إرشاد الفحول - الجزء الرابع
فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال الفائدة الأولى: في قول الصحابي. اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر والآمدي وابن الحاجب وغيرهم. واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين ومن بعدهم على أقوال: الأول أنه ليس بحجة مطلقاً وإليه ذهب الجمهور. الثاني أنه حجة شرعية مقدمة على القياس وبه قال أكثر الحنفية ونقل عن مالك وهو قول الشافعي . الثالث أنه حجة إذا انضم إليه القياس فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي وهو ظاهر قول الشافعي في الرسالة قال وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو ما كان أصح في القياس وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس انتهى. وحكى القاضي حسين وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة إذا عضده القياس وكذا حكاه عنه القفال الشاشي وابن القطان . قال القاضي في التقريب إنه قاله الشافعي في الجديد واستقر عليه مذهبه وحكاه عنه المزني وابن أبي هريرة . الرابع أنه حجة إذا خالف القياس لأنه لا محمل له إلا التوقيف وذلك القياس والتحكم في دين الله باطل فيعلم أنه لا يقلد إلا توقيفاً . قال ابن برهان في الوجيز وهذا هو الحق المبين قال : ومسائل الإمامين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تدل عليه انتهى . ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد أما إذا لم يكن منها ودل دليل على التوقيف فليس مما نحن بصدده والحق أنه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمداً ضصض وليس لنا إلا رسول واحد وكتاب واحد وجميع الأمة مأمور باتياع كتابة وسنة نبيه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية وباتباع الكتاب والسنة فمن قال إنها تقوم الحجة في دين الله عز وجل بغير كتاب الله وسنة رسوله وما يرجع إليهما قد قال في دين الله لا يثبت وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعاً لم يأمر الله وهذا أمر عظيم وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله أو اقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل به وتصير شرعاً ثابتاً متقرراً تعم به البلوى مما لا يدان الله عز وزجل به . ولا يحل لمسلم الركون إليه ولا العمل عليه فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم وإن بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة وعظمة الشأن وهذا مسلم لا شك فيه ولهذا مد أحدهم لا يبلغه من غيرهم الصدقة بأمثاله الجبال ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله ضصض في حجة قوله وإلزام الناس باتباعه فإن ذلك مما لم يأذن الله به ولا ثبت عنه فيه حرف واحد ، وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي مما روى عنه ضصض أنه قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا مما لم يثبت قط والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل على أنه لو ثبت من وجه صحيح لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة الثابتة من الكتابة والسنة وحرصهم على اتباعها ومشيهم على طريقتها يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها واتباعها هداية كاملة لأنه لو قيل لأحدهم لم قلت كذا لم فعلت كذا لم يعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة ولم يتلعثم في بيان ذلك، وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه ضصض من قوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وما صح عنه من قوله ضصض عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين . فاعرف هذا واحرص عليه فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولاً إلا محمداً ضصض ولم يأمرك باتباع غيره ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفاً واحداً ولا جعل شيئاً منه الحجة عليك في قول غيره كائناً من كان . الفائدة الثانية : الأخذ بأقل ما قيل فإنه أثبته الشافعي والقاضي أبو بكر الباقلاني قال القاضي عبد الوهاب وحكى بعض الأصوليين إجماع أهل النظر عليه . قال ابن السمعاني وحقيقته أن يختلف المختلفون في أمر على أقاويل فيأخذ بأقلها إذا لم يدل على الزيادة دليل . قال القفال الشاشي هو أن يرد الفعل عن النبي ضصض مبيناً لمجمل ويحتاج إلى تجديده فيصار إلى ما يوجد كما قال الشافعي في أقل الجزية إنه دينار، وقال ابن القطان هو أن يختلف الصحابي في تقديره فيذهب بعضهم إلى مائة مثلاً وبعضهم إلى خمسين فإن كان ثم دلالة تعضد أحد القولين صير إليها وإن لم يكن دلالة فقد اختلف فيه أصحابنا فمنهم من قال يأخذ بأقل ما قيل ويقول إن هذا مذهب الشافعي لأنه قال أن دية اليهود الثلث وحكى اختلاف الصحابة فيه وأن بعضهم قال بالمساواة وبعضهم قال بالثلث فكان هذا أقلها . وقسم ابن السمعاني إلى قسمين : أحدهما : أن يكون ذلك فيما أصله البراءة فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى لموافقة براءة الذمة ما لم يقم دليل الوجوب وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية الميت إذا وجبت على قاتله فهل يكون الأخذ بأقله دليلاً. اختلف أصحاب الشافعي فيه. القسم الثاني: أن يكون مما هو ثابت في الذمة كالجمعة الثابت فرضها مع اختلاف العلماء في عدد انعقادها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلاً لارتهان الذمة بها فلا تبرى الذمة عنه إلا بدليل لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعاً وفي الأقل خلاف فلذلك جعلها الشافعي تنعقد بأربعين لأن هذا العدد أكثر ما قيل . الثاني : لا يكون دليلاً لأنه لا ينعقد من الخلاف دليل انتهى . والحاصل أنهم جعلوا الأخذ بأقل ما فيها متركباً من الإجماع والبراءة الأصلية وقد أنكر جماعة الأخذ بأقل ما قيل. قال ابن حزم وإنما إذا أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام ولا سبيل إليه وحكى قولاً بأنه يؤخذ بأكثر ما قيل ليخرج من عهدة التكليف بيقين . ولا يخفاك أن الاختلاف في التقدير بالقليل والكثير أن كان باعتبار الأدلة ففرض المجتهد بما صح له منها من الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح إن لم يمكن وقد تقرر أن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح الواقعة غير منافية للمزيد مقبولة يتعين الأخذ بها والمصير الى مدلولها وان كان الاختلاف في التقدير باعتبار المذاهب فلا اعتبار عند الجمهور بمذاهب الناس بل هو متعبد باجتهاده وما يؤدي إليه نظره من الأخذ بالأقل أو بالأكثر أو بالوسط . وأما المقلد فليس له من الأمر شيء بل هو أسير إمامه في جميع دينه وليته لم يفعل وقد أوضحنا الكلام في التقليد في المؤلف الذي سميناه أدب الطلب وفي الرسالة المسماة القول المفيد في حكم التقليد. وكما وقع الخلاف في مسألة الأخذ بأقل ما قيل كذلك وقع الخلاف في الأخذ بأخف ما قيل وقد صار بعضهم إلى ذلك لقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقولهوما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله ضصض بعثت بالحنفية السمحة السهلة وقوله يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا وبعضهم صار إلى الأخذ بالأشق ولا معنى للخلاف في مثل هذا لأن الدين كله يسر والشريعة جميعها سمحة سهلة،والذي يجب الأخذ به ويتعين العمل عليه هو ما صح دليله فإن تعارضت الأدلة لم يصلح أن يكون الأخف مما دلت عليه أو الأشق مرجحاً بل يجب المصير إلى المرجحات المعتبرة. الفائدة الثالثة : لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلى إقامة الدليل عليه ، وأما النافي له فاختلفوا في ذلك على مذاهب . الأول : أن يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي ، نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ونقله ابن القطان على أكثر اصحاب الشافعي وجزم به القفال والصيرفي ، وقال الماوردي إنه مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء والمتكلمين ، وقال القاضي في التقريب إنه الصحيح . وبه قال الجمهور قالوا لأنه مدع والبينة على المدعي ، ولقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبيناً ولقوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في جواب قولهلن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ولا يخفاك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه فإن النافي غير مدع بل قائم مقام المنع متمسك بالبراءة الأصلية ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه بل واقف حتى يأتيه الدليل وتضطره الحجة إلى العمل ، وأما قوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فهو نصب للديل في غير موضعه فإنه إنما طلب منهم البرهان لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى . المذهب الثاني : أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل وإليه ذهب أهل الظاهر إلا ابن حزم فإنه رجح المذهب الأول . قالوا لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم فمن نفى الحكم له أن يكتفي بالاستصحاب وهذا المذهب قوي جداً ، فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل. المذهب الثالث : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي دون الشرعي حكاه القاضي في التقريب و ابن فورك . المذهب الرابع : أنه يحتاج إلى الدليل في غير الضروري بخلاف الضروري . وهذا اختاره الغزالي ولا وجه له فإن الضروري يستغني بكونه ضروريا ولا يخالفه مخالف إلا على جهة الغلط أو الاعتراض الشبهة ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته وليس النزاع إلا في الضروري . المذهب الخامس : أن النافي إن كان شاكاً في نفيه لم يحتج إلى دليل وإن كان نافياً له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية لا إن كانت ضرورية فلا نزاع في الضروريات . كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له فإن النافي عن معرفة يكفيه المثبت بإقامة الدليل حتى يعمل به أو يرده لأنه هو الذي جاء بحكم يدعى أنه واجب عليه وعلى خصمه وعلى غيرهما . المذهب السادس : أن النافي أن نفى العلم عن نفسه فقال لا أعلم ثبوت هذا الحكم فلا يلزمه الدليل وإن نفاه مطلقاً احتاج إلى الدليل لأن نفي الحكم حكم كما أن الاثبات حكم . قال ابن البرهان في الأوسط وهذا التفصيل هو الحق انتهى . قلت بل الحق ما قدمناه . المذهب السابع : أنه إن ادعى لنفسه علماً بالنفي احتاج إلى الدليل وإلا فلا . هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل واختاره المطرزي وهو قريب من المذهب الخامس . المذهب الثامن : أنه إذا قال لم أجد فيه دليلاً بعد الفحص عنه وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل وإلا احتاج هكذا قال ابن فورك . المذهب التاسع : أنه حجة دافعة لا موجبة ، حكاه أبو زيد ولا وجه له فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا . واختلفوا إذا قال العالم بحثت وفحصت فلم أجد دليلاً هل يقبل منه ذلك ويكون عدم الوجدان دليلاً له فقال البيضاوي يقبل لأنه يغلب ظن عمده ، وقال ابن برهان في الأوسط أن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى بل منه ولا يقبل منه في المناظرة لأن قوله بحثت فلم أظفر يصلح أن يكون عذراً فيما بينه وبين الله أما انتهاضه في حق خصمه فلا . الفائدة الرابعة : سد الذرائع . الذريعة هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع وقال أبو حنفية والشافعي لا يجوز منعها . استدل المانع بمثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر وما صح عنه ضصض من قوله لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ، وقوله ضصض دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . وقوله : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات . وقوله ضصض من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه قال القرطبي سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه وخالفه أكثر الناس تأصيلاً وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً ثم قرر موضع الخلاف فقال اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع قطعاً أولاً ، الأول ليس في هذا الباب بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والذي لا يلزم أما أن يفضي إلى المحظور غالباً أو ينفك عنه غالباً أو يتساوى الأمران وهو المسمى بالذرائع عندنا فالأول لا بد من مراعاته ، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه فمنهم من يراعيه وربما يسميه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة . قال القرافي : مالك لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها. قال فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين وإلقاء السم في طعامهم وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله ، ومنها ما هو ملغى إجماعاً كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر وإن كانت وسيلة إلى المحرم ، ومنها هو مختلف فيه كبيوع الآجال فنحن لا نغتفر الذريعة فيها وخالفنا غيرنا في أصل القضية أنا قلنا بسد الذرائع ، أكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا . قال وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله وقوله ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم لحبس الصيد يوم الجمعة وقوله ضصض لا تقبل شهادة خصم وظنين خشية الشهادة بالباطل ومنع شهادة الآباء للأبناء . وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة وهذا أمر مجمع عليه وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو بيوع الآجال ونحوها فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس وحينئذ فليذكروا حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس . قال بل من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمته قالت لعائشة إني بعت منه عبداً بثمانمائة إلى العطاء واشتريته منه نقداً بستمائة ، فقالت عائشة بئسما اشتريت وأخبري زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ضصض إلا أن يتوب . قال أبو الوليد بن رشد وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده مع القول بتحريم هذه الذرائع ولعل زيداً لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده . قال الزركشي وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم ثم أنها أنكرت ذلك لفساد التعيين فإن الأول فاسد بجهالة الأجل فإن وقت العطاء غير معلوم والثاني بناء على الأول فيكون فاسداً . قال ابن الرفعة : الذريعة ثلاثة أقسام: أحدها ما يقطع بتوصيله إلى الحرام فهو حرام عندنا وعندهم يعني عند الشافعية والمالكية . والثاني ما يقطع بأنه لا يوصل ولكن اختلط بما يوصل فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه وهذا غلو في القول بسد الذرائع . والثالث ما يحتمل ويحتمل وفيه مراتب ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها قال ونحن نخالفهم فيها إلا القسم الأول لانضباطه وقيام عليه انتهى . ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله ضصض ألا وإن حمى الله معاصيه فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه وهو حديث صحيح ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله ضصض دع ما يريبك إلى ما لايريبك وهو حديث صحيح أيضاً وقوله ضصض الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وهو حديث حسن ، وقوله ضصض استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وهو حديث حسن أيضاً. الفائدةة الخامسة : دلالة الاقتران ، وقد قال بها جماعة من أهل العلم فمن الحنفية أبو يوسف ومن الشافعية المزني وابن أبي هريرة وحكى ذلك الباجي عن بعض المالكية قال ورأيت ابن نصر يستعملها كثيراً. ومن ذلك استدلال مالك على سقوط الزكاة في الخيل بقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال فقرن بين الخيل والبغال والحمير لا زكاة فيها إجماعاً فكذلك الخيل وأنكر دلالة الاقتران الجمهور فقالوا إن الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم واحتج المثبتون إما بأن العطف يقتضي المشاركة وأجاب الجمهور بأن الشركة إنما تكون في المتعاطفات الناقصة المحتاجة إلى ما تتم به فإذا تمت بنفسها فلا مشاركة كما في قوله تعالى:محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار فإن الجملة الثانية معطوفة على الأولى ولا تشاركها في الرسالة ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة والأصل في كل كلام تام أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيره فمن ادعى خلاف هذا في بعض المواضع فلدليل خارجي ولا نزاع فيما كان كذلك ولكن الدلالة فيه ليست للإقتران بل للدليل الخارجي أما إذا كان المعطوف ناقصاً بأن لا يذكر خبره كقول القائل فلانة طالق وفلانة فلا خلاف في المشاركة ومثله عطف المفردات وإذا كان بينهما مشاركة في العلة فالتشارك في الحكم إنما كان لأجلها لأجل الاقتران . وقد احتج الشافعي على وجوب العمرة بقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله والأمر يقتضي الوجوب فكان احتجاجه بالأمر دون الاقتران . وقال الصيرفي في شرح الرسالة في حديث أبي سعيد وغسل الجمعة على كل محتلم والسواك وأن يمس الطيب فهو دلالة على الغسل غير واجب لأنه قرنه بالسواك والطيب وهما غير واجبين بالاتفاق . والمروي عن الحنفية كما حكاه الزركشي عنهم في البحر أنها إذا عطفت جملة على جملة فإن كانتا تامتين كانت المشاركة في أصل الحكم لا في جميع صفاته وقال لا تقتضي المشاركة أصلاً وهي التي تسمى واو الاستئناف كقوله تعالى: فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل فإن قوله ويمح الله الباطل جملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ولا هي داخلة في جواب الشرط . وإن كانت الثانية ناقصة شاركت الأولى في جميع ما هي عليه قال وعلى هذا بنو بحثهم المشهور في قوله ضصض لا يقتل مسلم بكافر وقد سبق الكلام فيه . الفائدة السادسة : دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية وحكى الماوردي والرياني في كتاب القضاء في حجية الإلهام خلافاً وفرعاً عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل وإلا فلا . قال الزركشي في البحر وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام منهم في تفسيره في أدلة القبلة و ابن الصلاح في فتاواه فقال إلهام خاطر الحق من الحق قال ومن علامته أن ينشرح له الصدر ولا يعارضه معارض آخر. قال أبو علي التميمي في كتاب التذكرة في أصول الدين ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرار للعباد على سبيل الالهام بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى واحتج بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا أي ما تفرقون به بين الحق والباطل وقوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً أي عن كل ما يلتبس على غيره وجه الحكم فيه وقوله تعالى واتقوا الله ويعلمكم الله فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم وسلمت قلوبهم لله تعالى بترك المنهيات وامتثال المأمورات وخبره صدق ووعده حق . واحتج شهاب الدين السهروردي على الإلهام بقوله تعالى : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه وبقوله وأوحى ربك إلى النحل فهذا الوحي هو مجرد الإلهام ثم إن من الوحي علوماً تحدث في النفوس الزكية المطمئنة قال ضصض إن من أمتي المحدثين والمكلمين وإن عمر لمنهم وقال تعالى : ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها فأخبر أن النفوس ملهمة: قلت وهذا الحديث الذي ذكره هو ثابت في الصحيح بمعناه قال ابن وهب في تفسير الحديث أي ملهمون ولهذا قال صاحب نهاية الغريب جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة وهو نوع يخص به الله من يشاء من عباده كأنهم حدثوا بشيء فقالوه . وأما قوله ضصض استفت قلبك وإن أفتاك الناس فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الأدلة . قال الغزالي واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح المفتى أما حيث حرم فيجب الامتناع . ثم لا نقول على كل قلب فرب قلب موسوس ينفي كل شيء ورب متساهل يطير إلى كل شيء فلا اعتبار بهذين القلبين وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق لدقائق الأحوال فهو المحك الذي يمتحن به حقائق الأمور وما أعز هذا القلب . قال البيهقي في شعب الإيمان هذا محمول على أنه يعرف في منامه من عالم الغيب ما عسى أن يحتاج إليه أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك كما ورد في بعض طرق الحديث بلفظ وكيف يحدث قال يتكلم الملك على لسانه وقد روى عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث يعني يلقى في روعه قال القفال لو تثبت العلوم بالإلهام لم يظن للنظر معنى ونسأل القائل بهذا عن دليله فإن احتج بغير الإلهام فهو ناقض قوله انتهى . ويجاب عن هذا الكلام بأن مدعي الإلهام لا يحصر الأدلة في الإلهام حتى يكون استدلاله بغير الإلهام مناقضاً لقوله نعم إن استدل على إثبات الإلهام بالإلهام كان في ذلك مصادرة على المطلوب لأنه استدل على محل النزاع بمحل النزاع . ثم على تقدير الاستدلال لثبوت الإلهام بمثل ما تقدم من الأدلة من أين لنا أن دعوى هذا الفرد لحصول الإلهام له صحيحة وما الدليل على أن قلبه من القلوب التي ليست بموسوسة ولا بمتساهلة . المسألة السابعة : في رؤيا النبي ضصض ، ذكر جماعة من أهل العلم منهم الأستاذ أبو إسحاق أن يكون حجة ويلزم العمل به وقيل حجة ولا يثبت به حكم شرعي وإن كانت رؤية النبي ضصض رؤية حق والشيطان لا يتمثل به لكن النائم ليس من أهل التحمل للرواية لعدم حفظه وقيل إنه يعمل به ما لم يخالف شرعاً ثابتاً ، ولا يخفاك أن الشرع الذي شرعه الله لنا على لسان نبينا ضصض قد كمله الله عز وجل وقال : اليوم أكملت لكم دينكم ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته ضصض إذ قال فيها بقول أو فعل فيها فعلاً يكون دليلاً وحجة بل قبضه الله إليه عند أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه ولم يبق بعد حاجة للأمة في أمر دينها وقد انقطعت البعثة لتبليغ الشرائع وتبينها بالموت وإن كان رسولاً حياً وميتاً وبهذا تعلم أن لو قدرنا ضبط النائم لم يكن ما رآه من قوله ضصض أو فعله حجة عليه ولا على غيره من الأمة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
من مقاصد هذا الكتاب في الاجتهاد والتقليد الفصل الأول في الاجتهاد المسألة الأولى: في حد الاجتهاد المسألة الأولى : في حد الاجتهاد وهو في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه ، قال المحصول وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء : فهو استفرغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفرغ الوسع فيه وهو سبيل مسائل الفروع ولهذا تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهداً وليس هكذا حال الأصول انتهى . وقيل هو في الاصطلاح بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط . فقولنا بذل الوسع يخرج ما يحصل مع التقصير فإن معنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن مزيد طلب ، ويخرج بالشرعي اللغوي والعقلي والحسي فلا يسمى من بذل وسعه في تحصيلها مجتهداً اصطلاحا وكذلك بذل الوسع في تحصيل الحكم العلمي فإنه لا يسمى اجتهاداً عند الفقهاء وإن كان يسمى اجتهاداً عند المتكلمين ، ويخرج بطريق الاستنباط نيل الأحكام من النصوص ظاهراً أو حفظ المسائل أو استعلامها من المفتى أو بالكشف عنها في كتب العلم فإن ذلك وإن كان يصدق عليه الاجتهاد اللغوي فإنه لا يصدق عليه الاجتهاد الاصطلاحي ، وقد زاد بعض الأصوليين في هذا الحد لفظ الفقيه فقال بذل الفقيه الوسع ولا بد من ذلك فإن بذل غير الفقيه وسعه لا يسمى اجتهاداً اصطلاحاً ، ومنهم من قال هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي فزاد قيد الظن لأنه لا اجتهاد في القطعيات ، ومنهم من قال هو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه . قال ابن السمعاني هو أليق بكلام الفقهاء . وقال أبو بكر الرازي الاجتهاد يقع على ثلاثة معان : أحدها القياس الشرعي لأن العلة لما لم تكن موجبة للحكم لجواز جودها خالية عنه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فذلك كان طريقة الاجتهاد . والثاني ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في الوقت والقبلة والتقويم . والثالث الاستدلال بالأصول . قال الآمدي هو في الاصطلاح استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه ، وبهذا القيد خرج اجتهاد المقصر فإنه لا يعد في الاصطلاح اجتهاداً معتبراً وإذا عرفت هذا فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي ولا بد أن يكون بالغاً عاقلاً قد ثبتت له ملكة يقتدر بها على استخراج الأحكام من مآخذها وإنما يتمكن من ذلك بشروط . الأول أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة فإن قصر في أحدهما لم يكن مجتهداً ولا يجوز له الاجتهاد ولا يشترط معرفته بجميع الكتاب والسنة بل بما يتعلق منهما بالأحكام قال الغزالي وابن العربي والذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال ، قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والإلتزام . وقد حكى المارودي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية . قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ . واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة فقيل خمسمائة حديث وهذا أعجب ما يقال فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة ، وقال ابن العربي في المحصول هي ثلاثة آلاف ، وقال أبو علي الضرير قلت لأحمد بن حنبل كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي يكفيه مائة ألف ؟ قال لا . قلت ثلاثمائة ألفظ قال لا . قلت أربعمائة ؟ قال لا . قلت خمسمائة ألف ؟ قال أرجو . قال بعض أصحابه هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون العلم عن النبي ضصض ينبغي أن تكون ألفاً ومائتين . قال أبو بكر الرازي لا يشترط استحضار جميع ما ورد في ذلك الباب إذ لا يمكن الأحاطة به ولو تصور لما حضر في ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى . وقال الغزالي وجماعة من الأصوليين يكفيه أن يكون عنده أصل بجمع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن للبيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجمع أحاديث الأحكام ويكتفي فيه بمواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة وتبعه على ذلك الرافعي ونازعه النووي وقال لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود وكذا قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان التمثيل بسنن أبي داود ليس يجيد عندنا لوجهين : الأول أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها . الثاني أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام انتهى . ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب من قبيل الإفراط وبعضه من قبيل التفريط والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالماً بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق بها مشرفاً على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة الى ذلك وان يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف بحيث يعرف حال رجال الاسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة وليس من شرط ذلك أن يكون حافظاً لحال الرجال عن ظهر قلب بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب وما هو مقبول منها وما هو مردود وما هو قادح . الشرط الثاني : أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعي وقل أن يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من المسائل . الشرط الثالث : أن يكون عالماً بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه ولا يشترط أن يكون متمكناً من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك وقد قربوها أحسن تقريب وهذبوها ابلغ تهذيب ورتبوها على حروف المعجم ترتيباً لا يصعب الكشف عنه ولا يبعد الاطلاع عليه وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تراكيبها وما اشتملت عليه من لطائف المزايا من كان عالماً بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان حتى ثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظراً صحيحاً ويستخرج منه الأحكام استخراجاً قوياً ، ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد بل الاستكثار من الممارسة لها والتوسع في الاطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوة في البحث وبصراً في الاستخراج وبصيرة في حصول مطلوبه ، والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن . قال الإمام الشافعي يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه . قال الماوردي ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره . الشرط الرابع : أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه لاشتماله على نفس الحاجة إليه وعليه أن يطول الباع فيه ويطلع على مختصراته ومطولاته بما تبلغ به طاقته فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه وعليه أيضاً أن ينظر في كل مسألة من مسائله نظراً يوصله إلى ما هو الحق فيها فإنه إذا فعل ذاك تمكن من رد الفروع إلى أصولها بأيسر عمل وإذا قصر في هذا الفن صعب عليه الرد وخبط فيه وخلط . قال الفخر الرازي في المحصول وما أحسن ما قال أن أهم العلوم للمجتهد علم أصول الفقه انتهى . قال الغزالي إن عظم علوم الاجتهاد يشتمل على ثلاثة فنون الحديث واللغة وأصول الفقه . الشرط الخامس : أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ ، وقد اختلفوا في اشتراط العلم بالدليل العقلي فشرطه جماعة منهم الغزالي و الرازي ولم يشترط الآخرون وهو الحق لأن الاجتهاد إنما يدور على الأدلة الشرعية لا على الأدلة العقلية ومن جعل العقل حاكماً فهو لا يجعل ما حكم به داخلاً في مسائل الاجتهاد ، واختلفوا أيضاً في اشتراط علم أصول الدين فمنهم من يشترط ذلك وإليه ذهب المعتزلة ومنهم من لم يشترط ذلك وإليه ذهب الجمهور ومنهم من فصل فقال يشترط العلم بالضروريات كالعلم بوجود الرب سبحانه وصفاته وما يستحقه والتصديق بالرسل بما جاءوا به ولا يشترط علمه بدقائقه وإليه ذهب الآمدي ، واختلفوا أيضاً في اشتراط على الفروع فذهب جماعة منه الأستاذ ابو إسحاق أبو منصور إلى اشتراطه ، واختاره الغزالي وقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق لتحصيل الدربة في هذا الزمان ، وذهب آخرون إلى عدم اشتراطه قالوا وإلا لزم الدور وكيف يحتاج إليها وهو الذي يولدها بعد حيازته لمنصب الاجتهاد ، وقد جعل قوم من جملة علوم الاجتهاد علم الجرح والتعديل وهو كذلك ولكنه مندرج تحت العلم بالسنة فإنه لا يتم العلم بها بدونه كما قدمنا ، وجعل قوم من جملة علوم الاجتهاد معرفة القياس بشروطه وأركانه قالوا لأنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وهو كذلك ولكنه مندرج تحت علم أصول الفقه باب من أبوابه وشعبة من شعبه . وإذا عرفت معنى الاجتهاد والمجتهد فاعلم أن المجتهد فيه الحكم الشرعي العلمي قال في المحصول المجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام وبقولنا ليس فيه دليل قاطع عن وجوب الصلوات الخمس والزكاة وما اتفق عليه الأئمة من جليات الشرع . قال أبو الحسين البصري المسألة الاجتهادية هي التي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية وهذا ضعيف لأن جواز اختلاف المجتهدين مشروط بكون المسألة اجتهادية باختلافهم فيها لزوم الدور .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثانية : هل يجوز خلو العصر عن المجتهدين أم لا فذهب جمع إلا أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد قائم بحجج الله يبين للناس ما نزل إليهم قال بعضهم ولا بد أن يكون في كل قطر من يقوم بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد قال والظاهر أنه لا يتأتى في الفتوى ، وقال بعضهم الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب فرض عين وفرض كفاية وندب ، فالأول على حالين اجتهاد في حق نفسه عند نزول الحادثة ، والثاني اجتهاد فيما يتعين عليه الحكم فيه فإن ضاق فرض الحادثة كان على الفور وإلا كان على التراخي . والثاني على حالين . أحدهما إذا نزلت بالمستفتى حادثة فاستفتى أحد العلماء توجه الفرض على جميع وأخصهم بمعرفتها من خص بالسؤال عنها فإن أجاب هو أو غيره سقط الفرض وإلا أثموا جميعاً . والثاني أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر فيكون فرض الاجتهاد مشتركاً بينهما فأيهما تفرد بالحكم فيه سقط فرضه عنها . والثالث على حالين أحدهما فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل يسبق إلى معرفة حكمه قبل نزوله . والثاني أن يستفتيه قبل نزولها انتهى . ولا يخفاك أن القول بكون الاجتهاد فرضاً يستلزم عدم خلو الزمان عن مجتهد ويدل على ذلك ما صح عنه صضص من قوله لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة وقد حكى الزركشي في البحر عن الأكثرين أنه يجوز خلو العصر عن المجتهدين وبه جزم صاحب المحصول . قال الرافعي الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم قال الزركشي ولعله أخذه من كلام الإمام الرازي أو من قول الغزالي في الوسيط : قد خلا العصر عن المجتهد المستقل.قال الزركشي ونقل الاتفاق عجيب والمسألة خلافية بيننا وبين الحنابلة وساعدهم بعض أئمتنا ، والحق أن الفقيه الفطن القياس كالمجتهد في حق العامي لا الناقل فقط ، وقالت الحنابلة لا يجوز خلو العصر عن مجتهد وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق والزبيري ونسبه أبو إسحاق إلى الفقهاء قال ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زماناً من قائم بحجة زال التكليف إذا التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة وإذا زال التكليف بطلت الشريعة . قال الزبيري لن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة في كل وقت ودهر وزمان وذلك قليل في كثير فأما أن يكون غير موجود كما قال الخصم فليس بصواب لأنه لو عدم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها ولو عطلت الفرائض كلها لحلت النقمة بالخلق فليس بصواب كما جاء في الخبر لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ونحن نعوذ بالله أن نؤخر مع الأشرار انتهى . قال أبن دقيق العيد : هذا هو المختار عندنا لكن إلى الحد الذي ينتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان . وقال في شرح خطبة الإمام والأرض لا تخلوا من قائم لله بالحجة والأمة الشريفة لا بد لها من سالك إلى الحق على واضح الحجة إلى أن يتأتى أمر الله في أشراط الساعة الكبرى انتهى . وما قاله الغزالي رحمه الله من أنه قد خلا العصر عن المجتهد قد سبقه إلى القول به القفال ولكنه ناقض ذلك فقال أنه ليس بمقلد للشافعي وإنما وافق رأيه رأيه كما نقل ذلك عنه الزركشي وقال قول هؤلاء القائلين بخلو العصر عن المجتهد مما يقضي منه العجب فإنهم إن قالوا ذلك باعتبار المعاصرين لهم فقد عاصر القفال والغزالي والرازي والرفاعي من الأئمة القائمين بعلوم الاجتهاد على الوفاء و الكمال جماعة منهم ومن كان له إلمام بعلم التاريخ والاطلاع على أحوال علماء الإسلام في كل عصر لا يخفى عليه مثل هذا بل قد جاء بعدهم من أهل العلم من جمع الله له من العلوم فوق ما اعتده أهل العلم في الاجتهاد ، وإن قالوا ذلك لا بهذا الاعتبار بل باعتبار أن الله عز و جل رفع ما تفضل به على من قبل هؤلاء من هذه الأئمة من كمال الفهم و قوة الإدراك والاستعداد للمعارف فهذه دعوى من أبطل الباطلات بل هي جهالة من الجهالات ، وإن كان ذلك باعتبار تيسر العلم لمن قبل هؤلاء المنكرين وصعوبته عليهم وعلى أهل عصورهم فهذه أيضاً دعوى باطلة فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيراً لم يكن للسابقين لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره والسنة المطهرة قد دونت وتكلم الأمة على التفسير والتجريح والتصحيح والترجيح بما هو زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد وقد كان السلف الصالح ومن قبل هؤلاء المنكرين يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر فالاجتهاد على المتأخرين أيسر واسهل من الاجتهاد على المتقدمين ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح وعقل سوي ، وإذا أمعنت النظر وجدت هؤلاء المنكرين إنما أتوا من قبل أنفسهم فإنهم لما عكفوا على التقليد واشتغلوا بغير علم الكتاب والسنة حكموا على غيرهم بما وقعوا فيه واستصعبنا ما سهله الله على رزقه العمل والفهم وأفاض على قلبه أنواع علوم الكتاب والسنة ، ولما هؤلاء الذين صرحوا بعدم وجود المجتهدين شافعية فها نحن نصرح لك من وجد من الشافعية بعد عصرهم ممن لا يخالف مخالف في أنه جمع أضعاف علوم الاجتهاد فمنهم ابن عبد السلام وتلميذه ابن دقيق العيد ثم تلميذه ابن سيد الناس ثم تلميذه زين الدين العراقي ثم تلميذه ابن حجر العسقلاني ثم تلميذه السيوقي فهؤلاء ستة أعلام كل واحد منهم تلميذ من قبله قد بلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة عالم بعلوم خارجه عنها ، ثم في المعاصرين لهؤلاء كثير من المماثلين لهم وجاء بعدهم من لا يقصر عن بلوغ مراتبهم والتعداد لبعضهم فضلاً عن كلهم يحتاج إلى بسط طويل وقد قال الزركشي في البحر ما لفظه ولم يختلف اثنان في أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد وكذلك ابن دقيق العيد انتهى . وهذا الاجماع من هذا الشافعي يكفي في مقابلة حكاية الإتفاق من ذلك الشافعي الرافعي . وبالجملة فتطوير البحث في مثل هذا لا يأتي بكثير فائدة فإن أمره أوضح من كل واضح وليس ما يقوله من كان من إسراء التقليد بلازم لمن فتح الله عليه أبواب المعارف ورزقه من العلم ما يخرج به عن تقليد الرجال وما هذه بأول فاقرة جاء بها المقلدون ولا هي بأول مقالة باطلة قالها المقصرون ، ومن حصر فضل الله على بعض خلقه وقصر فهم هذه الشريعة المطهرة على من تقدم عصره فقد تجرأ على الله عز وجل ثم على شريعته الموضوعة لكل عباده ثم على عبادة الدين تعبدهم الله بالكتاب وبالسنة . ويالله العجب من مقالات هي جهالات وضلالات فإن هذه المقالة تستلزم رفع التعبد بالكتاب والسنة وإنه لم يبق إلا تقليد الرجال الذين هم متعبدون بالكتاب والسنة كتعبد من جاء بعدهم على حد سواء فإن كانت التعبد بالكتاب والسنة مختصاً بمن كانوا في العصور السابقة ولم يبق لهؤلاء إلا التقليد لمن تقدمهم ولا يتمكنون من معرفة أحكام الله من كتاب الله وسنة رسوله فما الدليل على هذه التفرقة الباطلة والمقالة الزائفة وهل النسخ إلا هذا، سبحانك هذا بهتان عظيم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثالثة: في تجزي الاجتهاد
وهو أن يكون العالم قد تحصل له في بعض المسائل ما هو مناط الاجتهاد من الأدلة دون غيرها فإذا حصل له ذلك فهل له أن يجتهد فيها أو لا ؟ بل لا بد أن يكون مجتهداً وطلقاً عنده ما يحتاج إليه في جميع المسائل فذهب جماعة إلى أنه يتجزأ عزاه الصفي الهندي إلى الأكثرين وحكاه صاحب النكت عن أبي علي الجبائي وأبي عبد الله البصري قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد تمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمأخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد قال الغزالي والرافعي يجوز أن يكون العالم منتصب للاجتهاد في باب دون باب وذهب آخرون إلى المنع لأن المسألة في نوع من الفقه ربما كان أصلها في نوع آخر منه. احتج الأولون بأنه لو لم يتجزأ الاجتهاد لزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل واللازم منتف فكثير من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثير منهم سئل عن مسائل فأجاب في أربع منها وقال في الباقي لا أدري . وأجيب بأنه قد يترك ذلك لمانع أو للورع أو لعلمه بأن السائل منعت وقد يحتاج بعض المسائل إلى فريد بحث يشغل المجتهد عنه شاغل في الحال . واحتج الباقون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلى ثبوت الملكة فإنها إذا تمت كان مقتدراً على الاجتهاد في جميع المسائل وإن احتاج بعضها إلى مزيد بحث وإن نقصت لم يقتدر على شيء من ذلك ولا يثق من نفسه يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهاداً مطلقاً فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ لا يتعلقه قال الزركشي وكلامهم يقتضي تخصيص الخلاف بما إذا عرف باباً دون باب أما مسألة دون مسألة فلا يتجزأ قطعاً والظاهر جريان الخلاف في الصورتين وبه صرح الأنباري انتهى . ولا فرق عند التحقيق في امتناع تجزي الاجتهاد فإنهم قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى يحصل له غلبة الظن بحصول المقتضى وعدم المانع وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق وأما من ادعى الاحاطة بما يحتاج إليه في باب دون باب أو في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شيء من غلبة الظن بذلك لأنه لا يزال يجوز الغير ما قد بلغ إليه علمه فإن قال قد غلب ظنه بذلك فهو مجازف وتتضح مجازفته بالبحث معه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الرابعة : اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء صلوات الله عليهم
بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلاً تعبدهم بالاجتهاد كغيرهم من المجتهدين حكى هذا الإجماع ابن فورك والأستاذ أبو منصور وأجمعوا أيضاً على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا وتدبير الحروب ونحوها حكى هذا الإجماع سليم الرازي وابن حزم وذلك كما قلت وقع من نبينا ضصض من إرادته بأن يصالح غطفان على ثمار المدينة وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة . فأما اجتهادهم في الأحكام الشرعية والأمور الدينية فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب .
الأول : ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي وقد قال سبحانه إن هو إلا وحي يوحى والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقولهوما ينطق عن الهوى قد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي وقال القاضي في التقريب كل من نفى القياس أحال تعبد النبي ضصض بالاجتهاد . قال الزركشي وهو ظاهر اختيار ابن حزم . واحتجوا أيضاً بأنه ضصض كان إذا سئل ينتظر الوحي ويقول ما أنزل علي في هذا شيء كما قال لما سئل عن زكاة الحمير فقال لم ينزل علي إلا هذه الآية الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وكذا انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه . ومن الذاهبين إلى هذا المذهب أبو علي وأبو هاشم .
المذهب الثاني : أنه يجوز لنبينا ضصض ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه ضصض كما خاطب عباده وضرب له الأمثال وأمره بالتدبر والاعتبار وهو أجل المتفكرين في آيات الله وأعظم المعتبرين . وأما قوله وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى فالمراد به القرآن لأنهم قالوا إنما يعلمه بشر ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده لأنه ضصض إذا كان معبدا بالاجتهاد وبالوحي لم يكن نطقا عن الهوى بل عن الوحي ، وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضاً للخطأ فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى ، وأيضاً قد وقع كثيراً منه ضصض ومن غيره من الأنبياء فأما منه فمثل قوله أرأيت لو تمضمضت أرأيت لو كان على أبيك ديه . وقوله للعباس الإذخر ولم ينتظر الوحي في كثير مما سئل عنه ، وقد قال ضصض ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه وأما من غيره فمثل قصة داود وسليمان . وأما ما احتج به المانعون أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة إذ لا قطع بأنه حكم الله لكونه محتملاً للإصابة ومحتملاً للخطأ فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاد يكون له حكم اجتهاد غيره فإن ذلك إنما كان لازماً لاجتهاد غيره لعدم اقترانه بما اقتران به اجتهاده ضصض من الأمر باتباعه . وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبداً بالاجتهاد لما في جواب سؤال سائل فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب والنظر فيما ينبغي النظر فيه في الحادثة كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين .
المذهب الثالث : الوقف عن القطع بشيء من ذلك وزعم الصيرفي في شرح الرسالة أنه مذهب الشافعي لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئاً منها . واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي ولا وجه للوقف في المسألة لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل : عفا الله عنك لم أذنت لهم فعاتبه على ما وقع منه ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه . ومن ذلك ما صح عنه ضصض من قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى أي لو عملت أولاً ما علمت آخراً ما فعلت ذلك ومثل ذلك لا يكون فيما عمله ضصض بالوحي وأمثال ذلك كثيرة كمعاتبته ضصض على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض وكما في معاتبته ضصض بقوله تعالى : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع أو التوقف لأجلها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الخامسة : في جواز الاجتهاد في عصره ضصض
فذهب الأكثرون إلى جوازه ووقوعه . واختاره جماعة من المحققين منهم القاضي ومنهم من منع ذلك كما روي عن أبي علي وأبي هاشم ومنهم من فصل بين الغائب والحاضر فأجازه لمن غاب عن حضرته ضصض كما وقع في حديث معاذ دون من كان فبحضرته الشريفة ضصض. واختاره الغزالي وابن الصباغ . ونقله الكيا عن أكثر الفقهاء والمتكلمين ومال إليه إمام الحرمين . قال القاضي عبد الوهاب إنه الأقوى على أصول أصحابهم . قال ابن فورك بشرط تقريره عليه . وقال ابن حزم إن كان اجتهاد الصحابي في عصره ضصض في الأحكام كإيجاب شيء أو تحريمه فلا يجوز كما وقع في أبي السنابل من الإفتاء باجتهاده في الحامل المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر فاخطأوا في ذلك وإن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز كاجتهادهم فيما يجعلونه علماء للدعاء إلى الصلاة لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة يلزم وكاجتهاد قوم بحضرته ضصض فيمن هم السبعون الفاً الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر فأخطأوا في ذلك وبين النبي ضصض من هم ولم يعنفهم في اجتهادهم ، ومنهم من قال وقع ظناً لا قطعاً واختاره الآمدي وابن الحاجب ومنهم من قال إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي ضصض أن يجتهد إذا أمره بذلك كما وقع منه ضصض من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة وإن لم يأمره النبي ضصض لم يجز له الاجتهاد إلا أن يجتهد ويعلم به النبي ضصض فيقرر عليه كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل فإنه قال لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد الله فيعطيك سلبه فقرره النبي ضصض ، والحق ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته ضصض فيما نابه من الأمر وبين من كان غائباً عنها فيجوز له الاجتهاد وقد وقع من ذلك واقعات متعددة كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه وكان جنباً ولم يغتسل بل تيمم وقال سمعت الله تعالى يقول : ولا تقتلوا أنفسكم فقرره النبي ضصض على ذلك وكما وقع منه ضصض من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فتخوف ناس من فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله ضصض وإن فات الوقت فما عنف أحداً من الفريقين ، ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه من إلى اليمن وهو حديث مشهور له طرق متعددة ينتهض مجموعها للحجة كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل ، ومنه بعثه ضصض لعلي قاضياً فقال لا علم لي بالقضاء فقال النبي ضصض اللهم أهد قلبه وثبت لسانه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك ، ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر فأتوا علياً يختصمون في الولد فأقرع بينهم فبلغ النبي ضصض فقال لا أعلم فيها إلا ما قال علي وإسناده صحيح وأمثال هذا كثيرة . قال الفخر الرازي في المحصول الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه ، وقد اعترض عليه ذلك ولا وجه للاعتراض لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي ضصض كان حجة وشرعاً بالتقرير لا باجتهاج الصحابي وإن لم يبلغه كان اجهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي عند من قال بجوازه في عصره ضصض وأنكره أو قال فخلافه فليس في ذلك الاجتهاد فائدة لأنه قد بطل بالشرع .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السادسة: فيما ينبغي للمجتهد أن في اجتهاده ويعتمد عليه فعليه أولاً أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة فإن وجد ذلك فيهما قدمه على غيره فإن لم يجده أخذ بالظواهر منهما وما يستفاد بمنطوقهما ومفهومهما فإن لم يجد نظر في أفعال النبي ضصض ثم في تقرير أنه لبعض أمته ثم في الإجماع إن كان يقول بحجيته ثم في القياس على ما يقتضيه اجتهاده من العمل بمسالك العلة كلاً أو بعضاً ، وما أحسن ما قاله الإمام الشافعي فيما حكاه عنه الغزالي أنها إذا وقعت الواقعة للمجتهد فليعرضها على نصوص الكتاب فإن أعوزه عرضها على الخبر المتواتر ثم الآحاد فإن أعوزه لم يخض في القياس بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب فإن وجد ظاهراً نظر في المخصصات من قياس وخبر فإن لم يجد مخصصاً حكم به وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعاً عليها اتبع الإجماع وإن لم يجد إجماعاً خاض في القياس ويلاحظ القواعد الكلية أولاً ويقدمها على الجزئيات كما في القتل بالمثقل فتقدم قاعدة الردع على مراعاة الإسم فإن عدم قاعدة كلية نظر في المنصوص ومواقع الإجماع فإن وجدها في معنى واحد ألحق به وإلا انحدر به القياس فإن أعوزه تمسك بالشبه ولا يعول على طرد انتهى . وإذا أعوزه ذلك كله تمسك بالبراءة الأصلية وعليه عند التعارض بين الأدلة أن يقدم طريق الجمع على وجه مقبول فإن أعوزه ذلك رجع إلى الترجيح بالمرجحات التي سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى . قال الماوردي الاجتهاد بعد النبي ضصض ينقسم إلى ثمانية أقسام : أحدها : ما كان الاجتهاد مستخرجاً من معنى النص كاستخراج علة الربا فهذا صحيح عند القائلين بالقياس. ثانيهما : ما استخرج من شبه النص كالعبد لتردد شبهه بالحرفي أنه يملك لأنه مكلف وشبهه بالبهيمة في أنه لا يملك لأنه مملوك فهذا صحيح غير مرفوع عند القائلين بالقياس والمنكرين له غير أن المنكرين له جعلوه داخلاً في عموم أحد الشبهين . ثالثها : ما كان مستخرجاً من عموم كالذي بيده عقدة النكاح في قوله : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإنه من إجماع النص أحدهما وهذا صحيح بتوصيل بالترجيح إليه . رابعها : ما استخرج من إجماع النص كقوله في المتعةومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره فيصح الاجتهاد في قدر المتعة باعتبار حال الزوجين . خامسها : ما استخرج من أحوال النص كقوله في التمتع فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم فاحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه وإذا رجع إلى أهله فيصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى . سادسها : ما استخرج من دلائل النص كقوله لينفق ذو سعة من سعته فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين بأن أكثر ما جاءت به السنة في فدية الآدمي أن لكل مسكين مدين واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمد بأنه أقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء أن لكل مسكين مداً . سابعها : ما استخرج من أمارات النص كاستخراج دلائل القبلة لمن خفيت عليه من قوله تعالى : وعلامات وبالنجم هم يهتدون فيكون الاجتهاد في القبلة بالأمارات والدلائل عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم . ثامنها : ما استخرج من غير نص ولا أصل فاختلف في صحة الاجتهاد فقيل لا يصح حتى يقترن بأصل ، وقيل يصح لأنه في الشرع أصل انتهى . وعندي أن من استكثر من تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وحعل كل ذلك دأبه ووجه إليه همته واستعان بالله عز وجل واستمد منه التوفيق وكان معظم همه ومرمى قصده الوقوف على الحق والعثور على الصواب من دون تعصب لمذهب من المذاهب وجد فيهما ما يطلبه فإنهما الكثير الطيب والبحر الذي لا ينزف والنهر الذي يشرب منه كل وارد عليه العذب الزلال والمعتصم الذي يأوي إليه كل خائف فاشدد يديك على هذا فإنك إن قبلته بصدر منشرح وقلب موفق وعقل قد حلت به الهداية وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائناً ما كان ، فإن استعبدت هذا المقال واستعظمت هذا الكلام وقلت كما قاله كثير من الناس إن أدلة الكتاب والسنة لا تفي بجميع الحوادث فمن نفسك أتيت ومن قبل تقصيرك أصبت وعلى نفسها براقش تجني وإنما تنشرح لهذا الكلام صدور قوم وقلوب رجال مستعدين لهذه المرتبة العلية : لا تعذل المشتاق في اشواقه حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى فإذا هويت فعند ذلك عنف ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة السابعة : اختلفوا في المسائل التي كل مجتهد فيها مصيب والمسائل التي لحق فيها مع واحد من المجتهدين وتلخيص الكلام في ذلك يحصل في فرعين : الفرع الأول : العقليات ، وهي على أنواع . الأول ما يكون الغلط فيه مانعاً من معرفة الله كما في إثبات العلم بالصانع والتوحيد والعدل . قالوا فهذه الحق فيها واحد فمن أصابه أصاب الحق ومن اخطأه فهو كافر . النوع الثاني مثل مسألة الرؤية وخلق القرآن وخروج الموحدين من النار وما يشابه ذلك فالحق فيها واحد فمن أصابه فقد أصاب ومن أخطأه فقيل يكفر ، ومن القائلين بذلك الشافعي فمن أصحابه من حمله على ظاهره ومنهم من حمله على كفران النعم . النوع الثالث إذا لم تكن المسألة دينية كما في تركب الأجسام من ثمانية أجزاء وانحصار اللفظ في المفرد والمؤلف قالوا فليس المخطئ فيها بآثم ولا المصيب فيها بمأجور إذ هذه وما يشابهها يجري مجرى الاختلاف في كون ملكه أكبر من المدينة أو أصغر منها ، وقد حكى ابن الحاجب في المختصر أن المصيب في العقليات واحد ثم حكى عن العنبري أن كل مجتهد في العقليات مصيب وحكى ايضاً عن الجاحظ أنه لا إثم على المجتهد بخلاف المعاهد ، قال الزركشي وأما الحق فجعل الحق فيها واحد ولكنه يجعل المخطئ في جميعها غير آثم . قال ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله وقد استشبع هذا القول منه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهادهم قال ولعله أراد أصول الديانات التي اختلف فيها أهل القبلة كالرؤية وخلق الأفعال ونحوه . وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى والمجوس فهذا مما يقطع فيه بقول اهل الإسلام . قال القاضي في مختصر التقريب اختلفت الروايات عن العنبري فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الذين يجمعهم الله وأما الكفرة فلا يصوبون وفي رواية عنه أنه صوب الكافرين المجتهدين دون الراكبين البدعة . قال ونحن نتكلم معهما يعني العنبري والجاحظ فنقول أنتما أولاً محجوجان بأن الإجماع قبلكما وبعدكما . ثانياً أن اردتما بذلك مطابقة الإعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن أردتما الخروج عن عهدة التكليف ونفي الحرج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين العقلية من الكتاب والسنة والإجماع الخارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة . وأما تخصيص التصويب بأهل الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المرء إدراك بطلانه ، وقد حكى القاضي أيضاً في موضع آخر عن داود بن علي الأصفهاني إمام مذهب الظاهر أنه قال بمثل قول العنبري وحكى قوم عن العنبري والجاحظ أنهما قالا ذلك فيمن علم الله من حاله استفراغ الوسع في طلب الحق من أهل ملتنا وغيرهم وقد نحا الغزالي نحو هذا المنحى في كتاب التفرقة بين الاسلام والزندقة . وقال ابن دقيق العيد ما نقل عن العنبري والجاحظ أن أراد أن كل واحد من المجتهدين مصيب لما في نفس الأمر فباطل وإن أريد به من بذل الوسع ولم يقصر في الأصوليات يكون معذوراً غير معاقب فهذا اقرب لأنه قد يعتقد فيه أنه لو عوقب وكلف بعد استفراغه غاية الجهد لزم تكليفه بما لا يطاق قال وأما الذي حكى عنه من الاصابة في العقائد القطعية فباطل قطعاً ولعله لا يقوله إن شاء الله تعالى . وأما المخطئ في الأصول والمجتهد فلا شك في تأثيمه وتفسيقه تضليله ، واختلف في تكفيره وللأشعري قولان . قال إمام الحرمين وابن القشيري وغيرهما وأظهر مذهبه ترك التكفير وهو اختيار القاضي في متاب المتأولين وقال ابن السلام رجع الإمام الحسن الأشعري عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن الجهل بالصفات ليس جهلاً بالموصوف . قال الزركشي وكان الإمام أبو سهل الصعلوكي لا يكفر فقيل له ألا يكفرك فعاد إلى القول بالتكفير وهذا مذهب المعتزلة فهم يكفرون خصومهم ويكفر كل فريق منهم الآخر وقد حكى إمام الحرمين عن معظم أصحاب الشافعي ترك التكفير وقال إنما يكفر من جهل وجود الرب أو علم وجوده ولكن فعل فعلاً أو قال قولاً أجمعت الأمة على أنه لا يصدر ذلك إلا عن كافر انتهى . واعلم أن التكفير لمجتهدي الإسلام بمجرد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كؤود لا يصعد إليها إلا من لا يبالي بدينه ولا يحرص عليه لأنه مبني على شفا جرف هار وعلى ظلمات بعضها فوق بعض وغالب القول به ناشئ عن العصبية وبعضه ناشئ عن شبه واهية ليست من الحجة في شيء ولا يحل التمسك بها في أيسر أمر من أمور الدين فضلاً عن هذا الأمر الذي هو مزلة خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم يدفع ذلك دفعاً لا شك فيه ولا شبهة فإياك أن تغتر بقول من يقول منهم إنه يدل على ما ذهب إليه الكتاب والسنة فإن ذلك دعوى باطلة مترتبة على شبهة داحضة وليس هذا المقام مقام بسط الكلام على هذا المرام فموضعه علم الكلام . الفرع الثاني : المسائل الشرعية فذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو هاشم وأتباعهم إلى أنها تنقسم إلى قسمين . الأول: ما كان منها قطعياً معلوماً بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها بمصيب بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطئ غير معذور وكفره جماعة منهم لمخالفته للضروري وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل إن قصر فهو مخطئ آثم وإن لم يقصر فهو مخطئ غير آثم قال ابن السمعاني ويشبه أن يكون سبب غموضها امتحاناً من الله لعباده ليفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة كما قال تعالى:يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقالوفوق كل ذي علم عليم . القسم الثاني : المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها ، وقد اختلفوا في ذلك اختلافاً طويلاً واختلف النقل عنهم ذلك اختلافاً كثيراً فذهب جمع جم إلى أن قول من أقوال المجتهدين فيها حق وأن كل واحد منهم مصيب وحكاه الماوردي والرياني عن الأكثرين . قال الماوردي وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة ، وذهب أبو حنفية ومالك والشافعي وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالاً وحراماً . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخطئ بعضهم بعضاً ويعترض بعضهم على بعض ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقاً لم يكن للتخطئة وجه ، ثم اختلف هؤلاء بعد اتفاقهم على أن الحق واحد هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند مالك والشافعي وغيرهما أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد وقال جماعة منهم أبو يوسف إن كل مجتهد مصيب وإن كان الحق مع واحد . وقد حكى بعض أصحاب الشافعي عن الشافعي مثله ، وأنكر ذلك أبو إسحاق المروزي وقال إنما نسبة إليه قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه . قال القاضي أبو الطيب الطبري واختلف النقل عن أبي حنفية فنقل عنه أنه قال في بعض المسائل كقولنا وفي بعض كقول أبي يوسف وقد روى عن اهل العراق وأصحاب مالك وابن شريح وأبي حامد بمثل قول أبي يوسف واستدل ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه ولا يجوز إجماعهم على خطأ . قال ابن فورك في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها أن الحق في واحد وهو المطلوب وعليه دليل منصوب فمن وضع النظر موضعه أصاب ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم عليه ولا نقول إنه معذور لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لعذر في تركه كالعاجز عن القيام في الصلاة وهو عندنا قد كلف إصابة العين لكنه خفف أمر خطابه وأجر على قصده الصواب وحكمه نافذ على الظاهر وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في كتاب الرسالة وأدب القاضي . والثاني أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يتكلفوا إصابته وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد وإن كان بعضهم مخطئاً، والثالث أنهم كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن انتهى . وذهب قوم إلى أن الحق واحد والمخالف له مخطئ آثم ويختلف خطؤه على قدر ما يتعلق به الحكم فقد يكون كبيرة وقد يكون صغيرة ، ومن القائلين بهذا القول الأصم والمريسي وابن علية وحكى عن أهل الظاهر وعن جماعة من الشافعية وطائفة من الحنفية وقد طول أئمة الأصول الكلام في هذه المسألة وأوردوا من الأدلة ما لا تقوم به الحجة واستكثر من ذلك الرازي في المحصول ولم يأتوا بما يشفى طالب الحق . وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق إيضاحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب وهو الحديث الثابت في الصحيح من طرق أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر فهذا الحديث يفيدك أن الحق واحد وأن بعض المجتهدين يوافقه فيقال له مصيب ويستحق اجرين وبعض المجتهدين يخالفه ويقال له مخطئ واستحقاقه الأجر لا يستلزم كونه مصيباً واسم الخطأ عليه لا يستلزم أن لا يكون له أجر . فمن قال كل مجتهد مصيب وجعل الحق متعدداً بتعدد المجتهدين فقد أخطأ خطأ بينا وخالف الصواب بمخالفة ظاهرة فإن النبي ضصض جعل المجتهدين قسمين قسماً مصيباً وقسماً مخطئا ولو كان كل منهم مصيباً لم يكن لهذا التقسيم معنى ، وهكذا من قال إن الحق واحد ومخالفه آثم يوافق الحق في اجتهاده مخطئاً ورتب على ذلك استحقاقه للأجر فالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن الحق واحد ومخالفه مأجور إذا كان قد وفى الاجتهاد حقه ولم يقصر في البحث بعد إحرازه لما يكون به مجتهداً ، ومما يحتج به على هذا حديث القضاء ثلاثة فإنه لو لم يكن الحق واحداً لم يكن للتقسيم معنى أو مثله قوله ضصض لأمير السرية وإن طلب منك أهل حصن النزول على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا . وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون لحكم الله عز وجل متعدداً بتعداد المجتهدين تابعاً لما يصدر عنهم من الاجتهادات فإن هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل ومع شريعته المطهرة هي أيضاً صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ولا عضدته شبهة تقبلها العقول وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها فإن الصحابة ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يخطئون من خالف في اجتهاد ما هو أنهض مما تمسك به ومن شك في ذلك وأنكره فهو لا يدري بما في بطون الدفاتر الإسلامية بأسرها من التصريح في كثير من المسائل بتخطئه بعضهم لبعض واعتراض بعضهم على بعض ، وأما استدلال من القائلين بهذه المقالة بمثل قصة داود وسليمان فهو عليهم لا لهم فإن الله سبحانه وتعالى صرح في كتابه العزيز بأن الحق هو ما قاله سليمان ولو كان الحق بيد كل واحد منهما لما كان لتخصيص سليمان بذلك معنى ، وأما استدلالهم بمثل قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله فهو خارج عن محل النزاع لأن سبحانه قد صرح في هذه الآية بأن ما وقع منهم من القطع والترك هو بإذنه عز وجل فأفاد ذلك أن حكمه في هذه الحادثة بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وليس النزاع إلا فيما لم يرد النص فيه بخصوصها هو كل واحد من الأمرين وأن حكمه على التخيير بين أمور يختار المكلف ما شاء منها كالواجب المخير أو أن حكمه يجب على الكل حتى يفعله البعض فيسقط على الباقين كفروض الكفايات فتدبر هذا وافهمه حق فهمه ، وأما استدلالهم بتصويب كل طائفة ممن صلى قبل الوصول إلى بني قريظة لمن خشي فوت الوقت وممن ترك الصلاة حتى وصل إلى بني قريظة امتثالاً لقوله ضصض لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فالجواب عنه كالجواب عما قبله على أن ترك التثريب لمن قد عمل باجتهاده لا يدل على أنه قد أصاب الحق بل يدل على أنه قد أجزأه ما عمله باجتهاده وصح صدوره عنه لكونه قد بذل وسعه في تحري الحق وذلك لا يستلزم أن يكون هو الحق الذي طلبه الله من عباده وفرق بين الإصابة والصواب فإن إصابة الحق هو الموافقة بخلاف الصواب فإنه قد يطلق على من أخطأ الحق ولم يصبه من حيث كونه قد فعل ما كلف به واستحق الأجر عليه وإن لم يكن مصيباً للحق وموافقاً له ، وإذا عرفت هذا حق معرفته لم تحتج إلى زيادة عليه وقد حرر الصفي الهندي هذه المسألة وما فيها من المذاهب تحريراً جيداً فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فإما يجده المجتهد أو لا . الثاني على قسمين لأنه إما أن يقصر في طلبه أو لا يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقاً . وإن لم يكن مع العلم ولكن قصر في البحث عنه فكذلك وإن يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي . وإن لم يجده فإن كان التقصير في الطلب فهو مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده فإن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه ومات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعاً وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الآتي فيما لا نص فيه والأولى بأن يكون مخطئاً ، وأما التخيير يقال فيها فإما أن يقال لله فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا بل إجماع وتابع لاجتهاد المجتهدين فهذا الثاني من قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي والغزالي والمعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعه ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة والمشهور عنهما خلافه . فإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به أو لم يوجد ذلك والأول هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن شريح في إحدى الروايتين عنه قال وأمل الثاني فقول الخلص من المصوبة انتهى.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة الثامنة : لا يجوز أن يكون لمجتهد في مسألة قولان متناقضان في وقت واحد بالنسبة إلى شخص واحد
لأن دليلهما أن تعادلا من كل وجه ولم يمكن الجمع ولا الترجيح وجب عليه الوقف وإن أمكن الجمع بينهما وجب عليه المصير إلى الصورة الجامعة بينهما وإن ترجع أحدهما على الآخر تعين عليه الأخذ به وبهذا يعلم امتناع أن يكون له قولان متناقضان في وقت واحد باعتبار شخص واحد . وأما في وقتين فجائز لجواز تغير الاجتهاد الأول وظهور ما هو أولى بأن يأخذ به مما كان قد أخذ به . وأما بالنسبة إلى شخصين فيكون ذلك على اختلاف المذهبين المعروفين عند تعادل الأمارتين ، فمن قال بالتخيير جوز ذلك له ومن قال بالوقف لم يجوز ، فإن كان للمجتهد قولان واقعان في وقتين فالقول الآخر رجوعه عن القول الأول بدلالته على تغير اجتهاد الأول . إذا أفتى المجتهد مرة بما أدى إليه اجتهاده ثم سئل ثانياً عن تلك الحادثة فإما أن يكون ذاكراً لطريق الاجتهاد الأول أو لا يكون ذاكراً جاز له الفتوى به وإن نسيه لزمه أن يستأنف الاجتهاد فإن أداه اجتهاده الى خلاف فتواه في الأول أفتى بما أدى إليه اجتهاده ثانياً وإن أدى إلى موافقة ما قد أفتى به أولاً وإن لم يستأنف الاجتهاد لم يجز له الفتوى . قال الرازي في المحصول ولقائل أن يقول لما كان الغالب على ظنه أن الطريق الذي تمسك به كان طريقاً قوياً حصل له الآن ظن أن ذلك القوى حق جاز له الفتوى به لأن العمل بالظن واجب وأما إذا حكم المجتهد باجتهاده فليس له أن ينقضه إذا تغير اجتهاده وترجع له ما يخالف الاجتهاد الأول لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام الشرعية . وهكذا ليس له أن ينقض باجتهاد ما حكم به حاكم آخر باجتهاده لأنه يؤدي إلى ذلك ويتسلسل وتفوت مصلحة نصب الحكام وهي فصل الخصومات ما لم يكن ما حكم به الحاكم الأول مخالفاً لدليل قطعي فإن كان مخالفاً لدليل القاطع نقضه اتفاقاً ، وإذا حكم المجتهد بما يخالف اجتهاده فحكمه باطل لأنه متعبد بما أدى إليه اجتهاده وليس له أن يقول بما يخالفه ولا يحل له أن يقلد مجتهداً آخر فيما يخالف اجتهاده بل يحرم عليه التقليد مطلقاً إذا كان قد اجتهد في المسألة فأداه اجتهاده إلى حكم ولا خلاف في هذا . وأما أن يجتهد فالحق أنه لا يجوز له تقليد مجتهد آخر مطلقاً . وقيل يجوز له فيما يخصه من الأحكام لا فيما لا يخصه فلا يجوز . وقيل يجوز له تقليد من هو أعلم منه . وقيل يجوز له أن يقلد مجتهداً من مجتهدي الصحابة ولأهل الأصول في هذه المباحث كلام طويل وليست محتاجة إلى التطويل فإن القول فيها لا مستند له إلا محض الرأي.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المسألة التاسعة: في جواز تفويض المجتهد
قال الرازي في المحصول اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي ضصض أو للعالم : أحكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ؟ فقطع بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه وتوقف الشافعي في امتناعه وجوازه وهو المختار انتهى . ولا خلاف في جواز التفويض إلى النبي ضصض أو المجتهد أن يحكم بما رآه بالنظر والاجتهاد وإنما الخلاف في تفويض الحكم بما شاء المفوض وكيف اتفق له . واستدل من قال بالجواز بأنه ليس بممتنع لذاته والأصل عدم امتناعه لغيره وهذا الدليل ساقط جداً وتفويض من كان ذا علم بأن يحكم بما أراد من غير تقييد بالنظر والاجتهاد مع كون الأحكام الشرعية تختلف مسالكها وتتباين طرائقها ولا علم للعبد بما عند الله عز وجل فيها ولا بما هو الحق الذي يرديه من عباده ولا ينبغي لمسلم أن يقول بجوازه ولا يتردد في بطلانه فإن العالم الجامع لعلوم الاجتهاد المتمكن من النظر والاستدلال إذا بحث وفحص وأعطى النظر حقه فليس معه إلا مجرد الطن بأن ذلك الذي رجحه وقاله هو الحق الذي طلبه الله عز وجل فكيف يحل له أن يقول ما أراد ويفعل ما اختار من دون نظر واجتهاد وكيف يجوز مثل ذلك على الله عز وجل مع القطع بأن هذا العالم الذي زعم الزاعم جواز تفويضه مكلف بالشريعة الإسلامية لأنه واحد من أهلها مأخوذ بما أخذوا به مطلوب منه ما طلب منهم فما الذي رفع عنه التكليف الذي كلف به غيره وما الذي كلف به غيره وما الذي أخرجه مما كان فيه من الخطاب مما كلف به وهل هذه المقالة إلا مجرد بحت ومجازفة ظاهرة وكيف يصح أن يقال بتفويض العبد مع جهله بما في أحكام الله من المصالح فإن من كان هذا قد يقع اختياره على ما فيه مصلحة وعلى ما لا مصلحة فيه.. واما الاستدلال بقول سبحانه : كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فهو خارج عن محل النزاع لأن هذا تفويض لنبي من أنبياء الله وهم معصومون من الخطأ وإذا وقع منهم نادراً فلا يقرون عليه وجميع إصدارهم وإيرادهم هو بوحي من الله عز وجل أو باجتهاد يقرره الله عز وجل ويرضاه وهكذا يقال فيما استدلوا به من اجتهادات نبينا ضصض ووقوع الجوابات منه على ما سأله من دون انتظار الوحي وبمثل قوله ضصض لو استقبلت من أمري ما استدبرت وبمثل قوله لما سمع أبيات قتيلة بنت الحرث لو بلغني هذا لمننت عليه أي على أخيها النضر بن الحرث أحد أسرى بدر والقصة والشعر معروفان . وأما اعتذر عن القائل بصحة ذلك بأنه إنما قال بالجواز ولم يقل بالوقوع فليس هذا الاعتذار بشيء فإن تجويز مثل هذا على الله عز وجل مما لا يحل لمسلم أن يقول به وقد عرفت أنه لا خلاف في جواز التفويض إلى الأنبياء وإلى المجتهدين بالنظر فليس محل النزاع إلا التفويض إلى من كان من أهل العلم أن يحكم بما شاء وكيف اتفق وحينئذ يتبين لك أن غالب ما جاء به جهل على جهل وظلمات بعضها فوق بعض.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
الفصل الثاني في التقليد وما يتعلق به من أحكام المفتى والمستفتى وفيه ست مسائل
المسألة الأولى : في حد التقليد والمفتى والمستفتى . أما التقليد فأصله في اللغة مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد جعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق من قلده وفي الاصطلاح هو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقوله رسول الله صضص والعمل بالإجماع ورجوع العامي إلى المفتي ورجوع القاضي إلى شهادة العدول فإنها قد قامت الحجة في ذلك ، أما العلم بقول رسول الله صضص وبالإجماع فقد تقدم الدليل على ذلك في مقصد السنة وفي مقصد الإجماع ، وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل على ذلك في مقصد السنة وفي الإجماع، وأما رجوع القاضي إلى قول الشهود فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة والعمل بها وقد وقع الإجماع على ذلك ، وأما رجوع العامي إلى قول المفتي فللإجماع على ذلك ويخرج عن ذلك قبول رواية الرواة فإنه قد الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضاً ليست قول الراوي بل قول من روى عنه إن كان ممن تقوم به الحجة . وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد من الذي قبله . وقال القفال هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أن قاله . وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور هو قبول القول من غير حجة تظهر على قوله . وقيل هو قبول الغير دون حجة القول . والأولى أن يقال هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة وفوائد هذه القيود معروفة بما تقدم . وأما المفتى فهو المجتهد ، وقد تقدم بينه ومثله قول من قال إن المفتى للفقيه لأن المراد به المجتهد في مصطلح أهل الأصول . والمستفتى من ليس بمجتهد أو من ليس بفقيه وقد عرفت من حد المقلد على جميع الحدود المذكورة أن قبول قول النبي صضص والعمل به ليس من التقليد في شيء لأن قوله صضص وفعله نفس الحجة . قال القاضي حسين في التعليق لا خلاف أن قبول قول غير النبي صضص من الصحابة والتابعين يسمى تقليداً ، وأما قبول قوله صضص فهل يسمى تقليداً ؟ فيه وجهان يبتنيان على الخلاف في حقيقة التقليد ماذا هو ؟ وذكر الشيخ أبو حامد أن الذي نص عليه الشافعي أنه يسمى تقليداً فإنه قال في حق قول الصحابي لما ذهب إلى أنه لا يجب الأخذ به ما نصه وأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله وآله وسلم انتهى. ولا يخفاك أن مراده بالتقليد هاهنا غير ما وقع عليه الاصطلاح ولهذا قال الروياني في البحر أطلق الشافعي على جعل القبول من النبي صضص تقليداً ولم يرد حقيقة التقليد وإنما أراد القبول من غير السؤال عن وجهه وفي وقوع إسم التقليد عليه وجهان . قال والصحيح من المذهب أنه يتناول هذا الاسم . قال الزركشي في البحر وفي هذا إشارة إلى رجوع الخلاف إلى اللفظ وبه صرح إمام الحرمين في التخليص حيث قال وهو اختلاف في عبارة يهون موقعها عند ذوي التحقيق انتهى. وبهذا تعرف أن التقليد بالمعنى المصطلح لا يشمل ذلك وهو المطلوب . قال ابن الدقيق العيد إن الأنبياء لا يجتهدون فقد علمنا أن سبب أقوالهم فلا يكون تقليداً وإن قلنا إنهم يجتهدون فقد علمنا أن السبب أحد الأمرين : إما الوحي أو الاجتهاد ، وعلى كل تقدير فقد علمنا السبب واجتهادهم اجتهاد معلوم العصمة انتهى . وقد نقل القاضي في التقريب الإجماع على أن الآخذ بقول النبي صضص والراجع إليه ليس بمقلد بل هو صائر إلى دليل وعلم يقين انتهى .
المسألة الثانية : اختلفوا في المسائل العقلية وهي المتعلقة بوجود البارئ وصفاته هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فحكى الرازي في المحصول عن كثير من الفقهاء أنه يجوز وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف . قال أبو الحسين بن يقطان لا نعلم خلافاً في امتناع التقليد في التوحيد . وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء . وقال إمام الحرمين في الشامل لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة وقال الإسفرائني لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر . واستدل الجمهور بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله عز وجل وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا الأخذ بقول من يقلده ولا يدري أهو صواب أم خطأ . قال الأستاذ أبو منصور فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل فاختلفوا فيه فقال أكثر الأئمة إنه مؤمن من أهل الشفاعة وإن فسق بترك الاستدلال وبه قال أئمة الحديث ، وقال الأشعري وجمهور المعتزلة لا يكون مؤمناً حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين انتهى . فيالله العجب من هذه المقالة التي تقشعر لها الجلود وترجف عند سماعها الأفئدة فإنها جناية على جمهور هذه الأمة المرحومة وتكليف لهم بما ليس في وسعهم ولا يطيقونه وقد كفى الصحابة الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولا قاربوها الإيمان الجملي ولم يكلفهم رسول الله صضص وهو بين أظهرهم بمعرفة ذلك ولا أخرجهم عن الإيمان بتقصيرهم عن البلوغ إلى العلم بذلك بأدلته وما حكاه الأستاذ أبو منصور عن أئمة الحديث من أنه مؤمن وإن فسق فلا يصح التفسيق عنهم بوجه من الوجوه بل مذهب سابقهم ولاحقهم الاكتفاء بالايمان الجملي وهو الذي كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم بل حرم كثير منهم النظر في ذلك وجعله من الضلالة والجهالة ولم يخف هذا من مذهبهم حتى على أهل الأصول والفقه . قال الأستاذ أبو إسحاق ذهب قوم من كتبة الحديث إلى أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب وإنما الغرض هو قول الله ورسول ويرون الشروع في موجبات العقول كفراً وأن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما هو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه من غير دلالة قاطعة فقد صار مؤمناً وزال عنه كلفة طلب الأدلة ومن أحسن الله إليه وأنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبهة والشكوك فقد أنعم الله عليه بأكمل أنواع النعم وأجلها حين لم يكله إلى النظر والاستدلال لا سيما العوام فإن كثيراً منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن يشاهد ذلك بالأدلة انتهى . ومن أمعن النظر في أحوال العوام وجدها صحيحاً فإن كثيراً منهم نجد الإيمان في صدره كالجبال الرواسي ونجد بعض المتعلقين بعلم الكلام المشتغلين به الخائضين في معقولاته التي يتخبط فيها أهلها لا يزال ينقض إيمانه وتنتقض منه عروة عروة فأن أدركته الألطاف الربانية نجا إلا هلك ولهذا تمنى كثير من الخائضين في هذه العلوم المتبحرين في أنواعها في آخر أمره أن يكون على دين العجائز ولهم في ذلك من الكلمات المنظومة والمنثورة ما لا يخفى على من له إطلاع على أخبار الناس وقد أنكر القشيري والشيخ أبو محمد الجويني وغيرهما من المحققين صحة هذه الرواية المتقدمة عن أبي حسن الأشعري . قال ابن السمعاني إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جداً عن الصواب ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأحكام لم يفهموها وإنما غاية العامي أن يتلقن ما يريد أن يعتقدوه ويلقي به ربه من العلماء يتبعهم في ذلك ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والأدغال ثم يعض عليها بالنواجذ فلا يحول ولا يزول لو قطع إرباً فهنيئاً لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي توغلوها حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ودخلت عليهم الشبهات العظيمة فصاروا متحيرين ولا يوجد فيهم متورع عفيف إلا القليل فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة وأرسلوها في صفات الله بجرأة وعدم مهابة وحرمه . قال ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه من الشبه القوية ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد الخاطر وإنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذي اعتقدوه وساموا به الخلق وزعموا أن من لم يعرف ذلك لم يعرف الله تعالى ثم أداهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع وهذا هو الخطة الشنعاء والداء العضال وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم مدار رحى الإسلام ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة الألف من يقوم بالشرائط التي يعتبرونها إلا العدد الشاذ الشارد النادر ولعله لا يبلغ عدد العشرة انتهى .
المسألة الثالثة : اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية هل يجوز التقليد فيها أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقاً . قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد . قال ونقل عن مالك أنه قال أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه وقال عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط . قال ابن حزم فهاهنا مالك ينهى عن التقليد وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره انتهى . ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد في الرسالة التي سميتها القول المفيد في حكم التقليد فلا نطول المقام بذكر ذلك وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعاً فهو مذهب الجمهور ويؤيد هذا ما سيأتي في المسألة التي بعد هذه في حكاية الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات وكذلك ما سيأتي من أن عمل المجتهد برأيه إنما هو رخصة له عند عدم الدليل ولا يجوز لغيره أن يعمل به بالإجماع فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله فالعجب من كثير من أهل الأصول حيث لم يحكوا هذا القول إلا عن بعض المعتزلة، وقابل مذهب القائلين بعده الجواز بعض الحشوية وقال يجب مطلقاً ويحرم النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على أنفسهم وعلى غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم . والمذهب الثالث : التفصيل وهو أنه يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة ولا يخفاك أنه إنما يعتبر في الخلاف أنه إنما يعتبر خلافه ولا سيما وأئمتهمم الأربعة يمنعونهم من تقليدهم وتقليد غيرهم وقد تعسفوا فحملوا كلام أئمتهم هؤلاء على أنهم أرادوا المجتهدين من الناس لا المقلدين فيالله العجب ، وأعجب من هذا أن بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول نسب هذا القول إلى الأكثرين وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين فإن أراد إجماع خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فتلك دعوى باطلة فإنه لا تقليد فيهم البتة ولا عرفوا التقليد ولا سمعوا به بل كان المقصر منهم يسأل العالم عن المسألة التي تعرض له فيفتيه بالنصوص التي يعرفها من الكتاب والسنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية وقد عرفت في أول هذا الفصل أن التقليد إنما هو العمل بالرأي لا بالرواية وليس المراد بما احتج به الموجبون للتقليد والمجوزون له من قوله سبحانهفاسألوا أهل الذكر إلا السؤال عن حكم الله في المسألة لا عن آراء الرجال هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال كما زعموا وليس الأمر كذلك بل هي واردة في أمر خاص وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالاً كما يفيده أول الآية وآخرها حيث قال وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر . وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم قالوا بالمنع من التقليد ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك وإن أراد إجماع من بعدهم فوجود المنكرين لذلك منذ ذلك الوقت إلى هذه الغاية معلوم بكل من يعرف أقوال أهل العلم وقد عرفت مما نقلناه سابقاً أن المنع قول الجمهور إذ لم يكن إجماعاً وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة فقد عرفت مما قدمنا في مقصد الإجماع أنه لا اعتبار بأقوال المقلدين في شيء فضلاً عن أن ينعقد بهم إجماع . والحاصل أنه لم يأت من جوزه التقليد فضلاً عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابهما قط ولا نؤمر برد شرائع الله سبحانه إلى آراء الرجال بل أمرنا بما قاله سبحانه فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي كتاب الله وسنة رسوله وقد كان صضص يأمر من يرسله من أصحابه بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبسنة رسول الله صضص فإن لم يجد فيما يظهر له من الرأي كما في حديث معاذ ، وأما ما ذكروه من استعباد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغاً للتقليد فليس الأمر كما ذكروه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهو سؤال الجاهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحث واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن لم يسعه ما وسع أهل هذه القرون الثلاثة الذين هم خير قرون هذه الأمة على الإطلاق فلا وسع الله عليه وقد ذم الله تعالى المقلدين في كتابه العزيز في كثير من إنا وجدنا آباءنا على أمة ، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وأمثال هذه الآيات ومن أراد استيفاء هذا البحث على التمام فليرجع إلى الرسالة التي قدمت الإشارة إليها وإلى المؤلف الذي سميته أدب الطلب ومنتهى الأرب وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزني أنه قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد وان قال بغير علم قيل له فلم ارقت الدماء وابحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك بحجة فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عنك فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علماً ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علماً ؟ وقد روى عن رسول الله صضص أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر انتهى . قلت تتميماً لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلى العالم من الصحابة يقال له هذا الصحابي أخذ علمه من أعلم البشر المرسل من الله تعالى إلى عباده المعصوم من الخطأ في أقوال وأفعاله فتقليده أولى من تقليده الصحابي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاد حجة على أحد من الناس . واعلم أنه لا خلاف في أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له يجوز له العمل بها عند فقد الدليل ولا يجوز لغيره العمل بها بحال من الأحوال ولهذا نهى كبار الأئمة عن تقليدهم وتقليد غيرهم وقد عرفت حال المقلد أنه إنما يأخذ بالرأي لا بالرواية ويتمسك بمحض الإجتهاد غير مطالب بحجة فمن قال إن رأى المجتهد يجوز لغيره التمسك به ويسوغ له يعمل به فيما كلفه الله فقد جعل هذا المجتهد صاحب شرع ولم يجعل الله ذلك لأحد من هذه الأمة بعد نبينا صضص ولا يتمكن كامل ولا مقصر أن يحتج على هذا بحجة قط وأما مجرد الدعاوى والمجازفات في شرع الله تعالى فليست بشيء ولو جازت الأمور الشرعية بمجرد الدعاوى لادعى من شاء ما شاء وقال من شاء بما شاء.
المسألة الرابعة : اختلفوا هل يجوز لمن ليس بمجتهد أن يفتي بمذهب إمامه الذي يقلده أو بمذهب إمام آخر فقيل لا يجوز وإليه ذهب جماعة من أهل العلم منهم أبو الحسين البصري والصيرفي وغيرهم قال الصيرفي وموضوع هذا الاسم يعني المفتى لمن قام للناس بأمر دينهم وعلى حمل عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه وكذلك السنن والاستنباط ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها فمن بلغ هذه المرتبة سموه بهذا الاسم ومن استحقه يما استفتى . قال ابن السمعاني المفتى من استكمل فيه ثلاث شرائط الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل قال ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتى . قال الرازي في المحصول اختلفوا في غير المجتهد هل يجوز له يجوز له الفتوى بما يحكيه عن المفتين فنقول لا يخلو إما أن يحكي عن ميت أوحي فإن حكى عن ميت لم يجز له الأخذ بقوله لأنه لا قول للميت لأن الإجماع لا ينعقد على خلافه حياً وينعقد على موته وهذا يدل على أنه لم يبق له قول بعد موته . فإن قلت لم صنفت كتب الفقه مع فناء أربابها ؟ قلت لفائدتين إحداهما : استفادة طرق الاجتهاد من تصرفهم في الحوادث وكيف بني بعضها على بعض . والثانية معرفة المتفق عليه من المختلف فيه فلا يفتى بغير المتفق عليه انتهى . وفي كلامه هذا التصريح بالمنع من تقليد الأموات ، وقد حكى الغزالي في المنخول إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات . قال الروياني في البحر إنه القياس وعللوا ذلك بأن الميت ليس من أهل الاجتهاد كمن تجدد فسقه بعد عدالته فإنه لا يبقى حكم عدالته وإما لأن قوله وصف له وبقاء الوصف بعد زوال الأصل محال وأما لأنه لو كان حياً لوجب عليه تجديد الاجتهاد وعلى تقدير تجديده لا يتحقق بقاؤه على القول الأول فتقليده بناء على وهم أو تردد والقول بذلك غير جائز ، وبهذا تعرف أن قول من قال بجوار فتوى المقلد حكاية عن مجتهد ليس على إطلاقه وذهب جماعة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتى بمذهب مجتهد من المجتهدين بشرط أن يكون ذلك المفتى أهلاً للنظر مطلعاً على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به فلا يجوز وحكاه القاضي عن القفال ونسبه بعض المتأخرين إلى الأكثرين وليس كذلك ولعله يعني الأكثرين من المقلدين وبعضهم نسبه إلى الرازي وهو غلط عليه فإن اختياره المنع ، واحتج بعض أهل هذا القول بانعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى . قال الهندي وهذا القول بانعقاد الإجماع إنما يعتبر من أهل الحل والعقد وهم المجتهدون والمجمعون ليسوا بمجتهدين فلا يعتبر إجماعهم بحال قال ابن دقيق العيد توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكناً من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صضص وكذلك فعل علي رضى الله عنه حين أرسل المقداد بن الأسود في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعه النبي صضص إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع شرائط الاجتهاد اليوم انتهى . قلت وفي كلام هذا المحقق ما لا يخفى على الفطن أما قوله يفضي إلى حرج عظيم الخ فغير مسلم فإن من حدثت له الحادثة لا يتعذر عليه أن يستفتي من يعرف ما شرعه الله في المسألة في كتابه أو على لسان رسوله كما يمكنه أن يسأل من يعرف مذهب مجتهد من الأموات عن رأي ذلك المجتهد في حادثته . وأما استدلاله على الجواز بقوله لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي الخ فمن أغرب ما يسمعه السامع لا سيما عن مثل هذا الإمام وأي ظن لهذا العامي بالنسبة إلى الأحكام الشرعية وأي تأثير لظنون العامة الذين لا يعرفون الشريعة ومعلوم أن ظن غالبهم لا يكون إلا فيما يوافق هواه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض وأما قوله مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة الخ فنقول نعم ذلك أمر ضروري فكان ماذا فإن ذلك ليس باستفتاء عن رأي من ليس بحجة بل استفتاء عن الشرع في ذلك الحكم فإن كان المسؤول يعلمه رواه للسائل وإن لم يعلمه أحال السؤال على رسول الله صضص على من يعلمه من أصحابه وكذا فيمن بعدهم ونحن لا نطلب من العامي والمقصر إذا نابته نائبة وحدثت له حادثة إلا أن يفعل هكذا فيسأل علماء عصره كما كان الصحابة والتابعون فتابعوهم يسألون أهل العلم فيهم وما كانوا يسألونهم عن مذاهبهم ولا عما يقولون بمحض الرأي فإن قلت مراد هذا المحقق إلا أنهم يستفتون المقلد عما صح لذلك المجتهد بالدليل . قلت إذا كان مراده هذا فأي فائدة لإدخال المجتهد في البين وما ثمرة ذلك فينبغي له أن يسأل عن الثابت في الشريعة و يكون المسؤول فيمن لا يجهله فيفتيه حينئذ بفتوى قرآنية أو نبوية و يدع السؤال عن مذاهب الناس ويستغني بمذهب إمامهم الأول وهو رسول الله صضص . وأما إرسال علي للمقداد فهو إنما أرسله ليروى له ما يقوله الصادق المصدوق المعصوم عن الخطأ وأين هذا مما نحن بصدده . وأما قوله و قد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا الإطباق إن كان من المجتهدين فممنوع وإن كان من العامة المقلدين فلا اعتبار به وعلى كل حال فغير المجتهد لا يدري بحكم الله في تلك الحادثة وإذا لم يدره فهو حاكم بالجهل ليس بحجة على أحد ، وذهب طائفة إلى أنه يجوز للمقلد أن يفتي إذا عدم المجتهد وإلا فلا وقال آخرون إنه يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوباً في كتاب معتمد عليه ولا يجوز له تقليد الميت . قال الروياني و الماوردي إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يفتي فيه أوجه . ثالثها إن كان الدليل نصاً من كتاب أو سنة جاز وإن كان نظراً واستنباطاً لم يجز قال الروياني و الماوردي والأصح أنه لا يجوز مطلقاً لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها . وقال الجويني في شرح الرسالة من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى و لو أفتى فإنه لا يجوز .
المسألة الخامسة : إذا تقرر لك أن العامي يسأل العالم والمقصر يسأل الكامل فعليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالدين وكمال الورع عن العالم بالكتاب والسنة العارف بما فيهما المطلع على ما يحتاج إليه في فهمها من العلوم الآلية حتى يدلوه عليه ويرشدوه إليه فيسأله عن حادثته طلباً منه أن يذكر له فيها ما في كتاب الله سبحان أوما في سنة رسول الله صضص فحينئذ يأخذ الحق من معدنه ويستفيد الحكم من موضعه ويستريح من الرأي الذي لا يأمن المتمسك به أن يقع في الخطأ المخالف للشرع المباين للحق ومن سلك هذا المنهج ومشى في هذا المنهج ومشى في هذا الطريق لا يعدم مطلبه ولا يفقد من يرشده إلى الحق فإن الله سبحانه وتعالى قد أوجد لهذا الشأن من يقوم به ويعرفه حق معرفته وما من مدينة من المدائن إلا وفيها جماعة من علماء الكتاب والسنة وعند ذلك يكون حكم هذا المقصر حكم المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم فإنهم كانوا يستروون النصوص من العلماء ويعملون على ما يرشدونهم إليه ويدلوهم عليه وقد ذكر أهل الأصول انه يكفي العامي في الاستدلال على من له أهلية الفتوى بأن يرى الناس متفقين على سؤاله مجتمعين على الرجوع إليه ولا يستفتي من هو مجهول الحال كما صرح به الغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكى في المحصول الاتفاق على المنع وشرط القاضي أخبار من يوجب خبره العلم بكونه عالماً في الجملة ولا يكفي خبر الواحد والاثنين وخالفه غيره في ذلك فاكتفوا بخبر عدلين وممن صرح بذلك صاحب فقال واشتراط تواتر الخبر بكونه مجتهداً كما قاله الأستاذ غير سديد واشترط القاضي وجماعة من المحققين امتحانه بالمسائل المفترقة ومراجعته فيها فإن أصاب في الجواب غلب على ظنه كونه مجتهداً وذهب الوجيز قيل يقول له أمجتهد أنت وأقلدك؟ فإن أجابه قلده قال وهذا أصح المذاهب وجزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بأنه يكفيه خبر العدل الواحد عن فقهه وأمانته لأن طريقه طريق الأخبار انتهى . وإذا كان في البلد جماعة متصفون بهذه الصفة المسوغة للأخذ عنهم فالله فالمستفتى مخير بينهم كما صرح به عامة أصحاب الشافعي . قال الرافعي وهو الأصح ، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني والكيا إنه يبحث عن الأعلم منهم فيسأله وقد سبقه إلى القول بذلك ابن شريح والقفال قالوا لأن الأعلم أهدى إلى أسرار الشرع ، وإذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فقيل هو مخير يأخذ بما شاء منها وبه قال أكثر أصحاب الشافعي وصححه الشافعي وصححه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والخطيب البغدادي وابن الصباغ والقاضي والآمدي ، واستدلوا بإجماع الصحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل ، وقيل يأخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر ، وقيل يأخذ بالأخف ، وقيل يبحث عن الأعلم منهم فيأخذ بقوله وهو قول من قال إنه يبحث عن الأعلم كما تقدم ، وقيل يأخذ بقول الأول حكاه الروياني ، وقيل يأخذ بقول من يعمل على الرواية دون الرأي حكاه الرافعي ، وقيل يجب عليه أن يجتهد فيما يأخذ مما اختلفوا فيه حكاه ابن السمعاني ، وقيل إن كان في حق الله أخذ بالأخف وإن كان في حق العباد أخذ بالأغلظ حكاه الأستاذ أبو منصور ، وقيل إنه يسأل المختلفين عن حجتهما إن اتسع عقله لفهم ذلك فيأخذ بأرجح الحجتين عنده وإن لم يتسع عقله لذلك أخذ بقول المعتبر . قاله الكعبي .
المسألة السادسة : اختلف المجوزون للتقليد هل يجب على العامي التزام مذهب معين في كل واقعة فقال جماعة منهم يلزمه ورجحه الكيا ، وقال آخرون لا يلزمه ورجحه ابن برهان والنووي ، واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم في بعض المسائل وبعضهم في البعض الآخر وذكر بعض الحنبالة أن هذا مذهب أحمد بن حنبل فإنه قال لبعض أصحابه لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا دعهم يترخصوا بمذاهب الناس وسئل عن مسألة من الطلاق فقال يقع يقع فقال له السائل فإن أفتاني أحد أنه لا يقع يجوز ؟ قال نعم . وقد كان السلف يقلدون من شاءوا قبل ظهور المذاهب ، وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة من شاؤوا قبل ظهور المذاهب ، وقال ابن المنير الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم انتهى . وهذا التفصيل مع زعم قائله أنه اقتضاه الدليل من أعجب ما يسمعه السامعون وأغرب ما يعتبر به المنصفون . أما إذا التزم العامي مذهباً معيناً فلهم في ذلك خلاف آخر وهو أنه هل يجوز أن يخالف إمامه في بعض المسائل ويأخذ بقول غيره فقيل لا يجوز ، وقيل يجوز ، وقيل إن يخالف قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز ، وقيل إن كان بعد حدوث الحادثة التي قلد فيها لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين ، وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي ، وقيل إن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام ، وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وأن لا يكون قاصداً للتلاعب وأن لا يكون ناقضاً لما قد حكم عليه به واختاره ابن دقيق العيد وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق واعترض عليهما بأن الخلاف جاز فيما ادعيا الاتفاق عليه . أما لو اختار المقلد من كل مذهب ما هو الأهون عليه والأخف له فقال أبو إسحاق المروزي يفسق ، وقال ابن أبي هريرة لا يفسق. قال الإمام أحمد بن حنبل لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها العامي العامل بها من غير تقليد لإخاله بفرضه وهو التقليد فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق لأنه قلد من سوغ اجتهاده ، وقال ابن عبد السلام ينظر إلى الفعل الذي فعله فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم وإلا لم يأثم ، وفي السنن للبيهقي عن الأوزاعي من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام وروى عنه أنه قال يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ومن قول أهل الكوفة النبيذ وحكى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال دخلت على المعتضد فرفع إلى كتاباً لطرق فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم . فقلت مصنف هذا زنديق فقال لم تصح هذه الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر وما من عالم إلا وله زلة ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المقصد السابع من مقاصد هذا الكتاب في التعادل والترجيح
المبحث الأول: في معناهما وفي العمل بالترجيح وفي شروطه
أما التعادل فهو التساوي وفي الشرع استواء الأمارتين . وأما الترجيح فهو إثبات الفضل في أحد جانبي المتقابلين أو جعل الشيء راجحاً ويقال مجازاً لاعتقاد الرجحان ، وفي الاصطلاح اقتران الأمارة بما تقوى بها على معارضتها قال في المحصول الترجيح تقوية أحد الطرفين على الآخر فيعلم الأقوى فيعمل به ويطرح الآخر وإنما قلنا طرفين لأنه لا يصح الترجيح بين الأمرين إلا بعد تكامل كونهما طرفين أو انفراد كل واحد منهما فإنه لا يصح ترجيح الطرف على ما ليس بطرف انتهى . والقصد منه تصحيح الصحيح وإبطال الباطل . قال الزركشي في البحر : اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة بل جعلها ظنية قصداً للتوسع على المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع عليه وإذا ثبت أن المعتبر في الأحكام الشرعية الأدلة الظنية فقد تتعارض في الظاهر بحسب جلائها وخفائها فوجب الترجيح بينهما والعمل بالأقوى والدليل على تعيين الأقوى أنه تعارض دليلان أو أمارتان فإما أن يعملا جميعاً أو يعمل بالمرجوح أو الراجح وهذا متعين . قال أما حقيقته يعني التعارض فهو تفاعل من العرض بضم العين وهو الناحية والجهة كأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض أي ناحيته وجهته فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجه ، وفي الاصطلاح تقابل الدليلين على سبيل الممانعة ، وللترجيح شروط : الأول التساوي في الثبوت فلا تعارض بين الكتاب وخبر الواحد إلا من حيث الدلالة . الثاني التساوي في القوة فلا تعارض بين المتواتر والآحاد بل يقدم المتواتر بالاتفاق كما نقله إمام الحرمين . الثالث اتفاقهما في الحكم مع اتحاد الوقت والمحل والجهة فلا تعارض بين النهي عن البيع مثلاً في وقت النداء مع الإذن به في غيره . وحكى إمام الحرمين في تعارض الظاهرين في الكتاب والسنة مذاهب : أحدهما يقدم الكتاب لخبر معاذ . وثانيهما تقدم السنة لأنها المفسرة للكتاب والمبينة له . وثالثها التعارض وصححه واحتج عليه بالاتفاق وزيف الثاني بأنه ليس الخلاف في السنة المفسرة للكتاب بل المعارضة له . وأقسام التعادل والترجيح بحسب القسمة العقلية عشرة لأن الأدلة أربعة الكتاب والسنة والإجماع فيقع التعارض بين الكتاب والكتاب وبين الكتاب والسنة وبين الكتاب والإجماع وبين الكتاب والقياس فهذه أربعة ، ويقع بين السنة والسنة وبين السنة والإجماع وبين السنة والقياس فهذه ثلاثة ويقع بين الإجماع والإجماع والقياس وبين القياسين فهذه ثلاثة الجميع عشرة . قال الرازي في المحصول الأكثرون اتفقوا على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير والتوقف . لنا وجوه : الأول إجماع الصحابة على العمل بالترجيح فإنهم قدموا خبر عائشة بوجوب الغسل عند التقاء الختانين على خبر الماء من الماء وقدموا خبر من روى من أزواجه أنه كان صضص يصبح جنباً على ما روى أبو هريرة أنه من يصبح جنباً فلا صوم له وقبل علي خبر أبي بكر ولم يحلفه وكان يقبل من غيره إلا بعد تحليفه وقبل أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لموافقة محمد بن مسلمة له وقبل عمر خبر أبي موسى في الاستئذان لموافقة أبي سعيد الخدري له . الثاني أن الظنين إذا تعارضا ثم ترجح أحدهما على الآخر كان العمل بالراجح متعيناً عرفاً فيجب شرعاً لقوله صضص ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن . الثالث أنه لو لم يعمل بالراجح لزم العمل بالمرجوح على الراجح وترجيح المرجوح على الراجح ممتنع في بداهة العقل ، واحتج المنكر بأمرين : أحدهما أن الترجيح لو اعتبر في الأمارات لاعتبر في البينات والحكومات لأنه لو اعتبر لكانت العلة في اعتباره ترجح الأظهر على الظاهر وهذا المعنى قائم هنا . الثاني أن قوله تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله صضص نحن نحكم بالظاهرة . يقتضي إلغاء زيادة الظن والجواب عن الأول والثاني أن ما ذكرتموه دليل ظني وما ذكرناه قطعي والظني لا يعارض القطعي انتهى . وما ذكره من الأحاديث هاهنا صحيح إلا حديث ما رآه المسلمون حسناً وحيث نحن نحكم بالظاهر فلا أصل لهما لكن هما صحيح وقد ورد في أحاديث أخر ما يفيد ذلك كما في قوله صضص للعباس لما قال له إنه خرج يوم بدر مكرها فقال كان ظاهرك علينا وكما في قوله صضص إنما أقضى بما أسمع وكما في أمره صضص بلزوم الجماعة وذم من خرج عنها وأمره بلزوم السواد الأعظم ، ويجاب عما ذكره المنكرون بجواب أحسن مما ذكره أما عن الأول فيقال نحن نقول بموجب ما ذكرتم فإذا ظهر الترجيح لإحدى البينتين على الآخرى أولاً حد الحكمين على الآخر كان العمل على الراجح ، وأما عن الثاني فيقال لا دلالة على محل النزاع في الآية بوجه من الوجوه وأما قوله نحن نحكم بالظاهر فلا يبقى الظاهر ظاهراً بعد وجود ما هو أرجح منه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المبحث الثاني : أنه لا يمكن التعارض بين دليلين قطعيين اتفاقاً سواء كانا عقليين أو نقليين هكذا حكى الاتفاق الزركشي في البحر . قال الرازي في المحصول الترجيح لا يجوز في الأدلة اليقينية لوجهين : الأول أن شرط اليقيني أن يكون مركبا من مقدمات ضرورية أو لازمة عنها لزوماً ضرورياً إما بواسطة واحدة أو وسائط شأن كل واحدة منها ذلك وهذا لا يتأتى إلا عند اجتماع علوم أربعة : الأول العلم الضروري بحقية المقدمات إما ابتداء أو انتهاء ، والثاني العلم الضروري بأن ما يلزم عن الضروري لزوماً ضرورياً فهو ضروري فهذه العلوم الأربعة يستحيل حصولها في النقيضين معاً وإلا لزم القدح في الضروريات وهو سفسطة و إذا علم ثبوتها امتنع التعارض . الثاني الترجيح عبارة عن التقوية والعلم اليقيني لا يقبل التقوية لأنه أن قارنة الاحتمال النقيض ولو على أبعد الوجوه كان ظناً لا علماً وإن لم يقارنه ذلك لم يقبل التقوية انتهى . وقد جعل أهل المنطق شروط التناقض في القضايا الشخصية ثمانية اتحاد الموضوع والمحمول والإضافة والكل والجزء في القوة والفعل وفي الزمان والمكان وزاد بعض المتأخرين وهو اتحادهما في الحقيقة والمجاز نحو قوله تعالى :و ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ورد هذا بعضهم بأنه راجع إلى وحدة الإضافة أي تراهم بالإضافة إلى أهوال يوم القيامة سكارى مجازاً وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر ، ومنهم من رد الثمانية إلى ثلاثة الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان ، ومنهم من ردها إلى إثنين الاتحاد في الموضوع والمحمول والاندراج وحدة الزمان تحت وحدة المحمول ، ومنهم من ردها إلى أمر واحد وهو الاتحاد في النسبة وهذه الشروط على هذا الاختلاف فيها لا يخص الضروريات وإنما ذكرناها هاهنا لمزيد الفائدة بها ، ومما لا يصح التعارض فيه إذا كان أحد المتناقضين قطعياً والآخر ظنياً لأن الظن ينتفي بالقطع بالنقيض وإنما يتعارض الظنيان سواء كان المتعارضان نقليين أو عقليين أو كان أحدهما نقلياً والآخر عقلياً ويكون الترجيح بينهما بما سيأتي وقد منع جماعة وجود دليلين ينصبهما الله تعالى في مسألة متكافئين في نفس الأمر بحيث لا يكون لأحدهما مرجح وقالوا لا بد أن يكون أحدهما أرجح من الآخر في نفس الأمر وإن جاز خفاؤه على بعض المجتهدين ولا يجوز تعارضهما في نفس الأمر من كل وجه . قال الكيا وهو الظاهر من مذهب عامة الفقهاء وبه قال العنبري . وقال ابن السمعاني وهو مذهب الفقهاء ونصره وحكاه الآمدي عن أحمد بن حنبل عن أحمد القاضي وأبو الخطاب من أصحابه وإليه ذهب أبو علي وأبو هاشم عن القاضي أبي بكر الباقلاني . قال الكيا وهو المنقول عن الشافعي وقرره الصيرفي في شرح الرسالة فقال قد صرح الشافعي بأنه لا يصح عن النبي صضص أبداً حديثات صحيحان متضادان ينفي أحدهما ما يثبته الآخر من غير جهة الخصوص والعموم والإجمال والتفسير إلا على وجه النسخ وإن لم يجده انتهى . وفصل القاضي من الحنابلة بين مسائل الأصول فيمتنع وبين مسائل الفروع فيجوز ، وحكى الماوردي والرياني عن الأكثرين أن التعارض على جهة التكافؤ في نفس الأمر بحيث لا يكون أحدهما أرجح من الآخر جائز وواقع . وقال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو منصور والغزالي وابن الصباغ الترجيح بين الظواهر المتعارضة إنما يصح على قول من قال إن المصيب في الفروع واحد ، وأما القائلون بأن كل مجتهد مصيب فلا معنى لترجيح ظاهر على ظاهر لأن الكل صواب عنده . واختاره الفخر الرازي وأتباعه أن تعادل الأمارتين على حكم في فعلين متابيين جائز واقع وأما تعارضهما متباينين في فعل واحد كالإباحة والتحريم فإنه جائز عقلاً ممتنع شرعاً . واختلفوا على فرض وقوع التعادل في نفس الأمر مع عجز المجتهد عن الترجيح بينهما وعدم وجود دليل آخر فقيل أنه مخير وبه قال أبو علي وأبو هاشم ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي أبي بكر الباقلاني ، وقيل إنهما يتساقطان ويطلب الحكم من موضع آخر أو يرجع المجتهد إلى عموم أو إلى البراءة الأصلية ونقله الكيا عن القاضي ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وبه قطع ابن كج وأنكر ابن حزم نسبته إلى الظاهرية وقال إنما هو قول بعض شيوخنا وهو خطأ بل الواجب الأخذ بالزائد إذ لم يقدر على استعمالها جميعاً ، وقيل إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما وإن كان بين قياسين فيخير . حكاه ابن برهان في الوجيز عن القاضي ونصره . وقيل بالوقف حكاه الغزالي وجزم به سليم الرازي في التقريب واستبعده الهندي إذ الوقف فيه لا إلى غاية وأمد إذ لا يرجى فيه ظهور الريب إن وإلا لم يكن من مسألتنا بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف إلى أن يظهر المرجح وقيل يأخذه بالأغلظ حكاه الماوردي والرياني وقيل يصير إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كل إمارة على أمر حكاه الزركشي في البحر وقيل إن كان بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير وإن كان في الإباحة كالتحريم فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية ذكره في المستصفى وقيل يقلد عالماً أكبر منه ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد وحكاه إمام الحرمين وقيل أنه كالحكم قبل ورود الشرع فتجيء فيه الأقوال المشهورة حكاه الكيا الطبري فهذه تسعة مذاهب فيما كان متعارضاً في نفس الأمر مع عدم إمكان الترجيح.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
المبحث الثالث : في وجوه الترجيح بين المعارضين لا في نفس الأمر بل في الظاهر وقد قدمنا في المبحث الأول أنه متفق عليه ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد به ومن نظر في أحوال الصحابة والتابعين وتابعهم ومن بعدهم وجدهم متفقين على العمل بالراجح وترك المرجوح وقد سمي بعضهم هذا المخالف في العمل بالترجيح فقال هو البصري الملقب سحعل كما حكاه القاضي واستبعد الأنباري وقوع ذلك من مثله وعلى كل حال فهو مسبوق بالإجماع على استعمال الترجيح في كل طبقة من طبقات الإسلام وشرط القاضي في الترجيح شرط غير ما قد ذكرناه . في المبحث الأول فقال لا يجوز العمل بالترجيح المظنون لأن الأصل امتناع العمل بشيء من الظنون وخرج من ذلك الظنون المستقلة بأنفسها لانعقاد إجماع الصحابة عليها وما وراء ذلك يبقى على الأصل والترجيح عمل بظن لا يستقل بنفسه . وأجيب عنه بأن الإجماع انعقد على وجوب العمل بالظن الذي لا يستقل كما انعقد على المستقل ، ومن شروط الترجيح التي لا بد من اعتبارها أن لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه مقبول فإن أمكن ذلك تعين المصير إليه ولم يجز المصير إلى الترجيح . قال في المحصول العمل بكل منهما من وجه أولى من العمل بالراجح من كل وجه وترك الآخر انتهى . وبه قال الفقهاء جميعاً . واعلم أن الترجيح قد يكون باعتبار الاسناد وقد يكون باعتبار المتن وقد يكون باعتبار المدلول وقد يكون باعتبار أمر خارج فهذه أربعة أنواع . والنوع الخامس الترجيح بين الأقيسة . والنوع السادس الترجيح بين الحدود السمعية . النوع الأول : الترجيح باعتبار الاسناد وله صور ، الصورة الأولى : الترجيح بكثرة الرواة فيرجع ما رواته أكثر على رواته أقل لقوة الظن به وإليه ذهب الجمهور وذهب الشافعي في القديم إلى أنهما سواء وشبهه بالشهادات وبه قال الكرخي . قال إمام الحرمين إن لم يمكن الرجوع إلى دليل آخر قطع باتباع الأكثر فإنه أولى من الإلغاء لأنا نعلم أن الصحابة لو تعارض لهم خبران هذه صفتهما لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذا قال وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما فالمسألة ظنية والاعتماد على ما يؤدي إليه اجتهاد الناظر وفي المسألة قول رابع صار فيه القاضي والغزالي وهو أن الاعتماد على ما غلب ظن المجتهد قرب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة يقظته وضبطه انتهى . وهذا صحيح لكن المفروض في الترجيح بالكثرة هو كون الأكثر من الرواة مثل الأقل في وصف العدالة ونحوها . قال ابن الدقيق العيد وهو المرجح من أقوى المرجحات فإن الظن يتأكد عند ترادف الروايات ولهذا يقوى الظن إلى أن يصير العلم به متواتراً انتهى . أما لو تعارضت الكثرة من جانب والعدالة من الجانب الآخر ففيه قولان : أحدهما ترجيح الكثرة وثانيهما ترجيح العدالة . فإنه رب عدل يعدل ألف رجل في الثقة كما قيل إن شعبة بن الحجاج كان يعدل مائةوقد كان الصحابة يقدمون رواية الصديق على رواية غيره . النوع الثاني : أنه يرجع ما كانت الوسائط فيه قليلة وذلك بأن يكون إسناداً عالياً لأن الخطأ والغلط فيما كانت وسائطه أقل دون ما كانت وسائطه أكثر . النوع الثالث : أنها ترجح رواية الكبير على رواية الصغير لأنه أقرب إلى الضبط إلا أن يعلم أن الصغير مثله في الضبط أو أكثر ضبطاً منه . النوع الرابع : ترجح رواية من كان فقيهاً على من لم يكن كذلك لأنه أعرف بمدلولات الألفاظ . النوع الخامس : أنه ترجح رواية من كان عالماً باللغة العربية لأنه أعرف بالمعنى ممن لم يكن كذلك . النوع السادس : أن يكون أحدهما أوثق من الآخر. النوع السابع : أن يكون أحدهما أحفظ من الآخر . النوع الثامن : أن يكون أحدهما من الخلفاء الأربعة دون الآخر . النوع التاسع : أن يكون أحدهما متبعاً والآخر مبتدعاً . النوع العاشر : أن يكون أحدهما صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة . النوع الحادي عشر : أن يكون أحدهما مباشراً لما رواه دون الآخر . النوع الثاني عشر : أن يكون أحدهما كثير المخالطة للنبي صضص دون الآخر لأن المخالطة تقتضي زيادة في الاطلاع . النوع الثالث عشر : أن يكون أحدهما أكثر ملازمة للمتحدثين من الآخر . النوع الرابع عشر : أن يكون أحدهما قد طالت صحبته للنبي صضص دون الآخر . النوع الخامس عشر : أن يكون أحدهما قد ثبتت عدالته بالتزكية والآخر بمجرد التزكية فإنه ليس الخبر كالمعاينة . النوع السابع عشر : أن يكون أحدهما قد وقع الحكم بعدالته دون الآخر. النوع الثامن عشر: أن يكون أحدهما قد عدل مع ذكر أسباب التعديل والآخر عدل بدونها . النوع التاسع عشر: أن يكون المزكون لأحدهما أكثر من المزكين للآخر. النوع العشرون: أن يكون المزكون لأحدهما أكثر بحثاً عن أحوال الناس من المزكين للآخر. النوع الحادي والعشرون: أن يكون المزكون لأحدهما أعلم من المزكين للآخر لأن مزيد العلم له مدخل في الإصابة. النوع الثاني والعشرون: أن يكون أحدهما قد حفظ اللفظ فهو أرجح ممن روى بالمعنى أو اعتمد على الكتابة وقيل إن رواية من اعتمد على الكتابة أرجح من رواية من اعتمد على الحفظ . النوع الثالث والعشرون: أن يكون أحدهما أسرع حفظاً من الآخر وأبطأ نسياناً منه فإنه أرجح إما لو كان أحدهما أسرع حفظاً وأسرع نسياناً والآخر أبطأ حفظاً وأبطأ نسياناً فالظاهر أن الآخر أرجح من الأول لأنه يوثق بما حفظه ورواه وثوقاً زائداً على ما رواه الأول . النوع الرابع والعشرون : أنها ترجح رواية من يوافق الحفاظ على رواية من يتفرد عنهم في كثير من رواياته . النوع الخامس والعشرون : أنها ترجح رواية من دام حفظه وعقله ولم يختلط على من اختلط في آخر عمره ولم يعرف هل روى الخبر حال سلامته أو حال اختلاطه . النوع السادس والعشرون: أنها تقدم رواية من كان أشهر بالعدالة الثالثة من الآخر لأن ذلك يمنع من الكذب . النوع السابع والعشرون : أنها ترجح رواية من كان مشهور النسب على من لم يكن مشهوراً لأن احتراز المشهور عن الكذب أكثر . النوع الثامن والعشرون : أن يكون أحدهما معروف الإسم ولم يلتبس إسمه بإسم أحد من الضعفاء على من يلتبس إسمه بإسم ضعيف . النوع التاسع والعشرون : أنها تقدم رواية من تأخر إسلامه على من تقدم إسلامه لاحتمال أن يكون ما رواه من تقدم إسلامه منسوخاً هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن برهان والبيضاوي وقال الآمدي بعكس ذلك . النوع الحادي والثلاثون : أنها تقدم رواية الذكر على الأنثى لأن الذكور أقوى فهما وأثبت حفظاً وقيل لا تقدم . النوع الثاني والثلاثون أنها تقدم رواية الحر على العبد لأن تحرزه عن الكذب أكثر وقيل لا تقدم . النوع الثالث والثلاثون : أنها تقدم رواية من ذكر سبب الحديث على من لم يذكر سببه . النوع الرابع والثلاثون : أنها تقدم رواية من لم يختلف الرواة عليه على من اختلفوا عليه . النوع الخامس والثلاثون : أن يكون أحدهما أحسن استيفاء للحديث من الآخر فإنها ترجح روايته . النوع السادس والثلاثون : أنها تقدم رواية من سمع شفاها على من سمع من وراء حجاب . النوع السابع والثلاثون : أن يكون أحد الخبرين بلفظ حدثنا أو أخبرنا فإنه أرجح من لفظ أنبأنا ونحوه قيل ويرجح لفظ حدثنا على لفظ أخبرنا . النوع الثامن والثلاثون : أنها تقدم رواية من سمع من لفظ الشيخ على رواية من سمع بالقراءة عليه . النوع التاسع والثلاثون : أنها تقدم رواية من روى بالسماع على رواية من روى بالإجازة . النوع الأربعون : أنها تقدم رواية من روى المسند على رواية من روى المرسل . النوع الحادي والأربعون : أنها تقدم الأحاديث التي في الصحيحين على الأحاديث الخارجة عنهما . النوع الثاني والأربعون : أنها تقدم رواية من لم ينكر عليه على رواية من أنكر عليه . واعلم أن وجوه الترجيح كثيرة وحاصلها أن ما كان أكثر إفادة للظن فهو راجح فإن وقع التعارض في بعض هذه المرجحات فعلى المجتهد أن يرجح بين ما تعارض منها . وأما المرجحات باعتبار المتن فهي أنواع . النوع الأول : أن يقدم الخاص على العام كذا قيل ولا يخفاك أن تقديم الخاص على العام بمعنى العمل به فيما تناوله والعمل بالعام فيما بقي ليس من باب الترجيح بل من باب الجمع وهو مقدم على الترجيح . النوع الثاني : أنه يقدم الأفصح على الفصيح لأن الظن بأنه لفظ النبي صضص أقوى ، وقيل لا يرجح بهذا لأن البليغ يتكلم بالأفصح والفصيح . النوع الثالث : أنه يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي قد خصص كذا نقله إمام الحرمين عن المحققين وجزم به سليم الرازي وعللوا ذلك بأن دخول التخصيص يضعف اللفظ ويصبر به مجازاً قال الفخر الرازي لأن الذي قد خصص قد أزيل عن تمام مسماه واعترض على ذلك الصفي الهندي بأن المخصص راجح من حيث كونه خاصاً بالنسبة إلى العام الذي لم يخصص لأن المخصوص قد قلت أفراده حتى قارب النص إذ كل عام لا بد أن يكون نصاً في أقل متناولاته . النوع الرابع : أنه يقدم العام الذي لم يرد على سبب على العام الوارد على سبب كذا . قال إمام الحرمين في البرهان و الكيا والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع و سليم الرازي في التقريب و الرازي في المحصول قالوا لأن الوارد على غير سبب متفق على عمومه والوارد على سبب مختلف في عمومه قال الصفي الهندي ومن المعلوم أن هذا الترجيح إنما يتأتى بالنسبة إلى ذلك السبب وأما بالنسبة إلى سائر الأفراد المندرجة تحت العامين فلا انتهى . وفيه نظر لأن الخلاف في عموم الوارد على سبب هو كائن في سائر الأفراد . النوع الخامس : أنها تقدم الحقيقة على المجاز لتبادرها إلى الذهن هذا إذا لم يغلب المجاز . النوع السادس : أنه يقدم المجاز الذي هو أشبه بالحقيقة على المجاز الذي لم يكن كذلك ، النوع السابع : أنه يقدم ما كان حقيقة شرعية أو عرفية على ما كان حقيقة لغوية قال في المحصول وهذا ظاهر في اللفظ الذي قد صار شرعياً لا فيما لم يكن كذلك كذا قال ، ولا يخفى أن الكلام فيما صار شرعياً لا فيما لا يثبت كونه شرعياً فإنه خارج عن هذا . النوع الثامن : أن يقدم ما كان مستغنياً عن الاضمار في دلالته على ما هو مفتقر إليه . النوع التاسع : أنه يقدم الدال على المراد من وجهين على ما كان دالاً على المراد من وجه واحد . النوع العاشر : أنه يقدم ما دل على المراد بغير واسطة على ما دل عليه بواسطة . النوع الحادي عشر : إنه يقدم ما كان فيه الإيماء إلى علة الحكم على ما لم يكن كذلك لأن دلالة المعلل أوضح من دلالة ما لم يكن معللاً . النوع الثاني عشر : أنه يقدم ما ذكرت فيه العلة متقدمة على ما ذكرت فيه العلة متأخرة وقيل العكس . النوع الثالث عشر : أنه يقدم ما ذكر فيه معارضة على ما لم يذكر كقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها على الدال على تحريم الزيارة مطلقاً . النوع الرابع عشر: أنه يقدم المقرون بالتهديد على ما لم يقرن به . النوع الخامس عشر : أن يقدم المقرون بالتأكيد على ما لم يقرن به . النوع السادس عشر : أنه يقدم ما كان مقصوداً به البيان على ما لم يقصد به . النوع السابع عشر : أن يقدم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة وقيل بالعكس ولا يرجح أحدهما على الآخر والأول أولى . النوع الثامن عشر : أنه يقدم النهي على الأمر. النوع التاسع عشر : أنه يقدم النهي على الإباحة . النوع العشرون : أنه يقدم الأمر على الإباحة . النوع الحادي والعشرون: أنه يقدم الأقل احتمالاً على الأكثر احتمالاً. النوع الثاني والعشرون : أنه يقدم المجاز على المشترك . النوع الثالث والعشرون : أنه يقدم الأشهر في الشرع أو اللغة أو العرف على غير الأشهر فيها . النوع الرابع والعشرون : أنه يقدم ما يدل بالاقتضاء على ما يدل بالإشارة وعلى ما يدل بالإيماء وعلى ما يدل بالمفهوم موافقة ومخالفة . النوع الخامس والعشرون : أنه يقدم ما يتضمن تخصيص العام على ما يضمن تأويل الخاص لأنه أكثر . النوع السادس والعشرون : أنه يقدم المقيد على المطلق . النوع السابع والعشرون : أنه يقدم ما كان صيغة عمومه بالشرط الصريح على ما كان صيغة عمومه بكونه نكرة في سياق النفي أو جمعاً معرفاً أو مضافاً ونحوهما . النوع الثامن والعشرون: أنه يقدم الجمع المحلى والاسم الموصول على إسم الجنس المعرف باللام لكثرة استعماله في المعهود فتصير دلالته أضعف على خلاف معروف في هذا وفي الذي قبله . وأما المرجحات باعتبار المدلول : فهي أنواع . النوع الأول : أنه يقدم ما كان مقرراً لحكم الأصل والبراءة على ما كان ناقلاً وقيل بالعكس وإليه ذهب الجمهور واختار الأول الفخر الرازي والبيضاوي والحق ما ذهب إليه الجمهور. النوع الثاني : أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط فإنه أرجع . النوع الثالث : أنه يقدم المثبت على المنفى نقله إمام الحرمين عن جمهور الفقهاء لأن مع المثبت زيادة علم وقيل يقدم النافي وقيل هما سواء واختاره في المستصفى . النوع الرابع : أنه يقدم ما يفيد سقوط الحد على ما يفيد لزومه . النوع الخامس : أنه يقدم ما كان حكمه أخف على ما كان حكمه أغلظ وقيل بالعكس . النوع السادس : أنه يقدم ما لا تعم به البلوى على ما تعم به . النوع السابع : أن يكون أحدهما موجباً لحكمين والآخر موجباً لحكم واحد فإنه يقدم الموجب لحكمين لاشتماله على زيادة لم ينقلها الآخر . النوع الثامن : أنه يقدم الحكم الوضعي على الحكم التكليفي لأن الوضعي لا يتوقف على ما يتوقف عليه التكليفي من أهلية المكلف وقيل بالعكس لأن التكليفي أكثر مثوبة وهي مقصودة للشارع . النوع التاسع : أنه يقدم ما فيه تأسيس على ما فيه تأكيد . واعلم أن المرجح في مثل هذه الترجيحات هو نظر المجتهد المطلق فيقدم ما كان عنده أرجح على غيره إذا تعارضت. وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة فهي أنواع . النوع الأول : أنه يقدم ما عضده دليل آخر على ما لم يعضده دليل آخر . النوع الثاني : أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً فيقدم القول لأن له صيغة والفعل لا صيغة له . النوع الثالث : أنه يقدم ما كان فيه التصريح بالحكم على ما لم يكن كضرب الأمثال ونحوها فإنها ترجح العبادة على الإشارة . النوع الرابع : أنه يقدم ما عمل عليه أكثر السلف على ما ليس كذلك لأن الأكثر أولى بإصابة الحق وفيه لأنه لا حجة في قول الأكثر ولا في عملهم فقد يكون الحق في كثير من المسائل مع الأقل ولهذا . مدح الله القلة في غير موضع من كتابه . النوع الخامس : أن يكون أحدهما موافقاً لعمل الخلفاء الأربعة دون الآخر فإنه يقدم الموافق وفيه نظر . النوع السادس : أن يكون أحدهما توارثه أهل الحرمين دون الآخر وفيه نظر . النوع السابع : أن يكون أحدهما موافقاً لعمل أهل المدينة وفيه نظر أيضاً . النوع الثامن : أن أحدهما موافقا للقياس دون الآخر فإنه يقدم الموافق . النوع التاسع : أن يكون أحدهما أشبه بظاهر القرآن دون الآخر فإنه يقدم . النوع العاشر: أنه يقدم ما فسره الراوي له بقوله أو فعله على ما لم يكن كذلك . وقد ذكر بعض أهل الأصول مرجحات في هذا القسم زائدة على ما ذكرناه هاهنا وقد ذكرناها في الأنواع المتقدمة لأنها بها ألصق ومن أعظم ما يحتاج إلى المرجحات الخارجة إذا تعارض عمومان بينهما عموم وخصوص من وجه وذلك كقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين مع قولهأو ما ملكت أيمانكم فإن الأولى خاصة في الأختين عامة في الجمع بين الأختين في الملك أو بعقد النكاح والثانية عامة في الأختين وغيرهما خاصة في ملك اليمين وكقوله صضص من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها مع نهيه عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإن الأول عام في الأوقات خاص في الصلاة المقتضية والثاني عام في الصلاة خاص في الأوقات فإن علم المتقدم من العمومين والمتأخر منهما كان المتأخر ناسخاً عند من يقول إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم وأما من لا يقول ذلك فإنه يعمل بالترجيح بينهما وإن لم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب الرجوع إلى الترجيح على القولين جميعاً بالمرجحات المتقدمة وإذا استويا اسناداً ومتناً ودلالة رجع إلى المرجحات الخارجة وإن لم يوجد مرجح خارجي وتعارضا من كل وجه فعلى الخلاف المتقدم هل يخير المجتهد في العلم بأحدهما أو يطرحهما ويرجع إلى دليل آخر إن وجد أو إلى البراءة الأصلية ونقل سليم الرازي عن أبي حنيفة أنه يقدم الخبر الذي فيه ذكر الوقت ولا وجه لذلك . قال ابن دقيق العيد في هذه المسألة من مشكلات الأصول والمختار عند المتأخرين الوقف إلا بترجيح يقوم على أحد اللفظين بالنسبة إلى الآخر وكأن مرادهم الترجيح العام الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة وسائر الأمور الخارجة عن مدلول العموم ثم حكي عن الفاضل أبي سعيد محمد بن يحيى أنه ينظر فيهما فإن دخل أحدهما تخصيص مجمع عليه فهو أولى بالتخصيص وكذلك إذا كان أحدهما مقصودا بالعموم رجح على ما كان عمومه اتفاقياً . قال الزركشي في البحر وهذا هو اللائق بتصرف الشافعي في أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة فإنه قال لما دخلها التخصيص بالإجماع في صلاة الجنازة ضعفت دلالتها فتقدم عليها أحاديث المقضية وتحية المسجد وغيرهما وكذلك نقول دلالة وأن تجمعوا بين الأختين على تحريم الجمع مطلقاً في النكاح والملك أولى من دلالة الآية الثانية على جواز الجمع في ملك اليمين لأن هذه الآية ما سيقت لبيان حكم الجمع. وأما الترجيح بين الأقيسة، فلا خلاف أنه لا يكون بين ما هو معلوم منها وأما كان مظنوناً فذهب الجمهور إلى أنه يثبت الترجيح بينها. وحكى إمام الحرمين عن القاضي أنه ليس في الأقيسة المظنونة مطلوب وإذا لم يكن فيها مطلوب فلا طريق على التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق قال إمام الحرمين وهذه هفوة عظيمة ثم ألزمه القول بأنه لا أصل للاجتهاد. قال الزركشي والحق أن القاضي لم يرد ما حكاه عنه وقد عقد فصولاً في التقريب في تقديم بعض العلل على بعض فعلم أنه ليس يعني إنكار الترجيح فيها وإنما مراده أنه يقدم نوع على نوع على الإطلاق بل ينبغي أن يرد الأمر في ذلك إلى ما يظن المجتهد راجحاً والظنون تختلف فإنه قد يتفق في آحاد النوع القوي شيء يتأخر عن النوع الضعيف انتهى . والترجيح بين الأقيسة يكون على أنواع. النوع الأول : بحسب العلة . النوع الثاني : بحسب الدليل الدال على وجود العلة. النوع الثالث : بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم . النوع الرابع : بحسب دليل الحكم. النوع الخامس : بحسب كيفية الحكم. النوع السادس : بحسب الأمور الخارجة. النوع السابع : بحسب الفرع . أما الترجيح بينها بحسب العلة : فهو أقسام . الأول : أنه يرجح القياس المعلل بالوصف الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس العلة للإجماع بين أهل القياس على صحة التعليل بالمظنة فيرجح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة . القسم الثاني : أنه يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة . القسم الثالث : أنه يرجح المعلل حكمة بالوصف العدمي على المعلل حكمة بالحكم الشرعي لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسباً للحكم والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة هكذا قال صاحب المنهاج واختاره وذكر إمام الحرمين الجويني في هذا احتمالين . القسم الرابع : أنه يرجح المعلل بالحكم الشرعي على غيره . القسم الخامس : أنه يرجح المعلل بالتعدية على المعلل بالقاصرة . قاله القاضي والأستاذ أبو منصور وابن برهان قال إمام الحرمين وهو المشهور فإنه أكثر فائدة وقال الأستاذ أبو إسحاق أنها ترجح القاصرة لأنها معتضدة بالنص ورجحه في المستصفى . القسم السادس : أنها ترجح العلة المتعدية التي فروعها أكثرعلى العلة المتعدية التي فروعها أقل لكثرة الفائدة . قاله الاستاذ أبو منصور ورفعه صاحب المنخول وكلام إمام الحرمين يقتضي أ نه لا ترجيح بذلك . القسم السابع : أنها ترجح العلل البسيطة على العلل المركبة كذا قال الجدليون وأكثر الأصوليين إذ يحتمل في العلل المركبة أن تكون العلة فيها هي بعض الأجزاء لا كلها وأيضاً البسيطة يكثر فروعها وفوائدها ويقل فيها الاجتهاد فيقل الغلط على ما في المركبة من الخلاف في جواز التعليل بها كما تقدم وقال جماعة المركبة أرجح قال القاضي في مختصر التقريب ولعله الصحيح ، وقال إمام الحرمين إن هذا المسلك باطل عند المحققين . القسم الثامن : أنها ترجح العلة القلية الأوصاف على العلة الكثيرة الأوصاف لأن الوصف الزائد لا أثر له في الحكم ولأن كثرة الأوصاف يقل فيها التفريع ، وقيل وهو مجموع على هذا المرحج بين المحققين من الأصوليين إذا كانت القليلة الأوصاف داخلة تحت الكثيرة الأوصاف فإن كانت غير داخلة مثل أن يكون أوصاف إحداهما غير أوصاف الأخرى فاختلفوا في ذلك فقيل ترجح القليلة الأوصاف وقيل الكثيرة الأوصاف . القسم التاسع : أنه يرجح الوصف الوجودي على العدمي وكذا الوصف المشتمل على وجوديين على الوصف المشتمل على وجودي وعدمي كذا في المحصول . القسم العاشر : أنها ترجح العلة المحبوسة على الحكمية وقيل بالعكس. القسم الحادي عشر: أنها ترجح العلة التي مقدماتها قليلة على العلة التي مقدماتها كثيرة لأن صدق الأولى وغلبة الظن بها أكثر من الأخرى وقيل بالعكس وقيل هما سواء . القسم الثاني عشر : أنها ترجح العلة المشتملة على صفة ذاتية على العلة المشتملة على صفة حكمية وقيل بالعكس ورجحه ابن السمعاني . القسم الرابع عشر : أنها ترجح العلة الموجبة للحكم على العلة المقتضية للتسوية بين حكم وحكم الإجماع على جواز التعليل بالأولى بخلاف الثانية ففيها خلاف وقال أبو سهل الصعلوكي إن علة التسوية أولى لكثرة الشبه فيها . وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على وجود العلة : فهو على أقسام : القسم الأول : أنها تقدم المعلومة سواء كان العلم بوجدها بديهياً أو ضرورياً على العلة التي ثبت وجودها بالنظر والاستدلال كذا قال جماعة وذهب الأكثرون إلى أنه لا يجري الترجيح بين العلتين المعلومتين إذا كانت إحداهما معلومة بالبداهة والأخرى بالنظر والاستدلال . القسم الثاني : أنها ترجح العلة التي وجودها بديهي على العلة التي وجودها أجلي وأظهر عند العقل فهو أرجح مما لم يكن كذلك وأما الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم فهو على أقسام : القسم الأول : أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالدليل القاطع على العلة التي لم يثبت عليتها بدليل قاطع وخالف في ذلك صاحب المحصول ولا وجه لخلافه . القسم الثاني : أنها ترجع العلة التي ثبت عليتها بدليل ظاهر على العلة التي ثبت عليتها بغيره من الأدلة التي ليست بنص ولا ظاهر . القسم الثالث : أنها ترجح العلة التي ثبت عليتها بالمناسبة على العلة التي ثبت عليتها بالشبة والدوران لقوة المناسبة واستقلالها بإثبات العلية وقيل بالعكس ولا وجه له . القسم الرابع : أنها ترجح العلة الثابتة عليتها بالمناسبة على العلة الثابتة عليتها بالسبر وقيل بالعكس قيل وليس هذا الخلاف في السبر المقطوع فإن العلم به متعين لوجوب تقديم المقطوع على المظنون بل الخلاف في المظنون . القسم الخامس : أنه ترجح ما كان من المناسبة ثابتاً بالضرورة الدينية على الضرورة الدنيوية . القسم السابع : أن يقدم ما كان من المناسبة معتبراً نوعه في نوع الحكم على ما كان منها معتبراً نوعه في جنس الحكم وعلى ما كان منها معتبراً جنسه في نوع الحكم وعلى ما كان منها معتبراً جنسه في جنس الحكم ثم يقدم المعتبر نوعه في جنس الحكم والمعتبر جنسه في نوع الحكم على المعتبر جنسه في جنس الحكم : قال الهندي : الأظهر تقديم المعتبر نوعه في جنس الحكم على علته . القسم الثامن : أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالدوران على الثابتة عليتها بالسبر وما بعده وقيل بالعكس. القسم التاسع : أنها تقدم العلة الثابتة عليتها بالشبه على العلة الثابتة عليتها بالضرورة . قال البيضاوي وكذا ترجح على العلة الثابتة عليتها بالإيماء وادعى في المحصول اتفاق الجمهور على أن ما ثبت عليته بالإيماء راجح على ما ثبت عليته بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر وهو ظاهر كلام إمام الحرمين في البرهان قال الصفي الهندي هذا ظاهر إن قلنا لا تشترط المناسبة في الوصف المومأ إليه وإن قلنا تشترط فالظاهر ترجيح بعض الطرق العقلية عليها كالمناسبة لأنها تستقل بإثبات العلية بخلاف الإيماء فإنه لا يستقل بذلك بدونها . القسم الحادي عشر: أنها تقدم العلة الثابتة بنفي الفارق على غيرها . وأما الترجيح بحسب دليل الحكم فهو على أقسام : الأول : أنه يقدم ما دليل أصله قطعي على ما دليل أصله ظني . القسم الثاني : أنه يقدم ما كان دليل أصله الإجماع على ما كان دليل أصله النص لأن النص بقبل التخصيص والتأويل والنسخ والإجماع لا يقبلها . قال إمام الحرمين ويحتمل تقدم الثابت بالنص على الإجماع لأن الإجماع فرع النص لكونه المثبت له والفرع لا يكون أقوى من الأصل وبهذا جزم صاحب المنهاج . القسم الثالث : أنه يقدم القياس الذي هو مخرج من أصل منصوص عليه على ما كان مخرجاً من أصل غير منصوص عليه قاله ابن برهان . القسم الرابع : أنه يقدم القياس الخاص بالمسألة على القياس العام الذي يشهد له القواعد قاله القاضي . القسم الخامس: أنه يقدم ما كان على سنن القياس على ما لم يكن كذلك . القسم السادس : أنه يقدم ما دل دليل خاص على تعليله دون ما لم يكن كذلك . القسم السابع: أنه يقدم ما لم يدخله النسخ بالاتفاق على ما وقع فيه الخلاف ، والحاصل أنه يقدم ما كان دليل أصله أقوى بوجه من الوجوه المعتبرة . وأما المرجحات تحسب كيفية الحكم، فهي على أقسام . الأول: أنه يقدم ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته ناقلة عن حكم العقل على ما كانت علته مقررة كما قاله الغزالي وابن السمعاني وغيرهما لأن الناقلة أثبتت حكماً شرعياً والمقررة لم تثبت شيئاً وقيل إن المقررة أولى لاعتضادها بحكم العقل المستقل بالنفي لولا هذه العلة الناقلة قال الأستاذ أبو منصور ذهب أكثر أصحابنا إلى ترجيح الناقلة عن العادة وبه جزم الكيا لأن الناقلة مستفادة من الشرع والأخرى ترجع إلى عدم الدليل فلا معارضة بينهما وقيل هما مستويان لأن النسخ بالعلل لا يجوز . القسم الثاني : أنه يقدم ما كانت علته مثبتة على ما كانت علته نافية كذا قال الأستاذ أبو إسحاق وغيره . قال الغزالي قدم قوم المثبتة على النافية وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعاً كالاثبات وإن كان نفياً أصلياً يرجع إلى ما قدمناه في الناقلة والمقررة وقال الأستاذ أبو منصور الصحيح أن الترجيح في العلة لا يقع بذلك لاستواء المثبت والنافي في الافتقار إلى الدليل قال وإلى هذا القول ذهب أصحاب الرأي . القسم الثالث : أنه يقدم ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة قال ابن السمعاني وهو الصحيح وقيل وقيل هما سواء . القسم الرابع : أن يكون أحدهما يقتضي حداً والآخر يسقطه فالمسقط أقدم . القسم الخامس : أن يكون أحدهما يقتضي العنف والآخر يسقطه فالمقتضى للعنف أقدم وقيل هما سواء . القسم السادس : أن يكون أحدهم مبقياً للعموم لأنه كالنص في وجوب استغراق الجنس ومن حق العلة أن لا ترفع النص فإذا أخرجت ما اشتمل عليه العام مخالفة للأصول التي يجب سلامتها عنه كذا قال القاضي في التقريب وحكى الزركشي عن الجمهور أن المخصصة له أولى لأنها زائدة . وأما المرجحات بحسب الأمور الخارجة : فهي على أقسام . الأول : أنه يقدم القياس الموافق للأصول بأن يكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشرع على ما كان موافقاً لأصل واحد لأن وجود العلة في الأصول الكثيرة دليل على قوة اعتبارها في نظر الشرع هكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني وغيرهما وقيل هما سواء وجزم بالأول الأستاذ أبو منصور ورفعه الغزالي . القسم الثاني : أنه يقدم ما كان حكم أصله موافقاً للأصول على ما ليس كذلك للاتفاق على الأول واختلاف في الثاني. القسم الثالث : أنه يرجع ما كان مطرداً في الفروع بحيث يلزم الحكم به في جميع الصور على ما لم يكن كذلك . القسم الرابع : أنه يرجع ما انضمت إلى علته علة أخرى على ما لم ينضم إليه علة أخرى لأن ذلك الانضمام يزيد قوة وقيل للترجيح بذلك وصححه أبو زيد من الحنفية. القسم الخامس: أنه يقدم ما انضم إليه فتوى صحابي على ما لم يكن كذلك وهو مبني على الخلاف المتقدم في حجية قول الصحابي. وأما المرجحات بحس بالفرع : فهي على أقسام. الأول : أنه يقدم ما كان مشاركاً في عين الحكم ووعين العلة على المشارك في جنس الحكم وعين العلة أو عين الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وحني العلة . القسم الثاني : أنه يقدم ما كان مشاركا في عين الحكم وجنس العلة أو عين العلة وجنس الحكم على المشارك في جنس الحكم وجنس العلة . القسم الثالث : أنه يقدم المشارك في عين العلة وجنس الحكم على المشارك في عين الحكم وجنس العلة لأن العلة هي العمدة في التعدية . القسم الرابع : أنه يقدم ما كان مقطوعاً بوجود علته في الفرع على المظنون وجودها فيه. القسم الخامس: أنه يقدم ما كان حكم الفرع ثابتاً فيه جملة لا تفصيلاً وقد دخل بعض هذه المرجحات الترجيح فيما تقدم لصلاحيتها هنالك وهاهنا لذكر ذلك فيه. وأما المرجحات بين الحدود السمعية فهي على أقسام: الأول : أنه يرجح الحد المشتمل على الألفاظ الصريحة الدالة على المطلوب بالمطابقة أو التضمن على الحد المشتمل على الألفاظ المجازية أو المشتركة أو الغربية أو المضطربة وعلى ما دل على المطلوب بالالتزام لأن الأول قريب إلى الفهم بعيد عن الخلل والاضطراب. القسم الثاني: أن يكون أحدهما أعرف من الآخر فإنه يقدم الأعرف على الأخفى لأنه أدل على المطلوب من الأخفى. القسم الثالث : أنه يقدم الحد المشتمل على الذاتيات على المشتمل على العرضيات لإفادة الأول تصور حقيقة المحدود دون الثاني . القسم الرابع : أنه يقدم ما كان مدلوله أعم من مدلول الآخر لتكثير الفائدة وقيل بل يقدم الأخص للاتفاق على ما تناوله. القسم الخامس: أنه يقدم ما كان موافقاً لنقل الشرع واللغة على ما لم يكن كذلك لكون الأصل عدم النقل. القسم السادس: أنه يقدم ما كان أقرب إلى المعنى المنقول عنه شرعاً أو لغة. القسم السابع: أنه يقدم ما كان طريق اكتسابه أرجح من طريق اكتساب الآخر لأنه أغلب على الظن. القسم الثامن: أنه يقدم ما كان موافقاً لعمل أهل مكة والمدينة ثم ما كان موافقاً لأحدهما. القسم التاسع: أنه يقدم ما كان موافقاً لعلم الخلفاء الأربعة . القسم العاشر: أنه يقدم ما كان موافقاً للإجماع . القسم الحادي عشر : أنه يقدم ما كان موافقاً لعمل أهل العلم . القسم الثاني عشر : أنه يقدم ما كان مقرراً لحكم الحظر على ما كان مقرر الحكم الإباحة . القسم الثالث عشر : أنه يقدم ما كان مقرراً لحكم النفي على ما كان مقرراً لحكم الإثبات . القسم الرابع عشر : أنه يرجع ما كان مقرراً لإسقاط الحدود على ما كان موجباً لها . القسم الخامس عشر : أنه يقدم ما كان مقرراً لإيجاب العتق على ما لم يكن كذلك . وفي غالب هذه المرجحات خلاف يستفاد من مباحثه المتقدمة في هذا الكتاب ويعرف به ما هو الراجح في جميع ذلك وطرق الترجيح كثيرة جداً وقد قدمنا أن مدار الترجيح على ما يزيد الناظر قوة في نظره على وجه صحيح مطابق للمسالك الشرعية فما كان محصلاً لذلك فهو مرجح معتبر .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
خاتمة لمقاصد هذا الكتاب
اعلم أنا قد قدمنا في أول هذا الكتاب الخلاف في كون العقل حاكماً أولاً وذكرنا أنه لا خلاف في أن بعض الأشياء يدركها العقل ويحكم فيها كصفات الكمال والنقص وملاءمة الغرض ومنافرته وأحكام العقل باعتبار مدركاته تنقسم إلى خمسة أحكام كما انقسمت الأحكام الشرعية إلى خمس أقسام . الأول : الوجوب كقضاء الدين . والثاني : التحريم كالظلم . والثالث : الندب كالإحسان . والرابع : الكراهة كسوء الأخلاق . والخامس : الإباحة كتصرف المالك في ملكه .
وهاهنا مسألتان :
المسألة الأولى : هل الأصل فيما وقع فيه الخلاف ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوعه الإباحة أو المنع أو الوقف ؟ فذهب جماعة من الفقهاء وجماعة من الشافعية و محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ونسبه بعض المتأخرين إلى الجمهور إلى أن الأصل الإباحة . وذهب الجمهور إلى أنه لا يعلم حكم الشيء إلا بدليل يخصه أو يخص نوعه فإذا لم يوجد دليل كذلك فالأصل المنع . وذهب الأشعري وأبو بكر الصيرفي وبعض الشافعية إلى الوقف بمعنى لا يدري هل هنا حكم أم لا وصرح الرازي في المحصول أن الأصل في المنافع الإذن وفي المضار المنع ، احتج الأولون بقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فإنه أنكر على من حرم ذلك فوجب أن لا تثبت حرمته وإذا لم تثبت حرمته امتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراده لأن المطلق جزء من المقيد فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراده لثبتت الحرمة في زينة الله وفي الطيبات من الرزق وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة واحتجوا أيضاً بقوله تعالى :أحل لكم الطيبات وليس المراد من الطيب الحلال وإلا لزم التكرار فوجب تفسيره بما يستطاب طبعاً وذلك يقتضي حل المنافع بأسرها ، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية فجعل الأصل الإباحة والتحريم مستثنى ، وبقوله سبحانه وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه وبما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي ضصض أنه قال إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء فحرم على السائل من أجل مسألته وبما أخرجه الترمذي وابن ماجة عن سلمان الفارسي قال سئل رسول الله ضصض عن السمن والخبز والفراء قال الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه . واحتجوا أيضاً بأنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعاً ولا على المنتفع فوجب أن لا يمتنع كالاستضاءة بضوء السراج والاستظلال بظل الجدار ، ولا يرد على هذا الدليل ما قيل إنه يقتضي إباحة كل المحرمات لأن فاعلها ينتفع بها ولا ضرر فيها على المالك ويقتضي سقوط التكاليف بأسرها ، ووجه عدم وروده أنه قد وقع الإحتراز عنه بقوله ولا على المنتفع ولا انتفاع بالمحرمات وبترك الواجبات لضرره ضرراً ظاهراً لأن الله سبحانه قد بين حكمها وليس النزاع في ذلك إنما النزاع فيما لم يبين حكمه ببيان يخصه أو يخص نوعه. واحتجوا أيضاً بأنه سبحانه إما أن يكون خلقه لهذه الأعيان لحكمة أو لغير حكمه . والثاني باطل لقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وقوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا والعبث لا يجوز على الحكمة فثبت أنها مخلوقة لحكمة ولا تخلو هذه الحكمة إما أن تكون لعود النفع إليه سبحانه أو إلينا والأول باطل لاستحالة الانتفاع عليه عز وجل فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون إليها وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان فإن منع منه فإنما هو يمنع منه لرجوع ضرره إلى المحتاج إليه وذلك بأن ينهى الله عنه فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة، وقد احتج القائلون بأن الأصل المنع بمثل قوله تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم وهذا خارج عن محل النزاع فإن النزاع إنما هو فيما لم ينص على حكمه أو حكم نوعه وأما ما قد فصل وبين حكمه فهو كما بينه بلا خلاف، واحتجوا أيضاً بقوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام قالوا فأخبر الله سبحانه أن التحريم والتحليل ليس إلينا وإنما هو إليه فلا نعلم الحلال والحرام إلا بإذنه . ويجاب عن هذا بأن القائلين بأصالة الإباحة لم يقولوا بذلك من جهة أنفسهم بل قالوه بالدليل الذي استدلوا به من كتاب الله وسنة رسوله كما تقدم فلا ترد هذه الآية عليهم ولا تعلق لها بمحل النزاع واستدل بعضهم بالحديث الصحيح الثابت في دواوين الإسلام عنه ضصض قال الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات الحديث قال فأرشد ضصض إلى ترك ما بين الحلال والحرام ولم يجعل الأصل فيه أحدهما ولا يخفاك أن هذا الحديث لا يدل على مطلوبهم من أن الأصل المنع فإن استدل به القائلون بالوقف فيجاب عنه بأن الله سبحانه قد بين حكم ما سكت عنه بأنه حلال بما سبق من الادلة وليس المراد بقوله وبينهما امور مشتبهات الا ما لم يدل الدليل على انه حلال طلق او حرام واضح بل تنازعه امران احدهما يدل على الحاقه بالحلال والآخر يدل على إلحاقه بالحرام كما يقع ذلك عند تعارض الأدلة. أما ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه كما تقدم في حديث سلمان وقد أوضحنا الكلام على هذا الحديث في رسالة مستقلة فليرجع إليها واستدلوا أيضاً بالحديث الصحيح وهو قوله ضصض إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام الحديث ويجاب عنه بأنه خارج عن محل النزاع لأنه خاص بالأموال التي قد صارت مملوكة ولا خلاف في تحريمها على الغير وإنما النزاع في الأعيان التي خلقها الله لعباده ولم تصرفي ملك أحد منهم وذلك كالحيوانات التي لم ينص الله عز وجل على تحريمها إلا بدليل عام ولا خاص وكالنباتات التي تنبتها الأرض ما لم يدل دليل على تحريمها ولا كانت مما يضر مستعملة بل مما ينفعه .
المسألة الثانية : اختلفوا في وجوب شكر المنعم عقلاً فالمعتزلة ومن وافقهم أوجبوه بالعقل على من لم يبلغه الشرع وخالف في ذلك جمهور الأشعرية ومن وافقهم لأنهم يقولون لا حكم للعقل كما تقدم تحقيقه قالوا وعلى تقدير التسليم لحكم العقل فلا حكم للعقل بوجوب شكر المنعم فلا إثم في تركه على من لم تبلغه دعوة النبوة لأنه لو وجب لوجب لفائدة واللازم باطل فالملزوم مثله وتقرير الملازمة أنه لو وجب لا لفائدة لكان عبثاً وهو قبيح فلا يجب عقلاً ولا يجوز على الله سبحانه إيجاب ما كان عبثاً . وأما تقرير بطلان اللازم فلأن الفائدة أما أن تكون لله تعالى أو تكون للعبد إما في الدنيا أو في الآخرة والكل باطل لأن الله سبحانه متعال ولأنه لا منفعة فيه للعبد في الدنيا لأنه تعب ومشقة عليه ولا حظ للنفس فيه وما كان كذلك لا يكون له فائدة دنيوية وأما انتفاع العبد به في الآخرة فلأن أمور الآخرة من الغيب الذي لا مجال للعقل فيه . وأجيب عن ذلك بمنع كونه لا فائدة للعبد فيه وسند هذا المنع بأن فائدته للعبد في الدنيا هي دفع ضرر خوف العقاب وذلك للزوم الخطور على بال عاقل إذا رأى ما عليه من النعم المتجددة وقتاً بعد وقت أن المنعم قد ألزمه بالشكر كما يخطر على بال من أنعم عليه ملك من الملوك بأصناف النعم أنه مطالب له بالشكر عليها. ومنع الأشعرية لزوم الخطور الموجب للخوف فلا يتعين. وأجيب عن هذا المنع بأنه غير متوجب لأن ما ذكره القائلون بالوجوب هو منع فإن أرادوا بهذا المنع لذلك المنع أن سنده لا يصلح للسندية فذلك منع مجرد للسند وهو غير مقبول وعلى التسليم فيقال وإنه وإن لم يتعين وجود الخوف فهو على خطر الوجود بالشكر يندفع احتمال وجوده وهو فائدة جليلة . ثم جاء الأشعرية بمعارضة لما ذكرته المعتزلة فقالوا ولو سلم فخوف العقاب على الترك معارض بخوف العقاب على الشكر إما لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن المالك فإن ما يتصرف به العبد من نفسه وغيرها ملك الله تعالى وأما لأنه كالاستهزاء وما مثله إلا كمثل فقير حضر مائدة ملك عظيم فتصدق عليه بلقمة فطفق يذكرها في المجامع وشكر عليها شكراً كثيراً مستمراً فإن ذلك يعد استهزاء من الشاكر بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة إلى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة إلى الرب سبحانه وشكر العبد أقل قدراً في جنب الله من شكر الفقير للملك على الصفة المذكورة ولا يخفاك أن هذه المعارضة الركيكة والتمثيل الواقع في غاية من السخف يندفعان بما قصه الله سبحانه علينا في الكتاب العزيز من تعظيم شأن ما أنعم به على عباده وكرر ذلك تكريراً كثيراً فإن كان ذلك مطابقاً للواقع سقط ما جاءوا به وإن كان غير مطابق للواقع فهو التكذيب البحت والرد الصراح. ثم لا يخفى على أحد أن النعمة التي وجب الشكر عليها هي على غاية العظمة عند الشاكر، فإن أولها وجوده، ثم تكميل آلاته، ثم إفاضة النعم عليه على اختلاف أنواعها فكيف يكون شكره عليها استهزاء.
وقد اعترض جماعة من المحققين على ما ذكره الأشاعرة في هذه المسألة منهم ابن الهمام في تحريره فقال ولقد طال رواج هذه الجملة على تهافتها يعني جملة الاستدلال والاعتراض. ثم ذكر أن حكم المعتزلة بتعلق الوجوب والحرمة بالفعل قبل البعثة تابع لعقلية ما في الفعل فإذا عقل فيه حسن يلزم بترك ما هو فيه القبح كحسن شكر المنعم المستلزم تركه القبح الذي هو الكفران بالضرورة فقد أدرك العقل حكم الله الذي هو وجوب الشكر قطعاً وإذا ثبت الوجوب بلا مرد لم يبق لنا حاجة في تعيين فائدة بل نقطع بثبوتها في نفس الأمر علم عينها أولاً ولو منعوا يعني الأشعرية اتصاف الشكر بالحسن واتصاف الكفران بالقبح لم تصر مسألة على التنزل معنى والمفروض أنها مسألة على التنزل. ثم ذكر أن انفصال المعتزلة بدفع ضرر خوف العقاب إنما يصح حاملاً على العمل الذي يتحقق به الشكر وهو بعد العلم بوجوب الشكر بالطريق الموصلة إليه وهو محل النزاع. ثم قال وأما معارضتهم بأنه يشبه الاستهزاء فيقضي منه العجب. قال شارحه لغرابته وسخافته كيف ويلزم منه انسداد باب الشكر قبل البعثة وبعدها انتهى.
ومن كان مطلعاً على مؤلفات المعتزلة لا يخفى عليه أنهم إنما ذكروا هذا الدليل للاستدلال به على وجوب النظر فقالوا من رأى النعم التي هو فيها دقيقها وجليلها وتواتر أنواعها خشى أن لها صانعاً بحق له الشكر إذ وجوب شكر كل منعم ضروري ومن خشي ذلك خاف ملاماً على الإخلال وتبعه على الإخلال ضرر عاجل والنظر كاشف للحيرة دافع لذلك الخوف فمن أخل بالنظر حسن في العقل ذمه وهو معنى الوجوب فإذا نظر زال ذلك الضرر فيلزمه فائدة الأمن من العقاب على التقديرين إما بأن يشكر وإما بأن يكشف له بالنظر أنه لا منعم فلا عقاب هذا حاصل كلامهم في الوجوب العقلي.
وأما الوجوب الشرعي فلا نزاع فيه بينهم ، وقد صرح الكتاب العزيز بأمر العباد بشكر ربهم وصرح أيضاً بأنه سبب في زيادة النعم . والأدلة القرآنية والأدلة النبوية في هذا كثيرة جداً وحاصلها فوز الشاكر بخير الدنيا والآخرة وفقنا الله تعالى لشكر نعمه ودفع عنا جميع نقمه.
قال المؤلف رحمه الله : وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه بقلم مؤلفه المفتقر إلى نعم ربه الطالب منه مزيدها عليه ودوامها له محمد بن علي بن محمد الشوكاني غفر الله ذنوبه.
وكان الفراغ منه يوم الأربعاء الرابع من شهر محرم سنة 1231 والحمد لله أولاً وآخراً والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه . تم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .