الى ذلك بارتان عن كل قرض.
وكانت المغروسات الجديدة من هذه الأشجار تفرض عليها الضريبة من وقت غرسها، أي كانوا يتقاضون الضريبة عن بعضها، كالزيتون مثلا قبل أن يستثمره صاحب ببضع سنين، وهذا ما حمل كثيرين من الناس على العدول عن غرس الاشجار المثمرة.
الفردة أو الفرضة: هو ما فرضته حكومة محمد علي باشا على الذكور من مختلف المذاهب البالغين من العمر خمسة عشرة سنة الى ستين سنة. وكانت قيمتها 12 في المائة من دخل المكلفين، ولهذا كان يختلف مقدارها بحسب اختلاف درجات دخل المكلفين، انما كان لها حدان أعلى وأدنى، فلا تزيد عن خمسمائة قرش على المكلف المثرى، ولا تنقص عن خمسة عشر قرشا على المكلف الفقير. وقد شذت حكومة محمد علي عن هذه القاعدة في سنة 1839 حينما اضطرت الى المال، بسبب تجدد الحرب مع السلطان محمود، فضاعفت مقدار هذه الضريبة وجمعتها عن سنتين دفعة واحدة.
وقد كانت الفردة من أهم مصادر الدخل لخزينة محمد عي في سوريا، وكان يقوم بتقديرها وتوزيعها على طبقات المكلفين ديوان المشورة، لكن كانت الشكوى كثيرة من المحاباة في التوزيع. وتضاعفت الشكوى اذ أخذ عدد المكلفين بالتناقض بسبب الوفيات والتجنيد والمهاجرة، لأن الرجال الباقين في البلدة أو المقاطعة كانت تكلفهم الحكومة دفع ما كان مفروضا على الموفين والغائبين. أما اذا زاد عدد المكلفين في بلدة ما، فكانت تزاد الضريبة بنسبة زيادة العدد. وكان يعفى من دفع الفردة رجال الدين والموظفون الملكيون والعسكريون، كما أن الجنود لم يكونوا مطالبين بدفع الفردة في أثناء تجندهم، غير أن أهلهم أو مواطنهم كانوا يكلفون بدفعها عنهم.
رسوم الكمارك والدخوليات: كانت الرسوم الكمركية التي تستوفى من الأجانب اقل كثيرا من الرسوم التي تستوفى من رعايا الحكومة المحلية. على أن اللوم في ذلك لم يكن واقعا على حكومة محمد علي بل على الحكومة العثمانية التي خولت الأجانب الامتياز على رعاياها بمقتضى معاهداتها مع الدول الأجنبية. فبمقتضى تلك المعاهدات كان يدفع الرعايا الأجانب رسوما كمركية قدرها من نصف الى واحد بالمائة عن الأصناف المذكورة في التعريفة وثلاثة بالمائة عن الأصناف غير المذكورة فيها. أما الرعايا المحليون فكانوا يدفعون أضعاف ذلك مرارا في عهد الحكومة العثمانية، فخفضها محمد علي الى أربعة بالمائة عن جميع البضائع المذكورة في التعريفة وغير المذكورة فيها.
وكانت تجبى مثل هذه الرسوم عند ارسال البضائع من مدينة الى مدينة في داخل البلاد، ويكلفون فوق ذلك رسوم مختلفة، كرسم التسريح مثلا فتصبح جملة الرسوم التي يدفعونها من 6.2 إلى عشرة في المائة الى 12 بالمائة. بينما جملة ما يستوفي من الأجانب في مثل تلك الأحوال لم يكن ليتجاوز 3.2 بالمائة . على أنه كما ذكر قبلا كانت معاملة التجار الوطنيين من جهة الرسوم في عهد محمد علي أفضل منها في عهد الحكومة العثمانية، حيث كان يبلغ مجموع الرسوم ما بين 18 و21 بالمائة، ولهذا عجز التجار الوطنيون عن مجاراة التجار الأجانب، ليتخلصوا من الرسوم الباهظة وكانوا في مقابل ذلك يدفعون لأولئم الأجانب مبلغا قدره 3 أو أربعة بالمائة من قيمة بضائعهم.
رسم التسريح: وكان يستوفي رسم تسريح على المحصولات المحلية عند ارسالها من بلد الى آخر إما لأجل المقوطعية الخصوصية أو للاتجار به، أما الأجانب فكانوا مفين من رسوم التسريح اذ كانت المحصولات المطلوبة لأجل مصروفهم الخاص. وكان بعض موظفي القنصليات يسيئون استعمال هذا الامتياز فيطلبون مقادير كبيرة من المحصولات زاعمين أنها لازمة لسد حاجاتهم، فيستهلكون بعضها ويبيعون البعض الآخر.
رسوم الدخولية على الحيوانات: ان الحيوانات التي تدخل المدن كان يستوفى عنها عند دخول المدينة رسوم دخولية قدرها عن رأس البقر من 12 إلى 21 قرشا اذا لم يكن دخوله لأجل الذبح، ومن ستين الى سبعين قرشا اذا كان لأجل الذبح.
أما الغنم والمعزى والجمال فكانت تستوفي عنها رسوم سنوية.
الضريبة صنفا (الشونة): عدا مال الميري الذي كان يستوفى نقدا، كان أهالي كل ناحية يكلفون تقديم بعض ما يلزم الجيش من حصالاتهم، كالحبوب والسمن والزيت الخ. وكانوا يكلفون نقل هذه الحاصلات الى أقرب شونة عسكرية من بلدتهم، اما على دوابهم أو على دواب يستأجرونها بمالهم. ولم يقف الحيف عليهم عند هذا الحد، بل كانوا عند تسليم المقدار المطلوب منهم يجدونه ناقصا، لأن الحكومة على ما يقال كانت تستعمل ميزانين ومكيالين مختلفين في الوزن والكيل. فالميزان أو المكيال الكبير تتسلم بموجبه من الأهلين، والصغير تستعمله عند ما يكون التسليم منها اليهم. وكان الفرق بين الاثنين نحو الربع. فبسبب هذه المعاملة الجائرة، كان الملاك مكلفين بتسديد العجز صنفا أو دفع ثمنه نقدا.
دخل الخزينة وخرجها: ان حكومة محمد علي زادت الضرائب على السوريين زيادة فاحشة، ففي جبل الشوف وتوابعه لا غير كانت الزيادة من مال "الفردة" فقط 1.919.500 غرش، لكن بالرغم عن ذلك لم يكن مجمود الدخل كافيا للقيام بنفقات الحكومة. على أن أحوال سوريا حينئذ كانت شاذة، وكان فيها جيش جرار اضطرت حكومة محمد علي لحشده لاخماد الثورات، أو لتكون على استعداد لصد هجوم العثمانيين اذا حاولوا استرجاع سوريا. فالعجز الذي كان ينشأ عن ذلك كانت تستورده الحكومة من خزينة مصر.
مظالم حكومة محمد علي
كثيرون من السوريين أملوا الخير من وراء تغلب حملة ابراهيم باشا على بلادهم، لأن من مزايا حكومة محمدعلي العمل على اقرار الأمن في البلاد، وانقاذها من الفوضى التي جعلت أرواح العباد وأموالهم تحت رحمة الأقويات والأشقياء، كما ان ابراهيم باشا كان قد وعد السوريين بأن سيعفيهم من التجنيد ويخفض الضرائب، ولا يكلفهم سوى بدفع الأموال الأميرية. والأموال الأميرية لم تكن عبثا ثقيلا عليهم في عهد الحكومة العثمانية، الا لما كان يرافقها من سوء المعاملة في التحصيل وابتزاز المبالغ الاضافية بحجج مختلفة.
وكان ابراهيم باشا قد حقق بعض الآمال على أثر احتلال سوريا، والشروع في ادارة أحكامها، فخفف عنهم الأثقال المالية، وأخذ ينشط الزراعة والتجارة فبدأ القوم يشعرون بالطمأنينة والرخاء والاخلاص للحكومة الجديدة، غير أن زمن الهناء والرخاء لم يطل. فقد ذكرنا في فصل سابق أن من أهم الأسباب التي حملت محمد علي باشا على الطموح الى الاستيلاء على سوريا هو رغبته بالانتفاع بما فيها من مال ورجال، ولذلك لم ينقض زمن طويل على امضاء اتفاق كوتاهية على الخطة الحكيمة التي كان ابراهيم باشا قد انتهجها في ادارة البلاد السورية حتى وردت عليه أوامر والده قاضية على آمال السوريين، موجبة عليهم الخضوع للسياسة العسكرية والاقتصادية التي جرى عليها في القطر المصري. فالأوامر التي أصدرها محمد علي الى ولده ابراهيم باشا في أوائل سنة 1834 أوجبت اجراء ما يلي:
1- احتكار الحرير في البلاد السورية. 2- تحصيل الفردة أي فريضة الرؤوس من جميع الرجال على اختلاف مذاهبهم. 3- التجنيد في البلاد الساحلية. 4- نزع السلاح من أيدي أهل البلاد.
ورغما عما لتنفيذا هذه الأوامر من سوء التأثير في عمران البلدان السورية، وفي شعور السوريين نحو حكومة محمد علي، ومع أنها تناقض الوعود التي كان قد قطعها ابراهيم باشا لأهل البلاد، فانه لم يتردد في تنفيذ أوامر والده. والطاعة العمياء لمشيئة محمد علي كانت من أظهر صفات ابراهيم باشا.
وقد لامه بعض الكتاب على مضيه في تنفيذ هذه السياسة في سوريا بدون أن يراجع والده في الأمر ويلفت نظره الى ما فيه من المجازفة، لأن ابراهيم باشا كان قد اكتسب خبرة شخصية باقامته في سوريا، واطلع على أحوال البلاد وعرف عنها وعن أهلها ما لم يعرفه والده. فان السوريين كانوا يئنون من جور الحكم العثماني لتكاليف كانت أخف وطأة من تلك التي فرضت عليهم في عهده، ولم يكن يخاف عليه أن من وقع بين شرين يختار أهونهما، وهو الميل الى الرجوع الى الحكم العثماني ، لاسيما ان الحكومة العثمانية ، وبعض الاوروبيين وفريقا من أهل البلاد كانوا يدسون الدسائس ويعملون على اثارة الفتن على حكومة محمد علي.
فلو أقام ابراهيم باشا على خطة الرفق في معاملة السوريين لازداد اخلاصهم للحكومة الجديدة، وزال أهم أسباب الثورات وتمكن من الانتفاع برجال سوريا ومواردها الاقتصادية انتفاعا مشروعا أكيدا، لأن السوريين بعدما تذوقوا طعم السكينة في أول عهده، صاروا يرون أن عود الحكم العثماني ليس لمصلحتهم، ولو لم تنقلب عليهم حكومة محمد علي وتحرجهم بما فرضته عليهم من التكاليف الثقيلة، لما خرجوا عليها المرة بعد المرة، بل لأصبحوا بأسرهم جيشا متطوعا لمقاومة كل اعتداء على سوريا من جانب الحكومة العثمانية، وللمحافظة على ما حصلوا عليه من بوادر الأمن والرخاء. كما أن انتشار السكينة والطمأنينة في بلادهم كان مما يمكنهم من توسيع نطاق الزراعة والصناعة والتجارة، فتنشأ عن هذا التوسيع زيادات عظيمة في الضرائب والمكوس لا يتذمر منها دافعوها متى أصبحوا يجودون بما يجدون.
انه لم المستبعد ان تكون أمور كهذه قد خفيت عن ابراهيم باشا وهذا ما يجعلنا على التساؤل عن الاسباب التي منعته من محاولة اقناع والده بالرجوع عن سياسة جمعت بين الاجحاف بحقوق السوريين، ونكث العهود التي كان قد قطعها لهم، وهو ما يؤدي حتما الى نفورهم من حكومته وعدم ثقتهم به. فمن رأي بعضهم أن اعتياد ابراهيم باشا اطاعة أوامر محمد علي اطاعة عمياء وشدة ثقته بحزمه وبعد نظره انسياه عهوده للسوريين، وحجبا عن بصره الأخطار التي تتعرض الحكومة لها بسبب نكث تلك العهود. على أن الأقرب الى المعقول هو أن محمد علي لم يقدم على فرض التكاليف السالف ذكرها الا بعد الوقوف على رأي ابراهيم باشا وان كليهما كان يرى ان من الحزم الاسراع في تقوية الجيش وحشد الأموال استعدادا للطوارئ، وان ذلك مما يستوجب تجنيد السوريين ومساواتهم باخوانهم المصريين في تأدية الضرائب والتسخير وما شاء كل ذلك، وعمدا أولا الى نزع سلاح السوريين ليبقوا كالطير المقصوص الجناح.
واغتر ابراهيم باشا بانتصاراته الباهرة على الجيوش العثمانية، فاستصغر شأن السوريين وبعدما اتخذ له حزبا منهم، توهم انهم لا يستطيعون جمع كلمتهم على المقاومة، ولا يجرأون على الانتفاض على الحكومة متفرقين. كما أن ابراهيم باشا مضى في تنفيذ أوامر والده بالتدريج فلم يشرع في نزع سلاح اللبنانيين وتجنيدهم الا بعد ما فرغ من نزع سلاح غيرهم وتجنيده. ولما جاء دور اللبنانيين أوهم المسيحيين أنه سيكتفي بنزع سلاح الدروز. وهكذا استمال المسيحيين اليه، لكنه ما كاد ينتهي من نزع سلاح الدروز حتى عمد الى نزع سلاح المسيحيين.
فلم يبق هناك شك في ان سياسة الرفق التي كان قد اتخذها في اول الامر، لم تكن الا تدبيرا وقتيا غايته تخدير أعصاب السوريين الى اجل مسمى. على أنه ثبت جليا لمحمد علي، لكن بعد خراب البصرة ان الشدة شر الوسائل لحكم الشعوب، وان السوريين الذين استصغر شأنهم في بادئ الرأي، كانت مقاومتهم له من أشد العوامل تأثيرا في انهاك قوى جيوشه، واتخذتها السياسة الاوروبية وسيلة لزعزعة اركان حكومته.
ويروى ان احدهم راه يوما قلق البال، فساله عما اذا كانت الدول الاوروبية سبب بلباله فأجابه: "ماذا؟ الدول الاوروبية؟ اني اضمها في علبة السعوط. انني اتالم من أولئك السوريين الاشرار الذين سيكونون سببا لجميع ويلاتي". على أن تذمر محمد علي من صعوبة مراس السوريين لا يذكر في جانب ما فاقه هؤلاء من مر العذاب من حكومة محمد علي ، كما يتضح ذلك من اشباع الكلام عن المظالم والمغارم التي انزلتها عليهم.
احتكار الحرير
حينما بدا محمد علي باحتكار التجارة بمحصولات البلاد وصناعتها في القطر المصري، انتحل عذرا لذلك الاضطرار لحصوله على موارد تمكنه من انشاء الترع والمصارف العائدة منفعتها على الفلاحين. لان تلك المشاريع لم يكن في الامكان القيام بها بطريقة منظمة الا بواسطة الحكومة. فلما عمد الى اجراء مثل ذلك الاحتكار في محصول الحرير في سوريا تبين فساد تلك العذر، لان السبب الذي دعاه للاحتكار في مصر لم يكن موجودا في سوريا.
فالاحتكار كان يوجب على الاهالي بيع محصولات ارضهم الى الحكومة بالثمن الذي يقدره عمال الحكومة نفسها، وعدا ما كان هذه الطريقة من الحيف في تقدير الثمن، فانها كانت تحول دون تزاحم التجار والسماسرة على المشترى، فتحرم الملاك والفلاح من الحصول على ثمن عال لمحصولاته، وتثبط عزائم المنتجين، وتحرم السماسرة من الانتفاع برسوم السمسرة عما يشترون، فالربح الذي كان يجب أن يحصل عليه هذان الفريقان تسرب الى خزينة الحكومة التي شاركت الفلاح في تعبه، وحرمت السمسار عملا يقوم به. اما احتكار صناعة الحرير فعدا ما فيه من مزاحمة الحكومة للأهلين على ربح هم أولى به، فانه يحول دون تنشيط المشاريع المحلية، ويمنع المتمولين واصحاب العقول النيرة والهمم العالية من استثمار اموالهم وجهودهم.
الفردة والميري
ان الفردة كان لها تأثير سيئ في نفوس المسلمين بنوع خاص لانهم لم يعتادوا دفع مثلها من قبل، وكانت ثقيلة الوطأة على بوجه عام، لأن ما يفرض منها على بلدة او مقاطعة كانت مكلفة بدفعه ولو نفص عدد الرجال فيها، فمن كان ذا عائلة فيها ثلاثة أو أربعة شبان يكلف بالدفع عنهم جميعا، ولو مات بعضهم او كلهم اما بسبب المرض او في الحرب في سبيل الحكومة، واذا عجز عن ذلك فبلده او المقاطعة التي ينتسب اليها توزع المبلغ المطلوب على الرجال الموجودين.ط
وهذه التكاليف كانت تزداد سنة فسنة على الذين يقومون بدفعها، نظرا لازدياد عدد الغائبين والمفقودين موتا او قتلا او فرارا الى حيث لا تطالهم يد الحكام، خوفا من الحبس او الضرب والتعذيب. وقد كان رجال الحكومة يعاملون الأهلين بمنتهى القوة في تحصيل هذه الضريبة وغيرها من الاموال. وزادت حكومة محمد علي هذه المغارم تقدير الاموال الاميرية على الاملاك بطريقة جعلتها اشد وطأة على الملاكين مما كانت عليه في عهد الحكومة السابقة، حيث لم تقتصر على تحصيل ما الميري فقط بل اضافوا عليه كل ما كان يبتزه الملتزمون والعمال المحليون، واعتبروا المجموع مالا اميريا فعلى هذه الحالة ينطبق قول حافظ
وقد كان فين الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلما منظما
وقد وصف نوفل نوفل الطريقة الجائرة التي كان يتبعها مندوبو الحكومة لتقدير الاموال الاميرية فقال:
"وأول عملية يلزمه اجراؤها عند وصوله هو ان يطوف بنفسه على القرايا، قرية فقرية ومقاطعة فمقاطعة، ويتحقق من الفلاحين عن مقدار ما كان يتناوله منهم المتلزمون من غلال ونقود، وعن ميري ابقارهم وما يقدمون لهم من العوايد والرسميات والهدايا في المواسم والاعياد والافراح من كلي وجزئي، لأن المقاطعات كانت تعطى قبلا الى ملتزمين تحت بدلات معلومة، كما كان جاريا في مصر قبل حكومة محمد علي باشا... وأوهم الفلاحين حين أن قصد الحكومة من ذلك ابطال ما كان من تلك الاشياء ظلما فترفعه عنهم، وتحت هذا الظن والامل كان الفلاحون يقررون عن كل شي حتى عن ثمن حلوة حصان أو عن ربطة شعر ماعز يكون قدمها أحدهم للمتلزمين في احدى السنين ، ليصلح بها غربالا أو ليعملها عقالا لدابة من دوابه، ثم بعد ان يقيد هذا الباشكاتب كل هذه الاشياء بثمنها، ويرسخ مقدار مجموعها بتمامه مالا راتبا على كل تلك القرية، يتحصل منها كباقي الاموال الاميرية في كل سنة"ز
وقال ايضا مشيرا الى ما تقدم:
"وندم الفلاحون غاية الندم على تقاريرهم اذ ما كان اخذه منهم المتلزم مرة في العمر مثلا ترتب عليهم مالا سنويا، وحزن الملتكمون على ما خسروه من سعة العيش ولذة السلطة والنفوذ في المقاطعات التي سلبت من أياديهم"ز
ومما زاد من تعاسة الفلاحين وعجل في فقدان أملاكهم ، هو أن العسر كان يدفعهم الى الاستدانة من مرابين قساة القلوب، وبيع محصولاتهم مقدما بنصف قيمتها الحقيقية، فاذا أمحل الموسم أو لم يكف ثمنه لتسديد مطلوب المرابي، يمدد أجل الدين مضافا اليه الربا الفاحش، وينتهي الامر باضطرار الفلاح الى بيع أملاكه لاجل تسديد ديونه.
السخرة
وزاد الاهلين ضنكا تسخيرهم وتسخير حيوانات النقل لاشغال الحكومة ، فمن امثلة ذلك ما رواه نوفل نوفل ايضا حيث قال:
" فلا يقدر أحد من أية رتبة كانت من الاهالي في المدن فضلا عن القرى ان يحمي دابته ويحافظ عليها ولو جعل معلفها داخل داره، فان الضابط المسحى بالتفكجي له سلطان ان يخلع الابواب ويكسر الاقفال، ويفوت هاجما الى الدار ويجرها قهرا جبرا ويركبها لاي عسكري او ضابط اراده، ويكون صاحبها مجبورا بان يستأجر لها رجلا يرسله معها لاجل عليقها وليحضرها له عند انتهاء عملها، والا لا دعوى له اذا ضاعت عليه، وفي اكثر ايام السنة كان يمتنع الفلاحون عن النزول الى المدينة، لانه لا يمكن ان ينزل اليها الفلاح الا ويتسخر هو ودابته او هو وحده ودابته وحدها، فيجره الضابط الى حيث اراد، واذا تعند معه أصابه من الضرب الأليم والعذاب المفرط ما يجعله ان يخضع لارادته رغما عن انفه".
وكانوا يرسلون البنائين الى عكا وقولاق بوغاز وغيرها من الاماكن التي تبعد عن أوطانهم مسيرة يوم أو أيام، ويكرهونهم على العمل بربع الأجرة. ومن مظالم السخرة انهم كانوا يكلفون المكارين نقل الفحم الحجري من معدن قرنايل باجرة زهيدة، وبما ان الفحم المحفور حديثا تكون فيه رطوبة تتبخر عن تعرضه للشمس والهواء في اثناء نقله مسيرة ساعات عديدة فيجف وينقص وزنه، فكانوا يلزمون المكارين بدفع ثمن الفرق في الوزن الناشئ عن فعل الطبيعة، فيفقدون اكثر اجرتهم او كلها ظلما وعدوانا.
ومن فظائع البلص والتسخير هي ان الحكومة عملت بالمثل المشهور فكانت تكيل بمكيالين وتزن بميزانين، فتأخذ بمكيال او ميزان يزيد على الميكال او الميزان الذي تعطى به والذي فرضت التعامل به بين الناس كما بينا قبلا في الكلام عن الضرائب.
ولم يقتصر حيف الحكومة على الملاكين او المكارين بل شمل افقر الطبقات وهي طبقة العامل الفقير الذي يأكل خبزه بعرق جبينه ويعول ذويه من اجرته اليومية. فمن هؤلاء من كان يستخدم في قطع الاشجار في الغابات، فاذا قطع شجرة ووجدت لاي سبب من الاسباب غير صالحة للغرض الذي تطلبه الحكومة يحرم اجرته. نعم ان الحكومة كانت تترك له حرية التصرف في الشجرة التي تمسك عنه اجرة قطعها، غير أن بعد الغابات عن المدن كان يحون دون الانتفاع بها.
ومن المظالم التي ذكرها نوفل نوفل بعد ان عدد اضرار السخرة ما يلي قال:
"والأعظم من ذلك جميعه اخراج الناس من بيوتها لاجل اسكان العساكر التي لا تفتر من الجولان في البلاد وخاصة مدن الساحل فلا يرثون لانين شاكي ولا يرحمون دمعة باكي، فترى النساء والارامل فضلا عن المتزوجات من المسلمين والنصارى دايرات في الاسواق يتوقعن مأوى يأوين اليه، وقد يتفق البعض منهم أنهم بعد مقاساة العناء يجدون محلا، لكنهم لا يستقرون فيه برهة الا وتأتي العساكر وتخرجهن منه، أيضا ولا يعفى من ذلك احد لا كبير ولا صغير الا من كان ذا رتبة معروفة بين خدام الميري".
"وكثيرا ما تتعطل المساجد والمدارس لتجعل عنابر لوضع الذخائر والمهما". وقد ذكر نوفل نوفل حوادث من هذا النوع منها ما حدث في دمشق فانهم "أخذوا جملة جوامع ومدارس نزلوا بها عساكر مثل الجامع الذي في الخياطين والمدرسة التي بلصق بين عبد الله باشا والمدرسة التي قاطع حبس باب البريد والجامعة الذي بالدرويشية وجامع المعلق".
التلاعب بأسعار العملة
ومن مساوئ حكومة محمد علي في سوريا التلاعب بأسعار العملة تلاعبا يعود بالخسارة على عموم الأهلين فتربح خزينتها ما خسره أهل البلاد، وذلك أنها تخفض أسعار العملة عندما تشرع في تحصيل الضرائب، فاذا انتهى جمع الضرائب عادت الى رفع أسعارها، وهذه المعاملة شبيهة بما ذكرناه قبلا عن الكيل بمكيالين والوزن بميزانين.
التجنيد
كان السوريون ينفرون من التجنيد اشد النفور، لانهم لم يألفوه ، وان كانوا قد الفوا الحروب. فالحروب التي كانوا يشتركون فيها قبلا كانت تقع في داخل البلاد، وكان المحارب لا يغيب عن أهله وبلدته الا اياما معدمودة ويسير الى الحرب مع اخوانه ومواطنيه جنبا الى جنب وتحت راية زعيم يعطف عليه، وتجمع به جامعة المبدا والمصلحة والوطن. أما التجنيد الاجباري في جيش ابراهيم باشا فكان خاليا من كل هذه المزايا، ولم يكن له شريعة خاصة ولا نظام معروف ولا وقت معين. وكانت طريقة تنفيذه فظيعة، اجمع على استنكارها جميع المعاصرين حتى ان كلوت بك وهو من كبار رجال حكومة محمد علي ومن الحائزين على ثقته لم يسعه الا الاعتراف بانها كانت طريقة هجمية، وان كل ما رواه الرحالون عن فظاعتها مطابق للواقع.
وقال نوفل نوفل عن التجنيد انه "لم يكن له وقت ولا نظام مخصوص ولا على اصول القرعة الشرعية، بل في اي وقت صدرت به الارادة، يدور العساكر في المدن والقرى للقبض على اي من وجدوه، واذا وشى باحد انه مختبئ في احد البيوت، تهجم العساكر وتدخل الى ذلك البيت فجاة للبحث عنه، فتصبح اسواق المدن ودكاكينها خالية وتتعطل حوانيت البيع والشراء، ويهرب الشبان منها ، ويمتنع الفلاحون واهل القرية عن المجئ اليها وكثيرون من الناس كانوا يقطعون السبابة، وهو الاصبح الذي يلي الابهام من الكف اليمين او يقلعون العين الشمال ليخلصوا من الدخول الى هذه الخدمة".
وروى بوجولا ما خلاصته: "كان ثاني يوم وصولنا الى حمص يوم سوق، ففتحوا ابواب المدينة مبكرين ليمكنوا الفلاحين من الدخول وبيع حاصلات أراضيهم. فنحو الساعة العاشرة صباحا بينما كانت مدينة حمص غاصة بالناس، حركة السوق على اشدها، وكان الباعة والمشترون قائمين باعمالهم بسلام، أقفلت ابواب المدينة اقفالا محكما، وانقض فجاة على الجمهور نصف الاي من الجنود المشاة، فساد الاضطراب الشديد مدينة حمص باسرها، كانما هجمها عدو لدود. فقبض الجنود على الشيوخ والشبان من مسلمين ومسيحين سواء أكان من التجار او الصناع او العمال، وقادوهم جميعا مشدودي الوثاق، يتبعهم عدد عديد من النساء والبنات يملأ صراخهم ونواحهن الفضاء، وهن يقرعن صدروهم ويلطمن وجوههن حزنا على أبنائهن واخوتهم وآبائهن الذين اقتادهم الجنود كرها بدون ان يترك لهم فرصة لمشاهدة مسقط راسهم او التزود بنظرة من ذويهم.
أما المقبوض عليهم، فسيقوا الى دار احدى الثكنات العسكرية، وهناك جرى فرزهم، فأخلي سبيل المسيحيين والشيوخ من المسلمين، وسبق الباقون الى مصر كما يساق الجناة تخفرهم فرقة من الجند ويرافهم اليأس من الرجوع الى أوطانهم، لانهم سيبقون جنودا مدى الحياة.
وهكذا كان كلما شاء محمد علي زيادة قوة جيشه، يغتنم فرصة حلول عيد أو اقامة سوق بيع وشراء او اذا اقتضت الحال بجمع الناس لحفلة دينية، ويحيط المجتمعين بفرقة من الجنود الذين يعتمد عليهم فيقومون بالمهمة التي انتدبوا لها بالصورة التي سبق وصفها".
نزع السلاح
ان السلام آلة شديدة الضرر بالأهلين ونزعه من أيديهم بعد قيام الحكومة بحفظ الامن واقرار السكينة في البلاد أمر لا غبار عليه، على أنه في كل حال أحدث استياء عظيم بين السوريين، لأنهم اعتادوا نقل السلاح واستعماله منذ أجيال، وكان الزعماء يفاخرون بالتفاف رجالهم حولهم وخم شاكو السلاح.
فالسلاح كان احد مظاهر القوة والعظمة التي عز على السوريين فقدها. غير أن تجريد الأهلين منه له ما يبرره، انما الخطة التي اتبعت في التنفيذ كانت جائرة، وكان فيها من القسوة والترويع ما في جميع اجراءات حكومة محمد علي في التجنيد وجمع الضرائب وغيرها. وكانت تعتبر كل رجل مسلحا ولو كان ممن لم يقتنوا السلاح مطلقا، وتكرهه على تسليمها سلاحا يضطر الى مشتراه لينجو من ضغط الحكام.
انشاء الخمارات
اجازت حكومة محمد علي انشاء الخمارات وحصرت فيها حق بيع الخمور للأفراد ولأصحاب المقاهي. فكان من ذلك اباحة شرب الخمر جهارا لأي شاء حتى المسلمين، وقد غالب بعض الجهال بالجهر في استعمال الخمر، وفي اثناء احدى الزينات التي اقيمت في دمشق ركب رجل مسلم جملا ووضع علي جانب "مسودتين" من العرق وسار في موكب عظيم متنقلا في احياء المدينة، وكان الرجل يتناول العرق من حين الى آخر وهو على ظهر الجمل على مرأى من ألوف من المسلمين، الذين كادوا يتميزون غيظا مما شاهدوا.
فانشاء الخمارات أثار في نفوس المسلمين ثائر الغيرة الدينية، كما أنه حرم عددا كبيرا من المسيحيين الأرباح التي كانوا يصيبونها من المتاجرة به، واستولت الحكومة على ما كان مخزونا عندهم من العرق والنبيذ لأجل البيع، ولم تدفع لهم سوى ربع ثمنه، كما انها استولت على الآلات المستعملة لصنع الخمور وعلى المواعين المعدة لحفظ الخمر في بيوت النصارى واليهود. وهكذا أوجب انشاء الخمارات استياء جميع الطوائف السورية.
الثورات على حكومة محمد علي
ان مظالم حكومة محمد علي التي روينا أخبارها في الفصل السابق اذت المسلمين في شعورهم الديني، وأثقلت كاهل الشعب على اختلاف مذاهبه وطبقاته بالضرائب حتى ان الأغنياء حملوا منها فوق طاقتهم وشاركت الملاكين والصناع العمال في أتعابهم، وشردت رجال البلاد في الآفاق اما بسوقهم الى الخدمة العسكرية في البلدان البعيدة سوق الجناة أو للسخرية في الأشغال الأميرية بأجور زهيدة أو بإلجائهم الى الفرار الى حيث لا تصل يدها اليهم، فخلت الحقوق من زارعيها ، وارتفعت أجور العمال الباقين ارتفاعا فاحشا، تعذر معها على ذوي الأملاك استثمار أملاكهم، وتقهقرت تجارة البلاد التي كانت في أول عهد الحكومة قد أخذت في الانتعاش، واستعملت من ضروب القسوة في جميع اجراءاتها ما أوغار الصدور وأحرج السوريين كافة احراجا لم يبق وراءه سوى انفجار بركان الاحقاد وشبوب نار الثورات في البلاد.
ورغما عن الاسباب التي حالت دون اجتماع كلمة السوريين على القيام بالثورة دفعة واحدة، فان نيران الثورات التي بدأ شبوبها سنة 1834 ما برحت متنقلة من فلسطين الى جبال العلويين فشمالي سوريا فحوران فلبنان، ولم ينته الا بانتهاء حكم محمد علي في سوريا.
فكان ما فقد محمد علي من جيشه في محاربة السوريين بسبب تنفيذ قانون التجنيد أكثر بكثير من عدد الذين تمكن من تجنيدهم وما استولى عليه من أموال السوريين بحق أو بغير حق أنفق أضاعفه في محاولة اخضاعهم، وجميع التدابير التي قام بها لاضعاف قوتهم ولد في نفوسهم من الغيظ والغيرة على حقوقهم والمحافظة على كرامتهم وكيانهم ما يزيد على القوى التي سلبها منهم. كما أن أعداء محمد علي من عثمانيين واوروبيين استثمروا هياج أفكار السوريين، فأيدوا الثائرين حتى انتهى الأمر بخروج ابراهيم باشا بجنوده وسائر رجال حكومة محمد علي من سوريا كما سنرى.
ثورة فلسطين من نيسان (إبريل) إلى أيلول (سبتمبر) 1834
ان أوامر محمد علي القاضية باحتكار تجارة الحرير وتحصيل الفردة ونزع السلاح واجراء التجنيد وصلت الى ابراهيم باشا وهو أركان حربه في مدينة يافا، فبادر الى اذاعة هذه الأوامر في البلاد السورية التي قامت وقعدت لهذا الحادث العظيم، وكان أول ظهور بوادر الاستياء والاضطراب بين القبائل العربية النازلة في جوار البحر الميت التي لم تخضع في عهد الحكومة العثمانية لأي نوع من التكاليف التي فرضها عليهم محمد علي، فلم يكن زعماء جبل نابلس كأل طوقان وأل الجرار أقل استياء منهم، لأن زمام حكومة بلادهم كان بيدهم في عهد حكومة العثمانيين، فنزعه ابراهيم باشا منهم، وقل مثل ذلك عن آل أبي غوش أصحاب قرية العنب الواقعة ما بين القدس ويافا، فان حكومة محمد علي حالت ما بينهم وبين ما كانوا يبتزونه من الحجاج الى بيت القدس. فدارت المفاوضة ما بين هؤلاء وغيرهم من زعماء فلسطين لاجل توحيد الكلمة على رفض مطاليب الحكومة.
اتصل خبر هذه الحركة بابراهيم باشا فاسرع في الذهاب الى القدس مع جيشه، فوصلها في اليوم التالي، وخيم تحت أسوارها. وعلى أثر وصوله دعا الحكام وشيوخ القبائل المجاورة للاجتماع في نيسان (أبريل) سنة 1834، فسرعة زحف ابراهيم باشا أوقفت حركة دعاة الفتنة، وأدخلت الخوف على قلوب الزعماء، اذ لم يترك لهم متسعا من الوقت لتوحيد كلمتهم والتفاهم على الخطة التي يتخذونها لمقاومته، فأكثر المدعوين لبوا الدعوى، فبلغم ارادة والده وطلب منهم اجابته عما اذا كانوا مستعدين لتنفيذها، فأجابوا بالايجاب اذ لم يروا مفرا من ذلك بازاء قوة ابراهيم القاهرة، غير أنهم حاولوا أن يستبدلوا التجنيد بتعويض مالي أي بزيادة الضرائب، كما أنهم توسلوا اليه ان يعفيهم من تسليم السلاح، غير ان ابراهيم باشا لم يحد قيد شعرة عن أوامر والده، وأبلغ الشيوخ أنه ليس الا وسيطا بينهم وبين العزيز، فقبلوا مطالبه كارهين، لكنهم أخبروه أن لابد لهم من المداولة مع الذين أنتدبوهم، ورجوا منه ألا يعتبرهم مسئولين شخصيا اذا لم يفلحوا في اقناع قومهم بقبول ما جرى الاتفاق عليه بينه وبينهم أما ما وقع الاتفاق عليه من حيث التجنيد، فهوأن يقدموا رجلا واحدا للجندية من كل اثني عشر رجلا، وعين رؤساء لمشايخهم، الشيخين قاسم الأحمد وحسين عبد الهادي من كبار زعماء جبل نابلس، وأبقاهما بصفة رهائن عنده ، وجهل ابن قاسم الاحمد متسلما على القدس.
وبعد انتهاء الاجتماع عاد ابراهيم باشا الى يافا لينتظر فيها ورود الأخبار والنجدات من مصر. أما باقي المشايخ فتفرقوا في البلاد لدعوة الأهلين الى التجنيد حسبما اتفقوا عليه مع ابراهيم باشا، لكن قلوبهم كانت ممتلئة حقدا عليه. وكانت الحكومة العثمانية في أثناء ذلك تدس الدسائس في سوريا لحكومة محمد علي، فذاع في طول البلاد وعرضها خبر مؤاده ان الدولة العثمانية قد حشدت جيشا جرارا في سيواس ، وعهدت بقيادته الى محمد رشيد باشا الذي كان قد أسره ابراهيم باشا في موقعة قونية، وأنها تتأهلب للزحف على سوريا لأجل استرجاعها.
وكان العدد الأكبر من الجنود المصرية قد عاد الى القطر المصري ، أما الجنود التي كانت لا تزال باقية في سوريا فكانت مفرقة في المدن المختلفة. فهذه الاشاعة لقيت أذانا صاغية من السوريين الذين أصبحوا ناقمين على حكومة محمد علي، وشددت عزائمهم على مقاومة مطاليبه، فعاد العربان الضاربون بجوار البحر الميت الى الانتفاض، وتبعهم أهل جبل نابلس الأشداء وفر الشيخ قاسم الاحمد من معتقله في يافا الى نابلس، وتولى قيادة الثوار هناك وأرسل جماعة الى القدس فأحضرت ولده الذي كان متسلما عليها.
وانضم الى الثوار آل أبي غوش انتقاما من الحكومة لأنها سجنت والدهم وكبير قومهم في عكا لابتزازه أموال الحجاج الى بيت المقدس، وكان لانضمام هؤلاء الى الثوار تأثير عظيم لشدة بأسهم وزعامتهم في البلاد الواقعة ما بين القدس ويافا، فتحرج مركز الحامية المرابطة في القدس التي كان يبلغ عدد رجالها نحو ألف مقاتل، فعزم قائدها على الانسحاب منها الى يافا، فاعترضها آل أبي غوش برجالهم وهاجموهم بشدة وقتلوا منها نحو خمسين جنديا، وشتتوا شمل الباقين ، فاضطر القائد الى الرجوع الى القدس مع الجنود التي تسنى له جمع شتاتها ودخل بهم القلعة واعتصم بها. فلما اتصل الخبر بابراهيم باشا وجه آلايا من جيشه بقيادة الميرالاي حسن بك لرفع الحصار عن حامية القدس، فتصدى له آل أبي غوش أيضا، ونشبت بينهم معركة ادمية قتل فيها حسن بك ونحو ثلاثين جنديا، وأكره الباقون على الرجوع الى يافا.
وكان الثوار في أثناء ذلك قد هاجموا حامية الخليل المؤلفة من مايتي جندي وذبحوهم، وحضرت جموع غفيرة لمهاجمة القدس فانسل بعضهم الى جهة باب داود، وقتلوا الحرس وفتحوا الباب، فدخل الثوار منه واشتد القتال بينهم وبين الحامية المحاصرة في القلعة، ونهبو دكاكين البلد وبعض بيوت اليهود..وكانت حينئذ قد وصلت الامدادات من مصر فنهض ابراهيم باشا من يافا في 4 حزيران (يونيه) سنة 1834 ومعه سليمان باشا الفرنساوي يقودان ستة آلاف مقاتل، فلما بلغوا قرية العنب بلدة آل أبي غوش الواقعة على مسيرة نحو ثلاث ساعات من القدس، اشتبكوا مع الثوار في موقعة دامية استمرت من الظهر الى العشاء دون أن يفوزوا منم بطائل ، فباتوا ليلتهم هناك.
وفي الصباح تجدد القتال فأبلى الفريقان أحسن بلاء، وأخيرا تغلب ابراهيم باشا على الثائرين، وفتح طريقه الى القدس، فوصلها في اليوم الثالث بعد قيامه من يافا، وفرق جموع الثائرين الذين كانوا قد دخلوها. وعلم أن مسلمي القدس ساعدوا الثائرين، وأن الذين قاموا بالمساعدة قد فروا مع الثوار، فأباح لجنوده نهب منازلهم، ونهبت في أثناء ذلك بعض اليهود خطأ لقربها من منازل المسلمين. غير أنه وجد موقفه في القدس محرجا بازاء الثوار الذين كانوا يحيطون به من كل جانب، فالنابلسيون كانوا يهاجمونه من جهة، وعربان البحر الميت من جهة أخرى، ومواصلاته مع يافا مقطوعة لاعتراض آل أبي غوش في الطريق. فحصلت بين ابراهيم باشا والثوار ثلاث وقائع، كان النصر فيها لابراهيم باشا، لكنه فقد في احداها قائدا من رجال برتبة لواء ، غير أن قوة الثائرين لم يصبها وهن وهممهم لم تفتر عن القتال.
الثورة في صفد
كان المسلمون في صفد ممن لبى دعوة الثورة، فشقوا عصا الطاعة على حكومة محمد علي في أواسط حزيران (يونيه) سنة 1834، وهاجموا مواطنيهم اليهود ونهبوا أموالهم وقتلوا بعضهم. وكان الأمير أمين ابن الأمير بشير حاكم جبل لبنان قد حضر الى يافا موفدا من والده، لأجل السلام على محمد علي، ولتأكيد اخلاصه له، فأمره العزيز أن يبلغ والده أن يسير برجاله الى بلاد صفد ويؤدب ثوارها، فبارح الأمير بشير بيت الدين قاصدا الى صفد في 28 حزيران (يونيه) سنة 1834، ولما اتصل بأهل صفد خبر قدومه، وأوفد الشيخ صالح قاضي ترشيحا لملاقاته، وعرض طاعتهم عليه، فقبل الامير منه ذلك، وطلب أن يوافقه مشايخ بلاد صفد الى قرية بنت جبيل، فامتثيل المشياخ للأمير وقدموا طاعتهم له فطيب خواطرهم، وأمرهم باعادة ما سلب من اليهود فوعدوا باعداته. ثم سير الأمير أفندي شهاب حاكما راشيا الى صفد ومعه عسكر ليتسلم قلعتها، ويحصل أموال اليهود المسلوبة. أما هو فتقدم الى الصفصافة، ومنها ذهب الى صفد وقبض على أكثر الذين سلبوا أموال اليهود، وارسلهم الى سجن عكا وبذلك انتهت ثورة الصفديين.
الثورة في نابلس
ان سياسة التفريق التي اتبعها ابراهيم باشا مع زعماء فلسطين استمالت اليه آل آبي غوش وآل عبد الهادي، فأمن على خط مواصلاته ما بين يافا وداخلية فلسطين، وضاق نطاق الثورة فبر بالوعد لأبناء أبي غوش بأن أخلي سبيل والدهم الذي كان سجينا في عكا، وجعل الابن الاكبر زعيما لقومه والابن الثاني متسلما على القدس، وجعل الشيخ حسين عبد الهادي من رجاله المقربين.
أما الشيخ قاسم الأحمد فرغما عن انفصال أبناء أبي غوش واتباعهم عنه، لم يزدد إلا إصرارا على مقاومة ابراهيم باشا فحشد رجاله في بلده تدعى الدير، وزحف ابراهيم باشا للقائه، ونزل بجيشه في قرية زيتا قبالة قرية الدير المار ذكرها، فاشتباك الجيشان في قتال عنيف، كان فيه النصر لابراهيم باشا، وقتل من النابلسيين نحو سبعمائة رجل، وأخذ منهم عددا كبيرا ما الأسرى. ومن زيتا تقدم الى غيرها من قرى نابلس، فكان يؤمن من يطلب الأمان، ويحرق القرى التي يفر أهلها من وجهه، ولما اقترب من بلدة نابلس خرج أهلها لملاقاته طالبين الأمان، فأجاب طلبهم ونزل على ماء خارج البلدة، وأخذ يقبض على من تصل اليه يده من الذين اشتركوا في حركة الانتفاض ويقتلهم. وكان بين الذين قبض عليهم وقتلهم الشيخ مسعود الماضي وولده. أما المشايخ قاسم الأحمد وعيسى البرقاوي وعبد الله الجرار من زعماء الثوار وغيرهم من الزعماء والأتباع الذين ظلوا مصرين على المقاومة ففروا إلى الخليل.
وكان ابراهيم باشا في أثناء مروره في قرى نابلس يجمع مال الفريضة، ويجرد الأهالي من السلاح، وينشر راية الأمن فيها. فلمافرغ من ذلك توجه الى القدس في أول آب (أغسطس) سنة 1824 م ومنها تقدم بجيوشه إلى الخليل. ولما إطمأن محمد علي الى نجاح جنهود في اخماد ثورة فلسطين عاد الى الاسكندرية فوصلها في 22 ربيع أول سنة 1259 هـ = 29 تموز (يوليه) سنة 1834 م.
الثورة في الخليل
تقدم ابراهيم باشا لمهاجمة الخليل في 14 آب (أغسطس)، وكان الثوار متربصين في الطريق على مسيرة نحو ساعتين من المدينة، فدعاهم ثلاث مرات الى التسليم فرفضوا، وفي اليوم التالي زحف لمقاتلهم فاصطلت نار القتال مدة ثلاث ساعات، استبسل الفريقان في أثنائها في الهجوم والدفاع، فانكسر الثوار وارتدوا الى المدينة ودام النهب والسلب والقتل نهارا كاملا، فكان ما نهب من الاموال والارزاق شيئا لا يحصى، وكان عدد القتلى نحو ستمائة، ومثل ذلك عدد الاسرى وقبض على مائة وعشرين ولدا من ابن ثماني سنين الى ابن اثنتي عشرة سنة، فادخلوا الى الجيش ولم يبق في الخليل سوى المسنين واصحاب العاهات، أما زعماء الثوار ففروا من الخليل الى السلط والكرك. فاقام ابراهيم باشا سليمان باشا الفرنساوي على ادارة الخليل، وتولى بنفسه تعقب الثائرين الى الكرك.
الثورة في الكرك والسلط
كان الحر شديدا حينما تقدم ابراهيم باشا الى الكرك، فقاسى جنوده الشدائد من الحر والعطش، وسقط نحو ثلاثمائة منهم متأثرين من ضربة شمس حتى اضطر عند وصوله الى بلدة الغور الى الاقامة فيها يومين ريثما انعتشت جنوده، ثم استأنف السير نحو الكرك، ولما أقبل عليها خرج أهلها المسيحيون للقائه مستأمنين فأمنهم وأمهلهم ثلاث ساعات ليخرجوا من البلدة وينقلوا منها ما يشاءون، وبعد ذلك استباح جنده ما بقى في البلدة من رجال وأموال قتلا ونهبا ودمروا بيوتها تدميرا.
أما الثوار فاعتصموا في قلعة الكرك، ولم تكن مدفعية الجيش قد وصلت لتسلط نيرانها عليهم، كما أن اقدام ابراهيم باشا وما كان يجيش في صدره من حب الانتقام من الزعيم قاسم الأحمد ورفقائه حجبا الصواب عن بصيرته، فرمى القلعة بفرقة الفرسان محاولا فتحها عنوة، فأدت هذه الغلطة الشنيعة الى اصابة المهاجمين بخسائر جسيمة كان في جملتها أميرالاي وقائمقام وبكباشي وهم الذين تعاقبوا في قيادة الفرقة الى الموت الاكيد.
ورغما عن الاستبسال في الهجوم كان الاخفاق تاما، وراعت ابراهيم باشا كثرة الاصابات، فأمر جنوده بالانسحاب وانتظر وصول المدفعية ليستأنف القتال، فاغتنم قاسم الاحمد واعوانه هذه الفرصة وانسحبوا برجالهم ليلا من القلعة بدون ان يشعر ابراهيم باشا بذلك وتوجهوا نحو السلط. ولما وصلت المدفعية الى الكرك سلطت نيرانها على القلعة، لكن لم تبد في القلعة أية حركة ولا خرج منه أي طلق ناري، وكانت المدافع قد فتحت ثغرة في جدارها، فدخل الجنود منها فلم يجدوا فيها احدا غير أنهم وجدوا مؤنا وذخائر كثيرة.
فبعد أن أعطى ابراهيم باشا جنوده نصيبا من الراحة، تعقبت العصاة الى السلط حيث كانوا ينوون المقاومة، غير أن أهل السلط لم يوافقوهم على ذلك، وحالما حضر ابراهيم باشا تقدموا للقائه مستأمنين. أما الشيخ قاسم الاحمد وغيره من الزعماء، فانفصلوا عن رجالهم، وجدوا السير نحو البادية ونزلوا على عرب عنزة، وهم يظنون أنهم وصلوا الى ملجأ أمين. فلما اتصال ابراهيم باشا ان زعماء الثائرين قد لجأوا الى قبائل العرب، انتقل بجيشه على المزيريب، ووزع رسله بين العربان، وكتب الى مشايخهم يطلب منهم القبض على زعماء الثوار وتسليمهم، معددا من يكتم أمرهم عنه بالعقاب الشديد. وكانت سطوة ابراهيم باشا قد ألقت الرعب في قلوب القبائل العربية، فبادر ابن الدوخي شيخ عرب عنزة الى القبض على الزعماء الذين لجأوا اليه واتفق قدوم خيالة من جيش ابراهيم باشا، فتسلموهم وذهب هو ايضا معهم الى ان أوصلهم الى ابراهيم باشا، فقتل بعضهم في دمشق والبعض الآخر في عكا.
الاضطراب في الشام
أيار (مايو ) سنة 1834
بعدما أذاع ابراهيم باشا أوامر والده عن التجنيد وغيره من تكاليف، اتخذ شريف باشا التدابير اللازمة لتجنيد الدمشقيين، فاستعدى مشايخ الحارات سرا وأخبرهم عن عزمه على اجراء التجنيد طبقا لأوامر العزيز، وأن الجنود ستوزع في المدينة حتى اذا ما اصبح صباح 10 آيار (مايو) تكون الجنود مرابطة أمام البيوت، وكل رجل يخرج منها تقبض عليه وترسله الى الثكنة العسكرية ليفحصه الحكماء، ويدخلوه في سلك الجندية، اذا وجد لائقا لها.
وفي اليوم المذكور نفذت هذه التدابير فبلغ عدد الذين تقرر تجنيدهم سبعمائة رجل عدا بعض الاغنياء الذين قبلت منهم بدلات مالية. وكان يوم التجنيد يوم حزن واضطراب افكار عظيم، كثر فيه عويل النساء وبكاؤهم حزنا على المجندين من ذويهم، وفر عدد كبير منهم الى الجبال والبراري، بعضهم أبعد في فراره الى بغداد والى ما بين قبائل البادية، وعلى اثر ذلك اتصل باهل دمشق خبر نشوب الثورة في جبل نابلس، وان الثوار قد بطشوا بعساكر ابراهيم باشا والجنود بالشر ويتأمرون للايقاع بهم. فوقف ابراهيم باشا عن مواصلة التجنيد ، واكتفى بالذين كان قد جندهم في 10 أيار (مايو)، وكانت لديه قوة عسكرية تبلغ نحو أربعة آلاف جندي، فاحتاط لحفظ الامن في المدينة، وجعل العسكار تطوف ليلا ونهار وشدد في مراقبة مثيري الفتن وقتل أحدهم المدعو ابن سقا أميني لطعنه في الحكومة وهكذا حال دون وقوع فتنة في الشام.
وكان شريف باشا قد جمع الاسلحة النارية والسيوف من دمشق، فبلغ عدد البنادق التي جمعها نحو أربعة آلاف وخمسمائة بندقية فاكتفى بها. لكن بعد اخماد ثورة نابلس حضر ابراهيم باشا الى دمشق بعسكره، واطلع على عدد البنادق المجموعة، فلم يرض به بل أوجب على الدمشقيين ان يقدموا من البنادق ما يساوي عدد دافعي الفريضة، بل كل بعض الاعيان ان يقدم الواحد منهم من خمس الى عشر بنادق.
الاضطراب في طرابلس
حزيران وتموز (يوليه ويونيه) سنة 1834
وظهرت بوادر الثورة في طرابلس ، فتآمر أهلها بحاميتها المؤلفة من نحو أربعمائة جندي وبمن في المدينة من المسيحيين، فانسحب الجنود الى الميناء وتحصنوا فيها، ولجأ وجوه المسيحيين الى جبل لبنان، كما أن مصطفى أغا بربر متسلم طرابلس السابق الذي كان حينئذ معزولا عن منصبه قاوم مريدي الثورة، واتخذ له حزبا من اهل المدينة، فحالوا دون حدوث الفتنة.
واتصل خبر هياج الافكار في طرابلس وبلاد عكار بمحمد علي وهو في يافا، فأرسل أمرا الى الامير بشير بأن يوجه ولده الامير خليل بألف مقاتل الى طرابلس ليتحد مع سليم بك في تأديب الثائرين، فبارح الامير خليل ورجاله الجبل الى طرابلس في 9 ربيع الأول سنة 1259 هـ = 3 تموز (يوليه) سنة 1834 م، ولما اجتمع بسليم بك ألقوا القبض على خمسة وعشرين رجلا من الجانحين الى الفتنة، بينهم ثمانية من أعيان المدينة وسجنوهم جميعا في القلعة. ولما انتقل ابراهيم باشا الى دمشق بعدما أخدمد ثورة فلسطين، أرسل أوامره الى الجهات التي ظهرت فيها الفتن وشدد بوجوب معاقبة العصاة، فعوقب الطرابلسيون بقتل ثلاثة عشر رجلا من أعيانهم، وبقيت جثثهم ملقاة في الشوارع ثلاثة أيام.
الاضطرابات في عكار وصافيتا والحصن
آب وأيلول (أغسطس وسبتمبر) سنة 1834
وثارت الفتن في بلاد عكار وصافيتا والحصن، فتوجه من طرابلس الى بلاد عكار سليم بك بعساكر نظامية والامير خليل شهاب ومعه مائتا خيال من اللبنانيين، فقبضوا على أسعد بك المرعب وأسعد بك الشديد وعلى اثنين من أولاد محمد بك القدور وعلى ثلاثين شخصا من وجوه عكار. ولما وردت أوامر ابراهيم باشا بتشديد معاقبة العاصين، قتلوا بعضهم وأرسلوا عددا منهم الى عكا. ثم طرأ مرض على الامير خليل فعاد الى طرابلس وبعد أن جمع السلاح منها عاد الى بيت الدين في 10 ايلول (سبتمبر) سنة 1834م.
أما سليم بك فتقدم من عكار الى صافيتا وقبض على مصطفى بك الأسعد متسلم عكار وعلى آخرين معه. وقبض ايضا على الشيخ دندش والشيخ خضر متسلمى بلاد الحصن وصافيتا، وأرسلهم جميعا الى قلعة طرابلس وقبض أيضا على محمد أغا بن علي أغا خزندار متسلم طرابلس وعلى مصطفى أغا متسلم اللاذقية، وأرسلهم مع عيالهم الى جزيرة قبرص . وبناء على أمر ابراهيم باشا قتل عبد الله أغا عذرة صاحب قلعة المرقب بمشهد عظيم في سوق اللاذقية لأنه أهان ضابطا من ضباط الجيش المصري.
ثورة النصيرية
من تشرين أول إلى آخر كانون أول (أكتبر-ديسمبر) سنة 1934
ان ثورة النصيرية كانت أهم ثورات سنة 1834 بعد ثورة فلسطين، فقاتلوا الجيش مستبسلين، كما ان بلادهم أصابها من النهب والحرق والتخريب ما لم يصب غيرها مثله. أما اسباب هذه الثورة فهي تلك التي أذكت نار الثورة في سائر البلدان السورية، وكان ابتداؤها ان النصيرية اعترضوا آلايا من الخيالة النظامية كان ذاهبا من اللاذقية واعتدوا على ممتلكات الحكومة والمسيحيين، وحاصروا المتسلم سعيد أغا العينتابي في داره. وكان ابراهيم باشا عائدا حينئذ من كرك الشوك فلما وصل الى المزيريب بلغه خبر هذا الانتفاض، فأصدر أوامره الى امير لواء الامير بشير أن يوجه قوة لبنانية بقيادة أحد أولاده ليشترك مع سليم بك في أعمال التأديب، فنهض الأمير خليل ومعه اللبنانيون من بيت الدين في 20 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1834 وانضم اليهم الامراء الشهابيون فندي وجهجاه وسعد الدين واحمد ومعهم رجال وادي التيم، فوصلوا الى طرابلس ومنها استأنفوا السير الى اللاذقية في 27 جماد الثاني سنة 1259 هـ = 31 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1834م.
وفي 6 رجب زحفوا على بلاد النصرية وخيموا في قرية البهلولية، ففر النصيرية من وجههم تاركين وراءهم مواشيهم وامتعتهم وغلالهم، فعنمتها العساكر وحرقت خمس عشر قري من قراهم وقطعت أشجارها، ثم وجه سليم بك فرقة من عسكره لتخريب غيرها من القرى فصدمها الثوار صدمة شديدة وأكرهوها على الرجوع مضاربها. فأرسل الامير خليل ألف مقاتل من رجاله بقيادة المير جهجاه احد أمراء حاصبيا، فانهزم النصيرية، وحرق العساكر ثلاثين قرية وفي اليوم الثاني نهض الامير خليل ورجاله ومعه الامير افندي شهاب حاكم راشيا والعرب الهنادي وبعض الفرسان المصرية، وتواقعوا مع النصيرية في قرية منبايا، وكانت خسائر الفريقين بالرجال قليلة غير أن النصر كان حليف الجيش الذي حرق قرى عديدة.
ثم انتقلت العساكر الى مقاطعة صهيون وكان سكانها قد اعتصموا في قلعتها وجاءتهم نجدة مؤلفة من نحو ألفي مقاتل من مقاطعة بيت الشلف، فحصلت بينهم وبين العسكر معركة فاز فيها العسكر على الثوار وهزمهم، ثم هاجم القلعة واستولى على ثلاثة من أبراجها، وطلب المحاصرون الباقون الأمان وكان الوقت ليلا فكف العسكر عن قتالهم، فاغتنم المحاصرون الفرصة وانسحبوا من القلعة تحت ستار الليل وهربوا، وعند الصباح دخل العسكر القلعة واستولى على ما فيها. وعلى أثر ذلك حضر أهل مقاطعة ديروس وسلموا، ثم انتقل العسكر الى مقاطعة بيت الشلف وشرعوا في حرق قرية عين التين، فبادر أهلها الى التسليم، وحذا حذوهم أهالي مقاطعة المزيرعة وبيت عمار والجهنا. وقدم الى اللاذقية عثمان الجبور كبير الكلبية وحميدوش كبير بني علي، لاجئين الى القناصل ملتمسين مساعدتهم متعهدين انهم يقدمون سلاح بلادهم.
أما أهل بيت باشوط والسرامطة والقراحلة فامتنعوا عن التسليم ورابطوا على جسر السن الواقع بين بانياس وجيلة، واتفق ان الشيخ حسين السلمان ونحو سبعين خيالا من المتاولة جاءوا قاصدين الانضمام الى العسكر ، فاعترضهم المرابطون على الجسر وقتلوا اثنين منهم واستولوا على بعض خيولهم. وأرسل الامير بشير نجدة مؤلفة من خمسمائة مقاتل مؤلفة من اهل زحلة وبسكنتا، فتصدى لهم الثوار انفسهم عند جسر السن أيضا، وقتلوا منهم ستة وعشرين رجلا من الزحليين وعشرة من البسكنتاويين، فأرسل الامير خليل ثلاثمائة فارس لنجدة اللبنانيين بقيادة الامير سعد الدين والامير احمد الشهابيين، ففر النصيرية من وجههم الى جبل الحمام.
وفي اليوم التالي زحف العسكر على مقاطعاتهم فاعمل فيها النهب والحرق، وفعلوا مثل ذلك في مقاطعة القرادحة التي كان مقدمها عثمان الجبور قد سلم للعسكر، لكن عجز عن تقديم جميع الاسلحة التي وعد بتسليمها، ثم ساروا الى الشعرة وحرقوا نحو خمسين قرية، ونزلوا في قرية الجديدة، وكان ابراهيم باشا قد وصل الى حمص قادما من دمشق، فأبلغه سليم بك امر خضوع الثوار، فأمر الباشا بتفرق العساكر، فاذن للأميرين سعد الدين واحمد الشهابيين بالرجوع الى أوطانهم، وفي أثناء عودتهم حصلت وقائع بينهم وبين النصيرية في وادي العيون ووادي عميق شمالي صافيتا.
أما الامير خليل شهاب، فغادر بلاد النصيرية في 20 شعبان 1250 هـ = 12 كانون أول (ديسمبر) سنة 1834 م عن طريق جبلة فالمرقب فطرطوس فطرابلس، ووصل الى بيت الدين في أول كانون ثاني (يناير) سنة 1835 وتفرق رجاله الى أوطانهم، وبقى سليم بك في بلاد النصيرية مع قسم من عساكره لاكمال جمع السلاح. استتب الأمن بعد ذلك بنوع لم يسبق له مثيل، وانتظم نحو أربعة آلاف رجل من أبناء تلك البلاد في سلك الجيش المصري.
الثورات الصغرى
وعدا الثورات السابق ذكرها حدثت في سنة 1834 اضطرابات أقل منها شأنا في حلب وأنطاجية وبلاد بعلبك وبيروت، اضطرت الحكومة الى استعمال القوة لاجل اخضاعها.
وفي أوائل سنة 1835 حصل انتفاض على حكومة محمد علي في كلس، ولم ينته الا بعد معارك دامية تكبد فيها الفريقان خسائر جسيمة.
وفي سنة 1836 ثار عرب الصفاء، فتوجهت قوة من اللبنانيين بقيادة الأمير مسعود وحفيد الأمير بشير شهاب، فاخضعهم لكن مات من عسكره نحو خمسين رجلا من شدة البرد.
نزع السلاح والتجنيد
بعدما فرغ ابراهيم باشا من اخماد الثورات الكبرى في فلسطين وبلاد الشام وبلاد النصيرية، وما صحب ذلك من نزع سلاح وتجنيد، عمد الى نزع السلاح من إيالتي دمشق وحلب ومن البلاد السهلية، فلم يلاق في أثناء ذلك مشقة تذكر. وعلى اثر ذلك هدأت الأحوال، ولم تبق في البلاد الساحلية بلد لم ينفذ فيها امر التجنيد، ونزع السلاح الا جبل لبنان، على أن اللبنانيين كانوا بمثابة متجندين، لانهم هم الذين اخمدوا ثورة صفد واشتركوا في تسكين الاضطراب في طرابلس وبلاد عكار وجبال النصيرية، كما كانوا قد اشتركوا قبلا في فتح دمشق وموقعة حمص، وقدموا لابراهيم باشا مساعدات جمة ذات قيمة حربية في تموين جيشه، وحفظ خط المواصلات عند زحف الجيش المصري شمالا الى الأناضول بل ان بعضهم حارب في صفوف جيش ابراهيم باشا في الأناضول نفسها، على أن محمد علي لم يطئمن بالا الى اجتماع جميع رجال جبل لبنان في وطنهم، وبقاء سلاحهم في أيديهم، وهم قد اشتهروا بالبسالة ولجبلهم ماله من المناعة، الا أنه أرجأ أمر تجنيدهم الى سنة 1835 لانشغال جيشه في سنة 1834 باخماد الثورات وتسكين الاضطرابات في جهات مختلفة من البلاد السورية.
وبعد اخماد ثورة النصيرية دعا ولده ابراهيم باشا الى العودة إلى مصر في رمضان سنة 1250 هـ = كانون ثان (يناير) سنة 1835م ليستريح من عناء الحروب، ومن الطبيعي أن يكونا قد تباحثا مليا في أثناء ذلك في أمر ادارة البلاد التي استولوا عليها، ومن ضمنها مسألتا نزع سلاح اللبنانيين وتجنيدهم.
نزع سلاح اللبانيين وتجنيد الدروز
أيلول وتشرين أول (سبتمبر وأكتوبر) سنة 1835
فبعد ما عاد ابراهيم باشا من مصر الى عكا، شرع في اتخاذ التدابير لتجنيد اللبنانيين ونزع سلاحهم وتسهيلا لتنفيذ هذه المهمة بتفريق كلمة اللبانيين، أوهم المسيحيين أنهم سيعفون من تسليم السلاح، ففي أوائل أيلول (سبتمبر) سنة 1835 خابر الامير بشير ومشايخ الدروز طالبا من دروز لبنان تقديم مجندين ، فأجاب المشايخ أنهم لا يستطيعون اكراه احد على التجنيد، ثم حضر حنا بك بحري الى بيت الدين لمخابرة الدروز رأسا واقناعهم بتقديم المجندين المطلوبين فلم يفلح عندئذ عمد ابراهيم باشا الى نزع السلاح.
وفي 27 أيلول (سبتمبر) سنة 1835 ورد مرسوم منه على الامير بشير يخبره فيه انه حضر الى زحلة ومنها سيحضر الى بيت الدين لاجل نزع سلاح الدروز، ويأمره بأن يعلن وجوب جمع السلاح واحضاره الى بيت الدين، وأن يحذروا اخفاء أي قطعة سلاح والا أنزل بهم اشد العقاب، فصدع الامير بالأمر. وفي 29 أيلول (سبتمبر) تفرق أولاده وحفدته في المقاطعات اللبنانية لاجل جمع السلاح.
وفي اليوم عينه وصل الى بيت الدين ودير القمر، ابراهيم باشا وابن اخيه عباس باشا وسليمان باشا الفرنساوي وسليم باشا ومحمد باشا يقودون ألوفا من الجنود الزاحفين على لبنان من جهات مختلفة، فثار أهل المتن أولا وامتنعوا عن تسليم سلاحهم، لكن عادوا فخضعوا للقوة القاهرة وسلموها، وكذلك فعل سائر الدروز، وما كاد الدروز يسلمون أكثر سلاحهم حتى انقلب ابراهيم باشا على المسيحيين وأمرهم بأن يبادروا الى تسليم أسلحتهم، زعما أن عدم تسليم سلاح النصارى أدى الى تردد بعض الدروز في تسليم أسلحتهم ونفذ أمره هذا بمنتهى الشدة.
وفي 22 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1835 أذاع الامير بشير بناء على امر ابراهيم باشا مرسوما في جميع المقاطعات بوجوب تقديم ألف وستمائة شاب من الدروز للجندية. لكن عاد ابراهيم باشا فاكتفى بنصف هذا العدد. ويقال ان ابراهيم باشا لم يكن حاسبا ان الدروز يسلمون أسلحتهم ويرتضون بانتظام شبانهم في سلك الجندية بدون مقاومة، بعد أن كان قد سمع ما سمع عنهم من شدة البأس وصعوبة المراس، الا أن حالتهم عندما قدم ابراهيم باشا بعسكره الى لبنان جعلت المقاومة عديمة الجدوى بل غير ممكنة، نظلا لانقسام اللبنانيين على بعضهم، واطاعة حاكمهم أوامر ابراهيم باشا اطاعة تامة، وتغرب اكبر زعماء الدروز وأكثرهم نفوذا وأشدهم بأسا، بينما أكثر الزعماء الذين بقوا في لبنان كانوا موالين للأمير بشير، اما طمعا بمنفعة أو مراعاة للقوة القاهرة.
استنئاف التجنيد سنة 1837
بعد نزع سلاح اللبنانيين وتجنيد دروز لبنان في سنة 1835 سادت السكينة في سوريا حتى سنة 1837. وكانت القبائل الكردية النازلة بقرب الحدود التركية السورية قد ثارت على الحكومة العثمانية، فجردت هذه جيشا لاخضاعهم، وتوسلت بذلك لارسال جنود كثيرة تزيد عما يلزم لاخماد الثورة، بل واصلت ارسال الامدادات بعد ما خضع الثوار، وكانت تزعم أن الثورة انما نشأت في دسائس محمد علي.
وكان قد بلغ محمد علي ان الدولة العثمانية تتأهب للانقضاض على سوريا واسترجاعها، فصدر أمره باجراء تجنيد عام في سوريا استعدادا للمقاومة، فدعا ابراهيم باشا حكام البلاد الى عكا، وفي مقدمتهم شريف باشا وبلغهم وجوب اجراء التجنيد في جميع البلاد الواقعة تحت حكمه بنسبة رجل واحد من كل عشرة رجال، ثم توجه الى شمالي سوريا لمراقبة حركات العدو، وتفرق الحكام الى بلادهم ليشرعوا في التجنيد. وما ذاع الأمر بين الناس حتى تشرد الشبان في البراري والجبال ووقف دولاب الأعمال. كان دروز حوران ممن حاولت الحكومة تجنيدهم، وكانت قبل ذلك قد أذنت لهم باستبقاء سلاحهم واستثنتهم من الخدمة العسكرية، فلما عادت عن قرارها السابق وحاولت تجنيدهم ثاروا عليها.
ثورة دروز حوران
من تشرين ثان (نوفمبر) سنة 1837 إلى آب (أغسطس) سنة 1838
بدأت هذه الثورة في أواخر شهر تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1837 ، وانتهت في النصف الثاني من آب (أغسطس) سنة 1838 بعد وقائع دامية خسر في أثنائها جيش ابراهيم باشا ما لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، بينهم عدد غير يسير من القواد، ولاقى من الاهوال ما لم يلاق مثله في حروبه مع الدولة العثمانية أو في اخماد سائر الثورات في سوريا وغيرها. وحتى تتضح للقارئ الاسباب التي دعت حكومةمحمد علي الى اثارة هذه الفتنة التي كلفتها الضحايا الغالية بدون جدوى، وتنجلي أمامه الاحوال التي مكنت الدروز رغما عن قلة عددهم من البطش بالحملة بعد الحملة واحتال ضغط الجيوش الجرارة تسعة شهور، لابد من ايراد بعض التفاصيل عن موقف المتحاربين.
هجر بعض الدروز مواطن العمران في لبنان وغيره الى بلاد سادت فيها الفوضى وكثر الخراب وهي بلاد حوران، وكانت هجرتهم اما بسبب المشاحنات التي كانت كثيرة الوقوع بين الاسر والاحزاب أو فرارا من نظام حكام ذلك الزمان. فوجدوا في حوران الحرية المطلقة وجودة الهواء والمساكن الرحبة في قراها القديمة المهجورة تحيط بها الاراضي الواسعة الكثيرة الخصبة. غير انهم ما لبثوا ان اضطروا الى أن يستأنفوا في وطنهم الجديد مثل ما كانوا عليه في وطنهم السابق من قتال ونزاع مع جيرانهم أو مع القبائل الرحالة التي اعتادت المرور والرعي في الديار التي نزلوها، هذا فضلا عن تعرهم الدائم لمقاومة غزاة البادية الذين يعيشون على السلب والنهب.
هكذا كان الدروز الذين أمرا حوران حتى عهد ابراهيم باشا – كانوا أحس حرب حنكتهم التجارب وتمرسوا على الحروب في وطنهم القديم، فكان ذلك أفضل ما ادخروه لحفظ كيانهم في وطنهم الجديد، حيث لم تزدد مزاياهم الحربية الا نموا لانهم كانوا على الدوام في حال حرب لا يخرج الواحد منهم من منزله الا وهو شاكي السلاح استعدادا للطوارئ والمفاجات – فتمادى الاحوال على هذا المنوال صير جميع دروز حوران جيشا محاربا فيه الجنود والقواد. فبنوا الحمدان وهم اقدم أسرة درزية نزحت الى حوران على ما نعلم توطدت زعامتهم العامة فيها ونشأت أسر غيرها ذات عصبية قوية وزعامة محلية، فكان أولئك الزعماء قوادا ورجالهم جنودا.
والدروز في الحروب أطوع لقوادهم من البنان، كما ان قوادهم فوق ما امتازوا من البسالة والاقدام عرفوا في حروبهم بسعة الحيلة وحسن الادارة الحربية، وطالما بزوا في ذلك القواد المدربين. وفي الدورز من مزايا الجنود المنظمة سرعة حشد قواتهم والعمل يدا واحدة بدون ارتباك، وهذه المزايا توارثها الخلف عن السلف، غير انها ازدادت ظهورا في دورز حوران لكثرة تعرضهم لغزو الغزاة، واعتيادهم على الغارات، فكانوا اذا جاءتهم اشارة من موقع خطر تندفع مقاتلتهم نحوه من مختلف الجهات، فيوحدون صفوفهم ويقاتلون جنبا الى جنب كأنهم رجل واحد. وهم يفوقون الجنود المنظمة في سرعة حركاتهم ومرونة ترتيباتهم الحربية، وفي صفة الاعتماد على النفس الضعيفة في أولئك الجنود. فهذه المزايا كانت تجعل لهم اليد العليا في الكر والفر وتجعلهم أقل عرضة للخسائر الجسيمة والنكبات عند تكاثر جموع الاعداء.
ومن مزاياهم الصبر على الشدائد وتحمل المشقات لصحة ابدانهم وقوة إيمانهم وخشونة معيشتهم واعمالهم الجسدية واتقانهم استعمال الاسلحة المختلفة، كالسيف والرمح والاسلحة النارية وفي ذلك يقول أحدهم مفتخرا:
حنا بني معروف نحمي الجار ولو جار تهوى المزند فتيلك ما نداريه وسيوفنا الحدب تبرى كل زنار وسلاحنا لو صدى بالدم نجليه بارودتي فلنتا ومزنره بسوار حالفه رصاصها عالأرض ما ترميه
وفوق هذه المزايا قد استفادوا من موقع اللجاة المنيع. وللجاة بر فسيح طوله عشرون ميلا وعرضه خمسة عشر ميلا، وهو شديد الوعورة كثير المغاور والكهوف، يصعب على الجيش المهاجم الاحاطة به ويجد أكثر المشقات اذا حاول اختراقه. فالدروز انتقلوا اليه بعيالهم حالما ظهرت بوادر العدوان بينهم وبين حكومة محمد علي واتحدوا مع العربان الذين يقطنون اللجاة، فبلغ عدد مقاتلتهم جميعا نحو ألفي رجل، منهم نحو ألف وستمائة رجل من الدروز. وهذا عدد يسير بالنسبة الى الألوف المؤلفة التي اعتادت جنود ابراهيم باشا المنظمة مصادمتها والتغلب عليها. غير أن وعورة مسالك النجاة، وصعوبة الحرب فيها على غير عارفيها، ضاعفت قوة الدروز وحلفائهم، وبالنسبة عينها أضعفت قوة الجيش الذي هاجمهم فيها.
أما الذين حمل حكومة محمد علي على التشدد في أمر التجنيد في سوريا، فهو أن الدولة العثمانية كانت تحشد جنودها على مقربة من حدود سوريا الشمالية، بحجة مقاتلة ثوار الاكراد، فاستعدادا للطوارئ بادر محمد علي الى تقوية جيوشه في سوريا، واصدر أوامره بتعميم التجنيد فيها، وبمقتضى ذلك النظام، طلبت حكومة دمشق من دروز حوران مائة وسبعين مجندا، مع أنها لم تكلفهم التجنيد في سنة 1834 لشعورها بحاجتهم الى الرجال لدفع اعتداء العربان المحيطين بهم من كل جانب، لأن الدروز أنفسهم كانوا يقومون في بلادهم بما هو من واجب جنود الحكومة ورجال شرطتها، فيتولون حفظ الامن في الداخل، والدفاع عن حوزتهم عند وقوع اعتداء من الخارج. وحالتهم في سنة 1837 لم تتغير عما كانت عليه في سنة 1834 فتجنيدهم وتكليفهم الخدمة في أماكن بعيدة عن جيلهم، بينما جيرانهم من عربان البادية يسرحون ويمرحون لا مبرر له من جانب الحكومة، لان عدم تجنيد مائة وسبعين رجلا ليس له تأثير محسوس على قوة الجيش.
فالذي يتبادر الى ذهن الباحث هو أن حكومة محمد علي اتخذت مسألة التجنيد ذريعة التحرش بدروز حوران، توصلا الى اغراض أكثر أهمية من الحصول على مائة وسبعين مجندا. فجبل حوران واللجاة كانا في ذلك الزمان ملجأ لكل خائف من جور الحكام أو ثائر على الحكومة، ومعقلا يعتصم به الفارون من التجنيد والمتملصون من حمل الضرائب الثقيلة حتى ان قرى عديدة في جبل الكرمل خربت في ذلك الوقت، وانتقل أهلها الى جبل حوران لتنجو من الضرائب الثقيلة وشدة وطأة التجنيد، وفي ذلك خسارة جسيمة على الحكومة في المال والرجال فلذلك رأت الحكومة أن تدويخ دروز حوران يثبت قدمها في جبلهم وفي اللجاة، ويمكنها من ايقاف تيار اللاجئين اليهما، ومن فرض التكاليف العسكرية والمالية عليهم، وتمهيد السبيل لبسط سلطتها على ما وراءهم من العربان.
وكانت تظن خطأ أن دروز حوران القليلي العدد لا يستطيعون مقاومتها لتفرقهم في قرى مختلفة، وأن روابط الولاء والاخلاص بين مشايخهم وفلاحيهم كادت تكون مفقودة، وأنهم عزل من السلاح ولا خبرة لهم باستعمال المحراث والمساس. وعلى كل حال لم يكن عندها ريب في نجاح تدابيرها لاخضاعهم، لأن جيشها كان على قدم الاستعداد وفيه الجنود المجربة والقواد المحنكون الذين تعودوا الانتصار على اعداء اقوياء، زد على ذلك أنهم يفوقون الدروز عددا ويمتازون عليهم بجودة السلاح ووفرة الذخيرة.
أما مواطن الضعف في ذلك الجيش فكانت استصغاره شأن الدروز، وعدم تقدير عواطفهم القومية ومزاياهم الحربية تقديرا صحيحا. وشتان ما بين مدافع عن وطن اشتراه بالمهج الغالية وبين مهاجم مأجور لا يندفع الى الامام ولا بقوة النظام، كما أن قواد الجيش وجنودهم لم يعتادوا الحرب في الاماكن الوعرة كاللجاة التي كانوا يجهلون مصاعبها. فوعورة مسالك اللجاة أفقدت الجيش اهم مزاياه، وهي قوة النظام وكثرة العدد لانها اضطرت الجنود الى التفرق فلم يستطيعوا العمل مجتمعين، وزال الاتصال الوثيق بينهم وبين قوادهم، فهان على عدوهم الفتك بافرادهم وجماعاتهم الصغيرة وانزال النكبات بمجموعاتهم.
المفاوضة فالمحاربة
جرت المفاوضة في أمر تجنيد دروز حوران ما بين شريف باشا والشيخ يحيى الحمدان شيخ مشايخ دروز حوران الذي حضر الى دمشق مع بعض أعيان بلاده لهذه الغاية، بناء على طلب شريف باشا . فحاول الشيخ يحيى اقناع شريف باشا بأن يعدل عن تجنيدهم، لان لهم موقفا خاصا يختلف عن موقف غيرهم من السوريين. فهم مقيمون في صدر البادية، ومكلفون بحفظ الامن في بلادهم، في سائر أنحاء سوريا الساري عليها نظام التجنيد، وكأنه أظهر شيئا من الشدة والصلابة في محادثته مع شريف باشا، فأخذت هذا سورة الغضب وأهان الشيخ يحيى، وفي رواية أنه لطمه وأكرهه على قبول طلبه، لكنه أمهله عشرة أيام ليقنع قومه بأن يقدموا المجندين المطلوبين.
فخرج الشيخ يحيى وأصحابه من دمشق غاضبين، وعلى أثر وصولهم الى حوران عقد الدروز اجتماعا استقر رأيهم فيهم على رفض طلب شريف باشا والرحيل الى اللجاةة واتفقوا مع عرب السلط المقيمين فيها على المقاومة. وانضم اليهم عرب الشمال، ثم أخذوا يعتدون على بعض القرى المجاورة التي تخص شريف باشا وبحري بك، فوجه شريف باشا عليهم أربعمائة فارس من الهوارة بقيادة علي أغا البصيلي، ظانا أن هذه القوة كافية لاخضاعهم، فنزل على أغا في قرية الثعلة احدى قرى الدروز وكان يصحبه ابد القادر آغا أبو جيب متسلم حوران، فدارت المفاوضة بينه وبين مشايخ الدروز في أمر التجنيد والاعتداء على الضياع المجاورة، فأظهر الدروز ميلهم الى السكينة واستعدادهم لرد ما أخذوه من تلك الضياع، لكن رجوا من على آغا البصيلي أن يتوسط بينهم وبين شريف باشا ليعفيهم من التجنيد، فوعدهم خيرا وهو ينوي الغدر بهم، فأبلغ شريف باشا ما طلبونه وحسن له اظهار التسامح معهم حتى اذا ما تفرقوا الى قراهم أوقع بهم.
وقعة الثعلة
على أن هذه المفاوضة كانت مبنية على الخداع من الجانبين. لعلي أغا البصيلي كان يظن أنه خدع الدروز وأنه سيأخذهم على غروة بعد تفرقهم في قراهم فيبطش بهم وهم متفرقون. أما الدروز فأضمروا له الشر كما أضمره لهم فكان لسان حالهم يقول:
يا أبا اليقظان كم صيد نجا خالي البال وصياد وقع
فكأنهم أنسوا من البصيلي عدم الاخلاص، وكانوا قد عرفوا من شريف باشا الاصرار على تجنيدهم، فلم ينتظروا نتيجة المخابرة بين البصيلي وبينه بل انقضوا على فرقة الهوارة ليلا وقتلوا رجالها ، ما عدا قائدها ونحو ثلاثين فارسا فهؤلاء نجوا بنفوسهم ونقلوا خبر هذه النكبة الى شريف باشا. وكان بين القتلى في هذه الوقعة متسلم حوران عبد القادر أغا أبو جيب، ومن الدروز الشيخ ابراهيم الاطرش عن الشيخ اسماعيل الأطرش الشهير.
حملة محمد باشا
ألمحنا قبلا إلى سوء المعاملة التي لقيها الشيخ يحيى الحمدان من شريف باشا الذي استصغر شأن الدروز، وكان يظن أن أربعمائة فارس من الهوارة بهم الكفاية للتغلب عليهم. أما بعد ما أوقعوا بأولئك الفرسان وانسحبوا الى الجاة، أدركت الحكومة خطأها في معاملة الدروز وتقدير قوتهم، كما أن ابرهيم باشا كان شفاف البصيرة في الامور الحربية، حازما في تدابير سريعا في تنفيذها، فبادر الى خنق الثورة في مهدها.
فجهز حملة مؤلفة من نحو ثمانية آلاف مقاتل يقودها محمد باشا مفتش الجهادية قوامها الآلاي الأول من الحرس والآلايان الثاني والثامن عشر من المشاة، مع خمسمائة من الفرسان وبعض المدافع، فاشتبكت هذه الحملة مع الدروز في أوائل كانون الثاني (يناير) سنة 1838 في قرية بصرى الحريري، وتغلبت عليهم فاضطرتهم إلى التقهقر نحو للجاة وفي اليوم التالي اقتفت أثارهم فانسحبوا أمامها الى داخل اللجاة ليستدرجوها الى الاماكن الكثيرة الوعورة، حيث أعدوا لها المكامن وتأهبوا لمنازلتها. أما محمد باشا فخدع بانسحابهم وظنهم قد جبنوا عن الوقوف في وجه جنوده، فجد في أثرهم وسار مع أركان حربه في مقدمة الجيش، ولما بلغوا مكانا شديد الوعورة انقض عليهم الدروز من مكامنهم فتمكنوا عند افتتاح المعركة بمحمد باشا قائد الحملة وأمير اللواء أيوب بك، وغيره من أركان حربه، فتضعضعت الحملة لفقدان قوادها وشدة هجوم الدروز الفجائي عليها في مكان كثير الوعورة صعب المسالك. وعقب ذلك معركة هائلة ذهبت فيها حملة محمد باشا ما بين قتل وأسر وتشريد وقتل فيها أربعة عشرة ضابطا غير القواد، واستولى الدروز على مقادير كبيرة من الميرة والذخيرة والسلاح.
حملة أحمد منيكلي باشا
كان ابراهيم باشا في أنطاكية حينما بلغه خبر النكبة التي أصابت محمد باشا وحملته ، فعزم على تولي قيادة الحملة الثانية بنفسه. وأصدر أمره الى آلاي الحرس الثاني المخيم في حمص والى آلاي المشاة الرابع والرابع عشر المخيمين في حلب وأنطاكية بأن يسيروا الى دمشق، وبارح هو نفسه أنطاكية قاصدا الى دمشق أيضا، فلما وصل الى حمص بلغه ان الجنود العثمانيين اخذت تتقدم من الشمال نحو البيرة، فاضطر الى العدول عن عزمه على قيادة الحملة الحورانية، وتوجه الى حلب ليكون على قدم الاستعداد لصد ما يحتمل حصوله من الحركات العدائية من جهة الحدود الشمالية، وطلب من والده او يوجه أحمد منيكلي باشا وزير الحربية الى سوريا ليقود الحملة على حوران، وكان شريف باشا في اثناء ذلك قد توجه الى حوران وجمع فلول حملة محمد باشا وحشدهم في قرية تبنة في غربي اللجاة.
فحضر احمد منيكلي باشا من مصر على جناح السرعة وتوجه الى قرية تينة، وضم الى حملته الاي المشاة السادس والاي الفرسان التاسع، فبلغ عدد رجال حملته ما بين تسعة وعشرة آلاف مقاتل. فزحف بهذه القوة من تبنة يصحبه أمراء اللواء أحمد بك ورجب (أو راجي؟) بك ووالي بك والميرالاي طيفور بك، فكان السير شاقا في مسالك اللجاة الصعبة، وأخيرا وصلوا الى سهل متسع بقرب قرية جدل فنصبوا فيها خيامهم وباتوا هناك، ولم يروا في ذلك اليوم أثرا للعدو ، أما في اليوم التالي فلم يبعدوا اكثر من مسيرة ساعة عن جدل حتى ظهرت أمامهم طلائع الدروز، غير أنها ما لبثت ان اخذت تتقهقر وهي تناوشهم فخدعوا بتقهقرهم كما خدع رجال حملة محمد باشا من قبلهم. اذ لم يرجع الدروز الا ليغروا عدوهم على اتباعهم الى مكان وعر كثير المغاور، ولما بلغوه صمدوا له في موقع حصين حيث يرون الجنود ولا تراهم وصبوا عليها نيرانهم الصائبة، غير أن الجنود حملت عليهم حملات منكرة ثلاث مرات، فكانوا في كل مرة يردونها على اعقابها.
واخيرا لما ادرك الدروز ان الجنود قد اعتراها الكلل، انصبوا عليها انصباب السيل وناجزوها بالسيوف، فهزموها وكبدوها خسائر جسيمة، قدرت بنحو أربعة آلاف ما بين قتيل وجريح وأسير، وكان في عداد الجرحى احمد منيكلي باشا، فانه اصيب بثلاث رصاصات وكانت جراحه خطرة حتى ظن الدروز انه نقل من ساحة اقتال ميتا ولذلك قال زاجلهم:
احمد باشا راح محمود نعشه وطيفور بيك ومثله أوزار (وزراء)
وكان شريف باشا حاضرا في هذه الموقعة، فسقط عن جواده ولو لم يبادر على اغا البصيلي الى انقاذه لادركه الدروز وفتكوا به. وكان في عداد القتلى امير اللواء والي بك ورجب بك (أو راجي) والميرالاي طيفور بك وقائمقام من اللواء الرابع وسبعة بكباشية وعشرون يوزباشيا، فكانت هذه الواقعة ملحمة هائلة. واستولى الدروز فيها على مقدار كبير من السلاح وعلى خمسين جملا محملة ذخائر ومائتي جمل محملة مؤنا لاجل الجيش، هذا عدا المقادير الكبيرة من الملابس والمعدات الحربية.
صدى انتصارات دروز حوران وثورة دروز وادي التيم
كان لانتصارات الدروز في حوران، ولكثرة الخسائر التي أصابت الحملات التي وجهت عليهم صدى عظيم في جميع أنحاء سوريا وتأثير أعظم في نفوس جنود ابراهيم باشا، فضعفت عزائمهم، كما تشددت عزائم الدروز وغيرهم من الناقمين على حكم محمد علي، فبثوا دعاة الثورة في البلاد المجاورة خصوصا في دمشق وبين اخوانهم في وادي التيم. اما الرسائل التي بعثوا بها الى دمشق، فوقعت في ايدي رجال الحكومة، فحالوا دون شبوب نار الفتنة فيها.
واما دروز وادي التيم فلبوا داعي الثورة، واجتمع منهم نحو سبعمائة مقاتل، واخذوا يعترضون المارة، ويهددون مواصلات الجيش. واتفق على ارسال ذخائر الى الجيش من عكا، فتعرض لها الثوار في سعسع واستولوا عليها بعد ان قتلوا الجنود التي كانت تحرسها، فلما اتصل الخبر بحكومة دمشق، وجهت الى وادي التيم حملة صحبها الامير سعد الدين شهاب امير حاصبيا، وانضم اليهم الامير محمود حفيد الامير بشير حاكم جبل لبنان، فاقتصوا من بعض القرى العاصية في اقليم البلان، وقبضوا في حصابيا على بعض الدروز وارسلوهم الى دمشق.
فنهض شبلي اغا العريان كبير ثوار وادي التيم بجمهور من الدروز قاصدا الى حاصبيا لاجل محاربة الامير سعد الدين، وانضم الى الدروز الاميران بشير وعلى الشهابيان من امراء راشيا لثأر لهما على امراء حاصبيا، ولان تقاليك تلك الايام كانت لا تجيز لغير الامراء محاربة الامراء. فاعتصم الامير سعد الدين وذووه ورجالهم والامير محمود ورجاله في سراي حاصبيا، فدارت رحى القتال بين المحاصرين والمحصورين. وحاول شبلي العريان دخول السراي عنوة فلم يتمكن من ذلك، وقتل في الهجوم بعض رجاله، وقتل من المحصورين الامير محمد شفيق الامير سعد الدين. ثم بلغ شبلي العريان وهو قائم على حصار السراي ان الامير خليل شهاب قادم من لبنان قائدا نجدة لانقاذ ولده الامير محمود، فانسحب من حاصبيا وانضم الى المحاربين في حوران.
ابراهيم باشا وسليمان باشا الفرنساوي في حوران
بعد ان اخفق احمد منيكلي باشا وهو اعلى قواد محمد علي همة واكثرهم اقتدارا، وتكرر انكسار الجنود النظامية رغما عن كثرة عددها وحسن نظامها وجودة سلاحها، راى ابراهيم باشا ان يجهز حملة جديدة أكثر عددا من الحملات التي تقدمتها، وان يضيف الى جنوده النظامية جنودا غير نظامية اعتادت القتال في الاماكن الجبلية، فالتمس من والده ارسال مدد من الجنود الالبانية، وعين سليمان باشا الفرنساوي قائدا لجنوده في حوران. واتفقا على وقف الاعمال الحربية ريثما يحل فصل القيظ وتجف برك الماء التي يستقي منها الدروز في داخل اللجاة، اذ لا تبقى حينئذ سوى ينابيع قليلة العدد أكثرها على حدود اللجاة، فتنحصر مهمة الجيش في منازعتهم الموارد القليلة الباقية في اللجاة، ويهون عليه دفعهم عن المياه الواقعة على حدودها، فيضطرون الى الخروج من معاقلهم في طلب الماء فتسهل على الجيش مطاردتهم.
فجعل سليمان باشا قرية تبنة مركزا يراقب منه حركات الثوار وحشد فيها الآلاي الأول من الحرس والآلايين الثاني والرابع عشر من المشاة وفلول الآلاي الرابع من المشاة أيضا، وجد في اعادة تدريبهم واعدادهم للوقائع المقبلة، وحصر حركاته في استكشاف حركات العدو، ودفع الغارات التي كان يشنها بعض شراذمة على القرى المجاورة وعلى قوافل الميرة والذهيرة المرسلى الى رجال الحملة. لكن رغما عن شدة احتياط سليمان باشا صادف الدروز غفلة من احدى فرق الجيش، فباغتوها ليلا وقتلوا ما بين ثلثمائة وأربعمائة من رجالها.
وفي شهر نيسان (أبريل) سنة 1838 أرسل محمد علي النجدة الالبانية التي كان قد طلبها ابراهيم باشا، مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل يقودها مصطفى كامل باشا حاكم كريت، فانضمت الى الجنود المرابطة في حوران، وساق ابراهيم باشا غير هذه النجدة فرقا عديدة من جهات مختلفة في سوريا، وقدم هو نفسه الى حوران فوصل الى قرية تينة مركز قياة الحملة حينئذا في 15 نيسان (أبريل) سنة 1838، ثم انتقل الى قرية الصورة التي كان قد حشد فيها نحو احد عشر الف مقاتل. وفي 25 نيسان انضم اليه سليمان باشا ومعه بضعة ألاف من الجنود، ولم تبق في تينة سوى كتيبة واحدة يقودها شريف باشا. فاصبحت الحملة الحورانية مؤلفة من نحو عشرين الف مقاتل.
وبعدما اجتمع ابراهيم باشا بسليمان باشا رسما خطة للتغلب على الثوار، من مقتضاها ان يحرموهم المياه التي اعتادوا الاستسقاء منها، ونظرا لحلول فصل القيظ كانت موارد الماء الواقعة في داخل الحياة قد جف اكثرها وما بقى منها لم تكن به الكفاية لسد احتياج الثائرين، فكان لابد لهم من الاستسقاء من المياه الواقعة على حدود اللجاة حسب العادة. أما الخطة التي وضعهاابراهيم باشا وسليمان باشا فهي ان يستولى على عدد معين من موارد المياه ويحتفظ به ليستقي منه الجيش، وما زاد على ذلك يتلفونه بان يردموه بالتراب.
وقيل ان ابراهيم باشا اضاف الى هذه الخطة تسميم المياه التي لا يحتاج اليها جيشه ولا يمكن ردمها، فاستحضر من دمشق الصيدلي فيجاري ومعه كميات وافرة من السموم لهذا الغرض، فوجد ابراهيم باشا قد عدل عن هذا الراي لانه مخالف للانسانية، وفي رواية أخرى ان ابراهيم باشا صمم على سم المياه فبين له كلوت بك ناظر الصحة ان ذلك مخالف للحقوق الانسانية، لاسيما أن ضرره لا ينحصر في المحاربين بل يودي بحياة النساء والاطفال اذا شربوا منه، ويفضي الى موتهم عطشا اذا عرفوا انه مسموم فامتنعوا عن شربه. لكن رغما عن ذلك اصر ابراهيم باشا على رايه وكلف الكيمائيين الملحقين بجيشه ان يحللوا مقادير كبيرة من السموم فصدعوا بالامر والقيت في الماء. ومن الروايات الشهيرة ان ابراهيم باشا كان يلقى جثث الحيوانات الميتة في المياه ليفسدها.
اخذا ابراهيم باشا في تنفيذ خطته الحربية، فقسم الحملة الى اربع فرق، تولى قيادة احداها بنفسه، ووكل قيادة الفرق الباقية الى سليمان باشا ومصطفى باشا وشريف باشا. وقرر استبقاء مياه الهيات والمسمية وتبنة وقراصة وبصرى الحريري ونجران لسد حاجات الفرق السيارة، وعمل على استخلاص ما كان منها في ايدي الثوار، واقام على حراسة كل منها بعد الاستيلاء عليها حامية مؤلفة من كتيبة واحدة او كتيبتين من الجنود، لتمنع الثوار من الاستقاء، وجعل سائر رجال الحملة فرقا سيارة تطوف من مكان الى اخر وامامها الادلاء الذين يرشدونها الى مواقع المياه في اللجاة، فتتولى انتزاعها من يد الثوار واتلافها او تنجد الحاميات التي يهاجمها الدروز لينتزعوا منها موارد الماء، فتمكن الجيش من اتلاف اكثر من عشرين موردا. وعدا الينابيع التي كان قد تقرر استبقاؤها، استولى الجيش على مياه الصورة وبراق وريمة وغيرها، وكل هذه الينابيع واقعة عن اطرف اللجاة.
اما القيام بهذه الاعمال فادى الى معارك شديدة، استبسل فيها الثوار والجنود، وتكبد الجنود بنوع خاص خسائر جسيمة على انها في اكثر الاحيان كانت تكره الثوار في نهاية المعركة على الانهزام او الانسحاب. ومن اشد هذه المعارك هولا معركة جرت بين ابراهيم باشا والثوار عند دامة "فأدخل امامه خيول عسكر الاكراد وتبعها ابراهيم باشا بعسكر النظامي، وبوصول الاكراد الى ارض دامة، انطبق عليهم رجال الدروز بعسكر النظامي، وبوصول الاكراد الى ارض هامة، انطبق عليهم رجال الدروز فكسروهم كسرة هائلة، فدافع عنهم ابراهيم باشا بالعساكر النظامية بلا فائدة، لان عساكره جميعها خافت سطوة الدروز، فانكسرت امامهم وهم يتبعونها ويهلكون رجالها ويربطون عليها مضايق الطرقات حتى امكن ابراهيم باشا التخلص بمن بقى معه من رجاله لخارج اللجاة".
وتواقع الفريقان في احدى المرات عند براق الواقعة في الجهة الشمالية من اللجاة، حيث زحفت الجنود الالبانية وآلاي من الجند النظامي الى براق، فادرك الدروز انها تقصد الاستيلاء على موارد الماء الكائنة على مقربة من تلك القرية، فتصدوا لمنعها، وحدثت موقعة هائلة استمرت "من قبل الفجر الى ما بعد الظهر، فقتل من الدروز نحو ثلثمائة زلمة ومن العساكر نحو ألفين وبعد الحرب انكسر الدروز وولوا هاربين .. فلحقوهم الأرناؤوط مقدار ساعتين ومسكوا متاريس وصار مراد ابراهيم باشا يرجعهم فما قبلوا يرجعون .. فتقدم الأوردي الى عندهم وحط داخل اللجاة".
استمرت المحاربة على هذا المنوال ما بين ابراهيم باشا والثوار نحوا من شهرين، وكانت المعارك تدور حول ينابيع الماء لان حياة الثوار كانت تتوقف على توفر الماء لديهم، بينما ابراهيم باشا كان يرى ان اقرب سبيل الى قهرهم هو حرمانهم اياها. واخر المعارك لبلوغ هذه الغاية كانت أشدها هولا، وقد حصلت في أواسط شهر حزيران (يونيه) سنة 1838، فاستمرت أكثر من اثنتي عشر ساعة، اضطر الدروز بعدها الى نقل ميدان القتال الأكبر الى بلاد وادي التيم وخرج بعضهم من اللجاة نظرا لاشتداد الحر وقلة المياه.
ميدان القتال في وادي التيم
لما اخذ ثوار الدروز في اللجاة يشعرون بالضنك بسبب شدة الحر وجفاف المياه وتضييق نطاق الحصار، عزموا على اذكاء نار الفتنة في ميدان جديد يوجب على ابراهيم باشا رفع الضغط عن اللجاة. فخرج شبلي أغا العريان من اللجاة بنحو مائتي مقاتل قاصدا الى بلدته راشيا، وهاجم سراي الحكومة وقتل المتسلم المقيم فيها. فلما اتصل الخبر بحكومة الشام ووجهت عليه فرقة من الجند مؤلفة من الف مقاتل واردفتها بمائة من رجال المدفعية وبعض المدافع. فالفرقة الاولى نازلها الدروز وألجأوها الى الاعتصام بقلعة راشيا، فحوصرت فيها.
أما رجال المدفعية فلم يمتكنوا من دخول القلعة، لان الدروز حالوا ما بينهم وبينها، فلجأوا الى موقع منيع مرتفع تصعب مهاجمتهم فيه نهارا. فبيتهم الدروز فيه وفي اثناء الليل هاجموهم بشدة فقتلوا من قتلوا واخذوا عددا من الاسرى، واستولوا على ما كان في حوزتهم من المدافع والذخائر وغيرها اما الفرقة التي كانت معتصمة بالقلعة فاشتد فيها الضيق، لان الدروز حالوا دون وصول المؤن اليها، ففرت ذات ليلة نحو البقاع ولما شعر الدروز بفرارها تعقبوها وفتكوا بها واستولوا على اسلحتها وامتعتها.
فالانتصارات التي حازها شبلي العريان والدعوة التي بثها في وادي التيم وجبل لبنان، حملت عددا كبيرا من دروز وادي التيم على الالتحاق به. وانضم اليهم ما يزيد على الف رجل من لبنان بقيادة الشيخ حسن جنبلاط والشيخ ناصر الدين العماد، وبلغ ابراهيم باشا تحرج الاحوال في وادي التيم فنهض من حوران في 19 حزيران (يونيه) عائدا الى دمشق، ومنها انتقال الى جهات راشيا، وامر مصطفى باشا ان يوافيه الى وادي التيم عن طريق الديماس. وكتب الى الامير بشير شهاب حاكم جبل لبنان ليجمع اربعة ألاف مقاتل من نصارى الجبل، ويسلمهم اسلحة ويوجههم الى حاصبيا بقيادة ولده الامير خليل.
وصل ابراهيم باشا بجنوده الى بلاد راشيا، فنزل في سهل قرية عيحا وتحصن الدروز في غابة واقعة تجاه معسكره، فجرى بين الفريقين قتال لم يأت بنتيجة حاسمة. وفي ذات يوم بلغ الدروز ان مقادير عظيمة من الذخائر واردة في العسكر عن طريق وادي بكا، وكان ارسال هذه الذخيرة شركا نصبه ابراهيم باشا للدروز، ثم دس اليهم خبرها بواسطة جواسيسه، فانطلت حيلته عليهم، وانفذ الشيخان حسن جنبلاط وناصر الدين العماد ثلثمائة مقاتل من رجالها ليرابطوا في الطريق المذكور وكان مصطفى باشا قد وصل الى الديماس، فمكث فيها ليستعد لمقابلة العدو، فاستبطأه ابراهيم باشا ، وأرسل فرقة كشافة لتبحث عنه وتستقدمه اليه. أما هو فتقدم بعض عسكره الى قرية حلوى، فظهر الثوار في مكان وعر ما بين ينطا وحلوى فنشب القتال بينه وبينهم، فبادر الشيخ ناصر الدين عماد بثلثمائة مقاتل، وتبعه الشيخ حسن جنبلاط بأربعمائة وخمسين مقاتلا لنجدة اخوانهم.
فكانت بين الفريقين معركة هائلة استمرت أربع ساعات وصل بعدها مصطفى باشا بجنوده الألبانيين، وأصبح الدروزبين نارين. غير أن ذلك لم يزدهم الا استبسالا، فقاتلوا قتال المستميت حتى اوشك الجنود ان ريكنوا الى الفرار غير ان قوادهم استلو سيوفهم، واخذوا في تحريضهم وتشجيعهم على القتال واصلوا الدروز نارا دائمة، فصمد الدروز في مكان منيع حتى فرغت ذخيرتهم، فعمدوا الى رشق أعدائهم بالحجارة ومهاجمتهم بالاسلحة الحادة.
وكان الشيخ ناصر الدين عماد في مقدمة رجاله يجول في الاعداء بسيفه، وأخيرا خر صريعا بعد ان أثخن بالجراح، ولم ينج من رجاله سوى نحو خمسين رجلا، شقوا صفوف الأعداء بسيوفهم ،ورأى الشيخ حسن جنبلاط ان لا فائدة ترجى من زيادة التغرير برجاله الذين كان قد قتل منهم مائة وثلاثون رجلا، ففر بالباقين الى قرية شبعا عند جبل الشيخ. وكان سرور ابراهيم باشا عظيما للانتصار في هذه الموقعة، رغما عن الخسائر الجسيمة التي اصابت جنوده فيها، لأنها تعتبر موقعة حاسمة مهدت السبيل لاستسلام دروز وادي التيم وثوار اللجاة.
وقعة جنعم واستسلام دروز وادي التيم
في 20 تموز (يوليه) سنة 1838 احتشد الدروز بعد وقعة وادي بكا في أرض جنعهم الواقعة في مكان مرتفع بقرب بلدة شبعا ما بين جبل الشيخ والجبل الوسطاني الذي يفصلهما عن حاصبيا. وكان ابراهيم باشا قد عاد بجيشه الى سهل عيحا ومعه مصطفى باشا. وكان الامير خليل نازلا برجاله اللبنانيين في حاصبيا، ومتوليا شئون ايالة صيدا والعساكر النابلسية نزلوا في قمة بانياس جنوبي موقع الدروز، بينما كان جبل الشيخ واقفا سدا في وجههم من الجهة الشرقية، فعزم ابراهيم باشا على مهاجمة موقع الدروز صباحا بهذه الفرق من ثلاث جهات، وأرسل أوامره الى النابلسيين والبنانيين ان ينتقلوا ليلا الى قرب جنعم، لتزحف جميع القوات على الدروز في ساعة معينة صباحا.
ودرى شيلي أغا العربان بتأهب ابراهيم باشا لمهاجمتهم، فرتب رجاله للقتال، وأقام الرقباء في الجهات المعرضة للهجوم، وفي الصباح تقدمت فرقة الامير خليل للهجوم، فأمهل الدروز حتى صعدت الجبل، وفاجأوها بهجوم شديد، فانهزمت من امامهم وهزمت أصحابها القادمين على اثرهم، فارتدوا الى قرب حاصبيا. كذلك الدروز المرابطون امام النابلسيين، فانهم ردوا مهاجميهم على أعقابهم الى قرب بانياس. أما الجنود الذين كان يقودهم ابراهيم باشا ومصطفى باشا فتغلبوا على الدروز بعد قتال عنيف استمر الى صباح اليوم التالي 24 تموز (يوليه) سنة 1838 اذ أوفد دروز بلاد حاصبيا وراشيا الشيخ حسن البيطار من عقال راشيا يعرضون على ابراهيم باشا استعدادهم للتسليم، فعفا ابراهيم باشا عنهم على أن يسلموا أسلحتهم، فسلمو نحو أربعمائة بندقية، وأذن لهم بالرجوع الى أوطانهم وعاد ابراهيم باشا بعسكره الى قطنا.
أما دروز لبنان وشبلى أغا العريان وبعض اقاربه فأبوا التسليم، وانضم بعضهم الى ثوار اللجاة. وكان ابراهيم باشا يعلم ان لا سبيل الى استقرار السكينة والامن في البلاد الا باستسلام شبلي العريان أو القبض عليه، فبث الجنود للبحث عنه ومطاردته، فكانوا كلما تعقبوه الى مكان معلوم وظنوا انه اصبح في قبضة ايديهم، يفلت منهم وينتقل الى مكان آخر. وأخيرا رأى شبلي العريان ان لا فائدة ترجى من تماديه على العصيان، وعلم ان ابراهيم باشا راغب في العفو عنه، فتقدم اليه طائعا في 9 آب (أغسطس ) سنة 1838 ، فعامله ابراهيم باشا بكل اكرام وابقى له سلاحه ، وعينه قائدة لفرقة غير نظامية.
تسليم دروز حوران
بعد تسليم دروز وادي التيم انحصرت الثورة في اللجاة، وكان ثوار اللجاة بعد انتقال ابراهيم باشا بفريق كبير من جنوده الى وادي التيم والتحاق مصطفى باشا به ، قد خف الضغط عليهم، فاشتد بأسهم وعادوا الى شن الغارات على ما جاورهم من قرى حوران، فغزوا قريتي اذرع ومحجة ونهبوا مقادير كبيرة من الحنطة، وهددوا أبناء السبيل ، ففقد الامن وصار خط مواصلات الجيش معرضا للاخطار.
وكانت حركات الجيش العثماني بجوار الحدود السورية الشمالية محاطة بالشكوك والاتهام، منذرة بتجدد النزاع ما بين السلطان محمود ومحمد علي، كما أن السوريين في جميع انحاء البلاد ضعف اخلاصهم لحكومة محمد علي لما انزلت بهن من المحن، فصاروا يفضلون عود الحكم العثماني لانه اهون الشرين. فالخطر الذي كان يهدد ابراهيم باشا في داخل البلاد وخارجها، جعله راغبا في تسوية المسألة الحورانية سريعا، وهذا ما جعله كثير التسامح مع دروز وادي التيم، فلم يكلفهم سوى تسليم السلاح وأكرم قائدهم شبلي أغا العريان، وعمد الى اتباع الخطة نفسها في معاملة دروز حوران، فاصدر أمه بالعفو عنهم، ولم يكلفهم سوى تقديم قسم من السلاح الذي استولوا عليه.
وكان حينئذ شريف باشا في حوران فأنفذ اليه ابراهيم باشا الشيخ حسن البيطار الذي توسط قبلا في تسليم دروز وادي التيم والشيخ جرجس أبي دبس من رجال الامير بشير الذي كان مرافقا لابراهيم باشا. فذهب المذكوران الى مقر شريف باشا ليكونا وسيطين ما بينه وبين دروز اللجاة. وكان هؤلاء راغبين في المسألة لما أصابهم من الضنك بسبب قلة المياه، وطول أمد القتال، فجرت مفاوضات التسليم بسهولة وسرعة، وقدم زعماء الدروز مع الوسيطين الى معسكر شريف باشا مظهرين خضوعهم، وقدموا له سبعمائة بندقية من سلاحهم، وألفى بندقية مما استولوا عليه من سلاح جيش ابراهيم باشا. وتعهدت الحكومة بأن تعفيهم من التجنيد والسخرة والضرائب، واذنت لهم بحمل السلاح، وبأن يكون لهم حق انتخاب شيوخهم، كما انها وعدت بعدم اقامة تحصينات في بلادهم.
هكذا انتهت الثورة الدرزية في 22 آب (أغسطس) سنة 1838 بعد مضي تسعة شهور من نشوبها، ولم يبلغ ابراهيم باشا الغاية التي حارب من أجلها، بل كانت عواقبها على غير ما يريد من الوجهتين العسكرية والسياسية.
بين اتفاق كوتاهية وموقعة نزب
ان السلطان محمود رضى مكهرا باتفاق كوتاهية المنعقدة 1833 الذي قضى بوضع سوريا ومنطقة أدنة تحت حكم محمد علي، وبقيت نفسه تحدثه بوجوب استرجاعها نظرا لعظم أهميتهما للسلطنة العثمانية، ولأن انتصارات ابراهيم باشا على جنوده حطت من هيبته وسطوة جيشه، فعمد في ربيع سنة 1834 الى حشد جيش في سيواس ، تأهبا لغزو سوريا متى سنحت له الفرصة، وأنس في نفسه القدرة على ذلك.
وكان يقوم بتدريب هذا الجيش ضباط بروسيون وهم ملباخ وفشر وفون فنكه والبارون فون مولتكه، وتسلم قيادته محمد رشيد باشا الذي قاد الجيش العثماني في موقعة قونية ووقع أسيرا في أثنائها، فبقى صدره يغلي حقدا على ابراهيم باشا. فاستعدادا للطوارئ حسن ابراهيم باشا الحدود الشمالية، وأقام حاميات في الرقة وأورفا، لأجل مراقبة حركات العثمانيين، وحشد معظم جيشه في شمالي سوريا، وجعل أنطاكية مقره العام ليكون قريبا من موقع الخطر.
مرت السنوان وكل من الجيشين واقف بازاء الآخر، ولم يقم العثمانيون بحركات عدائية رغما عن شدة رغبتهم في الانتقام، لانهم كانوا يشعرون بالعجز عن منازلة جيش ابراهيم باشا، غير أن السلطان محمود لم يفتر عن العمل سرا على اثارة اهالي البلاد السورية، وصادقت تحريضات دعاته آذانا صاغية، لأن حكومة محمد علي كانت قد أحرجت السوريين لما فرضته عليهم من التكاليف الفادحة، فثاروا عليها وبقى ابراهيم باشا من سنة 1838 الى 1839 مشتغلا بتسكين الاضطرابات واخماد نار الثورات.
وكان من الجهة العثمانية ان الأكراد القاطنين في المنطقة الشمالية بقرب الحدود السورية ثاروا على السلطان محمود، وكانت الحكومة العثمانية تتهم حكومة محمد على بتحريضهم على الثورة، وامدادهم بالذخيرة والسلاح. فتولى رشيد باشا أمر اخضاعهم ، لكنه توفى في كانون ثان (يناير)س نة 1837 قبل أن يتمكن من القضاء على ثورتهم، فخلفه محمد حافظ باشا في الشهر التالي، وبعد وقائع عديدة تغلب عليهم في شهر آب (أغسطس) من تلك السنة.
وفي السنة عينها أوفد صاريح أفندي، أحد رجال الوزارة الخارجية العثمانية من الأستانة الى مصر لمفاوضة محمد علي، وعقد اتفاق معه، فأخفق فيما انتدب اليه، وقيل ان سبب اخفاقه تجاوزه الشروط المفوض اليه الاتفاق عليها مع محمد علي ، فرضى بمنحة الحكم الوراثي على البلاد التي تحتلها جنوده، وان تكون جبال طوروس الحد الفاصل بينه وبين تركيا، مع أنه لم يفوض اليه التنازل عن اي شئ من البلاد الواقعة ما وراء ايالتي صيدا وطرابلس الشام. فبعد عودة صاريم افندي الى عاصمة السلطنة، واستئناف المخابرة ما بين محمد علي ورجال الاستانة، لم يوافق هؤلاء على التخلي عما سوى ايالتي صيدا وطرابلس، وهذا يحرمه حدودا طبيعية صالحة للدفاع عن بلاده.
فاتخذ محمد علي موقف رجال السلطنة دليلا على اصرار السلطان محمود على معاداته، لا سيما انه رغما عن تغلب حافظ باشا على الثوار الاكراد يقرب الحدود السورية، استمر على امداده بالجنود التي لم تكن ثمة حاجة اليها الا لمقصد عدائي نحو البلاد السورية. وقيل ان اللورد بونسونبي سفير انكلترا في الاستانة الذي كان يظهر للسفراء زملائه رغبته في السلام، كان يحرض السلطان محمود سرا الى محاربة محمد علي الا ان السلطان احجم في بادئ الراي عن فتح باب النزاع، واقتصر على الاستعداد ، والمرجح انه لم يكن واثقا من مقدرة جيشه على الانتصار، لا من وقوف الدول الاوروبية بجانبه اذا اصابه الفشل.
وثار في أثناء ذلك دروز حوران على حكومة محمد علي واستمرت ثورتهم تسعة شهور انتهت في آب (أغسطس) سنة 1838، فكانت هذه الثورة من أنسب الفرص لهجوم الأتراك على سوريا لأن عددا كبيرا من جنود ابراهيم باشا كان مشتغلا باخمادها، وقتل في أثنائها كثيرون من قوادهم وضباطهم ونحو عشرة آلاف من خيرة الجنود، وجرح أحمد منيكلي باشا جراحا خطرة، فاضطر أخيرا سليمان باشا وابراهيم باشا ان يتوليا قيادة جنود الحملة بأنفسهما، وملأ الخوف قلوب جنودهم بسبب الانكسارات الهائلة التي أصبتهم. وانتشرت الأخبار المشجعة على الانتفاض على حكومة محمد علي في جميع أنحاء سوريا، فلو هاجم الأتراك جيش ابراهيم باشا في ذلك الوقت لوجدوه على جانب من الضعف، ولتلقاهم كثيرون من السوريين بالترحاب، واتحدوا معهم على مقاتلة الجنود المصرية.
غير أن الجيش العثماني لم يكن مستعدا حينئذ لخوض غمار حرب كهذه، لأن فصل الشتاء في تلك السنة كان برده قارسا وكسوة الجنود العثمانيين كانت خفيفة، فتفشت الدونسطاريا والتيفوس، ففتكت بصفوفهم فتكا ذريعا، وشح مرود المؤن عليهم بسبب الثلوج والجليد، فاضطر حافظ باشا الى توزيع جنوده في اماكن متباعدة ليتمكنوا منها، زد على ذلك ان الحكومة العثمانية لم تكن واثقة حينئذ من مساعدة انكلترا لها فيما لو انتصرت جنود ابراهيم باشا على جنودهم. انما المفاوضات كانت دائرة بين الدولتين لوضع خطة لمقاومة محمد علي.
وفي 17 آب (أغسطس) 1838 وهو نفس الشهر الذي انتهت فيه ثورة الدروز في حوران ووادي التيم، عقدت معاهدة بين الدولة العثمانية وانكلترا تقضي بالغاء الاحتكار من جميع البلاد العثمانية وغيرها من البلاد الواقعة تحت حكم عزيز مصر. والذي وضع اساس هذه المعاهدة هو المستر أركوهارت من رجال السفارة الانكليزية في الاستانة، وكان واسع الخبرة بالشئون العثمانية، عظيم التأثير على اللورد بونسونبي سفير دولته، وكان الغرض الاهم من هذه المعاهدة هو اقامة الصعوبات في وجه محمد علي، لانه كان محتكرا الاتجار بمحصولات ومصنوعات البلاد الواقعة تحت حكمه، وبما ان الغاء الاحتكار يفيد رعايا الدول الاوروبية، وافقت فرنسا في 23 تشرين ثان (نوفمبر) سنة 1838 على هذه المعاهدة التي جاءت كسيف ذي حدين ، اذا خضع لها محمد علي اضاع مبلغا جسيما من دخل خزينته، واذا رفض العمل بمقتضاها خسر عطف ومعونة صديقته فرنسا.
ووجدت تركيا وانكلترا ومن انضم اليهما من الدول مبررا للاتحاد على مقاومته بكل وسيلة ممكنة، أما محمد علي وهو الرجل الواسع الحيلة، فلم يحرم وسيلة لاجتناب عواقب هذه المعاهدة، ولو الى حين، فحنى يثبت للملأ رغبته في السلام، ويلقى تبعة تكديره على سواه، قام برحلة الى السودان لتدبير شئونه، وتفقد معادن الذهب في بلاد النوبة وفيزغلي، فغاب عن القاهرة من 15 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1838 الى 15 آذار (مارس) سنة 1839، واجتنب في أثناء ذلك مطالبته بالجزية السنوية التي كان قد امتنع عن دفعها. ويروي ان اهم ما حمله على السفر الى السودان هو امله في الحصول على الذهب الذي كان يرى فيه افضل وسيلة لحل المشكلات، فقد كان يعتقد اعتقادا مبينا على الاختبار ان الذهب افعل من السحر في دوائر الاستانة.
وما يروى عنه انه قال مرة لبعض المقربين منه: "اني اذا ظفرت بالذهب استطيع ازالة اسباب النزاع مع الباب العالي بلا وساطة احد وبدون استخدام الاساطيل والجنود". غير انه عاد من السودان، وقد خابت آماله في معادن الذهب، لان نفقات العمل كانت توازي قيمة ما يستخرجونه من الذهب. كما أنه وجد الموقف السياسي قد ازداد خطورة، لان السلطان لم يفتر عن تجهيز معدات الحرب استعدادا لمهاجمة سوريا، فكان على اتصال دائم بحافظ باشا قائد جيشه على الحدود السورية، يرسل اليه التعليمات مباشرة، ويتلقى منه المعلومات عن حالة الجيش وموقف اهل البلاد القريبين من الحدود.
وقد وجد ابراهيم باشا بين اوراق حافظ باشا بعد الانتصار في موقعة نزب، والاستيلاء على مضارب الجيش العثماني، التعليمات الخاصة بالخطة التي رسمها السلطان محمود لاجل استمالة الزعماء السوريين وضباط الجيش المصري الى جانب الحكومة العثمانية، وعن التأهبات لغزو سوريا ومصر. وكان حافظ باشا قد صار شديد الثقة بجيشه مؤقنا ان السوريين سيثورون على حكومة محمد علي. فهذه الاسباب وتشجيع سفير انكلترا في الآستانة سرا، وشدة ميل السلطان محمود الى الانتقام، حملته على فتح باب النزاع الذي أدى الى موقعة نزب. وبازاء تأهبات السلطان للقتال، اخذ محمد علي يرسل الامداد تلو الامداد لجيشه في سوريا، وسدا لنفقات الجيش جمع فريضة الروس عن سنتين دفعة واحدة وزاد قيمتها. وحول لاجل النفقات الحربية ثلاثة ملايين قرش، كانت قد جمعت لاجل انشاء بنك أهلي، ونقل بعض النفقات التي كانت مقررة لاجل أرباب الوظائف الى ما يلزم لنفقات الجيش.
وكان ابراهيم باشا مطمئن البال من الوجهة الحربية، لان تفوق جيشه في الدربة والنظام، يرجح كفته على كفة الجيوش العثمانية التي كانت اقل منه دربة ولم يكن يخشى انتفاض السوريين، لأن الامير بشير ورجاله اللبنانيين كانوا في جانبه يساعدون على حفظ خط المواصلات، ودروز حوران ووادي التيم اخلدوا الى السكينة، لأنه عاملهم بمنتهى التسامح واللين، وأكرم شبلي العريان احد قواهم غاية الاكرام، وعينه قائدا لفرقة من المتطوعين، وصار يقاتل في صفوفه، وأكدت قبائل عنزة اخلاصها له وتعهدت بصد هجوم عربان بني جربة من جهة العراق، لانه كان بينها وبينهم عداء قديم.
تدخل السفراء والقناصل الأوروبيين
بعد ظهور بوادر العداء من الجانبين تدخل سفراء الدول الاوروبية في الاستانة وقناصلهم في مصر لمنع وقوع الحرب بين السلطان وعزيز مصر، فكان كل منهما يؤكد للوسطاء ان نواياه سليمة حتى ان الاميرال روسان سفير فرنسا في الاستانة اقتنع بان السلطان محمود سيجتنب فتح باب النزاع، فكتب الى قنصل دولته في مصر يخبره انه حصل على وعد من السلطان انه سيحافظ على السلام، ومما قاله في كتابه: "ان فرنسا قد قالت كلمتها فوجدت أذنا صاغية". وكان محمد علي لما بلغه تقدم الجنود العثمانية نحو الحدود، واجتياز بعضها نهر الفرات الى ضفته اليمنى، قد عول على انفاذ احمد منيكلي باشا ناظر حربيته الى سوريا لينضم الى ابراهيم باشا.
فلما اتصل هذا الخبر بقنصل فرنسا في مصر اسرع الى مقابلة محمد علي، والاحتجاج على ارسال احمد منيكلي باشا الى سوريا، لان ارسال ناظر الحربية يدل على نية عدائية، فأجاب محمد علي انه مستعد لابقاء احمد منيكلي باشا في مصر، بل لاستعداء ابراهيم باشا من حلب، اذا كان القنصل يكفل له عدم تقدم جنود السلطان نحو الحدود، فلم يتردد القنصل في الاجابة، بأنه يكفل ذلك، وأبرز له كتاب السفير الذي يقول فيه ان السلطان وعده بالمحافظة على السلم. فالتفت محمد علي الى قنصل النمسا الذي كان حاضرا عندئذ، وسأله عما اذا كان هو أيضا يؤيد ما قاله قنصل النمسا، فأجاب القنصل النمساوي بالنفي،لأن المعلومات التي بلغته من سفارة دولته الاستانة تخالف المعلومات التي تلقاها قنصل فرنسا.
وكان لدى محمد علي انباء سرية تتفق مع ما ورد على قنصل النمسا، فعلى أثر ذلك فض محمد علي الاجتماع قائلا: "ان تناقض الاخبار الواردة على القنصلين، وما بلغه عما هو جار في الاستانة يوجبان عليه اتخاذ وسائل الاحتياط، وارسل من فوره الى احمد منيكلي باشا الى حلب. على ان قناصل الدول لم يكفوا عن مراجعة محمد علي، والالحاح عليه بوجوب المحافظة على السلم، والدخول في طاعة السلطان، ودفع الجزية السنوية وابعاد جنوده عن الحدود. وأخيرا كتب اليهم في 16 أيار (مايو) سنة 1839 متعهدا انه اذا ارتدت جنود السلطان عن البيرة الى ضفة الفرات اليسرى، تنسحب جنوده الى الوراء، ويعود ابراهيم باشا الى دمشق، واذا اتبعت هذه الخطوة السلمية يتقهقر جيش حافظ باشا الى ما وراء ملطية، فهو يعيد ابراهيم باشا الى مصر. وزاد على ذلك انه اذا رضيت الدول الاربع العظمى ان تضمن له السلم وتساعده على جعل الحكم وراثيا في سلالته، فانه يسحب قسطا من جيشه من سوريا، ويكون مستعدا للاتفاق على وضع خطة نهائية تقر السكينة وتناسب حاجات البلاد.
على ان كل المفاوضات التي دارت في الاستانة ومصر، لم تأت بنتيجة سليمة، ولو كانت جميع الدول الاوروبية التي تدخلت في الامر صادقة النيلة والعزيمة على منع الحرب لما عجزت عنه. ذكرنا قبلا ان حافظ باشا حشد جيشه في سميساط وكان ذلك مقدمة لزحفه جنوبا نحو الحدود السورية، فعبر الفرات في 17 آيار (مايو) سنة 1839 وخيم في نزب في 22 منه.
ان نزب واقعة في الاراضي العثمانية، لكنها على مسيرة ساعات قليلة من الحدود التركية السورية ، وموقعها الطبيعي منيع جدا، فتقدم قائد الجيش العام اليها وارتكازه فيها بجيش عظيم ليس مما تخفى غايته العدائية ولا هو يقبل التأويل. بل ان حافظ باشا لم يتكم مقاصده بعد ذلك، اذ ارسل الف خيال الى قرية مزار الواقعة تجاه نزب وعلى مسيرة ساعتين منها، وهي قريبة من الحدود السورية، وتقدم قسم من الخيالة أيضا الى بلدة أورول الواقعة على الحدود فاحتلها. وتقدم سليمان باشا حاكم مرعش العثماني الى عينتاب التي كانت في قلعتها كتيبة من جيش ابراهيم باشا، واحتلت الجنود العثمانية قرى عديدة ما حول عينتاب، منها قزل حصار وكلس في البلاد السورية، وأخذوا في استمالة الاهالي بتوزيع الهدايا والاموال، وتحريضهم على الانتفاض على حكومة محمد علي.
اتصل خبر هذه الحركات العدائية بابراهيم باشا وهو في حلب، فلم ير بدا من المبادرة الى صد تقدم الاتراك في الاراضي السورية، فبارح حلب في 29 أيار (مايو) سنة 1839 بقسم من جيشه مؤلف من سبع فرق خيالة واثنى عشرة بطارية من المدفعية السيارة. ولم يبتعد في سيره الا قليلا حتى بلغه وقوع اعتداء جديد على الحدود السورية، اذا اجتازت قوة تركية مؤلفة من خمس مفرزات خيالة نهر الساجور، وهو الحد الفاصل بين سوريا وتركيا من الجهة الشمالية الشرقية، وهاجمت قرية تل باشر الواقعة على الضفة اليمنى، وكانت تؤيد هذه الخيالة قوة من المشاة، فتغلبوا على الحامية المؤلفة من خمسمائة من عرب الهنادي بقيادة معجون محمد بك، فانهزم الهنادي تاركين وراءهم سبعين أسيرا وعددا من القتلى، واحتل العدو قرية تل باشر وغيهرا من القرى السورية المجاورة.
فارسل ابراهيم باشا امرا الى سليمان باشا الفرنساوي ليبادر بسائر الجيش النازل في حلب الى الالتحاق به، وكان قوام هذه القوة من الجيش ثلاث عشرة فرقة من المشاة وخمس عشرة بطارية مدافع، فصدع سليمان باشا بالامر ولم يبق في حلب سوى مدفع واحد، لان ابراهيم باشا كان واثقا من اخلاص الحلبيين.
وفي 3 حزيران (يونيه) سنة 1839 تقدم ابراهيم باشا بخيالته الى تل باشر، فأخلالها الاتراك بدون قتال، واخلو عليها من القرى السورية، فاكتفى ابراهيم باشا بذلك، ولم يتعقبهم الى الاراضي التركية طوعا لاوامر والده التي كانت تحتم عليه التزام خطة الدفاع مراعاة لمشيئة الدول الاوروبية، التي كان ممثلوها يلحون عليه باجتناب كل ما يكدر صفو السلم.
وفي 4 حزيران (يونيه) كتب ابراهيم باشا الى والده يخبره مفصلا عن اعتداءات الاتراك على الاراضي السورية، وتسليحهم الاهالي، وتحريضهم اياهم على الثورة، وطلب منه التعليمات. كما أنه كتب الى حافظ باشا في 8 جزيران محتجا على تكرار الدسائس ضد الحكومة السورية والاعتداء على الحدود. ومما قاله في ختام كتابه انه اذا كانت لديه أوامر بفتح باب العدوان، فليتقدم علانية الى ساحة القتال، لكنه يجب انه يعلم انه يهاجب رجالا لا يعرفون الخوف ولا يصبرون على دسائسه طويلا. فكان جواب حافظ باشا شيق العبارة، غير ان أقواله لم تكن مطابقة لأعماله.
أما محمد علي فلما بلغه اعتداء العثمانيي، رفع عنه قناع الحذر والمداراة، وكتب الى ابراهيم باشا في 9 حزيران (يونيه) سنة 1839 يأمره بالمبادرة الى طرد الجنود التركية من الاراضي السورية، وان يتقدم الى منازلة جيشهم الاكبر، اذا انتصرت عليه يواصل الزحف على ملطية وخربوط وأورفة وديار بكر، وعندما تلقى ابراهيم باشا أوامر والده، كان سليمان باشا قد سار بجيشه من حلب، وخيم على بد أربعة وعشرين ميلا منها، لتأخذ جنوده نصيبا من الراحة، فأمره ابراهيم باشا بالمبادرة الى الالتحاق به، فاستنأف السير في 18 حزيران (يونيه)، واجتمع بابراهيم باشا على ضفاف نهر الساجور.
موقعة نزب
24 حزيران (يونيه) سنة 1839
يتبين من الفصل السابق ان المفاوضات والمناورات التي قام بها السفراء والقناصل في الأستانة ومصر، تركت لحافظ باشا الحرية التامة في حركاته العسكرية، وفي اختيار ساحة القتال دون ان يشخى تعرضا من خصمه، لان ابراهيم باشا كان مقيدا بأوامر والده التي كانت في أثناء ذلك قاضية عليه بالتزام خطة الدفاع، وعدم اجتياز الحدود، لأن محمد علي كان مضطرا الى مراعاة مشيئة الدول الاوروبية حتى لا يبقى عندهم شكا بمحافظته على السلم ما استطاع اليه سبيلا.
ولولا ذلك لما مكن ابراهيم باشا خصمه من التقدم الى نزب بدون مقاومة، بل كان في وسعة اعتراضه عنده عند اجتياز نهر الفرات، بينما كان الجيش العثماني منقسما الى شطرين على ضفتي الفرات، ولاقى صعوبة عظمة في العبور. أما وقد كان لحافظ باشا ما اراد، فانه اجتاز الفرات على مهل، وتقدم الى نزب بدون معارضة، لأنها من البلاد التركية، وقضى في تحصينها شهرا كاملا. فلما تمادى العثمانيون في حركاتهم العدائية، وورد على ابراهيم باشا امر والده بمهاجمتهم، كان حافظ باشا قد فرغ من حفر الخنادق، واقامة الاستحاكامات في نزب، وأطلق خيالته نحو الحدود، أما هو فبقى متربصا في نزب مع الجيش الذي هيأته للموقعة الكبرى، ليستدرج ابراهيم باشا الى مهاجمته داخل حصونه.
موازنة بين الجيشين
ان احوال الجيشين العثماني والمصري كانت متشابهة من بعض الوجوه المختلفة من البعض الآخر. فالجيشان اللذان تصادما في نزب كان عددهما متقاربا. فكان عدد رجال الجيش العثماني واحدا وثلاثين ألفا من الجنود النظامية ، ونحو أربعة آلاف من الجنود غير النظامية، بينما كان عدد رجال الجيش المصري نحو ثلاثين ألفا من النظاميين، ونحو ألفين غير نظاميين. وهذا بيان القوات التي كان يتألف منها الجيشان:
جيش حافظ باشا جيش ابراهيم باشا مشاة 17 فرقة 14 فرقة خيالة 9 فرق 8 فرق مدفعية 300 رجل 4 فرق
مدافع 146 169 غير نظاميين 4000 2000
وكان في الجيشين ضباط أوروبيون ممتازون كسليمان باشا الفرنساوي (الكولونيل ساف) في جيش ابراهيم باشا والبارون فون مولتكه الشهير في جيش حافظ باشا. وبينما كان في جيش ابراهيم باشا عدد كبير من الجنود المجربة، كان في جيش حافظ باشا جنود مشهورو بالبسالة. وكان الجيشان مسلحين تسليحا جيدا.
أما الفوارق بين الجيشين عند ابتداء الحركات العدائية، فهي أن حافظ باشا كان قد اختار محل الموقعة. فمن الوجهة النظرية صار خصمه مكلفا بمهاجمته في موقع منيع طبيعيا، وازداد منعة باتقان تحصينه ودقة ترتيب الجيش المتأهب للقتال فيه. أما مزايا جيش ابراهيم باشا على جيش حافظ باشا، فهي أن ضباط وجنود ابراهيم باشا كانوا أدق تدريبا من خصومهم، كما أنهم كانوا أكثر منهم تمرسا بالحروب ومعرفة بفنونها واعتيادا على تحمل المشقات.
وكان ابراهيم باشا ومساعده سليمان باشا اشد اتفاقا على خططهم الحربية وتنفيذها من حافظ باشا والبارون فون مولتكه وغيره من الضباط الأوروبيين. ومع أن حافظ باشا كان مقداما وذا مقدرة لا تنكر، فان ابراهيم باشا كان يفوقه حزما واقداما، وكان أرسخ منه قدما في الفنون الحربية والادارة العسكرية. زد على ذلك ان تفوق ابراهيم باشا في ميادين القتال، وامتياز مقامه السياسي والادبي، جعل له في نفوس قواد جيشه مهابة واحتراما لا يدانيه فيهما حافظ باشا الذي كان أكثر قواد جيشه صنائع كبار رجال الدولة العثمانية، ولا يقدرون النظام العسكري حق قدره.
وقد روى بعضهم حكاية تبين حالة الروح العسكرية في الجيشين، وهي أن حافظ باشا سأل أسيرا من جنود ابراهيم باشا عما رآه في المعسكرين، وألح عليه بأن يصدقه القول وبعد أن استوثق الاسير من حافظ باشا انه لا يمسه بأذى اذا ذكر الحقيقة ولو كانت مؤلفمة قال: "ان معسكر ابراهيم باشا معسكر جنود، أما معسكركم فهو كمضارب الحجاج، فقد شاهدت في معسكر ابراهيم باشا البنادق والجنود بإزائها، والمدافع الى جانب رجالها، والخيول وبقربها فرسانها، فلا تجد هناك سوى الجنود والسلاح، وكل جندي ملازم محله، أما معسكركم فقد رأيت اليهود والتجار والآئمة والعلماء منتشرين فيه. رأيت بعضهم منهمكا في البيع والشراء ، البعض الآخر مشتغلا بالتسبيح والدعاء، وهذا الذي جعل معسكركم كمضارب الحجاج. فسواء كانت هذه الحكاية حقيقية أم موضوعة ، فالشواهد التاريخية تدلنا على أنها تمثل حالة الجيشين تمثيلا صحيحا.
ابراهيم باشا يجتاز الحدود
اجتماع سليمان باشا بابراهيم باشا على ضفاف نهر الساجور، فاكتمل باجتماعهما تجمع الجيش المعد لمهاجمة حافظ باشا. ونهر الساجور هو الحد الفاصل بين الاراضي السورية والاراضي التركية من الجهة الشمالية الشرقية، فتقدما منه في 20 حزيران (يونيه) بجيشهما نحو قرية مزار، وهي نقطة أمامية من نقطة جيش حافظ باشا واقعة بازاء معسكره العام في نزب،وعلى مسيرة نحو ساعتين الى الجنوب الشرقي منها، كانت القوة التركية في مزار مؤلفة من فرقتين من الخيالة، وعدد كبير من الجنود غير النظامية وثلاثة مدافع.
وموقع مزار يسهل الدفاع عنه، لان الجيش الذي يهاجمه لابد له من المرور في واد وعر، تستطيع قوة صغيرة أن تمنعه من اجتيازه، أو تكبده خسائر جسيمة قبل ان يجتازه، غير أن حامية مزار لم تدافع عنها، بل أرسلت بعض طبقات نارية، ثم انهزمت مذعورة، تاركة وراءها خيامها وأمتعتها وخزينتها العسكرية، فاستولى عليها ابراهيم باشا واحتل ابلد بدون قتال. وفي اليوم التالي 21 حزيران (يونيه) توجه ابراهيم باشا وسليمان باشا لاستكشاف مواقع العدو في نزب، مستصحبين ألفا وخمسمائة من البدو وأربع فرق خيالة وبطاريتين من المدافع السيارة. فبرزت لهم من الجيش التركي المدفعية الخفيفة والخيالة النظامية وبعض الباشبوزوق.
وبينما كان الفريقان يتبادلان الطلقات النارية، اقترب ابراهيم باشا وسليمان باشا من معسكر حافظ باشا وتفقداه بدقة، فوجه العدو اليهما بعض طلقات نارية أصابت احداها جواد أمير اللواء محمد بك أحد رجال الأركان حرب وقتلته، غير أن ذلك لم يمنعها من مواصلة الاستكشاف حتى وقفا على حالة معسكر العدو وقوفا تاما، وعادا مقتنعين أنه منيع جدا، وعادا مقتنعين انه منيع جدا، لا تمكن مهاجمته من الجناحين أو الأمام، فعولا على القيام بحركة التفاف توصل جيشهما الى ما وراء موقع العدو، فيضطر هذا الى مغادرة موقعه المحصن الى موقع جديد خال من التحصين.
فعند طلوع الفجر 22 حزيران (يونيه) عاد ابراهيم باشا بجيشه فعبر نهر مزار الى الضفة اليمنى، وسار شرقا على موازاة ذلك النهر، فلما أبصر جنود الأتراك تقهقره الى ما وراء نهر مزار، أقاموا الأفراح وتوهموا أنهم قد قهروه بدون قتال، أما الضباط البروسيون، فأدركوا غرضه واقترحوا على حافظ باشا الانسحاب من نزب والارتداد الى البيرة الى موقع يمتد على ضفة الفرات اليمنى، ليكونوا بمأمن من قيام العدو بحركة التفاف. فكان اعتراضه على هذا الاقتراح ان الارتداد يكون صفحة سوداء في تاريخه.
ومن رأي بعضهم ان الارتداد الى الوراء، كان مخالفا لارادة السلطان محمود، ولم يكن في استطاعة حافظ باشا مخالفة مشيئة مولاه. فرأى أولئك الضباط عندئذ وجوب احباط سعي العدو ومهاجمته في اثناء السير عند مروره في المضايق وعبوره نهر الكرزين، على أن حافظ باشا أغفل القيام بذلك أيضا. وهكذا خلا الجو لابراهيم باشا، فقاد طليعة جيشه المؤلفة من فرقتين من الخيالة النظامية ومن فرسان الهنادي واربع بطاريات سيارة، وسار متجها الى الشرق على موازاة نهر مزار، ثم نهر كرزين بعد ملتقاه بنهر مزار، ثم ارتد الى الشمال الشرقي حتى بلغ الطريق الممتد من حلب الى البيرة والمؤدي الى ما وراء موقع العدو في نزب، فسار في ذلك الطريق الى ان بلغ جسر هركون القائم فوق نهر كرزين، فظهرت عندئذ حركة خفيفة من جانب العدو، غير أن ابراهيم باشا لم يحفل بها بل قال لخيالته "اغرسوا رماحكم في الارض وأضرموا نيرانكم، فاذا ما رآها العدو يلتزم السكون". ثم أمرهم أن يأتوه بسجاد: ففرشها، وانم وقد كان صادقا في حدسه لأن العدو لم يأت بحركة ما.
بقى ابراهيم باشا عند جسر هركون الى أن التحق به سليمان باشا مع بقية الجيش نحو الساعة العاشرة ليلا. ورغما عن صعوبة عبور النهر في مثل ذلك الوقت من الليل، مع وجود مرتفعات في الجانب الآخر تجعل جيشه في خطر من هجوم العدو منها، بادر اباراهيم باشا الى اجتيازه، فكانت عندئذ الفرصة سانحة لحافظ باشا ليهاجم جيش عدوه، وهو مشطور بين الضفتين في هذا الموقع الحرج، غير أن هذه الفرصة مرت كما مر غيرها دون ان يستفيد منها.
فاستأنف ابراهيم باشا السير بكامل جيشه الى أن نفذ به الى ما وراء معسكر حافظ، واضطره الى الخروج من معاقله الحصينة في نزب، وتغيير واجهة جيشه تاركا الاستحكامات المنيعة وراء ظهره، حيث لا ينتفع بها، وقد شبه بعضهم حركة حافظ باشا هذه بمن يواجهه خصمه وهو حامل درعه على ظهره بدلا من أن يلبسه على صدره، فيتقى به وقع سلاح عدوه.
انضى نهار 23 حزيران (يونيه) والجيشان يتأهبان للقاء في اليوم التالي، واتصل بحافظ باشا ان بعض جنود العدو ترغب في الانضمام الى عسكره، فعول على تمهيد السبيل لفرارهم باحداث اضطراب في صفوف عدوه. وعند الساعة الحادية شعر ليلا وجه أربع بطاريات مدافع يعضدها لواء من جنود الحرس وبعض مفرزات من الخيالة، فتقدموا الى موقع يبعد ألف متر عن معسكر ابراهيم باشا بدون أن يشعر بهم أحد، وبادروه باطلاق المدافع ، فسقطت أكثر قنابلها حول خيمة سليمان باشا، لان ضباط أركان حرب الجيش العثماني كانوا قد أخذوا رسمها ورسم خيمة ابراهيم باشا في عصر ذلك النهار.
وبما أن هذا الهجوم حصل مفاجأة في ساعة متأخرة من اليل، أوقع الذهر والاضطراب في معسكر ابراهيم باشا فسهل فرار الناقمين، غير ان ابراهيم باشا وسليمان باشا بادرا الى امتطار جواديهما، وأسرع سليمان باشا الى النقط الامامية ليمنع خروج الجنود من المعسكر، كما ان ابراهيم باشا دعا الجيش الى تقلد سلاحه والاستعداد للقتال، وهبت المدفعية المصرية الى مجاوبة المدفعية التركية بشدة، أما هذه فبدلا من مواصلة اطلاق قنابلها عادت الى السكوت. وعلى أثر ذلك ثاب السكون الى معسكر المصريين، فعمد ابراهيم باشا الى تفقد صفوف جيشه، وكان قد فر منه نحو مائة جندي وأكثر، كما أن كتيبتين من الجنود السورية غابتا عن موقعهما، فمضى ومعه بعض كبار ضباطه للبحث عنهما، فاذا هما لا تزالان على مقربة من المعسكر، لكنهما كانتا متجهتين نحو خيام العدو، وكان عذرهما عن ذلك أنهما ضلتا الطريق، فأعيدتا الى المعسكر واستبدل ضباطهما بضبط آخرين، وقبض عرب الهنادي على بعض الفارين وأرجعوهم الى المعسكر.
وكانت اصابات الجيش المصري بسبب هذه المفاجأة أقل من عشرة قتلى، ونحو ثلاثين جريحا، وأمضى ابراهيم باشا وجيشه بقية ليلتهم مستيقظين ومستعدين للقاء العدو في موقعة فاصلة، فعندما طلع النهار اتخذ الجيشان مواقعهما، وكانت أمام قلب الجيش التركي رابية عالية تبعد عنه نحو ثمانمائة مترـ فات حافظ باشا احتلالها مع أنها في نظر الخبراء الحربيين كانت تعد مفتاح الواقع كله، أما ابراهيم باشا فحالا أدرك أهميتها، وبادر الى احتلالها ، ونصب المدافع الكبيرة العيار عليها، فكان لها شأن عظيم في نتيجة الموقعة. وعند الساعة الثامنة صباحا افتتح ابراهيم باشا القتال باطلاق المدافع وتسليط نار ميمنته على ميسرة العدو، فتلقاها الاتراك بثبات مدهش، وقابلوها بنار حامية من أفواه مدافعهم وبنادقهم، واستمر اطلاق القذائف من نحو ثلثمائة مدفع من الجانبين نحو ساعة ونصف.
وفي أثناء ذلك فرغت ذخيرة مدافع المصريين، وأقاموا ينتظرون ورود سواها من الذخائر الاحتياطية. بينما كان التراك يصبون عليهم نارا دائمة، فتقلقلت مشاة الميمنة المصرية من مراكزها، وبدأت بالتقهقر ، فصدر الامر للخيالة بالهجوم، فتقدمت أولا غير أن الاتراك قابلوها بوابل من الرصاص، وألجأوها الى الارتداد، وانهزم معها المشاة، فسنحت الفرصة حينئذ للجيش العثماني لمهاجمة عدوه المنهزم بالحراب، وأشار رجال الأركان حرب على حافظ باشا بذلك، فتردد في قبول المشورة.
وفي أثناء تردده تمكن ابراهيم باشا وسليمان باشا بعد عناء شديد من وقف تيار الانهزام، وأعادوا جنود الميمنة وثبتوها في مراكزها، وكانت الذخائر قد وردت على رجال المدفعية، فاشتركت المدفعية والمشاة والخيالة في القتال على بعد خمسمائة متر من خط العدو، فلم يقو الاتراك على تحمل نيرانهم الخاصة، وظهر الضعف في اطلاق مدافعهم، فأخذت جنودهم غير النظامية في التقهقر، ثم تبعتها جنودهم النظامية أمام خيالتهم فلم تقم بعمل يذكر، وعندئذ شدد ابراهيم باشا الهجوم على هذه الصفوف المتقلقلة في مسيرة عدوه، وأصدر أمرا الى عثمان باشا وأحمد منيكلي باشا قائدي قلب وميسرة الجيشه، ليشتركا في الهجوم، فلم يستطع العثمانيون الوقوف في وجه هذا الهجوم العام الذي جاءهم على غير انتظار ، ولجأوا الى الفرار تاركين بنادقهم وذخائرهم، وعبثا حاول حافظ باشا وقواد جيشه وقف الانهزام، فجد عدوهم في أثرهم واحتل مواقعهم، واستولى على جميع خيامهم وأمتعتهم وذخائرهم ومؤنهم التي لم يستطيعوا حمل شي منها حتى ان حافظ باشا ترك خيمته المزخرفة وفيها وساماته وأوراقه فكان دخول ضباط وجنود ابراهيم باشا الى معسكر حافظ باشا كدخول الضيوف منازل أعدت لاستقبالهم.
الغنائم والخسائر
واستولى الجيش المصري على نحو عشرين ألف بندقية، ومائة وأربعة وأربعين مدفعا مع ذخائرها، كما انه استولى في ثاني يوم الموقعة على خمسة وثلاثين مدفعا في حصن البيرة. وبلغت خسائر الأتراك في الرجال نحو أربعة آلاف وخمسمائة بين قتيل وجريح، وكان من قتلاهم باشاوات وضباط عديدون من رتبة أمير لواء وأميرالاي، وأسر منهم بين اثني عشر ألفا وخمسة عشر ألف رجل . وترك الجيش العثماني خزينته وفيها خمسة وأربعون ألف كيس أي نحو ستة ملايين فرنك ومضاربه بأكملها مع كل ما حوت من المعدات أما خسائر جيش ابراهيم باشا، فبلغت نحو ثلاثة آلاف ما بين قتيل وجريح، ولم يكن بين القتلى من كبار الضباط سوى الميرالاي ابراهيم بك قائد احدى فرق الحرس.
وهكذا قضى ابراهيم باشا على آخر جيش جرده السلطان محمود للانتقام من محمد علي، وعلى سمعة آخر قائد من كبار قواده، فكل من حسين باشا ومحمد رشيد باشا ومحمد حافظ باشا كان في وقته أكبر القواد العثمانيين وأبعدهم صيتا، اكتسبوا شهرتهم في انتصاراتهم العديدة على الثائرين على الحكومة العثمانية، غير ان ما كسبوه في وقائع غير نظامية أفقدهم اياه ابراهيم باشا ، بتفوقه في حسن القيادة، وامتياز جيشه على الجيش العثماني، بدقة النظام الذي كان له القول الفصل في نزب وقونية وبيلان.
وفي أول تموز (يوليه) سنة 1839 توفى السلطان محمود قبلما يبلغه خبر انكسار جيشه في نزب، وبوفاة هذا السلطان الحسن النية العائر الجد، ختمت صفحة محزنة من تاريخ الدولة العثمانية.
بين موقعة نزب وثورة لبنان
أشرنا قبلا الى النشاط الذي أظهره قناصل الدول في مصر وسفراؤهم في الأستانة ليحولوا لوادون تجدد الحرب بين السلطان محمود ومحمد علي ، لأن حكومات الدول العظمى جميعها كانت تبدي رغبتها في السلم، وكان أشدها تحمسا للعمل في سبيل منع الحرب الحكومة الفرنسوية وممثلوها في الأستانة ومصر. فانتدب المارشال سولت وزير الخارجية الفرنسوية ورئيس مجلس الوزراء اثنين من حجابة، وهما المسيو كايه والمسيو فولتز. انتدب أولهما للذهاب الى الاسكندرية ليقابل محمد علي، ثم ينتقل منها الى معسكر ابراهيم باشا في سوريا، وأمر الثاني بالتوجه الى الأستانة، ومنها الى معسكر حافظ باشط على الحدود العثمانية السورية، وزود هذين المندوبين بالتعليمات التي يجب أن يعملا بموجبها في الأستانة والاسكندرية، ولدى قائدي الجيوش العثمانية والمصرية، لأجل منع تصادم جيشيهما على انه ما كاد يصل المسيو فولتز الى الاستانة حتى غادرها طيار باشا على جناح السرعة موفدا من قبل السلطان محمد الى حافظ باشا مبلغا من المال لاجل الجيش، وأمرا جازما من السلطان نفسه بفتح باب العدوان.
وهكذا خاب كل رجاء بوصول مندوبي المارشال سولت الى مركز قيادة الجيشين قبل وقوع القتال، لكن انتداب المسيو كايه لم يذهب بدون جدوى، لأنه على أثر وصوله الى الاسكندرية، تمكن بعد جهد كثير من الحصول على كتاب محمد عليى الى ابراهيم باشا يأمره فيه بالتزام جانب السلم اذا بلغه الكتاب قبل وقوع القتال، والا يجتاز جبال طوروس اذا كان قد وقع القتال وخرج منه منصورا.
غادر مسيو كايه الاسكندرية بحرا، وأدرك ابراهيم باشا في 29 حزيران (يونيه) وهو في طريقه من عينتاب إلى مرعش، وكان بعد انتصاره في نزب قد استولى على البيرة وأورفا، ووجه كبار قواده وهم أحمد منيكلي باشا وسليمان باشا لغزو بلاد الاناضول. فبعد مفاوضات عديدة وجدال طويل بين المسيو كايه وابراهيم باشا، رضى الاخير ان يوقف جيشه عن اجتياز جبال طوروس.
أما الدولة العثمانية فكان انكسار جيشها في نزب، ذلك الانكسار الشنيع جزاء حقا لتسرعها في فتح باب القتال. وتبعت هذا الكارثة وفاة السلطان محمود ، ذلك العاهل الصالح الذي لو صافاه الزمان لنهض بأمته الى مستوى رفيه. وكانت ثالثة الاثاقي انتفاض رجال الاسطول العثماني على الحكومة الجديدة، فذهب بهم قائدهم الى الاسكندرية، وقدموا الاسطول هدية الى محمد علي. أما السبب الظاهر لهذه الحالة، فهو ان احمد فوزي باشا قائد الاسطول كان من اقرب المقربين من السلطان محمود، ولما بدأت الحركات العدائية بين الجيشين، صدر اليه الامر بالاشتراك فيها بحرا.
فبعد وفاة السلطان محمود ارتقى ابنه عبد المجيد الى عرش السلطنة، وهو في السادسة عشرة من عمره، وولى خسرو باشا منصب الصدارة العظمى، وكان بين خسرو باشا واحمد فوزي باشا عداء شديد، ونظرا لحداثة سن السلطان عبد المجيد وعدم تمرسه في شئون الملك، كان خسرو باشا صاحب الامر والنهي في الدولة، فأصدر امره الى فوزي باشا ليعود الى الاستانة، فأيقن هذا انه اذا اطاع الامر، فهو هالك لا محالة على يد عدو لا يعرف الشفقة، فاختار الفرار باسطوله الى الاسكندرية، وتسليمه الى محمد علي حيث كانت تجمعه به جامعة العداء لخسرو باشا.
فبعدما اصيبت تركيا بسلطانها المخلص الخبير، وبجيشها وأسطولها، فقدت العوامل والوسائل التي تمكنها من استرجاع سوريا بقوة السلاح، وراى السلطان الجديد ورجاله ان مصلحة الدولة تقضي بحسم النزاع مع محمد علي سلميا، وبينما هم على وشك الاتفاق، فاجأتهم الدول الخمس وهي إنكلترا وفرنسا والروسيا والنمسا وبروسيا بمذكرة مضمونها انهن متفقات في أمر المسألة الشرقية، ولفتت نظر الباب العالي الى عدم بت أي أمر يتعلق بتلك المسألة بدون موافقتهم عليه.
فبعد هذه المذكرة أصبح مصير سوريا معلقا بمشيئة الدول الأوروبية، وكانت الدول العظمى ما عدا فرنسا ترى وجوب اعادة الحكم العثماني الى سوريا. وكانت انكلترا أكثرهن تشددا في وجوب ذلك، لأنه لم يكن من مصلحتها ان تقوم في طريقها الى الهند دولة قوية تجعل مواصلاتها مع مستعمراتها الغنية في خطر. ومحمد علي كان في وسعه انشاء تلك الدولة القوية، لانه كان ثاقب الرأي، قوي الارادة ، محبا للنظام آخذا بأسباب التقدم. والبلاد التي كان يحكمها أو يطمع في الاستيلاء عليها غنية بالرجال، وبطبيعة أرضها، ممتازة على سواها بموقعها الجغرافي من وجوه عديدة.
ومن مبادئ السياسة الإنكليزية ألا تكون سوريا في قبضة دولة قوية بذاتها كما ذكرنا قبلا، أو يحتمل اتحادها مع دولة أوروبية مزاحمة لإنكلترا. ومحمد علي كان صديقا صدوقا لفرنسا، وفرنسا كما هو مشهور كانت تزاحم إنكلترا في السياسة الاستعمارية بوجه عام، وفي التفوق في البحر المتوسط بنوع خاص. وقد كان العهد غير بعدي ينزول نابوليون بجيشه في مصر وسوريا، ومبادرة إنكلترا الى اخراجه منهما بقوة السلاح، ومن مبادئ سياستها أيضا منع روسيا من النزول في بر الأناضول أو على خط الدانوب حتى لا تنفذ منهما الى البحر المتوسط.
وبقاء محمد علي في سوريا ومناوأته الدولة العثمانية على حدود الأناضول، ربما إتخذتهما الروسية حجة لدخول البلاد العثمانية للدفاع عنها، واتصلت منها الى البحر المتوسط، فتصبح إنكلترا بازاء عقبتين في طريقها الهندية: وهما محمد علي في سوريا وهو والروسية في شريقي البحر المتوسط. فالهند كانت بيت القصيد، وليس ذلك بالأمر العجيب، لأن قوة إنكلترا وعظمتها في ثروتها وصناعتها والهند من أهم – إن لم نقل أهم – تلك الثورة وأكبر عامل في تنمية الصناعة البريطانية.
واذا أرسلنا نظرة عامة الى سياسة إنكلترا الخارجية، نجد أن معظم منازعاتها واتفاقاتها مع سائر الدول منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا، كانت تدور حول محور الهند – فنزاعها في الشرق مع فرنسا وروسيا والعجم، وحربها مع الأفغان، ومسألة الكويت وسكة حديد بغداد التي عدت من أسباب الحرب الكبرى نشأت عن المسألة الهندية. وتأييد نفوذ إنجلترا في خليج العجم وجنوبي تلك البلاد، واحتلال قبرص وعدن أهم أغراضها تأمين طريقها الى الهند.
وهذا الذي حمل إنكلترا على مقاومة مطامع محمد علي في التوسع، وإصرارها على انسحابه من سوريا، إلا أنها عاد فرضيت بابقاء جنوبي سوريا تحت سيطرته مدة حياته، وبمنحه الحكم الوراثي على مصر، وخالفتها فرنسا فيما يختص بجنوبي سوريا، اذ طلبت منح محمد علي وأعقابه الحكم الوراثي على ايالة عكا أيضا. أما النمسا فاتفقت مع إنكلترا لا لمصلحة هامة لها في سوريا بل لاتفاق نظريتها السياسية نحو روسيا مع النظرية الإنكليزية. وانضمت بروسيا الى جانبها.
أما الروسيه فرغما عن اختلاف أغراضها السياسية عن أغراض إنكلترا والنمسان فانها كانت تحسب ان بقاء سوريا تحت حكم محمد علي وأعقابه يؤدي الى سريان روح التجدد إلى الأناضول وغيرها من البلاد العثمانية. وهي انما كانت تبغي إضعاف الدولة العثمانية لتكون لقمة سائغة لها متى سنحت الفرصة لابتلاعها. وبعد مفاوضات ومناورات كثيرة بين الدول العظمى انتهت بانفراد فرنسا، اجتمع مندوبو سائر الدول الأوروبية ومندوب الدولة العثمانية في لندن وعقدوا اتفاقا في 15 تموز (يوليه) 1849 كان أهم مشتملاته ما يلي:
1 – منح محمد علي وأعقابه من بعده الحكم الوراثي على مصر، ويكون له فقط مدة حياته حكم ولاية عكا التي جعلت حدودها من رأس النافورة إلى رأس نهر السيسبان في شمالي بحيرة طبريا، ومنه خط يمتد على جانب البحيرة الغربية وضفة نهر الأردن اليمنى فشاطئ بحر الميت الغربي، ومنه خط مستقيم يمتد الى نقطة في شمالي خليج العقبة على البحر الأحمر، ثم تتبع شاطئ من خليج العقبة فخليج السويس حتى بلدة السويس نفسها. منح ذلك شرط أن يقبل المنحة في مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغه هذا القرا، وأن يشفع قوله باصدار أوامره لسحب جنوده من جزيرة كريت، والبلاد العربية ومنطقتي أدنة وطرطوس، ومن سائر البلاد العثمانية ما عدا مصر وإيالة عكا، كما حددت أعلاه. وأن يرجع أيضا إلى سلطان الأسطول العثماني الذي كان قد فر به قائده أحمد فوزي باشا إلى الإسكندرية.
2- اذا لم يقبل هذه المنحة وشروطها في مدة عشرة أيام يحرم الحكم على إيالة عكا. ويمهل عشرة أيام ثانية لقبول الحكم الوراثي في مصر، وصدور أوامره بسحب جنوده من سائر البلدان العثمانية، ورد الأسطول العثماني إلى السلطان. فاذا مضت هذه المهلة دون قبول المنحة والشروط السابق ذكرها، يصبح للسلطان الخيار في حرمانه الحكم الوراثي في مصر، واتخاذ الاجراءات التي تنطبق على مصالح السلطنة ونصائح حلفائه.
3- اذا رفض محمد علي قبول الشروط التي فرضها السلطان تتعهد دولتا إنكلترا والنمسا أن تتخذا باسم الحلفاء بناء على طلب السلطان ما لديهما من الوسائل لقطع خط مواصلات الجنود المصرية ما بين مصر وسوريا، وأن تعضدا الرعايا العثمانيين الذين يظهرون الاخلاص لمليكهم، وتمداهم بكل ما في وسعهم من المساعدات. واذا لم يقبل محمد علي الشروط المذكورة وجه قواته البرية والبحرية إلى الأستانة، فيتعهد الخلفاء أن يتخذوا بناء على طلب السلطان الوسائل اللازمة لصيانة الأستانة والبواغيز من كل اعتداء.
جرى تبليغ هذا الاتفاق الى محمد علي في 17 آب (أغسطس) سنة 1849 ، ومضت المدة القانونية، ولم يعلن رضوخه له بل انه أبلغ قناصل الدول شفاها عندما مثلوا أمامه بعد انتهاء المهلة أنه يرفض قبوله رفضا باتا، وطلب منم أن ينسحبوا من مصر. وفي 11 أيلول (سبتمبر) اجتمع مندوب من قبل الباب العالي بسفراء الدول المتحالفة، وقرروا تجريد محمد علي حتى من ولاية مصر. وبعد تبليغه القرار انسحب قناصل الدول الأوربية المتحالفة من القطر المصري، وكان مندوب الباب العالي قد سبقهم الى مغادرة الاسكندرية عائدا الى الأستانة، فصار محمد علي في حالة حرب مع الدولة العثمانية وحلفائها.
ويؤخذ من مختلف الروايات ان الذي ادى الى عزل فرنسا عن المجتمع الدولي في هذه المسألة، والى تصلب محمد علي في رفض شروط الدولة العثمانية وحلفائها، هو تحيز الحكومة الفرنسوية له وبنوع خاص السياسة التي انتهجها المسيو تيارس في المسألة الشرقية، فانه حاول التوفيق ما بين تركيا ومحمد علي منفردا عن سائر الحكومات الأوروبية، وكان يحرض محمد علي على رفض طلب الانسحاب من سوريا، واعدا اياه انه اذا اقتضت الحال ففرنسا تؤيده بقوة السلاح.
ثورة اللبنانيين سنة 1849
لما علم محمد علي بعد موقعة نزب باصرار الحلفاء على حرمانه ثمرات انتصار جنوده على الجيش العثماني، واكراهه على الجلاء عن سوريا، أخذ يستعد للمقاومة، فأمر بتحصين المواقع المهمة على الشواطئ المصرية والسورية، وانشاء حرس وطني من المصريين، وسحب جنوده من البلاد العربية ليستعين بها على الدفاع عن مصر وسوريا، وأمد جيشه في سوريا بمائة مدفع كبيرة العيار، وأصدر أمره إلى ابراهيم باشا بجمع الحاميات المتفرقة في أنحاء سوريا وحشدها في الأماكن الأكثر أهمية، وبأن يعاقب كل من ينتفض على حكومته بمنتهى الشدة.
وكانت انكلترا بنوع خاص تراقب أحوال سوريا في أثناء ذلك مراقبة دقيقة، وتزرع بذور الثورة بين أهلها، ونظرا لبعد مراميها السياسية، كانت فيما مضى قد ارسلت الى لبنان مستر رتشارد وود Richard Wood ترجمان سفارتها في الأستانة لأجل درس اللغة العربية، فتلى دروسا في هذه اللغة على الخوري أرسانيوس فاخوري، وتعرف الى كبار رجال اإكليروس الماروني، واستمالهم اليه، كما استمال الدروز وبعض زعماء وأعيان الموارنة، ثم عاد الى الأستانة.
ولما بلغت المسألة السورية دورها الأخير وتحرج الموقف ما بين الدولة العثمانية ومحمد علي، وثار اللبنانيون على حكومة محمد علي، وكان للتحريض الخارجي تأثير عظيم في إثارتهم، كما أن ما لاقوه من جور تلك الحكومة وتلون سياستها نحوهم، كان مبررا لانفاضتهم عليها.
فالسوريون كانوا قد رحبوا بامتداد سلطة محمد علي إلى سوريا لما كانوا يعانونه من فوضى الاحكام وجور الحكام في العهد العثماني، ولما مناهم به ابراهيم باشا من الوعود الخلابة، وما شاهدوه من حسن سيرة جنوده في البلاد وعدم تعرضهم لمس كرامة وأموال أهلها. لكن بعد ما تم له فتح سوريا انكشف ثور السياسة عما تحته، فعمد الى استثمار مصادر ثروة البلاد السورية، واضعاف قوة أهلها فشرع في جمع السلاح، وتجنيد الرجال، واحتكار التجارة بالمحصولات الوطنية، وفرض الضرائب الثقيلة، وتسخير الناس للقيام بمشاريع الحكومة.
وكل هذه التكاليف لم يتعودها السوريون في الأزمة السالفة، فشبت بسبها نيران الثورة في أكثر أنحاء سوريا ما عدا لبنان، لأن حكومة محمد علي تمكنت من تفريق كلمة أهله بمساعدة الأمير بشير شهاب، اذ اوقعت الشقاق ما بين المسيحيين والدروز، بل وفي صفوف الدروز أيضا، وأضعفت هؤلاء بادخال شبانهم في سلك الجندية وأظهرت من التحيز للمسيحيين ما ضمن لها ولاءهم. وبعد أن كان قد نزع منهم سلاحهم، ووزع عليهم السلاح في سنة 1838 للاستعانة بهم على اخماد ثورة الدروز، عند امتدادها من حوران الى وادي التيم.
لكن بعد انتصار ابراهيم باشا في موقعة نزب، وتضارب السياسات في المسألة السورية، أيقن محمد علي ان لابد له من خوض غمار حرب جديدة للدفاع عن مصر وسورية ، فعول على زيادة جيشه البري والبحري الى أربعمائة ألف مقاتل. وكان فيما عزم عليه تجنيد اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم، وجمع مال الفردة منهم مقدما عن سبع سنين، وأدرك أن اللبنانيين سيقاومون هذه المطالب الثقيلة، نظرا لما كانوا عليه من البؤس، فأمر بنزع سلاحهم أولا ليحرمهم وسائل الدفاع.
وكان قد انتشر في البلاد في أوائل سنة 1840 بعض الأوربيين زاعمين أنهم قدموا للاتجار أو لتوزيع الاعانات على المعوزين والمنكوبين ليخففوا عنهم ما لاقوه من الحاجة والخسائر بسبب توالي الحروب والثورات. وذاعت في الوقت نفسه الشائعات عن عزم ابراهيم باشا على تجنيد السوريين مرة أخرى، لأجل تعويض النقص في صفوف جيشه واعداده لحرب جديدة. وتناقلت الألسن شائعة عن قرب قدوم جنود الإفرنجية الى سوريا لتنقذ أهلها من البؤس، وترفع عن عواتقهم مغارم حكومة محمد علي، فكان لهذه الاشاعات تأثيرها في النفوس لما كان يخامرها من اليأس والاضطراب. ومن العبارات التي كثر ترددها حينئذ على ألسنة اللبنانيين "يارب فرجك والإفرنجيك".
وصارت كل حركة من جهة حكومة محمد علي يحسب لها الناس ألف حساب. من ذلك أن سليمان باشا الفرنساوي انتقل من مقره في صيدا الى بيروت، فشاع أنه قادم لأجل تجنيد البيروتيين وأهل البلاد التي تجاورهم، فدب الذعر في قلوبهم، وفر كثيرون من المسلمين بعائلاتهم من بيروت، وسافر بعضهم بحرا الى قبرص والجزر اليونانية. وحدث أن محمد علي أمر بتجنيد شبان المسلمين في مصر، فكان في عداد الذين قبض عليهم التلاميذ النصارى اللبنانيون الذين كانوا يتلقون العلوم الطبية في مصر، واتصل هذا الخبر بنصارى البلاد السورية، فاعتقدوا أنهم سيجندون كالمسلمين.
واتفق أنه وصل الى بيروت في تلك الاثناء مركب مشحون ملابس عسكرية، فأشيع أنها معدة لشبان النصارى اللبنانيين، فاشتدت مخاوفهم من التجنيد. فدارت المفاضوات بين المسيحيين والدروز في لبنان وعقد زعماؤهم اجتماعا في دير القمر، وتعاهدوا على مقاومة ابراهيم باشا بكل قواهم اذا حاول اخذ جندي واحد من لبنان، وأنشئت صناديق لجمع الأموال لأجل مشترى السلاح والذخائر عند الحاجة اليها. وقد روى خبر هذا الاجتماع كاتب معاصر يرجح أنه كان مقيما في دير القمر حيث قال: في 27 أيار (مايو) الأربعاء انتخب أهل الدير اثنى عشر انسانا للتدبير "من الدروز حمد الشحارى وخزوع خبيص، من الموارنة نادر أبو عكر وابراهيم عيد، فارس ثابت ، سعد باز ، يوسف أبو شمعون، غندور الكك، بشاره الجلخ، منصور مرهج، من الكواتلة سلوم الحداد، وحنا عيسى، داود الجاويش حبيب الصوصه"، وتحالفوا على ان كل شي يدبرونه يحفظونه سرا لحد وقت العمل. وفي هذا النهار حضر البعض من المقاطعات اثنين اثنين بالوكالة عن كل مقاطعة ، واجتمعوا مع الاثنى عشر في الخلوة، وتحالفوا على الرأي والقلب والكلمة الواحدة. ثم بثوا الدعوة الى العصيان في انحاء البلاد وقد عثرنا على نشرة منها هذا نصها حرفيا:
"من بعد الترجمة أنه قبله تقدم منها لجنابكم خلافه على الباين لم وصل ولربما يكون بلغد لديكم، وانما نعيد على حضرتكم التعريف وهو أنه نهار السبت الواقع في 22 شهره صدر أمر شريف على كافة البلاد من لدن سعادة أفندينا ولي النعم أيده الله بطلب السلاح الذي بيدنا من بواريد العسكرية، فحالا قدمنا بساط الرجا أول وثاني وثالث في إبقي السلاح بيدنا فما صار قبول بذلك، وبحيث متحقق عندنا طلب السلاح ينتج منه أولا سبع فرد. ثانيا طلب أولادا من جميع الطوائف ليتقدموا الى النظام، فحيث أن هذا الأمر ليس به شبه لزم اننا اظهرنا العصاوة من بعد الاتكال على الله واعتمدنا على محاربة هذه الغدارة وتقديم الطاعة لسعادة أفندينا الأمير المعظم. ونهار الأربعاء المبارك أمس تاريخه، حضر لنا علم من صيدا أنه متوجه علينا عسكر فحالا. في النهار نفسه توجه من هذا الطرف عسكر وصحبته جناب المشايخ بيت أو نكد، وساعة تاريخه الخميس حضر لنا بشارة سنية بأنهم ظفروا بهؤلاء الخارجين وأخذوا منهم مائة وثمانين بارودة ولا زاولوا مقيمين على جسر صيدا باستنظار العساكر الذي تمر لجهتنا. نرغب بأن تكونوا كما نحن متيقظين سهرانين واعين لكلما يجد نواحي بيروت وجهة الشمالية، وكلما جد عليكم شئ عرفونا حالا صحبة مخصوص، وبحوله تعالى أنتم الظافرون ولا يلزم نحثكم على التيقظ كون هذا صالح عايده للجميع، نسأله تعالى نسمع عنكم كلما يسر الخواطر حسب عوايدكم السابقة هذا ما لزم افادتكم والله يحفظم".
اخوتكم أهالي دير القمر نصاره ودروز
مما تقدم يمكن ان نعتبر ان الثورة اللبنانية ابتدأت في 27 أيار (مايو) سنة 1840، وكان آل أبي نكد وأهل دير القمر أول القائمين بها والداعين اليها رغما عن قرب بلدتهم من بيت الدين مقر الأمير بشير الشهابي حاكم البلاد، ليقينهم بأن اللبنانيين بوجه عام كانوا شديدي النقمة على حكومة محمد علي والأمير بشير. وممن نفخ في بوق الثورة وقادة رجالها بعض الامراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ آل خازن وحبيش والدحداح، لأن الأمير بشير سلبهم ما كانوا يتمتعون به من السلطة الاقطاعية، لا رفقا بأهل البلاد بل لينقلها إلى أهله ومريديه كأولاده وحفدته والمقربين اليه من ذويه وغيرهم، فكانوا أشد وطأة على الأهلين من حكامهم السابقين. وممن اشترك في قيادة الثوار الأمير خنجر الحرفوش وأبو سمرا غانم وأحمد داغر ويوسف الشنتيري.
وفتح باب القتال مع الجنود المصرية أهل جنوبي لبنان، وكان في أول الأمر جميع الثائرين تقريبا من دير القمر والمناصف والشحار وساحل صيدا، فحصلت مناوشات عند جسر الأولى وحول صيدا، وضيقوا الخناق على المدينة وقطعوا عنها الماء وحاولوا بينها وبين المطاحن الكائنة على نهر الأولى ، فوجه سليمان باشا الفرنساوي الذي كان مقيما في صيدا آلايا من الجند لحراسة الطاحون وقناة الماء وحفظ خط المواصلات بينها وبين المدينة، لكنه أصدر أمره الى الجنود أنت تجتنب مصادمة الثوار، وكتب الى هؤلاء يخبرهم أن أمر محمد علي لا يقصد به نزع سلاحهم بل استرجاع السلاح الذي وزعه عليهم سابقا، لأنه لازم لتسليح الرديف، وتعهد لهم بأنه يحمل الحكومة على استبقاء سلاحهم في أيديهم وأكد لهم أنه لم يخطر ببالها تجنيدهم.
وبينما كان سليمان باشا يخاطب الثوار بهذه اللهجمة المعتدلة، كان الأمير بشير يزرع بذور الشقاق في صفوفهم. وبعد مفاوضات اشترك فيها ولداه الأمير قاسم والأمير أمين والمطران عبد الله البستاني واختيارية دير القمر، أصدر الأمير بشير مرسوما بتطمين أفكار الثائرين. وفي 4 حزيران (يونيه) توجه وفد من قبل الأمير قاسم وأهل دير القمر على اختلاف مذاهبهم الى معسكر الثوار بجوار صيدا، وتلا عليهم مرسوم الأمير بشير، فاطمأنت خواطرهم وعادوا إلى أوطانهم بسلام. وبعد بضعة أيام ورد مرسوم ابراهيم باشا بالعفو عنهم، والتأكيد لهم أن الحكومة لا تنوي تجنيدهم.
أما بجوار بيروت فنشرت راية العصيان في أول حزيران، وكان أول من شق عصا الطاعة احمد داغر وأبو سمرا غانم مع عدد قليل من الرجال، وكانوا أهل المتن ودير القمر. وانضم اليهم بعض أهل الساحل، وهاجموا بيروت من جهة الكورنيتا، فالتزمت حامية بيروت خطة الدفاع، وقابلت الثائرين باطلاق المدافع فرجعوا عنها.
ثم ثار أهل المتن من النصارى والدروز، وتوجهوا في 4 حزيران (يونيه) ألى دير مار الياس انطلياس وتحالفوا على العمل يدا واحدة، وانضموا الى سائر الثائرين. وفي 5 حزيران لبى داعي الثورة بعض أهل كسروان بقيادة الشيخ فرنسيس الخازن والشيخ شمسيس حبيش، ونهب الثوار مخازن المحكومة الكائنة خارج المدينة، وحرضوا أهل دير القم رعلى العودة الى العصيان فلم يفلحوا.
ثم أرسل الأمير بشير وفدا من اختيارية دير القمر يصحبهم البلوكباشي جرجس أبو دبس الى ثوار ساحل بيروت ليدعوهم الى الطاعة، فعادوا مخذولين، فكرر الأمير مفاوضتهم بواسطة ولده الأمير أمين، ثم بواسطة سواه، غير أن الثوار أصروا على العصيان الا اذا أجيب مطالبهم التالية وهي:
1- بقاء سلاحهم في أيديهم. 2- عدم تجنيدهم. 3- الا يدفعوا الفردة الا عن الاحياء فقط، ولا يكلفوا دفع ما كان مرتبا على الذين توفوا أو قتلوا في أثناء الخدمة. 4- ابطال السخرة والشغل في معدن الفحم الحجري في قرنايل.
وطلبوا من الأمير بشير:
(1) انشاء ديوان مشورة في بيت الدين، يؤلف من عضوين من كل طائفة. (2) ان يكون تحصيل الميري في عيد الصليب. (3) ان يكون معدل الفردة أي المال المفروض على كل رجل ثلاثين قرشا. (4) أن الحوالي لا يكلف المديون شيئا. (5) اذا عجز المديون عن وفاء دينه لا يجوز التحويل على أقربائه.
وأضاف بعضهم الى هذه الشروط، شرطا آخر هو ابعاد المعلم بطرس كرامة عن ديوان الأمير.
ومما لوحظ في تلك الأثناء اختلاط بعض الفرنسويين بالثوار، وتشديد عزائمهم على القتال، وشوهد رجل فرنسي يوزع عليهم أسلحة وذخائر ونقودا، كما أن المسيو بوريه قنصل فرنسا في بيروت عامل الحكومة المحلية بتشدد، يخالف خطة دولته الولائية نحو حكومة محمد علي، فأدى ذلك الى نقله من بيروت وابداله بسواه.
وفي أواسط حزيران (يونيه) أظهر الوار نشاطا عظيما، فتوجهت شراذم منهم إلى جهات مختلفة لاثارة أهل البلاد كزحله وبعلبك، حيث انضم ايهم الأمير خنجر الحرفوش وأهل شمالي لبنان، وذهب فريق منهم الى جهة صيدا. ولاحظ محمود بك متسلم بيروت أنه لم يبق الا القليل من الثوار في ظاهر المدينة، فوجه عليهم كتيبتين من جهة الكورنتينا، ومثلها من طريق بوابة يعقوب، فحصلت موقعة استمرت نحو ثلاث ساعات. وكان قد اقترب الليل فرجعت الجنود الى أماكنها. وحصلت مواقع صغيرة في جهات طرابلس وشمالي لبنان والبقاع، واستولى الثوار على مقادير كبيرة من الذخائر والمؤن كانت مرسلة للعسكر المصري من الشام.
اتصل بمحمد علي ما يبديه الثوار اللبنانيون من النشاط، فبادر الى ارسال حفيده عباس باشا الى سوريا ومعه قوة تبلغ نحو اثنى عشرة ألف مقاتل، فوصل الى بيروت في 27 حزيران (يونيه) سنة 1849. وحضر عثمان باشا من شمالي سوريا الى بعلبك بنحو اثنى عشر ألف مقاتل، وكان سليمان باشا يتولى قيادة نحو عشرين ألف جندي مرابطة في المدن الساحلية من صيدا الى طرابلس ، فأضحى لبنان بين نارين، هذا عدا اضطراب الأفكار واختلاف المشارب في داخله.
فاللبنانيون بوجه عام كانوا متذمرين من حكومة محمد علي، غير أن عوامل مختلفة قسمتهم إلى ثلاثة أقسام: فالقسم الأكبر وقف موقف الحيادة أو التذبذب، من هؤلاء أكثر الدروز نظرا لتجردهم من السلاح، ولأن المئات من أبنائهم كانوا مجندين، وبعض زعمائهم كانوا رهائن عند محمد علي، أضف الى ذلك حنقهم من المسيحيين، لأنه فيما مضى كانوا ممالئين للحكومة والأمير بشير عليهم، والسلاح الذي كان مطلوبا من المسيحيين اللبنانيين، هو ذلك السلاح الذي وزعته الحكومة عليهم سنة 1838 ليقاتلوا به الدروز.
وكان حزب الأمير بشير الموالي لحكومة محمد علي مؤلفلا من أبناء الأمير وحفدته، وبعض المقربين اليه من ذويه الشهابيين، والأمير أمين أرسلان والشيخ حسين تلحوق والشيخ يوسف عبد الملك ودروز بعقلين وعنبال، وفريق من جيع الطوائف في مختلف أنحاء لبنان.
أما حزب الثورة فكان أكثره مؤلفا من أهل دير القمر والمناصف والشحار والمتن وكسروان والسواحل بزعامة من ذكرانهم قبلا من الناقمين على الأمير بشير من الأمراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ الخوازنة والنكديين والحبيشيين والدحادحة، وكان يبث في الثورة روح النشاط بعض المحرضين الأجانب. ولولا هذا الانقسام لنجا اللبنانيون أولا وأخيرا من مظالم ومغارم ابراهيم باشا والأمير بشير، لأن سكان لبنان كانوا حينئذ نحو ثلثمائة ألف نفس، وبلادهم شديدة الوعوة كثيرة المياه. وقد رأينا ما لاتحاد الكلمة من التأثير في ثورة حوران، حيث تمكنت فئة قليلة من مقاومة الألوف الكثير تسعة شهور، ونجت مما أصاب اللبنانيين وهي موفورة الكرامة مرفوعة الرأس. واللبنانيون لا يقلون بسالة عن الحورانيين، غير أن الشقاق الداخلي أضعفهم عن دفع الاعتداء الخارجي.
فبعد وصول عباس باشا الى بيروت بجنوده، أخذت عوامل الارهاب والترغيب تعمل بين اللبنانيين، فحدث قتال بين عثمان باشا واللبنانيين في البقاع، وأبلى اللبنانييون فيه بلاء حسنا في أول الأمر، ثم عاد العسكر فنهب الغرزل والمعلقة، وحدثت موقعة ما بين جنود عباس باشا والثائرين المرابطين في ظاهر بيروت في أواخر حزيران (يونيه) استمرت من الظهر الى المغيب رجحت فيها كفة أهل البلاد. وجرت موقعة ثالثة في سنة الفيل تغلب فيها الجيش على الثوار وتبعهم الى المكلس، وحدث قتال شديد بجوار صيدا استبسل فيه الثوار ، وكان أكثرهم من الديريين الذين كانوا قد عادوا الى العصيان.
وفي الوقت نفسه كان الأمير بشير مجدا في مفاوضة أهل البلاد المحايدين ليتعرف موقفهم الحقيقي، وفي مخابرة الثوار ليثني عزمهم عن المقاومة ويلقي بذور التخاذل في صفوفهم، فدعا أهل الشوف الى اجتماع في مرج بقعلين، وطلب منهم ايضاح موقفهم بازاء الحكومة والثائرين فأجابوا:
1- انهم بقلب رجل واحد درزي ونصراني. 2- الا يعطوا سلاحا. 3- ولا يقدموا نظاما. 4- لا يعطوا فردة. 5- لا يعطوا ميري سوى مال واحد. 6- لايدعوا نظام تدخل البلاد. 7- لا يحاربوا أحدا من البلاد الا اذا كان قصده يحارب سعادته.
غير أن كثرة الوعود، وضغط الجنود من جهات مختلفة، أدى الى وقف رحى القتال في جهات صيدا، وتفرق الثوار الى أوطانهم، فتشتت المرابطون في ظاهر بيروت وتفرق زعماؤهم. ودخل عثمان باشا مقاطعة المتن من جهة البقاع، وانحدر قسم من جيشه الى حمانا ونهبها، فحصل بين العسكر والثوار قتال شديد انجلى عن بعض مئات من القتلى من الجانبين، وكانت خاتمة الأعمال الارهابية في أواسط تموز (يوليه) اذ هاجمت عساكر عباس باشا القرى الواقعة بجوار بيروت وهي المكلس والمنصورية وبيت مريى وبطشيه ووادي شحرور، فنهبوها وأعملوا فيها السيف والنار، وانقطع الثوار عن مواصلة القتال.
ثم ذهب عباس باشا بعسكره الى بيت الدين وعاد منها الى بيروت، فلم يلاق أدنى مقاومة، وشرع الأمير بشير في جمع السلاح من أنحاء لبنان ومطاردة زعماء الثوار والقبض عليهم . وفي 7 آب (أغسطس) أرسل الذين قبض عليهم من زعماء وغيرهم الى الاسكندرية بحرا، وكان عددهم سبعة وخمسين شخصا بينهم أربعة من الأمراء الشهابيين، وهم الأمراء فاعور قعدان من عبية وفارس حسن من كفر شيما ويوسف سلمان من الحدث، ومحمود سلمان من الحدث أيضا، وأربعة من الأمراء اللمعيين وهم الأمير حيدر من صليما وعبد الله شديد مراد من فالوغا وعليى منصور قائد بيه من برمانا وعلى فارس من بسكتنا، والشيخ نقولا الخازن والمشياخ حمود أبو نكد وولده قاسم وعباس ناصيف أو نكد. وابراهيم الشامي وغالب الشدياق ويوسف الشنتيري وطنوس عبد النور. وبعد وصولهم الى الاسكندرية أبعدوا الى سنار في بلاد السودان.
تدخل الدول الأوروبية في المسألة السورية
بينما كانت نار الثورة متقدة في لبنان وابراهيم باشا مجدا في اخمادها، وصل المستر ريتشارد وود على سفينة حربية، ونزل خلسة على الشطوط اللبنانية بقرب طرابلس واتصل بالثائرين، لكنه لم يستطع التأثير في نتيجة الاعمال العسكرية، لان حدة الثورة كانت قد أخذت في الانكسار بازاء القوات الهائلة التي سلطت عليها. غير أنه دفع اللبنانيين الى رفع عرائض الشكوى والاسترحام الى الباب العالي والى سفارتي انكلترا وفرنسا في الآستانة لينقذوهم من مظالم ومغارم حكومة محمد علي ويعيدوا اليهم الحكم العثماني. وأبلغ سفارة دولته في الآستانة أخبارا مجسمة عن خطورة أمر الثورة اللبنانية، والمظنون أن مغالاته ومغالاة المستر مور، في أمرها كانت من الأسباب التي دفعت الدول المتحالفة الى التعجيل في استعمال الشدة لحل المشكلة السورية.
وكانت قد ظهرت بوادر نوايا انكلترا الحربية من الخطة التي اتبعها قنصلها العام في الاسكندرية، حيث اخذ يسهل سبل الفرار لرجال الاسطول العثماني الذي سلم خيانة الى محمد علي وللجنود التركية التي كان ينقلها ذلك الأسطول. وصرح اللورد بالمرستون رئيس الوزارة الانكليزية في احدى جلسات البرلمان أنه موافق كل الموافقة على كل وسيلة من شأنها عودة رعايا السلطان الى حظيرة مولاهم. وكان محمد علي في أثناء الثورة اللبنانية قد وجه نجدة قوية الى سوريا بينها أربعة آلاف جندي عثماني، واستخدم لنقلها سفنا بعضها من سفن الاسطول العثماني. فبلغ قائد الاسطول الانكليزي في البحر المتوسط خبر ثورة اللبنانيين والنجدة التي وجهها محمد عي، فبعث بعض سفن اسطوله الى بيروت لاجل المحافظة على رعايا الانكليز دون التعرض للاسطول المصري بأي وجه من الوجوه.
أما الكومودور السير تشارلز نابيير قائد السفن التي وجهت الى بيروت، فكان من رأيه بناء على تصريح اللورد بالمرستون الذي سبقت الاشارة اليه ان يسرع الاسطول الانكليزي في الذهاب الى الشواطئ السورية ويقبض على السفن والجنود العثمانية التي وجهها محمد علي الى سوريا، واما يسوقها الى جزيرة رودس ويبقيها هناك حتى يتلقى أوامر جديدة بشأنها، أو يترك الجنود على الشواطئ السورية لمساعدة الثوار . الا أن اوامر القائد العام كانت تمنع اي عمل عدائي من هذا النوع منعا باتا.
وكان الاسطول الفرنسوي في تلك الاثناء يراقب حركات الاسطول الانكليزي فلما شعر بالعزم على انفاذ بعض السفن الانكليزية نحو الشواطئ السورية، ارسل باخرة الى بيروت لتنبئ رجال السلطة المصرية عما شعر به، ويحسن لهم ارجاع الاسطول المصري الى الاسكندرية، فعمل هؤلاء بالنصيحة مسرعين، وأقلعت سفن اسطولهم من بيروت ، في 5 تموز (يوليه). أما سفن الاسطول الانكليزي فوصلت الى بيروت في 7 منه، على أنها لو وصلت الى ميناء بيروت قبلما يبارحها الاسطول المصري لما استطاعت القيام بعمل عدائي، نظرا للأوامر الصادرة من قائدها الأعلى.
مكث السير تشارلز نابيير على الشواطئ اللبنانية الى أوائل آب (أغسطس) 1849، فوقف على الدور الاخير من ادوار الثورة اللبنانية، وزار بعض احياء الجبل، وحصل على معلومات ذات قيمة عن أحوال البلاد وأهلها وحكومتها، استفاد منها في الاعمال الحربية التي قام بها بعد ذلك بقليل.
وفي 3 آب (أغسطس) غادر ميناء بيروت بسفنه بناء على امر ورد عليه، وبينما هو في الطريق تلقى تعليمات جديدة تقضي برجوعه الى بيروت، وزيد عدد السفن التي وضعت تحت قيادته. وتسلم أيضا نسخة من اتفاق 15 تموز (يوليه) الذي عقد بين الدولة العثمانية وحلفائها لاخراج حكومة محمد علي من سوريا. وبموجب ذلك الاتفاق أعطى محمد علي مهلة عشرين يوما من تاريخ تبلغه مضمونا ليعلن قبول شروطها.
وصلت السفن الانكليزية الى مياه بيروت ثانية في 12 آب (أغسطس) ، ورأى الكومودور نابيير أن يقوم بمظاهرات وتأهبات تعد سفنه لفتح باب القتال حالما ينتهي الاجل المضروب لمحمد علي لقبول شروط الاتفاق، أو يستدرج المصريين الى القيام بعمل عدائي يبرر مقابلتهم بالمثل، فنشر على قواد سفنها التعليمات التي يجب على كل منهم اتباعها في المظاهرة التي ينوي القيام بها، وبعث بعد ذلك بالرسائل التالية:
1- بلاغ الى محمود بك، متسلم بيروت، ان انكلترا والنمسا وروسيا وبروسيا قد قررت اعادة سوريا الى السلطان، وطلب منه أن يضع تحت حمايته (نابيير) الجنود العثمانية التي أرسلها محمد علي مع جنوده الى بيروت، وأن يعيد الى اهل لبنان السلاح الذي نزع منهم، ويحذره من القايم بأية حركة عدائية. 2- رسالة الى قنصل انكلترا في بيروت، يطلب منه أن يبلغ قناصل الدول والتجار البريطانيين في بيروت، ان الدول قد قررت رد سوريا الى السلطان ويخبره عن البلاغ الذي أرسله الى محمود به متسلم بيروت. 3- رسالة الى قائد الجنود التركية التي ارسلها محمد علي الى بيروت يخبره عن نشرة اذاعتها على اهل البلاد والجنود العثمانية، وينذر القائد المذكور انه اذا حاول الانتقال بجنوده من معسكرهم ، يبادر الى فتح باب القتال.
أما النشرة التي اشار اليها، فملخصها تبليغ السوريين اتفاق الدول على رد سوريا للسلطان، وان السلطان أصدر خطا شريفا لتأمين راحة رعاياه، ويدعو اهل لبنان خاصة الى خلع نير محمد علي، ويعدهم قرب ورود الجنود والسلاح والذخائر الى الاساتنة، ويطمئنهم ان سواحل بلادهم اصبحت بمأمن من اعتداء المصريين، ثم يدعو الجنود العثمانية الذين اوصلتهم خيانة قائدهم الى ارض مصر ومنها الى سوريا، أن يعودوا الى طاعة السلطان، ويعدهم بالتجاوز عما مضى ويدفع مرتباتهم المتأخرة.
4 – رسالة الى الامير شهاب حاكم جبل لبنان يدعوه فيها الى طاعة السلطان، ويرسل اليه نسخة من النشرة المشار اليها أعلاه. راسلة الى الامير بشير قاسم ملح شهاب ند الامير بشير قاسم عمر شهاب حاكم لبنان، يحثه على الانحياز الى جانب السلطان ، ويعده بأنه يؤيده، وبأن الباب العالي سيوافيه بالامدادادت.
ثم اخذ في حجز السفن المصرية التي كان وفودها على ميناء بيروت متواصلات، ناقلة المؤن والمهمات الحربية الى الجيش، وكتب الى سليمان باشا الذي كان يتولى قيادة الجيش المصري في بيروت يخبره أن ما لديه من التعليمات يوجب عليه حجز السفن المتنقلة بين الموانئ المصرية والسورية حاملة جنودا ومؤنا وذخائر حربية، ويقترح عليه إصدار أمره بوقف حركة السفن ما بين الموانئ الداخلة في دائرة اختصاصه. اما سليمان باشا فأجاب معتذرا انه ليس لديه تعليمات من حكومته تنبئه بوقوع الحرب ما بين انكلترا ومصر حتى يوقف سير السفن ما بين القطرين أو ما بين الموانئ المصرية.
وفي تلك الاثناء وجد رجال الاسطول الانكليزي في احدى السفن القادمة من الموانئ المصرية كتابا من بوغوص بك الى سليمان باشا يؤكد فيه ان فرنسا ستساعد محمد علي عسكريا، وأنها ستسحب المسيو بوريه قنصلها في بيروت، لأنه خالف سياستها، وان قناصل دول الحلفاء في مصر يجدون في ترجمة اتفاق لندن لينشروه في سوريا طمعا في احداث ثورة فيها على حكومة محمد علي، وان الدولة العثمانية سترسل الى سوريا أسلحة وذخائر وستة آلاف جندي، وأنا قد أبلغت الأمير بشير ان بمقتضى اتفاق لندن سيرتفع عنه حكم محمد علي. ثم كان ما كان من عدم رضوخ محمد علي لنصوص الاتفاق المشار اليه، وأزف وقت تنفيذه بقوة السلاح، فوجهت الى بيروت قوات بحرية وبرية مختلطة من انكليز ونمساويين وعثمانيين يتولى قيادتها الامير السير روبرت ستوبفورد.
كانت قوات الحلفاء مؤلفة من نحو عشرين سفينة انكليزية وثلاث سفن نمساوية يقودها الامير بنديرا وثلاث سفن عثمانية بقيادة القبطان الانكليزي ووكر الموظف في البحرية العثمانية المعروف في تركيا باسم ياور باشا. وكانت القوات البرية مؤلفة من 5300 رجل من العثمانيين و1500 رجل انكليزي ومائة من النمساويين، وكان قائد القوات البرية جميعها السير تشارلز سميث وكان معها من القواد الاتراك محمد عزت باشا ومحمد سليم باشا، وبما أن السير تشارلز سميث كان مريضا، عندئذ سلم القائد العام الى الكومودور نابيير قيادة الجنود البرية مؤقتا، وهو كان اقدر القواد المرافقين للحملة على القيام بهذه المهمة، لانه فضلا عما عرف به من علو الهمة والاقدام، كان قد عرف عن طبيقة الاماكن التي ستكون ميدانا للقتال، وعلم عن احوال العدو واهل البلاد ما لم يعلمه غيره.
اما القوات المصرية في سوريا فكانت مؤلفة من نحو ثمانين ألف رجل، منها في بيروت تحت قيادة سليمان باشا خمسة عشر ألفا، وفي صيدا ثلاثة ألاف ، وفي طرابلس خمس آلاف ، ونحو عشرة آلاف في بعلبلك، وما بين أربعين وخمسين ألفا في سائر البلاد السورية. أما الثغور البحرية، فاذا استثنينا عكا لم يكن فيها من التحصينات ما يستحق الذكر. فبيروت وهي أهم المدن الساحلية كانت محاطة بسور قديم عليه استحكامات ضعيفة متداعية الى الخراب، ومدافع قليلة العدد لا تقوى على دفع غوائل الأعداء. على أن الجيش كان قويا بعدده وعدده، وبحسن نظام أكثر رجاله، واقتدار قواده المحنكين، وبيروت وان كانت تحصيناتها ضعيفة، فان مرتفعات لبنان القريبة منها كانت في ايدي المصريين، فاذا استولى العدو على المدينة يبقى محصورا فيها، لأن الجيش المصري يحول بينها وبين جبال لبنان. على انه كانت هنالك عوامل تضعف قوة الجيش المصري، فأساطيل الحلفاء تفوق الجنود البرية قوة اذا جرت الوقائع بقرب الشواطئ، نظرا لبعد مرامي مدافع السفن الحربية وشدة تأثيرها. كما ان استيلاء الانكليز على خط المواصلات البحرية ما بين مصر وسوريا، جعل الجيش المصري في سوريا تحت الحصار، وفي ذلك ما فيه من التأثير المادي والمعنوي على حالة الجيش. وكانت روح الاستياء منتشرة بين جنود ابراهيم باشا لان الحكومة لم تحسن معاملتهم بعد موقعة نزب، اذا امسكت عليهم مرتباتهم مددا تتراواح بين أربعة عشر وتسعة عشر شهرا.
وكان بين هؤلاء الجنود كثيرون من السوريين التائقين الى التخلص من نير الحكومة المصرية، وعدد غير قليل من الجنود المأجورين وهؤلاء انما يحاربون على قدر ما يؤجرون.
وكان لابد من حصول الوقائع في لبنان، ومع ان أهل لبنان كانوا غير متحدي الكلمة، فانهم كانو شديدي النقمة على حكومة محمد علي والأمير بشير، ونار ثورتهم، وان كانت قد أخمدت بحسب الظاهر، فانها بقيت مخبوءة تحت الرماد ولا يصعب على عمال الخلفاء اضرامها. فمواقف الجنود المصريين بين اللبنانيين مع وجود عدو خارجي بازائهم، كان مستهدفا للخظر مستوجبا للحذر.
على ان الضرب القاسية المظهر لم تأت من أعداء محمد علي بل من اصدقائه الفرنسويين، فان المسيو تيارس رئيس وزرائهم كان قد غرر به ودفعه الى رفض شروط الحلفاء، ووعدته الحكومة الفرنسية بان تمده بالمال وبمائة آلف جندي ومائة وأربع سفن. والمسيو تيارس لم يغرر بمحمد علي وحده بل غرر بدولته وغامر بكرامة قومه، لأنه بنى سياسته على مقدمات غير صحيحة، اذ كان مغاليا باعتقاده بقوة جيوش محمد علي، وتوهم بأن انكلترا لا تستغني عن مخالفة فرنسا، ولانها لن تقوم بعمل حازم لمقاومة محمد علي الا بعد الاتفاق بين الدولتين عليه، وظن ان مبادئ سياسة الدولتين ومصالحهما متفقة، وجهل أو تجاهل البون التاسع ما بين مرامي سياستيها فيما اختص بمصر وسوريا وما وراءهما من البلاد الشرقية. فلما ظهر خطأ تقديره، وصارت فرنسا منعزلة عن الدولة العظمى، وأصبحت الحرب على قارب قوسين أو أدنى، عمد الى التضليل والتهويل، فاستصدر الاوامر بتعبئة وتقوية الجيش والأسطول، وأرسل التعليمات الى الاميرال لالاند قائد الاسطول الفرنسي في مياه الشرق الادنى، ليكون على قدم الاستعداد لمقابلة الطوارئ، ونادى بأن مصر لا تنال بضيم وهي في ظل العلم الفرنسي الظليل.
لكنه لم يلبث أن وجد فرق الجيش غير مجهزة التجهيز اللازم، وعددها أقل من المطلوب، وعتادها الحربي ناقصا، ودور الصناعة لا تفي بالمرام، وان الاسطول رغما عن حسن استعداده لمقتضيات السلم، لم تكن به الكفاءة لخوض غمار الحرب على بلاده، وعلى محمد علي وعلى السلام العام بمغامرته السياسية المبنية على الهوس وخطأ التقدير، فعول على اتباع سياسة التقهقر، فأبعد أسطول الشرق الأدنى عن مجرى الحوادث الخطيرة، ثم استبدل قائده وزود الخلف بتعليمات سلمية، وأخيرا استرجع الأسطول الى الموانئ الفرنسية. كما أن الملك لويس فيليب ادرك خطورة موقف فرنسا بازاء المجتمع الدولي ، فأقال وزارة تيارس وخلفتها وزار جيزو فأحجمت هذه اعن امداد محد علي بالمساعدات التي كان يرجوها من الوزارة السابقة.
وهكذا اصبح محمد علي في عزلة تامة بعد أن صار في حالة حرب مع خمس من أعظم دول الارض.
في هذه العزلة التامة، وفي هذه الحالة من خيبة الأمل، وجد محمد علي نفسه في ساعة الخطر، وفي الساعة التي كان فيها خيرة جنوده وأكابر قواد جيشه ضمن نطاق الحصار، وبات حكمه وسعادته وسعادة أعقابه من بعده مهددة بالزوال، ومحمد علي كان رابط الجأش في مواجهة الأخطار، واسع الحيلة في حل المشكلات، ومع شدة عناده وصلابة عوده كان مرن السياسة عند مسيس الحاجة، غير انه في هذا الدور الاخير من ادوار المسالة السورية، ظل منقادا لمواعيد المسيو تيارس الغرارة الى ان اوصلته الى شفير الهاوية، فلم يبق لديه من الوقت لحل الاشكال سريعا على وجه يحفظ كرامته ويرضي الحلفاء، لان عزة نفسه ابت عليه التضاؤل فجأة أمام دول الحلفاء بعد أن كان قد أظهر ما أظهر من الشدة والحدة في مخاطبة مندوبيهم، عندما عرضوا عليه شروطهم ورفضها، كما انه حذر الاستعانة في مقاتلتهم، لانه لو كسر جنودهم كسرة شائنة لحفر بينه وبينهم هوة عميقة، ولطال أمد الحرب، فجردوا عليه حملات جديدة، ووسعوا دائرة القتال، وهاجموه في الاسكندرية نفسها، فينقطع الرجاء بمصالحتهم على شروط تحقق آماله. فاذا تذكرنا كل ذلك علمنا سبب الضعف الذي ابداه ابراهيم باشا في مقاومة الحلفاء في المدن والجهات الساحلية كما سنرى.
وصل الامير السير روبرت ستوبفورد القائد العام لقوات الحلفاء الى بيروت في 9 أيلول (سبتمبر) 1840، وقرر بدء الحركات الحربية بالنزول في جونيه حيث يسهل فيها الاتصال باللبنانيين وتوزيع الاسلحة عليهم، كما أنها واقعة على الطريق المؤدية من طرابلس الى بيروت فاصلة بين حاميتي المدينتين، ولو جرى احتلال بيروت اولا لبقي الجيش المصري حاجزا بينها وبين لبنان، ففي مساء 9 أيلول (سبتمبر) استعد الاسطول لانزال الجنود الى البر، وفي صباح 10 منه قام قسم منه بمناورة أمام رأس بيروت ليوهم العدو أنه بغى مهاجمته، وانزال الجنود الى البر في تلك الجهة. ثم أقلعت السفن متجهة نحو جونيه ومصب نهر الكلب، وأنزلت الجنود فيهما، فأخذ اللبنانيون يقدون عليهم لتسلم السلاح. وممن حضر بعد أيام قليلة الأمير عبد الله حسن شهاب حاكم كسروان، وهو ابن أخي الأمير بشير شهاب حاكم جبل لبنان، فكان لتسليمه مغزى عظيم، لاسيما أن عثمان باشا احد كبار قواد ابراهيم باشا كان مرابطا في كسروان مع قوة كبيرة من جنوده.
واحتلت الجنود العثمانية غزير وحريسة وزوق ميكائيل من البلاد الكسروانية، ولم يتصد عثمان باشا لها، كما أنه لم يحاول منع نزولها في جونية، غير أنه في تلك الاثناء كان ابراهيم باشا يتنقل ما بين القاطع وكسروان. ثم حصل قتال مع الثوار في بقعاثا وميروبا ووطا الجوز، واحرقت حراجل وفاريا ووطا الجوز، وبعض بيوت من فيترون. وحدثت موقعة في عين عار بين الجنود العثمانية والامير مسعود أما الألبانيون والدروز فانهزموا مع الامير مسعود، فجرأ هذا الانتصار كثيرين من اهل القاطع على الانضمام الى عسكر السلطان، وحضر اهل بيت شهاب الى المعسكر العثماني، وتسلموا الاسلحة لمحاربة ابراهيم باشا، وعلى اثر ذلك حصلت موقعة بين رجال ابراهيم باشا والثوار في بيت شباب وعين العلق وجوارها، فتغلب العسكر على الثوار، ونهب البلدة والكنائس والأديار، وحرقوا بعض البيوت.
وبعد أن ثبتت عساكر السلطان أقدامها في جونية وجوارها، شرع الاسطول في اتخاذ التدابير لاحتلال المدن الساحلية. ففي 11 أيلول (سبتمبر) طلب قائد الاسطولين الانكليزي والنمساوي من سليمان باشا أن يسلمهما مدينة بيروت ليحتلاها باسم السلطان، فماطلهم في الجواب، فقابلوا المماطلة باطلاق المدافع على قلاع المدينة وأبراجها، فاحتج سليمان باشا على ذلك احتجاجا شديدا، زاعما ان عددا من النساء والاطفال والعاجزين ومن الفلاحين المساكين الذين لا شأن لهم في النزاع ذهبوا ضحية لنيرانهم، وأنهم اذا كانوا حقيقة يرغبون في سلامة الابرياء، فما عليهم الا ان يواجهوا خطابهم بشأن تسليم المدينة الى محمد علي. اما هو فالاوامر الصادرة اليه من مولاه توجب عليه الدفاع عنها لا تسليمها، وعليه فهو عازم على الدفاع عنها بكل قواه. فقواد الحلفاء لم يشددوا الحصار على بيروت بل كانت سفنهم تمطرها وابلا من قنابلها من حين الى حين. ووجهوا بعض سفنهم الى جهات اخرى.
الاستيلاء على جبيل 12 و13 أيلول (سبتمبر) سنة 1849
في 12 أيلول (سبتمبر) هاجم الحلفاء قلعة جبيل بحرا، وبعد اطلاق المدافع عليها بشدة ساعة كاملة، انزلت الجنود البرية للاستيلاء عليها، ولما اقتربت منها امطرتها الحامية نارا آكلة واضطرتها الى الانسحاب، لان الحامية كانت معتصمة بحصن منيع مستور عن السفن فلم تصبه مدافعها، ولم يكن في امكان القصيلة البرية اقتحامه لوجود خندق عميق امامه وحائط رفيع لا باب فيه ولا يمكن تسلقه، والحامية مستترة وراء الاستحكامات. لكن في اثناء الليل تمكن اللبنانيون الموالون للحلفاء من احتلال البلدة، كما ان الحامية الالبانية التي كانت في القلعة انسحبت منها تحت ستار الليل، فاستولى عليها الحلفاء في الصباح.
فالاستيلاء على جبيل سهل اتصال الحلفاء باهل البلاد المجاورة، فاقبل كثيرون منهم على تسلم السلاح والمحاربة الى جانب الحلفاء.
البترون
وتقدم الحلفاء من جبيل الى البترون، فطردوا الالبانيين الذين كانوا نازلين في جوارها، ووزعوا السلاح على رجال تلك المقاطعة الذين انضموا الى الحلفاء فثبتوا أقداهم هؤلاء في شمالي لبنان.
الاستيلاء على حيفا 17 و18 أيلول (سبتمبر) سنة 1840
وفي 17 و18 أيلول (سبتمبر) هاجمت السفن مدينة حيفا ففرقت حاميتها التي كانت مؤلفة من خمسمائة مقاتل، واتلفت عدة مدافع، ودكت حصنا، واستولت على مدفعين وعلى كمية من الاسلحة والمؤن. قامت بكل ذلك دون ان تصاب باقل خسارة سوى جرح رجلين اثنين من انفجار احد مدافع العدو بينما كانا يعملان على اتلافه.
الاستيلاء على صور 24 و25 أيلول (سبتمبر) 1840
انتقلت السفن الى صور في 24 أيلول (سبتمبر) ، فأطلقت النار على حاميتها وشتت شملها، وأنزلت جنودا الى البر في اليوم التالي، فاتلفت المدافع واستولت على مقدار كبير من الحبوب وعلى بعض الذخائر.
الاستيلاء على صيدا في 26 أيلول (سبتبمر) 1840
هذا ما قامت به السفن. وكانت الجنود البرية قد وطدت مركزها في جونية وغيرها من قرى كسروان، وانتصرت على الجنود المصرية في موقعت عين عار التي اشرنا اليها قبلا، وأسرت منها ما بين ثلاثمائة وأربعمائة جندي. وأنس الحلفاء من ابراهيم باشا الغربة في التزام خطة الدفاع، فقرروا مهاجمة صيدا بحرا، واحتلالها، فتزداد قوة الحلفاء المعنوية، وتتسع مناطق اتصالهم باللبنانيين الناقمين على ابراهيم باشا.
وكانت القوة التي هاجمت صيدا مؤلفة من ثماني سفن حربية يقودها الكومادور نابيير ونحو الف مقاتل من الجنود البرية. أما حامية المدينة فكانت تبلغ نحو ثلاثة آلاف رجل مقاتل. ورست السفن في ميناء صيدا في 26 أيلول (سبتمبر) وطلب قائدها من المستلم تسليم المدينة ، فرفض، فاطلق السفن مدافعها على القلعة وثكنات الجنود ثم على المنازل لوجود الجنود فيها أو مخندقين وراءها، فخربت منازل كثيرة وفي جملتها منزل سليمان باشا، ثم انزلت الجنود الى البر فقاومتها الحامية مقاومة عنيفة وقاتلتها مستبسلة عند اخراقها للمدينة، وأخيرا سلمت بعدها قتل قائدها الباسل حسن بك وعدد كبير من رجالها. اما المهاجمون فخسروا أربعة قتلى و23 جريحا.
وبعد ان تم فتح المدينة وضعت فيها حامية عثمانية، وانزل الاسرى الى السفن ونقلوا الى بيروت، وبقيت بعض السفن الحربية تحت قيادة القبطان باركلي في ميناء صيدا وعاد الكومودور نابير الى جونية. وقد كان لسقوط صيدا في ايدي الحلفاء وقع سيئ عند ابراهيم باشا لقربها من جنوبي لبنان الذي يقيم فيه حاكم الجبلن ولذهاب حاميتها كلها ما بين قتيل واسير، فاشتد ساعد الثوار، وانقطعت المواصلات الساحلية ما بين الموانئ الباقية في ايدي المصريين.
وكان المستر وود واعوانه يحرضون اللبنانيين على الثورة والانحدار على السواحل لتسلم الاسلحة والذخائر. وكانت قوة كبيرة من الجنود بقيادة عثمان باشا مرابطة في ميروبا من جرود كسروان، وقوة اخرى بقيادة سليمان باشا في ظاهر بيروت. اما ابراهيم باشا فكان يتنقل ما بين المعسكرات المختلفة ومقاطعات المتن والشوف، عاملا على استبقاء من استطاع من اللبنانيين على موالاته. ولما بلغه خبر سقوط صيدا في ايدي الحلفاء، اسرع في الذهاب الى بيت الدين، وعاد الى سياسة التفريق الطائفي التي منكته قبلا من رقاب اللبنانيين، فدعا الامير بشير بعض مشايخ الدروز الى الاجتماع في بيت الدين في 4 تشرين أول (أكتوبر) سنة 1840 وحتى يغري الدروز المسيحيين "كتب لهم ابراهيم باشا حجة على نفسه بان كسروان تكون لهم ملكا الى الابد بكامل أرزاقها وعمارها، وتعهد لهم بانه يرجع النظام الذي اخذوه منهم وانه لا ياخذ منهم لا فردة ولا ميري".
على أن تلك الحجة لم تكن اعظم قيمة من ذلك المرسوم الذي اصدر للمسيحيين في سنة 1838 بالانعام عليهم بستة عشر الف بندقية لمقاتلة الدروز، وبتخويلهم نقل السلاح "دائما سرمدا". وقد كانت اقل منه تاثيرا ونجاحا لاسيما ان حكومة ابراهيم باشا والامير بشير في لبنان كانت قد بلغت دور الاحتضار. ففي تلك الاونة غادر الامير بشير قاسم ملحم معسكر المصريين القريب من بيروت خلسة، وانضم الى معسكر الحلفاء في جونية.
كما ان الامير بشير الكبير نفسه، ابلغ الحلفاء سرا انه مستعد للانضمام الى صفوفهم، طالبا ابقاءه حاكما بضمانة الدول الاربع، وان يعطي مهلة لاستدعاء اولاده وحفدته من معسكر ابراهيم باشا، فلم يوافقوه على الضمانة، لكن رضوا باعطائه مهلة مشترطين عليه التعجيل في اثبات حسن قصده بالعمل، وقر الراي على انه اذا لم ينضم الى الحلفاء في موعد ضربوه له عزلوه وولوا الامير بشير قاسم ملحم بدلا منه. اما الامير بشير هذا فتلقاه الحلفاء بالاكرام هند وصوله الى جونية، ثم صعد الى الجبل ليتولى قيادة اللبنانيين الذين كانوا يراقبون حركات ابراهيم باشا وعثمان باشا في ميروبا.
وعلى اثر ذلك فر احد ضباط جيش عثمان باشا وبعض الجنود الى معسكر اللبنانيين، وابلغ الامير بشير قاسم ان عثمان باشا عازم على الرحيل بعسكره الى البقاع في فجر اليوم التالي بناء على امر ورد عليه ابراهيم باشا، فبادر الامير الى مهاجمته في الصباح، فانهزم عثمان باشا واللبنانيون يقتفون اثره الى نبع صنين، واخذوا من رجاله نحو ثلثمائة اسير. وقد جرت هذه الوقعة في 4 تشرين اول (اكتوبر)،وهو اليوم الذي اجتماع فيه ابراهيم باشا بالدروز في بيت الدين. فارتفع شان الاميربشير قاسم في عيون قواد الحلفاء.
وبعد فتح صيدا وانهزام عثمان باشا، اتجهت الابصار الى مهاجمة سليمان باشا والاسيتلاء على بيروت، وداخل الياس جنود سليمان باشا لخوفهم من قطع مواصلاتهم مع البلاد الداخلية، كما قطعت ما بينهم وبين البلاد الساحلية من الجهتين الشمالية والجنوبية. وكانت خطة الحلفاء ان يهاجموا بيروت برا وبحرا، فاخذت قوات الحلفاء البرية وانصارهم اللبنانيون في التقدم من جنوية وجرد كسروان نحو بلاد القاطع، على ان يكون الملتقى في بحر صاف، لعل سليمان باشا ادرك الخطر من هذه الحركة، فاخلى بيروت في مساء 9 تشرين أول (اكتوبر). وبغتة في اليوم نفسه التقت طلائع جنود ابراهيم باشا بجنود الحلفاء المتقدمة نحو بحر صاف فردتها هذه على اعقابها.
وعرف بعد الاستكشاف ان ابراهيم باشا ومعه نحو ثلاة آلاف مقاتل يحتلون موقعا منيعا في بحر صاف، فاحتل الحلفاء موقعا ىخر بازائهم لا يقل عن موقعهم مناعة، وارسل الكومودور نابيير الى الامير بشير قاسم يستقدمه من بسكنتا الى بكفيا ليتقدم منها الى ما وراء موقع العدو في بحر صاف، كما انه امر عمر بك ان يتوجه بكتيبتين الى عجلتون، ثم يقطع نهر الكلب ليلا ويتقدم الى بكفيا فيتحد مع اللبنانيين ويهاجموا جنود ابراهيم باشا من الوراء، فاللبنانيون لم يتمكنوا من الوصول في الوقت المعين، لكنهم منعوا فرقة مؤلفة من نحو الفي رجل من انجاد ابراهيم باشا. اما عمر بك فقام بالمهمة التي انتدب لها بكل دقة.
وفي 10 تشرين (اكتوبر) عند الساعة الثانية بعد الظهر، شرع في اطلاق الرصاص على مؤخرة المصريين، ولما سمع الكومودور نابيير صوت الطلقات النارية، أمر جنوده وأنصاره اللبنانيين بالتقدم لمهاجمة العدو من الامام، وكان قد وجه كتيبة لمناوشة ميسرته، فتقدم الاتراك للهجوم ببسالة بقيادة سليم باشا والجنرال جوكموس وتسلقوا الاكمة التي كانت تحتلها جنود ابراهيم باشا، ولما بلغوا قمتها وواجهوا الجنود الواقفة في الخط الاول انقطع هؤلاء عن اطلاق الرصاص بنادقهم، والقوا سلاحهم مستسلمين لمهاجميهم.
وبعد شيئ من التردد، استأنفت جنود الحلفاء الهجوم على الخط الثاني، فاستقبلوا أولا بنار حامية، لكن لم يمض سوى نصف ساعة حتى انهزم رجال هذا الخط تاركين في ايدي العدو مؤنهم وذخائرهم وامتعتهم وبين ستمائة وسبعمائة اسير، وفصل الظلام بين المتحاربين. أما ابراهيم باشا الذي تولى القيادة بنفسه في هذه الموقعة ، فانهزم بشرذمة من رجاله مر بهم في قرية صليما الى قرنايل. وفي الليلة نفسها انسحب سليمان باشا من الحازمية نحو البقاع، تاركا مدافعه والفى جندي بقيادة الميرالاي صادق بك. اما خيامه وبعض المهمات العسكرية فكان قد ارسلها قبل يوم انسحابه. والفرقة التي تركت في بيروت سلمت مع قائدها الى الحلفاء في 11 تشرين أول.
ذكرنا قبلا ان الحلفاء أعطوا الامير بشير الكبير مهلة للتسليم، فهذه المهلة انتهت في 9 تشرين أول (أكتوبر) وهو لم ينضم الى الحلفاء، ففي ذلك التاريخ صدر فرمان بعزله وولى بدلا منه على جبل لبنان الامير بشير قاسم ملحم شهاب، وهو الملقب "أبو طحين". وتلا ذلك انكسار ابراهيم باشا في بحر صاف، وانسحابه وانسحاب سليمان باشا نحو البقاع، فظهر الامير بشير الكبير رجحان كفة الحلفاء، وعول على النزول الى صيدا للتسليم اليهم، وهو يأمل ان يبقوه في منصة الحكم وكان حينئذ خنا بحري بك في بيت الدين، فلاحظ حصول حركة غير اعتيادية في دائرة الامير، فادرك أنه يتأهب للفرار الى معسكر العثمانيين. وفي رواية أن الامير لما راى اتفاق كلمة اهل البلاد على مقاومة ابراهيم باشا، قال لبحري بك: "قوم روح لعند ياشتك وقل له لم عاد فائد، البلاد صارت جميعها صوت واحدة".
وفي 11 تشرين أول (أكتوبر) غادر الأمير بشير بيت الدين مع حاشية كبيرة قاصدا الى صيدا، فدخلها في 12 منه وتلقاء رجال الحكومة بالاكرام، ومنها أرسلوه الى بيروت حيث تقرر ابعاده الى مالطة، واذن له ان يستصحب عائلته واتباعه، واستبقت الحكومة له املاكه في لبنان، وحمل معه أمواله، وقيل انه كان لديه من النقود الذهبية ثمانية عشر ألف كيس.
وكان ابراهيم باشا على اثر انهزامه من بحر صاف قد عزم على الذهاب الى بيت الدين، لكن التقى على الطريق ببحري بك، فاخبره أن الامير بشير قد نزل على صيدا فعاد عن عزمه. اما الحاكم الجديد الامير بشير قاسم ملحم، فتقدم الى حمانا وحشد هناك نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل من اللبنانيين. اما الجيش المصري فكان قد احتشد منه في زحلة والمعلقة نحو خمسة عشرة ألف رجل بقيادة ابراهيم باش وسليمان باشا، وارسل مرضى الجيش وهم نحو الالف عدا الى دمشق، فاخذ الامير القلق حاسبا ان ابراهيم باشا ربما يعود الى مهاجمته، فطلب من الحلفاء ان ينجدوه بثلاث كتائب عثمانية، او يمدوه بعدد كبير من السلاح لتسليح الدروز، فيستغني عن النجدة العثمانية، ويكفيهم مؤونة ابراهيم باشا.
بعد انسحاب ابراهيم باشا وسليمان باشا الى البقاع، انجلت الحامية المصرية عن طرابلس، واللاذقية وأدنة بدون قتال، ولم يبق على الحلفاء الا ان يستولوا على عكا وهي المدينة الوحيدة المحصنة على السواحل السورية.
الاستيلاء على عكا 2 و3 تشرين الثاني (نوفمبر) 1840
تلقى الاميرال السير روبرت ستوبفورد في أواخر تشرين أول (أكتوبر) سنة 1840 أوامر حكومته بالاستيلاء على عكا. وفي 29 منه استقر الراي على حشد القوات البحرية وبعض الجنود البرية حولها، فصدر الأمر الى عمر بك ان يتقدم برا من صيدا الى عكا (الناقورة) بألفي مقاتل. وفي 31 منه اقلع الاميرال من بيروت بسفنه ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من الاتراك تحت قيادة سليم باشا، وبعض رجال المدفعية والهندسة، وجنود الاحتلال البحريين، فوصل عمر بك الى المكان المخصص له في نفس الوقت الذي أقبلت فيه سفن الاسطول على عكا في 2 تشرين الثاني . لكن مجرى الرياح لم يكن ملائما للسفن في ذلك اليوم، فارجى ضرب المدينة إلى اليوم التالي.
وكانت قوات الحلفاء البحرية مؤلفة من احدى وعشرين سفينة حربية منها سبع عشرة سفينة انكليزية. اما حامية عكا فكانت مؤلفة من نحو خمسة آلاف مقاتل، وكان محمد علي قد اهتم بتحصينها تحصينا محكما من جهة البر بنوع خاص، لان اكثر الذين حاصروا عكا في ما مضى جاءوها من جهة البر. اما واجهة التحصينات البحرية الواقعة الى غربي البلد وجنوبيها فلم تنل ما تستحقه من الاعتناء، ولعل تلك التحصينات كانت معدة لمقاومة الاتراك فقط، وهو لم يكن ليخشى سطوة بحريتهم، ويظهر انه لم يحسب حسابا لاتحادهم مع دولة بحرية قوية، ولتعرض الاسوار البحرية لقنابل مدافعها البعدية المرمى الشديدة التأثير.
وفي الساعة الثانية بعد ظهر 3 تشرين الثاني (نوفمبر) ابتدأ الهجوم على عكا، فسلطت جميع السفن قذائف مدافعها على المدينة واسوارها، فكان المشهد جهنميا كما وصفه أحد الشعراء بقوله:
قالوا بأن جهنما تحت الثرى ما لي أراها فوق عكة تضرم لم لو تكن دار الشقاوة مكة ما أمطرتها بالشرار جهنم
ورغما عن بسالة الحامية وقيام رجال المدفعية بدفاع مجيد، لم يكن في طاقة احد من البشر الثبات طويلا في وجه المقذوفات الهائلة ونيرانها الآكلة التي استمرت الى ان خيم الظلام، وهي تنصب من أفواه اربعمائة وسبعين مدفعا على موقع لا يزيد طوله على ثلاثة آلاف وثلاثمائة قدم وعرضه على الف وخمسمائة قدم.
وقد روى ان احدى سفن الاسطول الانكليزي أنفقت في هذه الموقعة مائة وستين برميلا من البارود. ومما زاد نكبة المدينة هولا، أن قذيفة اصابت مخزن الذخائر فانفجر انفجارا مريعا، فنسف ما فوق نسفا في طبقات الجو ودمر ما جاوره من الابنية. وكان فيما أتلفه نحو ألف وخمسمائة من النفوس أكثرهم من جنود الحامية. اما حاكم المدينة فانسحب منها ليلا مع بعض الجنود والاتباع، على ان الحلفاء لم يدخلوها الا في صباح اليوم التالي.
وقد انجلت الموقعت عن نحو الفين ما بين قتيل وجريح من حامية المدينة وثلاثة آلاف أسير، أرسل بعضهم الى الآستانة، والبعض الآخر الى بيروت. وكان في عداد الاسرى رئيس المهندسين الكولونيل شولتز البولوني المعروف في الجيش المصري باسم يوسف آغا. ووقع في أيدي الحلفاء مقادير عظيمة من الاسلحة والذخائر والمؤن، وحل بالمدينة وتحصيناتها ومدافعها من التمير والتخريب والتعطيل ما يفوق وصف الواصفين. أما خسائر الحلفاء فبلغت نحو عشرين قتيلا وأربعين جريحا، ولم تصب الا بعض السفن باضرار بسيطة يسهل اصلاحها.
وبعد الاستيلاء على المدينة، اقيمت فيها حامية عثمانية مؤلفة من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة سليم باشا ومائتين وخمسين من رجال الاحتلال البحريين ، ثم انسحب الاسطول من الميناء تاركا سفينتين اثنتين لمعاونة حامية المدينة عند اللزوم.
تسليم يافا والانقلاب العام
على اثر سقوط عكا في ايدي الحلفاء، سلمت حامية يافا، لفرقة من اسطول الحلفاء، وقدم النابلسيون خضوعهم ، وصار الانقلاب عاما على حكومة محمد علي، فدخلت المسالة السورية في دورها الختامي، واصبح ابراهيم باشا وجيشه غرباء في ارض اعداء، ولم يبق أمامهم سوى الاستئسار او التعرض للهلاك أو الجلاء.
انسحاب ابراهيم باشا من سوريا
بعد ما تم للحلفاء فتح الموانئ السورية وقطع مواصلات الجيش المصري بحرا، وجه القائد العام لقوات الحلفاء بعض السفن الحربية الكبرى بقيادة السير تشارلز نابيير الى المياه المصرية بمظاهرة تجاه الاسكندرية التي كانت حينئذ مقر محمد علي . وكان الغرض من هذه المناورة افهام محمد علي ان عدم خضوعه لارادة الحلفاء يجعل مقامه في القطر المصري نفسه معرضا للخطر.
أما السير تشارلز نابيير فرأى أن مجرد التظاهر البحري لا يأتي بنتيجة حاسمة، لان الأسطول لم يرفق بجنود برية يمكن انزالها الى البر لاحتلال الثغور، وكان اقتراب فصل الشتاء مما يحول دون مرابطة السفن بقرب الشواطئ المصرية، والقيام بأعمال حربية ذات شأن. كما أن التسويف في تسوية النزاع القائم بين الدولة العثمانية ومحمد علي ربماادى الى حرب أوروبية لما بين فرنسا من جهة وإنكلترا وحلفائها من جهة أخرى من اختلاف وجهة النظر في كيفية التسوية. وعدا هذه الاعتبارات كان السير تشارلز نابيير قد وقف على رسالة من رئيس الوزارة الانجليزية الى سفير حكومته إلى الآستانة، خلاصتها أن الخطة المثلى لحسم النزاعات بين الدولة العثمانية ومحمد علي هي أن يبادر محمد علي الى تقديم خضوعها للسلطان، ويعيد الى مياه الآستانة الأسطول العثماني الذي كان قد فر به الى الاسكندرية قائده أحمد فوزي باشا على أثر وفاة السلطان محمود، وأن يسحب جنوده من سوريا وكريت والبلاد العربية، وأنه متى فعل ذلك يمنحه السلطان الحكم الوراثي على مصر.
على أنه وان كان هذا مضمون رسالة رئيس الوزارة الانكليزية، فانه لم يصدر الى السير تشارلز نابيير تفويض من أي مرجع عال، بعقد اتفاق مع محمد علي باشا بحسب الرسالة المشار اليها. لكنه رغما عن ذلك، راى ان الاعتبارات والمعلومات السابق ذكرها تبرر شروعه في مفاوضة محمد علي، والاتفاق معه قبل الحصول على اذن دولته بذلك، لاعتقاده ان حل المشكلة حلا سريعا سلميا يقابل بالرضا من دولته وحلفائها، لأنه يؤدي الى تفريج الازمة السياسية والتخلص من موقف حربي محفوف بالشكوك.
فنجح السير تشارلز في مفاوضته لمحمد علي، وعقد معه اتفاق في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1840، غير أن الحلفاء لم يوافقوا على جميع مواد الاتفاق. فأعيدت المفاوضة على غير يده، وأرسلت تعليمات إلى قائد قوات الحلفاء أن يمضي في إجراءاته الحربية التي تيؤدي الى اخراج المصريين من سوريا، وألا يوقف تلك الاجراءات إلا متى ورد عليه علم من الأستانة بحصول الاتفاق مع محمد علي.
فبعد تجديد المفاوضة رضى محمد علي بشروط الحلفاء، وهي أن يبادر إلى طلب العفو من السلطان، ويعلن استعداده لارجاع الأسطول العثماني إلى مياه الآستانة، ولسحب جنوده من سوريا وكريت والبلاد العربية، وأن يفوض أمر مستقبله للمراحم السلطانية. رضى محمد علي بهذه الشروط التي لا تقيد السلطان بشئ، لأنه نظرا لما كان يعرفه عن نيات الحلفاء، تيقن أن على أثر تقديم خضوعه سيصدر السلطان إرادة سنية تعيد إليه حكم مصر الذي كان قد جرده منه، وأن يجعل الحكم وراثيا في أعقابه.
أما السلطان فتلقى عريضة محمد علي بالقبول، وأصدر أمره باعادة حكم مصر اليه، لكن أغفل مسألة الحكم الوراثي. وبعد تكرار المفاوضة والمماطلة انصاع الباب العلاي لنصيحة الحلفاء، وصدر أمر السلطان بمنح محمد علي وأعقابه الحكم الوراثي على مصر، وانتدب السير تشارلز نابيير لتنفيذ الاتفاق الذي كان قد صار في جوهره بعد المفاوضات المكررة كالاتفاق الذي عقده أولا مع محمد علي، فشهد تسليم الأسطول العثماني للمندوبين العثمانيين، وأرسل مندوبا مصريا وأصحبه بضابط إنكليزي إلى سوريا لأجل تبليغ ابراهيم باشا أمر والده بالجلاء عن سوريا، وتبليغ قواد الحلفاء وجوب تسهيل أمر الجلاء، والاذن للنساء والاولاد ولمرضى الجيش وجرحاه بأن يعودوا الى مصر بحرا، مارين بميناء حيفا أو ميناء آخر اذا وجدوا ذلك أكثر مناسبة.
ومن يمعن النظر في موقف الجيش المصري في سوريا بعد تخلي فرنسا عن محمد علي، وتألب سائر الدول العظمى عليه، ير من خلال الحوادث أن محمد علي علول على إخلاء سوريا حالما أضحى وحيدا بلا نصير من الدول الأوروبية، لأنه لم يكن في وصعه مخاصمة ذلك الاتحاد الدولي العظيم، لكن حيث كان لابد لجنوده وسياسته أيضا من التقهقر بشئ من الانتظام، كانت الأعمال الحربية التي قام بها جيشه بازاء الحلفاء شبيهة بمناورات تحفظ كرامته، وتستر غرض الانسحاب الذي كان يرمي اليه.
فابراهيم باشا وسليمان باشا وضباطهم وجنودهم المجربين لم يحاربوا في وقائعهم الأخيرة في لبنان بتلك البسالة والمهارة التي عرفوا بها في حروبهم السابقة. قارن مصادماتهم الضعيفة في لبنان بما أبدوه من الخبرة والشجاعة والثبات التي كللت هاماتهم بغار الانتصار مرارا في مقاتلة الوهابيين، واخماد ثورة المورة، ومحاربة العثمانيين في سوريا والأناضول، تجد البون شاسعا بين الحالين.
ولما انسحب ابراهيم باشا الى زحلة لم يكن هنالك عدو قوي يطارده ولو شاء العودة إلى لبنان لما وجد من يقف في وجهه، لأن جنود الحلفاء لم تبتعد عن السواحل، ولم يكن على مقربة من زحلة من الأعداء سوى ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل من اللبنانيين حشدهم الأمير بشير في حماتا، على مسيرة نحو ساعتين من زحلة، ولم تكن لديهم المؤمن والأسلحة والذخائر الكافية لمقاومة ابراهيم باشا. ومع هذا لم يتعرض ابراهيم باشا لهم بل شرع في اخلاء السواحل والبلاد الشمالية، فسحب الحامية المصرية من طرابلس وألف مخازن الذخيرة فيها، وأخلى منطقة أدنة واللاذقية.
ولم يمض الا شهر وبعض الشهر منذ نزول جنود الحلفاء في جونية حتى انجلت الجنود المصرية عن أعالي لبنان وسواحله وسوريا الشمالية، وفر أو أسر منها نحو عشرة آلاف رجل ، حشدهم معظم جيش ابراهيم باشا في زحلة والمعلقة تأهبا للانسحاب جنوبا. وكان عدده نحو ستين ألف رجل عند الانسحاب، مع أن جنود الحلفاء لم تتجاوز ثمانية آلاف مقاتل. ولا يخفى أن كل ذلك جرى قبل بدء المفاوضة ما بين السير تشارلز نابيير ومحمد علي، وأصبح التقهقر من سوريا عاما قبل انتهاء تلك المفاوضة.
وقد كان الجيش في أثناء انسحابه من شمال سوريا ، وفي المدة التي قضاها في دمشق، محافظا على النظام، غير أنه نهب بلدة المعرة لأن أهلها رفضوا تقديم ما يلزمه من المؤمن ، ونهب بعض المطاعم والمنازل في مدينة حمص، لأن المطاعم أقفلت أبوابها في وجوههم، وأهل المدينة أبوا أن يبيعوا الجنود ما يلزمهم من الأغذية، غير أن قائد الجيش المنسحب عاقب بالقتل الجنود الذين ثبتت عليهم جريمة النهب ورد بعض المنهوبات إلى أصحابها.
وبعدما احتشد الجيش في دمشق وجوارها، وقع مطر غزير واستمر وقوعه بضعة أيام ، وكان البرد قاسيا، فاضطر الجيش النازل في ضواحي دمشق الى الانتقال الى داخلها، فاحتل عددا كبيرا من الحوانيت وبعض الحانات وجميع المقاهي وبعض المنازل المحاذية للشارع الواقعة ما بين السنانية وبوابة الله. واحتل أيضا جوامع المدينة ما عدا الجامع الأموي وجامع السنانية، فارتفعت الأسعار المأكولات في المدينة، واحتكر الجيش المطاحن والأفران ليعد الزاد الذي يلزمه للرحيل. وسخر الدواب لنقل عائلات العساكر ولوازمهم، فحدث بسبب ذلك ضيق شديد.
وكان ابراهيم باشا في اثناء ذلك يعاقب بمنتهى الشدة الذين يحدثون التملص من تقديم ما يلزم منهم من المؤمن وعلف الخيل. ولما دنا وقت الرحيل عن دمشق جد في تحصيل بواقي الأموال المطلوبة منها ومن القرى التي تجاورها، ونهب القرى التي احجمت عن دفع الضرائب المرتبة عليها. فكان كل ذلك من دواعي اشتداد العداء له، معززا حركات الانتفاض عليه.
وظهرت بوادر الخيانة والتمرد في صفوف الجيش وبين الموظفين وأهل البلاد، ففر كثيرون من الجنود السوريين وخصوصا اللبنانيين في أثناء الانسحاب من شمالي سوريا، وعادوا إلى أهلهم، أو انضموا الى المحاربين، وكان بين هؤلاء شبلي أغا العريان الزعيم المشهور. وشعر ابراهيم باشا بحركات عدائية في دمشق وجوارها، فأسرع إلى التنكيل بعدد من الدمشقيين بينهم بعض الضباط، وأوقع ببعض شيوخ القرى وأهاليها. وانتفض عليه بعض الدروز والعربان وغيرهم، فاعترضوا قوافل الذخيرة عند سعسع ونهبوها، وقاتلوا العساكر، فتوجه اليهم ابراهيم باشا بنفسه بعدد كبير من المقاتلة وبعض المدافع، فشتت شملهم، وقتل وأسر منهم، وأحضر الأسرى الى دمشق حيث قطع رؤوس بعضهم.
ونسب الى شريف باشا أكبر رجال حكومة محمد علي في سوريا بعد ابراهيم باشا انه كان متواطئا مع الحكومة العثمانية، وانه كان يحاول التملص من الرجوع الى مصر ليبقى في سوريا، ويتولى الحكم فيها من قبل العثمانيين، غير ان ابراهيم باشا أحبط سعيه. ولما عول ابرهيم باشا على مغادرة دمشق نهائيا، عقد مجلسا دعا اليه أعيان البلد، وكلفهم بانتخاب متسلم عليها ، فوقع الانتخاب على حسن بك الكحالة، ثم نصحهم أن يلزموا السكينة ويحافظوا على الأمن، وهددهم بالعودة إليهم والانتقام منهم وتدمير بلدتهم فيما لو سمع أنهم أساءوا معاملة أي كان من المسيحيين أو اليهود أو المسلمين. وبعد انسحاب ابراهيم باشا من دمشق، قدم اليها أحمد أغا اليوسف منفذا من رجال السلطة العثمانية لتولي الحكم في دمشق، فشدد في المحافظة على الأمن، وأنذر كل من يتعدى على النصارى بالعقاب الصارم.
وكان في غضون ذلك، قد حدث تغيير في قيادة جنود الحلفاء، فأقيل الجنرال سمث وحلفه في 16 كانون أول (ديسمبر) سنة 1849 الجنرال جوكموس في ادارة الحركات الحربية برا، وكان مركز القيادة في بيروت، فنقله الجنرال جوكموس في 22 كانون أول (ديسمبر) سنة 1840 الى حاصبيا ليتقرب من مقر الجيش المصري . ثم وجه ضابطا من اركان حربه ليدير الحركات الحربية حول دمشق، ودعا باسم السلطان رجال لبنان وغيرهم من رجال البلاد الواقعة جنوبي بيروت فبعلبك فدمشق، ليحتشدوا ويطاردوا جنود ابراهيم باشا ويدفعوها نحو الصحراء.
فكان الامير خنجر الحرفوش وشبلي أغا العريان ورجالها المتاولة والدروز في مقدمة الذين تعقبوا جيش ابراهيم باشا الى ضواحي دمشق، وأخذوا في مناوشة مخافره الأمامية، ثم ارسل مندوب مسرى الى المدينة، فنثر في أنحائها نشرات تدعو الجنود الى الانضواء تحت لواء السلطان، وتعدهم بالمكافأة وحسن المعاملة، ففر على اثر ذلك الى جانب العثمانيين نحو مائة ضابط وثمنمائة جندي من جيش ابراهيم النظامي.
وكان ابراهيم باشا عندئذ يتأهب للانسحاب من دمشق، فأخلاها يوم الاثنين في 5 ذي القعدة سنة 1256 هـ = 29 كانون أول (ديسمبر) سنة 1849م ، وكانت عدة جيشه حينئذ نحو خمسة وخمسين ألف رجل يتبعهم نحو سبعة آلاف نفس من العائلات وغيرها.
فاتصل خبر الانسحاب بمندوب الجنرال جوكموس، فتقدم والأمير خنجر الحرفوش وشبلي أيضا الى الهامة القريبة من دمشق، ومنها أنفذ رسلا كشافة الى المدينة، فعادوا اليها مؤيدين خبر الجلاء فدخل دمشق مع أعوانه، وأعلن فيها حكم السلطان. ثم خرج متجها نحو الكسوة في أثر جيش ابراهيم باشا، فأدرك مؤخرة الجيش وحصلت بينه وبينها موقعة حامية الوطيس، انضم بعدها اليه نحو سبعمائة من متخلفي الجيش المصري،فذهبوا بهم الى معسكر الامير بشير قاسم في طبريا.
وكان الجنرال جوكموس قد نقل مقره العام من حاصبيا الى صفد، وبلغه أن ابرهيم باشا سيمر على جسر بنات يعقوب، فأمر بتدمير الجسر المذكور ، غير ان ابراهيم باشا عدل عن السير في تلك الطريق، واتجه نحو المزيريب، فوصلتها جنوده في 2 و3 كانون الثاني (يناير) سنة 1840. وكان الحورانيون يواصلون مناوشته في أثناء سيره، وقاسى رجاله وعيالهم الشدائد بسبب ذلك، ومن تأثير الأمطار وبرد الشتاء القارس.
مكث الجيش في المزيريب ثلاثة أيام، تأهب فيها لسفره الشاق في البادية، وأخذ قسطا من الراحة، وتناول الزاد وعلف الخيول. ثم بارحها مقسما الى ثلاثة فيالق ولى أحمد منيكلي باشا قيادة أحدها، وكان مؤلفا من المشاة والخيالة النظامية ما عدا جنود الحرس، وأمر بأن يدخل القطر المصري عن طريق غزة فالعريش. أما الفيلق الثاني فكان مؤلفا من المدفعية يقودها سليمان باشا الفرنساوي، وسار في طريق الحج الى معان، ومنها الى العقبة فالنخل فالسويس. وتولى ابراهيم باشا قيادة الفيلق الثالث الذي كان مؤلفا من جنود الحرس مشاة وخيالة، وفرسان الهنادي والباشبوزوق، وجعل غزة وجهته ومنها بحرا الى القطر المصري.
أما الجنرال جوكموس فانتقل من صفد الى جسر المجامع، ومن هذا الى جنين، وحشد جميع جنوده لمنازلة ابراهيم باشا في تلك الجهات حاسبا ان الانسحاب سيكون عن طريق جنين، غير ان ابراهيم باشا افسد عليه خطته هذه بتقسيم جيشه ، وتوجيهه في طرق مختلفة واقعة كلها الى شرقي نهر الاردن وبحر الميت.
فسار احمد منيكلي باشا من المزيريب متجها جنوبا بشرق مارا في حسبان فذيبان فالكرك، ثم اجتاز بوغاز الخنزيرة ودار حول الطرف الجنوبي من البحر الميت ميمما تل الملح واخترق السهل غربا الى غزة، وقد لقى في طريقه الاهوال، فبعد قيامه من المزيريب ببضعة أيام شح الزاد والماء، ولم يجد في الطريق منهما الا اليسير، فأخذت جنوده تفر نحو البادية والجبال، ووصل بوغاز الخنزيرة وهو مكان صعب المسالك يبعد عن المزيريب مسيرة عشرة أيام، بعد أن فقد من رجاله عددا كبيرا بسبب الجوع والعطش والاعياء. واجتيازهم بوغاز الخنزيرة وهم في اشد حالات الضنك والكلال، زاد عدد الوفيات وهلك كثيرون منهم بسبب وعورة المسالك وزلات الاقدام. أما بع اجتياز ذلك البوغاز فوجدوا ماء غزير، وأخذوا نصيبا من الراحة، ولكنهم لم يجدوا شيئا من القوت، فاضطروا الى اكل لحوم الحيوانات الميتة واعشاب برية.
وعند مرورهم على مقربة من البحر الميت، أوقععهم عدم الخبرة بالطريق في مستنقعات، فقدوا في اجتيازها عددا كبيرا من الرجال والنساء والاولاد والخيول، كما أن شراذم العربان أخذت تهاجمهم، ومن ذلك الوقت الى ان اقتربوا من غزة، كانوا في صراع دائم مع الجوع والعطش والعربان. وأخيرا وصل منيكلي باشا بفرق الخيالة الى غزة في 21 كانون الثاني (يناير) سنة 1841، ووصل بعده المشاة من رجاله في الخامس والعشرين والسادس والعشرين منه. وقد قدرت خسارة هذا الفيلق ما بين المزيريب وغزة بما لا يقل عن نصف رجاله.
أما الفيلق الثاني الذي كان يقوده سليمان باشا فكان أسعد حظا من الفيلق الأول، لأنه اتبع طريق الحج من المزيريب الى معان، فلم يصادف عقبة في طريقه، وبلغ معان والطقس صحو والمؤن وفيرة فيها وأهلها مقيمون على الولاء لحكومة محمد علي، فاستراح الجنود فيها خمسة أيام. غير أنهم لم يحملوا معهم الزاد الكافي لسفر طويل، لاعتقاد سليمان باشا أن ما يلزم لتمويلهم في ما بقى من الطريق قد ارسل من مصر الى المحطات الواقعة بين العقبة والسويس. غير ان اعتقاده كان في غير موضعه، فقاسى جيشه آلام الجوع والعطش، ولو لم يوفق الى استخراج الماء لسقياهم في بعض الطريق، ويبادر الى طلب الزاد ويتلقى شيئا منه، لهلك فريق كبير من رجاله. وقد كان عدد رجال فيلق سليمان باشا نحو تسعة آلاف وعدد مدافعه ما بين 150 و200 وقدر ما فقد منه في الطريق موتا وفرارا بنحو ألف وخمسمائة رجل، أما المدافع فأكثر الروايات تذكر أنه وصل منها الى القاهرة مائة وخمسون مدفعا بخيولهم.
أما الفيلق الثالث الذي كان يقوده ابراهيم باشا فسار من المزيرب الى السلط دون ان يلاقي مشقة كبيرة في طريقه، لكن وجد منها بعض العربان المعادين في قلعة السلط، فطردهم منها، وكانت البلدة خالية من مواد الغذاء لان اهلها كانوا قد نقلوها منها، فلم يقم الجيش فيها الا يوما واحدا ، ثم تقدم الى نهر الاردن واجتازه الى أريحا فمكث فيها نصف يوم، ومنها اتجه جنوبا بشرق فعبر نهر الاردن ثانية الى الضفة اليسرى، وشاع حينئذ انه عاد الى شرقي الاردن حذرا من الاصطدام بالجنود العثمانية التي كانت محتشدة لمقاومته في الخليل. والحقيقة هي أن عبور ابراهيم باشا الأردن من الشرق الى الغرب ثم رجوعه الى الضفة الشرقية، لم يكن الا مناورة دعاه الى القيام بها ما اتصل به من أن الجنرال جوكموس عول على مهاجمة غزة، والبطش بحاميتها المصرية، والاستيلاء على الميرة والذخيرة التي جمعت فيها لسد بعض حاجات الجيش المنسحب. وكان قد شرع فعلا في سوق الجنود نحوها، فاحباطا لهذا الهجوم تظاهر ابراهيم باشا بالعزم على مهاجمة القدس، فاجتاز نهر الاردن من الشرق الى الضفة الغربية، وأوهم الجنرال جوكموس انه زاحف عليها، فخدع العدو بهذه الحيلة، وبعد أن كانت جنوده قد شرعت في الزحف على غزة، ارتدت نحو القدس لأجل الدفاع عنها.
اما ابراهيم باشا فبعد ما اجتاز الاردن الى ضفته اليسرى استأنف الزحف جنوبا، فاجتاز جبل عجلون بشئ من الثقة، ومر في اماكن خالية من الماء ومواد الغذاء مع شدة حاجة جيشه اليها. وكانت العربان تناوش جنوده الى أن بلغوا الكرك بعد عناء شديد، فأقام بجوارها أربعة أيام يحاول عبثا الحصول على المؤن التي يحتاج اليها، لأن الكركبين اتخذوا موقفا عدائيا، فارتحل عنها الى الطفيلة فوجد فيها الماء الغزير، لكنها كانت خالية من المواد الغذائية، لأن الفيلق الأول كان قد مر فيها ونهبها. وهكذا أخذت وطأة الجوع تشتد عليهم يوما فيوما، وكانت في الوقت عينه هجمات العربان عليهم متواصلة الى ان بلغوا غزة في 31 كانون الثاني (يناير) سنة 1841، وقد فقدوا عددا كبيرا من الرجال والنساء والاطفال اما فرار أو قتلا بأيدي العربان أو بالوفاة من تأثير الجوع والعطش والأمراض.
وعلى اثر وصول ابراهيم باشا الى غزة أبلغ والده خبر وصوله اليها، وطلب لوازم الجيش، فبادار الى امداده بالمؤن والملابس والاموال، وبلغه أمر الانسحاب نهائيا من سوريا، والعودة إلى مصر.
أما عدد الجنود الذين عادوا الى القطر المصري، فبلغ ما بين خمسة وثلاثين وأربعين ألفا منهم نحو ثلاثين ألفا عادوا عن طريق غزة، والباقون عادوا عن طريق العقبة فالسويس بقيادة سليمان باشا، والذين احتشدوا منهم في غزة عاد بعضهم الى مصر برا بطريق الصحراء، والبعض الآخر عاد مع ابراهيم باشا بحرا. وكان انتهاء انسحابهم من غزة في 19 شباط (فبراير) سنة 1841 وبه تم جلاء الجنود المصرية عن سوريا.
بقى للسوريين ان يسترجعوا أبنائهم المشتتين في مصر والسودان، فبعض اللبنانيين الذين كانوا قد ذهبوا الى القطر المصري بعدما استولى ابراهيم باشا على سوريا، وأشهرهم نعمان بك جنبلاط وخطار بك عماد وناصيف بك أو نكد، أعادهم محمد علي الى لبنان بعد أن أنعم على كل منهم برتبة الميرالاي أملا بأن يكونوا أعوانا لابراهيم باشا بعد أن ظهرت علامات التذبذب على الامير بشير، لكن لم يصلوا الى سوريا الا وقد انقطع الرجاء من بقاء حكومة محمد علي فيها، فانصرفوا الى أوطانهم.
أما باقي اللبنانيين وهم الذين أبعدوا الى السودان بعد ثورة سنة 1840، وسبق أن أتينا على ذكرهم في الكلام على تلك الثورة، فهؤلاء كان السير تشارلز نابيير قد اتفق مع حكومة محمد علي على اعداتهم الى أوطانهم، ثم انتدب ولده الكولونيل نابيير للذهاب الى مصر لارجاعهم الى أوطانهم، وبعد مفاوضات وممطالات عديدة عاد بهم الى بيروت في أواسط آذار (مارس) سنة 1841، ما عدا الأمير يوسف سليمان شهاب من بلدة الحدث، فانه كان قد توفى في صعيد مصر وهو عائد من بلاد السودان.
أنا الجنود السوريون الذين كانوا في القطر المصري ، فكان قد تم الاتفاق ما بين السر تسارلس نابيير وبوغوص بك بالنيابة عن محمد علي باشا على اعادتهم جميعا الى اوطانهم حالما يتم الجلاء عن سوريا. لكن رغما عن ذلك الاتفاق، اقيمت العقبات في سبيل ارجاعهم. وأخيرا بناء على الحاح الكولونيل نابيير الذين انتدب للمطالبة بارجاعهم وتأييد المعتمد الانكليزي في مصر له، أمر محمد علي بارجاعهم، فوصلت أول فرقة منهم الى بيروت في أواسط أيلول (سبتمبر) سنة 1841، ثم تبعها الباقون، فبلغت جملتهم نحو عشرة آلاف جندي. وبرجوعهم انتهت العلائق الرسمية ما بين مصر وسوريا ، لكن أعقبتها علائق جديدة بين القطرين مبنية على تبادل المنافع والاخلاص الخالي من الشوائب.
تأثير حكومة محمد علي في سوريا
زالت حكومة محمد علي من سوريا بانسحاب جنوده منها. أما تأثيرها فلم يزل مع ذلك الانسحاب، لأنها أحدثت في نظام الأحكام انقلابا عظيما، فأدخلت انظمة جديدة للادارة والقضاء والمالية والجندية، وأنفذت في السوريين سلطة العزيز المقتدر، فكان لذلك تأثيرات جمة في حياة البلاد الاجتماعية والأدبية والاقتصادية والادارية والسياسية، منها ما كان بعيد المدى، فاتصل تأثيره بوقتنا الحاضر.
التأثير الاجتماعي
من التغييرات الاجتماعية التي نشأت عن حكم محمد علي في سوريا اطلاق الحرية الدينية، ونشر روح الديموقراطية بالضرب على ايدي الزعماء والمتغلبين، ونزع السلطة من أيديهم، وانشاء العلاقة ما بين أفراد الشعب وحكامه مباشرة، وتأليف مجالس مشورة تمثل الشعب بعض التمثيل، ولها حق النظر في الشئون المحلية، بعد أن كان النظر في جميع الشئون منوطا بحكام مستبدين.
وقد كان لوجود ابراهيم باشا في سوريا تأثير في بساطة المظهر، بعد أن كان كبار البلاد يباهون بالملابس الفاخرة والمظاهر الخلابة وكثرة الأتباع، وانما كانوا يقلدون في ذلك الحكام العثمانيين. اما ابراهيم باشا فكان ميالا بفطرته الى بساطة المظهر والتخشن في المعيشة، ولعل حياته الجندية زادته استمساكا بذلك، لان احوال الجندية تقتضي التخشن وملابس رجالها بسيطة متماثلة لا تمييز فيها بين ملابس كبار الضباط وصغارهم الا بما عليها من العلامات الفارقة. ويروي انه لما جاء ابراهيم باشا بجيشه الى لبنان وحل في دير القمر، أقام في منزل حقير. لا ينزل فيه امثاله من الوزراء. وذهب ذات ليلة لزيارة الامير بشير زيارة غير رسمية، فلم يستصحب أحدا من رجال حاشيته بل كان بصحبته أحد خدمه، فقضى السهرة عند الامير في المسامرة والتدخين.
وكان الامير قبل ذلك لا يعهد في الوزراء سوى مظاهر الأبهة والترفع عن الناس، فلا تتحرك ركابهم الى آخر الا وهم مرتدون الملابس الفاخرة محاطون بالجند والعظماء. وكان الأمير نفسه بل من دونهن من الزعماء يجرون على الخطة نفسها كل حسب مكنته ومكانته. أما بعد أن تلقى هذه الزيارة الودية من ابراهيم باشا الخالية من التكلف البعيدة عن الفخفخة، لم يسعه إلا أن يحذو حذوه. وبما أن ابراهيم باشا وهو ابن عزيز مصر ورأس الحكومة السورية وقائد الجيش العام زاره مستصحبا خادما واحدا فحتى يحفظ النسبة ما بين مقامه ومقام مولاه وهما نازلان حينئذ في مكانين متقاريبن، رد له الزيارة منفردا.
وفي عهد ابراهيم باشا في سوريا طرح الامير بشير وأولاده العمائم واستبدلوها بالطربوش المغربي اقتداء بمحمد علي وابراهيم باشا ورجالها، فتبعهم في ذلك كبار رجال الدين وغيرهم.
وأظهر ما قامت به حكومة محمد علي من التغييرات الاجتماعية، المساواة بين رعايها على اختلاف الأديان والمذاهب. فقبل دخول ابراهيم باشا الى سوريا لم يكن مباحا للمسيحيين ان يتعمموا بالعمائم البيضاء أو الخضراء أو الحمراء، وكانت محظورة عليهم بعض أمور غير هذه، وكانت تولية المسيحيين مناصب الحكومة قليلة الوقوع. فحكومة محمد علي أزالت كل هذه الفوارق. وأباحت للمسيحيين ما هو مباح للمسلمين من لباس وركوب خيل وحقوق اجتماعية ووطنية، وقلدت كثيرين من المسيحيين الوطنيين والافرنج الوظائف في الجيش والحكومة الملكية ومنحتهم الرتب والألقاب.
ويروى عن حنا بك بحري الذي كان يتولى منصبا رفيعا في حكومة سوريا ان زملاءه المسلمين كانوا لا يعاملونه بالاكرام الذي يستحقه منصبه، وكان محمد علي قد منحه رتبة مير ميران. فشكا أمره الى ابراهيم باشا ، فهذا لم يحدث أحدا عن هذه الشكوى، لكنه دخل مرة الى مجتمع ضم كبار رجال مجلسه وبينهم حنا بك بحري فنهضوا واقفين. فقال ابراهيم باشا: "يا بك تقدم نحوي". دون أن يذكر اسم البك الذي طلب تقدمه، ولم يخطر ببال أحد أنه يقصد بحري بك دون غيره اسم البك الذي طلب تقدمه، ولم يخطر ببال احد انه يقصد بحري بك دون غيره من البكوات الواقفين أمامه، فتقدم موظف آخر اسمه حافظ بك فقال له ابراهيم باشا: "إني أنادي بحري بك" فرجع حافظ بك الى مكانه، وتقدم بحري بك ولما دنا منه قال له: "تفضل" وأجلسه على مقربة منه. أما سائر رجال المجلس فبقوا في أماكنهم وقال لهم "اجلسوا". فبعد هذا الحادث صار كبار رجال الحكومة يعاملون حنا بحري بك المعاملة اللاقئة بمقامه.
وكان قبل قيام حكومة محمد علي في سوريا لا يقاد المسلم بالذمي، اما حكومة محمد علي فسوت في ذلك بين رعاياها المختلفي الأديان والمذاهب، كما سوت بينهم في دفع الضرائب، ولم تفرق بينهم في شي سوى تكليف المسيحيين دون المسلمين بدفع الخراج، لكنها كلفت المسلمين القيام بالخدمة العسكرية ولم تكلف المسيحيين. وقد تجاوزت حكومة محمد علي في سوريا حد المساواة بين المسلمين والمسيحيين في امر التسليح، فبعد أن كانت قد جمعت أو فرضت جمع السلاح من جميع البلاد السورية، عادت في سنة 1838 فسلحت النصارى لتستعين بهم على مقاتلة الدروز.
وكان التضييق على المسيحيين الافرنج قبل عهد ابراهيم باشا مقله على المسيحيين الوطنيين ، فكان الوافدون منهم على سوريا قليلي العدد ولا يستطيعون التجول فيها إلا وهم مرتدون الملابس الوطنية، أو تحت حراسة الجند فلما ساح بكهرت في سوريا في أوائل القرن التاسع عشر ارتدى الملابس الوطنية، واتخذ لنفسه اسم الشيخ ابراهيم. وعينت انجلترا قنصلا لها في دمشق المستر فرن سنة 1829 فلم يستطيع دخول دمشق بل بقى في بيروت مدة طويلة أي إلى أن احتل ابراهيم باشا مدينة دمشق في سنة 1832 ، فأذن حينئذ للقنصل الجديد بالذهاب اليها، فدخل المدينة باحتفال مهيب ولم يجرؤ أحد من الاهالي ان يبدي اي تذمر او اعتراض، لان ابراهيم باشا كان يحكم البلاد بيد من حديد.
التأثير العملي والأدبي
لم تقم حكومة محمد علي في سوريا باعمال علمية وأدبية ذات شأن، فالمدارس التي أنشأتها كانت قليلة العدد والتأثير، وكانت في معظم الاوقات مشتغلة بالفتح وتسكين الاضطرابات واخماد الثورات ومقاومة الدسائس والاعتداءات الداخلية والخارجية. على ان قيامها في سوريا مهد السبيل لنهضة علمية أدبية، لأن تنظيماتها استوجبت اختيار المتنورين لادارة الاحكام والقيام بالأعمال القضائية والمالية والكتابية، وسهلت قدوم الافرنج من مرسلين دينيين، وتجار وغيرهم فأنشأت بوساطتهم المدارس.
كما ان ارسال بعض الشبان لدرس الطب في القطر المصري، واستخدام بعض السوريين في حكومة محمد علي باشا، أنشأ صلة أدبية دائمة بين القطرين، فامتدت تلك الصلة ونتائجها الى وقتنا الحاضر، وأدخلت حكومة محمد علي روحا علمية الى البلاد في أعمالها، فأنشأت محجرا صحيا في بيروت، وبذلت اهتماما يذكر في الأمور الصحية، وكانت تجري فيها حسب مشورة الأطباء، كما فعلت في دمشق بانشاء مصارف للمياه الراكدة، واستخدام المهندسين في ذلك وفي الانشاءات التي تحتاج الى معرفة فنية.
التأثير الاقتصادي
لو قدر لحكومة محمد علي الثبات في سوريا لاثرت في حالة البلاد الاقتصادية افضل تأثير، لان محمد علي كان رجلا عمرانيا طامحا الى توطيد دعائم ملكه، عالما أن العمران دعامة الملك الكبرى، فما قامت به حكومة محمد علي من الاعمال الاقتصادية لتنشيط زراعة الكرمة والتوت والزيتون، واستخرجت المعادن واشهرها معدن الفحم الحجري في قرنايل وقيل في بزيدين أيضا في مكان يدعى عين بوقة، كما أنها استخرجت الحديد من مرجبا في قاكطع المتن في لبنان.
وقد كان لحكومة محمد علي تأثير خاص في نهضة بيروت الاقتصادية، لأن اقامة المحجر الصحي فيها أوجب على جميع البواخر القادمة الى الشواطئ السورية ان ترسو في مياه بيروت، وأجرت تجارب على زراعة السكر والنيلة وشجر التين، وتربية دودة القز، غير أنها لم تتمكن من مواصلة هذه الاعمال والتوسع فيها، لان البلاد كانت في حالة حرب، والحرب والعمران لا يجتمعان، فبعد فتح البلاد بزمن قصير، قامت الثورات في مختلف أنحاء البلاد، وما كادت تخمد هذه الثورات حتى تجددت الحرب مع الاتراك ثم تلتها محاربة الحلفاء ، فالانسحاب من سوريا وكان اهل سوريا ومواردها الاقتصادية مقيدين في اثناء تلك الحوادث بمشيئة الحكومة، تتصرف بهم في التجنيد والتسخير والاحتكار وفرض الضرائب الثقيلة الوطأة حسبما اقتضته الحاجة، ومكنت القوة من تنفيذه. فاشتغل من اشتغل من رجال البلاد في الجندية أو الثورة أو السخرة، وفر الى البادية او البلاد المجاورة من استطاع الفرار سيبلا. فحرمت الاراضي الواسعة من ايديهم العاملة، كما أن ثقل وطأة الضرائب والاحتكار ثبطا عزائم من بقى من القارين على الانتاج. وفي اثناء الحروب والثورات دمرت قرى عديدة، وأهملت الزراعة ، فقل الانتاج وارتفعت أسعار لوازم المعيشة، ولاسيما انها كانت محتكرة، وقسم كبير منه مطلوب لاعالة الجيش المرابط من البلاد، وأصبح الأهلون في ضيق شديد.
وبعد أن كانت قد ظهرت بوادر النشاط في أسواق التجارة بسبب تأمين طريق المواصلات الداخلية وتسهيل المعاملات مع البلدان الخارجية، كسدت التجارة، ووقف دولاب الاعمال الصناعية أيضا، ولاسيما أن البضائع الأجنبية اخذت تزاحم المصنوعات الوطنية، وأقبل الناس على شرائها، لأنها كانت أرخص ثمنا من مصنوعات البلاد، وأجمل منها منظرا.
ورغما عما عرف عن محمد علي من الرغبة الشديدة في تنشيط الصناعة، لم تتمكن حكومته من تنفذ رغبته هذه في سوريا، نظرا لما سبقت الاشارة اليه من اضطراب الاحوال واشتغالها بالحروب واخماد الثورات.
التأثير الاداري والسياسي
من حسنات حكومة محمد علي ان مبادئها كانت نظامية، ومع أن النظام لم يطبق دائما تطبيقا عادلا، نظرا لما تخلل ادارة الحكومة من الاختلاط والفساد، فانه وضع الاساس لترقية الحكم بترقية القائمين به والشعب الخاضع له. ووزع السلطات الادارية والقضائية، وقرر اختصاص كل منها بقدر الاستطاعة، فأقام الحوائل دون الحكم المطلق الذي كان في ما مضى يحصر السلطة في الحاكم وحاشيته.
وجرى في تلك الاثناء تعيين عدد كبير من اهالي البلاد في المناصب المختلفة، فتمرنوا على طرق الحكم الجديدة. وألفت مجالس الثورة من أبناء المدن، فتعودوا على ادارة بعض شئونهم بنفوسهم، وربطت اجراءاتهم بنظام معلوم. فهذا التبديل في ادارة البلاد، ومد رواق المساواة فوق جميع أبناء الشعب الواحد المختلفي الأديان والمذاهب، كان بمثابة مقدمة لخلط كلخانة الذي أصدره السلطان عبد المجيد في تشرين ثاني (نوفمبر) سنة 1839، ولما عقبه من التنظيمات الاصلاحية التي حاول أسلافه ادخالها ولم يفلحوا.
وأكبر نجاح صادفته حكومة محمد علي في سوريا، هو اقرار الامن في نصابه. ففي عهد الحكومة العثمانية السابق دخول ابراهيم باشا الى سوريا كان حبل الامن مضطربا في كل مكان، وكان الاشقياء يعيثون فسادا حتى في البلاد الساحلية وعلى أبواب المدن، كذلك الاماكن الواقعة على الطرق السلطانية، كما بين بيروت والشام التي كان من الواجب اقامة مخافر فيها لتأمين المواصلات، كانت في ذلك العهد مكامن للصوص، وكان المسافرون يضطرون الى السير جماعات جماعات، وهم شاكو السلاح ليستطيعو الدفاع عن نفوسهم وأموالهم، وكان من منتهى الشجاعة ان يذهب الرجل وحده من بيروت الى الشام، ومن ذلك نشأت الأغنية المشهورة في جبل لبنان التي منها قولهم:
جوزك يا المليحة راح على الشام وحده
جوزك يالمليحة بوزيد الهلالي
اما حكومة محمد علي ، فانها شددت النكير على اصحاب الجرائم، وأنزلت بهم العقابات الصارمة، وكان القاتل يقتل بدون تردد ولا امهال، وجازت المجرمين بالضرب الموجع، وبزجهم في السجون المظلمة، وتكليفهم القيام بالاشغال الشاقة، وحافظت على طرق المواصلات محافظة دقيقة، وألقت على عواتق رؤساء القبائل وشيوخ القرى تبعة ما يقع في دوائر نفوذهم من الجنايات والسرقات التي لا يكشف مقترفوها، فكان أهل القرية أو الناحية يكلفون ايجاد أو دفع ثمن ما يسرق أو ينهب في أرضهم. فهذه الاجراءات، وان كان بعضها لا ينطبق على العدالة، فانها لم تكن مخالفة لروح ومقتضيات ذلك الزمان، كما أنها جادت بفوائد عامة تبرر اتخاذها، فاستتب الامن في جميع أنحاء البلاد وفي ما عدا زمن الثورات كادت حوادث القتل والسرقة والسلب تنقطع من البلاد.
أما جبل لبنان فلم تترك فيه حكومة محمد علي من حسن التاثير ما تركته في سواه من البلاد السورية، فقبل حلول تلك الحكومة من سوريا، كان الامن مستقرا في لبنان، لان الامير بشير كان منصرفا بكليته الى ذلك، وكانت هيبته في البلاد ملء الاسماع والابصار. غير ان الامير كان مستبدا وحكومة محمد علي لم تضعف استبداده، ولا ذهبت بسيئات الحكم الاقطاعي وضغطه على الشعب اللبناني، لان السلطة التي كانت لاصحاب المقاطعات الاصليين انتقلت الى ايدي ابناء الامير وحفدته واقاربه ومريديه، وهؤلاء كانوا يستمدون من الامير قوة ويفوقون الاقطاعيين الذين تقدموهم جورا على الاهلين.
والذي أدى بلبنان الى هذا الموقف الشاذ، هو ان الامير بشير خدم حكومة محمد علي في سوريا خدمات جليلة، وكان أقدر اللبنانيين على تنفيذ مآرب محمد علي وابراهيم باشا في لبنان، فنظر الى هذه الامور بعين المراعاة، ولم تتعرض حكومة محمد علي للامير بشير في ادارة البلاد الداخلية، ولا أنشأت مجالس مشورة في لبنان كما فعلت في مدن سوريا، فبقيت السلطة محصورة في شخص الامير بشير، فازداد تمكنا من رقاب اللبانيين، واغتنم الفرصة السانحة، فجمع ثروة طائلة من اموالهم. هذا فضلا عن ان حكومة محمد علي رتبت على اللبنانيين نحو ثلاثة اضعاف ما كانوا يدفعونه الى الحزينة العثمانية. ومن اشد مساوئ حكومة محمد علي في لبنان طعن الوطنية اللبنانية في صميمها بما زرعته من بذور التفريق بين المسيحين والدروز.