إحكام الآمدي - الجزء الثالث
القسم الثالث في مستندات الراوي وكيفية روايته
الراوي لا يخلو إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي فإن كان صحابياً فقد اتفقوا على أنه إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني رسول الله بكذا فهو خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم واجب القبول واختلفوا في مسائل. المسألة الأولى إذا قال الصحابي: قال رسول الله كذا اختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة من غير خلاف وقال القاضي أبو بكر: لا يحكم بذلك بل هو متردد بين أن يكون قد سمعه من النبي عليه السلام وبين أن يكون قد سمعه من غيره وبتقدير أن يكون قد سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم فمن قال بعدالة جميع الصحابة فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن قال بأن حكم الراوي من الصحابة حكم غيرهم في وجوب الكشف عن حال الراوي منهم فحكمه حكم مراسيل تابع التابعين وسيأتي تفصيل القول فيه. والظاهر أن ذلك محمول على سماعه من غير واسطة مع إمكان سماعه من الواسطة لأن قوله قال يوهم السماع من النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة إيهاماً ظاهراً والظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة أنه لا يأتي بلفظ يوهم معنى ويريد غيره. المسألة الثانية إذا قال الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بكذا أو ينهى عن كذا اختلفوا في كونه حجة فذهب قوم إلى أنه ليس بحجة لأن الاحتجاج إنما هو بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وقول الصحابي سمعته يأمر وينهي لا يدل على وجود الأمر والنهي من النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فلعله سمع صيغة اعتقد أنها أمر أو نهي وليست كذلك عند غيره ويحتمل أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو ينهى عن شيء وهو ممن يعتقد أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده وأن النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده فنقل الأمر والنهي وليس بأمر ولا نهي عند غيره. والذي عليه اعتماد الأكثرين أنه حجة وهو الأظهر وذلك لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً بمواقع الخلاف والوفاق وعند ذلك فالظاهر من حاله أنه لا ينقل إلا ما تحقق أنه أمر أو نهي من غير خلاف نفياً للتدليس والتلبيس عنه بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً ولا نهياً. المسألة الثالثة إذا قال الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وأوجب علينا كذا وحرم علينا كذا أو أبيح لنا كذا فمذهب الشافعي وأكثر الأئمة أنه يجب إضافة ذلك إلى النبي عليه السلام وذهب جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة إلى المنع من ذلك مصيراً منهم إلى أن ذلك متردد بين كونه مضافاً إلى النبي عليه السلام وبين كونه مضافاً إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع. وإذا احتمل واحتمل لا يكون مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا يكون حجة والظاهر مذهب الشافعي وذلك لأن من كان مقدماً على جماعة وهم بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا قال الواحد منهم: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا: كان الظاهر منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه ولا يمكن حمله على أمر الكتاب ونهيه لأنه لو كان كذلك لكان ظاهراً للكل فلا يختص بمعرفته الواحد منهم ولا على أمر الأمة ونهيها لأن قول الصحابي: أمرنا ونهينا قول الأمة وهم لا يأمرون وينهون أنفسهم ولا على أمر الواحد من الصحابة إذ ليس أمر البعض للبعض أولى من العكس كيف وإن الظاهر من الصحابي أنه إنما يقصد بذلك تعريف الشرع وذلك لا يكون ثابتاً بأمر الواحد من الصحابة ونهيه ولا أن يكون ذلك بناء على ما قيل من القياس والاستنباط لوجهين: الأول أن قول الصحابي: أمرنا ونهينا خطاب مع الجماعة وما ظهر لبعض المجتهدين من القياس وإن كان مأموراً باتباع حكمه فذلك غير موجب للأمر باتباع من لم يظهر له ذلك القياس. الثاني أن قوله: أمرنا ونهينا بكذا عن كذا إنما يفهم منه مطلق الأمر والنهي لا الأمر باتباع حكم القياس.
المسألة الرابعة اختلفوا في قول الصحابي: من السنة كذا فذهب الأكثرون إلى أن ذلك محمول على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافاً لأبي الحسن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة والمختار مذهب الأكثرين وذلك لما ذكرناه في المسألة المتقدمة. فإن قيل: اسم السنة متردد بين سنة النبي وسنة الخلفاء الراشدين على ما قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" وإذا كان اللفظ متردداً بين احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما دون الآخر أولى من العكس. قلنا: وإن سلمنا صحة إطلاق السنة على ما ذكروه غير أن احتمال إرادة سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى لوجهين: الأول أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومقصود الصحابي إنما هو بيان الشرعية ولا يخفى أن إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع. الثاني أن ذلك هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ السنة في كلام الصحابي لما ذكرناه في المسألة المتقدمة فكان الحمل عليه أولى. المسألة الخامسة إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا وكانوا يفعلون كذا وذلك كقول عائشة كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وكقول إبراهيم النخعي: كانوا يحذفون التكبير حذفاً فهو عند الأكثرين محمول على فعل الجماعة دون بعضهم خلافاً لبعض الأصوليين ويدل على مذهب الأكثرين أن الظاهر من الصحابي أنه إنما أورد ذلك في معرض الاحتجاج وإنما يكون ذلك حجة إن لو كان ما نقله مستنداً إلى فعل الجميع لأن فعل البعض لا يكون حجة على البعض الآخر ولا على غيرهم. فإن قيل لو كان ذلك مستنداً إلى فعل الجميع لكان إجماعاً ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد فيه وحيث سوغتم ذلك دل على عوده إلى البعض دون الكل. قلنا: تسويغ الاجتهاد فيه إنما كان لأن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظناً لا قطعاً وذلك كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان طريق اتباعه ظنياً وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد عندما إذا ثبت بطريق قاطع. وأما إن كان الراوي غير صحابي فمستنده في الرواية إما قراءة الشيخ لما يرويه عنه أو القراءة على الشيخ أو إجازة الشيخ له أو أن يكتب له كتاباً بما يرويه عنه أو يناوله الكتاب الذي يرويه عنه أو أن يرى خطاً يظنه خط الشيخ بأني سمعت عن فلان كذا. فإن كان مستنده في الرواية قراءة الشيخ فإما أن يكون الشيخ قد قصد إسماعه بالقراءة أو لم يقصد إسماعه بطريق من الطرق فإن قصد إسماعه بالقراءة أو مع غيره فهذا هو أعلى الرتب في الرواية وللراوي عنه أن يقول: حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول كذا وإن لم يقصد إسماعه فليس له أن يقول: حدثنا وأخبرنا لأنه يكون كاذباً في ذلك بل له أن يقول: قال فلان كذا وسمعته يقول كذا ويحدث بكذا ويخبر بكذا. وأما القراءة على الشيخ مع سكوت الشيخ من غير ما يوجب السكوت عن الإنكار من إكراه أو غفلة أو غير ذلك فقد اتفقوا على وجوب العمل به خلافاً لبعض أهل الظاهر لأنه لو لم تكن روايته صحيحة لكان سكوته عن الإنكار مع القدرة عليه فسقاً لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح وذلك بعيد عن العدل المتدين ثم اتفق القائلون بالصحة على تسليط الراوي على قوله: أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه واختلفوا في جواز قوله حدثنا وأخبرنا مطلقاً والأظهر امتناعه لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ وذلك من غير نطق منه كذب.
وأما إجازة الشيخ وذلك بأن يقول: أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي فقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة: فجوزه أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر المحدثين واتفق هؤلاء على تسليط الراوي على قوله: أجازني فلان كذا وحدثني وأخبرني إجازة واختلفوا في قوله: حدثني وأخبرني مطلقاً والذي عليه الأكثر وهو الأظهر أنه لا يجوز لأن ذلك يشعر بنطق الشيخ بذلك وهو كذب وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقاً وقال أبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة إنه إن كان المجيز والمجاز له قد علماً ما في الكتاب الذي أجاز روايته جازت روايته بقوله: أخبرني وحدثني وذلك كما لو كتب إنسان صكاً والشهود يرونه ثم قال لهم اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك فإنه يجوز لهم إقامة الشهادة عليه بما في ذلك الكتاب وإلا فلا والمختار إنما هو جواز الرواية بالإجازة وذلك لأن المجيز عدل ثقة والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقاً وهو بعيد عن العدل وإذا علمت الرواية أو ظنت بإجازته جازت الرواية عنه كما لو كان هو القارئ أو قرئ عليه وهو ساكت. فإن قيل إنه لم يوجد من المحدث فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله فلم يجز أن يقول الراوي عنه: أخبرني ولا حدثني لأنه يكون كذباً ولأنه قادر على أن يحدث به فحيث لم يحدث به دل على أنه غير صحيح عنده. قلنا: هذا باطل بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ فإنه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ولا ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ومع ذلك فإنه يجوز للراوي أن يقول: أخبرني وحدثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحة الحديث وعلى ما ذكرناه من الخلاف في الإجازة والخريف والمختار يكون الكلام فيما إذا ناوله كتاباً فيه حديث هو سماعه وقال له قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه وله أن يقول: ناولني فلان كذا وأخبرني وحدثني مناولة وكذلك الحكم أيضاً إذا كتب إليه بحديث وقال: أجزت لك روايته عني فإنه يدل على صحته ويسلط الراوي على أن يقول كاتبني بكذا وحدثني أو أخبرني بكذا كتابة ولو اقتصر على المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة لم تجز له الرواية إذ ليس في الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه ولا على صحة الحديث في نفسه. وأما رؤية خط الشيخ بأني سمعت من فلان كذا فلا يجوز مع ذلك الرواية عنه وسواء قال: هذا خطي أو لم يقل لأنه قد يكتب ما سمعه ثم يشكك فيه فلا بد من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقة إذ ليس لأحد رواية ما شك في روايته إجماعاً وعلى هذا فلو روى كتاباً عن بعض المحدثين وشك في حديث واحد منه غير معين لم تجز له رواية شيء منه لأنه ما من واحد ومن تلك الأحاديث إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه وكذلك لو روى عن جماعة حديثاً وشك في روايته عن بعضهم من غير تعيين فليس له الرواية عن واحد منهم لأنه ما من واحد إلا ويجوز أن يكون هو المشكوك في الرواية عنه والرواية مع الشك ممتنعة نعم لو غلب على ظنه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فهذا مما اختلف فيه فقال أبو حنيفة: لا تجوز روايته ولا العمل به لأنه حكم على المروي عنه بأنه حدثه به فلا يجوز مع عدم العلم كما في الشهادة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن: تجوز له الرواية والعمل به لأن ذلك مما يغلب على الظن صحته ولهذا فإن آحاد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون كتب الرسول إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها وكان يجب على كل أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنها من كتب الرسول وإن لم يكن ما فيها مما سمعه الحامل ولا المحمول إليه لكونها مغلبة على الظن ولا كذلك في الشهادة لأنه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر مثله في الرواية كما ذكرناه فيما تقدم وعلى هذا فلو قال عدل من عدول المحدثين عن كتاب من كتب الحديث إنه صحيح فالحكم في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما سبق فيما إذا ظن أنه يرويه مع الاتفاق على أنه لا تجوز روايته عنه بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه. القسم الرابع فيما اختلف في رد خبر الواحد به وفيه عشر مسائل: المسألة الأولى اختلفوا في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى دون اللفظ والذي عليه اتفاق الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والحسن البصري وأكثر الأئمة أنه يحرم ذلك على الناقل إذا كان غير عارف بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها وإن كان عالماً بذلك فالأولى له النقل بنفس اللفظ إذ هو أبعد عن التغيير والتبديل وسوء التأويل وإن نقله بالمعنى من غير زيادة في المعنى ولا نقصان منه فهو جائز. ونقل عن ابن سيرين وجماعة من السلف وجوب نقل اللفظ على صورته وهو اختيار أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة. ومنهم من فصل وقال بجواز إبدال اللفظ بما يرادفه ولا يشتبه الحال فيه ولا يجوز بما عدا ذلك والمختار مذهب الجمهور ويدل عليه النص والإجماع والأثر والمعقول. أما النص فما روي ابن مسعود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه فقال صلى الله عليه وسلم "إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث" وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقرراً لآحاد رسله إلى البلاد في إبلاغ أوامره ونواهيه بلغة المبعوث إليهم دون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو دليل الجواز. وأما الإجماع فما روي عن ابن مسعود أنه كان إذا حدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أو نحوه ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً. وأما الأثر فما روي عن مكحول أنه قال: دخلنا على واثلة بن الأسقع فقلنا حدثنا حديثاً ليس فيه تقديم ولا تأخير فغضب وقال لا بأس إذا قدمت وأخرت إذا أصبت المعنى. وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الإجماع منعقد على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم وإذا جاز الإبدال بغير العربية في تفهيم المعنى فالعربية أولى الثاني هو أنا نعلم أن اللفظ غير مقصود لذاته ونفسه ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر المعنى في الكرات المتعددة بألفاظ مختلفة بل المقصود إنما هو المعنى ومع حصول المعنى فلا أثر لاختلاف اللفظ. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول: أما النص فقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن العلماء بالعربية وأهل الاجتهاد قد يختلفون في معنى اللفظ الوارد مع اتحاده حتى إن كل واحد منهم قد يتنبه منه على ما لا يتنبه عليه الآخر وعند ذلك فالراوي وإن كان عالماً بالعربية واختلاف دلالات الألفاظ فقد يحمل اللفظ على معنى فهمه من الحديث مع الغفلة عن غير ذلك فإذا أتى بلفظ يؤدي المعنى الذي فهمه من اللفظ النبوي دون غيره مع احتمال أن يكون ما أخل به هو المقصود أو بعض المقصود فلا يكون وافياً بالغرض من اللفظ وربما اختل المقصود من اللفظ بالكلية بتقدير تعدد النقلة بأن ينقل كل واحد ما سمعه من الراوي الذي قبله بألفاظ غير ألفاظه على حسب ما يعقله من لفظه مع التفاوت اليسير في المعنى حتى ينتهي المعنى الأخير إلى مخالفة المعنى المقصود باللفظ النبوي بالكلية وهو ممتنع. الثاني أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم قول تعبدنا باتباعه فلا يجوز تبديله بغيره كالقرآن وكلمات الأذان والتشهد والتكبير والجواب عن النص من وجهين: الأول القول بموجبه وذلك لأن من نقل معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان يصح أن يقال أدى ما سمع كما سمع ولهذا يقال لمن ترجم لغة إلى لغة ولم يغير المعنى أدى ما سمع كما سمع ويدل على أن المراد من الخبر إنما هو نقل المعنى دون اللفظ ما ذكره من التعليل وهو اختلاف الناس في الفقه إذ هو المؤثر في اختلاف المعنى وأما الألفاظ التي لا يختلف اجتهاد الناس في قيام بعضها مقام بعض فذلك مما يستوي فيه الفقيه والأفقه ومن ليس بفقيه ولا يكون مؤثراً في تغيير المعنى. الثاني أن هذا الخبر بعينه يدل على جواز نقل الخبر بالمعنى دون اللفظ وذلك لأن الظاهر أن الخبر المروي حديث واحد والأصل عدم تكرره من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فقد روي بألفاظ مختلفة فإنه قد روي نضر الله امرأ ورحم الله امرأ ورب حامل فقه غير فقيه وروي لا فقه له.
وعن المعنى الأول من المعقول أن الكلام إنما هو مفروض في نقل المعنى من غير زيادة ولا نقصان حتى إنه لو ظهرت فيه الزيادة والنقصان لم يكن جائزاً وعن الثاني بالفرق بين ما نحن فيه وما ذكروه من الأصول المقيس عليها. أما القرآن فلأن المقصود من ألفاظه الإعجاز فتغييره مما يخرجه عن الإعجاز فلا يجوز ولا كذلك الخبر فإن المقصود منه المعنى دون اللفظ ولهذا فإنه لا يجوز التقديم والتأخير في القرآن وإن لم يختلف المعنى كما لو قال بدل اسجدي واركعي اركعي واسجدي ولا كذلك في الخبر. وأما كلمات الآذان والتشهد والتكبير فالمقصود منها إنما هو التعبد بها وذلك لا يحصل بمعناها والمقصود من الخبر هو المعنى دون اللفظ كيف وأنه ليس قياس الخبر على ما ذكروه أولى من قياسه على الشهادة حيث تجوز الشهادة على شهادة الغير مع اتحاد المعنى وإن كان اللفظ مختلفاً. المسألة الثانية إذا أنكر الشيخ رواية الفرع عنه فلا يخلو إما أن يكون إنكاره لذلك إنكار جحود وتكذيب للفرع أو إنكار نسيان وتوقف. فإن كان الأول فلا خلاف في امتناع العمل بالخبر لأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه ولا بد من كذب أحدهما وهو موجب للقدح في الحديث غير أن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين لأن كل واحد منهما عدل وقد وقع الشك في كذبه والأصل العدالة فلا تترك بالشك وتظهر فائدة ذلك في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الخبر. وأما إن كان الثاني فقد اختلفوا في قبول ذلك الخبر والعمل به: فذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل في أصح الروايتين عنه وأكثر المتكلمين إلى وجوب العمل به خلافاً للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ولأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى عنه ودليله الإجماع والمعقول. أما الإجماع فما روي أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى باليمين مع الشاهد ثم نسيه سهيل فكان يقول حدثني ربيعة عني أني حدثته عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه هكذا ولم ينكر عليه أحد من التابعين ذلك فكان إجماعاً منهم على جوازه. وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الفرع عدل وهو جازم بروايته عن الأصل والأصل غير مكذب له وهما عدلان فوجب قبول الرواية والعمل بها الثاني أن نسيان الأصل للرواية لا تزيد على موته وجنونه ولو مات أو جن كانت رواية الفرع عنه مقبولة ويجب العمل بها إجماعاً فكذلك إذا نسي. فإن قيل: أما الاستدلال بقضية ربيعة فلا حجة فيه لاحتمال أن سهيلاً ذكر الرواية برواية ربيعة عنه ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة ثم هو معارض بما روي أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أما تذكر يا أمير المؤمنين لما كنا في الأبل فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يكفيك أن تضرب بيديك" فلم يقبل عمر من عمار ما رواه مع كونه عدلاً عنده لما كان ناسياً له. وأما ما ذكرتموه من المعقول فالأصل وإن لم يكن مكذباً للفرع غير أن نسيانه لما نسب إليه يجب أن يكون مانعاً من العمل به كما لو ادعى مدع أن الحاكم حكم له بشيء فقال الحاكم: لا أذكر ذلك فأقام المدعي شاهدين شهداً بذلك فإنه لا يقبل وكذلك إذا أنكر شاهد الأصل شهادة الفرع عليه على سبيل النسيان فإن الشهادة لا تقبل. والجواب عن قولهم إن سهيلاً ذكر الرواية قلنا: لو كان كذلك لانطوى ذكر ربيعة وكان يروي عن شيخه كما لو نسي ثم تذكر بنفسه وأما رد عمر لرواية عمار عند نسيانه فليس نظيراً لما نحن فيه فإن عماراً لم يكن راوياً عن عمر بل عن النبي صلى الله عليه وسلم وحيث لم يعمل عمر بروايته فلعله كان شاكاً في روايته أو كأن ذلك كان مذهباً له فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين على ما سيأتي تقريره. وأما الحاكم إذا نسي ما حكم به وشهد شاهدان بحكمه فقد قال مالك وأبو يوسف: يلزمه الحكم بشهادتهما وعندنا وإن لم يجب عليه ذلك فهو واجب على غيره من القضاة.
وأما القياس على الشهادة فلا يصح لأن باب الشهادة أضيق من باب الرواية وقد اعتبر فيها من الشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية وذلك كاعتبار العدد والحرية والذكورة ولا يقبل فيها العنعنة ولا تصح الشهادة على الشهادة من وراء حجاب ولو قال أعلم بدل قوله أشهد لا يصح ولا كذلك في الرواية فامتنع القياس. المسألة الثالثة إذا روى جماعة من الثقات حديثاً وانفرد واحد منهم بزيادة في الحديث لا تخالف المزيد عليه كما لو روى جماعة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت وانفرد واحد منهم بزيادة فقال: دخل البيت وصلى فلا يخلو إما أن يكون مجلس الرواية مختلفاً بأن يكون المنفرد بالزيادة روايته عن مجلس غير مجلس الباقين أو أن مجلس الرواية متحد أو يجهل الأمران. فإن كان المجلس مختلفاً فلا نعرف خلافاً في قبول الزيادة لاحتمال أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل الزيادة في أحد المجلسين دون الآخر والراوي عدل ثقة ولم يوجد ما يقدح في روايته فكانت روايته مقبولة ولهذا فإنه لو روى حديثاً لم ينقله غيره مع عدم حضوره لم يقدح ذلك في روايته وكذلك لو شهد اثنان على شخص بألفي درهم لزيد في مجلس وشهدت بينة أخرى عليه في مجلس آخر بألف لا يكون ذلك قادحاً في الألف الزائدة مع أن باب الشهادة أضيق من باب الرواية كما قررنا. وأما إن اتحد المجلس فإن كان من لم يرو الزيادة قد انتهوا إلى عدد لا يتصور في العادة غفلة مثلهم عن سماع تلك الزيادة وفهمها فلا يخفى أن تطرق الغلط والسهو إلى الواحد فيما نقله من الزيادة يكون أولى من تطرق ذلك إلى العدد المفروض فيجب ردها وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فقد اتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على وجوب قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين ولأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ودليل ذلك أن الراوي عدل ثقة وقد جزم بالرواية وعدم نقل الغير لها فلاحتمال أن يكون من لم ينقل الزيادة قد دخل في أثناء المجلس وسمع بعض الحديث أو خرج في أثناء المجلس لطارئ أوجب له الخروج قبل سماع الزيادة وبتقدير أن يكون حاضراً من أول المجلس إلى آخره فلاحتمال أن يكون قد طرأ ما شغله عن سماع الزيادة وفهمها من سهو أو ألم أو جوع أو عطش مفرط أو فكرة في أمر مهم أو اشتغال بحديث مع غيره والتفات إليه أو أنه نسيها بعد ما سمعها ومع تطرق هذه الاحتمالات وجزم العدل بالرواية لا يكون عدم نقل غيره للزيادة قادحاً في روايته. فإن قيل: هذه الاحتمالات وإن كانت منقدحة في حق من لم يرو الزيادة فاحتمال الغلط والسهو على الناقل للزيادة أيضاً منقدح وذلك بأن يتوهم أنه سمع تلك الزيادة ولم يكن قد سمعها أو أنه سمعها من غير الرسول وتوهم سماعها من الرسول أو أنه ذكرها على سبيل التفسير والتأويل فظن السامع أنها زيادة في الحديث المروي وذلك كما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفى قال ابن عباس: ولا أحسب غير الطعام إلا كالطعام فأدرجه بعض الرواة في الحديث وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة" فظن الراوي أن الاستئناف إعادة للفرض الأول في المائة الأولى فقال: في كل خمس شاة وأدرج ذلك في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومع تعارض الاحتمالات فليس العمل بالزيادة أولى من تركها بل الترجيح بجانب الترك لوجهين: الأول أن احتمال تطرق الغلط والسهو على الواحد أكثر من احتمال تطرقه إلى الجماعة الثاني أن الترك على وفق النفي الأصلي والإثبات على خلافه فكان أولى ولهذا فإنه لو اجتمع المقومون على قيمة متلف وخالفهم واحد بزيادة في تقويمه في القيمة فإن الزيادة تلغي بالإجماع. والجواب عما عارضوا به من السهو في حق راوي الزيادة أنه وإن كان منقدحاً غير أن ما ذكرناه من الاحتمالات في حق من لم يرو الزيادة أكثر ولأن سهو الإنسان عما سمعه يكون أكثر من سهوه فيما لم يسمعه أنه سمعه.
وما ذكروه من الزيادة بناء على احتمال التفسير والتأويل وإن كان قائماً غير أنه في غاية البعد إذ الظاهر من حال العدل الثقة أنه لا يدرج في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس فيه لما فيه من التدليس والتلبيس ولو جوز مثل ذلك فما من حديث إلا ويمكن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال ويلزم من ذلك إبطال جميع الأحاديث. وما ذكروه من الترجيح الأول فغير مطرد فيما إذا كان عدد الناقل للزيادة مساوياً لعدد الآخرين وهو من جملة صور النزاع وبتقدير أن يكون أكثر فقد بينا أن الترجيح بجانب الواحد. وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بما إذا كانت الزيادة مقتضية لنفي حكم لولاها لثبت. وأما التقويم فحاصله يرجع إلى ظن وتخمين بطريق الاجتهاد ولا يخفى أن تطرق الخطأ في ذلك إلى الواحد أكثر من تطرقه إلى الجمع بخلاف الرواية فإنها لا تكون إلا بنقل ما هو محسوس بالسمع وتطرق الخطأ إليه بعيد. وأما إن جهل الحال في أن الرواية عن مجلس واحد أو مجالس مختلفة فالحكم على ما سبق فيما إذا اتحد المجلس وقبول الزيادة فيه أولى نظراً إلى احتمال اختلاف مجلس الرواية هذا كله فيما إذا لم تكن الزيادة مخالفة للمزيد عليه. وأما إن كانت مخالفة له بحيث لا يمكن الجمع بينهما فالظاهر التعارض خلافاً لبعض المعتزلة. وعلى هذا لو روى الواحد الزيادة مرة وأهملها مرة في حديث واحد فالتفصيل والحكم على ما تقدم فيما إذا تعددت الرواة فعليك بالاعتبار. وكذلك الخلاف فيما إذا أسند الخبر واحد وأرسله الباقون أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأوقفه الباقون على بعض الصحابة. المسألة الرابعة إذا سمع الراوي خبراً وأراد نقل بعضه وحذف بعضه فلا يخلو إما أن يكون الخبر متضمناً لأحكام لا يتعلق بعضها ببعض أو يتعلق بعضها ببعض. فإن كان الأول كقوله المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم فلا نعرف خلافاً في جواز نقل البعض وترك البعض فإن ذلك بمنزلة أخبار متعددة ومن سمع أخباراً متعددة فله رواية البعض دون البعض وإن كان الأولى إنما هو نقل الخبر بتمامه لقوله صلى الله عليه وسلم "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها". وإن كان الثاني وذلك بأن يكون الخبر مشتملاً على ذكر غاية كنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى تحوزه التجار إلى رحالهم وكنهيه عن بيع الثمار حتى تزهى أو شرط: كقوله: "من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة" أو استثناء: كقوله "لا تبيعوا البر بالبر إلى قوله إلا سواء بسواء" مثلاً بمثل فإذا ذكر بعض الخبر وقطعه عن الغاية أو الشرط أو الاستثناء فهو غير جائز لما فيه من تغيير الحكم وتبديل الشرع. المسألة الخامسة خبر الواحد إذا ورد موجباً للعمل فيما تعم به البلوى كخبر ابن مسعود في نقض الوضوء بمس الذكر وخبر أبي هريرة في غسل اليدين عند القيام من نوم الليل وخبره في رفع اليدين في الركوع والأكل في الصوم ناسياً ونحوه مقبول عند الأكثرين خلافا للكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ودليل ذلك النص والإجماع والمعقول والإلزام: أما النص فقوله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" "التوبة 122" أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين وإن كانت آحادا وهو مطلق فيما تعم به البلوى وما لا تعم ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة وتقريره كما سبق. وأما الإجماع فهو أن الصحابة اتفقت على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فمن ذلك ما روي عن ابن عمر أنه قال كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فانتهينا ومن ذلك رجوع الصحابة بعد اختلافهم في وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير إنزال إلى خبر عائشة وهو قولها إذا التقى الختانان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا ومن ذلك رجوع أبي بكر وعمر في سدس الجدة لما قال لها لا أجد لك في كتاب الله شيئاً إلى خبر المغيرة وهو قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم أطعمها السدس وصار ذلك إجماعاً.
وأما المعقول فمن وجهين: الأول أن الراوي عدل ثقة وهو جازم بالرواية فيما يمكن فيه صدقه وذلك يغلب على الظن صدقه فوجب تصديقه كخبره فيما لا تعم به البلوى الثاني أنه يغلب على الظن فكان واجب الاتباع كالقياس والمسألة ظنية فكان الظن فيها حجة. وأما الإلزام فهو أن الوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة في الصلاة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها فمن قبيل ما تعم به البلوى ومع ذلك فقد أثبتها الخصوم بأخبار الآحاد. فإن قيل لا نسلم إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فإن أبا بكر رد خبر المغيرة في الجدة. وما ذكرتموه من المعقول فمبني على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مظنون وليس كذلك وبيانه من وجهين. الأول أن ما تعم به البلوى كخروج الخارج من السبيلين ومس الذكر مما يتكرر في كل وقت فلو كانت الطهارة مما تنتقض به لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم إشاعته وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته حتى لا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الخلق وهم لا يشعرون فحيث لم ينقله سوى الواحد دل على كذبه. الثاني أن ذلك مما يكثر السؤال عنه والجواب والدواعي متوفرة على نقله فحيث انفرد به الواحد دل على كذبه كانفراد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق وطروء حادثة منعت الناس من صلاة الجمعة وإن الخطيب سب الله ورسوله على رأس المنبر إلى غير ذلك من الوقائع ولهذا فإنه لما كان القرآن مما تعم به البلوى بمعرفته امتنع إثباته بخبر الواحد. وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير مساوية في عموم البلوى لمس الذكر فلا تكون في معناه. والجواب عن رد أبي بكر بخبر المغيرة في الجدة أنه لم يكن مطلقاً ولهذا عمل به لما تابعه على ذلك محمد بن مسلمة وخبرهما غير خارج عن الآحاد وما ذكروه في الوجه الأول من التكذيب فإنما يصح أن لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مكلفاً بالإشاعة على لسان أهل التواتر وهو غير مسلم قولهم إنه يلزم من عدم ذلك إبطال صلاة أكثر الخلق لا نسلم فإن من لم يبلغه ذلك فالنقض غير ثابت في حقه ولا تكليف بمعرفة ما لم يقم عليه دليل. وما ذكروه في الوجه الثاني فإنما يلزم توفر الدواعي على نقله إن لو كان لا طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر وأما إذا كان طريق معرفة ذلك إنما هو الظن فخبر الواحد كاف فيه ولهذا جاز إثباته بالقياس إجماعاً وما استشهدوا به من الوقائع فغير مناظرة لما نحن فيه إذ الطباع مما تتوفر على نقلها وإشاعتها عادة فانفراد الواحد يدل على كذبه. ثم ما ذكروه من الوجهين منتقض عليهم حيث عملوا بأخبار الآحاد فيما ذكرناه من صور الإلزام ومس الذكر وإن كان أعم في الوقوع من تلك الصور فذلك لا يخرج تلك الصورة عن كونها واقعة في عموم البلوى. وأما القرآن فإنما امتنع إثباته بخبر الواحد لا لأنه مما تعم به البلوى بل لأنه المعجز في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وطريق معرفته متوقف على القطع ولذلك وجب على النبي إشاعته وإلغاؤه على عدد التواتر ولا كذلك ما نحن فيه فإن الظن كاف فيه ولذلك يجوز إثباته بالقياس وما عدا القرآن مما أشيع إشاعة اشترك فيها الخاص والعام كالعبادات الخمس وأصول المعاملات كالبيع والنكاح والطلاق والعتاق وغير ذلك من الأحكام مما كان يجوز أن لا يشيع فذلك إما بحكم الاتفاق وإما لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبداً بإشاعته والله أعلم. المسألة السادسة إذا روى الصحابي خبراً فلا يخلو إما أن يكون مجملاً أو ظاهراً أو نصاً قاطعاً في متنه.
فإن كان مجملاً مشتركاً بين محامل على السوية كلفظ القروء ونحوه فإن حمله الراوي على بعض محامله فإن قلنا إن اللفظ المشترك ظاهر العموم في جميع محامله كما سيأتي تقريره فهو القسم الثاني وسيأتي الكلام فيه وإن قلنا بامتناع حمله على جميع محامله فلا نعرف خلافاً في وجوب حمل الخبر على ما حمله الراوي عليه لأن الظاهر من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينطق باللفظ المجمل لقصد التشريع وتعريف الأحكام ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية تعين المقصود من الكلام والصحابي الراوي المشاهد للحال أعرف بذلك من غيره فوجب الحمل عليه ولا يبعد أن يقال بأن تعيينه لا يكون حجة على غيره من المجتهدين حتى ينظر فإن انقدح له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال وجب عليه اتباعه وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح فيجب اتباعه. وأما إن كان اللفظ ظاهراً في معنى وحمله الراوي على غيره فمذهب الشافعي وأبي الحسين الكرخي وأكثر الفقهاء أنه يجب الحمل على ظاهر الخبر دون تأويل الراوي ولهذا قال الشافعي كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث؟ وذهب بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم إلى وجوب العمل بمذهب الراوي وقال القاضي عبد الجبار إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز أن يكون قد صار إليه لدليل ظهر له من نص أو قياس وجب النظر إلى ذلك الدليل فإن كان مقتضياً لما ذهب إليه وجب المصير إليه وإلا فلا وهذا اختيار أبي الحسين البصري. والمختار أنه إن علم مأخذه في المخالفة وكان ذلك مما يوجب حمل الخبر على ما ذهب إليه الراوي وجب اتباع ذلك الدليل لا لأن الراوي عمل به فإنه ليس عمل أحد المجتهدين حجة على الآخر وإن جهل مأخذه فالواجب العمل بظاهر اللفظ وذلك لأن الراوي عدل وقد جزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل في وجوب العمل بالخبر ومخالفة الراوي له فيحتمل أنه كان لنسيان طرأ عليه ويحتمل أنه كان لدليل اجتهد فيه وهو مخطئ فيه أو هو مما يقول به دون غيره من المجتهدين كما عرف من مخالفة مالك لخبر خيار المجلس بما رآه من إجماع أهل المدينة على خلافه ويحتمل أنه علم ذلك علماً لا مراء فيه من قصد النبي له وإذا تردد بين هذه الاحتمالات فالظاهر لا يترك بالشك والاحتمال وعلى كل تقدير فبمخالفته للخبر لا يكون فاسقاً حتى يمتنع العمل بروايته وبهذا يندفع قول الخصم إنه إن أحسن الظن بالراوي وجب حمل الخبر على ما حمله عليه وإن أسيء به الظن امتنع العمل بروايته. وأما إن كان الخبر نصاً في دلالته غير محتمل للتأويل والمخالفة فلا وجه لمخالفة الراوي له سوى احتمال اطلاعه على ناسخ ولعله يكون ناسخاً في نظره ولا يكون ناسخاً عند غيره من المجتهدين وما ظهر في نظره لا يكون حجة على غيره وإذا كان ذلك محتملاً فلا يترك النص الذي لا احتمال فيه لأمر يحتمل. المسألة السابعة خبر الواحد العدل إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بخلافه فلا يرد له الخبر إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت عمومه أو كان داخلاً تحت عمومه لكنه قام الدليل على أن ما فعله من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد وإن لم يكن من خواصه فيجب العمل بالراجح من الفعل أو الخبر إن تعذر تخصيص أحدهما بالآخر وإن عمل بخلافه أكثر الأمة فهم بعض الأمة فلا يرد الخبر بذلك إجماعاً وإن خالف باقي الحفاظ للراوي فيما نقله. فالمختار الوقف في ذلك نظراً إلى أن تطرق السهو والخطأ إلى الجماعة وإن كان أبعد من تطرقه إلى الواحد غير أن تطرق السهو إلى ما لم يسمع أنه سمع أبعد من تطرق السهو إلى ما سمع أنه لم يسمع. المسألة الثامنة اتفقت الشافعية والحنابلة وأبو يوسف وأبو بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة وأكثر الناس على قبول خبر الواحد فيما يوجب الحد وفي كل ما يسقط بالشبهة خلافاً لأبي عبد الله البصري والكرخي ودليل ذلك أنه يغلب على الظن فوجب قبوله لقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" ولأنه حكم يجوز إثباته بالظن بدليل ثبوته بالشهادة وبظاهر الكتاب فجاز إثباته بخبر الواحد كسائر الأحكام الظنية والمسألة ظنية فكان الظن كافياً فيها وسقوطه بالشبهة لو كان لكان مانعاً من الأعمال والأصل عدم ذلك وعلى من يدعيه بيانه. فإن قيل: خبر الواحد مما يدخله احتمال الكذب فكان ذلك شبهة في درء الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" فهو باطل بإثباته بالشهادة فإنها محتملة للكذب ومع ذلك يثبت بها. المسألة التاسعة خبر الواحد إذا خالف القياس فإما أن يتعارضا من كل وجه بأن يكون أحدهما مثبتاً لما نفاه الآخر أو من وجه دون وجه بأن يكون أحدهما مخصصاً للآخر. فإن كان الأول فقد قال الشافعي رضي الله عنه وأحمد بن حنبل والكرخي وكثير من الفقهاء أن الخبر مقدم على القياس وقال أصحاب مالك: يقدم القياس وقال عيسى بن أبان: إن كان الراوي ضابطاً عالماً غير متساهل فيما يرويه قدم خبره على القياس وإلا فهو موضع اجتهاد. وفضل أبو الحسين البصري فقال: علة القياس الجامعة أن تكون منصوصة أو مستنبطة: فإن كانت منصوصة فالنص عليها إما أن يكون مقطوعاً به أو غير مقطوع: فإن كان مقطوعاً به وتعذر الجمع بينهما وجب العمل بالعلة لأن النص على العلة كالنص على حكمها وهو مقطوع به وخبر الواحد مظنون فكانت مقدمة. وإن لم يكن النص على العلة مقطوعاً به ولا حكمها في الأصل مقطوعاً به فيجب الرجوع إلى خبر الواحد لاستواء النصين في الظن واختصاص خبر الواحد بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة بخلاف النص الدال على العلة فإنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة وإن كان حكمها ثابتاً قطعاً فذلك موضع الاجتهاد. وإن كانت العلة مستنبطة فحكم الأصل إما أن يكون ثابتاً بخبر واحد أو بدليل مقطوع به فإن كان ثابتاً بخبر واحد فالأخذ بالخبر أولى وإن كان ثابتاً قطعاً قال فينبغي أن يكون هذا موضع الاختلاف بين الناس ومختاره أنه مجتهد فيه وقال القاضي أبو بكر بالوقف. والمختار في ذلك أن يقال: إما أن يكون متن خبر الواحد قطعياً أو ظنياً فإن كان متنه قطعياً فعلة القياس إما أن تكون منصوصة أو مستنبطة فإن كانت منصوصة وقلنا إن التنصيص على علة القياس لا يخرجه عن القياس فالنص الدال عليها إما أن يكون مساوياً في الدلالة لخبر الواحد أو راجحاً عليه أو مرجوحاً: فإن كان مساوياً فخبر الواحد أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة ودلالة نص العلة على حكمها بواسطة. وإن كان مرجوحاً فخبر الواحد أولى مع دلالته على الحكم من غير واسطة وإن كان راجحاً على خبر الواحد فوجود العلة في الفزع إما أن يكون مقطوعاً به أو مظنوناً فإن كان مقطوعاً فالمصير إلى القياس أولى وإن كان وجودها فيه مظنوناً فالظاهر الوقف لأن نص العلة وإن كان في دلالته على العلة راجحاً غير أنه إنما يدل على الحكم بواسطة العلة وخبر الواحد لا بواسطة فاعتدلا. وأما إن كانت العلة مستنبطة فالخبر مقدم على القياس مطلقاً ودليله النص والإجماع والمعقول. أما النص فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ حيث بعثه إلى اليمن قاضياً بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو أخر العمل بالقياس عن السنة من غير تفصيل بين المتواتر والآحاد والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله.
وإما الإجماع فهو أن عمر رضي الله عنه ترك القياس في الجنين لخبر حمل ابن مالك وقال لولا هذا لقضينا فيه برأينا وأيضاً ما روي عنه أنه ترك القياس في تفريق دية الأصابع على قدر منافعها بخبر الواحد الذي روى في كل إصبع عشر من الإبل وترك اجتهاده وأيضاً فإنه ترك اجتهاده في منع ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الواحد وقال أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وكان ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعاً. وأما المعقول فهو أن خبر الواحد راجح على القياس وأغلب على الظن فكان مقدماً عليه وبيان ذلك أن الاجتهاد في الخبر واحتمال الخطأ فيه أقل من القياس لأن خبر الواحد لا يخرج الاجتهاد فيه عن عدالة الراوي وعن دلالته على الحكم وعن كونه حجة معمولاً بها فهذه ثلاثة أمور. وأما القياس فإنه إن كان حكم أصله ثابتاً بخبر الواحد فهو مفتقر إلى الاجتهاد في الأمور الثلاثة وبتقدير أن يكون ثابتاً بدليل مقطوع به فيفتقر إلى الاجتهاد في كون الحكم في الأصل مما يمكن تعليله أو لا وبتقدير إمكان تعليله فيفتقر إلى الاجتهاد في إظهار وصف صالح للتعليل وبتقدير ظهور وصف صالح يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض له في الأصل وبتقدير سلامته عن ذلك يفتقر إلى الاجتهاد في وجوده في الفرع وبتقدير وجوده فيه يفتقر إلى الاجتهاد في نفي المعارض في الفرع من وجود مانع أو فوات شرط وبتقدير انتفاء ذلك يحتاج إلى النظر في كونه حجة. فهذه سبعة أمور لا بد من النظر فيها وما يفتقر في دلالته إلى بيان ثلاثة أمور لا غير فاحتمال الخطأ فيه يكون أقل احتمالاً من احتمال الخطأ فيما يفتقر في بيانه إلى سبعة أمور فكان خبر الواحد أولى. وربما قيل في ترجيح خبر الواحد هاهنا وجوه أخر واهية آثرنا الإعراض عن ذكرها لظهور فسادها بأول نظر. فإن قيل: أما ما ذكرتموه من خبر معاذ فقد خالفتموه فيما إذا كانت العلة الجامعة في القياس مقطوعاً بعليتها وبوجودها في الفرع كما تقدم. وما ذكرتموه من الإجماع على تقديم خبر الواحد على القياس فغير مسلم فإن ابن عباس قد خالف في ذلك حيث إنه لم يقبل خبر أبي هريرة فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً" لكونه مخالفاً للقياس وأيضاً فإنه رد خبر أبي هريرة في التوضي مما مست النار بالقياس وقال ألسنا نتوضأ بماء الحميم فكيف نتوضأ بما عنه نتوضأ؟. وأما ما ذكرتموه من الترجيح فهو معارض لما يتطرق إلى الخبر من احتمال كذب الراوي وأن يكون في نفسه كافراً أو فاسقاً أو مخطئاً واحتمال الإجمال في دلالة الخبر والتجوز والإضمار والنسخ وكل ذلك غير متطرق إلى القياس وأيضاً فإن القياس يجوز به تخصيص عموم الكتاب وهو أقوى من خبر الواحد فكان ترك خبر الواحد بالقياس أولى وأيضاً فإن الظن بالقياس يحصل للمجتهد من جهة نفسه واجتهاده والظن الحاصل من خبر الواحد يحصل له من جهة غيره وثقة الإنسان بنفسه أتم من ثقته بغيره وأيضاً فإن خبر الواحد بتقدير إكذاب المخبر لنفسه يخرج الخبر عن كونه شرعياً ولا كذلك القياس. والجواب: قولهم إنكم خالفتم خبر معاذ قلنا: غايته أنا خصصناه في صورة لمعنى لم يوجد فيما نحن فيه فبقينا عاملين بعمومه فيما عدا تلك الصورة. قولهم إن ابن عباس قد رد خبر أبي هريرة بالقياس فيما ذكروه ليس كذلك أما رده لخبر غسل اليدين فإنما يمكن الاحتجاج به أن لو كان قد رده لمخالفة القياس المقتضي لجواز غسل اليدين من ذلك الإناء وليس كذلك. أما أولاً فلأنا لا نسلم وجود القياس المقتضي لذلك وبتقدير تسليمه فهو إنما رده لا للقياس بل لأنه لا يمكن الأخذ به ولهذا قال ابن عباس فماذا تصنع بالمهراس والمهراس كان حجراً عظيماً يصب فيه الماء لأجل الوضوء فاستبعد الأخذ بالخبر لاستبعاده صب الماء من المهراس على اليد وقد وافق ابن عباس على ما تخيله من الاستبعاد عائشة حيث قالت: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلاً مهذاراً فماذا يصنع بالمهراس؟.
وأما تركه لخبر التوضي مما مست النار فلم يكن بالقياس بل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل كتف شاة مصلية وصلى ولم يتوضأ ثم ذكر القياس بعد معارضته بالخبر وأما ما ذكروه من ترجيحات القياس على خبر الواحد فمندفعة. أما تطرق احتمال الكذب والكفر والفسق والخطأ إلى الراوي وإن كان منقدحاً فمثله متطرق إلى دليل حكم الأصل إذا كان ثابتاً بخبر الواحد وهو من جملة صور النزاع وبتقدير ثبوته بدليل مقطوع به فلا يخفى أن تطرق ذلك إلى من ظهرت عدالته وإسلامه أبعد من تطرق الخطأ إلى القياس في اجتهاده فيما ذكرناه من احتمالات الخطأ في القياس لكونه معاقباً على الكذب والكفر والفسق بخلاف الخطأ في الاجتهاد فإنه غير معاقب عليه بل مثاب. وما ذكروه من تطرق التجوز والاشتراك والنسخ إلى خبر الواحد فذلك مما لا يوجب ترجيح القياس عليه بدليل الظاهر من الكتاب والسنة المتواترة فإن جميع ذلك متطرق إليه وهو مقدم على القياس. قولهم إن القياس يجوز تخصيص عموم الكتاب به قلنا وكذلك خبر الواحد فلا ترجيح من هذه الجهة كيف وإنه لا يلزم من تخصيص الكتاب بالقياس مع أنه غير معطل للكتاب أن يكون معطلاً لخبر الواحد بالكلية إذ الكلام مفروض فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما. وقولهم إن الظن من القياس يحصل له من جهة نفسه بخلاف خبر الواحد قلنا: إلا أن تطرق الخطأ إليه أقرب من تطرقه إلى خبر الواحد لما سبق تقريره. وقولهم إن الخبر يخرج عن كونه شرعياً بإكذاب المخبر لنفسه بخلاف القياس قلنا: وبتقدير الخطأ في القياس يخرج عن كونه قياسياً شرعياً فاستويا كيف وإن الترجيح للخبر من جهات أخرى غير ما ذكرناها أولا وهو أنه مستند إلى كلام المعصوم بخلاف القياس فإنه مستند إلى اجتهاد المجتهد وهو غير معصوم وأيضاً فإن القياس مفتقر إلى جنس النص في إثبات حكم الأصل وفي كونه حجة وخبر الواحد يصير قطعياً بما يعتضد به من جنسه حتى يصير متواتراً ولا كذلك القياس فإنه لا ينتهي إلى القطع بما يعتضد به من جنس الأقيسة أصلاً فكان أولى هذا كله فيما إذا تعارضا وتعذر الجمع بينهما. وأما إن كان أحدهما أعم من الآخر فإن كان الخبر هو الأعم جاز أن يكون القياس مخصصاً له على ما سيأتي في تخصيص العموم وإن كان القياس أعم من خبر الواحد فإن قلنا إن العلة لا تبطل بتقدير تخصيصها وجب العمل بخبر الواحد فيما دل عليه وبالقياس فيما عدا ذلك جمعاً بينهما وإن قلنا بأن العلة تبطل بتقدير تخصيصها فالحكم فيها على ما عرف فيما إذا تعذر الجمع بين القياس وخبر الواحد. المسألة العاشرة اختلفوا في قبول الخبر المرسل وصورته ما إذا قال من لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدلا قال رسول الله. فقبله أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل في أشهر الروايتين عنه وجماهير المعتزلة كأبي هاشم وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقاً دون من عدا هؤلاء وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه قال: إن كان المرسل من مراسيل الصحابة أو مرسلاً قد أسنده غير مرسله أو أرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ الأول أو عضده قول صحابي أو قول أكثر أهل العلم أو أن يكون المرسل قد عرف من حاله أنه لا يرسل عمن فيه علة من جهالة أو غيرها كمراسيل ابن المسيب فهو مقبول وإلا فلا ووافقه على ذلك أكثر أصحابه والقاضي أبو بكر وجماعة من الفقهاء والمختار قبول مراسيل العدل مطلقاً ودليله الإجماع والمعقول.
أما الإجماع فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على قبول المراسيل من العدل: أما الصحابة فإنهم قبلوا أخبار عبد الله بن عباس مع كثرة روايته وقد قيل إنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما الربا في النسيئة وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة قال في الخبر الأول لما روجع فيه أخبرني به أسامة بن زيد وقال في الخبر الثاني أخبرني به أخي الفضل بن عباس وأيضاً ما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صلى على جنازة فله قيراط" وأسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة وأيضاً ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أصبح جنباً في رمضان فلا صوم له" وقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمد قاله فلما روجع فيه قال حدثني به الفضل بن عباس وأيضاً ما روي عن البراء بن عازب أنه قال: ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه. وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي إذا حدثتني فأسند فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني وإذا قلت لك حدثني عبد الله فقد حدثني جماعة عنه وأيضاً ما روي عن الحسن أنه روى حديثاً فلما روجع فيه قال: أخبرني به سبعون بدرياً ويدل على ذلك ما اشتهر من إرسال ابن المسيب والشعبي وغيرهما ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعاً. وأما المعقول فهو أن العدل الثقة إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا مظهراً للجزم بذلك فالظاهر من حاله أنه لا يستجيز ذلك إلا وهو عالم أو ظان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك فإنه لو كان ظاناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله أو كان شاكاً فيه لما استجاز في دينه النقل الجازم عنه لما فيه من الكذب والتدليس على المستمعين وذلك يستلزم تعديل من روى عنه وإلا لما كان عالماً ولا ظاناً بصدقه في خبره فإن قيل: لا نسلم الإجماع ودليله من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المسألة اجتهادية والإجماع قاطع فلا يساعد في مسائل الاجتهاد وأما من جهة التفصيل فهو أن غاية ما ذكر مصير بعض الصحابة أو التابعين إلى الإرسال وليس في ذلك ما يدل على إجماع الكل. قولكم: لم ينكر ذلك منكر لا نسلم ذلك ولهذا باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة في ذلك حتى أسند كل واحد ما أخبر به وقال ابن سيرين: لا نأخذ بمراسيل الحسن وأبي العالية وإن سلمنا عدم النكير فغايته أنهم سكتوا والسكوت لا يدل على الموافقة لما سبق تقريره في مسائل الإجماع سلمنا الموافقة غير أن الإرسال المحتج بوقوعه إنما وقع من الصحابة والتابعين ونحن نقول بذلك لأن الصحابي والتابعي إنما يروي عن الصحابي والصحابة عدول على ما سبق تحقيقه. وأما ما ذكرتموه من المعقول فلا نسلم أن قول الراوي قال رسول الله تعديل للمروي عنه وذلك لأنه قد يروي الشخص عمن لو سئل عنه لجرحه أو توقف فيه فالراوي ساكت عن التعديل والجرح والسكوت عن الجرح لا يكون تعديلاً وإلا كان السكوت عن التعديل جرحاً ولهذا فإن شاهد الفرع لو أرسل شهادة الأصل فإنه لا يكون تعديلا لشاهد الأصل لما ذكرناه. قولكم: لو لم يكن ظاناً لعدالة المروي عنه أو عالماً بها لما جاز له أن يجزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: قد بينا إمكان الرواية عن الكاذب والجزم بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مع تجويز كذب الراوي وذلك قادح في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإذا تعذر الجزم فليس حمل قوله قال على معنى أظن أنه قال أولى من حمله على أني سمعت أنه قال ولو حمل على أني سمعت أنه قال لم يكن ذلك تعديلاً وعلى هذا فلا يكون بروايته مدلساً ولا ملبساً. سلمنا أن الإرسال تعديل للمروي عنه ولكن لا نسلم أن مطلق التعديل مع قطع النظر عن ذكر أسباب العدالة كاف في التعديل كما سبق.
سلمنا أن مطلق التعديل كاف لكن إذا عين المروي عنه ولم يعرف بفسق وأما إذا لم يعينه فلعله اعتقده عدلاً في نظره ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يطلع المعدل عليه ولهذا لم يقبل تعديل شاهد الفرع لشاهد الأصل مع عدم تعيينه. سلمنا دلالة ما ذكرتموه على التعديل لكنه معارض بما يدل على عدم التعديل وبيانه من ستة أوجه. الأول أن الجهالة بعين الراوي آكد من الجهل بصفته وذلك لأن من جهلت ذاته فقد جهلت صفته ولا كذلك بالعكس ولو كان معلوم العين مجهول الصفة لم يكن خبره مقبولاً فإذا كان مجهول العين والصفة أولى أن لا يكون خبره مقبولاً. الثاني أن من شرط قبول الرواية المعرفة بعدالة الراوي والمرسل لا يعرف عدالة الراوي له فلا يكون خبره مقبولاً لفوات الشرط. الثالث هو أن الخبر كالشهادة في اعتبار العدالة وقد ثبت أن الإرسال في الشهادة مانع من قبولها فكذلك الخبر. الرابع أنه لو جاز العمل بالمراسيل لم يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم معنى. الخامس أنه لو وجب العمل بالمراسيل لزم في عصرنا هذا أن يعمل بقول الإنسان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وإن لم يذكر الرواة وهو ممتنع. السادس أن الخبر خبران: تواتر وآحاد ولو قال الراوي: أخبرني من لا أحصيهم عدداً لا يقبل قوله في التواتر فكذلك في الآحاد. والجواب قولهم: الإجماع لا يساعد في مسائل الاجتهاد قلنا: الذي لا يساعد إنما هو الإجماع القاطع في متنه وسنده وما ذكرناه من الإجماع السكوتي فظني فلا يمتنع التمسك به في مسائل الاجتهاد كالظاهر من الكتاب والسنة قولهم: لا نسلم عدم الإنكار قلنا: الأصل عدمه. قولهم: إنهم باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة قلنا: المراجعة في ذلك لا تدل على إنكار الإرسال بل غايته طلب زيادة علم لم تكن حاصلة بالإرسال وقول ابن سيرين ليس إنكاراً للإرسال مطلقاً بل إرسال الحسن وأبي العالية لا غير لظنه أنهما لم يلتزما في ذلك تعديل المروي عنه ولهذا قال فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث منه لا على الإرسال. قولهم: السكوت لا يدل على الموافقة قلنا: وإن لم يدل عليها قطعاً فهو دليل عليها ظناً كما سبق تقريره في الإجماع. قولهم: نحن لا ننكر أن إرسال الصحابة والتابعين حجة قلنا إنما يصح ذلك أن لو كانوا لا يروون إلا عن الصحابي العدل وليس كذلك ولهذا قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله: حدثني به بعض الحرسية. قولهم: لا نسلم أن قول الراوي قال رسول الله تعديل للمروي عنه قلنا: دليله ما سبق. قولهم إن الراوي قد يروي عمن لو سئل عنه لجرحه أو عدله قلنا: ذلك إنما يكون فيما إذا كان قد عين الراوي ووكل النظر فيه إلى المجتهدين ولم يجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا بل غايته أنه قال: قال فلان إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وأما إذا لم يعين فالظاهر أنه لا يجزم بقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد علم أو ظن عدالة الراوي على ما سبق. وأما إرسال الشهادة فلا يلزم من عدم قبولها عدم قبول الإرسال في الرواية لأن الشهادة قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم يعتبر في الرواية كما سبق تقريره. قولهم: إن الجزم مع تجويز كذب من روي عنه كذب قلنا إنما يكون كذباً إن لو ظن أو علم أنه كاذب وأما إذا قال ذلك مع ظن الصدق فلا يكون كاذباً وإن احتمل في نفس الأمر أن يكون المروي عنه كاذباً كما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العنعنة. قولهم: سلمنا أن الإرسال من الراوي تعديل للمروي عنه لكنه تعديل مطلق فلا يكون حجة موجبة للعمل به على الغير قلنا: قد بينا أن التعديل المطلق دون تعيين سببه كاف فيما تقدم. قولهم: لعله اعتقده عدلاً ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يعرفه المعدل قلنا: وإن كان ذلك محتملاً غير أن الظاهر عدمه ولا سيما مع تعديل العدل العالم بأحوال الجرح والتعديل وعدم الظفر بما يوجب الجرح وأما اعتبار الرواية بالشهادة فقد عرف وجه الفارق فيهما. وما ذكروه من المعارضة الأولى فإنما يصح أن لو كان يلزم من الجهل بعين الراوي الجهل بصفته مطلقاً وليس كذلك مما بيناه من أن الإرسال يدل على تعديله من جهة الجملة وإن جهلت عينه وبهذا يبطل ما ذكروه من المعارضة الثانية.
وأما المعارضة الثالثة فقد عرف جوابها بالفرق بين الرواية والشهادة. وأما المعارضة الرابعة فجوابها ببيان فائدة ذكر الراوي وذلك من وجهين: الأول أن الراوي قد يشتبه عليه حال المروي عنه فيعينه ليكل النظر في أمره إلى المجتهد بخلاف ما إذا أرسل. الثاني أنه إذا عين الراوي فالظن الحاصل للمجتهد بفحصه بنفسه عن حاله يكون أقوى من الظن الحاصل له بفحص غيره. وأما المعارضة الخامسة فمندفعة أيضاً فإنه مهما كان المرسل للخبر في زماننا عدلاً ولم يكذبه الحفاظ فهو حجة. وأما المعارضة السادسة فإنما لم يصر الخبر بقول الواحد متواتراً لأن المتواتر يشترط فيه استواء طرفيه ووسطه والواحد ليس كذلك فلا يحصل بخبره التواتر. وإذا عرف أن المرسل مقبول من العدل فمن لم يقل به كالشافعي فقد قيل إنه لا معنى لقوله إنه يكون مقبولاً إذا أسنده غير المرسل أو أسنده المرسل مرة لأن الاعتماد في ذلك إنما هو على الإسناد لا على الإرسال ولا معنى لقوله إنه يكون مقبولاً إذا أرسله اثنان وكانت مشايخها مختلفة لأن ضم الباطل إلى الباطل غير موجب للقبول وليس بحق لأن الظن الحاصل بصدق الراوي من الإرسال مع هذه الأمور أقوى منه عند عدمها. وعلى هذا فلا يلزم من عدم الاحتجاج بأضعف الظنين عدم الاحتجاج بأقواهما. وإذا عرف الخبر المقبول وغير المقبول فإذا تعارض خبران مقبولان فالعمل بأحدهما متوقف على الترجيح وسيأتي في قاعدة الترجيحات بأقصى الممكن إن شاء الله تعالى. النوع الثاني فيما يتعلق بالنظر في المتن وفيه بابان: أولهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع وثانيهما: فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة. الباب الأول فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع وكل واحد من هذه الأصول الثلاثة إما أن يدل على المطلوب بمنظومه أو لا بمنظومه فلنفرض في كل واحد منها قسماً. القسم الأول في دلالات المنظوم وهي تسعة أصناف. الصنف الأول في الأمر وفيه أربعة أبحاث: أولها فيما يدل اسم الأمر عليه حقيقة وثانيها في حد الأمر الحقيقي وثالثها في صيغة الأمر الدالة عليه ورابعها في مقتضاه. البحث الأول: فيما يطلق عليه اسم الأمر حقيقة. فنقول اتفق الأصوليون على أن اسم الأمر حقيقة في القول المخصوص وهو قسم من أقسام الكلام ولذلك قسمت العرب الكلام إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد ونداء وسواء قلنا إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس أو العبارة الدالة بالوضع والاصطلاح على اختلاف المذاهب والكلام القديم النفساني عندنا وإن كان صفة واحدة لا تعدد فيه في ذاته غير أنه يسمى أمراً ونهياً وخبراً إلى غير ذلك من أقسام الكلام بسبب اختلاف تعلقاته ومتعلقاته كما سبق تقريره في أبكار الأفكار فلا يمتنع أن يكون الأمر قسماً من أقسامه بهذا التفسير وإنما وقع الخلاف بينهم في إطلاق اسم الأمر على الفعل هل هو حقيقة أولاً؟ والأكثرون على أنه مجاز واختيار أبي الحسين البصري أنه مشترك بين الشيء والصفة وبين جملة الشأن والطرائق ووافق على أنه ليس حقيقة في نفس الفعل من حيث هو فعل بل من حيث هو شيء. وها نحن نذكر حجج كل فريق وننبه على ما فيها ونذكر بعد ذلك ما هو المختار. أما حجة أبي الحسين البصري على ما ذهب إليه أن الإنسان إذا قال هذا أمر لم يدر السامع مراده من قوله إلا بقرينة وهو غير صحيح لكونه مصادراً بدعوى التردد في إطلاق اسم الأمر ولا يخفى ظهور المنع من مدعي الحقيقة في القول المخصوص وأنه مهما أطلق اسم الأمر عنده كان المتبادر إلى فهمه القول المخصوص وأنه لا ينصرف إلى غيره إلا بقرينة ولا يخفى امتناع تقرير التردد مع هذا المنع. وأما حجج القائلين بكونه مجازاً في الفعل فكثيرة الأولى منها أنه لو كان حقيقة في الفعل مع كونه حقيقة في القول لزم منه الاشتراك في اللفظ وهو خلاف الأصل لكونه مخلاً بالتفاهم لاحتياجه في فهم المدلول المعين منه إلى قرينة وعلى تقدير خفائها لا يحصل المقصود من الكلام. الثانية أنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد في كل فعل إذ هو لازم الحقيقة ولهذا فإنه لما كان إطلاق اسم العالم على من قام به العلم حقيقة اطرد في كل من قام به العلم ولما كان قوله: "واسأل القرية" "يوسف 82" مجازاً عن أهلها لما بينهما من المجاورة لم يصح التجوز بلفظ السؤال للبساط والكوز عن صاحبه وإن كانت الملازمة بينهما أشد وهو غير مطرد إذ لا يقال للأكل والشرب أمر. الثالثة أنه لو كان حقيقة في الفعل لاشتق لمن قام به منه اسم الآمر كما في القول المخصوص إذ هو الأصل إلا أن يمنع مانع من جهة أهل اللغة كما اشتقوا اسم القارورة للزجاجة المخصوصة من قرار المائع فيها ومنعوا من ذلك في الجرة والكوز ولم يرد مثله فيما نحن فيه. الرابعة أن جمع الأمر الحقيقي في القول المخصوص بأوامر وهو لازم له لنفس الأمر لا للمسمى وهو غير متحقق في الفعل بل إن جمع فإنما يجمع بأمور. الخامسة أن الأمر الحقيقي له متعلق وهو المأمور وهو غير متحقق في الفعل فإنه وإن سمي أمراً فلا يقال له مأمور ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم. السادسة أن من لوازم الأمر الحقيقي وصفه بكونه مطاعاً أو مخالفاً ولا كذلك الفعل. وفي هذه الحجج نظر: أما الأولى فلقائل أن يقول: لا نسلم أنه يلزم من كونه حقيقة في الفعل أن يكون مشتركاً إذا أمكن أن يكون حقيقة فيهما باعتبار معنى مشترك بين القول المخصوص والفعل فيكون متواطئاً فإن قيل: الأصل عدم ذلك المسمى المشترك فلا تواطئ قيل: لا خفاء باشتراكهما في صفات وافتراقهما في صفات فأمكن أن يكون بعض الصفات المشتركة هو المسمى كيف وإن الأصل أن لا يكون اللفظ مشتركاً ولا مجازاً لما فيه من الافتقار إلى القرينة المخلة بالتفاهم وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. فإن قيل: ما وقع به الاشتراك لا يخرج عن الموجود والصفة والشيئية وغير ذلك وأي أمر قدر الاشتراك فيه فهو متحقق في النهي وسائر أقسام الكلام ولا يسمى أمراً والقول بأنه متواطئ ممتنع كيف وإن القائل قائلان: قائل إنه مشترك وقائل إنه مجاز في الفعل فإحداث قول ثالث يكون خرقاً للإجماع وهو ممتنع. قلنا: أما الأول فغير صحيح وذلك أن مسمى اسم الأمر إنما هو الشأن والصفة وكل ما صدق عليه ذلك كان نهياً أو غيره؟ فإنه يسمى أمراً حقيقة وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من خرق الإجماع فإن ما ذكرناه من جعل الشأن والصفة مدلولاً لاسم الأمر فمن جملة ما قيل وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى الاشتراك ولكن لم قيل بامتناعه والقول بأنه مجاز بالتفاهم لافتقاره إلى القرينة وإنما يصح أن لو لم يكن اللفظ المشترك عند إطلاقه محمولاً على جميع محامله وليس كذلك على ما سيأتي تقديره في مذهب الشافعي والقاضي أبي بكر سلمنا أنه خلاف الأصل غير أن التجوز أيضاً خلاف الأصل وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. فإن قيل: إلا أن محذور الاشتراك أعظم من محذور التجوز فكان المجاز أولى وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن المجاز أغلب في لغة العرب من الاشتراك ولولا أنه أوفى بتحصيل مقصود الوضع لما كذلك. وأما التفصيل فمن وجهين: الأول أن المحذور اللازم من الاشتراك بافتقاره إلى القرينة لازم له أبداً بخلاف المجاز فإن المحذور إنما يلزمه بتقدير إرادة جهة المجاز وهو احتمال نادر إذ الغالب إنما هو إرادة جهة الحقيقة. الثاني أن المحذور لازم في المشترك في كل محمل من محامله لافتقاره إلى القرينة في كل واحد منها بخلاف المجاز فإنه إنما يفتقر إلى القرينة بتقدير إرادة جهة المجاز لا بتقدير إرادة جهة الحقيقة. قيل هذا معارض من عشرة أوجه: الأول أن المشترك لكونه حقيقة في كل واحد من مسمياته مما يطرد بخلاف المجاز كما سبق وما يطرد أولى لقلة اضطرابه. الثاني أنه يصح منه الاشتقاق لكونه حقيقة بخلاف المجاز فكان أوسع في اللغة وأكثر فائدة. الثالث أنه لكونه حقيقياً مما يصح التجوز به في غير محله الحقيقي بخلاف المجاز فكان أولى لكثرة فائدته. الرابع أنه وإن افتقر إلى قرينة لكن يكفي أن يكون أدنى ما يغلب على الظن بخلاف المجاز لافتقاره إلى قرينة مغلبة على الظن وأن تكون راجحة على جهة ظهور اللفظ في حقيقته فكان تمكن الخلل منه لذلك أكثر.
الخامس أن المجاز لا بد فيه من علاقة بينه وبين محل الحقيقة تكون مصححة للتجوز باللفظ على ما سلف بخلاف المشترك. السادس أن المجاز لا يتم فهمه دون فهم محل الحقيقة ضرورة كونه مستعاراً منه وفهم كل واحد من مدلولات اللفظ المشترك غير متوقف على فهم غيره فكان أولى. السابع أن المجاز متوقف على تصرف من قبلنا في تحقيق العلاقة التي هي شرط في التجوز وربما وقع الخطأ فيه بخلاف اللفظ المشترك. الثامن أنه يلزم من العمل باللفظ في جهة المجاز مخالفة الظهور في جهة الحقيقة بخلاف اللفظ المشترك إذ لا يلزم من العمل به في أحد مدلوليه مخالفة ظاهر أصلاً التاسع أن المجاز تابع للحقيقة ولا عكس فكان المشترك أولى. العاشر أن السامع للمجاز بتقدير عدم معرفته بالقرينة الصارفة إلى المجاز إذا كان هو مراد المتكلم فقد يبادر إلى العمل بالحقيقة ويلزم منه ترك المراد وفعل ما ليس بمراد بخلاف المشترك فإنه بتقدير عدم ظهور القرينة مطلقاً لا يفعل شيئاً فلا يلزم سوى عدم المقصود. فإن قيل: إلا أن المجاز يتعلق به فوائد فإنه ربما كان أبلغ وأوجز وأوقف في بديع الكلام ونظمه ونثره للسجع والمطابقة والمجانسة واتحاد الروي في الشعر إلى غير ذلك. قلنا: ومثل هذا الاحتمال أيضاً منقدح في اللفظ المشترك مع كونه حقيقة فكان اللفظ المشترك أولى وإن لم يكن أولى فلا أقل من المساواة وهي كافية في مقام المعارضة. وأما الحجة الثانية فلا نسلم امتناع إطلاق الأمر على الأكل والشرب وإن سلم ذلك فعدم اطراده في كل وقت مما يمنع من كونه حقيقة في القول المخصوص وهو غير مطرد في كل قول على ما لا يخفى وإن كان لا يمنع من ذلك في القول فكذلك في الفعل. فإن قيل: إنما يجب إطراد الاسم في المعنى الذي كان الاسم حقيقة فيه لا في غيره والأمر إنما كان حقيقة في القول المخصوص لا في مطلق قول وذلك مطرد في ذلك القول فمثله لازم في الأفعال إذ للخصم أن يقول: إنما هو حقيقة في بعض الأفعال لا في كل فعل. أما الحجة الثالثة أنه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق لكان المنع من اشتقاق اسم القارورة للجرة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل. فإن قيل: ولو لم يكن على وفق الأصل لكان الاشتقاق في صور الاشتقاق على خلاف الأصل والمحذور اللازم منه أكثر لأن صور الاشتقاق أغلب وأكثر من صور عدم الاشتقاق قيل: لا يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل لجواز أن يكون الاشتقاق وعدمه لا على وفق أصل فيقتضيه بل هما تابعان للنقل والوضع. كيف وإنه إذا جاز أن يكون الاشتقاق من توابع الحقيقة جاز أن يكون من توابع بعض المسميات وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وعلى هذا فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسميات الاشتقاق في غيره لعدم الاشتراك في ذلك المسمى وبهذا يندفع ما ذكروه من الحجة الرابعة والخامسة والسادسة. كيف وقد قيل في الحجة الرابعة إن أوامر ليست جمع أمر بل جمع إمرة وأما القائلون بكونه مشتركاً بين القول المخصوص والفعل فقد احتجوا بثلاث حجج. الأولى أن المسمى في نفسه مختلف وكما قد أطلق اسم الأمر على القول المخصوص فقد أطلق على الفعل والأصل في الإطلاق الحقيقة ويدل على الإطلاق قول العرب: أمر فلان بكذا مستقيم أي عمله وإليه الإشارة بقوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة" "القمر 50" أي فعلنا "وما أمر فرعون برشيد" "هود 97". الحجة الثانية: أن اسم الأمر في الفعل قد جمع بأمور والجمع علامة الحقيقة. والحجة الثالثة: أنه لو كان اسم الأمر في الفعل مجازاً لم يخل إما أن يكون مجازاً بالزيادة أو بالنقصان أو لمشابهته لمحل الحقيقة أو لمجاوز له أو لأنه كان عليه أو سيؤل إليه ولم يتحقق شيء من ذلك في الفعل وإذا لم يكن مجازاً كان حقيقة وهذه الحجج ضعيفة أيضاً. أما الحجة الأولى: فلقائل أن يقول لا نسلم صحة إطلاق اسم الأمر على الفعل وقولهم أمر فلان مستقيم ليس مسماه الفعل بل شأنه وصفته وهو المراد من قوله تعالى: "وما أمرنا إلا واحدة" "القمر 50" ومن قوله: "وما أمر فرعون برشيد" "هود 97".
وأما الحجة الثانية: فلا نسلم أن الجمع دليل الحقيقة بدليل قولهم في جمع من سمي حماراً لبلادته حمر وهو مجاز وإن سلمنا بأن الجمع يدل على الحقيقة ولكن لا نسلم أن أمور جمع أمر بل الأمر والأمور كل واحد منهما يقع موقع الآخر وليس أحدهما جمعاً للآخر ولهذا يقال: أمر فلان مستقيم فيفهم منه ما يفهم من قولهم: أمور فلان مستقيمة. وأما الحجة الثالثة: فهو أنه لا يلزم من كون الأمر ليس مجازاً في الفعل أن يكون حقيقة فيه من حيث هو فعل وإنما هو حقيقة فيه من جهة ما اشتمل عليه من معنى الشأن والصفة كما سبق. وعلى هذا فالمختار إنما هو كون الاسم اسم الأمر متواطئاً في القول المخصوص والفعل لا أنه مشترك ولا مجاز في أحدهما. البحث الثاني: في حد الأمر وقد اختلفت المعتزلة فيه بناء على إنكارهم لكلام النفس: فذهب البلخي وأكثر المعتزلة إلى أن الأمر هو قول القائل لمن دونه افعل أو ما يقوم مقامه وأراد بقوله: يقوم مقامه أي في الدلالة على مدلوله وقصد بذلك إدراج صيغة الأمر من غير العربي في الحد وهو فاسد من ثلاثة أوجه. الأول: أن مثل ذلك قد يوجد فيما ليس بأمر بالاتفاق كالتهديد في قوله تعالى: "اعملوا ما شئتم" فصلت 40" والإباحة في قوله: "وإذا حللتم فاصطادوا" "المائدة 2" والإرشاد في قوله: "فاستشهدوا" "النساء 15" والامتنان كقوله: "كلوا مما رزقكم الله" "الأنعام 142" والإكرام كقوله: "ادخلوها بسلام آمنين" "الحجر 46" والتسخير والتعجيز إلى غير ذلك من المحامل التي يأتي ذكرها. الثاني: أنه يلزم من ذلك أن تكون صيغة افعل الواردة من النبي صلى الله عليه وسلم نحونا أمراً حقيقة لتحقق ما ذكروه من شروط الأمر فيها ويلزم من ذلك أن يكون هو الآمر لنا بها ويخرج بذلك عن كونه رسولاً لأنه لا معنى للرسول غير المبلغ لكلام المرسل لا أن يكون هو الآمر والناهي كالسيد إذا أمر عبده وسواء كانت صيغته مخلوقة له كما هو مذهبهم أو لله تعالى كما هو مذهبنا. الثالث: أنه قد يرد مثل هذه الصيغة من الأعلى نحو الأدنى ولا يكون أمراً بأن يكون ذلك على سبيل التضرع والخضوع وقد يرد من الأدنى نحو الأعلى ويكون أمراً إذا كانت على سبيل الاستعلاء لا على سبيل الخضوع والتذلل ولذلك يوصف قائلها بالجهل والحمق بأمره لمن هو أعلى رتبة منه. ومنهم من قال: الأمر صيغة افعل على تجردها من القرائن الصارفة لها عن جهة الأمر إلى التهديد وما عداه من المحامل. وهو أيضاً فاسد من حيث إنه أخذ الأمر في تعريف الأمر وتعريف الشيء بنفسه محال وإن اقتصروا في التحديد على القول بأن الأمر صيغة افعل المجردة عن القرائن لا غير وزعموا أن صيغة افعل فيما ليس بأمر لا تكون مجردة عن القرائن فليس ما ذكروه أولى من قول القائل: التهديد عبارة عن صيغة افعل المجردة عن القرائن إلا أن يدل عليه دليل من جهة السمع وهو غير متحقق. ومنهم من قال: الأمر صيغة افعل بشرط إرادات ثلاث إرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بها على الأمر وإرادة الامتثال: فإرادة إحداث الصيغة احتراز عن النائم إذا وجدت هذه الصيغة منه وإرادة الدلالة بها على الأمر احتراز عما إذا أريد بها التهديد أو ما سواه من المحامل وإرادة الامتثال احتراز عن الرسول الحاكي المبلغ فإنه وإن أراد إحداث الصيغة والدلالة بها على الأمر فقد لا يريد بها الامتثال وهو أيضاً فاسد من وجهين: الأول: أنه أخذ الأمر في حد الأمر وتعريف الشيء بنفسه محال ممتنع الثاني: هو أن الأمر الذي هو مدلول الصيغة إما أن يكون هو الصيغة أو غير الصيغة فإن كان هو نفس الصيغة كان الكلام متهافتاً من حيث إن حاصله يرجع إلى أن الصيغة دالة على الصيغة والدال غير المدلول وإن كان هو غير الصيغة فيمتنع أن يكون الأمر هو الصيغة وقد قال بأن الأمر هو صيغة افعل بشرط الدلالة على الأمر فإن الشرط غير المشروط وإذا كان الأمر غير الصيغة فلا بد من تعريفه والكشف عنه إذ هو المقصود في هذا المقام.
ولما انحسمت عليهم طرق التعريف قال قائلون منهم: الأمر هو إرادة الفعل وقد احتج الأصحاب على إبطاله بأن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا اعتذر عن ذلك قصد إظهار أمره وأمره بين يدي السلطان قصداً لإظهار مخالفته لبسط عذره والخلاص من عقاب السلطان له فإنه يعد آمراً والعبد مأموراً ومطيعاً بتقدير الامتثال وعاصياً بتقدير المخالفة مع علمنا بأنه لا يريد منه الامتثال لما فيه من ظهور كذبه وتحقيق عقاب السلطان له والعاقل لا يقصد ذلك غير أن مثل هذا لازم على أصحابنا إن كان صحيحاً في تفسيرهم الأمر بطلب الفعل من جهة أن السيد أيضاً آمر في مثل هذه الصورة لعبده مع علمنا بأنه يستحيل منه طلب الفعل من عبده لما فيه من تحقيق عقابه وكذبه والعاقل لا يطلب ما فيه مضرته وإظهار كذبه وعند ذلك فما هو جواب أصحابنا في تفسير الأمر بالطلب يكون جواباً للخصم في تفسيره بالإرادة. وإن زعم بعض أصحابنا أن الأمر ليس هو الطلب بل الإخبار باستحقاق الثواب على الفعل فيلزمه أن يكون الآمر لعبده مما يصح تصديقه وتكذيبه في أمره لعبده ضرورة كون الأمر خبراً وهو ممتنع كيف وإنه على خلاف تقسيم أهل اللغة الكلام إلى أمر وخبر والحق في ذلك أن يقال أجمع المسلمون من غير مخالفة من الخصوم على أن من علم الله تعالى أنه يموت على كفره أنه مأمور بالإيمان وليس الإيمان منه مراد الله تعالى لأنه لا معنى لكونه مراداً لله تعالى سوى تعلق الإرادة به ولا معنى لتعلق الإرادة بالفعل سوى تخصيصها له بحالة حدوثه فلا يعقل تعلقها به دون تخصيصها له بحالة حدوثه وما لم يوجد لم تكن الإرادة مخصصة له بحالة حدوثه فلا تكون متعلقة به وليقنع بهذا هاهنا عما استقصيناه من الوجوه الكثيرة في علم الكلام. وأما أصحابنا فمنهم من قال: الأمر عبارة عن الخبر على الثواب على الفعل تارة والعقاب على الترك تارة وهو فاسد لما سبق من امتناع تصديق الآمر وتكذيبه ولأنه يلزم منه لزوم الثواب على فعل ما أمر به والعقاب على تركه من جهة الشارع حذراً من الخلف في خبر الصادق وليس كذلك بالإجماع أما الثواب فلجواز إحباط العمل بالردة وأما العقاب فلجواز العفو والشفاعة ويمكن أن يحترز عن هذا الإشكال بأن يقال: هو الإخبار باستحقاق الثواب والعقاب غير أنه يبقى عليه الإشكال الأول من غير دافع. ومنهم من قال: وهم الأكثرون كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم: الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به فقولهم: القول كالجنس للأمر وغيره من أقسام الكلام وقولهم: المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به للفصل بين الأمر وغيره من أقسام الكلام ولفصل الأمر عن الدعاء والسؤال. ومنهم من زاد في الحد بنفسه احترازاً عن الصيغة فإنها لا تقتضي الطاعة بنفسها بل بالتوقيف والاصطلاح وعلى كل تقدير فهو باطل لما فيه من تعريف الأمر بالمأمور والمأمور به وهما مشتقان من الأمر والمشتق من الشيء أخفى من ذلك الشيء وتعريف الشيء بما لا يعرف إلا بعد معرفة ذلك الشيء محال. ومنهم من قال: الأمر هو طلب الفعل على وجه يعد فاعله مطيعاً وهو أيضاً باطل لما فيه من تعريف الأمر بالطاعة المتعلقة بالفعل والطاعة المتعلقة بالفعل لا تعرف إلا بموافقة الأمر وهو دور ممتنع كيف وإن فعل الرب تعالى لما طلبه العبد منه بالسؤال يقال له باعتبار موافقة طلب للعبد مطيعاً بدليل قوله عليه السلام: "إن أطعت الله أطاعك" أي إن فعلت ما أراد فعل ما تريد وليس طلب العبد من الله تعالى بجهة السؤال لله أمراً إذ الأمر لله قبيح شرعاً بخلاف السؤال ويمكن الاحتراز عنه بما يعد فاعله مطيعاً في العرف العام والباري تعالى ليس كذلك. والأقرب في ذلك إنما هو القول الجاري على قاعدة الأصحاب وهو أن يقال: الأمر طلب الفعل على جهة الاستعلاء. فقولنا: طلب الفعل احتراز عن النهي وغيره من أقسام الكلام وقولنا على جهة الاستعلاء احتراز عن الطلب بجهة الدعاء والالتماس. فإن قيل قولكم: الأمر هو طلب الفعل إن أردتم به الإرادة فهو مذهب المعتزلة وليس مذهباً لكم وإن أردتم غيره فلا بد من تصويره وإلا كان فيه تعريف الأمر بما هو أخفى من الأمر.
قلنا: إجماع العقلاء منعقد على أن الأمر قسم من أقسام الكلام وأنه واقع موجود لا ريب فيه وقد بينا امتناع تفسيره بالصيغة والإرادة بما سبق فما وراء ذلك هو المعني بالطلب والنزاع في تسميته بالطلب بعد الموافقة على وجوده فآيل إلى خلاف لفظي. ?البحث الثالث: في الصيغة الدالة على الأمر وقد اختلف القائلون بكلام النفس: هل للأمر صيغة تخصه وتدل عليه دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن رحمه الله ومن تابعه إلى النفي وذهب من عداهم إلى الإثبات. قال إمام الحرمين والغزالي: والذي نراه أن هذه الترجمة عن الأشعري خطأ فإن قول القائل لغيره: أمرتك وأنت مأمور صيغة خاصة بالأمر من غير منازعة وإنما الخلاف في أن صيغة افعل هل هي خاصة بالأمر أو لا لكونها مترددة في اللغة بين محامل كثيرة يأتي ذكرها. واعلم أنه لا وجه لاستبعاد هذا الخلاف وقول القائل: أمرتك وأنت مأمور لا يرفع هذا الخلاف إذ الخلاف إنما هو في صيغة الأمر الموضوعة للإنشاء وما مثل هذه الصيغ أمكن أن يقال إنها إخبارات عن الأمر لا إنشاآت وإن كان الظاهر صحة استعمالها للإنشاء فإنه لا مانع من استعمال صيغة الخبر للإنشاء كما في قوله طلقت وبعت واشتريت ونحوه. وبيانه أنه إذا قال لزوجته: طلقتك فإن الطلاق يقع عليه إجماعاً ولو كان إخباراً لكان إخباراً عن الماضي أو الحال لعدم صلاحية هذه الصيغة للاستقبال ولو كان كذلك لم يخل إما أن يكون قد وجد منه الطلاق أو لم يوجد: فإن كان الأول امتنع تعليقه بالشرط في قوله: إن دخلت الدار لأن تعليق وجود ما وجد على وجود ما لم يوجد محال وإن كان الثاني وجب أن يعد كاذباً وأن لا يقع الطلاق عليه وهو خلاف الإجماع. وإن قدر أنه إخبار عن المستقبل مع الإحالة فيجب أيضاً أن لا يقع به الطلاق كما لو صرح بذلك وقال لها: ستصيرين طالقاً في المستقبل فإنه لا يقع به الطلاق مع أنه صريح إخبار عن وقوع الطلاق في المستقبل فما ليس بصريح أولى. وإذا بطل كونه إخباراً تعين أن يكون إنشاء إذ الإجماع منعقد على امتناع الخلو منهما فإذا بطل أحدهما تعين الآخر. البحث الرابع: في مقتضى صيغة الأمر وفيه اثنتا عشرة مسألة. المسألة الأولى فيما ذا صيغة الأمر حقيقة فيه إذا وردت مطلقة عرية عن القرائن وقد اتفق الأصوليون على إطلاقها بازاء خمسة عشر اعتبار الوجوب كقوله "أقم الصلاة" "الإسراء 78" والندب كقوله: "فكاتبوهم" "النور 33" والإرشاد كقوله تعالى: "فاستشهدوا" "النساء 15" وهو قريب من الندب لاشتراكهما في طلب تحصيل المصلحة غير أن الندب لمصلحة أخروية والإرشاد لمصلحة دنيوية والإباحة كقوله "فاصطادوا" "المائدة 2" والتأديب وهو داخل في الندب كقوله: "كل مما يليك" والامتنان كقوله: "كلوا مما رزقكم الله" "الأنعام 142" والإكرام كقوله: "ادخلوها بسلام" "الحجر 46" والتهديد كقوله: "اعملوا ما شئتم" "فصلت 40" والإنذار كقوله: "تمتعوا" "إبراهيم 30" وهو في معنى التهديد والتسخير كقوله: "كونوا قردة خاسئين" "البقرة 65" والتعجيز كقوله: "كونوا حجارة" "الإسراء 50" والإهانة كقوله تعالى: "ذق إنك أنت العزيز" "الدخان 49" والتسوية كقوله: "فاصبروا أو لا تصبروا" "الطور 16" والدعاء كقوله: "اغفر لي" "نوح 28" والتمني كقول الشاعر: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى وكمال القدرة كقوله: "كن فيكون" "يس 82". وقد اتفقوا على أنها مجاز فيما سوى الطلب والتهديد والإباحة غير أنهم اختلفوا: فمنهم من قال إنها مشتركة كاشتراك لفظ القرء بين الطلب للفعل وبين للتهديد المستدعي لترك الفعل وبين الإباحة المخيرة بين الفعل والترك ومنهم من قال إنها حقيقة في الإباحة مجاز فيما سواها. ومنهم من قال إنها حقيقة في الطلب ومجاز فيما سواه وهذا هو الأصح وذلك لأنا إذا سمعنا أن أحداً قال لغيره: افعل كذا وتجرد ذلك عن جميع القرائن وفرضناه كذلك فإنه يسبق إلى الإفهام منه طلب الفعل واقتضاؤه من غير توقف على أمر خارج دون التهديد المستدعي لترك الفعل والإباحة المخيرة بين الفعل والترك ولو كان مشتركاً أو ظاهراً في الإباحة لما كان كذلك وإذا كان الطلب هو السابق إلى الفهم عند عدم القرائن مطلقاً دل ذلك على كون صيغة افعل ظاهرة فيه. فإن قيل: يحتمل أن يكون ذلك بناء عل عرف طارئ على الوضع اللغوي كما في لفظ الغائط والدابة وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على الظهور في الطلب غير أنه معارض بما يدل على ظهوره في الإباحة لكونها أقل الدرجات فكانت مستيقنة. قلنا: جواب الأول أن الأصل عدم العرف الطارئ وبقاء الوضع الأصلي بحاله وجواب الثاني لا نسلم أن الإباحة متيقنة إذ هي مقابلة للطلب والتهديد لكونها غير مستدعية للفعل ولا للترك والطلب مستدع للفعل والتهديد مستدع لترك الفعل فلا تيقن لواحد منهما. المسألة الثانية إذا ثبت أن صيغة افعل ظاهرة في الطلب والاقتضاء فالفعل المطلوب لا بد وأن يكون فعله راجحاً على تركه فإن كان ممتنع الترك كان واجباً وإن لم يكن ممتنع الترك فإما أن يكون ترجحه لمصلحة أخروية فهو المندوب وإما لمصلحة دنيوية فهو الإرشاد. وقد اختلف الأصوليون: فمنهم من قال إنه مشترك بين الكل وهو مذهب الشيعة ومنهم من قال إنه لا دلالة له على الوجوب والندب بخصوصه وإنما هو حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح الفعل على الترك ومنهم من قال إنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وهو قول الجباشي في أحد قوليه ومنهم من قال إنه حقيقة من الندب وهو مذهب أبي هاشم وكثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم وجماعة من الفقهاء وهو أيضاً منقول عن الشافعي رحمه الله تعالى. ومنهم من توقف وهو مذهب الأشعري رحمه الله ومن تابعه من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما وهو الأصح وذلك لأن وضعه مشتركاً أو حقيقة في البعض مجازاً في البعض إما أن يكون مدركه عقلياً أو نقلياً: الأول محال إذ العقول لا مدخل لها في المنقول لا ضرورة ولا نظراً والثاني فإما أن يكون قطعياً أو ظنياً: والقطعي غير متحقق فيما نحن فيه والظني إنما ينفع أن لو كان إثبات مثل هذه المسألة مما يقنع فيه بالظن وهو غير مسلم فلم يبق غير التوقف. فإن قيل: ما ذكرتموه مبني على أن مدار مثل هذه المسألة على القطع وهو غير مسلم ولا في شيء من اللغات وإن سلمنا ذلك لكن ما المانع أن يكون المدرك لا عقلياً محضاً ولا نقلياً محضاً بل هو مركب منهما كما يأتي تحقيقه وإن سلمنا الحصر فيما ذكرتموه غير أنه لازم عليكم في القول بالوقف أيضاً فإن العقل لا يقتضيه والنقل القطعي غير متحقق فيه والظن إنما يكتفى به أن لو كانت المسألة ظنية فما هو جوابكم عنه في القول بالوقف يكون جواباً لخصومكم فيما ذهبوا إليه على اختلاف مذاهبهم قلت: أما إنكار القطع في اللغات على الإطلاق فمما يفضي إلى إنكار القطع في جميع الأحكام الشرعية لأن مبناها على الخطاب بالألفاظ اللغوية ومعقولها وذلك كفر صراح والقول بأن ما ذكرتموه مبني على أن مدار ما نحن فيه على القطع. قلنا: نحن في هذه المسألة غير متعرضين لنفي ولا إثبات بل نحن متوقفون فمن رام إثبات اللغة فيما نحن فيه بطريق ظني أمكن أن يقال له متى يكتفى بذلك فيما نحن فيه أإذا كان شرط إثباته القطع أم لا؟ ولا بد عند توجه التقسيم من تنزيل الكلام على الممنوع أو المسلم وكل واحد منهما متعذر لما سبق. قولهم: ما المانع من كونه مركباً من العقل والنقل؟ قلنا: لأن ما ذكرناه من التقسيم في النقلي ثابت هاهنا كان مستقلاً أو غير مستقل والقطع لا سبيل إليه وإن كان ظنياً فالمركب منه ومن العقلي يكون ظنياً سواء كان العقلي ظنياً أو قطعياً. قولهم: ما ذكرتموه لازم عليكم في الوقف قلنا: ليس كذلك لأن الواقف غير حاكم بل هو ساكت عن الحكم والساكت عن الحكم لا يفتقر إلى دليل فلا يكون ما ذكروه لازماً علينا شبه القائلين بالوجوب. وقد ذكر أبو الحسين البصري في ذلك ما يناهز ثلاثين شبهة دائرة بين غث وثمين وها نحن نلخص حاصلها ونأتي على المعتمد من جملتها مع حذف الزيادات العرية عن الفائدة ونشير إلى جهة الانفصال عنها ثم نذكر بعد ذلك شبه القائلين بالندب وطرق تخريجها إن شاء الله تعالى فإما شبه القائلين بالوجوب فشرعية ولغوية وعقلية. أما الشرعية فمنها ما يرجع إلى الكتاب ومنها ما يرجع إلى السنة ومنها ما يرجع إلى الإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" "النور 54" ثم هدد عليه بقوله: "فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم" "النور 54" والتهديد على المخالفة دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" "النور 63" ووجه الاستدلال به ما سبق في الآية التي قبلها وأيضاً قوله تعالى لإبليس: "ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك" "الأعراف 12" أو رد ذلك في معرض الذم بالمخالفة لا في معرض الاستفهام اتفاقاً وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: "وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون" "المرسلات 48" ذمهم على المخالفة وهو دليل الوجوب وأيضاً قوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم" "الأحزاب 36" والمراد من قوله قضي أي ألزم ومن قوله أمراً أي مأموراً وما لا خيرة فيه من المأمورات لا يكون إلا واجباً وأيضاً قوله تعالى: "أفعصيت أمري" "طه 93" وقوله: "لا يعصون الله ما أمرهم" "التحريم 6" وقوله: "لا أعصي لك أمراً" "الكهف 69" وصف مخالف الأمر بالعصيان وهو اسم ذم وذلك لا يكون في غير الوجوب وأيضاً قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" "النساء 65" أي أمرت ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك. وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله فقال: لا إنما أنا شافع فقالت: لا حاجة لي فيه فقد عقلت أنه لو كان أمراً لكان واجباً والنبي صلى الله عليه وسلم قررها عليه وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وهو دليل الوجوب وإلا فلو كان الأمر للندب فالسواك مندوب وأيضاً قوله لأبي سعيد الخدري حيث لم يجب دعاءه وهو في الصلاة أما سمعت الله تعالى يقول: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" "الأنفال 24" وبخه على مخالفة أمره وهو دليل الوجوب وأيضاً فإنه لما سأله الأقرع بن حابس: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد قال صلى الله عليه وسلم: "بل للأبد ولو قلت نعم لوجب" وذلك دليل على أن أوامره للوجوب. وأما الإجماع فهو أن الأمة في كل عصر لم تزل راجعة في إيجاب العبادات إلى الأوامر من قوله تعالى: "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" "البقرة 110" إلى غير ذلك من غير توقف وما كانوا يعدلون إلى غير الوجوب إلا لمعارض وأيضاً فإن أبا بكر رضي الله عنه استدل على وجوب الزكاة على أهل الردة بقوله "وآتوا الزكاة" "البقرة 110" ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعاً. وأما من جهة اللغة فمن وجوه: الأول وصف أهل اللغة من خالف الأمر بكونه عاصياً ومنه قولهم أمرتك فعصيتني وقوله تعالى: "أفعصيت أمري" "طه 93" وقول الشاعر: أمرتك أمراً حازماً فعصيتني والعصيان اسم ذم وذلك في غير الوجوب ممتنع وأيضاً فإن السيد إذا أمر عبده بأمر فخالفه حسن الحكم من أهل اللغة بذمه واستحقاقه للعقاب ولولا أن الأمر للوجوب لما كان كذلك. وأما من جهة العقل فمن وجوه: الأول أن الإيجاب من المهمات في مخاطبة أهل اللغة فلو لم يكن الأمر للوجوب لخلا الوجوب عن لفظ يدل عليه وهو ممتنع مع دعو الحاجة إليه وأيضاً فإنه قد ثبت أن الطلب لا يخرج عن الوجوب والندب ويمتنع أن يكون حقيقة في الندب لا بجهة الاشتراك ولا التعيين ولا بطريق التخيير لأن حمل الطلب على الندب معناه: افعل إن شئت وهذا الشرط غير مذكور في الطلب فيمتنع حمل الطلب عليه بوجه من هذه الوجوه ويلزم من ذلك أن يكون حقيقة في الوجوب وأيضاً فإن الأمر مقابل للنهي والنهي يقتضي ترك الفعل والامتناع من الفعل جزماً فالأمر يجب أن يكون مقتضياً للفعل ومانعاً من الترك جزماً وأيضاً فإن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده مما يمنع من فعلها وذلك غير متصور دون فعل المأمور به فكان واجباً وأيضاً فإن حمل الأمر على الوجوب أحوط للمكلف لأنه إن كان للوجوب فقد حصل المقصود الراجح وأمنا من ضرر تركه وإن كان للندب فحمله على الوجوب يكون أيضاً نافعاً غير مضر ولو حملناه على الندب لم نأمن من الضرر بتقدير كونه واجباً لفوات المقصود الراجح وأيضاً فإن المندوب داخل في الواجب من غير عكس فحمل الأمر على الوجوب لا يفوت معه المقصود من الندب بخلاف الحمل على الندب فكان حمله على الوجوب أولى وأيضاً فإن الأمر موضوع لإفادة معنى وهو إيجاد الفعل فكان مانعاً من نقيضه كالخبر وأيضاً فإن الأمر بالفعل يفيد رجحان وجود الفعل على عدمه وإلا كان مرجوحاً أو مساوياً ولو كان مرجوحاً لما أمر به لما فيه من الإخلال بالمصلحة الزائدة في الترك والتزام المفسدة الراجحة في الفعل وهو قبيح ولو كان مساوياً لم يكن الأمر به أولى من النهي عنه وذلك أيضاً قبيح وإذا كان راجحاً فلو جاز تركه لزم منه الإخلال بأرجح المقصودين وهو قبيح فلا يرد به الشرع فتعين الامتناع من الترك وهو معنى الوجوب. والجواب من جهة الإجمال والتفصيل. أما الإجمال فهو أن جميع ما ذكروه لا خروج له عن الظن وإنما يكون مفيداً فيما يطلب فيه الظن فقط وهو غير مسلم فيما نحن فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن نحكم بالظاهر" فظني والكلام في صحة الاحتجاج به فيما نحن فيه فعلى ما تقدم وأما من جهة التفصيل فإنا نخص كل شبهة بجواب. أما قوله تعالى: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول" "النور 54" فهو أمر والخلاف في اقتضائه للوجوب بحاله وقوله: "فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم" "النور 54" فإما أن لا يكون للتهديد بل للإخبار بأن الرسول عليه ما حمل من التبليغ وعليكم ما حملتم من القبول وليس في ذلك ما يدل على كون الأمر للوجوب وإن كان للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به على ما سيأتي وليس مهدداً على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصياً وبه دفع أكثر ما ذكروه من الآيات. ويخص قوله تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" "النور 63" بأنه غير عام في كل أمر بصيغته وإن قيل بالتعميم بالنظر إلى معقوله من جهة أنه مناسب رتب التحذير على مخالفته فإنما يصح أن لو لم يتخلف الحكم عنه في أمر الندب وقد تخلف فلا يكون حجة وأيضاً فإن غايته أنه حذر من مخالفة أمره ومخالفة أمره أن لا يعتقد موجبه وأن لا يفعل على ما هو عليه من إيجاب أو ندب ونحن نقول به وليس فيه ما يدل على أن كل أمر للوجوب. ويخص قوله لإبليس: "ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك" "الأعراف 12" بأنه غير عام في كل أمر. ويخص قوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة" "الأحزاب 36" الآية بأن المراد من قوله أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أي في اعتقاد وجوب المأمور به أو ندبه وفعله على ما هو عليه إن كان واجباً فواجب وإن كان ندباً فندب. ويخص قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك" "النساء 65" الآية بأنه لا حجة فيها وقوله: "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت" "النساء 65" أي حكمت به من الوجوب والندب والإباحة والتحريم ونحوه وليس فيه ما يدل على أن كل ما يقضي به يكون واجباً.
وأما حديث بريرة فلا حجة فيه فإنها إنما سألت عن الأمر طلباً للثواب بطاعته والثواب والطاعة قد يكون بفعل المندوب وليس في ذلك ما يدل على أنها فهمت من الأمر الوجوب فحيث لم يكن أمراً لمصلحة أخروية لا بجهة الوجوب ولا بجهة الندب قالت: لا حاجة لي فيه. فإن قيل: فإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها فإذا لم يكن مأموراً بها تعين أن يكون الأمر للوجوب. قلنا: إذا سلم أن الشفاعة في صورة بريرة غير مأمور بإجابتها فلا نسلم أنها كانت في تلك الصورة مندوبة ضرورة أن المندوب عندنا لا بد وأن يكون مأموراً به. وأما خبر السواك ففيه ما يدل على أنه أراد بالأمر أمر الوجوب بدليل أنه قرن به المشقة والمشقة لا تكون إلا في فعل الواجب لكونه متحتماً بخلاف المندوب لكونه في محل الخيرة بين الفعل والترك ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة ودخول حرف لولا على مطلق الأمر لا يمنع من هذا التأويل. وأما خبر أبي سعيد الخدري فلا حجة فيه أيضاً فإن قوله تعالى: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" "الأنفال 24" إنما كان محمولاً على وجوب إجابة النداء تعظيماً لله تعالى ولرسوله في إجابة دعائه ونفياً للإهانة عنه والتحقير له بالإعراض عن إجابة دعائه لما فيه من هضمه في النفوس وإفضاء ذلك إلى الإخلال بمقصود البعثة ولا يمتنع صرف الأمر إلى الوجوب بقرينة. وأما خبر الحج فلا دلالة فيه وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو قلت نعم لوجب" ليس أمراً ليكون للوجوب بل لأنه يكون بياناً لقوله تعالى: "ولله على الناس حج البيت" "آل عمران 97" فإنه مقتض للوجوب غير أنه متردد بين التكرار والمرة الواحدة فقوله: لو قلت نعم لوجب أي تكرره لأنه يكون بياناً لما أوجبه الله تعالى لا أنه يكون موجباً. وأما ما ذكروه من الإجماع فإن أريد به أن الأمة كانت ترجع في الوجوب إلى مطلق الأوامر فهو غير مسلم وليس هو أولى من قول القائل: إنهم كانوا يرجعون في الندب إلى مطلق الأوامر مع أن أكثر الأوامر للمندوبات وإن أريد به أنهم كانوا يرجعون في الوجوب إلى الأوامر المقترنة بالقرائن فلا حجة فيه. وأما قصة أبي بكر فلا حجة في احتجاجه بقوله تعالى: "أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة" "البقرة 110" على أن الأمر بمطلقه للوجوب وذلك لأنهم لم يكونوا منكرين لأصل الوجوب حتى يستدل على الوجوب بالآية بل إنما أنكروا التكرار والاستدلال على تكرار ما وجب لا يكون استدلالاً على نفس اقتضاء الأمر بمطلقه للوجوب. وأما قولهم: إن أهل اللغة يصفون من خالف الأمر المطلق بالعصيان ويحكمون عليه باستحقاق الذم والتوبيخ ليس كذلك فإنه ليس القول بملازمة هذه الأمور للأمر المطلق وملازمة انتفائها للأمر المقيد بالقرينة في المندوبات أولى من العكس. فإن قيل: بل تقييد المندوب بالقرينة أولى من تقييد الواجب بها فإنها بتقدير خفائها تحمل على الوجوب وهو نافع غير مضر وبتقدير تقييد الواجب بها يلزم الإضرار بترك الواجب بتقدير خفائها لفوات المقصود الأعظم منه فهو معارض بأن الأوامر الواردة في المندوبات أكثر منها في الواجبات فإنه ما من واجب إلا ويتبعه مندوبات والواجب غير لازم للمندوب ولا يخفى أن المحذور في تقييد الأعم بالقرينة لاحتمال خفائها أعظم من محذور ذلك في الأخص وأما الشبه العقلية قولهم: إن الوجوب من المهمات. قلنا والندب من المهمات وليس إخلاء أحد الأمرين من لفظ يدل عليه أولى من الآخر وإن قيل بأن المندوب له لفظ يدل عليه وهو قول القائل: ندبت ورغبت فللوجوب أيضاً لفظ يدل عليه وهو قوله: أوجبت وألزمت وحتمت. قولهم أنه يمتنع أن يكون الأمر حقيقة في الندب لما ذكروه فهو مقابل بمثله فإن حمل الطلب على الوجوب معناه: افعل وأنت ممنوع من الترك وهو غير مذكور في الطلب فلا يكون حمله على أحدهما أولى من الآخر. قولهم إن النهي يقتضي المنع من الفعل فيجب أن يكون الأمر مقتضياً للمنع من الترك. قلنا: لا نسلم أن مطلق النهي يقتضي المنع من الفعل إلا أن يدل عليه دليل كما ذكرناه في الأمر وإن صح ذلك في النهي فحاصل ما ذكروه راجع إلى القياس في اللغة وهو باطل بما سبق.
قولهم إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده غير مسلم كما يأتي وإن سلم ولكن إنما يمكن القول بأن النهي عن أضداد المأمور به مما يمنع من فعلها إن لو كان الأمر للوجوب وإلا فبتقدير أن يكون للندب فالنهي عن أضداده يكون نهي تنزيه فلا يمنع من فعلها وعند ذلك فيلزم منه توقف الوجوب على كون النهي عن أضداده مانعاً من فعلها وذلك متوقف على كون الأمر للوجوب وهو دور ممتنع. قولهم إن حمل الطلب على الوجوب أحوط للمكلف على ما ذكروه فهو معارض بما يلزم من حمله على الوجوب من الإضرار اللازم من الفعل الشاق بتقدير فعله والعقاب بتقدير تركه ولما فيه من مخالفة النفي الأصلي بما اختص به الوجوب من زيادة الذم والوصف بالعصيان بخلاف المندوب كيف وإن المكلف إذا نظر وظهر له أن الأمر للندب فقد أمن من الضرر وحصل مقصود الأمر. قولهم إن المندوب داخل في الواجب ليس كذلك على ما سبق تقريره. قولهم إن الأمر موضوع لمعنى فكان مانعاً من نقيضه دعوى محل النزاع والقياس على الخبر من باب القياس في اللغات وهو باطل بما سبق ثم إنه منقوض بالأمر بالمندوب فإنه مأمور به على ما سبق. فإن قيل: لا يلزم من مخالفة الدليل في المندوب المخالفة مطلقاً قلنا يجب أن نعتقد أن ما ذكروه ليس بدليل حتى لا يلزم منه المخالفة في المندوب. وما ذكروه من الشبهة الأخيرة فهي منتقضة بالمندوب وأما شبه القائلين بالندب فمنها نقلية وعقلية. أما النقلية فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذ نهيتكم عن شيء فانتهوا" فوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وهو دليل الندبية. وأما العقلية فهو أن المندوب ما فعله خير من تركه وهو داخل في الواجب فكل واجب مندوب وليس كل مندوب واجباً لأن الواجب ما يلام على تركه والمندوب ليس كذلك فوجب جعل الأمر حقيقة فيه لكونه متيقناً. وجوابهما من جهة الإجمال فما سبق في جواب شبه القائلين بالوجوب ومن جهة التفصيل: عن الأولى أنه لا يلزم من قوله: ما استطعتم تفويض الأمر إلى مشيئتنا فإنه لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال: ما استطعتم وليس ذلك خاصية للندب فإن كل واجب كذلك. وعن الثانية ما سبق من امتناع وجود المندوب في الواجب ثم لو كان تنزيل لفظ الأمر على المتيقن لازماً لكان جعله حقيقة في رفع الحرج عن الفعل أولى لكونه متيقناً بخلاف المندوب فإنه متميز بكون الفعل مترجحاً على الترك وهو غير متيقن. المسألة الثالثة اختلف الأصوليون في الأمر العري عن القرائن: فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ومحتمل للتكرار ومنهم من نفى احتمال التكرار وهو اختيار أبي الحسين البصري وكثير من الأصوليين ومنهم من توقف في الزيادة ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية. والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال وهو معلوم قطعاً والتكرار محتمل فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافياً والدليل على ذلك أنه إذا قال له: صل أو صم فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم وهو مصدر افعل والمصدر محتمل للاستغراق والعدد ولهذا يصح تفسيره به فإنه لو قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً وقع به لما كان تفسيراً للمصدر وهو الطلاق ولو اقتصر على قوله أنت طالق لم يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث فإذا قال: صل فقد أمره بإيقاع المصدر وهو الصلاة والمصدر محتمل للعدد فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة العدد حمل عليه وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية ولهذا فإنه لو أمر عبده أن يتصدق صدقة أو يشتري خبزاً أو لحماً فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة وشراء واحد ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ لعدم القرينة الصارفة إليه وإن كان اللفظ محتملاً له وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد وعدم إرادته وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ولا ظهور إذ الفرض فيما إذا عدمت القرائن المشعرة به فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقاً وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضاً والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب الخصوم فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه.
الأولى: منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار فدل على إشعار الأمر به. الثانية: أن قوله تعالى: "اقتلوا المشركين" يعم كل مشرك فقوله: صم وصل ينبغي أن يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص. الثالثة: أن قوله صم كقوله لا تصم ومقتضى النهي الترك أبداً فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل أبداً لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب. الرابعة: أن الأمر اقتضى فعل الصوم واقتضى اعتقاد وجوبه والعزم عليه أبدا فكذلك الموجب الآخر. الخامسة: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان فليس حمله على البعض أولى من البعض فوجب التعميم. السادسة: أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه لاستحالة الاستثناء من المرة الواحدة ولا تطرق النسخ إليه لأن ذلك يدل على البدا وهو محال على الله تعالى ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار ولكان قول الآمر لغيره صل مرة واحدة غير مفيد وكان قوله صل مراراً تناقضاً ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت محتاجاً في فعله ثانياً إلى دليل وهو ممتنع. السابعة: أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف لأنه إن كان للتكرار فقد حصل المقصود ولا ضرر وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضراً. الثامنة: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به. التاسعة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" أي فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم وذلك يقتضي وجوب التكرار. العاشرة: أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح وقال: أعمداً فعلت هذا يا رسول الله؟ فقال: "نعم" ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" "المائدة 6" لما كان للسؤال معنى. الحادية عشرة: أنه إذا قال الرجل لغيره: أحسن عشرة فلان فإنه يفهم منه التكرار والدوام. وأما شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار فأولها أن من قال لغيره ادخل الدار يعد ممتثلاً بالدخول مرة واحدة كما أنه يصير ممتثلاً لقوله اضرب رجلاً بضرب رجل واحد ولذلك فإنه لا يلام بترك التكرار بل يلام من لامه عليه. وثانيها: أنه لو قال القائل صام زيد صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر. وثالثها: أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد وعد آتياً بما التزمه فكذلك في الالتزام بالأمر. ورابعها: أنه لو قال الرجل لوكيله طلق زوجتي لم يملك أكثر من تطليقة واحدة. وخامسها: أنه لو كان الأمر للتكرار لكان قوله صل مراراً غير مفيد وكان قوله صل مرة واحدة نقصاً وليس كذلك. وسادسها: أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن الجمع بينهما إما تكليفاً بما لا يطاق أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضاً للأمر بالأخرى وهو ممتنع. وأما شبه القائلين بالوقف فأولها أن الأمر بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ولا في التكرار ولهذا فإنه يحسن أن يستفهم من الآمر عند قوله اضرب ويقال له مرة واحدة أو مراراً ولو كان ظاهراً في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام. وثانيها: أنه لو كان ظاهراً في المرة الواحدة لكان قول الآمر اضرب مرة واحدة تكراراً أو مراراً تناقضاً وكذلك لو كان ظاهراً في التكرار. والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر وإن كانت متكررة على التكرار لا يدل على استفادة ذلك من ظاهرها وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة كالحج ونحوه مستفاداً من ظاهر الأمر ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولوية وهو محال. فإن قيل: اعتقاد الظهور في التكرار أولى لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول على المرة الواحدة وعند ذلك فلو جعلناه ظاهراً في المرة الواحدة لكان المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من جعله ظاهراً في التكرار عند حمله على المرة الواحدة.
قلنا: هذا إنما يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين وليس كذلك بل الأمر عندنا إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل والمرة الواحدة من ضروراته لا أن الأمر ظاهر فيها وكذلك في التكرار فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة الظاهر في الآخر لعدم تحققه فيه. وعن الثانية: وإن سلمنا أن العموم في قوله تعالى: "اقتلوا المشركين" "التوبة 5" أنه يتناول كل مشرك فليس ذلك إلا لعموم اللفظ ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله صم بالنسبة إلى جميع الأزمان بل لو قال صم في جميع الأزمان كان نظيراً لقوله اقتلوا المشركين. وعن الثالثة: لا نسلم أن النهي المطلق للدوام وإنما يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه كما في الأمر وإن سلمنا اقتضاءه للدوام لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات وقد أبطلناه وإن سلمنا صحة ذلك غير أنا نفرق وبيانه من وجهين: الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره بإيقاع مصدره وهو الضرب فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال: وجد الضرب وإذا قال له لا تضرب فمقتضاه عدم إيقام الضرب فإذا انتهى في بعض الأوقات دون البعض يصح أن يقال: لم يعدم الضرب. الثاني: إن حمل الأمر على التكرار مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقاً. وعن الرابعة: أنها غير متجهة وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفاداً من نفس الأمر وإنما هو من أحكام الإيمان فتركه يكون كفراً والكفر منهي عنه دائماً ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائماً في الأوامر المقيدة. وأما العزم فلا نسلم وجوبه ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم لا يجب على من حضره إنباهه ولو كان العزم واجباً في ذلك الوقت لوجب عليه كما لو ضاق وقت العبادة وهو نائم وإن سلمنا وجوب العزم لكن لا نسلم وجوبه دائماً بل هو تبع لوجوب المأمور به وإن سلمنا وجوبه دائماً فلا نسلم كونه مستفاداً من نفس الأمر ليلزم ما قيل بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة. وعن الخامسة: أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان وإنما الزمان من ضرورات وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم كالمكان. وعن السادسة: وهي قولهم لو كان الأمر للمرة الواحدة لما دخله النسخ ليس كذلك عندنا فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة جاز نسخه عندنا قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي وإنما ذلك لازم على المعتزلة وأما دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ومن أوجبه على التراخي فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها وأما حسن الاستفهام فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيداً فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة وبه يخرج الجواب عن قوله صل مرة وحدة وقوله صل مراراً غير متناقض بل غايته دلالة الدليل على إرادة التكرار المحتمل وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك الوقت ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في ثاني الحال. وعن السابعة: ما سبق في الواجب والمندوب. وعن الثامنة: لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده وإن سلم ذلك ولكن اقتضاء النهي للأضداد بصفة الدوام فرع كون الأمر مقتضياً للفعل على الدوام وهو محل النزاع. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر" الحديث إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأموراً به وليس كذلك. وأما حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر الصلاة بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك لإزاحة الإشكال بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم سهواً أو لا للتكرار إن كان فعله عمداً كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ولو كان للتكرار لما أعرض عنه وله الترجيح.
وأما الشبهة الأخيرة فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن العشرة للأزمان لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم وذلك يستدعي استحقاق المأمور بإكرامه للإكرام وهو سبب الأمر فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام المسبب فكان الدوام مستفاداً من هذه القرينة لا من مطلق الأمر. والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ولا يلزم منه امتناع احتماله له ولهذا فإنه لو قال ادخل الدار مراراً بطريق التفسير فإنه يصح ويلزم ولو عدم الاحتمال لما صح التفسير. وعن الثانية: أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح وبه دفع الشبهة الثالثة وإذا قال لوكيله طلق زوجتي إنما لم يملك ما زاد على الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم الاحتمال لغة ولهذا لو قال طلقها ثلاثاً على التفسير صح. وعن الخامسة: ما سبق. وعن السادسة: أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار إما أن لا يكون منافياً له أو يكون منافياً: فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه وإن كان الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج فيلون ذلك قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم. المسألة الرابعة الأمر المعلق بشرط كقوله: "إذا زالت الشمس فصلوا" أو صفة كقوله: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" "النور 2" هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا؟ فمن قال إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ومن قال إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار اختلفوا هاهنا فمنهم من أوجبه ومنهم من نفاه. وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع فنقول ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة إما أن يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا أو لا يكون كذلك بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم في الزنا فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره نظراً إلى تكرر العلة ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة مهم وجدت فالتكرار مستند إلى تكرار العلة لا إلى الأمر وإن كان الثاني فهو محل الخلاف والمختار أنه لا تكرار. وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية لا بد من التنبيه عليها وعلى ما فيها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار. الحجة الأولى أنهم قالوا: أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي تكرار المخبر عنه كما لو قال: إن جاء زيد جاء عمرو فإنه لا يلزم تكرر مجيء عمرو في تكرر مجيء زيد فكذلك في الأمر وهي باطلة فإن حاصلها يرجع إلى القياس في اللغة وقد أبطلناه. الثانية أنه لو قال لزوجته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول فكذلك في قوله إذا "زالت الشمس فصلوا" وهو أيضاً من جنس ما تقدم لما فيه من قياس الأمر على إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر.
الثالثة أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على تعليق شيء بشيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة أو في صورة واحدة والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعراً بالأخص وحاصل هذه الحجة أيضاً يرجع إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء التكرار بتكرر الشرط أو الصفة وهو عين محل النزاع وإنما الواجب أن يقال إنه مشعر بالأعم والأصل عدم إشعاره بالأخص والمعتمد في ذلك أن يقال: لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع الأمرين: لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ولا بالثاني لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده وجوده بل إنما تأثيره في انتفاء المشروط عند انتفائه وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله لزوجته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما كان لضرورة وجود الموجب وهو قوله: أنت طالق لا لنفس دخول الدار وإلا كان دخول الدار موجباً للطلاق مطلقاً وهو محال ولا جائز أن يقال بالثالث لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده: إذا دخلت السوق فاشتر لحماً أنه لا يقتضي التكرار وذلك إما أن يكون مع تحقق الموجب للتكرار أو لا مع تحققه لا جائز أن يقال بالأول وإلا فانتفاء التكرار إما لمعارض أو لا لمعارض: والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل الدليل عن أعماله وهو خلاف الأصل والثاني أيضاً باطل لما فيه من مخالفة الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني وهو المطلوب فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من وجوه: الأول: أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط وصفات وهي متكررة بتكررها كقوله تعالى: "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" "المائدة 6" الآية وقوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" "المائدة 38" "والزانية والزاني" "النور 2" الآية ولو لم يكن ذلك مقتضياً للتكرار لما كان متكرراً. الثاني: أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعاً والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة فكان اقتضاؤه للتكرار أولى. الثالث: أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ولا اختصاص له بالموجود الأول منها دون ما بعده وعند ذلك فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع وجود الشرط ثانياً وثالثاً انتفاؤه مع وجود الشرط الأول أو من وجوده مع الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية: والأول خلاف الإجماع والثاني هو المطلوب. الرابع: أنه لو لم يكن الأمر مقتضياً لتعليق الحكم بجميع الشروط بل بالأول منها فليزم أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني دون الأول قضاء وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع. الخامس: أن النهي المعلق بالشرط مفيد للتكرار كما إذا قال: إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهماً والأمر ضد النهي فكان مشاركاً له في حكمه ضرورة اشتراكهما في الطلب والاقتضاء. السادس: أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور به بدوامه كما لو قال: إذا وجد شهر رمضان فصمه فإن الصوم يكون دائماً بدوام الشهر وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائماً. والجواب عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض للتكرار فحيث قضي بالتكرار إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في نفس الأمر كما في الزنا والسرقة أو لا يكون علة له: فإن كان الأول فالتكرار إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ولا كلام فيه وإن كان الثاني فيجب اعتقاد كونه متكرراً لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة لما ذكرناه من عدم اقتضائه كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط فقد لا يتكرر كالأمر بالحج فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها. وعن الثاني: أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم تكرره بتكرر الشرط مع أنه غير موجب للحكم كما تقرر.
وعن الثالث: أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور وليس كذلك عندنا بل الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه إذا علم تجدد الشرط وغلب على الظن بقاء المأمور ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض وأما إن لم يغلب على الظن تجدد الشرط ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني فقد تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول لعدم تحقق ما سواه. وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع أيضاً. وعن الخامس: أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة وهو باطل بما سبق كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط بل ما اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول سواء تجدد الشرط ثانياً أو لم يتجدد. وعن السادس: أن الشرط المستشهد به وإن كان له دوام في زمان معين والحكم موجود معه فهو واحد والمشروط به غير متكرر بتكرره وعند ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر لزوم التكرر بتكرر الشرط في محل النزاع. المسألة الخامسة اختلفوا في الأمر المطلق هل يقتضي تعجيل فعل المأمور به؟ فذهبت الحنفية والحنابلة وكل من قال بحمل الأمر على التكرار إلى وجوب التعجيل وذهبت الشافعية والقاضي أبو بكر وجماعة من الأشاعرة والجبائي وابنه وأبو الحسين البصري إلى التراخي وجواز التأخير عن أول وقت الإمكان وأما الواقفية فقد توقفوا: لكن منهم من قال: التوقف إنما هو في المؤخر هل هو ممتثل أو لا؟ وأما المبادر فإنه ممتثل قطعاً لكن هل يأثم بالتأخير؟ اختلفوا فيه: فمنهم من قال بالتأثيم وهو اختيار إمام الحرمين ومنهم من لم يؤثمه ومنهم من توقف في المبادر أيضاً وخالف في ذلك إجماع السلف. والمختار أنه مهما فعل كان مقدماً أو مؤخراً كان ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير والدليل على ذلك أن الأمر حقيقة في طلب الفعل لا غير فمهما أتى بالفعل في أي زمان كان مقدماً أو مؤخراً كان آتياً بمدلول الأمر فيكون ممتثلاً للأمر ولا إثم عليه بالتأخير لكونه آتياً بما أمر به على الوجه الذي أمر به وبيان أن مدلول الأمر طلب الفعل لا غير وجهان: الأول: أنه دليل على طلب الفعل بالإجماع والأصل عدم دلالته على أمر خارج والزمان وإن كان لا بد منه من ضرورة وقوع الفعل المأمور به ولا يلزم أن يكون داخلاً في مدلول الأمر فإن اللازم من الشيء أعم من الداخل في معناه ولا أن يكون متعيناً كما لا تتعين الآلة في الضرب ولا الشخص المضروب وإن كان ذلك من ضرورات امتثال الأمر بالضرب. الوجه الثاني: أنه يجوز ورود الأمر بالفعل على الفور وعلى التراخي ويصح مع ذلك أن يقال بوجود الأمر في الصورتين والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا مشترك بين الصورتين سوى طلب الفعل لأن الأصل عدم ما سواه فيجب أن يكون هو مدلول الأمر في الصورتين دون ما به الاقتران من الزمان وغيره نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ. فإن قيل: ما ذكرتموه في بيان امتناع خروج الوقت عن الدخول في مقتضى الأمر معارض بما يدل على نقيضه وبيانه من خمسة وجوه: الأول: أنه إذا قال السيد لعبده: اسقني ماء فإنه يفهم منه تعجيل السقي حتى أنه يحسن لوم العبد وذمه في نظر العقلاء بتقدير التأخير ولولا أنه من مقتضيات الأمر لما كان كذلك إذ الأصل عدم القرينة. الثاني: هو أن مدلول الأمر وهو الفعل المأمور به لا يقع إلا في وقت وزمان فوجب أن يكون الأمر مقتضياً للفعل في أقرب زمان كالمكان وكما لو قال لزوجته أنت طالق ولعبده أنت حر فإن مدلول لفظه يقع على الفور في أقرب زمان. الثالث: أن الأمر مشارك للنهي في مطلق الطلب والنهي مقتض للامتثال على الفور فوجب أن يكون الأمر كذلك. الرابع: أن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده والنهي عن أضداد المأمور به مقتض للانتهاء عنها على الفور وذلك متوقف على فعل المأمور به على الفور فكان الأمر مقتضياً له على الفور. الخامس: أنه تعالى عاتب إبليس ووبخه على مخالفة الأمر بالسجود لآدم في الحال بقوله: "ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك" "الأعراف 12" ولو لم يكن الأمر بالسجود مقتضياً له في الحال لما حسن توبيخه عليه ولكان تلك عذراً لإبليس في تأخيره.
سلمنا عدم دلالة الأمر على وجوب الفعل على الفور لفظاً لكن لم قلتم إنه لا يكون مستلزماً له بواسطة دلالته على أصل الوجوب؟ وبيان ذلك من وجوه أربعة: الأول: أن الأمر إذا دل على وجوب الفعل فقد أجمعنا على وجوب اعتقاده على الفور مع أن ذلك لم يكن مقتضى للأمر بل هو من لوازم مقتضاه فكان مقتضاه على الفور أولى لإصالته. الثاني: أن إجماع السلف منعقد على أن المبادر يخرج عن عهدة الأمر ولا إجماع في المؤخر فكان القول بالتعجيل أحوط وأولى. الثالث: أن الفعل واجب بالاتفاق فلو جاز تأخيره إما أن يجوز إلى غاية معينة أو لا إلى غاية. فإن جاز تأخيره إلى غاية معينة فإما أن تكون معلومة للمأمور أو لا تكون معلومة له فإن كانت معلومة له فإما أن تكون مذكورة بأن يقال له: إلى عشرة أيام مثلاً أو موصوفة الأول خلاف الفرض إذ الفرض فيما إذا كان أمراً مطلقاً غير مقيد بوقت في الذكر وإن كان الثاني فالوقت الموصوف لا يخرج بالإجماع عن الوقت الذي إذا انتهى إليه غلب على ظنه أنه لو أخر المأمور به عنه لفات وذلك لا يكون إلا بأمارة تدل عليه وهي الإجماع غير خارجة عن المرض المرجو وعلو السن وكل واحد من الأمرين مضطرب مختلف فإنه قد يموت قبل ذلك أو يعيش بعده فلا يعتمد عليه وإن كانت الغاية غير معلومة له مع أنه لا يجوز له التأخير عنها كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق وهو ممتنع وهذا كله فيما إذا جاز التأخير إلى غاية. وإن كان التأخير لا إلى غاية فإما أن يجوز ذلك ببدل أو لا ببدل: فإن كان ببدل فذلك البدل إما أن يكون واجباً أو غير واجب: لا جائز أن لا يكون واجباً وإلا لما كان بدلاً عن الواجب بالإجماع وإن كان واجباً فهو ممتنع لوجوه أربعة: الأول أنه لو كان واجباً لوجب أنباه المأمور حالة ورود الأمر نحوه على من حضره حذراً من فوات الواجب الذي هو البدل كما لو ضاق عليه الوقت وكان نائماً الثاني هو أن الأمر لا تعرض فيه لوجوب البدل والأصل عدم دليل آخر ويمتنع القول بوجوب ما لا دليل عليه الثالث أن البدل لو كان واجباً لكان قائماً مقام المبدل ومحصلاً لمقصوده وإلا لما كان بدلاً لما فيه من فوات مقصود الأصل ويلزم من ذلك سقوط المأمور به بالكلية بتقدير الإتيان بالبدل ضرورة حصول مقصوده وهو محال الرابع أنه لو كان البدل واجباً لم يخل إما أن يجوز تأخيره عن الوقت الثاني من ورود الأمر أو لا يجوز: فإن كان الأول فالكلام فيه كالكلام في أصل المأمور به وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فهو أيضاً ممتنع لأن البدل لا يزيد على نفس المبدل ووقت المبدل غير معين فكذلك البدل وإن جاز التأخير أبداً لا ببدل ففيه إخراج الواجب عن حقيقته وهو محال. الرابع: من الوجوه الأول أن امتثال المأمور به من الخيرات وهو سبب الثواب فوجب تعجيله لقوله تعالى: "فاستبقوا الخيرات" "البقرة 148" وقوله تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض" "آل عمران 133" أمر بالمسارعة والمسابقة وهي التعجيل والأمر للوجوب. والجواب عن الوجه الأول أنه إنما فهم التعجيل من أمر السيد بسقي الماء من الظن الحاصل بحاجة السيد إليه في الحال إذ الظاهر أنه لا يطلب سقي الماء من غير حاجة إليه حتى أنه لو لم يعلم أو يظن أن حاجته إليه داعية في الحال لما فهم من أمره التعجيل ولا حسن ذم العبد بالتأخير. فإن قيل: أهل العرف إنما يذمون العبد بمخالفة مطلق الأمر ويقولون في معرض الذم خالف أمر سيده وذلك يدل على أن مطلق الأمر هو المقتضي للتعجيل دون غيره. قلنا: إنما نسلم صحة ذلك في الأمر المقيد بالقرينة دون المطلق والأمر فيما نحن فيه مقيد ثم هو معارض عند مطلق الأمر بصحة عذر العبد بقوله إنما أخرت لعدم علمي وظني بدعو حاجته إليه في الحال وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وعن الثاني من وجهين: الأول: لا نسلم تعين أقرب الأماكن ولا نسلم أن قوله: أنت طالق وأنت حر يفيد صحة الطلاق والعتق بوضعه له لغة بل ذلك لسبب جعل الشرع له علامة على ذلك الحكم الخالي ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر موضوعاً للفور. الثاني: أن حاصله يرجع إلى القياس في اللغة وهو ممتنع كما سبق. وعن الثالث والرابع: ما سبق في المسألة المتقدمة.
وعن الخامس: أن توبيخه لإبليس إنما كان ذلك لإبائه واستكباره ويدل عليه قوله تعالى: "إلا إبليس أبى واستكبر" "البقرة 34" ولتخيره على آدم بقوله: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" "ص 76" ولا يمكن إضافة التوبيخ إلى مطلق الأمر من حيث هو أمر لأنه منقسم إلى أمر إيجاب واستحباب كما سبق تقريره ولا توبيخ على مخالفة أمر الاستحباب إجماعاً ولو كان التوبيخ على مطلق الأمر لكان أمر الاستحباب موبخاً على مخالفته فلم يبق إلا أن يكون التوبيخ على أمر الإيجاب وهو منقسم إلى أمر إيجاب على الفور وأمر إيجاب على التراخي كما إذا قال: أوجبت عليك متراخياً ولا يلزم منه أن يكون مطلق الأمر للإيجاب حالاً وإن سلمنا أنه وبخه على مخالفة الأمر في الحال ولكن لا نسلم أن الأمر بالسجود كان مطلقاً بل هو مقترن بقرينة لفظية موجبة لحمله على الفور وهي قوله تعالى: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" رتب السجود على هذه الأوصاف بفاء التعقيب وهي مقتضية للسجود عقبها على الفور من غير مهلة. قولهم: لم قلتم بأنه لا يكون مستلزماً للفور بواسطة دلالته على وجوب الفعل؟ قلنا: الأصل عدم ذلك. قولهم إنه يجب تعجيل اعتقاد وجوب الفعل قلنا ولم يلزم منه تعجيل وجوب الفعل. قولهم إنه من لوازم وجوب الفعل قلنا من لوازم وجوب تقديم الفعل أو من لوازم وجوب الفعل الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا يلزم منه وجوب تقديم الفعل بدليل ما لو أوجب الفعل مصرحاً بتأخيره فإنه يجب تعجيل اعتقاد وجوبه وإن لم يكن وجوب الفعل على الفور. قولهم القول بالتعجيل أحوط للمكلف قلنا الاحتياط إنما هو باتباع المكلف ما أوجبه ظنه: فإن ظن الفور وجب عليه اتباعه وإن ظن التراخي وجب عليه اتباعه وإلا فبتقدير أن يكون قد غلب على ظنه التراخي فالقول بوجوب التعجيل على خلاف ظنه يكون حراماً وارتكاب المحرم يكون إضراراً فلا يكون احتياطاً. قولهم: لو جاز التأخير إما أن يكون إلى غاية أو لا إلى غاية إلى آخره فهو منقوض بما لو صرح الآمر بجواز التأخير فإن كل ما ذكروه من الأقسام متحقق فيه مع جواز تأخيره وما ذكروه من الآيتين الأخيرتين فهو غير دال على وجوب تعجيل الفعل المأمور به فإنهما بمنطوقهما يدلان على المسارعة إلى الخيرات والمغفرة والمراد به إنما هو المسارعة إلى سبب ذلك ودلالتهما على السبب إنما هي بجهة الاقتضاء والاقتضاء لا عموم له على ما يأتي تقريره فلا دلالة لهما على المسارعة إلى كل سبب للخيرات والمغفرة فيختص ذلك بما اتفق على وجوب تعجيله من الأفعال المأمور بها ولا يعم كل فعل مأمور به. المسألة السادسة الأمر بالشيء على التعيين هل هو نهي عن أضداده؟ اختلفوا فيه وتفصيل المذاهب: أما أصحابنا فالأمر عندهم هو الطلب القائم بالنفس وقد اختلفوا: فمنهم من قال الأمر بالشيء بعينه نهي عن أضداده وإن طلب الفعل بعينه طلب ترك أضداده وهو قول القاضي أبي بكر في أول أقواله ومنهم من قال: هو نهي عن أضداده بمعنى أنه يستلزم النهي عن الأضداد لا أن الأمر هو عين المنهي وهو آخر ما اختاره القاضي في أخر أقواله ومنهم من منع من ذلك مطلقاً وإليه ذهب إمام الحرمين والغزالي. وأما المعتزلة فالأمر عندهم نفس صيغة افعل وقد اتفقوا على أن عين صيغة افعل لا تكون نهياً لأن صيغة النهي لا تفعل وليس إحداهما عين الأخرى وإنما اختلفوا في أن الآمر بالشيء هل يكون نهياً عن أضداده من جهة المعنى: فذهب القدماء من مشايخ المعتزلة إلى منعه ومن المعتزلة من صار إليه كالعارضي وأبي الحسين البصري وغيرهما من المعتبرين منهم ومعنى كونه نهياً عن الأضداد من جهة المعنى عندهم أن صيغة الأمر تقتضي إيجاد الفعل والمنع من كل ما يمنع منه ومنهم من فصل بين أمر الإيجاب والندب وحكم بأن أمر الإيجاب يكون نهياً عن أضداده ومقبحاً لها لكونها مانعة من فعل الواجب بخلاف المندوب ولهذا فإن أضداد المندوب من الأفعال المباحة غير منهي عنها لا نهي تحريم ولا نهي تنزيه.
والمختار إنما هو التفصيل وهو إما أن نقول بجواز التكليف بما لا يطاق أو لا يقول به: فإن قلنا بجوازه على ما هو مذهب الشيخ أبي الحسن رحمة الله عليه كما سبق تقريره فالأمر بالفعل لا يكون بعينه نهياً عن أضداده ولا مستلزماً للنهي عنها بل جائز أن نؤمر بالفعل وبضده في الحالة الواحدة فضلاً عن كونه لا يكون منهياً عنه وإن منعنا ذلك فالمختار أن الأمر بالشيء يكون مستلزماً للنهي عن أضداده لا أن يكون عين الأمر هو عين النهي عن الضد وسواء كان الأمر أمر إيجاب أو ندب أما أنه مستلزم للنهي عن الأضداد فلأن فعل المأمور به لا يتصور إلا بترك أضداده وما لا يتم فعل المأمور به دون تركه فهو واجب الترك إن كان الأمر للإيجاب ومندوب إلى تركه إن كان الأمر للندب على ما سبق تقريره وهو معنى كونه منهياً عنه غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم وعن أضداد المندوب نهي كراهة وتنزيه وأما أنه لا يكون عين الأمر هو عين النهي. فإذا قلنا إن الأمر هو صيغة افعل فظاهر على ما سبق وأما على قولنا إن الأمر هو الطلب القائم بالنفس فلأنا إذا فرضنا الكلام في الطلب النفساني القديم فهو وإن اتحد على أصلنا فإنما يكون أمراً بسبب تعلقه بإيجاد الفعل وهو من هذه الجهة لا يكون نهياً لأنه إنما يكون نهياً بسبب تعلقه بترك الفعل وهما بسبب التغاير في التعلق والمتعلق متغايران وإن فرضنا الكلام في الطلب القائم بالمخلوق فهو وإن تعدد فالأمر منه أيضاً إنما هو الطلب المتعلق بإيجاد الفعل والنهي منه هو الطلب المتعلق بتركه وهما غيران. فإن قيل: لو كان الأمر بالفعل مستلزماً للنهي عن أضداده لكان الأمر بالعبادة مستلزماً للنهي عن جميع المباحات المضادة لها ويلزم من ذلك أن تكون حراماً إن كان النهي نهي تحريم أو مكروهة إن كان النهي نهي تنزيه وخرج المباح عن كونه مباحاً كما ذهب إليه الكعبي من المعتزلة بل ويلزم منه أن يكون ما عدا العبادة المأمور بها من العبادات المضادة لها منهياً عنها ومحرمة أو مكروهة وهو محال كيف وإن الآمر بالفعل قد يكون غافلاً عن أضداده والغافل عن الشيء لا يكون ناهياً عنه لأن النهي عن الشيء يستدعي العلم به والعلم بالشيء مع الذهول عنه محال سلمنا أنه مستلزم للنهي عن أضداده لكن يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر بل يجب أن يكون هو هو بعينه كما قاله القاضي أبو بكر في أحد قوليه ومأخذه أنه إذا وقع الاتفاق على أنه يلزم من الأمر بالفعل النهي عن أضداده فذلك النهي إن كان هو غير الأمر فإما أن يكون ضداً له أو مثلاً أو خلافاً: لا جائز أن يقال بالمضادة وإلا لما اجتمعا وقد اجتمعا ولا جائز أن يكون مثلاً لأن المتماثلات أضداد على ما عرف في الكلاميات ولا جائز أن يكون خلافاً وإلا جاز وجود أحدهما دون الآخر كما في العلم والإرادة ونحوهما ولجاز أن يوجد أحدهما مع ضد الآخر كما يوجد العلم بالشيء مع الكراهة المضادة لإرادته ويلزم من ذلك أنه إذا أمر بالحركة المضادة للسكون إذا كان النهي عن السكون مخالفاً للأمر بالحركة أن يجتمع الأمر بالحركة والأمر بالسكون المضاد المنهي عنه وفيه الأمر بالضدين معاً وهو ممتنع على ما وقع به الفرض وإذا بطلت المغايرة تعين الاتحاد وعلى هذا فالحركة عين ترك السكون وشغل الجوهر بحيز هو عين تفريغه لغيره وعين القرب من المشرق بالفعل الواحد هو عين البعد من المغرب فطلب أحدهما بعينه طلب الآخر لاتحاد المطلوب. والجواب: عن السؤال الأول أنا لا نمنع من كون المباحات بل الواجبات المضادة المأمور بها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به لا في ذاتها كما نقول في فعل الصلاة في الدار المغصوبة فإنه في ذاته غير منهي عنه وإن كان منهياً عنه من جهة ما يتعلق به من شغل ملك الغير كما سبق ذكره ولا التفات إلى ما يهول به من خروج المباحات عن كونها مباحة فإن ذلك إنما يلزم إن لو قيل بكونها منهياً عنها في ذواتها وأما إذا قيل بكونها منهياً عنها من جهة كونها مانعة من فعل المأمور به فلا.
قولهم إنه قد يأمر بالفعل من هو غافل عن أضداده قلنا لا نسلم أن الآمر بالشيء عند كونه آمراً به يتصور أن يكون غافلاً عن طلب ترك ما يمنع من فعل المأمور به من جهة الجملة وإن كان غافلاً عن تفصيله ونحن إنما نريد بقولنا إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الأضداد من جهة الجملة لا من جهة التفصيل. قولهم إنه يمتنع أن يكون النهي عن الأضداد غير الأمر قلنا: دليله ما سبق. وما ذكره القاضي أبو بكر من الدليل فالمختار منه إنما هو قسم التخالف ولا يلزم من ذلك جواز انفكاك أحدهما عن الآخر لجواز أن يكونا من قبيل المختلفات المتلازمة كما في المتضايفات وكل متلازمين من الطرفين وبه يمتنع الجمع بين وجود أحدهما وضد الآخر ولا يلزم من جواز ذلك في بعض المختلفات جوازه في الباقي وإذا بطل ما ذكره من دليل الاتحاد بطل ما هو مبني عليه. المسألة السابعة مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة أن الإتيان بالمأمور به يدل على الإجزاء خلافاً للقاضي عبد الجبار من المعتزلة ومتبعيه فإنه قال لا يدل على الإجزاء. وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تحقيق معنى الإجزاء ليكون التوارد بالنفي والإثبات على محز واحد فنقول: كون الفعل مجزئاً قد يطلق بمعنى أنه امتثل به الأمر عندما إذا أتي به على الوجه الذي أمر به وقد يطلق بمعنى أنه مسقط للقضاء وإذا علم معنى كون الفعل مجزئاً فقد اتفق الكل على أن الإتيان بالمأمور به على الوجه الذي أمر به يكون مجزئاً بمعنى كونه امتثالاً للأمر وذلك مما لا خلاف فيه وإنما خالف القاضي عبد الجبار في كونه مجزئاً بالاعتبار الآخر وهو أنه لا يسقط القضاء ولا يمتنع مع فعله من الأمر بالقضاء وهو مصرح به في عمده. وعلى هذا فكل من استدل من أصحابنا كإمام الحرمين وغيره من القائلين بالإجزاء على كون الفعل امتثالاً وخروجاً عن عهدة الأمر الأول فقد استدل على محل الوفاق وحاد عن موضع النزاع لكن قد أورد أبو الحسين البصري إشكالاً على تفسير أجزاء الفعل بكونه مسقطاً للقضاء وقال لو أمر بالصلاة مع الطهارة فأتى بها من غير طهارة ومات عقيب الصلاة فإنه لا يكون فعله مجزئاً وإن كان القضاء ساقطاً وربما زاد عليه بعض الأصحاب وقال يمتنع تفسير الإجزاء بسقوط القضاء لأنا نعلل وجوب القضاء بكون الفعل الأول لم يكن مجزئاً والعلة لا بد وأن تكون مغايرة للمعلول. والوجه في إبطالهما أن يقال: أما الأول فلأن الإجزاء ليس هو نفس سقوط القضاء مطلقاً ليلزم ما قيل بل سقوط القضاء بالفعل في حق من يتصور في حقه وجوب القضاء وذلك غير متصور في حق الميت. وأما الثاني: فلأن علة صحة وجوب القضاء إنما هو استدراك ما فات من مصلحة أصل العبادة أو صفتها أو مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب لمانع لا ما قيل. وإذا تنقح محل النزاع فنعود إلى المقصود فنقول: الفعل المأمور به لا يخلو إما أن يكون قد أتى به المأمور على نحو ما أمر به من غير خلل ولا نقص في صفته وشرطه أو أتى به على نوع من الخلل. والقسم الثاني: أنه لا نزاع في كونه غير مجزئ ولا مسقط للقضاء وإنما النزاع في القسم الأول وليس النزاع فيه أيضاً من جهة أنه يمتنع ورود أمر مجدد بعد خروج الوقت بفعل مثل ما أمر به أولاً وإنما النزاع في ورود الأمر بالفعل متصفاً بصفة القضاء والحق نفيه لأن القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة صفته أو شرطه وإذا كان المأمور به قد فعل على جهة الكمال والتمام من غير نقص ولا خلل فوجوب القضاء استدراكاً لما قد حصل تحصيل للحاصل وهو محال ومن ينفي القضاء إنما ينفيه بهذا التفسير وهذا مما يتعذر مع تحقيقه المنازعة فيه وإن كان لا ينكر إمكان ورود الأمر خارج الوقت بمثل ما فعل أولاً غير أنه لا يسميه قضاء ومن سماه قضاء فحاصل النزاع معه آيل إلى اللفظ دون المعنى. شبه الخصوم: الأولى أن من صلى وهو يظن أنه متطهر ولم يكن متطهراً مأمور بالصلاة فإن كان مأموراً بها مع الطهارة حقيقة فهو عاص آثم بصلاته حيث لم يكن متطهراً وإن كان مأموراً بالصلاة على حسب حاله فقد أتى بما أمر به على الوجه الذي أمر به ومع ذلك يجب عليه القضاء إذ لم يكن متطهراً وكذلك المفسد للحج مأمور بمضيه في حجة الفاسد ويجب عليه القضاء.
الثانية: أن الأمر لا يدل على غير طلب الفعل ولا دلالة له على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به فلا يكون مقتضياً له. الثالثة: أن الأمر مثل النهي في الطلب والنهي لا دلالة فيه على فساد المنهي عنه فالأمر لا يدل على كون المأمور به مجزئاً. وجواب الأولى: أنا لا نسلم وجوب القضاء فيما إذا صلى على ظن الطهارة ثم علم أنه لم يكن متطهراً على قول لنا وإن سلمنا وجوب القضاء لكنه ليس واجباً عما أمر به من الصلاة المظنون طهارتها ولا عما أمر به من المضي في الحج الفاسد لأنه قد أتى بما أمر به على النحو الذي أمر به وإنما القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أولاً من الصلاة مع الطهارة والحج العري عن الفساد. وعن الثانية: أنا لا نمنع من ورود أمر يدل على مثل ما فعل أولاً وإنما المدعي أنه إذا أتى المأمور بفعل المأمور به على نحو ما أمر به امتنع وجوب القضاء بما ذكرناه من التفسير. وعن الثالثة: أنه قياس في اللغة وقد أبطلناه وإن سلم صحته غير أنا لا نقول بأن الأمر يدل على الإجزاء بمعنى امتناع وجوب القضاء بل امتثال الأمر هو المانع من وجوب القضاء على ما تقرر وفرق بين الأمرين. المسألة الثامنة إذا وردت صيغة افعل بعد الحظر فمن قال إنها للوجوب قبل الحظر اختلفوا فمنهم من أجراها على الوجوب ولم يجعل لسبق الحظر تأثيراً كالمعتزلة ومنهم من قال بأنها للإباحة ورفع الحجر لا غير وهم أكثر الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمين وغيره. والمختار أنها وإن كانت ظاهرة في الطلب والاقتضاء وموقوفة بالنسبة إلى الوجوب والندب على ما سبق تقرير كل واحد من الأمرين إلا أنها محتملة للإباحة والإذن في الفعل كما تقدم فإذا وردت بعد الحظر احتمل أن تكون مصروفة إلى الإباحة ورفع الحجر كما في قوله تعالى: "وإذا حللتم فاصطادوا" "المائدة 2" "وإذا طعمتم فانتشروا" "الأحزاب 53" "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا" "الجمعة 10" وقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا" واحتمل أن تكون مصروفة إلى الوجوب كما لو قيل للحائض والنفساء: إذا زال عنك الحيض فصلي وصومي. وعند هذا فإما أن يقال بتساوي الاحتمالين أو بترجيح أحدهما على الآخر. فإن قيل بالتساوي امتنع الجزم بأحدهما ووجب التوقف وإن قيل بوجوب الترجيح وامتناع التعارض من كل وجه فليس اختصاص الوجوب به أولى من الإباحة إلا أن يقوم الدليل على التخصيص والأصل عدمه وعلى هذا أيضاً فيجب التوقف كيف وأن احتمال الحمل على الإباحة أرجح نظراً إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون الوجوب وعلى كل تقدير فيمتنع الصرف إلى الوجوب. وبالجملة فهذه المسألة مستمدة من مسألة أن صيغة افعل إذا وردت مطلقة هل هي ظاهرة في الوجوب أو الندب أو موقوفة وقد تقرر مأخذ كل فريق وما هو المختار فيه والله أعلم. المسألة التاسعة إذا ورد الأمر بعبادة في وقت مقدر فلم تفعل فيه لعذر أو لغير عذر أو فعلت فيه على نوع من الخلل اختلفوا في وجوب قضائها بعد ذلك الوقت هل هو بالأمر الأول أو بأمر مجدد: الأول هو مذهب الحنابلة وكثير من الفقهاء والثاني هو مذهب المحققين من أصحابنا والمعتزلة. ونقل عن أبي زيد الدبوسي أنه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع. وإن ورد مطلقاً غير مقيد بوقت فمن قال بحمله على الفور اختلفوا فيما إذا وقع الإخلال به في أول وقت الإمكان هل يجب قضاؤه بنفس ذلك الأمر أو بأمر مجدد. والمختار أنه مهما قيد الأمر بوقت فالقضاء بعده لا يكون إلا بأمر مجدد وبيانه من وجوه. الأول أنه لو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان مشعراً به وهو غير مشعر به فإنه إذا قال صم في يوم الخميس أو صل في وقت الزوال فإنه لا إشعار له بإيقاع الفعل في غير ذلك الوقت لغة. الثاني: أنه إذا علق الفعل بوقت معين فلا بد وأن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى المكلف إذ هو الأصل في شرع الأحكام. وسواء ظهرت الحكمة أم لم تظهر وتلك الحكمة إما أن تكون حاصلة من الفعل في غير ذلك الوقت أو غير حاصلة وليست حاصلة لثلاثة أوجه: الأول أنه يحتمل أن يكون ويحتمل أن لا يكون والأصل العدم.
الثاني: أنها لو كانت حاصلة فإما أن تكون مثلاً لها في الوقت الأول أو أزيد لا جائز أن تكون أزيد وإلا كان الحث على إيجاد الفعل بعد فوات وقته أولى من فعله في الوقت وهو محال وإن كانت مثلاً فهو ممتنع وإلا لما كان تخصيص أحد الوقتين بالذكر أولى من الآخر. الثالث: أن الفعل في الوقت موصوف بكونه أداء وقد قال عليه السلام: "لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم". وإذا لم تكن حاصلة في الوقت الثاني حسب حصولها في الوقت الأول فلا يلزم من اقتضاء الأمر للفعل في الوقت الأول أن يكون مقتضياً له فيما بعده وصار هذا كما لو أمر الطبيب بشرب الدواء في وقت فإنه لا يكون متناولاً لغير ذلك الوقت. وكذلك إذا علق الأمر بشرط معين كاستقبال جهة معينة أو بمكان معين كالأمر بالوقوف بعرفة فإنه لا يكون متناولاً لغيره. الوجه الثالث من الوجوه الأول أن العبادات المأمور بها منقسمة إلى ما يجب قضاؤه كالصوم والصلاة وإلى ما لا يجب كالجمعة والجهاد فلو كان الأمر الأول مقتضياً للقضاء لكان القول بعدم القضاء فيما فرض من الصور على خلاف الدليل وهو ممتنع. الرابع قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" أمر بالقضاء ولو كان مأموراً به بالأمر الأول لكانت فائدة الخبر التأكيد ولو لم يكن مأموراً به لكانت فائدته التأسيس وهو أولى لعظم فائدته. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من خمسة أوجه: الأول قوله: صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ومن فاته الوقت الأول فهو مستطيع للفعل في الوقت الثاني. الثاني: أن الأمر إنما يدل على طلب الفعل وهو مقتضاه لا غير وأما الزمان فلا يكون مطلوباً بالأمر إذ ليس هو من فعل المكلف وإنما وقع ذلك ضرورة كونه ظرفاً للفعل فاختلاله لا يؤثر في مقتضى الأمر وهو الفعل. الثالث: أن الغالب من المأمورات في الشرع إنما هو القضاء بتقدير فوات أوقاتها المعينة ولا بد لذلك من مقتض والأصل عدم كل ما سوى الأمر السابق فكان هو المقتضي. الرابع: أنه لو وجب القضاء بأمر مجدد لكان أداء كما في الأمر الأول ولما كان لتسميته قضاء معنى. الخامس: أن العبادة حق لله تعالى والوقت المفروض كالأجل لها ففوات أجلها لا يوجب سقوطها كما في الدين للآدمي ولأنه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط المأثم لأنه من أحكام وجوب الفعل ولأن الأصل بقاء الوجوب فالقول بالسقوط بفوات الأجل على خلاف مقتضى الأصل. والجواب: عن المعارضة الأولى أن الخبر دليل وجوب الإتيان بما أستطيع من المأمور به وإنما يفيد أن لو كان الفعل في الوقت الثاني داخلاً تحت الأمر الأول وهو محل النزاع. وعن الثاني: أن الأمر اقتضى مطلق الفعل أو فعلاً مخصوصاً بصفة وقوعه في وقت معين؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. وعن الثالث: أن القضاء فيما قيل بقضائه إنما كان بناء على أدلة أخرى لا بالأمر الأول. قولهم الأصل عدم ما سوى الأمر الأول قلنا: والأصل عدم دلالة الأمر الأول عليه كيف وقد بينا عدم دلالته. وعن الرابع أنه إنما سمي قضاء لكونه مستدركاً لما فات من مصلحة الفعل المأمور به أولاً أو مصلحة وصفه كما تقدم تحقيقه. وعن الخامس: بمنع كون الوقت أجلاً للفعل المأمور به إذ الأجل عبارة عن وقت مهلة وتأخير المطالبة بالواجب من أوله إلى آخره كما في الحول بالنسبة إلى وجوب الزكاة ولذلك لا يأثم بإخراج وقت الأجل عن قضاء الدين وإخراج الحول عن أداء الزكاة فيه ولا كذلك الوقت المقدر للصلاة بل هو صفة الفعل الواجب ومن وجب عليه فعل بصفة لا يكون مؤدياً له دون تلك الصفة. وعلى هذا فلا يخفى الكلام في الأمر المطلق إذا كان محمولاً على الفور ولم يؤت بالمأمور به في أول وقت الإمكان. المسألة العاشرة الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال لا يكون أمراً لذلك الغير بذلك الفعل وبيانه من وجهين: الأول أنه لو كان أمراً لذلك الغير لكان ذلك مقتضاه لغة ولو كان كذلك لكان أمره صلى الله عليه وسلم لأولياء الصبيان بقوله: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" أمراً للصبيان بالصلاة من الشارع وليس كذلك لوجهين: الأول أن الأمر الموجه نحو الأولياء أمر تكليف ولذلك يذم الولي بتركه شرعاً فلو كان ذلك أيضاً أمراً للصبيان لكانوا مكلفين بأمر الشارع وخاصة ذلك لحوق الذم بالمخالفة شرعاً وهو غير متصور في حق الصبيان لعدم فهمهم لخطاب الشارع ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ" الخبر ويمكن أن يقال فيه: الأمر للولي والصبي وإن كان واحداً غير أن نسبته إليهما مختلفة فلا يمتنع اختلافهما في الذم بسبب ذلك. الثاني: أنه لو كان أمراً للصبي لم يخل إما أن يكون أهلاً لفهم خطاب الشارع أو لا يكون أهلاً له فإن كان الأول فلا حاجة إلى أمر الولي له أو أن يكون أحد الأمرين تأكيداً والأصل في إفادة الألفاظ لمعانيها إنما هو التأسيس وإن لم يكن أهلاً له فأمره وخطابه ممتنع بالإجماع وإذا لم يكن أمر الولي بأمر الصبيان أمراً للصبيان فإما أن يكون ذلك لعدم اقتضائه لذلك لغة أو لمعارض والمعارضة يلزم منها تعطيل أحد الدليلين عن إعماله وهو خلاف الأصل فلم يبق إلا أن يكون ذلك لعدم اقتضائه له لغة وهو المطلوب. الثاني: من الوجهين الأولين أنه يحسن أن يقول السيد لعبده سالم مر غانماً بكذا ويقول لغانم: لا تطعه ولا يعد ذلك مناقضة في كلامه ولو كان ذلك أمراً لغانم لكان كأنه قال: أوجبت عليك طاعتي ولا تطعني وهو تناقض. وعلى هذا لو أوجب الآمر على المأمور أن يأخذ من غيره مالاً لا يكون ذلك إيجاباً للإعطاء على ذلك الغير كما في قوله تعالى لنبيه: "خذ من أموالهم صدقة" "التوبة 103" فإن ذلك لا يدل على إيجاب إعطاء الصدقة على الأمة بنفس ذلك الإيجاب بل إن وجب فإنما يجب بدليل آخر موجب لطاعة الرسول فيما يحكم به تعظيماً له ونفياً لما يلزم من مخالفته من تحقيره وهضمه في أعين الناس المبعوث إليهم المفضي إلى الإخلال بمقصود البعثة وإلا فلا يبعد أن يقول السيد لأحد عبديه أوجبت عليك أن تأخذ من العبد الآخر كذا ويقول للآخر: حرمت عليك موافقته من غير مناقضة فيما أوجبه ولو كان إيجاب ذلك على أحد العبدين إيجاباً على العبد الآخر لكان تناقضاً فإن قيل: وجوب الأخذ إنما يتم بالإعطاء وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. قلنا: إن كان الوجوب متعلقاً بنفس الطلب فهو غير متوقف على الإعطاء وإن كان متعلقاً بنفس الأخذ وإن كان لا يتم ذلك دون الإعطاء فليس كل ما يتوقف عليه الواجب يكون واجباً إلا أن يكون ذلك مقدوراً لمن وجب عليه الأخذ وإعطاء الغير غير مقدور لمن وجب عليه الأخذ فلا يكون واجباً. المسألة الحادية عشرة إذا أمر بفعل من الأفعال مطلقاً غير مقيد في اللفظ بقيد خاص قال بعض أصحابنا: الأمر إنما تعلق بالماهية الكلية المشتركة ولا تعلق له بشيء من جزئياتها وذلك كالأمر بالبيع فإنه لا يكون أمراً بالبيع بالغبن الفاحش ولا بثمن المثل إذ هما متفقان في مسمى البيع ومختلفان بصفتهما والأمر إنما تعلق بالقدر المشترك وهو غير مستلزم لما تخصص به كل واحد من الأمرين فلا يكون الأمر المتعلق بالأعم متعلقاً بالأخص اللهم إلا أن تدل القرينة على إرادة أحد الأمرين. قال: ولذلك قلنا إن الوكيل في البيع المطلق لا يملك البيع بالغبن الفاحش وهو غير صحيح وذلك لأن ما به الاشتراك بين الجزئيات معنى كلي لا تصور لوجوده في الأعيان وإلا كان موجوداً في جزئياته ويلزم من ذلك انحصار ما يصلح اشتراك كثيرين فيه فيما لا يصلح لذلك وهو محال.
وعلى هذا فليس معنى اشتراك الجزئيات في المعنى الكلي هو أن الحد المطابق للطبيعة الموصوفة بالكلية مطابق للطبيعة الجزئية بل إن تصور وجوده فليس في غير الأذهان وإذا كان كذلك فالأمر: طلب إيقاع الفعل على ما تقدم وطلب الشيء يستدعي كونه متصوراً في نفس الطالب على ما تقدم تقريره وإيقاع المعنى الكلي في الأعيان غير متصور في نفسه فلا يكون متصوراً في نفس الطالب فلا يكون أمراً به ولأنه يلزم منه التكليف بما لا يطاق ومن أمر بالفعل مطلقاً لا يقال إنه مكلف بما لا يطاق فإذا الأمر لا يكون بغير الجزئيات الواقعة في الأعيان لا بالمعنى الكلي وبطل ما ذكره. ثم وإن سلم أن الأمر متعلق بالمعنى الكلي المشترك وهو المسمى بالبيع فإذا أتى المأمور ببعض الجزئيات كالبيع بالغبن الفاحش فقد أتى بما هو مسمى البيع المأمور به الموكل فيه فوجب أن يصح نظراً إلى مقتضى صيغة الأمر المطلق بالبيع وإن قيل بالبطلان فلا يكون ذلك لعدم دلالة الأمر به بل لدليل معارض. المسألة الثانية عشرة الأمران المتعاقبان إما أن لا يكون الثاني معطوفاً على الأول أو يكون معطوفاً: فإن كان الأول فإما أن يختلف المأمور به أو يتماثل: فإن اختلف فلا خلاف في اقتضاء المأمورين على اختلاف المذاهب في الوجوب والندب والوقف وسواء أمكن الجمع بينهما كالصلاة مع الصوم أم لا يمكن الجمع كالصلاة في مكانين أو الصلاة مع أداء الزكاة وإن تماثل فإما أن يكون المأمور به قابلاً للتكرار أو لا يكون قابلاً له: فإن لم يكن قابلاً له كقوله: صم يوم الجمعة صم يوم الجمعة فإنه للتأكيد المحض وإن كان قابلاً للتكرار فإن كانت العادة مما تمنع من تكرره كقول السيد لعبده: اسقني ماء اسقني ماء أو كان الثاني منهما معرفاً كقوله: أعط زيداً درهماً أعط زيداً الدرهم فلا خلاف أيضاً في كون الثاني مؤكداً للأول. وإنما الخلاف فيما لم تكن العادة مانعة من التكرار والثاني غير معرف كقوله: صل ركعتين صل ركعتين فقال القاضي عبد الجبار: إن الثاني يفيد غير ما أفاده الأول ويلزم الإتيان بأربع ركعات مصيراً منه إلى أن الأمر الثاني لو انفرد أفاد اقتضاء الركعتين فكذلك إذا تقدمه أمر آخر لأن الاقتضاء لا يختلف وخالفه أبو الحسين البصري بالذهاب إلى الوقف والتردد بين حمل الأمر الثاني على الوجوب أو التأكيد للأول والأظهر أنه إذا لم تكون العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف أن مقتضى الثاني غير مقتضى الأول. وسواء قلنا إن مقتضى الأمر الوجوب أم الندب أم هو موقوف بين الوجوب والندب كما سبق لأنه لو كان مقتضياً عين ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأكيد ولو كان مقتضياً غير ما اقتضاه الأول لكانت فائدته التأسيس والتأسيس أصل والتأكيد فرع وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى. فإن قيل إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة النفي الأصلي ودليل براءة الذمة من القدر الزائد وليس أحد الأمرين أولى من الآخر فهو معارض بما يلزم من التأكيد من مخالفة ظاهر الأمر فإنه إما أن يكون ظاهراً في الوجوب أو الندب أو هو متردد بينهما على وجه لا خروج له عنهما على اختلاف المذاهب وحمله على التأكيد خلاف ما هو الظاهر من الأمر وإذا تعارض الترجيحان سلم لنا ما ذكرناه أولاً كيف وإنه يحتمل أن يكون للوجوب في نفس الأمر وفي تركه محذور فوات المقصود من الواجب وتحصيل مقصود التأكيد ولا يخفى أن تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود الواجب أولى.
وأما إن كان الأمر الثاني معطوفاً على الأول فإن كان المأمور به مختلفاً فلا نزاع أيضاً في اقتضائهما للمأمورين أمكن الجمع بينهما أو لم يمكن وإن تماثلاً فالمأمور به إن لم يقبل التكرار فالأمر الثاني للتأكيد من غير خلاف كقوله: صم يوم الجمعة وصم يوم الجمعة وإن كان قابلاً للتكرار فإن لم تكن العادة مانعة من التكرار ولا الثاني معرف فالحكم على ما تقدم فيما إذا لم يكن حرف عطف ويزيد ترجيح آخر وهو موافقة الظاهر من حروف العطف وذلك كقوله: صل ركعتين وصل ركعتين وأما إن كانت العادة تمنع من التكرار أو كان الثاني معرفاً كقوله: اسقني ماء واسقني ماء وكقوله: صل ركعتين وصل ركعتين فقد تعارض الظاهر من حروف العطف مع اللام المعرف أو مع منع العادة من التكرار ويبقى الأمر على ما ذكرنا فيما إذا لم يكن حرف عطف ولا ثم تعريف ولا عادة مانعة من التكرار وقد عرف ما فيه. وأما إن اجتمع التعريف والعادة المانعة من التكرار في معارضة حرف العطف كقوله: اسقني ماء واسقني الماء فالظاهر الوقف لأن حرف العطف مع ما ذكرناه من الترجيح السابق الموجب لحمل الأمر الثاني على التأسيس واقع في مقابلة العادة المانعة من التكرار ولام التعريف ولا يبعد ترجيح أحد الأمرين بما يقترن به من ترجيحات أخر. الصنف الثاني في النهي: أعلم أنه لما كان النهي مقابلاً للأمر فكل ما قيل في حد الأمر على أصولنا وأصول المعتزلة من المزيف والمختار فقد قيل مقابله في حد النهي ولا يخفى وجه الكلام فيه. والكلام في أن النهي على أصول أصحابنا هل له صيغة تخصه وتدل عليه؟ فعلى ما سبق في الأمر أيضاً وأن صيغة لا تفعل وإن ترددت بين سبعة محامل وهي التحريم والكراهة والتحقير كقوله تعالى: "ولا تمدن عينيك" "طه 131" وبيان العاقبة كقوله: "ولا تحسبن الله غافلاً" "إبراهيم 42" والدعاء كقوله: "لا تكلنا إلى أنفسنا" واليأس كقوله: "لا تعتذروا اليوم" "التحريم 7" والإرشاد كقوله: "لا تسألوا عن أشياء" فهي حقيقة في طلب الترك واقتضائه ومجاز فيما عداه وأنها هل هي حقية في التحريم أو الكراهة أو مشتركة بينهما أو موقوفة؟ فعلى ما سبق في الأمر من الزيف والمختار والخلاف في أكثر مسائله فعلى وزان الخلاف في مقابلاتها من مسائل الأمر ومأخذها كمأخذها فعلى الناظر بالنقل والاعتبار. غير أنه لا بد من الإشارة إلى ما تدعو الحاجة إلى معرفته من المسائل الخاصة بالنهي لاختصاصها بمأخذ لا تحقق له في مقابلاتها من مسائل الأمر وهي ثلاث مسائل. المسألة الأولى اختلفوا في أن النهي عن التصرفات والعقود المفيدة لأحكامها كالبيع والنكاح ونحوهما هل يقتضي فسادها أو لا؟ فذهب جماهير الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وجميع أهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى فسادها لكن اختلفوا في جهة الفساد: فمنهم من قال إن ذلك من جهة اللغة ومنهم من قال إنه من جهة الشرع دون اللغة ومنهم من لم يقل بالفساد وهو اختيار المحققين من أصحابنا كالقفال وإمام الحرمين والغزالي وكثير من الحنفية وبه قال جماعة من المعتزلة كأبي عبد الله البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وكثير من مشايخهم ولا نعرف خلافاً في أن ما نهى عنه لغيره أنه لا يفسد كالنهي عن البيع في وقت النداء يوم الجمعة إلا ما نقل عن مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. والمختار أن ما نهي عنه لعينه فالنهي لا يدل على فساده من جهة اللغة بل من جهة المعنى. أما أنه لا يدل على الفساد من جهة اللغة فلأنه لا معنى لكون التصرف فاسداً سوى انتفاء أحكامه وثمراته المقصودة منه وخروجه عن كونه سبباً مفيداً لها والنهي هو طلب ترك الفعل ولا إشعار له بسلب أحكامه وثمراته وإخراجه عن كونه سبباً مفيداً لها. ولهذا فإنه لو قال: نهيتك عن ذبح شاة الغير بغير إذنه لعينه ولكن إن فعلت حلت الذبيحة وكان ذلك سبباً للحل ونهيتك عن استيلاد جارية الابن لعينه وإن فعلت ملكتها ونهيتك عن بيع مال الربا بجنسه متفاضلاً لعينه وإن فعلت ثبت الملك وكان البيع سببا له فإنه لا يكون متناقضاً ولو كان النهي عن التصرف لعينه مقتضياً لفساده لكان ذلك متناقضاً.
وأما أنه يدل على الفساد من جهة المعنى فذلك لأن النهي طلب ترك الفعل وهو إما أن يكون لمقصود دعا الشارع إلى طلب ترك الفعل أو لا لمقصود: لا جائز أن يقال إنه لا لمقصود. أما على أصول المعتزلة فلأنه عبث والعبث قبيح والقبيح لا يصدر من الشارع. وأما على أصولنا فإنا وإن جوزنا خلو أفعال الله تعالى عن الحكم والمقاصد غير أنا نعتقد أن الأحكام المشروعة لا تخلو عن حكمة ومقصود راجع إلى العبد لكن لا بطريق الوجوب بل بحكم الوقوع فالإجماع إذاً منعقد على امتناع خلو الأحكام الشرعية عن الحكم وسواء ظهرت لنا أم لم تظهر وبتقدير تسليم خلو بعض الأحكام عن الحكمة إلا أنه نادر والغالب عدم الخلو وعند ذلك فإدراج ما وقع فيه النزاع تحت الغالب يكون أغلب. وإذا بطل أن يكون ذلك لا لمقصود تعين أن يكون لمقصود وإذا كان لمقصود فلو صح التصرف وكان سبباً لحكمه المطلوب منه فإما أن يكون مقصود النهي راجحاً على مقصود الصحة أو مساوياً أو مرجوحاً لا جائز أن يكون مرجوحاً إذ المرجوح لا يكون مقصوداً مطلوباً في نظر العقلاء والغالب من الشارع إنما هو التقرير لا التغيير. وما لا يكون مقصوداً فلا يرد طلب الترك لأجله وإلا كان الطلب خلياً عن الحكمة وهو ممتنع لما سبق. وبمثل ذلك يتبين أنه لا يكون مساوياً فلم يبق إلا أن يكون راجحاً على مقصود الصحة ويلزم من ذلك امتناع الصحة وامتناع انعقاد التصرف لإفادة أحكامه وإلا كان الحكم بالصحة خلياً عن حكمة ومقصود ضرورة كون مقصودها مرجوحاً على ما تقدم تقريره وإثبات الحكم خلياً عن الحكمة في نفس الأمر ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع وهو المطلوب. فإن قيل: ما ذكرتموه من كون النهي لا يدل على الفساد لغة معارض بما يدل عليه وبيانه من جهة النص والإجماع والمعنى. أما من جهة النص فقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي رواية "أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" والمردود ما ليس بصحيح ولا مقبول ولا يخفى أن المنهي ليس بمأمور ولا هو من الدين فكان مردوداً. وأما الإجماع فهو أن الصحابة استدلوا على فساد العقود بالنهي فمن ذلك احتجاج ابن عمر على فساد نكاح المشركات بقوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات" "البقرة 221" ولم ينكر عليه منكر فكان إجماعاً ومنها احتجاج الصحابة على فساد عقود الربا بقوله تعالى: "وذروا ما بقي من الربا" "البقرة 278" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق" الحديث إلى آخره. وأما المعنى فمن وجهين: الأول أنا أجمعنا على حمل بعض المناهي على الفساد كالنهي عن بيع الجزء المجهول ولو لم يكن ذلك مقتضى النهي ويلزم منه الفساد حيث وجد وإلا كان فيه نفي المدلول مع تحقق دليله وهو ممتنع مخالف للأصل. الثاني النهي مشارك للأمر في الطلب والاقتضاء ومخالف له في طلب الترك والأمر دليل الصحة فليكن النهي دليل الفساد المقابل للصحة ضرورة كون النهي مقابلاً للأمر وأنه يجب أن يكون حكم أحد المتقابلين مقابلاً لحكم الآخر. ثم ما ذكرتموه منقوض بالنهي عن العبادة لعينها فإنا أجمعنا على أنها لا تصح ولو صرح الناهي بالصحة لكان متناقضاً وإن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لغة ولكن لا نسلم دلالته على الفساد من جهة المعنى وما ذكرتموه من وجوب ترجيح مقصود النهي على مقصود الصحة فغايته أنه يناسب نفي الصحة وليس يلزم من ذلك نفي الصحة إلا أن يتبين له شاهد بالاعتبار ولو بينتم له شاهداً بالاعتبار كان الفساد لازماً من القياس لا من نفس النهي ولا من معناه. والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" من ثلاثة أوجه: الأول: لا نسلم أن الفعل المأتي به من حيث إنه سبب لترتب أحكامه عليه ليس من الدين حتى يكون مروداً. الثاني: أنه أراد به الفاعل وتقديره: من أدخل في ديننا ما ليس منه فالفاعل رد أي مردود ومعنى كونه مردوداً أنه غير مثاب عليه ونحن نقول به فإن قيل: عود الضمير إلى الفعل أولى إذ هو أقرب مذكور قلنا إلا أنه يلزم منه المعارضة بينه وبين ما ذكرناه من الدليل ولا كذلك فيما إذا عاد إلى نفس الفاعل فكان عوده إلى الفاعل أولى.
الثالث: أنه وإن عاد إلى نفس الفعل المنهي عنه إلا أن معنى كونه رداً أنه مردود بمعنى أنه غير مقبول وما لا يكون مقبولاً هو الذي لا يكون مثاباً عليه ولا يلزم من كونه غير مثاب عليه أن لا يكون سبباً لترتب أحكامه الخاصة به عليه وهو عين محل النزاع. وعن الحديث الآخر ما ذكرناه من الوجه الثاني والثالث ثم وإن سلمنا دلالتهما على الفساد فليس في ذلك ما يدل على أن الفساد من مقتضيات النهي بل من دليل آخر وهو قوله فهو رد ونحن لا ننكر ذلك. وعن الإجماع لا نسلم صحة احتجاجهم بدلالة النهي لغة على الفساد بل إن صح ذلك فإنما يصح بالنظر إلى دلالة الالتزام على ما قررنا ويجب الحمل عليه جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الدليل وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول من المعنى. وعن الثاني: من المعنى أن النهي وإن كان مقابلاً للأمر فلا نسلم أن الأمر مقتض للصحة حتى يكون النهي مقتضياً للفساد وإن سلمنا اقتضاء الأمر للصحة وأن النهي مقابل له فلا نسلم لزوم اختلاف حكميها لجواز اشتراك المتقابلات في لازم واحد وإن سلم أنه يلزم من ذلك تقابل حكميهما فيلزم أن لا يكون النهي مقتضياً للصحة أما أن يكون مقتضياً للفساد فلا وأما النقض بالنهي عن العبادة فمندفع لأنه مهما كان النهي عن الفعل لعينه فلا يتصور أن يكون عبادة مأموراً بها وما لم يكن عبادة فلا يتصور صحته عبادة وإن قيل بفساده من جهة خروجه عن كونه سبباً لترتيب الأحكام الخاصة به عليه فهو محل النزاع. وعن الاعتراض الأخير أنا لا نقضي بالفساد لوجود مناسب الفساد ليفتقر إلى شاهد بالاعتبار وإنما قضينا بالفساد لعدم المناسب المعتبر بما بيناه من استلزام النهي لذلك. المسألة الثانية اتفق أصحابنا على أن النهي عن الفعل لا يدل على صحته ونقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنهما قالا: يدل على صحته والمختار مذهب أصحابنا لوجهين: الأول: أن النهي لو دل على الصحة فإما أن يدل عليها بلفظه أو بمعناه إذ الأصل عدم ما سوى ذلك واللازم ممتنع. وبيان امتناع دلالته على الصحة بلفظه أن صحة الفعل لا معنى لها سوى ترتب أحكامه الخاصة به عليه والنهي لغة لا يزيد على طلب ترك الفعل ولا إشعار له بغير ذلك نفياً ولا إثباتاً. وبيان امتناع دلالته على الصحة بمعناه ما بيناه من أن النهي بمعناه يدل على الفساد في المسألة المتقدمة فلا يكون ذلك مفيداً لنقيضه وهو الصحة. الوجه الثاني: أنا أجمعنا على وجود النهي حيث لا صحة كالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين وبيع حبل الحبلة وكالنهي عن الصلاة في أيام الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم: "دعي الصلاة أيام إقرائك" والنهي عن نكاح ما نكح الأباء بقوله تعالى: "ولا تنحكوا ما نكح آباؤكم من النساء" "النساء 22" ولو كان النهي مقتضياً للصحة لكان تخلف الصحة مع وجود النهي على خلاف الدليل وهو خلاف الأصل وسواء كان لمعارض أو لا لمعارض. فإن قيل: إذا نهى الشرع عن صوم يوم النحر وعن الصلاة في الأوقات والأماكن المكروهة وعن بيع الربا فالأصل تنزيل لفظ الصلاة والصوم والبيع على عرف الشارع وعرف الشارع في ذلك إنما هو الفعل المعتبر في حكمه شرعاً فلو لم يكن التصرف المنهي عنه كذلك لما كان هو التصرف الشرعي وهو ممتنع. قلنا: أولاً لا نسلم وجود عرف الشرع في هذه الأسماء لما سبق وإن سلمنا أن له عرفاً لكن في طرف الأوامر أو النواهي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وعلى هذا فالنهي إنما هو عن التصرف اللغوي دون الشرعي وإن سلمنا عرف الشارع في هذه الأسماء ولكن لا نسلم أن عرفه فيها ما ذكروه بل ما هو بحال يصح ويمكن صحته ويجب الحمل على ذلك جمعاً بين الأدلة ولا يلزم من كون التصرف ممكن الصحة وقوع الصحة كيف وإن ما ذكروه منتقض بما ذكرناه من المناهي مع انتفاء الصحة عن منهياتها. المسألة الثالثة اتفق العقلاء على أن النهي عن الفعل يقتضي الانتهاء عنه دائماً خلافاً لبعض الشاذين ودليل ذلك أنه لو قال السيد لعبده: لا تفعل كذا وقدرنا نهيه مجرداً عن جميع القرائن فإن العبد لو فعل ذلك في أي وقت قدر يعد مخالفاً لنهي سيده ومستحقاً للذم في عرف العقلاء وأهل اللغة ولو لم يكن النهي مقتضياً للتكرار والدوام لما كان كذلك.
فإن قيل: لا خفاء بأن النهي قد يرد ويراد به الدوام كما في النهي عن الربا وشرب الخمر ونحوه وقد يرد ولا يراد به الدوام كما في نهي الحائض عن الصوم والصلاة ونحوه والصورتان مشتركتان في طلب ترك الفعل لا غير ومفترقتان في دوامه في إحدى الصورتين وعدم دوامه في الأخرى والأصل أن يكون اللفظ حقيقة فيهما من غير اشتراك ولا تجوز والدال على القدر المشترك لا يكون دالاً على ما اختص بكل واحد من الطرفين المختلفين وأيضاً فإنه لو كان النهي مقتضياً للدوام لكان عدم الدوام في بعض صور النهي على خلاف الدليل وهو ممتنع. قلنا: النهي حيث ورد غير مراد به الدوام يجب أن يكون ذلك لقرينة نظراً إلى ما ذكرناه من الدليل وما قيل: إن ذلك يلزم منه الاشتراك أو التجوز قلنا: وإن لزم منه التجوز وهو على خلاف الدليل لافتقاره إلى القرينة الصارفة غير أن جعله حقيقة في المرة الواحدة مما يوجب جعله مجازاً في الدوام والتكرار لاختلاف حقيقيتهما وليس القول بجعله مجازاً في التكرار وحقيقة في المرة الواحدة أولى من العكس بل جعله حقيقة في التكرار أولى لإمكان التجوز به عن البعض لكونه مستلزماً له ولو جعلناه حقيقة في البعض لما أمكن التجوز به عن التكرار لعدم استلزامه له وبه يندفع ما ذكروه من الوجه الثاني أيضاً. الصنف الثالث في معنى العام والخاص ويشتمل على مقدمة ومسائل أما المقدمة ففي بيان معنى العام والخاص وصيغ العموم أما العام فقد قال أبو الحسين البصري: العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ووافقه على ذلك بعض أصحابنا وهو فاسد من وجهين: الأول أنه عرف العام بالمستغرق وهما لفظان مترادفان وليس المقصود هاهنا من التحديد شرح اسم العام حتى يكون الحد لفظياً بل شرح المسمى إما بالحد الحقيقي أو الرسمي وما ذكره خارج عن القسمين. الثاني: أنه غير مانع لأنه يدخل فيه قول القائل ضرب زيد عمراً فإنه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له وليس بعام. وقال الغزالي إنه اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً وهو غير جامع فإن لفظ المعدوم والمستحيل من الألفاظ العامة ولا دلالة له على شيئين فصاعداً إذ المعدوم ليس بشيء عنده وعند أهل الحق من أصحابنا والمستحيل بالإجماع وإن كان جامعاً إلا أنه غير مانع فإن قولنا عشرة ومائة ليس من الألفاظ العامة وإن كان مع اتحاده دالاً على شيئين فصاعداً وهي الآحاد الداخلة فيها والحق في ذلك أن يقال العام: هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعداً مطلقاً معاً. فقولنا اللفظ وإن كان كالجنس للعام والخاص ففيه فائدة تقييد العموم بالألفاظ لكونه من العوارض الحقيقية لها دون غيرها عند أصحابنا وجمهور الأئمة كما يأتي تعريفه وقولنا الواحد احتراز عن قولنا ضرب زيد عمراً وقولنا الدال على مسميين ليندرج فيه الموجود والمعدوم وفيه أيضاً احتراز عن الألفاظ المطلقة كقولنا رجل ودرهم وإن كانت صالحة لكل واحد من آحاد الرجال وآحاد الدراهم فلا يتناولها مقابل على سبيل البدل وقولنا فصاعداً احتراز عن لفظ اثنين وقولنا مطلقاً احتراز عن قولنا عشرة ومائة ونحوه من الأعداد المقيدة ولا حاجة بنا إلى قولنا من جهة واحدة احتراز عن الألفاظ المشتركة والمجازية. أما عند من يعتقد كونها من الألفاظ العامة كما يأتي تحقيقه فالحد لا يكون مع أخذ هذا القيد جامعاً وأما عند من لا يقول بالتعميم فلا حاجة به إلى هذا القيد أيضاً إذ اللفظ المشترك غير دال على مسمياته معاً بل على طريق البدل وكذلك الحكم في اللفظ الدال على جهة الحقيقة والمجاز وفي الحد المذكور ما يدرأ النقض بذلك وهو قولنا الدال على مسميين معاً. وأما الخاص فقد قيل فيه: هو كل ما ليس بعام وهو غير مانع لدخول الألفاظ المهملة فيه فإنها لعدم دلالتها لا توصف بعموم ولا بخصوص ثم فيه تعريف الخاص بسلب العام عنه ولا يخلو إما أن يكون بينهما واسطة أو لا فإن كان الأول فلا يلزم من سلب العام تعين الخاص وإن كان الثاني فليس تعريف أحدهما بسلب حقيقة الآخر عنه أولى من العكس وأيضاً فإن اللفظ قد يكون خاصاً كلفظ الإنسان فإنه خاص بالنسبة إلى لفظ الحيوان وما خرج عن كونه عاماً بالنسبة إلى ما تحته. وإن قيل إنه ليس بعام من جهة ما هو خاص ففيه تعريف الخاص بالخاص وهو ممتنع.
والحق في ذلك أن يقال: الخاص قد يطلق باعتبارين: الأول وهو اللفظ الواحد الذي لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه كأسماء الأعلام من زيد وعمرو ونحوه الثاني ما خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه وحده أنه اللفظ الذي يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة كلفظ الإنسان فإنه خاص ويقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار لفظ الحيوان من جهة واحدة. وإذا تحقق معنى العام والخاص فاعلم أن اللفظ الدال ينقسم إلى عام لا أعم منه كالمذكور فإنه يتناول الموجود والمعدوم والمعلوم والمجهول وإلى خاص لا أخص منه كأسماء الأعلام وإلى ما هو عام بالنسبة وخاص بالنسبة كلفظ الحيوان فإنه عام بالنسبة إلى ما تحته من الإنسان والفرس وخاص بالنسبة إلى ما فوقه كلفظ الجوهر والجسم وأما صيغ العموم عند القائلين بها فهي: إما أن تكون عامة فيمن يعقل وما لا يعقل جمعاً وأفراداً مثل أي في الجزاء والاستفهام وأسماء الجموع المعرفة إذا لم يكن عهد سواء كان جمع سلامة أو جمع تكسير كالمسلمين والرجال والمنكرة كرجال ومسلمين والأسماء المؤكدة لها مثل كل وجميع واسم الجنس إذا دخله الألف واللام من غير عهد كالرجل والدرهم والنكرة المنفية كقولك لا رجل في الدار وما في الدار من رجل والإضافة كقولك ضربت عبيدي وأنفقت دراهمي. وإما عامة فيمن يعقل دون غيره كمن في الجزاء والاستفهام تقول من عندك ومن جاءني أكرمته. وإما عامة فيما لا يعقل إما مطلقاً من غير اختصاص بجنس مثل ما في الجزاء كقوله: على اليد ما أخذت حتى ترد والاستفهام تقول ماذا صنعت؟ وإما لا مطلقاً بل مختصة ببعض أجناس ما لا يعقل مثل متى في الزمان جزاء واستفهاماً وأين وحيث في المكان جزاء واستفهاماً تقول: متى جاء القوم ومتى جئتني أكرمتك وأين كنت وأينما كنت أكرمتك. وإذ أتينا على ما أردناه من بيان المقدمة فلنشرع الآن في المسائل وهي خمس وعشرون مسألة. المسألة الأولى اتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة واختلفوا في عروضه حقيقة للمعاني: فنفاه الجمهور وأثبته الأقلون. وقد احتج المثبتون بقولهم: الإطلاق شائع ذائع في لسان أهل اللغة بقولهم: عم الملك الناس بالعطاء والإنعام وعمهم المطر والخصب والخير وعمهم القحط وهذه الأمور من المعاني لا من الألفاظ والأصل في الإطلاق الحقيقة. أجاب النافون بأن الإطلاق في مثل هذه المعاني مجاز لوجهين: الأول: أنه لو كان حقيقة في المعاني لاطرد في كل معنى إذ هو لازم الحقيقة وهو غير مطرد ولهذا فإنه لا يوصف شيء من الخاصة الواقعة في امتداد الإشارة إليها كزيد وعمرو بكونه عاماً لا حقيقة ولا مجازاً. الثاني: أن من لوازم العام أن يكون متحداً ومع اتحاده متناولاً لأمور متعددة من جهة واحدة والعطاء والإنعام الخاص بكل واحد من الناس غير الخاص بالآخر وكذلك المطر فإن كل جزء اختص منه بجزء من الأرض لا وجود له بالنسبة إلى الجزء الآخر منها وكذلك الكلام في الخصب والقحط فلم يوجد من ذلك ما هو مع اتحاده يتناول أشياء من جهة واحدة فلم يكن عاماً حقيقة بخلاف اللفظ الواحد كلفظ الإنسان والفرس. أجاب المثبتون عن الأول بأن العموم وإن لم يكن مطرداً في كل معنى فهو غير مطرد في كل لفظ فإن أسماء الأعلام كزيد وعمرو ونحوه لا يتصور عروض العموم لها لا حقيقة ولا مجازاً فإن كان عدم اطراده في المعاني مما يبطل عروضه للمعاني حقيقة فكذلك في الألفاظ وإن كان ذلك لا يمنع في الألفاظ فكذلك في المعاني ضرورة عدم الفرق. وعن الوجه الثاني أنه: وإن تعذر عروض العموم للمعاني الجزئية الواقعة في امتداد الإشارة إليها حقيقة فليس في ذلك ما يدل على امتناع عروضه للمعاني الكلية المتصورة في الأذهان كالمتصور من معنى الإنسان المجرد عن الأمور الموجبة لتشخيصه وتعيينه فإنه مع اتحاده فمطابق لمعناه وطبيعته لمعاني الجزئيات الداخلة تحته من زيد وعمرو من جهة واحدة كمطابقة اللفظ الواحد العام لمدلولاته وإذا كان عروض العموم للفظ حقيقة إنما كان لمطابقته مع اتحاده للمعاني الداخلة تحته من جهة واحدة فهذا المعنى بعينه متحقق في المعاني الكلية بالنسبة إلى جزئياتها فكان العموم من عوارضها حقيقة. المسألة الثانية اختلف العلماء في معنى العموم: هل له في اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدل عليه أم لا؟ فذهبت المرجئة إلى أن العموم لا صيغة له في لغة العرب وذهب الشافعي وجماهير المعتزلة وكثير من الفقهاء إلى أن ما سبق ذكره من الصيغ حقيقة في العموم مجاز فيما عداه ومنهم من خالف في الجميع المنكر والمعروف واسم الجنس إذا دخله الألف واللام كما يأتي تعريفه وهو مذهب أبي هاشم وذهب أرباب الخصوص إلى أن هذه الصيغ حقيقة في الخصوص ومجاز فيما عداه وقد نقل عن الأشعري قولان: أحدهما القول بالاشتراك بين العموم والخصوص والآخر الوقف وهو عدم الحكم بشيء مما قيل في الحقيقة في العموم أو الخصوص أو الاشتراك ووافقه على الوقف القاضي أبو بكر وعلى كل واحد من القولين جماعة من الأصوليين ومن الواقفية من فصل بين الإخبار والوعد والوعيد والأمر والنهي فقال بالوقف في الإخبار والوعد والوعيد دون الأمر والنهي. والمختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الألفاظ في الخصوص لكونه مراداً من اللفظ يقيناً سواء أريد به الكل أو البعض والوقف فيما زاد على ذلك ومنهاج الكلام فعلى ما عرف في التوقف في الأمر بين الوجوب والندب فعليك بنقله إلى هاهنا وإنما يتحقق هذا المقصود بذكر شبه المخالفين والانفصال عنها. ولنبدأ من ذلك بشبه أرباب العموم وهي نصية وإجماعية ومعنوية. أما النصية فمنها قول الله تعالى: "ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق" "هود 45" تمسكاً منه بقوله تعالى: "إنا منجوك وأهلك" "العنكبوت 33" وأقره الباري تعالى على ذلك وأجابه بما دل على أنه ليس من أهله ولولا أن إضافة الأهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك ومنها أنه لما نزل قوله تعالى: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم" "الأنبياء 98" قال ابن الزبعري: لأخصمن محمداً ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "وقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يدخلون النار" واستدل بعموم ما ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل نزل قوله تعالى غير منكر لقوله بل مخصصاً له بقوله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" "الأنبياء 101" ومنها قوله تعالى: "ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال: إن فيها لوطاً قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين" "العنكبوت 31 - 32" ووجه الاحتجاج بذلك أن إبراهيم فهم من أهل هذه القرية العموم حيث ذكر لوطاً والملائكة أقروه على ذلك وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء واستثناء امرأته من الناجين وذلك كله يدل على العموم. وأما الإجماعية فمنها احتجاج عمر على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" ولم ينكر عليه أحد من الصحابة احتجاجه بذلك بل عدل أبو بكر إلى التعليق بالاستثناء وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إلا بحقها" فدل على أن لفظ الجمع المعرف للعموم ومنها احتجاج فاطمة على أبي بكر في توريثها من أبيها فدك والعوالي بقوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" "النساء 11" ولم ينكر عليها أحد من الصحابة بل عدل أبو بكر رضي الله عنه إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى دليل التخصيص وهو قوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" ومنها احتجاج عثمان على علي رضي الله عنه في جواز الجمع بين الأختين بقوله تعالى: "إلا على أزواجهم" "المعارج 30" واحتجاج علي بقوله تعالى: "وأن تجمعوا بين الأختين" "النساء 23" ولم ينكر على أحد منهما صحة ما احتج به وإنما يصح ذلك أن لو كانت الأزواج المضافة والأختان على العموم ومنها أن عثمان لما سمع قول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا مـحـالة زائل
قال له: كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول ولم ينكر عليه منكر ولولا أن كل للعموم لما كان كذلك ومنها احتجاج أبي بكر على الأنصار بقوله صلى الله عليه وسلم "الأئمة من قريش" ووافقه الكل على صحة هذا الاحتجاج من غير نكير ولو لم يكن لفظ الأئمة عاماً لما صح الاحتجاج ومنها إجماع الصحابة على إجراء قوله تعالى" "الزانية والزاني" "النور 2" "والسارق والسارقة" "المائدة 38" "ومن قتل مظلوماً" "الإسراء 33" "وذروا ما بقي من الربا" "البقرة 278" "ولا تقتلوا أنفسكم" "النساء 29" "ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم" "المائدة 95" وقوله صلى الله عليه وسلم "لا وصية لوارث" "ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن" إلى غير ذلك على العموم. وأما الشبه المعنوية فمنها أن العموم من الأمور الظاهرة الجلية والحاجة مشتدة إلى معرفته في التخاطب وذلك مما تحيل العادة مع توالي الأعصار على أهل اللغة إهماله وعدم تواضعهم على لفظ يدل عليه مع أنه لا يتقاصر في دعو الحاجة إلى معرفته عن معرفة الواحد والاثنين وسائر الأعداد والخبر والاستخبار والترجي والتمني والنداء وغير ذلك من المعاني التي وضعت لها الأسماء وربما وضعوا لكثير من المسميات ألفاظاً مترادفة مع الاستغناء عنها ومنها ما يخص كل واحد واحد من الألفاظ المذكورة من قبل. أما من الاستفهامية كقول القائل: من جاءك؟ فلا يخلو إما أن تكون حقيقة في الخصوص أو العموم أو مشتركة بينهما أو موقوفة أو ليست موضوعة لأحد الأمرين لا حقيقة ولا تجوزاً والأول محال وإلا لما حسن أن يجاب بجملة العقلاء لكونه جواباً عن غير ما سأل عنه ولا جائز أن تكون مشتركة أو موقوفة وإلا لما حسن الجواب بشيء إلا بعد الاستفهام عن مراد المسائل وليس كذلك ولا جائز أن يقال بالأخير للاتفاق على إبطاله فلم يبق إلا أن تكون حقيقة في العموم. وأما الشرطية وهي عندما إذا قال السيد لعبده من دخل داري فأكرمه فإنه إذا أكرم كل داخل لا يحسن من السيد الاعتراض عليه ولو أخل بإكرام بعض الداخلين فإنه يحسن لومه وتوبيخه في العرف وأيضاً فإنه يحسن الاستثناء من ذلك بقوله إلا أن يكون فاسقاً والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لكان داخلاً فيه ولولا أن من للعموم لما صح ذلك. وعلى هذا يكون الكلام في جميع الحروف المستعملة للشرط والاستفهام مثل: ما وأي ومتى وأين وكم وكيف ونحوه ومؤكداتها مثل: كل وجميع فإنها للعموم وبيانه من وجوه: الأول: أنه إذا قال القائل لعبده أكرم كل من رأيته فإنه يسقط عنه اللوم بإكرام كل واحد ولا يسقط بتقدير إخلاله بإكرام البعض وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا الفساق وذلك دليل العموم كما سبق. الثاني: أنه لو قال رأيت كل من في البلد فإنه يعد كاذباً بتقدير عدم رؤيته لبعضهم. الثالث: أنه إذا قال القائل كل الناس علماء كذبه قول القائل كل الناس ليسوا علماء ولو لم يكن اسم كل للعموم لما كان كل واحد مكذباً للآخر لجواز أن يتناول كل واحد غير ما تناوله الآخر. الرابع: أنا ندرك التفرقة بين كل وبعض ولو كان كل غير مفيد للعموم لما تحقق الفرق لكونه مساوياً في الإفادة للبعض. الخامس: أنه لو كان قول القائل كل الناس يفيد العموم ولكنه يعبر عنه تارة عن البعض وتارة عن العموم حقيقة لكان قول القائل كلهم بياناً لأحد الأمرين فيما دخل عليه لا تأكيداً له كما لو قال رأيت عيناً باصرة. وأما الجمع المعرف فهو للعموم لوجهين: الأول: أن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة الجمع المنكر ولهذا يقال: رجال من الرجال ولا عكس وعند ذلك فالجمع المعرف إما أن يكون مفيداً للاستغراق أو للعدد غير مستغرق لا جائز أن يقال بالثاني لأن ما من عدد يفرض من ذلك إلا ويصح نسبته إلى المعرفة بأنه منه والأول هو المطلوب. الثاني: أنه يصح تأكيده بما هو مفيد للاستغراق والتأكيد إنما يفيد تقوية المؤكد لا أمراً جديداً فلو لم يكن المؤكد يفيد الاستغراق لما كان المؤكد مفيداً له أو كان مفيداً لأمر جديد وهو ممتنع.
وأما النكرة المنفية كقوله لا رجل في الدار أو في سياق النفي كقوله ما في الدار من رجل فإن القائل لذلك يعد كاذباً بتقدير رؤيته لرجل ما وأنه يحسن الاستثناء بقوله إلا زيد وأنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلاً كما ورد قوله تعالى: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" "الأنعام 91" تكذيباً لمن قال: "ما أنزل الله على بشر من شيء" "الأنعام 91" وكل ذلك يدل على كونها للعموم ولأنها لو لم تكن للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله توحيداً لعدم دلالته على نفي كل إله سوى الله تعالى. وأما الإضافة كقوله: أعتقت عبيدي وإمائي فإنه يدل على العموم بدليل لزوم العتق في الكل وأنه يجوز لمن سمعه أن يزوج من أي العبيد شاء وأن يتزوج من الإماء من شاء دون رضى الورثة وكذلك لو قال العبيد الذين هم في يدي لفلان صح الإقرار بالنسبة إلى الجميع ولولا أن ذلك للعموم لما كان كذلك. وأما الجنس إذا دخله الألف واللام ولا عهد فإنه للعموم لأربعة أوجه: الأول: أنه إذا قال القائل رأيت إنساناً أفاد رؤية واحد معين فإذا دخلت عليه الألف واللام فلو لم تكن الألف واللام مفيدة للاستغراق لكانت معطلة لتعذر حملها على تعريف الجنس لكونه معلوماً دونها وهو ممتنع. الثاني: أنه يصح نعته بالجمع المعرف وقد ثبت أن الجمع المعرف للعموم فكذلك المنعوت به وذلك في قولهم أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض وأنه يصح الاستثناء منه كما في قوله تعالى: "إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا" "العصر 2 - 3" وهو دليل العموم. الثالث: أن القائل قائلان: قائل يقول إن الألف واللام الداخلة على الاسم المفرد والجمع تفيد العموم وقائل بالنفي مطلقاً وقد ثبت أنها مفيدة للعموم في الجمع فالتفرقة تكون قولاً بتفصيل لم يقل به قائل. الرابع: أنه إذا كانت الألف واللام لتعريف المعهود عائدة إلى جميعه لعدم أولوية عودها إلى البعض منه دون البعض فكذلك إذا كانت لتعريف الجنس. وأما الجمع المنكر فيدل على أنه للعموم ثلاثة أوجه: الأول: أن قول القائل: رجال يطلق على كل جمع على الحقيقة حتى الجمع المستغرق فإذا حمل الاستغراق كان حملاً له على جميع حقائقه فكان أولى. الثاني: أنه لو أراد المتكلم بلفظ الجمع المنكر البعض لعينه وإلا كان مراده مبهماً فحيث لم يعينه دل على أنه للاستغراق. الثالث: أنه يصح دخول الاستثناء عليه بكل واحد من آحاد الجنس فكان للعموم. ومن شبههم أن العرب فرقت بين تأكيد العموم والخصوص في أصل الوضع فقالوا في الخصوص رأيت زيداً عينه نفسه ولا يقولون رأيت زيداً كلهم أجمعين وقالوا في العموم رأيت الرجال كلهم أجمعين ولا يقولون رأيت الرجال عينه نفسه واختلاف التأكيد يدل على اختلاف المؤكد لأن التأكيد مطابق للمؤكد. ومنها أنهم قالوا: وقع الإجماع على أن الباري تعالى قد كلفنا أحكاماً تعم جميع المكلفين فلو لم يكن للعموم صيغة تفيده لما وقع التكليف به لعدم ما يدل عليه أو كان التكليف به تكليفاً بما لا يطاق وهو محال. وأما شبه أرباب الخصوص فأولها: أن تناول اللفظ للخصوص متيقن وتناوله للعموم محتمل فجعله حقيقة في المتيقن أولى. وثانيها: أن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص دون العموم ومنه يقال: جمع السلطان التجار والصناع وكل صاحب حرفة وأنفقت دراهمي وصرمت نخيلي ونحوه فكان جعلها حقيقة فيما استعمالها فيه أغلب أولى. وثالثها: أنه إذا قال السيد لعبده أكرم الرجال ومن دخل داري فأعطه درهماً ومتى جاءك فقير فتصدق عليه ومتى جاء زيد فأكرمه وأين كان وحيث حل فإنه لا يحسن الاستفسار عن إرادة البعض ويحسن الاستفسار عما وراء ذلك فكان جعل هذه الصيغ حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار عنه دون ما يحسن. ورابعها: أنه لو كان قول القائل رأيت الرجال للعموم لكان إذا أريد به الخصوص كان المخبر كاذباً كما لو قال رأيت عشرين ولم ير غير عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص وأريد به العموم. وخامسها: لو كانت للعموم لكان تأكيدها غير مفيد لغير ما أفادته فكان عبثاً وكان الاستثناء منها نقضاً.
وسادسها: ويخص من أنها لو كانت للعموم لما جمعت لأن الجمع لا بد وأن يفيد ما لا يفيده المجموع وليس بعد العموم والاستغراق كثرة فلا يجمع وقد جمعت في باب حكاية النكرات عند الاستفهام فإنه إذا قال القائل جاءني رجال قلت: منون؟ في حالة الوقف دون الوصل ومنه قول الشاعر: أتوا ناري فقلت: منون أنـتـم؟ فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاماً فقد قال سيبويه: أنه شاذ غير معمول به. وأما شبه أرباب الاشتراك فأولها أن هذه الألفاظ والصيغ قد تطلق للعموم تارة وللخصوص تارة والأصل في الإطلاق الحقيقة وحقيقة الخصوص غير حقيقة العموم فكان اللفظ المتحد الدال عليهما حقيقة مشتركا كلفظ العين والقرء ونحوه. وثانيها: أنه يحسن عند إطلاق هذه الصيغ الاستفهام من مطلقها أنك أردت البعض أو الكل وحسن الاستفهام عن كل واحد منهما دليل الاشتراك فإنه لو كان حقيقة في أحد الأمرين دون الآخر لما حسن الاستفهام عن جهة الحقيقة. وأما شبه من قال بالتعميم في الأوامر والنواهي دون الأخبار فهو أن الإجماع منعقد على التكاليف بأوامر عامة لجميع المكلفين وبنواه عامة لهم فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما كان التكليف عاماً أو كان تكليفاً بما لا يطاق وهو محال وهذا بخلاف الإخبار فإنه ليس بتكليف ولأن الخبر يجوز وروده بالمجهول ولا بيان له أصلاً كقوله تعالى: "وكم أهلكنا قبلهم من قرن" "مريم 74" "وقروناً بين ذلك كثير" "الفرقان 38" بخلاف الأمر فإنه وإن ورد بالمجمل كقوله: "وآتوا حقه يوم حصاده" "الأنعام 141" وقوله "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" "النور 56" فإنه لا يخلو عن بيان متقدم أو متأخر أو مقارن. والجواب من جهة الإجمال عن جملة هذه الشبه ما أسلفناه في مسألة أن الأمر للوجوب أو الندب فعليك بنقله إلى هاهنا. وأما من جهة التفصيل أما ما ذكره أرباب العموم من الآيات أما قصة نوح فلا حجة فيها وذلك لأن إضافة الأهل قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص كما في قولهم جمع السلطان أهل البلد وإن كان لم يجمع النساء والصبيان والمرضى وعند ذلك فليس القول بحمل ذلك على الخصوص بقرينة أولى من القول بحمله على العموم بقرينة ونحن لا ننكر صحة الحمل على العموم بالقرينة وإنما الخلاف في كونه حقيقة أم لا. وأما قصة ابن الزبعري فلا حجة فيها أيضاً لأن سؤاله وقع فاسداً حيث ظن أن ما عامة فيمن يعقل وليس كذلك ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم منكراً عليه ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ما لما لا يعقل وهي وإن أطلقت على من يعقل كما في قوله تعالى "والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها" "الشمس 5 - 6 - 7 - 8" فليس حقيقة بل مجازاً ويجب القول بذلك جمعاً بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم "أما علمت أن ما لما لا يعقل" ولما فيه من موافقة المنقول عن أهل اللغة في ذلك وأما قصة إبراهيم فجوابها بما سبق في قصة نوح. وأما الاحتجاج بقصة عمر مع أبي بكر فلا حجة فيها أيضاً لأنه إنما فهم العصمة من العلة الموجبة لها في الأموال والدماء وهي قول لا إله إلا الله فإنها مناسبة لذلك والحكم مرتب عليها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك إيماء إليها بالتعليل أما أن يكون ذلك مأخوذاً من عموم دمائهم وأموالهم فلا ومعارضة أبي بكر إنما كانت لما فهمه عمر من التعليل المقتضي للتعميم لا لغيره. وأما قصة فاطمة مع أبي بكر فالكلام في اعتقاد العموم في قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" "النساء 11" ما سبق في قصة نوح وهو الجواب أيضاً عن احتجاج عثمان على جواز الجمع بين الأختين ثم قد أمكن أن يضاف ذلك إلى ما فهم من العلة الموجبة لرفع الحرج وهي الزوجية لا إلى عموم اللفظ وكذلك احتجاج علي بقوله: "وأن تجمعوا بين الأختين" "النساء 23" لم يكن لعموم اللفظ بل بما أومى إليه اللفظ من العلة المانعة من الجمع وهي الأخوة فإنها مناسبة لذلك دفعاً للإضرار الواقع بين الأختين من المزاحمة على الزوج الواحد وإنما يصح الاحتجاج باللفظ بمجرده إن لو كان للعموم وهو محل النزاع وإن صح الاحتجاج في هذه الصور بنفس اللفظ فلا يمتنع أن يكون ذلك بما اقترن به من قرينة العلة الرافعة للحرج في احتجاج عثمان والعلة المانعة من الجمع في احتجاج علي رضي الله عنه. وأما تكذيب عثمان للشاعر في قوله "وكل نعيم لا محالة زائل" فإنما كان لما فهمه من قرينة حال الشاعر الدالة على قصد تعظيم الرب ببقائه وبطلان كل ما سواه أما أن يكون ذلك مستفاداً من ذلك مستفاداً من مجرد قوله كل فلا. وأما استدلال أبي بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" إنما فهم منه التعميم لما ظهر له من قصد النبي صلى الله عليه وسلم لتعظيم قريش وميزتهم على غيرهم من القبائل فلو لم يكن ذلك يدل على الخصوص فيهم والاستغراق لما حصلت هذه الفائدة. وأما إجماع الصحابة على إجراء ما ذكروه من الآيات والأخبار على التعميم في كل سارق وزان وغير ذلك فإنما كان ذلك بناء على ما اقترن بها من العلل المومى إليها الموجبة للتعميم وهي السرقة والزنا وقتل الظالم إلى غير ذلك أما أن يكون اعتقاد تعميم تلك الأحكام مستنداً إلى عموم تلك الألفاظ فلا. وأما ما ذكر من الشبهة الأولى المعنوية فالجواب عنها: أنا وإن سلمنا أن العموم ظاهر وأن الحاجة داعية إلى وضع لفظ يدل عليه ولكن لا نسلم إحالة الإخلال به على الواضعين ولهذا قد أخلوا بالألفاظ الدالة على كثير من المعاني الظاهرة التي تدعو الحاجة إلى تعريفها بوضع اللفظ عليها وذلك كالفعل الحالي ورائحة المسك والعود وغير ذلك من أنواع الروائح والطعوم الخاصة بمحالها. فإن قيل: لا نسلم أنهم أخلوا بشيء من ذلك فإنهم يقولون: رائحة المسك ورائحة العود وطعم العسل وطعم السكر إلى غير ذلك والإضافة من جملة الأوضاع المعرفة ولهذا فإن الباري تعالى قد عرف نفسه بالإضافة في قوله "ذو العرش ذو الطول" إلى غير ذلك. قلنا: وعلى هذا لا نسلم أن العرب أخلت بما يعرف العموم فإن الأسماء المجازية والمشتركة أيضاً من الأسماء المعرفة كما سيأتي بيانه وما وقع فيه الخلاف من ألفاظ العموم فهي غير خارجة في نفس الأمر عن كونها حقيقة في العموم دون غيره أو مجازاً فيه وحقيقة فيه وفي غيره فتكون مشتركة وعلى كل تقدير فما خلا العموم في وضعهم عن معرف ولا خلاف في ذلك وإنما الخلاف في جهة دلالته عليه هل هي حقيقة أو مجاز وخفاء جهة الدلالة والوقوف في تعيينها لا يبطل أصل الوضع والتعريف. وأما الشبهة الثانية وقولهم إن من إذا كانت استفهامية لا تخلو عن الأقسام المذكورة في نفس الأمر مسلم ولكن لم قالوا بوجوب تعيين بعضها مع عدم الدليل القاطع على ذلك قولهم: لو كانت للخصوص لما حسن الجواب بكل العقلاء. قلنا: ولو كانت للعموم لما حسن الجواب بالبعض الخاص لما قرروه وليس أحد الأمرين أولى من الآخر كيف وإن الجواب بالكل بتقدير أن يكون للخصوص يكون جواباً عن المسؤول عنه وزيادة والجواب بالخصوص بتقدير أن يكون للعموم لا يكون جواباً عن المسؤول عنه ولذلك كان الجواب بالكل مستحسناً ثم ما المانع أن تكون مشتركة. قولهم: لأنه لا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام قلنا: إذا كانت مشتركة وهي استفهامية فالاستفهام إنما هو عن مدلولها ومدلولها عند الاستفهام إنما هو أحد المدلولين لا بعينه فإذا أجاب بأحد الأمرين فقد أجاب عما سئل عنه فلا حاجة بالمسؤول إلى الاستفهام. قولهم في الشرطية إن المفهوم من قول السيد لعبده من دخل داري فأكرمه العموم لما قرروه. قلنا: ليس ذلك مفهوماً من نفس اللفظ بل من قرينة إكرام الزائر حتى أنا لو قدرنا أنه لا قرينة أصلاً ولا تحقق لما سوى اللفظ المذكور فإنا لا نسلم فهم العموم منه ولا جواز التعميم دون الاستفهام أو ظهور دليل يدل عليه بناء على قولنا بالوقف ويدل على ذلك أنه يحسن الاستفهام من العبد ولو كان على أي صفة قدر وحسن ذلك يدل على الترديد ولولا الترديد لما حسن الاستفهام. قولهم إنه يحسن الاستثناء منه مسلم ولكن لا نسلم أنه لا بد من دخول ما استثني تحت المستثنى منه فإن الاستثناء من غير الجنس صحيح وإن لم يكن المستثنى داخلاً تحت المستثنى منه ولا له عليه دلالة ويدل على صحة ذلك قوله تعالى: "ما لهم به من علم إلا اتباع الظن" "النساء 157" والظن هاهنا غير داخل تحت لفظ العلم وقول الشاعر: وقفت فيها أصـيلالا أسـائلـهـا عيت جواباً وما بالربع من أحـد إلا أواري لأياً مـا أبـينـهـــا والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد فإن قيل: نحن إنما ندعي ذلك فيما كان من الجنس لا في غيره. قلنا: وإذا كان من الجنس فالاستثناء يدل على وجوب دخول ما استثني تحت المستثنى منه أو على صلاحيته للدخول تحته: الأول ممنوع والثاني مسلم ويدل على ذلك صحة استثناء كل واحد من آحاد الجنس من جموع القلة وهي ما يتناول العشرة فما دونها وهي: أفعل نحو أفلس وأفعال نحو أصنام وأفعلة نحو أرغفة وفعلة نحو صبية مع أن آحاد الجنس غير واجبة الدخول تحت المستثنى منه والاستثناء من جمع السلامة إذا لم تدخله الألف واللام فإنه من جموع القلة بنص سيبويه. فإن قيل: نحن إنما ندعي ذلك فيما يصح استثناء العدد الكثير والقليل منه واستثناء العدد الكثير وهو ما زاد على العشرة لا يصح من جمع القلة. قلنا: فيلزم عليه استثناء ما لا يصح من جمع القلة قلنا فيلزم عليه استثناء ما زاد على العشرة من الجمع المنكر فإنه يصح وإن كان كل واحد من المستثنيات غير واجب الدخول تحت الجمع المنكر بل ممكن الدخول. فإن قيل: لو صح الاستثناء لإخراج ما يصح دخوله لا ما يجب دخوله لصح أن يقول القائل رأيت رجلاً إلا زيداً لصلاحية دخوله تحت لفظ رجل وهو غير صحيح وأيضاً فإن الاستثناء يدخل في الأعداد كقول القائل له علي عشرة دراهم إلا درهماً وهو واجب الدخول وأيضاً فإن أهل اللغة قالوا بأن الاستثناء إخراج جزء من كل والجزء واجب الدخول في كله. قلنا: أما الأول فلأن قوله رأيت رجلاً لا يكون إلا معيناً في نفس الأمر ضرورة وقوع الرؤية عليه وإن لم يكن معيناً عند المستمع والمعين لا يصح الاستثناء منه إجماعاً. وأما الثاني فبعيد عن التحقيق من حيث إن وجوب دخول الواحد في العشرة لا يمنع من صحة دخوله فيها بمعنى أنه لا يمتنع دخوله فيها وما ليس بممتنع أعم من الواجب وعند ذلك فلا يلزم أن يكون الاستثناء لوجوب الدخول بل لصحة الدخول وهو الجواب عن الوجه الثالث أيضاً كيف وإن استثناء واجب الدخول لا يمنع من استثناء ممكن الدخول وعلى ما قررناه في إبطال الاستدلال على عموم من استفهامية وجزائية يكون بعينه جواباً عما ذكروه من الوجه الأول في عموم كل وجميع. قولهم في الوجه الثاني إنه لو قال: رأيت كل من في البلد يعد كاذباً بتقدير عدم رؤية بعضهم لا نسلم لزوم ذلك مطلقاً فإنه لو قال القائل جمع السلطان كل التجار وكل الصناع وجاء كل العسكر فإنه لا يعد في العرف كاذباً بتقدير تخلف آحاد الناس والعرف بذلك شائع ذائع وليس حوالة ذلك على القرينة أولى من حوالة صورة التكذيب على القرينة. قولهم في الوجه الثالث إن قول القائل: كل الناس علماء يكذبه قول الآخر كل الناس ليس علماء ليس كذلك مطلقاً فإنه لو فسر كلامه بالغالب عنده كان تفسيره صحيحاً مقبولاً ومهما أمكن حمل كلامه على ذلك فلا تكاذب نعم إنما يصح التكاذب بتقدير ظهور الدليل الدال على إرادة الكل بحيث لا يشذ منهم واحد وذلك مما لا ينكر وإنما النزاع في اقتضاء اللفظ لذلك بمطلقه. قولهم في الوجه الرابع: إنا ندرك التفرقة بين بعض وكل مسلم لكن من جهة أن بعضاً لا يصلح للاستغراق وكلا صالح له ولما دونه ولا يلزم من ذلك ظهور كل في العموم. قولهم في الوجه الخامس: إنه يلزم أن يكون قوله كلهم بياناً لا تأكيداً قلنا: وإن بين به مراده من لفظه لا يخرجه ذلك عن كونه تأكيداً لما أراده من العموم فإن لفظه صالح له. قولهم في الجمع المعرف إن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة المنكر قلنا: متى إذا أريد به الاستغراق أو إذا لم يرد به ذلك الأول مسلم والثاني ممنوع ولا يلزم من كونه صالحاً للاستغراق أن يكون متعيناً له بل غايته أنه إذا قال رأيت رجالاً من الرجال كان ذلك قرينة صارفة للجمع المعرف إلى الاستغراق. قولهم إنه يصح تأكيده بما يفيد الاستغراق قلنا: ذلك يستدعي كون المؤكد صالحاً للعموم والدلالة على العموم عند التأكيد ولا يدل على كونه بوضعه للعموم. قولهم في تعميم النكرة المنفية: لو قال لا رجل في الدار فإنه يعد كاذباً بتقدير رؤيته لرجل ما قلنا إنما عد كاذباً بذلك لأن قوله لا رجل في الدار إنما ينفي حقيقة رجل في الدار فإذا وجد رجل في الدار كان كاذباً ولا يلزم من ذلك العموم في طرف النفي إذ هو نفي ما ليس بعام. قولهم إنه يحسن الاستثناء سبق جوابه قولهم: إنه يصح تكذيبه بأنك رأيت رجلاً قلنا: سبق جوابه أيضاً.
قولهم: لو لم يكن للعموم لما كان قول القائل: لا إله إلا الله توحيداً قلنا: وإن لم يكن حقيقة في العموم فلا يمتنع إرادة العموم بها وعلى هذا فمهما لم يرد المتكلم بها العموم فلا يكون قوله توحيداً وإن أراد ذلك كان توحيداً لكن لا يكون العموم من مقتضيات اللفظ بل من قرينة حال المتكلم الدالة على إرادة التوحيد وعلى هذا يكون الحكم أيضاً فيما إذا قال: ما في الدار من رجل وقول أهل الأدب إنها للعموم يمكن حمله على عموم الصلاحية دون الوجوب. قولهم في الإضافة إذا قال: أعتقت عبيدي وإمائي ثم مات جاز لمن سمعه أن يزوج من شاء من العبيد دون رضى الورثة قلنا: ولو قال أنفقت دراهمي وصرمت نخيلي وضرب عبيدي فإنه لا يعد كاذباً بتقدير عدم إنفاق بعض دراهمه وعدم صرم بعض نخيله وعدم ضرب بعض عبيده ولو كان ذلك للعموم لكان كاذباً وليس صرف ذلك إلى القرينة أولى من صرف ما ذكروه إلى القرينة وهو الجواب عن قوله العبيد الذين في يدي لفلان وما ذكروه في الدلالة على تعميم اسم الجنس إذا دخله الألف واللام. أما الوجه الأول منه قولهم إنه لا بد للألف واللام من فائدة قلنا: يمكن أن تكون فائدتها تعريف المعهود وإن لم يكن ثم معهود فالتردد بين العموم والخصوص على السوية بخلاف ما قبل دخولها. وأما الوجه الثاني: فقد قيل إنه من النقل الشاذ الذي لا اعتماد عليه وهو مع ذلك مجاز ولهذا فإنه لم يطرد في كل اسم فرد فإنه لا يقال جاءني الرجل العلماء والرجل المسلمون ثم وإن أمكن نعته بالجمع فإنما كان كذلك لأن المراد من قولهم إنما هو جنس الدينار وجنس الدرهم لا جملة الدنانير وجملة الدراهم وحيث كان الهلاك بجنس الدينار والدرهم لأمر متحقق في كل واحد من ذلك الجنس جاز نعته بالجمع نظراً إلى اقتضاء المعنى للجمع لا نظراً إلى اقتضاء لفظ الدينار. وأما الاستثناء في الآية فهو مجاز ولهذا لم يطرد فإنه لا يحسن أن يقال: رأيت الرجل إلا العلماء وعلى هذا النحو ثم لو كان ذلك صالحاً للاستغراق لأمكن مع اتحاده أن يؤكد بكل وجميع كما في من في قولك من دخل داري أكرمته وهو غير جائز فإنه لا يحسن أن يقال: جاءني الرجل كلهم أجمعون ويمكن أن يقال: إن مثل هذا قياس في اللغة وهو غير جائز. وأما الوجه الثالث: فدفعه بمنع الحصر فيما قيل بل القائل ثلاثة والثالث هو القائل بالتفصيل. وأما الوجه الرابع: فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة وقد أبطلناه وأما ما ذكروه في تعميم الجمع المنكر أما الوجه الأول منه فعنه جوابان: الأول: أن قول القائل رجال حقيقة في كل عدد على خصوصه ممنوع وإن أراد به أنه حقيقة في الجمع المشترك بين جميع الأعداد فمسلم ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون دالاً على ما هو الأخص لا حقيقة ولا مجازاً وعلى هذا فقد بطل القول بإنا إذا حملناه على الاستغراق كان حملاً له على جميع حقائقه ضرورة اتحاد مدلوله. الثاني وإن سلمنا أنه حقيقة في كل عدد بخصوصه غير أنه ليس حمله على الاستغراق مع احتمال عدم الإرادة أولى من حمله على الأقل مع كونه مستيقناً. وأما الوجه الثاني فإنما يلزم المتكلم به بيان إرادة البعض عيناً أن لو كان اللفظ موضوعا له وأما إذا كان موضوعاً لبعض مطلق فلا وأما الاستثناء فقد عرف جوابه كيف وإن أهل اللغة اتفقوا على تسميته نكرة ولو كان للاستغراق لكان معروفاً كله فلا يكون منكراً مختلطاً بغيره. قولهم: إن العرب فرقت بين تأكيد الواحد والعموم بما ذكروه إنما يصح إن لو كان كلهم أجمعون تأكيداً للعموم وليس كذلك بل هو تأكيد للفظ الذي يجوز أن يراد به العموم وغير العموم. قولهم: لو لم يكن للعموم صيغة تدل عليه لكان التكليف بالأمور العامة تكليفاً بما لا يطاق قلنا: إنما يكون كذلك إن لو لم يكن ثم ما يدل على التعميم وليس كذلك ولا يلزم من عدم صيغة تدل عليه بوضعها دون قرينة التكليف بالمحال مع وجود صيغة تدل عليه مع القرينة. وأما شبه أرباب الخصوص: قولهم في الشبهة الأولى أن الخصوص متيقن قلنا: ذلك لا يدل على كونه مجازاً في الزيادة فإن الثلاثة مستيقنة في العشرة ولا يدل على كونه لفظ العشرة حقيقة في الثلاثة مجازاً في الزيادة فإن قيل إلا أن الزيادة في العشرة على الثلاثة أيضاً مستيقنة قيل ليس كذلك وإلا لما صح استثناؤها بقوله علي عشرة إلا ثلاثة كيف وإن ما ذكروه من الترجيح معارض بما يدل على كونه حقيقة في العموم وذلك لأنه من المحتمل أن يكون مراد المتكلم العموم فلو حمل لفظه على الخصوص لم يحصل مراده وبتقدير أن يكون مراده الخصوص لا يمتنع حصول مقصوده منه بتقدير الحمل على العموم بل المقصود حاصل وزيادة وليس أحد الأمرين أولى من الآخر. قولهم في الشبهة الثانية: إن أكثر استعمال هذه الصيغ في الخصوص لا نسلم ذلك وإن سلم إلا أن ذلك لا يدل على كون هذه الصيغ حقيقة في الخصوص ومجازاً في العموم ويدل عليه أن استعمال لفظ الغائط والعذرة غالب في الخارج المستقذر من الإنسان وإن كان مجازاً فيه وحقيقة في الموضع المطمئن من الأرض وفناء الدار وكذلك لفظ الشجاع حقيقة في الحية المخصوصة وإن كان غالب الاستعمال في الرجل المقدام. قولهم في الثالثة إنه لا يحسن الاستفهام عن إرادة البعض بخلاف العموم قلنا: حسن الاستفهام عن إرادة العموم لا يخرج الصيغة عن كونها حقيقة في العموم ودليل ذلك أنه لو قال القائل: دخل السلطان البلد ولقيت بحراً وناطحت جبلاً ورأيت حماراً فإنه يحسن استفهامه هل أردت بالسلطان نفسه أو عسكره؟ وهل أردت بالجبل الجبل الحقيقي أو الرجل العظيم وهل أردت بالحمار الحمار الحقيقي أو البليد؟ وأردت بالبحر البحر الحقيقي أو رجلاً كريماً؟ وعدم حسن الاستفهام عن البعض لتيقنه لا يوجب كون الصيغة حقيقية فيه بدليل الثلاثة من العشرة. قولهم في الرابعة: لو كان قوله رأيت الرجال للعموم لكان كاذباً بتقدير إرادة الخصوص قلنا: إنما يكون كاذباً مع كون لفظه حقيقة في العموم إن لو لم يكن لفظه صالحاً لإرادة البعض تجوزا ولهذا فإنه لو قال: رأيت أسداً وحماراً أو بحراً وكان قد رأى إنساناً شجاعاً وإنساناً بليداً وإنساناً كريماً لم يكن كاذباً وإن كان لفظه حقيقة في غيره وهذا بخلاف ما إذا قال: رأيت عشرة رجال ولم يكن رأى غير خمسة فإن لفظ العشرة مما لا يصلح للخمسة لا حقيقة ولا تجوزاً. قولهم في الخامسة: إنه لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان تأكيدها عبثاً ليس كذلك فإنه يكون أبعد عن مجازفة المتكلم وأبعد عن قبول التخصيص وأغلب على الظن كيف وإنه يلزم على ما ذكروه صحة تأكيد الخاص بقولهم جاء زيد عينه نفسه وتأكيد عقود الأعداد كقوله تعالى: "تلك عشرة كاملة" "البقرة 196" وما هو الجواب هاهنا عن التأكيد يكون جواباً في العموم. قولهم: وكان الاستثناء منها نقضاً يلزم عليه الاستثناء من الأعداد المقيدة كقوله له: علي عشرة إلا خمسة فإنه صحيح بالاتفاق مع أن لفظ العشرة صريح فيها وجوابه في الأعداد جوابه في العموم. قولهم في السادسة: إن من لو كانت للعموم لما جمعت قلنا: قد قيل إن ذلك ليس بجمع وإنما هو إلحاق زيادة الواو وإشباع الحركة وبتقدير أن يكون جمعاً فقد قال سيبويه: إنه لا عمل عليه لما فيه من جمع من حالة الوصل وإنما تجمع عندما إذا حكى بها الجمع المنكر حالة الوقف وإذا ذاك فلا تكون العموم. وأما شبه أرباب الاشتراك: قولهم في الشبهة الأولى إن هذه الصيغ قد تطلق تارة للعموم وتارة للخصوص والأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا: الأصل في الإطلاق الحقيقة بصفة الاشتراك أو لا بصفة الاشتراك الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأنه إذا كان مشتركاً افتقر في فهم كل واحد من مدلولاته إلى قرينة تعينه ضرورة تساوي نسبة اللفظ فيه إلى الكل والقرينة قد تظهر وقد تخفى وذلك يفضي إلى الإخلال بمقصود الوضع وهو التفاهم وهذا بخلاف ما إذا كان اللفظ حقيقة في مدلول واحد فإنه يحمل عليه عند إطلاقه من غير افتقار إلى قرينة مخلة بالفهم.
قولهم في الثانية: إنه يحسن الاستفهام قلنا: ذلك لا يدل على كون اللفظ مشتركاً فإنه يحسن مع كون اللفظ متحد المدلول كما لو قال القائل: خاصمت السلطان فيقال أخاصمته؟ مع كون اللفظ حقيقة في شيء ومجازاً في غيره كما سبق تمثيله من قول القائل صدمت جبلاً ورأيت بحراً ولقيت حماراً فإنه يحسن استفهامه أنك أردت بذلك المدلولات الحقيقية أو المجازية من الرجل العظيم والكريم والبليد وذلك لفائدة زيادة الأمن من المجازفة في الكلام وزيادة غلبة الظن وتأكده بما اللفظ ظاهر فيه وللمبالغة في دفع المعارض كما سبق في التأكيد. وأما طريق الرد على من فرق من الواقفية بين الأوامر والأخبار فهو أن كل ما يذكرونه في الدلالة على وجوب التوقف في الأخبار فهو بعينه مطرد في الأوامر. قولهم أولا إن الأمر تكليف قلنا: ومن الأخبار العامة ما كلفنا بمعرفتها كقوله تعالى: "الله خالق كل شيء" "الزمر 62" "وهو بكل شيء عليم" "الحديد 3" وكذلك عمومات الوعد والوعيد فإنا مكلفون بمعرفتها لأن بذلك يتحقق الانزجار عن المعاصي والانقياد إلى الطاعات ومع التساوي في التكليف فلا معنى للفرق وإن سلمنا أن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق فهو غير ممتنع عندنا على ما سبق تقريره. قولهم ثانياً: إن من الأخبار ما يرد بالمجهول من غير بيان بخلاف الأمر قلنا: لا نسلم امتناع ورود الأمر بالمجهول كيف وإن هذا الفرق وإن دل على عدم الحاجة فيما كان من الأخبار لم نكلف بمعرفتها إلى وضع اللفظ العام بازائه فغير مطرد فيما كلفنا بمعرفته كما سبق وهم غير قائلين بالتفصيل بين خبر وخبر. المسألة الثالثة اختلف العلماء في أقل الجمع: هل هو اثنان أو ثلاثة؟ وليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة وهو ضم شيء إلى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد من غير خلاف وإنما محل النزاع في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة فنقول مذهب عمر وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق وجماعة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه كالغزالي وغيره أنه اثنان ومذهب ابن عباس والشافعي وأبي حنيفة ومشايخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الشافعي أنه ثلاثة وذهب إمام الحرمين إلى أنه لا يمتنع رد لفظ الجمع إلى الواحد. احتج الأولون بحجج من جهة الكتاب والسنة وإشعار اللغة والإطلاق. أما من جهة الكتاب فقوله تعالى: "إنا معكم مستمعون" "الشعراء 15" وأراد به موسى وهارون وقوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" "الحجرات 9" وقوله تعالى: "وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا: لا تخف خصمان بغي بعضنا على بعض" "ص 21" وقوله تعالى: "فإن كان له أخوة فلأمه السدس" "النساء 11" وأراد به الأخوين وقوله تعالى: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً" "يوسف 83" وأراد به يوسف وأخاه وقوله تعالى: "وكنا لحكمهم شاهدين" "الأنبياء 78" وأراد به داود وسليمان وقوله تعالى: "هذان خصمان اختصموا" "الحج 19" وقوله تعالى: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" "التحريم 4". وأما من جهة السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة". وأما من جهة الإشعار اللغوي فهو أن اسم الجماعة مشتق من الاجتماع وهو ضم شيء إلى شيء وهو متحقق في الاثنين حسب تحققه في الثلاثة وما زاد عليها ولذلك تتصرف العرب وتقول: جمعت بين زيد وعمرو فاجتمعا وهما مجتمعان كما يقال ذلك في الثلاثة فكان إطلاق اسم الجماعة على الاثنين حقيقة. وأما من جهة الإطلاق فمن وجهين: الأول: أن الاثنين يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع فيقولان: قمنا وقعدنا وأكلنا وشربنا كما تقول الثلاثة. الثاني: أنه يصح أن يقول القائل إذا أقبل عليه رجلان في مخافة: أقبل الرجال وذلك كله يدل على أن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة قال النافون لذلك: أما قوله تعالى: "إنا معكم مستمعون" "الشعراء 15" فالمراد به موسى وهارون وفرعون وقومه وهم جمع: وقوله تعالى: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا" "الحجرات 9" فكل طائفة جمع وأما قصة داود فلا حجة فيها فإن الخصم قد يطلق على الواحد وعلى الجماعة فيقال هذا خصمي وهؤلاء خصمي وليس في الآية ما يدل على أن كل واحد من الخصمين كان واحداً وقوله تعالى: "فإن كان له أخوة فلأمه السدس" "النساء 11" فالمراد به الثلاثة وحيث ورثناها السدس مع الأخوين لم يكن ذلك مخالفاً لمنطوق اللفظ بل لمفهومه بدليل آخر وهو انعقاد الإجماع على ذلك والمراد من قوله تعالى: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً" "يوسف 83" يوسف وأخوه وشمعون الذي قال: لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي والمراد من قوله تعالى: وكنا لحكمهم شاهدين" "الأنبياء 78" داود وسليمان والمحكوم له وهم جماعة وقوله تعالى: "هذان خصمان اختصموا" "الحج 19" فالجواب عنه ما تقدم في قصة داود وقوله تعالى: "إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما" "التحريم 4" فهو أشبه مما يحتج به هاهنا ويمكن أن يجاب عنه بأن الخطاب وإن كان مع اثنين وأنه ليس لكل واحد منهما في الحقيقة سوى قلب واحد غير أنه قد يطلق اسم القلوب على ما يوجد للقلب الواحد من الترددات المختلفة إلى الجهات المختلفة مجازاً ومن ذلك قولهم لمن مال قلبه إلى جهتين أو تردد بينهما: إنه ذو قلبين وعند ذلك فيجب حمل قوله قلوبكما على جهة لفظ الجمع على الاثنين حقيقة ويمكن أن يقال إنما قال قلوبكما تجوزاً حذراً من استثقال الجمع بين تثنيتين وقوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة إنما أراد به أن حكمهما حكم الجماعة في انعقاد صلاة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة ويجب الحمل عليه لأن الغالب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفنا الأحكام الشرعية لا الأمور اللغوية لكونها معلومة للمخاطب ولما سيأتي من الأدلة. وأما ما ذكروه من الإشعار اللغوي فجوابه أن يقال: وإن كان ما منه اشتقاق لفظ الجماعة في الثلاثة موجوداً في الاثنين فلا يلزم إطلاق اسم الجماعة عليهما إذ هو من باب القياس في اللغة وقد أبطلناه ولهذا فإن المعنى الذي صح منه اشتقاق اسم القارورة للزجاجة المخصوصة وهو قرار المائع فيها متحقق في الجرة والكوز ولا يصح تسميتهما قارورة كيف وإن ذلك لا يطرد في اسم الرجال والمؤمنين وغيرهما من أسماء الجموع إذ هو غير مشتق من الجمع والخلاف واقع في إطلاقه على الاثنين حقيقة. وجواب الإطلاق الأول أن ذلك لا يدل على أن الاثنين جمع بدليل صحة قول الواحد لذلك مع أنه ليس بجماعة ولهذا فإنه لا يصح إخبار غيرهما عنهما بذلك فلا يقال عن الاثنين قاموا وقعدوا بل قاما وقعدا. وجواب الإطلاق الثاني أن ذلك أيضاً لا يدل على أن الاثنين جماعة بدليل صحة قوله: جاء الرجال عند ما إذا أقبل عليه الواحد في حال المخافة والواحد ليس بجمع بالاتفاق وأما حجج القائلين بأن أقل الجمع ثلاثة فست. الأولى: ما روي عن ابن عباس أنه قال لعثمان حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين قال الله تعالى: "فإن كان له أخوة فلأمه السدس" "النساء 11" وليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال عثمان: لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي وتوارثه الناس ولولا أن ذلك مقتضى اللغة لما احتج به ابن عباس على عثمان وأقره عليه عثمان وهما من أهل اللغة وفصحاء العرب. الثانية: أن أهل اللغة فرقوا بين رجلين ورجال فإطلاق اسم الرجال على الرجلين رفع لهذا الفرق. الثالثة: أنه لو صح إطلاق الرجال على الرجلين لصح نعتهما بما ينعت به الرجال ولا يصح أن يقال: جاءني رجلان ثلاثة كما يقال: جاءني رجال ثلاثة ولصح أن يقال: رأيت اثنين رجالاً كما يقال رأيت ثلاثة رجال. الرابعة: أن أهل اللغة فرقوا بين ضمير التثنية والجمع فقالوا في الاثنين: فعلاً وفي الجميع فعلوا. الخامسة: أنه يصح أن يقال: ما رأيت رجالاً بل رجلين ولو كان اسم الرجال للرجلين حقيقة لما صح نفيه. السادسة: أنه لو قال: لفلان علي دراهم فإنه لا يقبل تفسيره بأقل من ثلاثة وكذلك في النذر والوصية. وهذه الحجج ضعيفة: أما الحجة الأولى فهي معارضة بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال: الأخوان أخوة وروي عنه أنه قال: أقل الجمع اثنان وليس العمل بأحدهما أولى من الآخر.
وأما الثانية: فهو أن التفرقة بين الرجلين والرجال أن اسم الرجلين جمع خاص بالاثنين والرجال جمع عام للاثنين وما زاد عليهما. وأما الثالثة: فهو أن الثلاثة نعت للجمع العام وهو الرجال ولا يلزم أن يكون نعتاً للجمع الخاص وهو رجلان وبه يعرف الجواب عن امتناع قولهم: رأيت اثنين رجالاً من حيث إن رجالاً اسم للجمع العام وهو الثلاثة وما زاد عليها فلا يلزم أن يكون اسماً لما دون ذلك وبه يخرج الجواب عن الفرق بين ضمير التثنية وضمير الجمع: فإن ضمير فعلا لجمع خاص وهو الاثنان وفعلوا ضمير ما زاد على ذلك. وأما الخامسة: فإنه إذا رأى رجلين لا نسلم أنه يصح قوله: ما رأيت رجالاً إلا أن يريد به ما زاد على الاثنين وأما الأحكام فممنوعة على أصل من يرى أن أقل الجمع اثنين. وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم. المسألة الرابعة اختلف القائلون بالعموم في العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو مجاز على ثمانية مذاهب. فمنهم من قال إنه يبقى حقيقة مطلقاً على أي وجه كان المخصص وهو مذهب الحنابلة وكثير من أصحابنا. ومنهم من قال إنه يبقى مجازاً كيف ما كان المخصص وهو مذهب كثير من أصحابنا وإليه ميل الغزالي وكثير من المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة كعيسى بن أبان وغيره. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن كان الباقي جمعاً فهو حقيقة وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر الرازي. ومنهم من قال إن خص بدليل لفظي فهو حقيقة كيف ما كان المخصص متصلاً أو منفصلاً وإلا فهو مجاز. ومنهم من قال إن خص بدليل متصل من شرط كقوله: من دخل داري وأكرمني أكرمته أو استثناء كقوله: من دخل داري أكرمته سوى بني تميم فحقيقة وإلا فمجاز وهو اختيار القاضي أبي بكر. وقال القاضي عبد الجبار من المعتزلة إن كان مخصصه شرطاً كما سبق تمثيله أو تقييداً بصفة كقوله: من دخل داري عالماً أكرمته فهو حقيقة وإلا فهو مجاز حتى في الاستثناء. وقال أبو الحسين البصري: إن كانت القرينة المخصصة مستقلة بنفسها وسواء كانت عقلية كالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب في العبادات أو لفظية كقول المتكلم بالعموم: أردت به البعض الفلاني فهو مجاز وإلا فهو حقيقة وسواء كانت القرينة شرطاً أو صفة مقيدة أو استثناء ومن الناس من قال إنه حقيقة في تناول اللفظ له مجاز في الاقتصار عليه. والمختار تفريعاً على القول بالعموم أنه يكون مجازاً في المستبقى واحداً كان أو جماعة وسواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً عقلياً أو لفظياً باستثناء أو شرط أو تقييد بصفة. ودليل ذلك أنه إذا كان اللفظ حقيقة في الاستغرق والهيئة الاجتماعية من كل الجنس فصرفه إلى البعض بالقرينة كيف ما كانت القرينة. إما أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازاً لا جائز أن يقال بكونه حقيقة فيه وإلا كان اللفظ مشتركاً بينه وبين الاستغراق ضرورة اختلاف معنييهما بالبعضية والكلية وعدم اشتراكهما في معنى جامع يكون مدلولاً للفظ والمشترك لا يكون ظاهراً بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض وهو خلاف مذهب القائلين بالعموم فلم يبق إلا أن يكون مجازاً.
فإن قيل: ما المانع أن يكون حقيقة فيهما باعتبار اشتراكهما في الجنسية على وجه لا يكون مشتركاً ولا مجازاً في أحدهما والذي يدل على كونه حقيقة في البعض المستبقي أن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يكون مؤثراً فيه سلمنا أنه ليس حقيقة في الجنس المشترك ولكن ما المانع من كون اللفظ بمطلقه حقيقة في الاستغراق ومع القرينة يكون حقيقة في البعض سلمنا امتناع بقائه حقيقة فيه ولكن متى إذا كان دليل التخصيص لفظياً متصلاً أو منفصلاً الأول ممنوع والثاني مسلم وذلك لأنه إذا كان الدليل المخصص لفظياً متصلاً وسواء كان شرطاً أو تقييداً بصفة أو استثناء فإن الكلام يصير بسبب الزيادة المتصلة به كلاماً آخر مستقلاً موضوعاً للبعض فإنه إذا قال من دخل داري أكرمته كان له معنى فإذا زاد شرطاً أو صفة أو استثناء كقوله من دخل داري وأكرمني أكرمته ومن دخل داري عالماً أكرمته أو من دخل داري أكرمته إلا بني تميم تغير ذلك المعنى الأول وصار معنى الشرط الداخل المكرم ومعنى الصفة الداخل العالم ومعنى الاستثناء الداخل ممن ليس من بني تميم فكان اللفظ والمعنى مختلفاً وكل واحد من اللفظين حقيقة في معناه وصار هذا بمنزلة قول القائل: مسلم فإنه له معنى فإذا زاد فيه الألف واللام فقال: المسلم أو زاد فيه الواو والنون فقال: مسلمون فإن اللفظ بإلحاق الزيادة فيه صار دالاً على معنى زائد بجهة الحقيقة لا بجهة التجوز فكذلك فيما نحن فيه. وعلى هذا نقول: إن قوله تعالى: "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً" "العنكبوت 14" إن مجموع هذا القول دل على المستبقي بجهة الحقيقة وهو قائم مقام قوله: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً. هذا كله فيما إذا كان الاستثناء والمستثنى في كلام متكلم واحد وأما لو قال الله تعالى: "اقتلوا المشركين" "التوبة 5" فقال الرسول عقيبه: إلا زيداً فهذا مما اختلف فيه أنه كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازاً أم لا فمن قال بكونه متصلاً نظر إلى أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون في تشريع الأحكام يغير الوحي فكان في البيان كما لو كان ذلك بكلام الله تعالى ومنهم من أجراه مجرى الدليل المنفصل دون المتصل ولهذا فإنه لو قال الباري تعالى: زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قام" لا يكون خبراً صادراً من الله تعالى لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد ولعل هذا هو الأظهر. سلمنا أنه يكون مجازاً في جميع الصور إلا في الشرط وذلك لأنه إذا قال أكرم بني تميم إن دخلوا داري فإن الشرط لم يخرج شيئاً مما تناوله اللفظ من أعيان الأشخاص بل هو باق بحاله وإنما أخرج حالاً من الأحوال وهي حالة عدم دخول الدار بخلاف الاستثناء وغيره فلا يكون مجازاً. سلمنا التجوز مطلقاً لكن متى إذا كان المستبقي جمعاً غير منحصر أو إذا لم يكن؟ الأول ممنوع والثاني مسلم. والجواب عن السؤال الأول أن البعض وإن كان من جنس الكل إلا أن اللفظ العام حقيقة في استغراق الجنس من حيث هو كذلك لا في الجنس مطلقاً ولهذا تعذر حمله على البعض وإن كان من الجنس إلا بقرينة باتفاق القائلين بالعموم ومعنى الاستغراق غير متحقق في المستبقى فلا يكون حقيقة فيه. قولهم إن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص قلنا بانفراده أو مع المخصص الخارج؟ الأول ممنوع والثاني مسلم وعلى هذا فلا يلزم مع التخصيص أن يبقى حقيقة فيه كيف ويلزم عليه الواحد فإن اللفظ كان متناولاً له حقيقة قبل التخصيص وبعد التخصيص فهو مجاز فيه بالاتفاق. وعن السؤال الثاني جوابان: الأول أن ذلك مما يرفع جميع المجازات عن الكلام فإنه ما من مجاز إلا ويمكن أن يقال أنه مع القرينة حقيقة في مدلوله وبدون القرينة حقيقة في غيره. الثاني: أنه لو كان كما ذكروه لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة المخصصة له بالبعض استعمالاً له في غير الحقيقة وصارفاً له عن الحقيقة وهو خلاف إجماع القائلين بالعموم.
وعن السؤال الثالث: أن دلالة اللفظ عند اقترانه بالدليل اللفظي المتصل لا يخرج عن حقيقته وصورته بما اقترن به وإلا كان كل مقترن بشيء خارجاً عن حقيقته ويلزم من ذلك خروج الجسم عن حقيقته من حيث هو جسم عند اتصافه بالسواد والبياض وكذلك في كل موصوف بصفة وهو محال وإذا كان باقياً على حقيقته فمعناه لا يكون مختلفاً بل غايته أن يصير مصروفاً عن معناه بالقرينة المقترنة به وهو التجوز بعينه وعلى هذا فألفاظ الآية المذكورة في قصة نوح الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع ومعرفة ما بقي حاصلة بالحساب وخرج عن هذا زيادة الألف واللام في المسلم والواو والنون في المسلمين فإنها لا معنى لها في نفسها دون المزيد عليه ولا سبيل إلى إهمالها فلذلك كانت موجبة للتعيين في الوضع. فإن قيل: لو قال: لا إله فإنه بمطلقه يكون كفراً ولو اقترن به الاستثناء وهو قوله: إلا الله كان إيماناً وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق كان بمطلقه تنجيزاً للطلاق ولو اقترن به الشرط وهو قوله: إن دخلت الدار كان تعليقاً مع أن الاستثناء والشرط له معنى ولولا تغير الدلالة والوضع لما كان كذلك. قلنا: لا نسلم التغير في الوضع بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه في جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة كيف وإنه لو صح ما ذكروه لم يكن ذلك من باب تخصيص العموم الذي نحن فيه. وعن السؤال الرابع من وجهين: الأول: أنه مهما أخرج الشرط بعض الأحوال فيلزم منه إخراج بعض الأعيان وذلك أنه إذا قال: أكرم بني تميم إن دخلوا داري فقد أخرج من لم يدخل الدار الثاني أنه: وإن لم يخرج شيئاً من الأعيان ولكن لا نسلم انحصار التجوز في إخراج الأعيان وما المانع من القول بالتجوز في إخراج بعض الأحوال مع عموم اللفظ بالنسبة إليها؟ وعن السؤال الخامس: لا نسلم أن المستبقي وإن كان جمعاً غير منحصر أنه يكون عاماً إذا لم يكن مستغرقاً للجنس وإن سلمنا عمومه غير أنه بعض مدلول اللفظ العام المخصص وإذا كان بعضاً منه لزم أن يكون صرف اللفظ إليه مجازاً لما ذكرناه من الدليل. المسألة الخامسة اختلف القائلون بالعموم في صحة الاحتجاج به بعد التخصيص في ما بقي فأثبته الفقهاء مطلقاً وأنكره عيسى بن أبان وأبو ثور مطلقاً ومنهم من فصل: ثم اختلف القائلون بالتفصيل: فقال البلخي إن خص بدليل متصل كالشرط والصفة والاستثناء فهو حجة وإن خص بدليل منفصل فليس بحجة. وقال أبو عبد الله البصري: إن كان المخصص قد منع من تعلق الحكم بالاسم العام وأوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" "المائدة 38" فإن قيام الدلالة على اعتبار الحرز ومقدار المسروق مانع من تعلق الحكم بعموم اسم السارق وموجب لتعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ وإن كان المخصص لم يمنع من تعلق الحكم الاسم العام فهو حجة كقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين" "التوبة 5" فإن قيام الدلالة على المنع من قتل الذمي غير مانع من تعلق الحكم باسم المشركين. وقال القاضي عبد الجبار: إن كان العام المخصوص لو تركنا وظاهره من دون التخصيص كنا نمتثل ما أريد منا ونضم إليه ما لم يرد منا صح الاحتجاج به وذلك كقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين" "التوبة 5" المخصص بأهل الذمة وإن كان العام بحيث لو تركنا وظاهره من غير تخصيص لم يمكنا امتثال ما أريد منا دون بيان فلا يكون حجة وذلك كقوله تعالى: "أقيموا الصلاة" "البقرة 110" فإنا لو تركنا والآية لم يمكنا امتثال ما أريد منا من الصلاة الشرعية قبل تخصيصه بالحائض فكذلك بعد التخصيص. ومن الناس من قال إنه يكون حجة في أقل الجمع ولا يكون حجة فيما زاد على ذلك واتفق الكل على أن العام لو خص تخصيصاً مجملاً فإنه لا يبقى حجة كما لو قال: اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمختار صحة الاحتجاج به فيما وراء صور التخصيص. وقد احتج بعض الأصحاب على ذلك بأن قال: اللفظ العام كان متناولاً للكل بالإجماع فكونه حجة في كل قسم من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفاً على كونه حجة في القسم الآخر أو على كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد منهما: فإن كان الأول فهو باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل واحد من الأقسام مشروطاً بكونه حجة في القسم الآخر فهو دور ممتنع وإن كان كونه حجة في بعض الأقسام مشروطاً بكونه حجة في قسم آخر ولا عكس فكونه حجة في ذلك القسم الآخر يبقى بدون كونه حجة في القسم المشروط وليس بعض الأقسام بذلك أولى من البعض مع تساوي نسبة اللفظ العام إلى كل أقسامه. وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد وذلك أيضاً دور ممتنع وإذا بطل القسمان ثبت كونه حجة في كل واحد من الأقسام من غير توقف على كونه حجة في القسم الآخر ولا على الكل ثبت كونه حجة في البعض المستبقى وإن لم يبق حجة في غيره وهذه الحجة مع طولها ضعيفة جداً إذ لقائل أن يقول ما المانع من صحة توقف الاحتجاج به في كل واحد من الأقسام على الآخر أو على الكل مع التعاكس. قوله إنه دور ممتنع متى يكون ذلك ممتنعاً إذا كان التوقف توقف معية أو توقف تقدم؟ الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لم قلت بأن التوقف هاهنا بجهة التقدم ولا يخفى أن بيان ذلك مما لا سبيل إليه والمعتمد في ذلك الإجماع والمعقول. أما الإجماع فهو أن فاطمة رضي الله عنها احتجت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم" "النساء 11" الآية مع أنه مخصص بالكافر والقاتل ولم ينكر أحد من الصحابة صحة احتجاجها مع ظهوره وشهرته بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" وأيضاً فإن علياً عليه السلام احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: "أو ما ملكت أيمانكم" "النساء 3" مع كونه مخصصاً بالأخوات والبنات وكان ذلك مشهوراً فيما بين الصحابة ولم يوجد له نكير فكان إجماعاً وأيضاً فإن ابن عباس احتج على تحريم نكاح المرضعة بعموم قوله تعالى: "وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم" "النساء 23" وقال قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير مع أنه مخصوص لكون الرضاع المحرم متوقفاً على شروط وقيود فليس كل مرضعة محرمة ولم ينكر عليه منكر صحة احتجاجه به فكان إجماعاً. وأما المعقول فهو أن العام قبل التخصيص حجة في كل واحد من أقسامه إجماعاً والأصل بقاء ما كان قبل التخصيص بعده إلا أن يوجد له معارض والأصل عدمه فإن قيل: لو كان حجة في الباقي بعد التخصيص لم يخل إما أن يدل عليه حقيقة أو تجوزاً لا جائز أن يقال بالأول إذ يلزم منه أن يكون اللفظ مشتركاً بينه وبين الاستغراق ضرورة اتفاق القائلين بالعموم على كونه حقيقة في الاستغراق والاشتراك على خلاف الأصل وإن كان مجازاً فيمتنع الاحتجاج به لثلاثة أوجه. الأول: أن المجاز فيما وراء صورة التخصيص ويمتنع الحمل على الكل لما فيه من تكثير جهات التجوز وليس حمله على أحد المجازين أولى من الآخر لعدم دلالة اللفظ عليه فكان مجملاً. الثاني: أن المجاز ليس بظاهر وما لا يكون ظاهراً لا يكون حجة. الثالث: أن العام بعد التخصيص ينزل منزلة قوله: اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمشبه به ليس بحجة فكذلك المشبه سلمنا أنه حجة لكن في أقل الجمع أو فيما عدا صورة التخصيص؟ الأول مسلم والثاني ممنوع وذلك لأن الحمل على أقل الجمع متيقن بخلاف الحمل على ما زاد عليه فإنه مشكوك فيه فكان حجة في المتيقن والجواب عن السؤال الأول من جهة الإجمال والتفصيل: أما الإجمال فهو أن اللفظ العام حجة في كل واحد من أقسامه قبل التخصيص إجماعاً وهو إما أن يكون دالاً عليه حقيقة أو مجازاً ضرورة وكل ما ذكروه من الإشكالات تكون لازمة ومع ذلك فهو حجة والعذر يكون متحداً. وأما التفصيل فنقول: ما المانع أن يكون مشتركاً؟ قولهم: الاشتراك على خلاف الأصل قلنا إنما يكون خلاف الأصل أن لو لم يكن من قبيل الأسماء العامة وليس كذلك على ما يأتي عن قرب إن شاء الله تعالى وإن سلمنا أنه ليس مشتركاً فما المانع من التجوز؟ قولهم: إنه مجمل لتردده بين جهات التجوز قلنا: يجب اعتقاد ظهوره في بعضها نفياً للإجمال عن الكلام إذ هو خلاف الأصل ثم متى يكون كذلك إذا كان حمله على ما عدا صورة التخصيص مشهوراً أو إذا لم يكن الأول ممنوع والثاني مسلم وبيان اشتهاره ما نقل عن الصحابة من علمهم بالعمومات المخصصة فيما وراء صورة التخصيص نقلاً شائعاً ذائعاً سلمنا أنه غير مشهور فيه ولكن يجب حمل اللفظ بعد التخصيص عليه لأنه أولى من حمله على أقل الجمع لثلاثة أوجه الأول: لكونه معيناً وكون أقل الجمع مبهماً في الجنس. والثاني: إن حمله عليه بتقدير أن يكون المراد من اللفظ أقل الجمع غير مخل بمراد المتكلم وحمله على أقل الجميع بتقدير أن يكون المراد من اللفظ ما عدا صورة التخصيص مخل بمراد المتكلم فكان الحمل عليه أولى. والثالث: إنه أقرب إلى الحقيقة فكان أولى. قولهم: المجاز ليس بظاهر إن أرادوا به أنه ليس حقيقة فمسلم ولكن لا يدل ذلك على أنه لا يكون حجة إلا أن تكون الحجة منحصرة في الحقيقة وهو محل النزاع وإن أرادوا به أنه لا يكون حجة فهو محل النزاع. قولهم: إنه ينزل منزلة قوله اقتلوا المشركين إلا بعضهم ليس كذلك فإن الخارج عن العموم إذا كان مجهولاً تعذر العمل بالعموم مطلقاً لأن العمل به في أي واحد قدر لا يؤمن معه أن يكون هو المستثنى بخلاف ما إذا كان الخارج معيناً وعن السؤال الثاني بما ذكرناه من الترجيحات السابقة. المسألة السادسة إذا ورد خطاب جواباً لسؤال سائل داع إلى الجواب فالجواب إما أن يكون غير مستقل بنفسه دون السؤال أو هو مستقل: فإن كان الأول فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه: أما في عمومه فمن غير خلاف وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بيع الرطب التمر فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم قال: فلا إذا. وأما في خصوصه فكما لو سأله سائل وقال: توضأت بماء البحر فقال له: يجزئك فهذا وأمثاله وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال لا يدل على التعميم في حق الغير كما قاله الشافعي رضي الله عنه إذ اللفظ لا عموم له ولعل الحكم على ذلك الشخص كان لمعنى يختص به كتخصيص أبي بردة في الأضحية بجذعة من المعز وقوله له تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك وتخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده وبتقدير تعميم المعنى الجالب للحكم فالحكم في حق غيره إن ثبت فبالعلة المتعدية لا بالنص. وأما إن كان الجواب مستقلاً بنفسه دون السؤال فإما أن يكون مساوياً للسؤال أو أعم منه أو أخص. فإن كان مساوياً له فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاماً أو خاصاً فكما لو لم يكن مستقلاً ومثاله عند كون السؤال خاصاً سؤال الأعرابي عن وطئه في نهار رمضان وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة" ومثاله عند كون السؤال عاماً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل فقيل له: إنا نركب البحر على أرماث لنا وليس معنا من الماء العذب ما يكفينا أفنتوضأ بما البحر فقال صلى الله عليه وسلم: "البحر هو الطهور ماؤه". وأما إن كان الجواب أخص من السؤال فالجواب يكون خاصاً ولا يجوز تعديه الحكم من محل التنصيص إلى غيره إلا بدليل خارج عن اللفظ إذ اللفظ لا عموم له كما سبق تقريره بل وفي هذه الصورة الحكم بالخصوص أولى من القول به فيما إذا كان السؤال خاصاً والجواب مساوياً له حيث إنه هاهنا عدل عن مطابقة سؤال السائل بالجواب مع دعو الحاجة إليه بخلاف تلك الصورة فإنه طابق بجوابه سؤال السائل. وأما إن كان الجواب أعم من السؤال فإما أن يكون أعم من السؤال في ذلك الحكم لا غير كسؤاله صلى الله عليه وسلم عن ماء بئر بضاعة فقال: "خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه" أو أنه أعم من السؤال في غير ذلك الحكم كسؤاله صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فإن كان من القسم الثاني فلا خلاف في عمومه في حل ميتته لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب إذ هو غير مسؤول عنه وكل عام ورد مبتدأ بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عند القائلين بالعموم وأما إن كان من القسم الأول فمذهب أبي حنيفة والجم الغفير أنه عام وأنه لا يسقط عمومه بالسبب الذي ورد عليه والمنقول عن الشافعي رضي الله عنه ومالك والمزني وأبي ثور خلافه.
وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا ورد العام على سبب خاص لا تعلق له بالسؤال كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بشاة ميمونة وهي ميتة فقال صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". والمختار إنما هو القول بالتعميم إلى أن يدل الدليل على التخصيص ودليله أنه لو عري اللفظ الوارد عن السبب كان عاماً وليس ذلك إلا لاقتضائه للعموم بلفظه لا لعدم السبب فإن عدم السبب لا مدخل له في الدلالات اللفظية ودلالة العموم لفظية وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه فاللفظ وارد مع وجوب السبب حسب وروده مع عدم السبب فكان مقتضياً للعموم ووجود السبب لو كان لكان مانعاً من اقتضائه للعموم وهو ممتنع لثلاثة أوجه: الأول: أن الأصل عدم المانعية فمدعيها يحتاج إلى البيان. الثاني: أنه لو كان مانعاً من الاقتضاء للعموم لكان تصريح الشارع بوجوب العمل بعمومه مع وجود السبب إما إثبات حكم العموم مع انتفاء العموم أو إبطال الدليل المخصص وهو خلاف الأصل. الثالث: أن أكثر العمومات وردت على أسباب خاصة فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان وآية الظهار نزلت في حق سلمة بن صخر وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية إلى غير ذلك والصحابة عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم ولو كان مسقطاً للعموم لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل ولم يقل أحد بذلك. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بما يدل على اختصاص العموم بالسبب وبيانه من ستة أوجه: الأول: أنه لو لم يكن المراد بيان حكم السبب لا غير بل بيان القاعدة العامة لما أخر البيان إلى حالة وقوع تلك الواقعة واللازم ممتنع وإذا كان المقصود إنما هو بيان حكم السبب الخاص وجب الاقتصار عليه. الثاني: أنه لو كان الخطاب عاماً لكان جواباً وابتداء وقصد الجواب والابتداء متنافيان. الثالث: أنه لو كان الخطاب مع السبب عاماً لجاز إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد كما في غيره من الصور الداخلة تحت العموم ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل وهو خلاف الإجماع. الرابع: أنه لو لم يكن للسبب مدخل في التأثير لما نقله الراوي لعدم فائدته. الخامس: أنه لو قال القائل لغيره: تغدى عندي فقال: لا والله لا تغديت فإنه وإن كان جواباً عاماً فمقصور على سببه حتى إنه لا يحنث بغدائه عند غيره ولولا أن السبب يقتضي التخصيص لما كان كذلك. السادس: أنه إذا كان السؤال خاصاً فلو كان الجواب عاما لم يكن مطابقاً للسؤال والأصل المطابقة لكون الزيادة عديمة التأثير فيما تعلق به غرض السائل. والجواب عن المعارضة الأولى أنها مبنية على وجوب رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله وهو غير مسلم وإن كان ذلك مسلماً لكن لا مانع من اختصاص إظهار الحكم عند وجود السبب لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها دون غيره ثم يلزم مما ذكروه أن تكون العمومات الواردة على الأسباب الخاصة مما ذكرناه مختصة بأسبابها وهو خلاف الإجماع. وعن الثانية: أنه إن أريد بالتنافي بين الجواب والابتداء امتناع ذكره لحكم السبب مع غيره فهو محل النزاع وإن أرادوا غير ذلك فلا بد من تصويره. وعن الثالثة: أنه لا خلاف في كون الخطاب ورد بياناً لحكم السبب فكان مقطوعاً به فيه فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره فإن تناوله له ظني وهو ظاهر فيه فلذلك جاز إخراجه عن عموم اللفظ بالاجتهاد وما نقل عن أبي حنيفة من أنه كان يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ بالاجتهاد حتى أنه أخرج الأمة المستفرشة عن عموم قوله عليه السلام: "الولد للفراش" ولم يلحق ولدها بمولاها مع وروده في وليد زمعة وقد قال عبد الله بن زمعة: هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فلعله فعل ذلك لعدم اطلاعه على ورود الخبر على ذلك السبب. وعن الرابعة: أن فائدة نقل السبب امتناع إخراجه عن العموم بطريق الاجتهاد ومعرفة أسباب التنزيل. وعن الخامسة: أن الموجب للتخصيص بالسبب في الصورة المستشهد بها عادة أهل العرف بعضهم مع بعض ولا كذلك في الأسباب الخاصة بالنسبة إلى خطاب الشارع بالأحكام الشرعية.
وعن السادسة: إن أرادوا بمطابقة الجواب للسؤال الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد وإن أرادوا بذلك أن لا يكون بياناً لغير ما سئل عنه فلا نسلم أنه الأصل ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته تعرض لحل الميتة ولم يكن مسؤولاً عنها ولو كان الاقتصار على نفس المسؤول عنه هو الأصل لكان بيان النبي صلى الله عليه وسلم لحل الميتة على خلاف الأصل وهو بعيد. المسألة السابعة اختلف العلماء في اللفظ الواحد من متكلم واحد في وقت واحد إذا كان مشتركاً بين معنيين كالقرء للطهر والحيض أو حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر كالنكاح المطلق على العقد والوطيء ولم تكن الفائدة فيهما واحدة هل يجوز أن يراد به كلا المعنيين معاً أو لا؟ فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا وجماعة من مشايخ المعتزلة كالجبائي والقاضي عبد الجبار وغيرهم إلى جوازه بشرط أن لا يمتنع الجمع بينهما وذلك كاستعمال صيغة افعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه غير أن مذهب الشافعي أنه مهما تجرد ذلك اللفظ عن القرينة الصارفة له إلى أحد معنييه وجب حمله على المعنيين ولا كذلك عند من جوز ذلك من مشايخ المعتزلة. وذهب جماعة من أصحابنا وجماعة من المعتزلة كأبي هاشم وأبي عبد الله البصري وغيرهما إلى المنع من جواز ذلك مطلقاً. وفصل أبو الحسين البصري والغزالي فقالا: يجوز ذلك بالنظر إلى الإرادة دون اللغة. وعلى هذا النحو من الخلاف في اللفظ المفرد اختلفوا في جمعه كالأقراء التي هي جمع قرء هل يجوز حمله على الحيض والإطهار معاً وسواء كان إثباتاً كما لو قيل للمرأة: اعتدي بالأقراء أو نفياً كما لو قيل لها: لا تعتدي بالأقراء وذلك لأن جمع الاسم يفيد جمع ما اقتضاه الاسم فإن كان الاسم متناولاً لمعنييه كان الجمع كذلك وإن كان لا يفيد سوى أحد المعنيين فكذلك أيضاً جمعه والحجاج فيه متفرع على الحجاج في المفرد وربما قال بالتعميم في طرف النفي كان فرداً أو جمعاً بعض من قال بنفيه في طرف الإثبات ولهذا قال أبو الحسين البصري وفيه بعض الاشتباه إذ يجوز أن يقال بنفي الاعتداد بالحيض والطهر معاً والحق أن النفي لما اقتضاه الإثبات فإن كان مقتضى الإثبات الجمع فكذلك النفي وإن كان مقتضاه أحد الأمرين فكذلك النفي. وإذ أتينا على بيان اختلاف المذاهب بالتفصيل فلنعد إلى طرف الحجاج وقد احتج القائلون بجواز التعميم. أما في إمكان إرادة الأمرين باللفظ الواحد فهو أنا لو قدرنا عدم التكلم بلفظ القرء لم يمنع الجمع بين إرادة الاعتداد بالحيض وإرادة الاعتداد بالطهر فوجود اللفظ لا يحيل ما كان جائزاً وكذلك الكلام في إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز. وأما بالنظر عند الوقوع لغة فقوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي" "الأحزاب 56" والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الدعاء والاستغفار وهما معنيان مختلفان وقد أريدا بلفظ واحد وأيضاً قوله تعالى: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر" "الحج 18" إلى آخر الآية وسجود الناس غير سجود غير الناس وقد أريدا بلفظ واحد. واحتجوا أيضاً بأن سيبويه قال: قول القائل لغيره الويل لك خبر ودعاء فقد جعله مع اتحاده مفيداً لكلا الأمرين. اعترض النافون أما على إرادة إنكار الجمع بين المسميين فهو أن المتكلم إذا استعمل الكلمة الواحدة في حقيقتها ومجازها معاً كان مريداً لاستعمالها فيما وضعت له ومريداً للعدول بها عما وضعت له وهو محال وأيضاً فإن المستعمل للكلمة فيما هي مجاز فيه لا بد وأن يضمر فيها كاف التشبيه والمستعمل لها في حقيقتها لا بد وأن لا يضمر فيها ذلك والجمع بين الإضمار وعدمه في الكلمة الواحدة محال.
هذا ما يخص الاسم المجازي وأما ما يخص الاسم المشترك فهو أن اللفظ المشترك موضوع في اللغة لأحد أمرين مختلفين على سبيل البدل ولا يلزم من ذلك أن يكون موضوعاً لهما على الجمع إذ المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من أفراده واقعة بالضرورة والمساواة بينهما في جميع الأحكام غير لازمة وعلى هذا فلا يلزم من كون كل واحد من المفردين مسمى باسم تسمية المجموع به وعند ذلك فالواضع إذا وضع لفظا لأحد مفهومين على سبيل البدل فإن لم يكن قد وضعه لمجموعهما فاستعماله في المجموع استعمال اللفظ في غير ما وضع له وهو ممتنع وإن كان قد وضعه له فإما أن يستعمل اللفظ لإفادة المجموع وحده أو لإفادته مع إفادة الأفراد. فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيداً لأحد مفهوماته لأن الواضع إن كان قد وضعه بازاء أمور ثلاثة على البدل واحدها ذلك المجموع فاستعمال اللفظ فيه وحده لا يكون استعمالاً للفظ في جميع مفهوماته وإن استعمله في إفادة المجموع والأفراد على الجمع فهو محال لأن إفادة الجموع معناها أن الاكتفاء لا يحصل إلا به وإفادته للمفرد معناها أنه يحصل الاكتفاء بكل واحد منها وهو جمع بين النقيضين وهو محال فلا يكون اللفظ المشترك من حيث هو مشترك ممكن الاستعمال في إفادة مفهوماته جملة. وأما على دليل الوقوع لغة أما النص الأول فقد قال الغزالي فيه إن لفظ الصلاة المطلق على صلاة الله تعالى والملائكة إنما هو باعتبار اشتراكهما في معنى العناية بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم إظهاراً لشرفه وحرمته فهو لفظ متواطئ لا مشترك وكذلك لفظ السجود في الآية الأخرى فإن مسماه إنما هو القدر المشترك من معنى الخضوع لله تعالى والدخول تحت تسخيره وإرادته وقال أبو هاشم: وإن سلم اختلاف المسمى وإرادتهما بلفظ واحد فلا يبعد أن يقال إن ذلك من قبيل ما نقلته الشريعة من الأسماء اللغوية إلى غير معانيها في اللغة. فأما قول سيبويه فإنه وإن دل على أن العرب وضعت قوله الويل لك للخبر والدعاء معاً فليس فيه ما يدل على أن كل الألفاظ المشتركة أو الألفاظ التي هي حقيقة في شيء ومجاز في شيء موضوعة للجمع كيف وإن قول سيبويه لا يدل على كون ذلك القول مستعملاً في الخبر والدعاء معاً بل جاز أن يكون موضوعاً للخبر وهو مستعمل في الدعاء مجازاً لا معاً. أجاب المثبتون عن الاعتراض الأول على الإمكان بمنع أن المستعمل للفظة في حقيقتها ومجازها مريد لاستعمالها فيما وضعت له ومريد للعدول بها عما وضعت له بل هو مريد لما وضعت له حقيقة ولما لم توضع له حقيقة. وعن الثاني أن إضمار التشبيه وعدمه في الكلمة الواحدة إنما يمتنع بالنسبة إلى شيء واحد وأما بالنسبة إلى شيئين فلا كيف وإن ذلك لا يطرد في كل مجاز. وعن الثالث أنه مبني على أن الاسم المشترك موضوع لأحد مسمياته على سبيل البدل حقيقة وليس كذلك عند الشافعي والقاضي أبي بكر بل هو حقيقة في المجموع كسائر الألفاظ العامة ولهذا فإنه إذا تجرد عن القرينة عندهما وجب حمله على الجميع وإنما فارق باقي الألفاظ العامة من جهة تناوله لأشياء لا تشترك في معنى واحد يصلح أن يكون مدلولاً للفظ بخلاف باقي العمومات فنسبه اللفظ المشترك في دلالته إلى جملة مدلولاتها وإلى أفرادها كنسبة غيره من الألفاظ العامة إلى مدلولاتها جملة وأفراداً. وعلى هذا فقد بطل كل ما قيل من التقسيم المبني على أن اللفظ المشترك موضوع لأحد مسمياته على طريق البدل حقيقة ضرورة كونه مبنياً عليه وإنما هو لازم على مشايخ المعتزلة المعتقدين كون اللفظ المشترك موضوعاً لأحد مسمياته حقيقة على طريق البدل. فإن قيل: وإن كان اللفظ المشترك حقيقة في الجمع فلا خفاء بجواز استعماله في آحاد مدلولاته عند ظهور القرينة عند الشافعي والقاضي أبي بكر وسواء كان ذلك حقيقة أو مجازاً وعند ذلك فاستعماله في المجموع وإن كان على وجه لا يدخل فيه الأفراد فإن كان اللفظ حقيقة في الأفراد فاللفظ يكون مشتركاً ولم يدخل فيه جميع مسمياته وإن كان مجازاً فلم تدخل فيه الحقيقة والمجاز معاً وهو خلاف مذهبكم وإن كان على وجه يدخل فيه الأفراد فهو محال لأن إفادته للمجموع معناها أن الاكتفاء لا يحصل إلا به وإفادته للإفراد معناها أنه يحصل الإكتفاء بكل واحد منها وهو جمع بين النقيضين كما سبق.
قلنا: استعماله في الأفراد متى يكون معناه الاكتفاء بها إذا كانت داخلة في المجموع أو إذا لم تكن داخلة فيه والأول ممنوع بل معنى استعماله فيها أنه لا بد منها والثاني مسلم ولا يلزم منه التناقض على كلا التقديرين أما على تقدير العمل باللفظ في آحاد أفراده مع الاقتصار عند ظهور القرينة فلأن الجملة غير مشترطة في الاكتفاء وأما عند كون الأفراد داخلة في مسمى الجملة فلأنها لا بد منها لا بمعنى أنه يكتفى بها. فإن قيل: وإذا كانت الأفراد داخلة في مسمى الجملة فليس للفظ عليها دلالة بجهة الحقيقة ولا بجهة التجوز بل بطريق الملازمة الذهنية وليست دلالة لفظية ليلزم ما قيل. قلنا: لا خفاء بدخول الأفراد في الجملة فتكون مفهومة من اللفظ الدال على الجملة فله عليها دلالة وهي إما أن تكون بجهة الحقيقة أو التجوز لما سبق. وعن الاعتراض الأول على النصوص أنه لو كان مسمى الصلاة هو القدر المشترك من الاعتناء ومسمى السجود القدر المشترك من الخضوع والانقياد لاطرد الاسم باطرادهما وليس كذلك فإنه لا يسمى كل اعتناء بأمر صلاة ولا كل خضوع وانقياد سجوداً وإن كان المسمى باسم الصلاة اعتناء خاصاً فلا بد من تصويره وبيان الاشتراك فيه. فإن قيل: يجب اعتقاده نفياً للتجوز والاشتراك عن اللفظ فهو مبني على أن التجوز والاشتراك على خلاف الأصل وإنما يكون كذلك إن لو تعذر الجمع وهو محل النزاع. وعن اعتراض أبي هاشم أنه مبني على تحقيق الأسماء الشرعية ونقلها من موضوعاتها في اللغة وهو باطل على ما سبق من مذهب القاضي أبي بكر. وعن الاعتراض على قول سيبويه: أما الأول فلأنه إنما يلزم أن لو كان الاستدلال بقول سيبويه على أن كل لفظ مشترك أو مجاز يجب أن يكون موضوعاً لمجموع مسمياته وليس كذلك بل إنما قصد به بيان الوقوع لا غير. وأما الثاني فلأنه لا انفكاك في قوله الويل لك عن الخبر والدعاء واللفظ واحد ولا معنى لاستعماله فيهما سوى فهمهما منه عند إطلاقه. المسألة الثامنة نفي المساواة بين الشيئين كما في قوله تعالى: "لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة" "الحشر 20" يقتضي نفي الاستواء في جميع الأمور عند أصحابنا القائلين بالعموم خلافاً لأبي حنيفة فإنه قال: إذا وقع التفاوت ولو من وجه واحد فقد وفى بالعمل بدلالة اللفظ. حجة أصحابنا أنه إذا قال القائل: لا مساواة بين زيد وعمرو فالنفي داخل على مسمى المساواة فلو وجدت المساواة من وجه لما كان مسمى المساواة منتفياً وهو خلاف مقتضى اللفظ. فإن قيل الاستواء ينقسم إلى الاستواء من كل وجه وإلى الاستواء من بعض الوجوه ولهذا يصدق قول القائل: استوى زيد وعمرو عند تحقق كل واحد من الأمرين والاستواء مطلقاً أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعراً بأحد القسمين الخاصين وأيضاً فإنه لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه وإلا لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لأنه ما من شيئين إلا ولا بد من استوائهما في أمر ما ولو في نفي ما سواهما عنهما ولو صدق ذلك وجب أن يكذب عليه غير المساوي لتناقضهما عرفاً ولهذا فإن من قال: هذا مساو لهذا فمن أراد تكذيبه قال: لا يساويه والمتناقضان لا يصدقان معاً ويلزم من ذلك أن لا يصدق على شيئين أنهما غير متساويين وذلك باطل فعلم أنه لا بد في اعتبار المساواة من التساوي من كل وجه وعند ذلك فيكفي في نفي المساواة نفي الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب فثبت أن نفي المساواة لا يقتضي نفي المساواة من كل وجه وأيضاً فإنه لو كان نفي المساواة يقتضي نفي المساواة من كل وجه لما صدق نفي المساواة حقيقة على شيئين أصلاً لأنه ما من شيئين إلا وقد استويا في أمر ما كما سبق وهو على خلاف الأصل إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة دون المجاز. والجواب عن الأول أن ذكر الأعم متى لا يكون مشعراً بالأخص إذا كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي؟ الأول مسلم والثاني ممنوع ولهذا فإنه لو قال القائل: "ما رأيت حيواناً وكان قد رأى إنساناً أو غيره من أنواع الحيوان فإنه يعد كاذباً. وعن الثاني لا نسلم أنه لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة التساوي من بعض الوجوه.
قولهم: لو كفى ذلك لوجب إطلاق لفظ المتساويين على جميع الأشياء لما قرر مسلم. قولهم: يلزم من ذلك أن يكذب عليه غير المساوي وهو باطل بما قرر فهو مقابل بمثله وهو أن يقال لا يكفي في إطلاق نفي المساواة نفي المساواة من بعض الوجوه وإلا لوجب إطلاق نفي المساواة على كل شيئين لأنه ما من شيئين إلا وقد تفاوتا من وجه ضرورة تعينهما ولو صدق ذلك لوجب أن يكذب عليه المساوي لتناقضهما عرفاً ولهذا فإن من قال: هذا غير مساو لهذا فمن أراد تكذيبه قال: إنه مساو له والمتناقضان لا يصدقان معاً ويلزم من ذلك أن لا يصدق على شيئين أنهما متساويان وذلك باطل فإنه ما من شيئين إلا ولا بد من استوائهما ولو في نفي ما سواهما عنهما فعلم أنه لا بد في اعتبار نفي المساواة من نفي المساواة من كل وجه وعند ذلك فيكفي في إثبات المساواة المساواة من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي السالب جزئي موجب وفيه إبطال ما ذكر من عدم الاكتفاء في إطلاق لفظ المساواة بالمساواة من وجه وإذا تقابل الأمران سلم لنا ما ذكرناه أولاً. وعن الثالث لا نسلم صدق نفي المساواة مطلقاً على ما وقع التساوي بينهما من وجه. قولهم: الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا: إلا أن يدل الدليل على مخالفته ودليله ما ذكرناه وفي معنى نفي المساواة قوله تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً" "النساء 141". المسألة التاسعة المقتضي وهو ما أضمر ضرورة صدق المتكلم لا عموم له وذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإنه أخبر عن رفع الخطأ والنسيان ويتعذر حمله على حقيقته لإفضائه إلى الكذب في كلام الرسول ضرورة تحقق الخطأ والنسيان في حق الأمة فلا بد من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام الدنيوية أو الأخروية ضرورة صدقه في كلامه وإذا كانت أحكام الخطأ والنسيان متعددة فيمتنع إضمار الجميع إذ الإضمار على خلاف الأصل والمقصود حاصل بإضمار البعض فوجب الاكتفاء به ضرورة تقليل مخالفة الأصل. فإن قيل: ما ذكرتموه إنما يصح أن لو لم يكن لفظ الرفع دالاً على رفع جميع أحكام الخطأ والنسيان وليس كذلك وبيانه أن قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يدل على رفعهما مستلزماً لرفع أحكامهما فإذا تعذر العمل به في نفي الحقيقة تعين العمل به في نفي الأحكام سلمنا أنه لا دلالة عليها وضعاً ولكن لم قلتم بأنه لا يدل عليها بعرف الاستعمال؟ ولهذا يقال ليس للبلد سلطان وليس له ناظر ولا مدبر والمراد به نفي الصفات سلمنا أنه لا يدل عليها بعرف الاستعمال غير أن اللفظ دال على رفع الخطأ والنسيان فإذا تعذر ذلك وجب إضمار جميع الأحكام لوجهين الأول أنه يجعل وجود الخطأ والنسيان كعدمه والثاني أنه لا يخلو إما أن يقال بإضمار الكل أو البعض أو لا بإضمار شيء أصلاً والقول بعدم الإضمار خلاف الإجماع وليس إضمار البعض أولى من البعض ضرورة تساوي نسبة اللفظ إلى الكل فلم يبق سوى إضمار الجميع. والجواب: عن الأول أن اللفظ إنما يستلزم نفي الأحكام بواسطة نفي حقيقة الخطأ والنسيان فإذا لم يكن الخطأ والنسيان متيقناً فلا يكون مستلزماً لنفي الأحكام. وعن الثاني أن الأصل إنما هو العمل بالوضع الأصلي وعدم العرف الطارئ فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه وما ذكروه من الاستشهاد بالصور فلا نسلم صحة حملها على جميع الصفات وإلا لما كان السلطان موجوداً ولا عالماً ولا قادراً ونحو ذلك من الصفات وهو محال. وعن الثالث قولهم: إضمار جميع الأحكام يكون أقرب إلى المقصود من نفي الحقيقة قلنا: إلا أنه يلزم منه تكثير مخالفة الدليل المقتضي للأحكام وهو وجود الخطأ والنسيان. قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض إنما يصح أن لو قلنا بإضمار حكم معين وليس كذلك بل بإضمار حكم ما والتعيين إلى الشارع فإن قيل فيلزم من ذلك الإجمال في مراد الشارع وهو على خلاف الأصل قلنا: لو قيل بإضمار الكل لزم منه زيادة الإضمار وتكثير مخالفة الدليل كما سبق وكل واحد منهم على خلاف الأصل. ثم ما ذكرناه من الأصول إما أن تكون راجحة على ما ذكروه أو مساوية له أو مرجوحة فإن كانت راجحة لزم العمل بها.
وإن كانت مساوية فهو كاف لنا في هذا المقام في نفي زيادة الإضمار وهما تقديران وما ذكروه إنما يمكن التمسك به على تقدير كونه راجحاً ولا يخفى أن ما يتم التمسك به على تقديرين أرجح مما لا يمكن التمسك به إلا على تقدير واحد. المسألة العاشرة الفعل المتعدي إلى مفعول كقوله: والله لا آكل أو إن أكلت فأنت طالق هل يجري مجرى العموم بالنسبة إلى مفعولاته أم لا؟ اختلفوا فيه: فأثبته أصحابنا والقاضي أبو يوسف ونفاه أبو حنيفة. وتظهر فائدة الخلاف في أنه لو نوى به مأكولاً معيناً قبل عند أصحابنا حتى إنه لا يحنث بأكل غيره بناء على عموم لفظه له وقبول العام للتخصيص ببعض مدلولاته ولا يقبل عند أبي حنيفة تخصيصه به لأن التخصيص من توابع العموم ولا عموم. حجة أصحابنا أما في طرف النفي وذلك عند ما إذا قال: والله لا أكلت أن قوله: أكلت فعل يتعدى إلى المأكول ويدل عليه بوضعه وصيغته فإذا قال: لا أكلت فهو ناف لحقيقة الأكل من حيث هو أكل ويلزم من ذلك نفيه بالنسبة إلى كل مأكول وإلا لما كان نافياً لحقيقة الأكل من حيث هو أكل وهو خلاف دلالة لفظه وإذا كان لفظه دالاً على نفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول فقد ثبت عموم لفظه بالنسبة إلى كل مأكول فكان قابلاً للتخصيص. وأما في طرف الإثبات وهو ما إذا قال: إن أكلت فأنت طالق فلا يخفى أن وقوع الأكل المطلق يستدعي مأكولاً مطلقاً لكونه متعدياً إليه والمطلق ما كان شائعاً في جنس المقيدات الداخلة تحته فكان صالحاً لتفسيره وتقييده بأي منها كان ولهذا لو قال الشارع: أعتق رقبة صح تقييدها بالرقبة المؤمنة ولو لم يكن للمطلق على المقيد دلالة لما صح تفسيره به. فإن قيل: يلزم على ما ذكرتموه الزمان والمكان فإن حقيقة الأكل لا تتم نفياً ولا إثباتاً إلا بالنسبة إليهما ومع ذلك لو نوى بلفظه مكاناً معيناً أو زماناً معيناً فإنه لا يقبل. قلنا لا نسلم ذلك وإن سلمنا فالفرق حاصل وذلك لأن الفعل وهو قوله أكلت غير متعد إلى الزمان والمكان بل هو من ضرورات الفعل فلم يكن اللفظ دالاً عليه بوضعه فلذلك لم يقبل تخصيص لفظه به لأن التخصيص عبارة عن حمل اللفظ على بعض مدلولاته لا على غير مدلولاته بخلاف المأكول على ما سبق. فإن قيل: إذا قال: إن أكلت فأنت طالق فالأكل الذي هو مدلول لفظه كلي مطلق والمطلق لا إشعار له بالمخصص فلا يصح تفسيره به. قلنا: المحلوف عليه ليس هو المفهوم من الأكل الكلي الذي لا وجود له إلا في الأذهان وإلا لما حنث بالأكل الخاص إذ هو غير المحلوف عليه وهو خلاف الإجماع فلم يبق إلا أن يكون المراد به أكلاً مقيداً من جملة الأكلات المقيدة التي يمكن وقوعها في الأعيان أياً منها كان وإذا كان لفظه لا إشعار له بغير المقيد صح تفسيره به كما إذا قال: أعتق رقبة وفسره بالرقبة المؤمنة كما سبق. المسألة الحادية عشرة الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات فالواقع منه لا يقع إلا على وجه واحد منها فلا يكون عاماً لجميعها بحيث يحمل وقوعه على جميع جهاته وذلك كما روي عنه عليه السلام أنه صلى داخل الكعبة فصلاته الواقعة يحتمل أنها كانت فرضاً ويحتمل أنها كانت نفلاً ولا يتصور وقوعها فرضاً نفلاً فيمتنع الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنفل في داخل الكعبة جميعاً إذ لا عموم للفعل الواقع بالنسبة إليهما ولا يمكن تعيين أحد القسمين إلا بدليل. وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد غيبوبة الشفق فالشفق اسم مشترك بين الحمرة والبياض فصلاته يحتمل أنها وقعت بعد الحمرة ويحتمل أنها وقعت بعد البياض فلا يمكن حمل ذلك على وقوع فعل الصلاة بعدهما على رأي من لا يرى حمل اللفظ المشترك على جميع محامله وإنما يمكن ذلك على رأي من يرى ذلك كما سبق تحقيقه فإن قول الراوي صلى بعد غيبوبة الشفق ينزل منزلة قوله: صلى بعد الشفقين.
وفي هذا المعنى أيضاً قول الراوي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر فإنه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ويحتمل وقوعه في وقت الثانية وليس في نفس وقوع الفعل ما يدل على وقوعه فيهما بل في أحدهما والتعين متوقف على الدليل وأما وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم متكرراً على وجه يعم سفر النسك وغيره فليس أيضاً في نفس وقوع الفعل ما يدل عليه بل إن كان ولا بد فاستفادة ذلك إنما هي من قول الراوي كان يجمع بين الصلاتين. ولهذا فإنه إذا قيل: كان فلان يكرم الضيف يفهم منه التكرار دون القصور على المرة الواحدة. وعلى هذا أيضاً يجب أن يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجباً كان عليه أو جائزاً له لا عموم له بالإضافة إلى غيره بل هو خاص في حقه إلا أن يدل دليل من خارج على المساواة بينه وبين غيره في ذلك الفعل كما لو صلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أو غير ذلك. فإن قيل: فقد أجمعت الأمة على تعميم سجود السهو في كل سهو بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه سها في الصلاة فسجد وكذلك اتفقوا على تعميم ما نقل عن عائشة أنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة في حق كل أحد حتى إن الشافعي استدل بذلك على طهارة مني الآدمي واستدل به أبو حنيفة على جواز الاقتصار على الفرك في حق غير النبي مع حكمه بنجاسته. وكذلك إجماعهم على وجوب الغسل من التقاء الختانين بقول عائشة: فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصه وأحال معرفة ذلك على فعل نفسه فمن ذلك لما سألته أم سلمة عن الاغتسال قال: أما أنا فأفيض الماء على رأسي ومن ذلك أنه لما سئل عن قبلة الصائم قال أنا أفعل ذلك ولولا أن للفعل عموماً لما كان ذلك. قلنا: أما تعميم سجود السهو فإنه إنما كان لعموم العلة وهي السهو من حيث إنه رتب السجود على السهو بفاء التعقيب وهو دليل العلة كما يأتي ذكره لا لعموم الفعل وكذلك الحكم في قوله: زنى ماعز فرجم وفي قوله: رضخ يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه. وأما العمل بخبر عائشة في فرك المني ووجوب الغسل من التقاء الختانين وإفاضة الماء على الرأس وقبلة الصائم فكل ذلك مستند إلى القياس لا إلى عموم الفعل لتعذره كما سبق والله أعلم. المسألة الثانية عشرة قول الصحابي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وقوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار ونحوه اختلفوا في تعميمه لكل غرر وكل جار. والذي عليه معول أكثر الأصوليين أنه لا عموم له لأنه حكاية الراوي ولعله رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن فعل خاص لا عموم له فيه غرر وقضى لجار مخصوص بالشفعة فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم ويحتمل أنه سمع صيغة ظنها عامة وليست عامة ويحتمل أنه سمع صيغة عامة وإذا تعارضت الاحتمالات لم يثبت العموم والاحتجاج إنما هو بالمحكي لا بنفس الحكاية. ولقائل أن يقول: وإن كانت هذه الاحتمالات منقدحة غير أن الصحابي الراوي من أهل العدالة والمعرفة باللغة فالظاهر أنه لم ينقل صيغة العموم إلا وقد سمع صيغة لا يشك في عمومها لما هو مشتمل عليه من الداعي الديني والعقلي المانع له من إيقاع الناس في ورطة الالتباس واتباع ما لا يجوز اتباعه وبتقدير أن لا يكون قاطعاً بالعموم فلا يكون نقله للعموم إلا وقد ظهر له العموم والغالب إصابته فيما ظنه ظاهراً فكان صدقه فيما نقله غالباً على الظن ومهما ظن صدق الراوي فيما نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه. المسألة الثالثة عشرة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بحكم في واقعة خاصة وذكر علته أنه يعم من وجدت في حقه تلك العلة خلافاً للقاضي أبي بكر. وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم في حق أعرابي محرم وقصت به ناقته "لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يحشر يوم القيامة ملبياً" وكقوله صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: "زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً" وكما لو قال الشارع: حرمت المسكر لكونه حلواً عم التحريم كل حلو.
والحق في ذلك أنه إن ادعى عموم الحكم نظراً إلى الصيغة الواردة فهو باطل قطعاً كيف وإنه لو كان التنصيص على إثبات الحكم المعلل يقتضي بعمومه الحكم في كل محل وجدت فيه العلة لكان للوكيل إذا قال له الموكل اعتق عبدي سالماً لكونه أسود أن يعتق كل عبد أسود له كما لو قال اعتق عبيدي السودان وليس كذلك بالإجماع. وإن قيل بالعموم نظراً إلى الاشتراك في العلة فهو الحق ولا يلزم من التعميم في الحكم بالعلة المشتركة شرعاً مثله فيما إذا قال لوكيله اعتق عبدي سالماً لكونه أسود إذ الوكيل إنما يتصرف بأمر الموكل لا بالقياس على ما أمره به وعلى هذا فالفائدة في ذكر العلة معرفة كون الحكم معللاً إلا أن يكون اللفظ الدال على الحكم عاما لغير محل التنصيص. وما يقوله القاضي أبو بكر من أنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علل ذلك في حق الأعرابي بما علمه من موته مسلماً مخلصاً في عبادته محشوراً ملبياً وقصت به ناقته لا بمجرد إحرامه وفي قتلى أحد بعلو درجتهم في الجهاد وتحقق شهادتهم لا بمجرد الجهاد وفي تحريم المسكر لكونه حلواً مسكراً وذلك كله غير معلوم في حق الغير وإن كان ما ذكروه منقدحاً غير أنه على خلاف ما ظهر من تعليله عليه السلام بمجرد الإحرام والجهاد وترك ما ظهر من التعليل لمجرد الاحتمال ممتنع. المسألة الرابعة عشرة اختلفوا في دلالة المفهوم تفريعاً على القول به: هل لها عموم أو لا؟ وكشف الغطاء عن ذلك أن نقول: المفهوم ينقسم إلى مفهوم الموافقة وهو ما كان حكم السكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق كما يأتي تحقيقه فإن كان من قبيل مفهوم الموافقة كما في تحريم ضرب الوالدين من تنصيصه على تحريم التأفيف لهما فحكم التحريم وإن كان شاملاً للصورتين لكن مع اختلاف جهة الدلالة فثبوته في صورة النطق بالمنطوق وفي صورة السكوت بالمفهوم فلا المنطوق عام بالنسبة إلى الصورتين ولا المفهوم من غير خلاف وإنما الخلاف في عموم المفهوم بالنسبة إلى صورة السكوت ولا شك أن حاصل النزاع فيه آيل إلى اللفظ. فإن من قال بكونه عاماً بالنسبة إليهما إنما يريد به ثبوت الحكم به في جميعها لا بالدلالة اللفظية وذلك مما لا خلاف فيه بين القائلين بالمفهوم. ومن نفي العموم كالغزالي فلم يرد به أن الحكم لم يثبت به في جميع صور السكوت إذ هو خلاف الفرض وإنما أراد نفي ثبوته مستنداً إلى الدلالة اللفظية وذلك مما لا يخالف فيه القائل بعموم المفهوم. وأما مفهوم المخالفة كما في نفي الزكاة عن المعلوفة من تنصيصه صلى الله عليه وسلم على وجوب الزكاة في الغنم السائمة فلا شك أيضاً بأن اللفظ فيه غير عام بمنطوقه للصورتين ولا بمفهومه وإنما النزاع في عمومه بالنسبة إلى جميع صور السكوت وحاصل النزاع أيضاً فيه آيل إلى اللفظ كما سبق في مفهوم الموافقة. المسألة الخامسة عشرة العطف على العام هل يوجب العموم في المعطوف اختلفوا فيه فمنع أصحابنا من ذلك وأوجبه أصحاب أبي حنيفة رحمه الله. ومثاله استدلال أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالذمي بقوله صلى الله عليه وسلم "لا يقتل مسلم بكافر" وهو عام بالنسبة إلى كل كافر حربياً كان أو ذمياً. فقال أصحاب أبي حنيفة: لو كان ذلك عاماً للذمي لكان المعطوف عليه كذلك وهو قوله: ولا ذو عهد في عهده ضرورة الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم وصفته وليس كذلك فإن الكافر الذي لا يقتل به المعاهد إنما هو الكافر الحربي دون الذمي احتج أصحابنا بثلاثة أمور: الأول أن المعطوف لا يستقل بنفسه في إفادة حكمه واللفظ الدال على حكم المعطوف عليه لا دلالة له على حكم المعطوف بصريحه وإنما أضمر حكم المعطوف عليه في المعطوف ضرورة الإفادة وحذراً من التعطيل والإضمار على خلاف الأصل فيجب الاقتصار فيه على ما تندفع به الضرورة وهو التشريك في أصل الحكم دون تفصيله من صفة العموم وغيره تقليلاً لمخالفة الدليل.
الثاني: أنه قد ورد عطف الخاص على العام في قوله تعالى: "والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" "البقرة 228" فإنه عام في الرجعية والبائن وقوله: "وبعولتهن أحق بردهن" "البقرة 228" خاص وورد عطف الواجب على المندوب في قوله تعالى: "فكاتبوهم" "النور 33" فإنه للندب وقوله: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم" "النور 33" للإيجاب وورد عطف الواجب على المباح في قوله تعالى: "كلوا من ثمره إذا أثمر" "الأنعام 141" فإنه للإباحة وقوله: "وآتوا حقه" "الأنعام 141" للإيجاب ولو كان الأصل هو الاشتراك في أصل الحكم وتفصيله لكان العطف في جميع هذه المواضع على خلاف الأصل وهو ممتنع. الثالث: أن الاشتراك في أصل الحكم متيقن وفي صفته محتمل فجعل العطف أصلاً في المتيقن دون المحتمل أولى. فإن قيل ما ذكرتموه معارض بما يدل على وجوب التشريك بينهما في أصل الحكم وتفصيله وبيانه من وجهين. الأول: أن حرف العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة فالحكم على أحدهما يكون حكماً على الأخرى. الثاني: أن المعطوف إذا لم يكن مستقلاً بنفسه فلا بد من إضمار حكم المعطوف عليه فيه لتحقق الإفادة وعند ذلك لا يخلو إما أن يقال بإضمار كل ما ثبت للمعطوف عليه للمعطوف أو بعضه لا جائز أن يقال بالثاني لأن الإضمار إما لبعض معين أو غير معين: القول بالتعيين ممتنع إذ هو غير واقع من نفس العطف كيف وإنه ليس البعض أولى من البعض الآخر والقول بعدم التعيين موجب للإبهام والإجمال في الكلام وهو خلاف الأصل فلم يبق سوى القسم الأول وهو المطلوب. قلنا: جواب الأول أن العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة فيما فيه العطف أو في غيره؟ الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم إن ما زاد على أصل الحكم معتبر في العطف إذ هو محل النزاع. وجواب الثاني أن نقول بالتشريك في أصل الحكم المذكور دون صفته وهو مدلول اللفظ من غير إبهام ولا إجمال. المسألة السادسة عشرة إذا ورد خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: "يا أيها المزمل قم الليل" "المزمل 1" "يا أيها المدثر قم فأنذر" "المدثر 1" "يا أيها النبي اتق الله لئن أشركت ليحبطن عملك" لا يعم الأمة ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافاً لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما في قولهم إنه يكون خطاباً للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق. ودليلنا في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد فلا يكون متناولاً لغيره بوضعه ولهذا فإن السيد إذا أمر بعض عبيده بخطاب يخصه لا يكون أمراً للباقين وكذلك في النهي والإخبار وسائر أنواع الخطاب كيف وإنه من المحتمل أن يكون الأمر للواحد المعين مصلحة له وهو مفسدة في حق غيره وذلك كما في أمر الطبيب لبعض الناس بشرب بعض الأدوية فإنه لا يكون ذلك أمراً لغيره لاحتمال التفاوت بين الناس في الأمزجة الأحوال المقتضية لذلك الأمر ولهذا خص النبي صلى الله عليه وسلم بأحكام لم يشاركه فيها أحد من أمته من الواجبات والمندوبات والمحظورات والمباحات ومع امتناع اتحاد الخطاب وجواز الاختلاف في الحكمة والمقصود يمتنع التشريك في الحكم اللهم إلا أن يقوم دليل من خارج يدل على الاشتراك في العلة الداعية إلى ذلك الحكم فالاشتراك في الحكم يكون مستنداً إلى نفس القياس لا إلى نفس الخطاب الخاص بمحل التنصيص أو دليل آخر.
فإن قيل: نحن لا ننكر أن الخطاب الخاص بالواحد لا يكون خطاباً لغيره مطلقاً بل المدعي أن من كان مقدماً على قوم وقد عقدت له الولاية والإمارة عليهم وجعل له منصب الاقتداء به فإنه إذا قيل له: اركب لمناجزة العدو وشن الغارة عليه وعلى بلاده فإن أهل اللغة يعدون ذلك أمراً لأتباعه وأصحابه وكذلك إذا أخبر عنه بأنه قد فتح البلد الفلاني وكسر العدو فإنه يكون إخباراً عن أتباعه أيضاً والنبي صلى الله عليه وسلم ممن قد ثبت كونه قدوة للأمة ومتبعاً لهم فأمره ونهيه يكون أمراً ونهياً لأمته إلا ما دل الدليل فيه على الفرق ويدل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" "الطلاق 1" ولم يقل إذا طلقت النساء فطلقهن وذلك يدل على أن خطابه خطاب لأمته وأيضاً قوله تعالى: "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً" "الأحزاب 37" أخبره أنه إنما أباحه ذلك ليكون ذلك مباحاً للأمة ولو كانت الإباحة خاصة به لما انتفى الحرج عن الأمة وأيضاً فإنه قد ورد الخطاب بتخصيصه عليه السلام بأحكام دون أمته كقوله تعالى: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" "الأحزاب 35" إلى قوله: "خالصة لك من دون المؤمنين" "الأحزاب 35" وكقوله تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك" "الإسراء 1" ولو لم يكن الخطاب المطلق له خطاباً لأمته بل خاصاً به لما احتيج إلى بيان التخصيص به هاهنا. وما ذكرتموه من احتمال التفاوت في المصلحة والمفسدة فغير قادح مع ظهور المشاركة في الخطاب كما تقرر ولهذا جاز تكليف الكل مع هذا الاحتمال لظهور الخطاب وجاز تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع عند ظن الاشتراك في الداعي مع احتمال التفاوت بين الأصل والفرع في المصلحة والمفسدة. والجواب لا نسلم أن أمر المقدم يكون أمراً لاتباعه لغة ولهذا فإنه يصح أن يقال: أمر المقدم ولم يأمر الأتباع وأنه لو حلف أنه لم يأمر الأتباع لم يحنث بالإجماع ولو كان أمره للمقدم أمراً لاتباعه لحنث نعم غايته أنه يفهم عند أمر المقدم بالركوب وشن الغار لزوم توقف مقصود الأمر على اتباع أصحابه له فكان ذلك من باب الاستلزام لا من باب دلالة اللفظ مطابقة ولا ضمناً ولا يلزم مثله في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من العبادات أو بتحريم شيء من الأفعال أو إباحتها من حيث إنه لا يتوقف المقصود من ذلك على مشاركة الأمة له في ذلك. وقوله تعالى: "إذا طلقتم النساء" "الطلاق 1" فخطاب عام مع الكل على وجه يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأمة وتخصيص النبي في أول الآية بالنداء جرى مجرى التشريف والتكريم له كيف وإن في الآية ما يدل على أن خطاب النبي لا يكون خطاباً للأمة فإنه لو كان كذلك لما احتيج إلى قوله: "طلقتم النساء فطلقوهن" لأن قوله: "إذا طلقت النساء فطلقهن" كاف في خطاب الأمة مع اتساقه مع أول الآية. وقوله تعالى: "فلما قضى زيد منها وطراً" "الأحزاب 37" لا حجة فيه على المقصود وقوله: "لكي لا يكون على المؤمنين حرج" ليس فيه ما يدل على أن نفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم مدلول لقوله: "زوجناكها" بل غايته أن رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين وذلك حاصل بقياسهم عليه بواسطة دفع الحاجة وحصول المصلحة وعموم الخطاب غير متعين لذلك. وما ذكروه من الآيات الدالة على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكروه لا يدل على أن مطلق الخطاب له عام لأمته بل إنما كان ذلك لقطع إلحاق غيره به في تلك الأحكام بطريق القياس ولو لم يرد التخصيص لأمكن الإلحاق بطريق القياس. المسألة السابعة عشرة اختلفوا في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من أمته: هل هو خطاب للباقين أم لا؟ فنفاه أصحابنا وأثبته الحنابلة وجماعة من الناس ودليلنا ما سبق في المسألة التي قبلها. فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والإجماع والمعنى أما النص فقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا كافة للناس" "سبأ 28" وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود" وقوله: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة".
وأما الإجماع فاتفاق الصحابة على رجوعهم في أحكام الحوادث إلى ما حكم به النبي عليه السلام على آحاد الأمة فمن ذلك رجوعهم في حد الزنا إلى ما حكم به على ماعز ورجوعهم في المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق ورجوعهم في ضرب الجزية على المجوس إلى ضربه عليه السلام الجزية على مجوس هجر ولولا أن حكمه على الواحد حكم على الجماعة لما كان كذلك. وأما المعنى فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص بعض الصحابة بأحكام دون غيره فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في التضحية بعناق "تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك" وقوله لأبي بكرة لما دخل الصف راكعاً زادك الله حرصاً ولا تعد" وقوله لأعرابي زوجه بما معه من القرآن هذا لك وليس لأحد بعدك وتخصيصه لخزيمة بقبول شهادته وحده وتخصيصه لعبد الرحمن بن عوف بلبس الحرير ولولا أن الحكم بإطلاقه على الواحد حكم على الأمة لما احتاج إلى التنصيص بالتخصيص. والجواب عن الآية وعن قوله "بعثت إلى الناس كافة وإلى الأحمر والأسود" أنه وإن كان مبعوثاً إلى الناس كافة فبمعنى أنه يعرف كل واحد ما يختص به من الأحكام كأحكام المريض والصحيح والمقيم والمسافر والحر والعبد والحائض والطاهر وغير ذلك ولا يلزم من ذلك اشتراك الكل فيما أثبت للبعض منهم. وعن قوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" أنه يجب تأويله على أن المراد به أنه حكم على الجماعة من جهة المعنى والقياس لا من جهة اللفظ لثلاثة أوجه. الأول: أن الحكم هو الخطاب وقد بينا في المسألة المتقدمة أن خطاب الواحد ليس هو بعينه خطاباً للباقين. الثاني: أنه لو كان بعينه خطاباً للباقين لزم منه التخصيص بإخراج من لم يكن موافقاً لذلك الواحد في السبب الموجب للحكم عليه. الثالث: أنه لو كان خطابه المطلق للواحد خطاباً للجماعة لما احتاج إلى قوله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" أو كانت فائدته التأكيد والأصل في الدلالات اللفظية إنما هو التأسيس ثم وإن كان حكمه على الواحد حكماً على الجماعة فلا يلزم اطراده في حكمه للواحد أن يكون حكماً للجماعة فإنه فرق بين حكمه للواحد وحكمه عليه والخلاف واقع في الكل. وأما ما ذكروه من رجوع الصحابة في أحكام الوقائع إلى حكمه على الآحاد فلا يخلو إما أن يقال بذلك مع معرفتهم بالتساوي في السبب الموجب أو لا مع معرفتهم بذلك الثاني خلاف الإجماع وإن كان الأول فمستند التشريك في الحكم إنما كان الاشتراك في السبب لا في الخطاب وأما المعنى فقد سبق الجواب عنه في المسألة المتقدمة. المسألة الثامنة عشرة اتفق العلماء على أن كل واحد من المذكر والمؤنث لا يدخل في الجمع الخاص بالآخر كالرجال والنساء وعلى دخولهما في الجمع الذي لم تظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث كالناس وإنما وقع الخلاف بينهم في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير كالمسلمين والمؤمنين هل هو ظاهر في دخول الإناث فيه أو لا؟ فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته احتج النافون بالكتاب والسنة والمعقول: أما الكتاب فقوله تعالى: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات" "الأحزاب 35" عطف جمع التأنيث على جمع المسلمين والمؤمنين ولو كان داخلاً فيه لما حسن عطفه عليه لعدم فائدته. وأما السنة فما روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن: ما نرى الله ذكر إلا الرجال فأنزل الله: "إن المسلمين والمسلمات" الآية ولو كن قد دخلن في جمع التذكير لكن مذكورات وامتنعت صحة السؤال والتقرير عليه وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" "ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضؤون" فقالت عائشة: هذا للرجال فما للنساء؟ ولولا خروجهن من جمع الذكور لما صح السؤال ولا التقرير من النبي صلى الله عليه وسلم. وأما المعقول فهو أن الجمع تضعيف الواحد فقولنا: قام لا يتناول المؤنث بالإجماع فالجمع الذي هو تضعيفه كقولنا: قاموا لا يكون متناولاً له. فإن قيل: أما الآية فالعطف فيها لا يدل على عدم دخول الإناث في جمع التذكير قولكم: لا فائدة فيه ليس كذلك إذ المقصود منه إنما هو الإتيان بلفظ يخصهن تأكيداً فلا يكون عرياً عن الفائدة.
وأما سؤال أم سلمة وعائشة فلم يكن لعدم دخول النساء في جمع الذكور بل لعدم تخصيصهن بلفظ صريح فيهن كما ورد في المذكر. وأما قولكم إن الجمع تضعيف الواحد فمسلم ولكن لم قلتم بامتناع دخول المؤنث فيه مع أنه محل النزاع والذي يدل على دخول المؤنث في جمع التذكير ثلاثة أمور: الأول: أن المألوف من عادة العرب أنه إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلبوا جانب التذكير ولهذا فإنه يقال للنساء إذا تمحضن: أدخلن وإن كان معهن رجل قيل: ادخلوا قال الله تعالى لآدم وحواء وإبليس: "قلنا اهبطوا منها جميعاً" "البقرة 38" كما ألف منهم تغليب جمع من يعقل إذا كان معه من لا يعقل ومنه قوله تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه" "النور 45" بل أبلغ من ذلك أنهم إذا وصفوا ما لا يعقل بصفة من يعقل غلبوا فيه من يعقل ومنه قوله تعالى: "أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" "يوسف 4" جمعهم جمع من يعقل لوصفهم بالسجود الذي هو صفة من يعقل وكتغليبهم الكثرة على القلة حتى إنهم يصفون بالكرم والبخل جمعاً أكثرهم متصف بالكرم أو البخل وكتغليبهم في التثنية أحد الاسمين على الآخر كقولهم: الأسودان للتمر والماء والعمران لأبي بكر وعمر والقمران للشمس والقمر. الثاني: أنه يستهجن من العربي أن يقول لأهل حلة أو قرية أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لحصول الأمن للنساء بقوله أنتم آمنون ولولا دخولهن في قوله أنتم آمنون لما كان كذلك وكذلك لا يحسن منه أن يقول لجماعة فيهم رجال ونساء قوموا وقمن بل لو قال قوموا كان ذلك كافياً في الأمر للنساء بالقيام ولولا دخولهن في جمع التذكير لما كان كذلك. الثالث: أن أكثر أوامر الشرع بخطاب المذكر مع انعقاد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر ولو لم يدخلن في ذلك الخطاب لما كان كذلك. والجواب: قولهم في الآية فائدة التخصيص بلفظ يخصهن التأكيد قلنا: لو اعتقدنا عدم دخولهن في جمع التذكير كانت فائدة تخصيصهن بالذكر التأسيس ولا يخفى أن فائدة التأسيس أولى في كلام الشارع. قولهم: سؤال أم سلمة وعائشة إنما كان لعدم تخصيص النساء بلفظ يخصهن لا لعدم دخول النساء في جمع التذكير ليس كذلك أما سؤال أم سلمة فهو صريح في عدم الذكر مطلقاً لا في عدم ذكر ما يخصهن بحيث قالت: ما نرى الله ذكر إلا الرجال ولو ذكر النساء ولو بطريق الضمن لما صح هذا الإخبار على إطلاقه وأما حديث عائشة فلأنها قالت هذا للرجال ولو كان الحكم عاماً لما صح منها تخصيص ذلك بالرجال. قولهم: المألوف من عادة العرب تغليب جانب التذكير مسلم ونحن لا ننازع في أن العربي إذا أراد أن يعبر عن جمع فيهم ذكور وإناث أنه يغلب جانب التذكير ويعبر بلفظ التذكير ويكون ذلك من باب التجوز وإنما النزاع في أن جمع التذكير إذا أطلق هل يكون ظاهراً في دخول المؤنث ومستلزماً له أو لا؟ وليس فيما قيل ما يدل على ذلك وهذا كما أنه يصح التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان ولا يلزم أن يكون ظاهرا فيه مهما أطلق. فإن قيل: إذا صح دخول المؤنث في جمع المذكر فالأصل أن يكون مشعراً به حقيقة لا تجوزاً. قلنا: ولو كان جمع التذكير حقيقة للذكور والإناث مع انعقاد الإجماع على أنه حقيقة في تمحض الذكور كان اللفظ مشتركاً وهو خلاف الأصل. فإن قيل: ولو كان مجازاً لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد لدخول المسمى الحقيقي فيه وهم الذكور وهو ممتنع. قلنا: ليس كذلك فإنه لا يكون حقيقة في الذكور إلا مع الاقتصار وأما إذا كان جزءاً من المذكور لا مع الاقتصار فلا كيف وإنا لا نسلم امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز كما سبق تقريره. وأما الوجه الثاني: فإنما استهجن من العربي أن يقول: أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لأن تأمين الرجال يستلزم الأمن من جميع المخاوف المتعلقة بأنفسهم وأموالهم ونسائهم فلو لم تكن النساء آمنات لما حصل أمن الرجال مطلقاً وهو تناقض أما أن ذلك يدل على ظهور دخول النساء في الخطاب فلا وبه يظهر لزوم أمن النساء من الاقتصار على قوله للرجال: أنتم آمنون.
وأما الوجه الثالث: فغير لازم وذلك أن النساء وإن شاركن الرجال في كثير من أحكام التذكير فيفارقن للرجال في كثير من الأحكام الثابتة بخطاب التذكير كأحكام الجهاد في قوله تعالى: "وجاهدوا في الله حق جهاده" "الحج 78" وأحكام الجمعة في قوله تعالى: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" "الجمعة 9" إلى غير ذلك من الأحكام ولو كان جمع التذكير مقتضياً لدخول الإناث فيه لكان خروجهن عن هذه الأوامر على خلاف الدليل وهو ممتنع فحيث وقع الاشتراك تارة والافتراق تارة علم أن ذلك إنما هو مستند إلى دليل خارج لا إلى نفس اقتضاء اللفظ لذلك. المسألة التاسعة عشرة إذا ورد لفظ عام لم تظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث سوى لفظ الجمع مثل من في الشرط والجزاء هل يعم المذكر والمؤنث؟ اختلفوا فيه فأثبته الأكثرون ونفاه الأقلون. والمختار تفريعاً على القول بالعموم دخول المؤنث فيه ودليله أنه لو قال القائل لعبده من دخل داري فأكرمه فإن العبد يلام بإخراج الداخل من المؤنثات عن الإكرام ويلام السيد بلوم العبد بإكرامهن وكذلك الحكم في النذر والوصية والأصل في كل ما فهم من اللفظ أن يكون حقيقة فيه لا مجازاً. فإن قيل: التعميم فيما ذكرتموه إنما فهم من قرينة الحال وهي ما جرت به العادة من مقابلة الداخل إلى دار الإنسان والحلول في منزله بالإكرام فكان ذلك من باب المجاز لا أنه من مقتضيات اللفظ حقيقة. قلنا: هذا باطل بما لو قال: من دخل داري فأهنه فإنه يفهم منه العموم وإن كان على خلاف القرينة المذكورة وكذا لو قال له: من قال لك ألف فقل له ب فإنه لا قرينة أصلاً والعموم مفهوم منه فدل على كونه حقيقة فيه.