إليو فيتوريني - محادثات في صقلية

من معرفة المصادر

محادثات في صقلية

تأليف: إليو ڤيتوريني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1

في ذلك الشتاء كنت واقعا تحت تأثير نوبات غيظ لا سبب لها . لن أقول ما هي، ليس عن هذا أحكي . ولكن ينبغي أن أقول إنها كانت تجريدية، ليست بطولية، وليست حية، إنما هي علي نحو ما نوبات غيظ من أجل الجنس البشري الضائع . منذ زمن طويل وأنا علي هذا الحال، وكنت محني الهامة . كنت أري إعلانات الصحف الرنانة وأحني الهامة . كنت أري الأصدقاء ساعة وساعتين وأظل معهم دون أن أنطق بكلمة، وكنت أحني الهامة . وكانت لي صديقة أو زوجة كانت تنتظرني، ومعها أيضا لم أكن أقول كلمة واحدة، ومعها أيضا كنت أحني الهامة . وكانت السماء تمطر وتمضي الأيام والشهور، وأنا كان حذائي مقطوعا والمياه تتسرب لي من الحذاء، ولم يكن هناك غير هذا : مطر، ومذابح في إعلانات الصحف، وماء في حذائي المقطوع، وأصدقاء صم، والحياة بداخلي حلم أبكم، ولا أمل، وهدوء . وهذا هو المريع : الهدوء في اللا أمل . الظن بضياع الجنس البشري ولا تأخذني الحمية لأن أفعل شيئا في مجابهة هذا الضياع، كأن أضيع معه مثلا . كنت منفعلا بنوبات غيظ تجريدية، لم تكن في الدم، فقد كنت هادئا، ولم تكن لدي أية رغبة في أي شيء . لم يكن يهمني ما إذا كانت صديقتي تنتظرني، وما بين أن ألحق بها أو لا ألحق، أو أن أتصفح معجما، لم يكن هناك فرق . وما بين الخروج لمقابلة الأصدقاء والآخرين أو الجلوس في البيت، لم يكن هناك فرق . كنت هادئا . كأنني لم أحظ أبدا بيوم من حياة، ولا أنني قد عرفت أبدا مغزي أن أكون سعيدا، كأنني لم يكن لدي أبدا شيئا أقوله أو أؤكده أو أنفيه، لا شيء من نفسي أضعه في معترك الحياة، لا شيء أحس به، لا شيء أعطيه، ولا أي استعداد لأن أتلقي شيئا، كأنني في كل سني عمري لم أطعم الخبز ولم أحتس الخمر ولم أشرب القهوة، ولم يجمعني أبدا فراش بفتاة، ولم أنجب أبناء، ولم أضرب أحدا باللكمات، أو أنني لم أكن أصدق أن كل هذا ممكن، وأنه كانت لي طفولة في صقلية بين أشجار التين الشوكي والكبريت، في الجبال . ولكنني كنت أهتز من داخلي بنوبات غيظ مجردة، وكنت أفكر في الجنس البشري الضائع، وأحني الهامة، وكانت السماء تمطر، ولم أكن أنطق بكلمة واحدة للأصدقاء، وكانت المياه تدخل في حذائي .


2

عندئذ وصلتني رسالة من أبي . تعرفت علي الخط المكتوب علي المظروف، ولم أفتحه علي الفور، وإنما تأملت في هذا التعرف، وأدركت أنني كنت طفلا، وكانت لي بطريقة ما طفولة . فتحت الرسالة والرسالة كانت تقول :

" ولدي العزيز أنت تعرف وجميعكم يعرف أنني كنت دائما أبا طيبا، وكنت لأمكم زوجا طيبا، أي أنني في الإجمال كنت رجلا طيبا، ولكن حدث لي شيء الآن، ورحلت، ولكنكم لا ينبغي أن تلوموني، فقد ظللت الرجل الطيب نفسه الذي كنته، أبا طيبا لكم جميعا، وصديقا طيبا لأمكم، وفضلا عن هذا قد أستطيع أن أصبح زوجا طيبا لتلك التي هي زوجتي الجديدة والتي رحلت معها . أبنائي، أتحدث إليكم دون إحساس بالخجل، حديث رجل لرجال، ولا أطلب الصفح منكم . أعرف أنني لا أؤذي أحدا . لا أنتم وقد رحلتم جميعا قبلي، ولا الأم التي لن أحرمها إلا من عناء صحبتي وحسب . معي أو بدوني ليس هناك فرق، فسوف تستمر في الغناء والصفير في أرجاء البيت . وعلي هذا فسوف أذهب مطمئنا غير نادم في طريقي الجديد . لا تشغلوا بالكم بالنقود أو بغيرها . لن تحتاج أمكم لأي شيء، فسوف تتلقي معاشي بالكامل كموظف سابق بالسكك الحديدية، أما أنا فسوف أعيش علي الدروس الخصوصية، محققا بهذا حلما قديما لطالما حرمتني أمكم من تحقيقه . ومع ذلك فأنا أرجوكم، الآن وقد أصبحت أمكم وحيدة، أن تذهبوا لزيارتها بين الحين والآخر . أنت يا سيلفسترو، كان عمرك الخامسة عشرة عندما تركتنا، ومن ساعتها، وداعا، لم نرك بعد أبدا . فبدلا من أن ترسل إليها البطاقة البريدية المعتادة في يوم الثامن من ديسمبر لتهنئتها بعيد تسميتها لماذا لا تأخذ القطار وتنزل البلد لزيارتها؟ عناقي لك ولزوجتك العزيزة وللأطفال وتقبل محبة أبيك، كوستانتينو ".

رأيت أن الرسالة قادمة من فينتسيا وفهمت أنه كتبها لنا نحن الأبناء الخمسة المتفرقين في أرجاء العالم بنفس الكلمات الدقيقة كأنه منشور دوري . كان هذا غير عادي : أعدت قراءة الرسالة وتذكرت والدي، وجهه، صوته، عينيه الزرقاوين، وطريقته في الأداء، واستعدت لحظة صبا وأنا أصفق له بينما كان يمثل دور ماكبث في قاعة انتظار باستراحة صغيرة للعاملين بالسكك الحديدية علي الخط كله، من سان كاتالدو وحتي راكلاموتو .

تذكرته وتذكرت أنني كنت طفلا، وفكرت في صقلية، وجبالها . ولكن الذاكرة لم تفتح بداخلي إلا لهذا فقط، التعرف عليه واستعادتي لنفسي صبيا يصفق له، هو وثوبه الأحمر في دور ماكبث فوق خشبة مسرح تسمي فينتسيا، ومن جديد أصفق له . لم تفتح الذاكرة إلا لهذا بالكاد وعادت وردمت، وأنا كنت هادئا في اللا أمل الذي أعيش فيه كأنني لم تكن لي خمسة عشرة سنة من الطفولة، ومن صقلية، ومن أشجار جوز الهند والكبريت وماكبث والجبال . مرت خمسة عشرة سنة بعد هذه السنوات، علي بعد ألف كيلومتر من هناك، من صقلية ومن الطفولة، وكان عمري بالتقريب ثلاثين عاما، ولكن كان كأنني لم يكن عندي أي شيء علي الإطلاق، لا الخمسة عشرة الأولي ولا الخمسة عشرة الثانية، كأنني لم أطعم خبزا، ولم أثري بأشياء وأشياء، نكهات وحواس، عبر وقت طويل، كأنني لم أعش أبدا، كأنني كنت فارغا، وهذا كنته، كأنني كنت فارغا، أفكر في الجنس البشري الضائع، وهادئ في اللا أمل .

لم تعد عندي رغبة في النظر إلي صديقتي وجها لوجه، كنت أتصفح المعجم كتابي الوحيد الذي أصبحت قادرا علي قراءته، وبدأت أحسن بداخلي بشكوي كأنها مزمار يعزف بالشكوي . كنت أذهب إلي العمل كل صباح، أمارس مهنتي كعامل طباعة في تنضيد سطور الطباعة، كنت أعمل في صف السطور سبعة ساعات في اليوم، في حرارة الرصاص الدهنية، تحت الحاجب الذي يحمي عيني، ومزمار يعزف بداخلي ويهيج فيها فئران وفئران لم تكن ذكريات محددة .

لم تكن إلا فئران معتمة لا شكل لها، ثلاثمائة وستة وخمسون وثلاثمائة وستة وخمسون، فئران أعوامي المعتمة، ولكنها أعوامي في صقلية فقط، في الجبال، كنت أحس بها تهتاج داخلي، فئران وفئران حتي خمسة عشرة مرة لثلاثمائة وستة وخمسين، والمزمار يعزف بداخلي، وهكذا غزاني حنين معتم لأن استعيد طفولتي بداخلي . استفقت وأعدت قراءة رسالة أبي، ونظرت إلي التقويم، كان يوم السادس من ديسمبر، وكان علي أن أكتب البطاقة البريدية لتهنئة أمي، سوف أكون حقيرا لو نسيت الآن وقد أصبحت أمي وحيدة في بيتها . وكتبت بطاقة التهنئة، ووضعتها في جيبي، كان يوم سبت في نهاية الخمسة عشر يوما واستلمت مرتبي . ذهبت إلي محطة السكك الحديدية لكي أضع البطاقة في صندوق البريد ومررت أمام الباحة، كانت مليئة بالأنوار، وفي الخارج كانت السماء تمطر، وكان الماء يدخل لي من الحذاء . صعدت في الضوء سلالم الباحة، ولم يكن هناك فرق بين أن أصعد السلالم أو استمر تحت المطر، وهكذا صعدت في الضوء ورأيت إعلانين . أحدهما لصحيفة، رنانة بما فيها من مذابح جديدة، والآخر سياحي : زوروا صقلية، خصم خمسين بالمائة من ديسمبر حتي يونيو، 250 ليرة ذهابا وعودة، درجة ثالثة . وجدت نفسي للحظة أمام سكتين، سكة متجهة إلي العودة إلي المنزل، في تجريدة حشود المذابح هذه، وأيضا في هدوء اللا أمل، والسكة الثانية إلي صقلية، إلي الجبال، إلي شكوي مزماري الداخلي، وإلي شيء ما كان يمكن أيضا ألا يكون هدوءا بكل هذه العتمة ولا أملا بكل هذا البكم . لم يكن هناك فرق في أن آخذ هذه السكة أو تلك، فالجنس البشري كان هو نفسه الجنس الضائع، وعرفت أن هناك قطارا يسافر نحو الجنوب في السابعة، أي بعد عشر دقائق من ذلك الوقت .

كان المزمار يصفر داخلي بحدة، ولم يكن هناك فرق في أن أسافر أو لا أسافر، فطلبت تذكرة، بمائتي وخمسين ليرة، وتبقت لي من مرتبي مائة ليرة في جيبي . دخلت المحطة، بين الأنوار، بين القاطرات العالية، والحمالون الذين يصيحون، وبدأت رحلة ليلية طويلة لأنه بالنسبة لي لم يكن هناك فرق بين أن أبقي في البيت، علي مائدتي أتصفح المعجم أو في الفراش مع زوجتي-صديقتي .

3

كنت علي سفر، وفي فلورنسا، نحو منتصف الليل، غيرت القطار، وفي حوالي السادسة من الصباح التالي غيرت مرة أخري في محطة روما، ونحو منتصف النهار وصلت إلي نابولي، حيث لم تعد السماء تمطر وأرسلت إلي زوجتي حوالة تلغرافية بخمسين ليرة . قلت لها : أعود الخميس . ثم سافرت بالقطار حتي كالابريا، فبدأ المطر مرة أخري، ولأن الوقت كان ليلا استعدت ذكري الرحلة، وأنا طفل، في المرات العشر التي هربت فيها من البيت، ومن صقلية، وأنا في كر وفر، إلي بلد الدخان والأنفاق، وصافرات لا يمكن وصفها لقطارات متوقفة، في الليل، في فم جبل، أمام بحر، بأسماء أحلام قديمة، أمانتيا، ماراتيا، جويا تاورو . وهكذا وفجأة لم يعد الفأر فأرا في داخلي، وإنما عبق ورائحة وسماء، والمزمار كان يعزف لحظة لحنية، ولم يعد بعد يشكو . أدركني النعاس، واستيقظت وعدت إلي النعاس والاستيقاظ، وفي النهاية أصبحت علي متن المركب العابر إلي صقلية .

كان البحر أسود، شتويا، وكنت واقفا علي قدمي في الطابق العلوي للمركب، ذلك الجزء المرتفع من البحر، وتعرفت علي نفسي من جديد صبيا يسلب الريح، ويبلع البحر إلي أحد الشاطئين بتلك الأطلال، في الصباح المطير، مدن وبلاد، مكدسة عند الأقدام . كان الجو باردا، فتعرفت علي نفسي صبيا، أصاب بالبرد أو أظل معاندا فوق المنصة العالية، في وجه الريح، عموديا فوق السفينة وفوق البحر . عدا ذلك فلم تكن الاستدارة ممكنة، كانت المركب تعج بالصقليين الصغار من الدرجة الثالثة، جوعي ومعرضين للإصابة بالبرد، دون غطاء رأس، والأيدي في جيوب السروال وياقة السترة مرفوعة . كنت قد اشتريت في فيللا سان جوفاني شيئا آكله، خبزا وجبنا، وكنت آكل علي ظهر السفينة خبزا، وريحا عاتية، وجبنا، باستمتاع وشهية، لأنني كنت أتعرف في ذلك الجبن علي نكهات قديمة لجبالي، بل حتي الروائح، وقطعان الماعز، ودخان نبات الأفسنتين الطبي . الصقليون الصغار، الذي أحنوا أكتافهم للريح وأيديهم في جيوبهم، كانوا ينظرون لي وأنا أتناول طعامي، ولكن برقة، وذقونهم لم يحلقوها منذ أربعة أيام، كانوا من العمال، عمال يومية في حدائق البرتقال، عمال سكك حديدية من فرقة الأشغال بشعر رمادي تتخلله خيوط حمراء . وبينما أتناول طعامي كنت أنا أبتسم لهم وكانوا هم ينظرون لي دون أن يبتسموا . - ليس هناك جبن مثل جبننا، - قلت أنا .

لم يرد علي أحد، كان الجميع ينظرون لي، النساء صاحبات الأنوثة المتضخمة جالسات فوق أكوام متاعهم، والرجال واقفون علي الأقدام، صغارا وكأن الريح لسعتهم، وأيديهم في جيوبهم . وعدت أنا أقول من جديد : - ليس هناك جبن مثل جبننا . لأنني أصبحت فجأة متحمسا لشيء ما، لهذا الجبن، وأنا أحس به في فمي، بين الخبز والهواء القوي، والنكهة البيضاء أو الحادة، والقديمة، بحبوب الفلفل كأنها حبوب نار مفاجئة في اللقمة . - ليس هناك جبن مثل جبننا، - قلت للمرة الثالثة .

عندئذ سألني أحد الصقليين، وكان أكثرهم قصرا ورقة، وكذلك أكثرهم ظلمة في وجهه وحرقا من الريح :

- ولكن هل حضرتك صقلي؟

- ولم لا؟ - أحبت .

شد الرجل من كتفيه ولم يردف بشيء، كانت معه ما تشبه الطفلة، جالسة فوق كيس، عند قدميه، انحني فوقها، وأخرج من جيبه يدا ضخمة حمراء ولمسها وهو يداعبها وفي نفس الوقت يصلح وضع الشال حتي لا تصاب بالبرد . من شيء في تلك الحركة رأيت أن الطفلة ليست ابنته وإنما زوجته، وفي تلك الأثناء كانت ميسينا قد اقتربت، فلم يعد هناك أطلال مكدسة علي حافة البحر، وإنما بيوت وحواجب أمواج وعربات ترام بيضاء وصفوف من عربات ضاربة إلي السواد في ساحات السكك الحديدية . كان الصباح صباح مطر ولكن السماء لم تكن تمطر، وكل شيء فوق الطابق العلوي للسفينة كان مبللا، وكانت الريح تصفر مبللة وصافرات المراكب كانت تدوي مبللة، كما كانت صافرات الماء تصل من الأرض، صافرات قاطرات السكك الحديدية، ولكن السماء لم تكن تمطر، ومن الجانب الآخر للمداخن كنا نري فجأة في وسط الشتاء البحري برج الفنار مسافرا، شاهقا، مبحرا نحو فيللا سان جوفاني . - ليس هناك جبن مثل جبننا، - قلت أنا .

كان الصقليون الواقفون جميعا قد التفتوا نحو سياج الطابق العلوي للسفينة يشاهدون المدينة، حتي النساء الجالسات فوق الأكياس أداروا رؤوسهم لكي يشاهدوها . ولكن لم يتحرك أحد إلي ما تحت سطح المركب لكي يستعد للهبوط، كان لا يزال هناك وقت ! كنت أتذكر جيدا أنه ما بين الفنار والميناء خمسة عشرة دقيقة أو تزيد .

- ليس هناك جبن أفضل من جبننا، - قلت .

في تلك الأثناء كنت قد انتهيت من الأكل، والرجل ذو الزوجة الطفلة انحني مرة أخري بل إنه ركع، كان معه عند قدميه قفة، وبدأ يفعل شيئا ما حول القفة . كانت مغطاة، هذه القفة، بقطعة من المشمع المخيط بحافتها بالإبرة، دفع يده تحت المشمع وأخرج برتقالة . لم تكن كبيرة، ولا كثيرة الجمال، ولا قوية اللون، ولكنها كانت برتقالة، وفي صمت ودون أن ينهض عن ركبتيه، منحها لزوجته الطفلة . نظرت الطفلة نحوي، وأنا رأيت عينيها داخل غطاء رأس الشال ثم رأيتها تهز رأسها .

بدا الصقلي الصغير يائسا، وظل راكعا، وإحدي يديه في جيبه، والبرتقالة في اليد الأخري . نهض علي قدميه وهكذا ظل، والريح تخبط حافة البيريه اللينة بأنفه، والبرتقالة في يده، يحرقه البرد في جسمه الضعيف بلا غطاء رأس، ويائسا، بينما يمر البحر وتمر المدينة عموديا تحتنا، في صباح المطر .

- ميسينا، - قالت امرأة شاكية، كلمة قيلت بلا سبب، مجرد شكل من أشكال التذمر، وكنت أنا أنظر إلي الصقلي الصغير ذي الزوجة الطفلة وهو يقشر البرتقالة يائسا، ويأكلها يائسا، بسخط وحنق، دون رغبة حقيقية، ودون أن يمضغ، كان يبتلع وكأنه يسب ويلعن، والأصابع مبللة بعصير البرتقالة في البرودة، منحنيا قليلا أمام الريح، وحافة البيرية اللينة تخبط أنفه . - الصقلي لا يأكل أبدا في الصباح، - قال هو فجأة . وأردف : - هل أنت أمريكي؟ كان يتحدث بيأس ولكن برقة، كما كان دائما رقيقا في تقشيره اليائس للبرتقالة وفي أكله اليائس لها . الكلمات الثلاث الأخيرة قالها منفعلا، بنبرة توتر حاد، كما لو أنه كان من الضروري له، حتي يصفو قلبه، أن يعتبرني أمريكيا .

قلت وأنا أري هذا الوضع نعم، أنا أمريكي، منذ خمسة عشرة سنة .

4

كان المطر يهطل فوق حاجز أمواج المحطة البحرية حيث كان ينتظر القطار الصغير الذي كان من المفروض أن أركبه . ومن حشود الصقليين الذين هبطوا من المركب كان هناك جزء، وياقة السترة مرفوعة، والأيدي في الجيب، قد انصرف عبر الساحة في المطر، وجزء آخر بقي، ومعه نساء وأكياس وقفف، كما كانوا من قبل فوق المركب، ساكنين، واقفين علي أقدامهم تحت المظلة . كان القطار ينتظر أن تضاف إليه العربات التي عبرت البحر علي المركب، وكانت هذه مناورة تتطلب وقتا طويلا، ووجدت نفسي بالقرب من الصقلي الصغير صاحب الزوجة الطفلة التي جلست من جديد علي الكيس عند قدميه . في هذه المرة ابتسم عندما رآني، ومع هذا كان يائسا، ويداه في جيوبه، في البرد، وفي الريح، ولكنه يبتسم، بفمه، من تحت حافة قبعة القماش التي كانت تغطي نصف وجهه . - لدي أبناء عمومة في أمريكا، - قال عم وأبناءه ... - آه، هكذا، - قلت أنا . وفي أي مكان؟ في نيويورك أم في الأرجنتين؟ - لا أعرف، - أجاب هو . ربما في نيويورك . أو في الأرجنتين . في أمريكا . قال هذا وأضاف : - من أي مكان أنت؟ - أنا؟ - قلت أنا . لقد ولدت في سيراكوزا . وقال هو : - لا ... أقصد في أي مكان من أمريكا؟ - من ... نيويورك، - قلت أنا . ظللنا صامتين لبرهة، أنا بهذه الكذبة، وأنظر إليه، وهو ينظر نحوي، بعينيه المخفيتين تحت حافة القبعة . ثم، بما يشبه الرقة، سألني : - وكيف حالك في نيويورك؟ هل تمضي الأمور علي ما يرام؟ - لا نثري هناك، - أجبت أنا . - وفيما يهم هذا؟ - قال هو . _ يمكن أن تكون أحوالنا علي ما يرام دون أن نثري ... بل هو أفضل ... - من يدري ! قلت أنا . هناك أيضا البطالة . - وفيما تهم البطالة؟ - قال هو . ليست البطالة هي ما يسبب الضرر دائما ... ليس هذا ... لست عاطلا، أنا . وأشار إلي الصقليين الصغار حولنا . - ليس منهم من هو عاطل . نعمل ... في الحدائق ... نعمل . ثم توقف، أخرس صوته، استطرد : - هل عدت أنت بسبب البطالة؟ - لا، - قلت أنا . عدت لعدة أيام . - هو ذاك إذن، قال هو . وتأكل في الصباح ... إن الصقلي لا يأكل في الصباح أبدا .

وسأل : - هل يأكل كل الناس في أمريكا صباحا؟  

كان بوسعي أن أقول لا، وأنني أيضا، غالبا، لم أكن آكل في الصباح، وأنني كنت أعرف كثيرا من الناس لم تكن تأكل ربما ليس أكثر من مرة في اليوم، وأن هذا هو الحال في كل الدنيا، وما إلي ذلك، ولكنني لم أكن أستطيع أن أسيء في كلامي إلي أمريكا لم أكن قد ذهبت إليها، والتي لم تكن حقا وفعلا أمريكا نفسها، وإنما فكرته عنها باعتبارها مملكة السماوات علي الأرض . لم أكن أستطيع، لم يكن ليصح ذلك . - أعتقد هذا، - أجبت . تقريبا ... - وفي الظهيرة؟ - حينئذ سأل هو . هل يأكلون في الظهيرة في أمريكا؟ - أعتقد هذا، - قلت أنا . تقريبا ... - وفي المساء؟ - سأل . هل يأكلون في المساء في أمريكا؟ - أعتقد هذا، - قلت أنا . خيرا أم شرا ... - خبز؟ - قال هو . خبز وجبن؟ خبز وخضار؟ خبز ولحم؟ كان لديه أمل في أنني كنت أحادثه، وأنا لم أكن أستطيع أن أقول له لا . - نعم، قلت . خبز ومعه شيء آخر . وهو، الصقلي الصغير، ظل صامتا بعض الوقت بالأمل، ثم نظر نحو قدميه إلي الزوجة الطفلة التي كانت تجلس ساكنة معتمة منعزلة تماما فوق الكيس، فأصبح يائسا، وبيأس، كما فعل من قبل علي متن المركب، انحني وفك شيئا من الخيط من القفة، وأخرج برتقالة، وبيأس قدمها لها، وهو ما يزال منحنيا علي ساقيه، وبعد رفضها الصامت، أحبط والبرتقالة في يده، وشرع في تقشيرها لنفسه وفي أكلها، وهو يزدردها كأنما يبتلع اللعنات . - تؤكل بالسلاطة هنا عندنا، - قلت أنا .

- في أمريكا؟ - سأل الصقلي . - لا، هنا عندنا، - قلت أنا .

- هنا عندنا؟ - سأل الصقلي . بالسلاطة مع الزيت؟ - نعم، بالزيت، - قلت أنا . وفص ثوم وملح ... - وبالخبز؟ - قال الصقلي . - بالتأكيد، - أجبت . بالخبز . كنت آكله كثيرا منذ خمسة عشر عاما يا فتي .. - آه، هل كنتم تأكلونه حقا؟ - قال الصقلي . كنتم علي خير حال حينذاك إذن؟ - بين بين، - أجبت .

وأضفت : - ألا تأكلون البرتقال في السلاطة أبدا؟

- بلي، أحيانا، - قال الصقلي . ولكن الزيت لا يتوفر دائما . - بالفعل، - قلت أنا . لا يكون المحصول جيدا دائما .... ويمكن أن يكلف الزيت غاليا . - وليس دائما ما يتوفر الخبز، - قال الصقلي . إذا لم يبع المرء البرتقال فإن الخبز لا يوجد ... هل تفهمني؟ وكان يأكل برتقالته بيأس، وأصابعه مبللة، في البرد، بعصير البرتقال، وهو ينظر عند قدميه إلي زوجته الطفلة التي لا تريد البرتقال . - ولكنها تغذي كثيرا، - قلت أنا . هل تستطيع أن تبيعني بعضها؟ أنهي الصقلي ابتلاعه، ونظف يديه في سترته . - حقا؟ - تعجب . ومال علي قفته، وحفر بداخلها، من تحت الغطاء، وقدم لي أربعا، خمسا، ست برتقالات . - ولكن لماذا؟ سألت . هل بيع البرتقال بهذه الصعوبة؟ - لا يباع . لا أحد يريده، - قال . في تلك الأثناء كان القطار قد أصبح جاهزا، بعد إضافة العربات التي كانت قد عبرت البحر . - في الخارج لا يريدون شيئا منه، - واصل الصقلي الصغير . كأنه مسموم . برتقالنا . والمالك يدفع لنا بهذه الطريقة .. يعطينا برتقالا ... ونحن لا نعرف ماذا نفعل به . لا أحد يريده ... نحن نذهب لكي نري ما إذا كان أحد يريده في ريجي، أو في فيللا سان جوفاني، ولكنهم لا يريدونه، لا أحد يريده . تحرك القطار، قفزت إلي إحدي النوافذ . - وداعا، وداعا !

- لا أحد يريده ... لا أحد يريده ... كأنه مسموم ... البرتقال الملعون .

5

كنت قد جلست لتوي علي المقعد الخشبي في القطار المتحرك، عندما سمعت صوتين في الممر، يتحدثان معا عن الواقعة . لم يكن قد وقع شيء يمكن أن يكون واقعة حقيقية، أي حدث، ولا حتي بادرة، مجرد أن رجلا، هو ذاك الصقلي الصغير، كان قد صاح نحوي بكلماته الأخيرة فيما لم يكن هناك وقت وكان القطار في وضع الحركة . هذا فقط، مجرد كلمات . وها هما صوتان يتحدثان عن الواقعة . - ولكن ماذا كان يريد هذا الشخص؟ - كان يبدو أنه ربما يحتج ... - كان متخاصما مع أحدهم . - أستطيع أن أقول إنه كان متخاصما مع الجميع ... - وأقول أنا كذلك، كان أحد الموتي جوعا .. - لو كنت تحت لاعتقلته . كانا صوتين من الأصوات التي اعتادت تدخين السيجار، قويين، ورتيبين، ناعمي اللهجة . كانا يتحادثان باللهجة العامية الصقلية . أطللت برأسي علي الممر ورأيتهما علي النافذة، كانا شخصين ضخمي الجسم، جلفين، بقبعتين وغطائي رأس بالمعطف، أحدهما بشوارب، والآخر بدون، صقليان من النمط المميز، ولكن حالتهما كانت طيبة، يانعين، متبجحي القفا والظهر، ومع هذا ففهيما شيء ما يظهر غير ما يبطن، شيء ما سخيف، ربما كان في حقيقته خجلا . " صوتان أوبراليان باريتون " ، قلت لنفسي . وواحد، الذي كان دون شوارب، كان له صوت في الحقيقة لمغني باريتون، صوت صادح متنوع الإيقاع . - لم تكن لتفعل إلا واجبك، - قال هو .

كان صوت الآخر مشروخا من السيجار، خلف شاربيه، ولكنه كان ناعما في اللهجة .

- بالطبع، - قال هو . لم أكن لأفعل إلا واجبي . سحبت أنا رأسي داخل الديوان ولكنني ظللت في مجال الاستماع وأنا أفكر، مع تناوب الصوتين، الباريتون مع المشروخ، والوجهين، ذي الشوارب ودون الشوارب . - مثل هذه الأصناف يجب دائما اعتقالهم، - قال دون الشوارب . - بالفعل، - قال ذو الشوارب . ليسوا مضمونين . - كل ميت من الجوع خطير، - قال دون الشوارب . - كيف لا وهو قادر علي كل شيء، - قال ذو الشوارب . - قادر علي السرقة، - قال دون الشوارب . - يتم هذا بشكل تلقائي، - قال ذو الشوارب . - وأن يطعن بالسكين، - قال دون الشوارب .

- دون شك، - قال ذو الشوارب . - وأن ينخرط أيضا في الإجرام السياسي، - قال دون الشوارب . تبادلا النظر وجها لوجه، ابتسما، رأيتهما أنا من وجه أحدهما ومن ظهر الآخر، وهكذا استمرا يتحادثان، ذو الشوارب ودون الشوارب، عما يقصدانه بالإجرام السياسي . كان يبدو أنهما ربما يقصدان انعدام الاحترام والاعتبار، قالا، والقيا بالاتهامات، دون ندم، علي الإنسانية كلها، قالا إن الإنسانية ولدت لكي تمارس الإجرام . - أي طبقة كانت ... أية طائفة ... ، - قال ذو الشوارب . وقال دون الشوارب : - سواء كانوا مثقفين .. أو كانوا جهلاء .. ذو الشوارب : - سواء كانوا أغنياء .. أو كانوا فقراء .. دون الشوارب : - ليس هناك أي فرق . ذو الشوارب : - أصحاب محلات .. دون الشوارب : - محامون ... ذو الشوارب : - البقال عندي في لودي .. دون الشوارب : - وفي بولونيا أحد المحامين .. ومن جديد تبادلا النظر في العينين ومن جديد ابتسما، ومن جديد رأيتهما أنا أحدهما من الوجه والآخر من الظهر، وسمعتهما من بين ضوضاء سير القطار بين البرتقال والبحر يحكيان عن ذلك البقال في لودي وذلك المحامي في بولونيا .

قال ذو الشوارب : - أنظر، ليس لديهم احترام . - ليس لديهم اعتبار، - قال دون الشوارب . وقال ذو الشوارب : - في لودي الحلاق الذي أتعامل معه ... ودون الشوارب : - صاحب البيت في بولونيا .. وتحاكيا عن الحلاق في لودي وعن صاحب البيت في بولونيا، وقال ذو الشوارب إنه ذات مرة اعتقل ذلك الحلاق الخاص به وحبسه ثلاثة أيام، وقال دون الشوارب إنه فعل نفس الشيء مع جزاره في بولونيا، وأنا أحسست من صوتيها أنهما راضيان، بل منفعلان من فرط الرضا، وعلي وشك أن يلقي أحدهما بنفسه معانقا الآخر بدافع من إحساس الرضا المشترك بذلك الذي يستطيعون فعله : الاعتقال والحبس . كما تحاكيا أيضا عن أحداث أخري صغيرة، ودائما دون إحساس بالذنب، ودائما بضجر، وفي النهاية برضا، ثم يصبحان حائرين ويتساءلان لماذا ينظر إليهما الناس نظرة سيئة . - ذلك لأننا صقليون، قال ذو الشوارب . - هو هذا، لأننا صقليون، - قال دون الشوارب . قاما بتحليل كونهما صقليين في لودي، وكونهما صقليين في بولونيا، وفجأة أطلق دون الشوارب ما يشبه صرخة ألم، وقال إن الوضع أسوأ في بلدهما، في صقلية نفسها . - أي نعم، أسوأ جدا، - قال ذو الشوارب . وقال دون الشوارب : - أنا في شاكا … وقال ذو الشوارب : - وفي موسوميلي أنا … وقالا بأية طريقة يأتي الوضع أسوأ في شاكا وفي موسوميلي، وقال دون الشوارب إن أمه لا تقول ما هي حقيقة عمله، تخجل من قوله، وتقول إنه موظف في الشهر العقاري . - موظف في الشهر العقاري ! قال . - من باب الاحتياط، - قال ذو الشوارب . - أعرف هذا .. السمعة السيئة القديمة، - قال دون الشوارب . وقالا كيف كانت الحياة في البلد مستحيلة . كان القطار يجري بقعقعته بين البرتقال والبحر وقال دون الشوارب : - يا له من برتقال ! - : وقال ذو الشوارب : - يا له من بحر ! - : وقال الاثنان كم كانت جميلة بلدة كل منهما، في شاكا وفي موسوميلي: ولكنهما من جديد قالا إنه لم يكن من الممكن الحياة فيهما . - أنا لا أدري لماذا أعود إليها، - قال ذو الشوارب . - وهل أعرف أنا؟ - قال دون الشوارب . _ ولدي زوجة بولونية وأبناء بولونيون .. ومع هذا … وقال ذو الشوارب : - ولكنني فور أن أحصل علي التصريح فإنني لا أفوت الفرصة كل سنة … وقال دون الشوارب : لا تفويت، وخاصة في شهر أعياد الميلاد هذا . وقال ذو الشوارب : خاصة في هذا الشهر . ولكن من أجل ماذا؟ وقال دون الشوارب : - حتي نفسد المصران .. وقال ذو الشوارب : - حتي نسمم الدم … وهنا أغلق أحد الجالسين أمامي الباب بقوة، بل أستطيع أن أقول إنه صفقه . انطفأت الأصوات، اقتلعت فجأة، وضاعت في ضوضاء سير القطار . وكان القطار يطير عبر بساتين البرتقال، في فم الجبال، أمام البحر . ومن بعيد كان تظهر وتختفي قمة جليدية: وكانت السماء صافية، وقد نظفتها الريح، دون مزيد من المطر، رغم أنها كانت لا تزال دون شمس: وأنا تعرفت علي هذا الركض، ورأيت أننا كنا في منتصف الطريق بين ميسينا وكاتانيا . ولم أعد أسمع الصوتين بالخارج: تلفت حولي متلهفا إلي صقليين آخرين .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

6

- ألا تشمون الرائحة الكريهة؟ - قال الرجل الذي يجلس أمامي . كان صقليا، كبيرا، لومباردي أو نورماندي، وربما كان من نيقوزيا، كان نموذجا نمطيا هو الآخر مثل صاحبي الصوتين في الممر، ولكنه نموذج أصيل، منفتح، طويل، أزرق العينين . لم يكن شابا، كان في نحو الخمسين من عمره، وفكرت أنا في أن أبي ربما يشبهه الآن رغم أنني أتذكر أبي شابا، رشيقا، نحيفا، وهو يمثل دور ماكبث، ويرتدي الأحمر والأسود . لابد أنه من نيقوزيا أو من أيدونه: كان يتكلم باللهجة التي ما تزال حتي قريبة من اللومباردية، من تلك الأنحاء اللومباردية التي تحيط بوادي ديموني : نيقوزيا أو أيدونه . - ألا تشمون الرائحة؟ - قال . - كانت لديه لحية صغيرة يختلط فيها البياض والسمار مثل الملح والفلفل، والعينان زرقاوان، والجبهة أوليمبية . كان بلا سترة، في الديوان البارد من الدرجة الثالثة، وربما كان نموذجا نمطيا لهذا السبب فقط، وليس لسبب آخر، وكان أنفه مجعدا فوق الشعر الخفيف لشواربه ولحيته، ولكنه كان أشقر كثير الشعر مثل رجل قديم، دون سترة، بأكمام قميص مربعات داكنة، وصديرية ضخمة، بنية اللون، بستة جيوب صغيرة . - الرائحة الكريهة؟ أي رائحة؟ - سألت أنا . - كيف؟ ألم تكن تشمها؟ - قال هو . - لا أعرف، - أجبت . _ لا أعرف عن أية رائحة تتحدثون؟ ثم التفت نحو الآخرين في الديوان . كان الآخرون ثلاثة . واحد شاب، بقبعة من القماش الخفيف، وملفوف في عباءة، أصفر الوجه، ضامر الجسم، دقيق: كان يجلس في الركن المائل بزاوية بالنسبة لي، إلي جوار النافذة . وواحد، هو أيضا شاب، يتدفق الدم في عروقه، قوي، بشعر مجعد وأسود، والعنق أسود، أحد عامة المدينة، ومن المؤكد أنه من كتانيا: وكان يجلس عند الطرف الآخر من مقعدي، أمام الشاب المريض . وكان الثالث عجوزا قصيرا أمرد داكن اللون، سميك الجلد، بقشور مكعبة، مثل قشور السلحفاة، وكان قصيرا بدرجة لا تصدق، جاف العود، كأنه ورقة شجر جفت . كان قد صعد في محطة روكالوميرا، وكان يجلس، إذا صح أن نقول إنه كان يجلس، علي حافة المقعد، ما بين اللومباردي الضخم والشاب المريض، وفي ظهره المسند الخشبي، والذي كان يمكنه أن يرفعه ولكنه لم يرفعه . وله بالخصوص توجه اللومباردي الضخم وهو يلتفت نحو الآخرين : - ألا تفهم عن أي رائحة كريهة أتكلم ! قال اللومباردي الكبير . جاء صوت كأنه نفخ، نفير في بدايته، ميت، دون كيان صوتي : إيه ! لقد كان العجوز القصير يضحك . ولكنه الآن لم يكن يضحك الآن . كان يضحك بعينيه، منذ اللحظة الأولي التي صعد فيها إلي القطار: بعينيه الحادتين، الحيتين، وهو يضحك بثبات، وهو ينظر لنفسه أمامه، ولي، والمقعد، والشاب الكاتاني، وهو يضحك : سعيدا . - غير معقول ! لا يفهم عن أية رائحة كريهة أتكلم، - قال اللومباردي الكبير . كان الجميع ينظرون لي، غارقون في الضحك، والمريض بضحكة باهتة صامتة لمريض . - آه ! قلت ضاحكا أنا أيضا . لا أفهم حقيقة ... لا أشم أية رائحة كريهة ... عندئذ تدخل الكاتاني . انثني، والدم يطفح منه، برأسه الكبيرة المجعدة، ضخما عند ردفيه وذراعيه، بحذائه الضخم، وقال : - الرجل يتحدث عن الرائحة الكريهة التي تأتي من الطرقة . - هل كانت تأتي من الطرقة رائحة كريهة؟ - قلت أنا . - وكيف لا؟ لقد كانت رائحة لا تطاق، - صاح اللومباردي الكبير . ألم تكن تشمها؟ وقال الكاتاني : - الرجل يتكلم عن رائحة ذلكما الرجلين الكريهة ... - أي رجلين؟ - قلت أنا . ذلكما الرجلان اللذان كانا يقفان في النافذة؟ هل كانت تصدر عنهما رائحة كريهة؟ أية رائحة كريهة؟ سمعت مرة أخري الصوت الميت، بلا كيان صوتي، للعجوز الضئيل ورأيت أن فمه كان كأنه فتحة الحصالة . رأيت المريض أيضا، هادئ الأعصاب، بضحكته الصامتة، في عباءته: ورأيت اللومباردي الكبير يكاد يستشيط غضبا ولكن البهجة تطل من عينيه، اللتين كانتا تشبهان عيني أبي الزرقاوين . عندئذ فهمت ماذا عساها تكون الرائحة الكريهة وضحكت . - آه، الرائحة الكريهة ! قلت . الرائحة الكريهة ! انشرح الجميع وأحسوا بالرضا وعادت إليهم الطمأنينة، ولكن في الممر كان هذان الاثنان يعودان إلي حيث كانا طفلين، إلي بلدهما . - غريب، - قلت . ليس هناك مكان في العالم يستهجنهما مثل صقلية ... ومع هذا فمن يعملون في هذه المهنة في إيطاليا هم جميعا من الصقليين . - هذا غريب ! قلت . منذ خمسة عشر عاما وأنا أطوف بإيطاليا ... عشت في فلورنسا، وعشت في بولونيا، وعشت في بولونيا، وفي تورينو، وأعيش في ميلانو، وفي كل مكان وجدت صقليا يعمل في هذه المهنة ... - فعلا، هذا هو ما يقوله أيضا ابن عمي الذي يسافر كثيرا، - علق الكاتاني . وقال اللومباردي الكبير : - حسنا، الأمر مفهوم .. فنحن شعب حزين . - حزين؟ - قلت وأنا أنظر إلي العجوز القصير ذي الوجه الصغير الضاحك والعينين الصغيرتين اللتين نملتا من الضحك . - حزين جدا، - قال اللومباردي الكبير . بل كئيب ... مستعدون جميعا ودائما أن نري الأبيض أسود ... كنت أنظر إلي الوجه الصغير للعجوز، ولم أكن أقول شيئا، واستطرد اللومباردي الكبير قائلا : - دائما ما نتمني شيئا مختلفا، شيئا أفضل، ودائما ما نيأس من أن نتمكن من الحصول عليه .. مقهورون دائما . مهزومون دائما ... ودائما ما نكون علي شفا الانتحار . - نعم، هذا حقيقي، - قال الكاتاني بجدية . وأخذ يتفحص طرف الحذاء الضخم . وأنا، دون أن أرفع عيني عن العجوز، قلت : - ربما كان صحيحا ... ولكن ما دخل هذا بممارسة هذه المهنة؟ وقال اللومباردي الضخم : - أعتقد أن هناك دخلا لبعض الأسباب ... أعتقد أن له دخلا . لا أعرف كيف أشرح هذا، ولكنني أعتقد أن له دخلا . ماذا يفعل المرء عندما يهجره الناس؟ عندما يلقي ضائعا في عرض الطريق؟ يفعل الشيء الأشد كرها له ... أعتقد أن هذا هو السبب ... أعتقد أنه أصبح مفهوما لماذا يكادون أن يكونوا جميعا من الصقليين .

7

ثم حكي اللومباردي الكبير عن نفسه، كان آتيا من ميسينا حيث زار طبيبا أخصائيا بسبب مرض خاص في الكلي، وكان عائدا إلي بيته، في ليونفورتي، في وادي ديموني، ما بين إينا ونيقوزيا، وكان من ملاك الأطيان الزراعية ولديه ثلاث بنات جميلات، هكذا قال، ثلاث بنات جميلات، ولديه حصان يذهب به إلي أرضه، ولهذا كان يحسب نفسه، لأن الحصان كان طويلا وعزيزا، كان يحسب نفسه ملكا، ولكنه لم يكن يعتقد أن كل شيء ينتهي عند هذا الحد، أن يتصور نفسه ملكا عندما يركب الحصان، بل كان يود أن يكتسب معني آخر، هكذا قال، أن يكتسب معني آخر، وأن يحس بأنه مختلف، بشيء جديد في النفس، كان يود لو يعطي كل ما يملك، والحصان أيضا، والأطيان، لقاء أن يحس بنفسه في سلام مع الناس، كواحد، هكذا قال، كواحد ليس لديه ما يلوم نفسه عليه . - ليس لأنني لدي شيء خاص ألوم نفسي عليه قال . ليس هناك شيء مطلقا . وأنا كذلك لا أتحدث نفاقا ... ولكنني لا يبدو لي أنني في سلام مع الناس . كان يود لو كان له ضمير حي، هكذا قال، حي، يطلب إليه أن يؤدي واجبات أخري، وليس الواجبات المعتادة، وإنما واجبات أخري، جديدة، أكثر سموا، تجاه الناس، لأن أداء الواجبات المعتادة لا يمنح الرضا، ويظل المرء يحس وكأنه لم يفعل شيئا علي الإطلاق، غير سعيد بنفسه، خائب الرجاء . - أعتقد أن المرء يكون ناضحا لسبب آخر، - قال . ليس فقط لأنه لم يسرق، ولم يقتل، إلي آخره، ولأنه مواطن شريف ... أعتقد أنه يكون ناضجا لسبب آخر، بسبب الواجبات الجديدة، الواجبات الأخري . هذا هو ما يحس به المرء، أظن ذلك، انعدام الواجبات الأخري، الأشياء الأخري، التي يجب أداؤها ... أشياء لا بد من عملها لأجل ضميرنا، بمعني جديد . صمت، ثم تحدث الكاتاني . - نعم يا سيدي، - قال . وراح ينظر إلي الأطراف الضخمة للحذاء . - نعم، - قال . أعتقد أن الحق معك . وراح ينظر إلي الحذاء، يتدفق الدم في وجهه، ويطفح بالصحة، ولكن بحزن حيوان معافي لم يشبع، حصان أو ثور، ومن جديد قال " نعم " ، قانعا، مقتنعا، كأنما وضعوا أيديهم علي مرض أصيب به، ولم يقل شيئا آخر، ولم يحك عن نفسه، بل أردف فقط يسأل : - هل أنت أستاذ؟ - أنا، أستاذ؟ - تعجب اللومباردي الكبير . والعجوز إلي جواره أسمعه ضحكته " إهيء !" لورقة شجر جفت دون كيان صوتي . كان كأنه عود جاف وهو يتحدث . - إهيء ! أصدر صوتا . إهيء ! لمرتين . وكانت له عينان مدببتان، ضاقتا من الضحك، في الوجه الصغير سميك البشرة، الداكن، كأنه قوقعة سلحفاة جافة . - إهيء أصدر بفم علي شكل فتحة الحصالة . - ليس هناك شيء يبعث علي الضحك، يا جدي الصغير، ليس هناك ما يبعث علي الضحك، - قال اللومباردي الكبير وهو يلتفت ناحيته، ومن جديد راح يحكي عن نفسه، من أول الحكاية، عن رحلته في ميسينا، وعن أطيانه في ليوني فورتي، وعن بناته الثلاث، الواحدة منهن أجمل من الأخري، هكذا قال هذه المرة، وعن حصانه الكبير المعتز بنفسه، وعن نفسه الذي لا يحس بسلام مع الناس، وكيف أنه يعتقد أن هناك حاجة إلي ضمير جديد، وواجبات جديدة لأدائها، حتي يحس بسلام أكثر مع الناس، وكل هذا موجه هذه المرة للعجوز وحده والذي كان ينظر إليه وهو يضحك ويصدر " إهيء " ، صوت صفير في بدايته، دون كيان صوتي . - ولكن لماذا، - قال اللومباردي الكبير عند لحظة بعينها، - لماذا تجلس بهذا الوضع غير المريح؟ هذا المسند يمكن رفعه . واستدار العجوز الضئيل ونظر إلي المسند الخشبي المرفوع وأصدر من جديد " إهيء " مرتين، ولكنه ظل جالسا غير مرتاح علي الحافة، يحفظ توازنه بيديه سميكتي الجلد علي عصا خشبية ذات عقد يصل طولها إلي طوله هو تقريبا، ومقبضها له رأس ثعبان . رأيت رأس الثعبان هذه في حركة الاستدارة التي قام بها لكي يري المسند، وعندئذ رأيت لونا أخضر في فم هذه الهامة الثعبانية، ثلاث ورقات خضراء لفرع برتقال صغير، ورآني العجوز الضئيل ومن جديد أصدر " إهيء " وتناول الفرع ووضعه في فمه هو، الذي يشبه شق الحصالة، كان هو أيضا رأس ثعبان . - آه، أنا أعتقد أن الأمر هو ذاك، - قال اللومباردي الكبير، وهو يتحدث هذه المرة إلي الجميع بصفة عامة . لا نحس بالرضا في أدائنا واجبنا، واجباتنا ... لا نبالي بأدائها . إذ أننا نظل في أسوأ حال أيضا . وأنا أعتقد أنه لهذا السبب ... لأنها واجبات قديمة أكثر من اللازم، قديمة جدا ولهذا أصبحت سهلة جدا، ولم يعد لها معني بالنسبة للضمير ... - بجد، ألست أستاذا حقا؟ - قال الكاتاني . يتدفق الدم في وجهه، ثور، وبحزن الثيران كان ينظر دائما إلي الحذاء . - أنا، أستاذ؟ - قال اللومباردي الكبير . هل تبدو علي سمات الأستاذ؟ لست جاهلا، أستطيع أن أقرأ كتابا، إن شئت، ولكنني لست أستاذا . تعلمت عند السالزيان وأنا صبي، ولكنني لست أستاذا ... وهكذا وصلنا إلي المحطة الأخيرة قبل كاتانيا، وأصبحنا بالفعل في ضواحي المدينة الكبيرة ذات الأحجار السوداء، ونزل العجوز الذي كان يصدر " إهيء " كأنه فرع جاف، ثم وصلنا إلي كاتانيا، كانت الشمس تعم الشوارع ذات الحجارة السوداء والتي كانت تجري أمام أعيننا، شوارع وبيوت، وحجارة سوداء، عموديا تحت القطار، ووصلنا داخل محطة كاتانيا، ونزل الكاتاني ونزل اللومباردي الكبير، وعندما أطللت من النافذة رأيت ذي الشوارب ودون الشوارب اللذين كانا قد نزلا . إجمالا نزل القطار كله، وتواصلت الرحلة بعربات القطار الفارغة تحت الشمس، وسألت نفسي لماذا لم أنزل أنا أيضا . كان معي علي كل حال تذكرة حتي سيراكوزا، فواصلت الرحلة في العربة الخالية، تحت الشمس، عبر السهول الخالية . ومن الممر وأنا عائد إلي الديوان فوجئت بوجوده، واقفا في مكانه، ملفوفا في عباءته، بالقبعة الخفيفة من القماش علي رأسه، الشاب ذي الوجه الشمعي لمريض، ومعه، أنظر إليه وينظر إلي، دون كلمة واحدة، ولكنني كنت مسرورا لأنني معه، سافرت وسافرت، تحت الشمس عبر السهول الخالية، حتي أصبحت السهول ملونة بأخضر الملاريا، ووصلنا إلي لنتيني، تحت أقدام سهول البرتقال والملاريا المائلة، ونزل الشاب الملفوف بالعباءة وتوجه إلي الشمس هربا من البرد، علي الرصيف الخالي، وقد أكلت الملاريا جسده . هكذا أصبحت وحدي، وأصبحت الحقول صخرية، نحو سيراكوزا علي شاطئ البحر، ثم رفعت عيني فرأيت في الخارج دون الشوارب، واقفا علي قدميه، في الممر، ينظر لي .


8

ابتسم لي . كان في الممر معطيا ظهره للشمس، وحقول الصخور والبحر خلف ظهره، وكنا نحن الاثنين، أنا وهو، وحدنا في العربة، وربما في القطار كله، وهو يشق طريقه بين الحقول الخالية . كان يبتسم لي بوجه مدخن سيجار، دون شوارب، وضخما في المعطف باذنجاني اللون، والقبعة باذنجانية اللون، دخل، وراح يجلس . - تسمح لي، أليس كذلك؟ - قال عندما أصبح جالسا . - طبعا طبعا، - أجبت . كيف لا؟ وكان هو مسرورا أنه يستطيع أن يبقي جالسا بعد إذني أنا، مسرورا ليس لمجرد فعل الجلوس في حد ذاته، فقد كانت العربة كلها خالية، ولكن لأنه جلس هناك، حيث كنت أنا، آخر، رجل . - هيئ لي أنني رأيتك تنزل في كاتانيا، - لاحظت أنا . - آه، هل رأيتني؟ - قال هو مسرورا . رافقت صديقا حتي قطار كالتانيسيتا . ثم ركبت من جديد في الدقيقة الأخيرة . - هو ذلك، هو ذلك، - قلت أنا . - ركبت من العربة الأخيرة . - هو ذلك، هو ذلك، - قلت أنا . - لحقت بها في آخر لحظة . - هو ذلك، هو ذلك، - قلت أنا . - كانت هناك عربة درجة أولي وأخري درجة ثانية في الوسط، - قال هو . وكان علي أن أجلس هنا بعيدا عن حقائبي . - هو ذلك، هو ذلك، - قلت أنا . - ولكن في لنتيني نزلت وجئت إلي هنا، - قال هو . وقلت أنا من جديد : - هو ذلك، هو ذلك . ولم يضف هو شيئا، وظل هنيهة صامتا، مسرورا، راضيا بأنه استطاع أن يشرح كل شيء . ثم تنهد، وابتسم، وقال : - كنت قلقا علي الحقائب ! - طبعا، - قلت أنا . لا أحد يعرف ماذا يمكن ... - هذا حقيقي هاه؟ - قال هو . لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يحدث مع كل هؤلاء الأشرار الذين تراهم في كل مكان . - فعلا، - قلت أنا . مع كل هؤلاء الأشرار ... - مثل ذلك الذي نزل في لنتيني، - قال هو . هل رأيته؟ - من؟ - قلت أنا . ذلك الملفوف؟ - نعم، - قال هو . ذلك الملفوف ... ألم يكن له وجه مجرم؟ لم أرد أنا، فتنهد هو، وتلفت حوله، قرأ لوحات الإرشادات الصغيرة الموجودة في الديوان كلها، نظر إلي الحقول الخالية المتعرجة السريعة والمتساوية من صخور جرداء علي طول البحر، ثم ابتسم، وقال أخيرا : - أنا موظف في الشهر العقاري ! - أوه ! قلت أنا . حقا؟ و ... ماذا تفعل؟ هل تذهب إلي البيت في إجازة؟ - نعم، - أجاب . أذهب في تصريح ... إلي شاكا، بلدي . - إلي شاكا، - قلت أنا . وهل أنت قادم من بعيد؟ - من بولونيا، رد هو . أنا موظف هناك . وزوجتي من بولونيا . وكذلك أبنائي . كان مسرورا وقلت أنا : - وتذهب إلي شاكا من هنا؟ - نعم، من هنا، قال هو . سيراكوزا ثم سباكافورنو فموديكا وجينسي ودونافوجاتا ... - فيتوريا، فالكونارا، - قلت أنا . ليكاتا . - أهاهاها ! قال هو . جيرجنتي … - أجريجنتو لو سمحت، - قلت أنا . ولكن ألن يناسبك أكثر أن تواصل حتي كالتانيسيتا؟ - طبعا يناسبني، - قال هو . وأوفر ثماني ليرات . ولكن من هنا لا تفارق البحر … - وهل تحب البحر؟ - سألته أنا . - لا أعرف، - أجاب هو . أعتقد أنني أحبه . علي كل الحال هذا الخط يعجبني … وتنهد، وابتسم، ثم نهض وقال : - هل تسمح لي؟ ذهب إلي الديوان المجاور وعاد بسلة صغيرة لطعام الأطفال، ولكنها من الورق، ووضعها علي ركبتي ساقيه القصيرتين، وفتحها، وأخرج منها بعض الخبز وابتسم . - خبز، - قال . إيه ! إيه ! ثم أخرج بيضا مخفوقا طويلا وابتسم من جديد . - أومليت ملفوف علي شكل سمكة ! قال . وابتسمت أنا ردا عليه . وقطع هو البيض بسكين صغير إلي قطعتين وقدم لي قطعة . - أوه، شكرا ! قلت وأنا أحجب نفسي عن يده المسلحة بالبيض المقلي . أظلم وجهه . - كيف؟ - قال . لا تريد أن تقبله مني؟ - لست جائعا ! قلت أنا . وهو : - لست جائعا؟ إن السفر يسبب الجوع . وأنا : - ولكن لم يحن وقت الأكل بعد . سوف آكل في سيراكوزا . وهو : - حسنا، ابدأ الآن، وأكمل في سيراكوزا . وأنا : - ولكن هذا مستحيل، سوف تفسد علي شهيتي . وهو يظلم وجهه أكثر ويلح .

- أوه ! أنا موظف في الشهر العقاري ! قال من جديد . وقال : - لا تؤذني برفضك ! خذ لمجرد أن تقبل الدعوة … قبلت وأكلت معه البيض المقلي الملفوف علي شكل السمكة، وكان هو سعيدا، وكنت أنا كذلك بطريقة أو بأخري، مسرورا، بطريقة ما، لأنني سررته، وأنا أمضغ البيض المقلي وألوث يدي بالبيض المقلي مثله . وفي تلك الأثناء كانت أوجوستا قد مرت بجبلها وبيوتها الميتة في وسط البحر، بين الطائرات والسفن، بين الملاحات، تحت الشمس، وكنا نقترب من سيراكوزا، كنا نسافر عبر الحقول الخالية، علي طول بحر سيراكوزا . - سوف تأكل بشهية أفضل في سيراكوزا، - قال وأردف : - هل ستتوقف هناك؟ - سوف أتوقف هناك، - أجبت . - هل تقيم فيها؟ - قال هو . - لا، - أجبت أنا . لا أقيم هناك . - أليس لك أحد في سيراكوزا؟ - قال هو . - كلا، - أجبت . - سوف تذهب للعمل إذن؟ - قال هو . - لا، - أجبت أنا . لا . نظر لي شاردا، وهو يأكل البيض المقلي، وينظر لي وأنا آكل بيضه المقلي، وقلت أنا : - لك صوت باريتون جميل، أنت . احمر وجهه فورا . - أوه ! قال . - لماذا؟ ألم تكن تعرف؟ - قلت أنا . - أوه، من ناحية المعرفة كنت أعرف، - قال أحمر ومسرورا . وقلت أنا : - طبعا . مستحيل أن تعيش حتي الآن دون أن تعرف . خسارة أنك تعمل في الشهر العقاري بدلا من أن تعمل مغنيا … - فعلا، - قال هو . كان مما يسعدني … في أعمال فالستاف، أو في أعمال ريجوليتو … علي جميع مسارح أوروبا . - أو حتي في الشوارع، ماذا يهم؟ أفضل من أن تعمل موظفا، - قلت أنا .

- أوه، نعم، ربما … - قال هو .

وصمت قليلا حائرا، وظل صامتا، وهو يمضغ، وخلف منحني حقول الصخر ظهرت، في مقابل البحر، صخرة كاتدرائية سيراكوزا . - ها نحن في سيراكوزا، - قلت أنا . نظر لي وابتسم .

- هكذا تكون قد وصلت، - علق .

تبادلنا التحية، دخل القطار المحطة .

- أعتقد أنك سوف تجد القطار المقابل علي الفور، - قال هو . ونزلت أنا في سيراكوزا، المكان الذي ولدت فيه ومنه سافرت قبل خمسة عشر عاما، إحدي محطات حياتي . ومن جديد، وهو ينزل حقائبه، حياني الرجل، موظف الشهر العقاري المزعوم، أو عموما الرجل دون الشوارب .

- إلي اللقاء، - قال لي . ولكن ماذا سوف تفعل في سيراكوزا؟

كنت قد ابتعدت بالفعل بما يكفي لكي لا أرد عليه ولم أرد عليه، وابتعدت نحو بوابة الخروج ولم أره بعد ذلك . وأصبحت في سيراكوزا . ولكن ماذا عساي أن أفعل في سيراكوزا؟ لماذا جئت إلي سيراكوزا؟ لماذا أخذت تذكرة إلي سيراكوزا بالتحديد وليس لأي مكان آخر؟ من المؤكد أنني كنت لا أبالي بالمكان الذي أقطع له التذكرة . ومن المؤكد أنني كنت لا مبال بأن أكون في سيراكوزا أو في غير سيراكوزا . كله يستوي بالنسبة لي . كنت في صقلية . كنت أزور صقلية . وأستطيع أيضا أن أركب القطار من جديد وأعود إلي البيت . ولكنني كنت قد عرفت رجل البرتقال، وذو ودون الشوارب، واللومباردي الكبير، والعجوز الضئيل صاحب الصوت الذي يشبه العود الجاف، والشاب مريض الملاريا الملفوف في عباءته، وبدا لي أنه ربما لم يكن من اللامبالاة أن أكون في سيراكوزا أو في غيرها . " يا لك من أبله، - قلت لنفسي . لماذا لم أذهب لزيارة أمي بدلا من هذا؟ بنفس النقود وفي نفس الزمن، في الجبل ... " ووجدت في يدي بطاقة التهنئة البريدية لأمي التي لم ألقها في صندوق البريد وفكرت في أنه اليوم الثامن . " يا للهول !" فكرت . يا للعجوز المسكينة ! إذا لم أحمل إليها أنا نفسي هذه البطاقة فلن تصل إليها خلال اليوم ". وذهبت إلي محطة السكك الحديدية الثانوية لكي أستعلم ما إذا كانت النقود تكفيني لكي أواصل الرحلة حتي أمي، في الجبل .

الرواية مراجعة : د . سوزان اسكندر

وتصدر عن المشروع القومي للترجمة بالتعاون مع المعهد الثقافي الإيطالي بالقاهرة