إحكام ابن حزم - الجزء الخامس2

من معرفة المصادر

حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسن بن فهر أنا الحسن بن علي بن شعبان وأبو حفص عمر بن محمد بن عراك نا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي نا علي بن عبد العزيز نا الزبير بن بكار قال سمعت سفيان بن عيينة يقول سألت مالك بن أنس عن رجل أحرم من المدينة أو من وراء الميقات فقال مالك هذا رجل مخالف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى { لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ثم ذكر حديث المواقيت حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد نا أحمد بن خالد نا يحيى بن عمر نا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب قال قال لي مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين وسيد المرسلين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء قال أبو محمد فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب في الدين برأي أو قياس أو استحسان أو احتياط أو تقليد إلا بالوحي وحده وبالله تعالى التوفيق حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا أحمد بن عيسى غندر نا خلف القاسم نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر نا يزيد بن عبد ربه قال سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي يا أبا زكريا احذر الرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم حدثنا القاضي حمام بن أحمد نا عبد الله بن علي الباجي اللخمي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا عبيد بن محمد الكشوري ثنا محمد بن يوسف الحذافي ثنا عبد الرزاق قال قال لي حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه قال أبو محمد فهذا أبو حنيفة يقول إنه لا يفقه من لم يترك القياس في مواضع الحاجة إلى تصريف الفقه وهو مجلس القضاء فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه وقد ذكرنا أيضا قول مالك آنفا في إبطال القياس فإن وجد لهذين الرجلين بعد هذا القول

منهما قياس فهو اختلاف من قولهما وواجب عرض القولين على القرآن والسنة فلأيهما شهد النص أخذ به والنص شاهد لقول من أبطل القياس على ما قدمنا لا سيما وهذان الرجلان لم يعرفا قط القياس الذي ينصره أصحاب القياس ومن استخراج العلل ولكن قياسهما كان بمعنى الرأي الذي لم يقطعا على صحته وكذا صدر الطحاوي في اختلاف العلماء بأن أبا حنيفة قال علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه أخذناه أو نحو هذا القول والمتحققون بالقياس لا يقرون بهذا ولا يرضوه ولا يقولون به وهكذا جميع أهل عصرها وبالله تعالى التوفيق ولا معنى لفشو القول بالقياس وغلبته على أكثر الناس فهذا برهان بطلانه وفساده وقد أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلبة الباطل وظهوره وخفاء الحق ودثوره كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عياد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري عن يزيد يعني بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء وقال مسلم ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهيل الأعرج قال ثنا شبابة بن سوار ثنا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأزر بين المسجدين تأرز الحية إلى حجرها حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ووهب بن مسرة حدثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص عن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال نزاع القبائل قال أبو محمد وأما الإجماع فقد بيناه على ترك القياس من وجوه كثيرة وهي إجماع الأمة كلها على وجوب الأخذ بالقرآن وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أجمعت الأمة كلها على وجوبه أو تحريمه من الشرائع وأجمعت على أنه ليس لأحد أن يحدث شريعة من

غير نص أو إجماع وأجمعت على تصديق قول الله تعالى { وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون } وعلى قوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } وهذا إجماع على ترك القياس وأن لا حجة لأحد إليه حتى نقص من نقص بالغفلة المركبة في البشرية في التفصيل والخطأ لم يعصم منه أحد بعد النبيين صلى الله عليهم وسلم فإنما يوجد القياس ممن وجد منه على سبيل الخطأ والغفلة عن الواجب عليه هي زلات علماء كمن قال بالتقليد وما أشبه ذلك وأيضا فقد قلنا وبينا أنه لم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس يعني باسمه وباليقين فإنه يتكلم قط أحد منهم بلا شك ولا من التابعين بلا شك باستخراج علة يكون القياس عليها ولا بأن القياس لا يصح إلا على جامعة بين الحكمين فهذا أمر مجمع عليه ولا شك فيه البتة إلا عند من أراد أن يطمس عين الشمس وهذا أمر إنما ظهر في القرن الرابع فقط مع ظهور التقليد وإنما ظهر القياس في التابعين على سبيل الرأي والاحتياط والظن لا على إيجاب حكم به ولا أنه حق مقطوع به ولا كانوا يبيحون كتابه عنهم وأيضا فقد وجدنا مسائل كثيرة جدا اتفقوا هم فيها ونحن وجميع المسلمين على خلاف جميع وجوه القياس وعلى ترك القياس كله فيها ومسائل كثيرة جاء النص بخلاف القياس كله فيها ولم نجد قط مسألة جاء النص بالأمر بالقياس فيها ولا مسألة اتفق الناس على الحكم فيها قياسا فلو كان القياس حقا لما جاز الإجماع على تركه في شيء من المسائل ولا جاء النص بخلافه البتة فالإجماع لا يجوز على ترك الحق ولا يأتي النص بخلاف الحق وهذا إجماع صحيح على ترك القياس وسنبين طرفا من المسائل التي ذكرنا ولعل قياس الورع يعارض هذا القول بأن يقول قد جاء الإجماع على ترك بعض النصوص فليعلم الناس أن من قال ذلك كاذب آفك وما جاء قط نص صحيح بخلاف نص

صحيح السند متصل وهو الحق عندنا لا ما عداه وما جاء قط نص صحيح بخلاف الإجماع فإن قال سوفسطائي فقد جاء نص بخلاف نص قلنا نعم ينسخ له وهو نص على كل حال ولم نذكر لكم قياسا خلاف قياسا وإنما قلنا بأنه قد وجد إجماع على ترك جميع وجوه القياس وورود نص مخالف لجميع وجوه القياس وهكذا هي جميع الشرائع ككون الظهر أربعا والصبح ركعتين والمغرب ثلاثا وكصوم رمضان دون شعبان وكالحدث من أسفل فيغسل له الأنواع وكأنواع الزكاة وسائر الشرائع كلها وليس أحد من القائلين بالقياس إلا وقد تركه في أكثر مسائله وسنبين من هذا إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب طرفا يدل على المراد وأما من براهين العقول فإنه يقال لهم أخبرونا أو شيء هو القياس الذي تحكمون به في دين الله تعالى فإن قالوا لا ندري أو تلجلجوا فلم يأتوا فيه بحد حاصر أقروا بأنهم قائلون بما لا يدرون ومن قال بما لا يدري فهو قائل بالباطل وعاص لله عز وجل إذ يقول { قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون } مع الرضا لنفسه بهذه الصفة الخسيسة التي لا تكون إلا في النوكي وإن قالوا حكم جامع بين شيئين بعلة يستخرجه أو قالوا بكثرة التشابه كانوا قائلين بما لا دليل على صحته وبما لم يقل به قط صاحب ولا تابع وإن قالوا بما يقع في النفس كانوا شارعين بالظن وفي هذا ما فيه وقد أقروا كلهم بلا خلاف منهم أنه جائز أن توجد الشريعة كلها أولها عن آخرها نصا وأقروا كلهم بلا خلاف من أحد منهم أنه لا يجوز أن توجد الشريعة كلها قياسا البتة ومن البراهين الضرورية عند كل ذي حس وعقل أن ما لزم الكل لزم البعض فالشرائع كلها لا يمكن البتة ولا يجوز أن توجد قياسا من أحد فبعضها لا يجوز أن يوجد قياسا وليس هذا قياسا ولكنه برهان ضروري كقول القائل إن كان الناس كلهم أحياء ناطقين فكل واحد منهم حي ناطق ولا يموه مموه فيقول بعض الناس أعور وليس كلهم أعور فليس هذا مما ألزمناهم في صفة لكن كل الناس ممكن أن يوجدوا عورا وليس ذلك بممتنع في البقية

وأما أخذ الشرائع كلها قياسا فممتنع في البتة إذ لا بد عندهم من نص يقاس عليه ولا هذا أيضا من قول القائل لا يجوز أن يكذب الناس كلهم وجائز أن يكذب بعضهم بل كل أحد على حدته فالكذب عليه ممكن وليس كل شريعة على حدتها جائز أن توجد قياسا وهذا بيان يوضح كل ما أرادوا أن يموهوا به في هذا المكان وبرهان آخر وهو أنه يقال لأصحاب القياس إذا قلتم لما حرم الله تعالى القطع في أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم حرم أن يكون الصداق أقل من ثلاثة دراهم ولما وجبت الكفارة على الوطء عمدا في نهار رمضان وجبت على الأكل عمدا في نهار رمضان ولما حرم حلق الشعر في الرأس بغير ضرورة في الإحرام حرم حلق العانة في الإحرام كما حرم مد بر بمدي بر نقدا حرم مد شعير بمد سلت نقدا وقال آخرون منكم لا ولكن حرم رطل حديد برطل حديد نقدا وقال آخرون لا ولكن حرم أصل كرنب بأصل كرنب نقدا ولما أبيح اتخاذ كلب الصيد والغنم بعد تحريمه أبيح ثمنه بعد تحريمه ولما أبيح الثلث في الوصية للموصي أبيح بيع الثمر قبل صلاحه إذا كان أقل من ثلث كرام الدار وسائر ما أوجبتموه قياسا وحرمتموه قياسا وأبحتموه من هذا الموجب لهذا كله ومن هو المحرم لهذا كله إذ لا بد لكل فعل من فاعل ولكل تحريم من محرم ولكل إيجاب من موجب ولكل إباحة من مبيح فإن قالوا الله تعالى ورسوله أباحا ذلك وحرماه وأوجباه كذبوا على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجاهروا بالفرية عليهما وهم لا يقدمون على أن ينسبوا ما حكموا فيه بقياسهم إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه إن أقدم منهم قليل الدين على أكذبه سائرهم لأنه إنما سألناهم عن مسائل يخالف فيها بعضهم بعضا ووقع حينئذ بأسهم بينهم وكفونا مؤنتهم فلم يبق بالضرورة إلا أن يحيلوا في التحريم والإيجاب والإباحة على أنفسهم أو على أحد دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا كما تراه بلا مؤنة ولا تكلف تأويل إقرار بإحداث دين وشريعة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أذن بها الله تعالى فإن سألونا عن مثل هذا فيما أوجبناه أو حرمناه أو أبحناه بخبر الواحد العدل المسند فلسنا نقنع بأن نقول لهم إن هذا السؤال لازم لكم كلزومه لنا لأننا لا نتكثر بهم ولا نبالي وافقونا في ذلك أو خالفونا لكن نقول وبالله تعالى التوفيق

إن الله تعالى حرم وأوجب وأباح كل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك في ذلك كما نقول فيما أمر الله تعالى به من قبول شهادة العدول في الأحكام وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أيضا أخبرونا أكل قياس قاسه قائس من أصحاب القياس حق وصواب أم من القياس خطأ وصواب ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا كل قياس في الأرض فهو صواب تركوا مذهبهم وأوجبوا المحال وكون الشيء حراما حلالا فرضا مباحا على إنسان واحد في وقت واحد وإن قالوا من القياس خطأ ومنه صواب قلنا لهم بأي شيء تعرفون الحق من الباطل في القياس فإن تلجلجوا وقالوا لا نأتي بذلك إلا في كل مسألة قلنا هذا لو إذ عما لزمكم مما لا سبيل لكم إلى وجوده كمن قاس أن يقبل امرأتان حيث تجوز عنده شهادة النساء مفردات على قبول رجلين حيث يقبل الرجال وكمن قاس وجود أربع في ذلك على تعويش امرأتين بدل رجل حيث يقبل النساء مع الرجل وقلما تخلو لهم مسألة من مثل هذا فإذا بطل وجود برهان يصحح الصحيح من القياس ويبطل الباطل منه فقد صح أن ما لا سبيل إلى الفرق بين باطله وبين ما يدعي قوم أنه منه حق فهو باطل كله فإن قالوا لنا فكل الأخبار عندكم حق أو فيها باطل وحق قلنا بل كل ما اتصل برواية الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم حق لا يحل تركه إلا بيقين نسخ أو بيقين تخصيص ولا نسخ في القياس أصلا فصل في وضوح الطريقة على فساد القياس قال أبو محمد ونحن نرتب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به طريقة لا يتعدى بها على أحد من أهل الحق إفساد كل قياس يعارض به أحد من أصحاب القياس أو يحتج منهم وذلك أنه إذا احتج محتج ممن يقول بالقياس بأن هذه المسألة تشبه مسألة كذا فواجب أن نحكم لها بمثل حكمها فليطلب من يعارضه من أصحابنا صفة في المسألة التي شبهها خصمه بالمسألة الأخرى مما يشبه فيه مسألة ثالثة ثم يلزمه أن يحكم لها أيضا بمثل ذلك الحكم وهذا أمر موجود في جميع مسائلهم

أولها عن آخرها وهذا وجه يفسد مسائلهم في القياس وسنذكر من هذا طرفا كافيا في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ونذكر ههنا مسألة واحدة تدل على المراد إن شاء الله تعالى وبالله تعالى التوفيق قالوا لا يكون صداق إلا ما تقطع فيه اليد لأنه عضو يستباح كعضو يستباح فيقال لهم وهلا قسمتموه على استباحة الظهر في جرعة خمر لا تساوي فلسا فهو أيضا عضو يستباح فما الذي جعل قياس الفرج على اليد أولى من قياسه على الظهر وهو إلى الظهر أقرب منه إلى اليد وليس يقطع الفرج كما لا يقطع الظهر وأما تعليلهم في الربا فكل طائفة منهم قد كفتنا الأخرى إذ كل واحد منهم يبطل علة صاحبه التي قاس عليها وهكذا في كل ما قاسوا فيه وبالله تعالى التوفيق وقال بعضهم إنما نقيس في النصين المتعارضين فننظر أشبههما بما اتفق عليه في النصوص فنأخذ به قال أبو محمد وهذا أمر قد تقدم إفسادنا له في باب الكلام في الأخبار وأحكمناه وبالله تعالى التوفيق ولكننا نذكر ههنا من بعض قولهم ما لا غنى بهذا المكان عنه وهو أنا نقول هذا عمل فاسد ولا مدخل للقياس ههنا لأن كل حديثين تعارضا أو آيتين تعارضتا أو كل حديث عارض آية فليس أحد هذين النصين أولى بالطاعة من الآخر ولا الذي يردون إليه حكم هذين النصين أولى بالطاعة له من كل واحد من هذين وكل من عند الله تعالى ولا يقوي النص إجماع الناس عليه ولا يضعفه اختلاف الناس فيه فقد أجمع على بعض الأخبار واختلف في آيات كثيرة والنص إذا صح فالأخذ به واجب ولا يضره من خالفه فسقط ما أرادوا في ذلك من رد النصين المتعارضين إلى نص ثالث ووجب استعمال كل ذلك ما دام يمكن فإن لم يمكن أخذ بالزائد لأنه شرح متيقن رافع لما قبله ولم نتيقن أنه رفعه غيره مع أنهم لم يفعلوا ما ذكروا بل جاء لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وجاء لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده فلم يردوهما إلى الآية المتفق على ورودها من الله تعالى وهي { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } بل غلبوا لا قطع إلا في ربع دينار وهو نص مختلف في الأخذ

به على الآية وعلى الحديث الآخر ثم تناقضوا في حديث لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان فتركوه وأخذوا بظاهر الآية وهذا خلاف ما فعلوا في آية القطع وكلا الحديثين صحيح وكلاهما مختلف فيه مع صحته فإن عللوا أحدهما بأنه اختلف فيه الرواة فالآخر كذلك ولا فرق وأما حديث الحنفيين فيما تقطع فيه اليد فساقط جدا وقد قال بعضهم إذا سألناهم عن معارضة قياسهم بقياس آخر وتعليلهم بتعليل آخر فما الذي جعل أحد القياسين أولى من الآخر أو أحد التعليلين أولى من الآخر ولا سبيل إلى وجود قياس لهم أو تعليل لهم تتعذر معارضتهما بقياس آخر أو تعليل آخر كما وصفنا فقال هذا القائل العمل حينئذ في هذا كالعمل في الحديثين المتعارضين قال أبو محمد فقلنا هذا باطل لأن النصين أو الحديثين المتعارضين لا بد من جمعهما واستعمالهما معا لأن كليهما حق وواجب الطاعة إذا صحا من طريق السند ولا يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه فإن تعذر هذا في الحديثين أو الآيتين أو الآية والحديث فالواجب الأخذ بالناسخ أو بالزائد إن لم يأت تاريخ يبين الناسخ منهما لأن الوارد بالزيادة شريعة من الله تعالى لا يحل تركها وليس يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه لأنه ليس فيهما نسخ أصلا ولا يوجد في القياسين زيادة من أحدهما على الآخر في أكثر الأمر لأن التعارض فيهما إنما هو يتعلق أحد القياسين بصفة ويتعلق آخر إلا بأخرى فبطل تمويه هذا القائل وبقي الإلزام يحسبه لا مخلص منه البتة وبالله تعالى التوفيق وقد زاد بعض مقدميهم ممن لم يتق الله عز وجل ولا أبالي الفضيحة في كلامه فقال إن القياس أقوى من خبر الواحد ورأيت هذا لأبي الفرج المالكي والمعروف بالأبهري واحتجا في ذلك بأن الخبر الواحد يدخله السهو وتعمد الكذب وأما القياس فلا يدخله إلا خوف الخطأ في التشبيه فقط قالا فما يدخله عيب واحد أولى مما يدخله عيبان قال أبو محمد وما يعلم في البدع أشنع من هذا القول ثم هو مع شناعته بارد سخيف متناقض ويقال لهذا الجاهل المقدم أخبرنا عنك أتقيس على خبر الواحد أم لا فإن قال

لا كذب وأفصح وأريناهم خزيهم في قياسهم صداق النكاح على القطع في عشرة دراهم وهو خبر واهي ساقط والآخرون منهم قاسوا على خبر في ذلك وإن كان صحيح السند فهو خبر واحد وأريناهم قولهم في تقويم الملتفات بالقيمة لا بالمثل على الخبر في عتق الشقص ومدة الخيار في البيع على حديث المصراة والاستطهار في المستحاضة على حديث المصراة وهذا أكثر قياساتهم وإن قال أقيس على خبر الواحد فضح نفسه وأبان عن جهله وقلة ورعه في إقراره بأنه يقيس على ما هو أضعف من القياس وفي هذا غاية الجنون والتناقض وهم يقولون إن الأصل أقوى من الفرع والمقيس عندهم فرع والمقيس عليه أصل هذا ما لا يختلفون فيه فإذا كان خبر الواحد هو المقيس عليه عندهم فهو الأصل والقياس هو الفرع فعلى قول هذين المذكورين إذا كان القياس أقوى من خبر الواحد فالفرع أقوى من الأصل وقد قالوا إن الأصل أقوى من الفرع وهذا تناقض فاحش وبناء وهدم ونعوذ بالله من الخذلان وأيضا فإنهم يتركون في أكثر أقوالهم ظاهر القرآن بخبر الواحد ثم يتركون خبر الواحد للقياس فقد حصل من كلامهم وعملهم أنهم غلبوا القياس على الحديث وغلبوا الحديث على القرآن فقد صار القياس على هذا أقوى من القرآن ولا قياس البتة إلا على قرآن أو حديث وهذا كله تخليط وسخنة عين وغباوة جهل وإقدام واستحلال لما لا يحل ولا يخفى على ذي بصر وبالله تعالى التوفيق وأيضا فهم كثيرا ما يقولون فيما يرد عليهم من أقوال موقوفة على بعض الصحابة مما يوافق ما قلدوا فيه مالكا وأبا حنيفة مثل هذا لا يقال بالقياس فيغلبونه على ما يوجبه القياس عندهم كقولهم فيمن باع شيئا إلى أجل ثم ابتاعه بأقل إلى أقل من ذلك الأجل وفي البناء في الصلاة على الرعاف والحدث وفي مواضع كثيرة جمة وهذا ترك منهم للقياس وتغليب للظن أنه خبر واحد على القياس لأنهم لا يقطعون على أن هذه الأقوال توقيف وإنما يظنون ذلك ظنا فقد صار الظن أنه خبر واحد عندهم أقوى من القياس الذي هو عندهم أقوى من يقين أنه خبر واحد فقد صار الظن أقوى من اليقين وفي هذا عجب عجيب ونعوذ بالله من الخذلان وأما الحقيقة فإن الظن باطل بنص حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أكذب الحديث وبنص

قول الله تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } فالظن بنص القرآن ليس حقا فإذ ليس حقا فهو باطل فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من القياس فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل وبالله تعالى التوفيق وجملة القول أن قولهم إن خبر الواحد يدخله السهو والغلط والكذب إنما هو من اعتراضات من لا يقول بخبر الواحد من المعتزلة والخوارج وقد مضى الكلام في إيجاب خبر الواحد العدل وقد وجب قبوله بالبرهان فاعترض المعترض بأنه قد يدخله السهو وتعمد الكذب اعتراض بالظن وبعض الظن إثم والظن أكذب الحديث وقولهم إن القياس يدخله خوف خطأ التشبيه إقرار منهم بأنهم لا يثقون بجملته وهذا هو الحكم بالظن وهو محرم بنص القرآن ويسألون عن إنسان مشهور بالباطل معروف بادعائه قد كثر ذلك منه وفشا فتقدم إلى قاضي يخاصم عنده فإن الأمة كلها مجمعة عن ألا يقاس أمره الآن على ما عهد منه فإذا خرم أن يقاس حكم المرء اليوم على حكمه بنفس أمس فهو أبعد من أن تقاس على غيره وهذا هدم من القياس للقياس وتفاسد منه بعضه لبعض وما كان هكذا فهو فاسد كله وبالله تعالى التوفيق وقال قائل منهم هل يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس قال أبو محمد فالجواب إن كان جائزا قبل نزول قول الله تعالى { قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } وقوله تعالى { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وكان يكون ذلك لو كان حمل إصر كما حمله على الذين من قبلنا وتحميلا لما لا طاقة لنا به وكما قال تعالى { في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم } وأما بعد نزول الآيتين اللتين ذكرنا وبعد أن أمننا الله تعالى من أن يكلفنا الحكم بالتكهن وبالظنون وبعد أن نهانا عن أن نقول عليه تعالى ما لم نعلم فلا يجوز البتة أن يتعبدنا بالقياس لأن وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة وقوله الحق وبالله تعالى التوفيق

فصل في ذكر طرق يسير من تناقض أصحاب القياس في القياس يدل على فساد مذهبهم في ذلك إن شاء الله تعالى قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه أكثرهم لم يقس الماء الوارد على النجاسة على الماء الذي ترد عليه النجاسة وفرقوا بينهما بغير دليل وبعضهم لم يقس وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيما ولغ فيه ولم يقيسوا الماء في ذلك على غير الماء وأكثرهم فرق بين الماء الذي تقع فيه النجاسة وبين المائعات التي تقع فيها النجاسات فيجدوا مقدارا إذا بلغه الماء لم ينجس ولم يجدوا في سائر المائعات شيئا البتة وإن كثرا وبعضهم قاس سائر المائعات في ذلك على الماء في حد المقدار وهو أبو ثور وبعضهم فرق بين حكم الماء في البئر وبين الماء في غير البئر ولم يقس أحدهما على الآخر اتباعا زعم لقول بعض العلماء في ذلك وهو قد عصى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من الفقهاء في المصراة والمسح على العمامة وفي أزيد من ألف قضية نعم وحكم القرآن وفرق أيضا بين أحكام الجيف الواقعة في التيار وبين أحكامها وأحكام سائر النجاسات ولم يقس بعضها على بعض وبعضهم قاس الخنزير على الكلب في حكم الغسل مما ولغ فيه كلاهما في الواحد أو السبع وبعضهم لم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس الماء بحكم الوالغ فيه مما يحرم أكله أو يحل أو يكره وبعضهم لم يقس ذلك وبعضهم قاسم ما لا دم له من الميتات على ماله دم فرأى كل ذلك ينجس ما مات فيه وبعضهم لم ير ذلك وبعضهم قاس العقارب والخنافس والدود المتولد في القول على الذباب ولم يقسها على الوزغ وشحمة الأرض والعظماء وصغار الفيران وبعضهم قاس عذر ما يؤكل لحمه من الدواب وأبوالها على لحومها ولم يقسها على دمائها ولم يقسها على لحومها

وبعضهم قاس ذنب الكلب ورجله على لسانه وبعضهم لم يقس ذلك وأكثرهم قاس إباحة المسح على الجبائر على المسح على الخفين ولم يقيسوا إباحة مسح العمامة على الرأس وعلى المسح على الخفين وبعضهم قاس ذلك وكلهم فيما نعلم لم يقس نزع الخفين بعد المسح على حلق الشعر وقطع الأظفار بعد المسح والغسل وبعضهم لم يقس إباحة الصلاة الفريضة بتيمم النافلة على إباحة الصلاة النافلة بتيمم الفريضة وبعضهم قاس ذلك وتناقض الأولون فقاسوا جواز صلاة المتوضئين خلف المتيمم على جواز صلاة المتيممين خلف المتوضىء على أن الخلاف في تسوية كلا الأمرين مشهور ومن طرائف قياس بعضهم إيجابه أن تستطهر الحائض بثلاث قياسا على انتظار ثمود صيحة العذاب ثلاثا على المصراة أفلا يراجع بصيرته من يقيس هذا القياس السخيف فيمنع به خمس عشرة صلاة فريضة ويوجب به إفطار ثلاثة أيام من رمضان من أن يقيس مسح العمامة على مسح الخفين وبعضهم قاس بول ما يأكل لحمه بعضه على بعض وبعضهم قاس البول المذكور على ما يتولد منه فإن تولد من ماء نجس فهو نجس وإن تولد من ماء طاهر فهو طاهر وكذلك فعل بنحوه ولم يقس اللحم المتولد فيه على ما تولد منه بل رأى ذلك حلالا أكله وإن تولد من ميتة ولحم خنزير وعذرة وبعضهم لم يقس نبيذ التين على نبيذ التمر في جواز الوضوء به عند عدم الماء في السفر وبعضهم قاس الحظر عليه في الإباحة وهو الحسن بن حي وقد روى أيضا قياس نبيذ التين على نبيذ التمر عن أبي حنيفة ومنع أكثرهم من الكلام في الأذان قياسا على الصلاة ولم يقيسوه عليها إذ أجازوه بلا وضوء وأجاز بعضهم تنكيس الوضوء ولم يجز تنكيس الأذان ولا تنكيس الطواف ولم يقس أحدهما على الآخرين وقاس ذلك كله بعضهم في المنع في الكل أو في الإباحة في الكل وفرق بعضهم بين صلاة الفريضة والنافلة فأجاز أن يؤم النافلة من يجوز أن يؤم في الفريضة ثم لم يجز أن تؤم المرأة النساء في شيء منهما وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وبعضهم لم يقس جواز صلاة النفل خلف من يصلي الفرض على جواز صلاة من يصلي

الفرض خلف المتنفل وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وكلهم فيما أعلم لم يقس المنع من إتمام المسافر خلف المقيم على المنع من قصر المقيم على المسافر وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس إتمام أهل مكة بمنى على إتمام أهل منى بمكة وهذا عجيب ما شئت ولم يقيسوا جواز الحج على العبد إذا حضره على جواز الجمعة عنه إذا حضرها وبعضهم لم يقس جواز صلاة الفرض خلف الفاسق من الأمراء على جواز صلاة الجمعة خلفه وبعضهم قاس كل ذلك وجعله سواء وبعضهم لم يقس حكم ابتداء التكبير للقائم من الركعتين على حكم ابتداء التكبير في الركوع والسجود والرفع من السجود وبعضهم ساوى بين ذلك كله وقاس بعضه على بعض وبعضهم لم يقس إيجاب البناء على المحدث على إيجاب البناء على الراعف وبعضهم ساوى بينهما وبعضهم لم يقس وجوب البناء قبل تمام السجدتين على وجوب البناء بعد تمام السجدتين وبعضهم قاس كلا الأمرين على السواء وبعضهم لم يقس وقوع الجبهة والرجلين على نجاسة الصلاة على وقوع اليدين والركبتين على نجاسة في الصلاة وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وهؤلاء الذين قاسوا بعض ذلك على بعض تناقضوا فلم يقيسوا جواز وقوع الرجلين والركبتين على غير الأرض أو ما تنبت على جواز وقوع الجبهة واليدين على ذلك وفرقوا بين الأمرين وبعضهم لم يقس الثبات على يقين الحدث لمن شك في الوضوء على الثبات على يقين الوضوء لمن شك في الحدث وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس كثير السهو على قليله فرأى من قليله السجود فقط ومن كثيره الإعادة ومنهم من رأى من السلام ساهيا السجود فقط ورأى من الكلام ساهيا الإعادة ورأى بعضهم على من تكلم في صلاته ساهيا أنها قد بطلت فإن أحدث بغلبة لم تبطل صلاته فإن أكل ساهيا وهو صائم لم يبطل صيامه وقلب غيره منهم الأمر فرأى إن تكلم ساهيا في صلاته لم تبطل فإن أحدث بغلبة بطلت وإن أكل ناسيا وهو صائم بطل صومه وفرقوا بين من نسي صلاة يوم وليل وبين من نسي أكثر ولم يقيسوا أحدهما

على الآخر وبعضهم قاس كل ذلك على السواء وقاس بعضهم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة على الجمع بين المعز والضأن في الزكاة ولم يقسه على التفريق بين التمر والزبيب في الزكاة وبعضهم قاسه على التفريق المذكور لا على الجمع وأعجب من ذلك أن من ذكرنا رأى إخراج ذهب عن فضة وفضة عن ذهب ولم ير إخراج عنز عن ضانية ولا ضانية عن عنز ولا برا عن شعير ولا شعيرا عن بر ولم يقس بعض ذلك على بعض أو بعضهم أجاز كل ذلك بالقيمة قياسا وفرق بعضهم بين غلة ما ابتيع للتجارة وبين الربح المتولد في ذلك فرأى في الغلة الاستئناف ورأى في الربح ضمه إلى أصل الحول في رأس المال ولم يقس أحدهما على الآخر وقاس غيره منهم بعض ذلك ببعض في الاستئناف أو في الضم وأوجبوا ديون الناس من رأس المال ولم يوجبوا ديون الله تعالى إلا من الثلث ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وساوى بعضهم بين الأمرين ولم يقس بعضهم الحلي وإن كان لكراء أو لباس على العوامل المعلوفة من الإبل والبقر والغنم فبعضهم أوجب الزكاة في الحلي وأسقطها عن العوامل وبعضهم أوجب الزكاة في العوامل وأسقطها عن الحلي وبعضهم قاس أحدهما على الآخر في إسقاط الزكاة عن كل ذلك والعجب أن الذي أسقط الزكاة عن الحلي الكراء لم يقس عليه الحلي المبتاع للتجارة ورأى فيه الزكاة وبعضهم فرق بين عبيد العبيد فلم يرهم كسادتهم ولا كسادات ساداتهم في وجوب زكاة الفطر المأخوذة ورأى على عبيد أهل الذمة أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من ساداتهم إذا اتجروا إلى غير أفقهم وبعضهم رأى الزكاة في زيت الفجلة ولم يرها في الترمس ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم الزكاة في جب الآس ولم يرها في البلوط ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم لم يقس الدين على الرهن في الكفن فرأى الكفن فيه أولى من الدين ولم يره أولى من الرهن إذا كان رهنا وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس المدبر على المحتكر وبعضهم قاسه عليه وبعضهم لم يقس الخليطين في الثمار والزرع والعين على الخليطين في المواشي وبعضهم ساوى بين كل ذلك قياسا

وفرق بعضهم بين من أعطى آخر مالا ليأكل ربحه والأصل لصاحب المال وأعطاه غنما ليأكل نسلها ورسلها والأصل لصاحب المال فرأى في الغنم الزكاة ولم ير في ربحه زكاة وهو مال تجارة لا على التاجر ولا على الذي له أصل ولم يقس أحدهما بالآخر وقاس غيره أحدهما على الآخر ولم يقس بعضهم فائدة العين على فائدة الماشية فرأى في فائدة الماشية الزكاة إذا كان عنده نصاب منها ولم ير في فائدة العين الزكاة وإن كان عنده نصاب منه وقاس غيره منهم بعض على بعض في إيجاب الزكاة في الكل وفي إسقاطها عن الكل ولم يقس بعضهم فائدة الكسب على فائدة الولادة في إيجاب الزكاة في كل ذلك وقاس كل ذلك بعضهم فرأى في الكل الزكاة ولم يقس بعضهم فائدة المعدل على سائر الفوائد وقاسه بعضهم عليها وقال بعضهم لا يجزىء في زكاة الغنم إلا الجذع من الضأن فصاعدا والثني فصاعدا من الماعز قياسا على ما يجيز منها الأضحية وأجازوا في البقر والإبل الجذع ودون الجذع ولم يقيسوا ذلك على ما يجوز منهما في الأضحية ولا قاسوا حكم الغنم في ذلك على الإبل والبقر ولا حكم الإبل والبقر على حكم الغنم وقال بعضهم من بادل ذهبا بفضة زكى الآخر بحول الأول ولم يقس ذلك على ما بادل بقرا بإبل وقاسه على ما بادل غنما بماعز وقال بعضهم تؤخذ الزكاة من الزيتون قياسا على التمر والعنب ولم يقسه عليها في الخرص في الزكاة وقال بعضهم يخرج الأرز والذرة في زكاة الفطر قياسا على الشعير والبر ولم يجز أن يخرج فيها الزيتون قياسا على التمر والزبيب ولم يجز أن يخرج فيها الدقيق قياسا على البر وقد قاسه على البر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلا وأجاز بيعه بالبر متماثلا وأسقط بعضهم زكاة التجارة على الماشية المشتراة للتجارة لزكاة الأصل ولم يقس على ذلك سقوط زكاة التجارة عن الدقيق المشترى للتجارة من أجل زكاة الفطر فيهم وأوجب بعضهم الزكاة في العسل وفي الحبوب وفي الثمار إذا كانت في أرض غير خراجية وأسقط الزكاة عن كل ذلك في الأرض الخراجية ولم يسقط الزكاة عن الماشية وإن رعت في أرض خراجية فلم يقس رعي النحل على رعي الماشية ولا رعي الماشية على رعي النحل

وسقط بعضهم الزكاة في العين والماشية عن الصغير والمجنون قياسا على سقوط الصلاة عنهما ولم يسقط الزكاة عن ثمارهما وزرعهما قياسا على سقوط الصلاة عنهما وقال آخرون منهم في هذا إن حق الزكاة ثابت مع الزرع والثمر قال أبو محمد وهذا كذب لأن قائل هذا لا يرى فيما دون خمسة أوسق صدقة فلم ير الزكاة ثابتة مع هذه الثمرة ولم يقيسوا وجوب الزكاة في ذلك عليهما على وجوب زكاة الفطر عليهما وقياس زكاة على زكاة أولى من قياس زكاة على صلاة ولا قاسوا وجوب الزكاة وهي حق المال على وجوب سائر الحقوق في الأموال على الصغار والمجانين من النفقات والأروش وقياس مال على مال أولى من قياس زكاة على صلاة ولم يقس سقوط الصلاة عن الفقراء على سقوط الزكاة عنهم وفرق بعضهم بين حكم من رأى هلال شوال وحده وبين حكم من رأى هلال رمضان وحده ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس كل واحد منهما على الآخر ولم يقس بعضهم حكم الحائض تطهر والكافر يسلم والمسافر يقدم في نهار رمضان على حكم من بلغه بعد الفجر إن هلال رمضان رئي البارحة فأوجبوا على هذا ألا يأكل باقي النهار ولم يوجبوا ذلك على الآخرين ثم قاسوا بعضهم على بعض في وجوب القضاء عليهم حاشا الكافر يسلم فلم يقيسوه عليهم في وجوب القضاء وقاسه بعضهم عليهم فأوجبوا عليه القضاء وأطرف من هذا قياس بعضهم من غلبته ذبابة فدخلت حلقه على الأكل عمدا في إيجاب القضاء فقط عليه ولم يقس على ذلك من أخرج بلسانه من بين أسنانه الجريدة ولعلها من مقدار الذبابة فيبلغها عمدا في نهار رمضان فقالوا صومه تام ولا قضاء عليه وقاس بعضهم المجنون على الحائض في إيجاب قضاء رمضان عليهما ولم يقيسوه عليها في وجوب الحدود عليها وقاس بعضهم من لمس عمدا فأمنى على المجامع عمدا في القضاء والكفارة ولم يقس من استعط عمدا فوجد طعم ذلك في حلقه على الأكل عمدا لم يوجب فيه كفارة وقاس بعضهم المغمى عليه في رمضان على المريض في إيجاب القضاء عليه ولم يقسه عليه في إيجاب قضاء ما ترك من الصلوات عليه وقاسه بعضهم في إيجاب الصلوات

وأوجب بعضهم على من أكره امرأته على الجماع في نهار رمضان أن يكفر عنها فيصوم عنها ولم يقس على ذلك إيجاب الصوم على من مات وعليه صوم وقاس بعضهم الأكل عمدا في نهار رمضان على الواطىء عمدا في نهار رمضان وأوجب عليهما الكفارة ولم يقيسوه على المتقيىء عمدا في نهار رمضان في إسقاط الكفارة عنه وقياس الأكل على القيء أولى من قياسه على الوطء وقاسه بعضهم على المتقيء فيما ذكرنا وفرقوا بين الواطىء والآكل بأن قالوا الوطء يوجب أحكام لا يوجبها الأكل فالوطء يوجب الغسل والحد والصداق ولا يوجب شيئا من ذلك الأكل ولا الشرب والأكل يوجب الغرامة ولا يوجبها الوطء والأكل من مال الصديق مباح ولا يجوز وطء ملكه فقاسوا ترك الكفارة في الأكل على هذه الفروق وقال بعضهم إنما القياس على التشابه لا على عدم التشابه قال أبو محمد وكل هذا تحكم كما ترى ولا دليل ولم يقس بعضهم من أفطر عمدا في قضاء رمضان وهو فرض في وجوب الكفارة عليه على إفطاره عمدا في رمضان وكلاهما فرض وقد أوجب ذلك عليهما بعض السلف وأوجب الكفارة على المظاهر من زوجته وعلى المرأة الموطوءة في رمضان طائعة وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فلم يوجب عليها شيئا ولم يقيسوا المرأة المظاهرة من زوجها في إيجاب الكفارة عليها على المظاهر ولا على المرأة الموطوءة وقد أوجب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها جمهور من السلف ومن بعدهم وقاسوا الأكل عمدا في رمضان في إيجاب الكفارة عليه على الواطىء في رمضان عمدا ولم يقيسوا على ذلك مفسد صلاته عمدا والصلاة أعظم حرمة من الصوم ومن طرائف بعضهم إيجابه قياس من أفطر ناسيا في رمضان على من أفطر عمدا في إيجاب القضاء عليهما ولم يقسه عليه في إيجاب الكفارة عليهما نعم ولم يقس الأكل ناسيا على المتقيىء ناسيا أو مغلوبا فأسقط على هذا ولم يسقطه عن الآخر وفرق بعضهم بين أحكام النيات ولم يقس بعضها على بعض فأجاز بعضهم الطهارات بلا نية ولم يجز الصلاة إلا بالنية وبعضهم لم يجز الطهارات إلا بنية وأجاز الصوم في

الواجبات بلا نية محدثة لكل يوم منه وبعضهم أوجب النية في كل ذلك ولم يوجبها في أعمال الحج وأما تناقضهم في أعمال الحج فأكثر من أن يجمع في سفر وذلك فيما أوجبوا فيه الفدية وما أسقطوها فيه ولم يقيسوا بعض ذلك على بعض وأيضا فإن بعضهم قال من طرح القراد عن نفسه لم يطعم فإن طرحه عن بعيره أطعم ولم يقس أحدهما على الآخر ولم يقس بعضهم إباحة قتل الفأرة وإن لم تؤذه على نهيه عن قتل الغراب والحدأة إن لم تؤذياه ورأى بعضهم الجزاء على قاتل السنور ولم يره على قاتل الفهد ولم يقس أحدهما على الآخر ورأى قتل الفهد قياسا على قتل السبع ولم ير قتل الصقر البري قياسا على الغراب والحدأة بل رأى في الصقر البري الجزاء ولم يقس بعضهم استظلال المحرم في المحمل على استظلاله في الخباء في الأرض ورأى على المستظل في المحمل الفدية وكذلك في السفينة ولم يقس على ذلك من مشى في ظل المحمل فلم ير عليه الفدية ولم يقس بعضهم على دهن باطن يديه وباطن قدميه بسمن أو زيت فلم ير عليه فدية على من دهن بذلك ظاهرهما فرأى عليه الفدية ولم يقس بعضهم تحريمه ما ذبح المحرم من الصيد على ما ذبحه السارق أو الغاصب فأباحه وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأباح الكل ولم يقس بعضم من دل من الحرمين حلالا على صيد أو أعطاه سيفا يقتله به فلم يوجب عليه الفدية على محرم آكل من صيد صيد من أجله فأوجب عليه الجزاء وقاس بعضهم عليه فأوجب الجزاء في كل ذلك ولم يقس بعضهم حكمه بأن جناية العبد في رقبته على قوله أن أقتله الصيد ليس في رقبته وقاس بعضهم بيض الصيد على جنين المرأة ولم يقسه بعضهم عليه ولم يقس بعضهم تحريمه على المحرم ذبح صيد صاده حلال على إباحته ذبح الصيد في الحرام إذا دخل من الحل

وقاس بعضهم قاتل الأسد على قاتل الذئب فلم ير فيه جزاء ولم يقس قاتل النسر والعقاب على قاتل الحدأة والغراب فرأى أن في النسر والعقاب الجزاء ولم يقس بعضهم قاتل الأسد والخنزير على قاتل الذئب فرأى في الأسد والخنزير الجزاء وقاس بعضهم إن أصاب القارن صيدا فجزاء واحد ولم يقسه على القارن يفسد حجه فرأى عليه هديين وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأوجب في كل ذلك هديين وبعض أوجب في كل ذلك هديا واحدا وأظرف من هذا أن بعضهم قال على العبد الفار إذا دخل مكة أن يحرم وليس ذلك على الأعجمي المسلم ولا على الجارية المصونة للبيع وله مثل ذلك في الفرق بين الشريعة والدنية في النكاح بغير الولي وهذا أشنع مما أنكروه من ترك القياس لأن هذا فرق بين الناس فأين هذا مما استعملوه من التسوية بين الزاني والقتل في جلد مائة وتغريب عام وبين الصداق والقطع في السرقة وبين المستحاضة والمصراة وهل في التخليط أكثر من هذا وفرقوا أو أكثرهم بين صوم المرء عن غيره وحجه عنه فلم يروا ذلك ولم يقيسوه على الصدقة عنه واحتجوا في ذلك ب { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وهذا إن منعت من الصيام منعت من الصدقة ولا فرق ثم لم يقيسوا وصيته بالحج على وصيته بالصوم ولم يقس بعضهم من وقف بعرفة قبل غروب الشمس ثم دفع منها ولم يعد إليها تلك الليلة فقالوا بطل حجه على من يقف بمزدلفة حتى طلعت الشمس من يوم النحر ولم يقس بعضهم من لم يدفع عن عرفة مع الإمام في إباحة الجمع له بمزدلفة على من لم يدرك الصلاة بعرفة مع الإمام في إباحتهم له الجمع بين الصلاتين بعرفة وقاس بعضهم قصر أهل منى بعرفة وأهل عرفة بمنى على قصر أهل مكة بمنى وعرفة ولم يقيسوا على ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم كل ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم الهدي على الأضحية فيما يجزي منها ولم يقسه عليها في الذبح والنحر قبل الإمام فأي ذلك يجزىء قبل الإمام في الهدي ولا يجزئه في الأضحية وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في الإباحة

ولم يقس بعضهم الأعمى في وجوب الحج عليه على المقعد في سقوط الحج عنه وقاسه بعضهم عليه وقال بعضهم سكان ذي الحليفة وهم على نحو مائتي ميل وخمسين ميلا من مكة على سكان يلملم وهو على نحو ثلاثين ميلا من مكة إنها لا هدي عليهما إن تمتعا ولم يقسم على ما بينهم وبين مكة كالذي بينهم وبينها ولم يقس أهل يلملم على أهل ذي الحليفة في قصر الصلاة والإفطار في الصوم وساوى غيرهم منهم بين كل ذلك في إيجاب الهدي عليهم كلهم التمتع ولم يسو بينهم في قصر الصلاة ولم يقس بعضهم لابس المخيط في الإحرام يوما من غير ضرورة على لابسه أقل من يوم لغير ضرورة ولم يقس بعضهم قوله في تحريم قتل المحرم للسبع الذي لا يؤذيه وإيجاب الجزاء في ذلك على قوله في إباحة قتله للذئب ومن لم يؤذه ولم يجعل في ذلك جزاء وهم مع ذلك قليلا منهم يقيسون قاتل الصيد خطأ على قاتله عمدا وعلى قاتل حيوان وغيره خطأ فأوجبوا الجزاء في ذلك ولم يقيسوا إلا قليلا منهم قاتل النفس عمدا على قاتلها خطأ فلم يروا في قاتلها عمدا كفارة وقاس بعضهم سقوط الجزاء على قاتل السبع العادي عليه على سقوط الضمان عنه في البعير العادي فيقتله ولم يقس بعضهم ذلك فرأى الضمان على قاتل البعير العادي عليه ولم ير الجزاء على قاتل السبع العادي عليه وقد قاسوا بعض ذلك على بعض في إيجاب الجزاء في قتل الخطأ ولم يقس بعضهم الحلال بقتل الصيد في الحرام في حكم الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الحل فرأى الصيام على المحرم ولم يجزه للحلال إلا بالمثل والإطعام فقط وساوى الأمرين ولم يقيسوا قاتل الصيد في حرم المدينة في إيجاب الجزاء عليه على قاتله في حرم مكة وقد أوجب ذلك بعض السلف والخلف ولم يقس بعضهم من اشترى أحد أربعة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا فلم يجز هذا العقد على إجازته إذا اشترى أحد ثلاثة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا وسوى بعضهم بين كل ذلك من المنع أو الجواز ولم يقس بعضهم قوله في تحريم بيع لبن النساء محلوبا في قدح على إباحته بيع سائر الألبان محلوبة في قدح

ولم يقس بعضهم تحريم البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في الذهب بعينه بالذهب بغير عينه وفي الفضة بالفضة كذلك على إباحة تمام البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في البر بالبر كذلك والشعير بالشعير كذلك والتمر بالتمر كذلك والملح بالملح كذلك فأبطل البيع في الذهب بالذهب والفضة بالفضة على كل حال وأجازه في هذه الأربعة إذا قبض الذي بغير عينه ولم يقبض الذي بعينه وقاس بعضهم كل ذلك في المنع من جوازه ولم يقس بعضهم قوله في المنع من جواز بيع شحم البطن باللحم متفاضلا على إباحته جواز بيع شحم الظهر باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك ولم يقس بعضهم قوله إن الألية يجوز أن تباع باللحم متفاضلا على منعه من بيع سائر الأعضاء باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك وقاس بعضهم جواز بيع الرطب بالتمر على جواز بيع التمر الحديث بالتمر القديم وقاس بعضهم جواز بيع الدقيق بالبر متماثلا على المنع من انتباذ الرطب والتمر وقال هما صنفان وقاس بعضهم منعه من بيع الدقيق بالبر البتة على النهي عن بيع الرطب بالتمر وقال هما صنف واحد مجهول تماثله ولم يقس بعضهم رجوع من أعتق مملوكا اشتراه ثم اطلع على عيب بأرش العيب على منعه من ابتاع طعاما فأكله ثم اطلع على عيب كان به من الرجوع بأرش العيب ولم يقس بعضهم من باع مال غيره بغير إذن على من اشترى له شيئا بغير إذنه وساوى بعضهم بين كلا الأمرين ولم يقس بعضهم بيع من طرأ عليه الخرس على بيع من ولد أخرس فأجازه ههنا وأبطله هنالك ولم يقس بعضهم بيع السكران على طلاقة فأجاز طلاقه وأبطل بيعه وقاسه بعضهم فأبطل كل ذلك وقد أجاز كل ذلك بعضهم ولم يقس بعضهم جواز السلم في الشحم على جوازه في اللحم وقاس ذلك بعضهم فأجاز كل ذلك

ولم يقس بعضهم جواز السلم في السمك المالح على قوله في المنع من السلم في السمك الطري وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض في المنع من الكل أو جواز الكل ولم يقس بعضهم على جواز سلم الذهب والفضة في سائر الموزونات جواز سلم الموزونات بعضها على بعض وقاس ذلك بعضهم فأجازه فيما عدا ما يؤكل ولم يقس بعضهم جواز السلم في قوله بتأخير النقد لرأس المال اليوم واليومين بشرط وبغير شرط على منعه من ذلك في الأيام الكثيرة بشرط وبغير شرط وقاس غيره بعض ذلك على بعض في المنع من الكل ولم يقس بعضهم جواز السلم في القمح والفاكهة والكناش واللبن على أن يأخذ منه كل يوم مقدارا معلوما واشترطا تأخير نقد الثمن إلى الأجل البعيد على سائر قوله في المنع من تأخير النقد في السلم ومن منعه الدين بالدين ولم يقس بعضهم قوله في إباحة دقيق البر بالبر متماثلا والمنع منه متفاضلا على قوله إن من سلم في قمح موصوف فحل الأجل فجائز عنده أن يأخذ مكان القمح شعيرا أو سلتا مثل كيل قمحه ولا يأخذ دقيق قمح ولا علسا مثل مكيلة قمحه وكل ذلك عنده صنف واحد ولم يقس بيع البر بالشعير والتمر والملح جزافا على بيع الذهب والفضة جزافا وأطرف من ذلك أنه لم يقس جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المسكوك منهما جزافا ولم يقس بعضهم من سلم في طعام إلى أجل مسمى فأتاه به الذي هو عليه قبل الأجل فقال لا يجيز على قبوله قبل أجله على قوله فيمن أقرض آخر طعاما إلى أجل فأتاه به قبل الأجل قال يجيز على قبضه وقاس غيره منهم أحدهما على الآخر أن يجيز على القبض قبل الأجل ولم يقس بعضهم تعين الدنانير والدراهم في المغصوب والبيوع على تعين سائر العروض وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في تعيين كل ذلك ولم يقس بعضهم قوله فيمن ابتاع طعاما فعاب عليه فأباح الإقامة فيه من جميعه ولم يبح من بعضه على قوله فيه إذا لم يعب عليه فأجاز الإقالة من كله ومن بعضه ولم يقس بعضهم قوله في بطلان الصرف التفرق قبل تمام القبض من قوله في جواز

الإقالة مع التفرق قبل القبض التفرق اليسير ولا قاس إباحة ذلك في الإقالة بالتفرق اليسير على التفرق الكثير ولم يقس بعضهم منعه من التفاضل في الدقيق بالبر على إباحة التفاضل في السويق بالبر وكلاهما بر مطحون لم يسق الدقيق السويق ولا السويق الدقيق وأطرف من هذا أنه لم يقس جواز بيع البلح الصغار بالتمر عنده متفاضلا على المنع البلح الكبار بالتمر ولم يقس بعضهم ما يبس من الزفيرف وعيون البقر والخوخ والكمثرى في حكم جواز بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا على منعه من بيع الزبيب والبر والتين والبلوط بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا ثم قاس الأصناف الأول على الأصناف الأخر في المنع من بيع كل ذلك قبل أن يقبض وقاس غيره منهم كل ذلك بعضه ببعض حتى السقمونيا والهليلج وقاس بعضهم المأكول على المأكول في الربا ولم يقس المعادن بالمعادن في الربا فأباحوا رطل حديد برطلي حديد والحديد بالنحاس والذهب والفضة والرصاص والقصدير والزئبق معدنيات كلها ولم يقس بعضهم قوله إن القطنية كلها جنس واحد في الزكاة على أنها أصناف متفرقة في البيوع ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع الزبد باللبن أو الجبن باللبن أو السمن باللبن جملة ولا الزيت بالزيتون جملة على قوله في جواز بيع البر بالدقيق من البر متماثلا ولا على قوله في جواز بيع السويق في البر بالبر متفاضلا ولم يقس بعضهم قوله إن سمن البقر وسمن الغنم صنف وقولهم إن لحم الخروف من الضأن ولحم الحمار الوحشي صنف واحد وكذلك لحم الأرنب على قوله إن زيت الزيتون وزيت الجلجلان وزيت الفجل أصناف متفرقة يجوز بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد ولا يجوز ذلك في نبيذ التمر بنبيذ الزبيب ولا يجوز ذلك في لحم الجمل بلحم الأرنب ولا في لحم حمار الوحش بلحم الخروف ولا فرق بين تعليله بأن كل ذلك ذو أربع وبين تعليل غيره أن كل ذلك من الطير ومن غيره لحم ومن تعليل غيره بالتأنس في الطير وذي الأربع والتوحش أيضا فيهما لأن الله تعالى جزى الصيد بالأنعام ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع العنب بالعصير البتة على قوله في إجازة بيع العنب بخل العنب متفاضلا وقد يخرج الخل من العنب دون توسط كونه عصيرا

ولم يقس بعضهم قوله لا يباع اللبن بالسمن أصلا لأنهما صنف واحد مجهول نماثله ولا الشاة اللبون باللبن أصلا على إجازته مع الشاة اللبون بالسمن ولا اللبن بالقمح إلى أجل على إجازته الشاة اللبون بالقمح إلى أجل ولم يقيسوا قولهم في المنع من بيع القمح بالقمح بالتحري دون كيل ولا وزن على جواز ذلك عندهم في اللحم باللحم من صنفه نعم ولم يجيزوا الذهب بالفضة بالتحري وأجازوه في القمح بالتمر بالتحري ولم يقس بعضهم جواز القمح بالقمح عنده وزنا على منعه من سحالة الذهب بالذهب كيلا وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس منعه من اللحم المشوي باللحم النيء جملة على قول في إباحة اللحم المطبوخ باللحم النيء متماثلا ومتفاضلا وكلاهما يدخله ملح وصنعة وأغرب حكم من ذكرنا بأن اللحم والشحم صنف واحد وأن لحم النعامة والكركي ولحم الزرزور صنف واحد وأن لحم النعامة المطبوخ ولحمها النيء صنفان يجوز فيهما التفاضل ولم يقس بعضهم جواز دجاجة بدجاجتين على قوله في لحم دجاجة بلحم دجاجتين ولم يقس بعضهم منعه من ابتياع شاة واستثناء جلدها في الحضر على قوله في إباحة ذلك في السفر وأغرب من هذا أن بعضهم لم يقس قوله في إباحة ابتياع شاة واستثناء أرطال خفيفة منها أو استثناء رأسها على قوله في التحريم أن يستثني يدها أو رجلها أو فخذها ولم يقس بعضهم منه من ابتياع لحم هذه الشاة الحية على إباحته ابتياعها واستثناء البائع جلده والعجب أن هذا الذي منع هو الذي أباح بعينه ليس هو شيئا آخر لأنه في كلتا المسألتين إنما اشترى مسلوخها فقط ولا مزيد ولم يقس بعضهم قوله في جواز بيع صغار الحيتان جزافا على منعه من بيع كباره جزافا وقد يكون تكلف عد الكبار لكثرتها أصعب من عد الصغار لقلتها ولم يقس بعضهم قوله في المنع من ابتياع رطل لحم من هذه الشاة وإن شرع في ذبحها على قوله في إباحه ابتياع رطل من لبنها إذا شرع في حلبه ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع لبن هذه الشاة شهرا على إباحة بيع لبنها كيلا وعلى إباحة بيع لبن هذه الغنم شهرا

ولم يقس بعضهم قوله في منع اقتسام الزرع والقمح بالتحري على قوله في إجازة قسمة اللحم بالتحري ولم يقس بعضهم بيع بطن بعد بطن جملة شجر تحمل بطنين في السنة على قوله في إجازة بيع المقاثي بطنا بعد بطن والفصيل كذلك وقاس بعضهم جواز السلم في المعدود والمزروع وغير ذلك على جواز السلم في المكيل والموزون ولم يقيسوا جواز السلم حالا على جوازه إلى أجل وقاس بعضهم كل ذلك بالجواز ولم يقس بعضهم جواز إنكاح اليتيمة بنت عشر سنين للفاقة على منعه في إباحة الفروج للضرورة وقاس بعضهم فاعل فعل قوم لوط على الزاني ولم يقس واطىء البهيمة على الزاني وكلاهما واطىء في مكان محرم ولم يقيسوا الغاصب على السارق ولا على المحارب وكلاهما أخذ مالا بغير حق والغاصب بالمحارب مستويان في الإخافة وأخذ المال ولا سيما بعضهم يقول بقياس الشارب على القاذف فقد بان تناقضهم فإن قالوا إن الصحابة قاسوا الشارب على القاذف فقد تقدم تكذيب هذه الدعوى لا سيما وقد كفانا بعضهم المؤنة في هذا فنسوا أنفسهم وقالوا الحدود لا تؤخذ قياسا وقد علمنا أن كل ما جاز للصحابة فهو جائز لمن بعدهم وما حدث دين جديد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأين الائتساء بالصحابة رضوان الله عليهم حتى يتركوا النصوص لقول بعضهم إذا وافق تقليدهم فيلزمهم أن يوجبوا حدا على شارب الدم وأكل الميتة ولحم الخنزير وقد قاس بعض الفقهاء هؤلاء على شارب الخمر فرأى على كل واحد منهما ثمانين جلدة وهو الأوزاعي مع أن قياس شرب الدم على شرب الخمر لو جاز القياس أولى من قياس شرب الخمر على قذف محصنة ووجدنا بعضهم قد قاس من سرق أو شرب أو زنى ثم تاب واعترض على المحارب في سقوط الحد عنه حدثنا يحيى بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن دحيم حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا

إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا محمد بن بكر هو البرساني عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا سرق اللص ثم جاء تائبا فلا قطع عليه وبعضهم لم يقس هؤلاء على المحارب وقاسهم على القاتل والقاتل أبعد شبها من الحدود الواجبة من المحارب وقد قاس بعضهم القاتل إذا عفي عنه على الزاني غير المحصن ولم يقس المرتد إذا راجع الإسلام ولا المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه أو إذا عفا الإمام عن قتله أو اقتصر على ما دون ذلك وكل هذا تناقض وقد ساوى الله تعالى بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فهلا قاسوا وأوجبوا على لاعب القمار والميسر وعلى المستقسم بالأزلام حدا كحد الخمر ثانيا وبعضهم لم يقس قوله في جواز بيع جزء مشاع على قوله في المنع من جواز رهنه وهبته والصداق به وأكثرهم قاس البيع حين النداء للجمعة على النكاح حينئذ والإجازة في جواز ذلك أو في إبطال كل ذلك وقد قاس بعضهم دخول حمل الجارية من غير سيدها وابن الشاة وحمل الشجر في الرهن على كون الحوامل لكل ذلك في الرهن ولم يقس سقوط ما قابل الحوامل إذا تلفت من الشيء المرتهن فيه على قوله إنه لا يسقط من الحق شيء يتلف الولد والحمل واللبن وبعضهم لم يقس قوله في بيع القاضي دنانير الغرم في ديونه التي هي دراهم أو دراهمه في ديونه التي هي دنانير على قوله في المنع من بيع ما هذا ما عدا ذلك في ديونه وبعضهم لم يقس قوله في المنع من بيع مال الحي على قوله في إباحة بيع مال الميت في ديونهما وبعضهم لم يقس قوله في جواز النكاح بشهادة حرين فاسقين على قوله في إبطال النكاح بشهادة عبدين عدلين وأكثرهم لم يقس الكافر الوثني يسلم فيعرض على امرأته الإسلام فتأبى فيفسخ النكاح عنده على قوله في امرأة الكافر تسلم فيستأني عنده بفسخ نكاحه ما لم تنقض عدتها ولم يسلم هو وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس قوله في كل كافر تزوج كافرة على خمر بعينها أو خنزير بعينه ثم أسلما

فلا شيء لها غير ذلك على قوله إن أصدقها خمرا بغير عينها أو خنزيرا بغير عينه ثم أسلما فقال لها في الخمر قيمتها ولها في الخنزير مهر مثلها وبعضهم لم يقس الحر يتزوج المرأة على خدمته لها شهرا فقال لها مهر مثلها على العبد يتزوجها على ذلك وقال ليس لها إلا خدمته لها ولم يقس بعضهم إيجابه الطلاق على الذمي على قوله في إسقاط العدة عن الذمية يطلقها الذمي ولم يقس بعضهم قوله إن أجل العبد في العنة ستة أشهر وأجله في الإيلاء شهران وأجل الأمة في المفقود سنتان وطلاق العبد تطليقتان وعدة الأمة حيضتان على قوله إن للعبد أن يتزوج أربعا وعلى قوله إن صيامه في الظهار شهران وفي الوطء في نهار رمضان كذلك وفي قتل الخطأ كذلك وشهادة العبد والأمة أربع شهادات في اللعان كالحر والحرة وعدة المستحاضة الأمة سنة كالحرة وقاس كل ذلك بعضهم فجعل حكم العبد كل ذلك على نصف حكم الحر وقال آخرون منهم أجل العبد في الإيلاء أربعة أشهر ولا يتزوج إلا امرأتين فأبو حنيفة يقول عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الأمة على زوجها الحر أو العبد بتطليقتين إلا بعد زوج ولا يتزوج العبد إلا امرأتين فقط وأجل العبد يولي من زوجته الأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل الحر في إيلائه من الأمة نصف أجل إيلائه من الحرة قال أبو حنيفة صيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر في ظهاره من الزوجة الحرة والأمة ولا تحرم الحرة على زوجها العبد إلا بثلاث طلقات وأجل العبد على زوجته الحرة أو الأمة كأجل الحر في ذلك وأجل العبد يولي من الزوجة الحرة كأجل الحر وقال مالك عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وتحرم الزوجة الحرة والأمة على العبد بتطليقتين وأجل العبد يولي من زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل العبد يعن عن زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر وقال مالك يتزوج العبد أربعا من الحرائر والإماء وصيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر وعدة الأمة في الطلاق بالشهور ثلاثة أشهر كالحرة وقال الشافعي عدة الأمة حيضتان وفي الوفاة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الحرة والأمة على العبد بتطليقتين ولا يتزوج العبد إلا اثنتين وأجل العبد

يعن أيولي من الحرة أو الأمة كأجل الحر في كل ذلك وصيامه في الظهار كصيام الحر فاعجبوا لتناقض قياساتهم وهكذا في سائر الأحكام ولا فرق فاتفقوا في صوم الظهار على ألا يقيسوه على سائر أحكام العبد و لا إجماع في ذلك لأن قتادة وغيره يقول هو على نصف صيام الحر ولم يتفقوا على نصف حكم العبد من حكم الحر إلا في عدة الوفاة وعدة الحيض وطلاق العبد والأمة ولا إجماع في ذلك لأن ابن سيرين يرى عدة الأمة كعدة الحرة في الوفاة وفي الإقراء وصح عن ابن عباس أنه أمر عبده بمراجعة زوجته وهي أمة بعد طلقتين ولم يقس بعضهم قوله من نظر إلى فرج امرأة طلقها طلاقا رجعيا في العدة بشهوة فهي رجعة على قوله فإن نظر إلى شيء من بدنها غير الفرج بشهوة فليست رجعة ولا على قوله إنه إن لمسها في بدنها بشهوة فهي رجعة ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته لست لي بامرأة ونوى الطلاق ولم يره طلاقا على قوله لها قومي ونوى الطلاق فهو طلاق ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري فقالت أنا أختار نفسي قال فهي بذلك طالق على قوله لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي أو قالت قد اخترت نفسي فلم ير ذلك كله طلاقا ولا على قوله لو قال لها لا ملك لي عليك قال هو طلاق ولا قاس بعضهم قوله لمن قال لامرأته أنت طالق مثل الجبل فجعلها واحدة رجعية على قوله إن قال لها أنت طالق مثل عظيم الجبل فجعلها واحدة بائنة ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالأولى أو قالت بالوسطى أو قالت بالآخرة فهي طلقة واحدة على قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالواحدة أو قالت واحدة قال فهي طالق ثلاثا وقاس بعضهم قوله في التخيير على قوله في التمليك ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها أنت علي حرام مثل الخنزير والميتة والدم فقال هي ثلاث ولا بد على قوله ذلك في غير المدخول بها وقال بعد ذلك لم أنو إلا واحدة فإنه يحلف وتكون واحدة ويراجعها إن أحبا ولم يقس ذلك كله على

قوله قال لمدخول بها أو لغير مدخول بها أنت بتة أو أنت البتة فقال هي ثلاث على حال فيهما معا ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها وغير المدخول بها قد خليت سبيلك إنه ينوي ويحلف على ما نوى على قوله لمن قال لامرأته حبلك على غاربك إنها في المدخول بها ثلاث ولا بد وفي غير المدخول بها ينوي وتكون واحدة ولا قاس أكثرهم في قوله في التحريم في الزوجة على قوله في التحريم في الأمة وقد سوى بعضهم بين كل ذلك ولا قاس بعضهم قوله فيمن شك أطلق زوجته أم لم يطلق وهي تقول له لم تطلق أنه تطلق عليه ولا بد على قوله فيمن قال لامرأته إن كتمتني أمرا كذا فأنت طالق أو قال لها إن أبغضتني فأنت طالق فأخبرته بخبر لا يدري أكتمه ما خاف عليه أم لا وقالت له لست أبغضك وهو لا يدري أصدقت أم كذبت أنه طلاق عليه ولا قاس بعضهم قوله في إباحة جميع كفارات الإيمان قبل الحنث على قوله إن كفارة يمين الإيلاء لا تكون إلا بعد الحنث ولا قاس بعضهم جواز تسري العبد عبده على منعه من التفكير بالعتق فيما لا يجزي فيه إلا العتق لواجد الرقبة وهو واجد رقابا يطؤهن ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته كل امرأة أتزوجها عليك فهي كظهر أمي قال ليتزوج عليها واحدة أو اثنتين معا أو ثلاثا معا وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة على قوله لها ومتى تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك كظهر أمي فرأى عليه لكل امرأة يتزوجها كفارة ولم يقس بعضهم سقوط اللعان على الأعمى والمحدودة لسقوط شهادتها على قوله إن اللعان لا يسقط عن الفاسق المعلن لسقوط شهادته ولم يقس بعضهم قوله من أعسر النفقة أجل شهرين أو نحوهما وإلا فرق بينهما على قوله فإن أعسر بالصداق أجل عامين أو نحوهما ثم فرق بينهما ولم يقس بعضهم عدة المستحاضة من الطلاق سنة ميزت الدم أم لم تميز كانت لها أيام معهودة أو لم تكن على قوله عدتها من الوفاة أربعة أشهر وعشر ولم يقس بعضهم قوله من قتل أمة أو عبدا قيمة كل واحد منهما مائة ألف درهم لم يغرم

في العبد إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم وفي الأمة خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم فإن كانت القيمة أقل من عشرة آلاف في العبد وخمسة آلاف في الأمة غرم القيمة كلها على قوله إن غصب عبدا أو أمة فماتا عنده غرم قيمتهما ولو بلغت ألف درهم ولم يقس هذا الهذيان على سائر أقواله إن أحكام العبد على نصف أحكام الحر في النكاح والطلاق وغير ذلك ولم يقس قوله إنه يقص بين الحر والعبد والكافر والمؤمن في النفس على قوله إن ما دون النفس يقص فيه بين المؤمن والكافر ولا يقص فيه بين العبد والحر ولم يقس بعضهم قوله يقتل عشرة بواحد على قوله لا تقطع يدان بيد ولا عينان بعين ولم يقس بعضهم قوله لا يستقاد من أحد بحجارة ولا بطعنة رمح على قوله يقتل الزاني المحصن بالحجارة والمحارب بالطعن بالرمح ولم يقس بعضهم إباحته قتل المرأة في الزنى وفي القود على قوله في منع قتلها إذا ارتدت قال أبو محمد فيما ذكرنا كفاية على أننا لم نكتب من تناقضهم في القياس وتركهم في القياس وتركهم له إلا جزءا يسيرا جدا من أجزاء عظيمة جدا ولو تقصينا ذلك لقام منه ديوان أعظم من جميع ديواننا هذا كله وكل ما ذكرنا فإنهم إن احتجوا فيه بإجماع على تركه لم ينفكوا من أحد وجهين إما أن يدعوه بغير علم فيكذبوا وإما أن يصدقوا في ذلك فإن كانوا قد صدقوا أقروا أن الإجماع جاء بترك القياس ولو كان حقا ما جاء الإجماع بتركه وإن ادعوا أنهم تركوا القياس حيث تركوه لنص وارد في ذلك فاعلموا أن كل قياس خالفناهم فيه فإن النص قد ورد بخلاف ذلك القياس لا بد من ذلك وإن قالوا بتركنا القياس حيث تركناه لدليل غير النص قلنا لهم هذا ما لا نعرفه ولا قدرته وأي دليل يكون أقوى من النص هذا عدم لا سبيل إلى وجوده أبدا وبالجملة فكل واحد منهم إنما استعمل القياس في يسير من مسائله جدا وتركه في أكثرها فإن كان القياس حقا فقد اخطؤوا بتركه وهم يعلمونه وإن كان باطلا فقد اخطؤوا باستعماله فهم في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم وقال بعضهم لا نقيس على شاذ

قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد لأنه ليس شيء في الشريعة شاذا تعالى الله أن يلزمنا الشواذ بل كل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق والحق لا يكون شاذا وإنما الشاذ الباطل وقال بعضهم لا نقيس على فرع قال أبو محمد وهذا كالأول ولا فرع في الشريعة وكل ما جاء نصا أو إجماعا فهو أصل فأين ههنا فرع لو أنصف القوم أنفسهم وقال بعضهم الحدود والكفارات لا تؤخذ قياسا قال أبو محمد وما الفرق بينهم وبين من قال بل العبادات وأحكام الفروج لا تؤخذ قياسا وكل من فرق بين شيء من أحكام الله تعالى فهو مخطىء بل الدين كله لا يحل أن يحكم في شيء منه بقياس على أنهم قد تناقضوا وقاسوا في البابين وأوجبوا حد اللوطي قياسا وأوجبوا كفارات كثيرة قياسا والقوم متناقضون تناقضا يشبه اللعب والهزل أعوذ بالله مما امتحنوا به فإن قال قائل وأنتم قد تركتم حديثا كثيرا قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق كذبتم وأفكتم ولا يوجد ذلك من أحد منا أبدا إلا أربعة أوجه لا خامس لها إما لقيام البرهان على نسخه أو تخصيصه بنص آخر وهذا لا يحل لأحد وإما أنه لم يبلغ إلى الذي لم يقل به منا وهذا عذر ظاهر و { لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين } وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان والبرهان لا يتعارض والحق لا يعارضه حق آخر وإما أن بعضنا يرى ترك الحديثين المتعارضين لأنه لم يصح عنده الناسخ وإذ لم يصح عنده الناسخ منهما فهو منهي أن يقفو ما لا علم له به وهذا خطأ وبعضنا يرى ههنا الأخذ بالزائد وبه نقول

فليس منا أحد ولله الحمد ترك حديثا صحيحا بلغه بوجه من الوجوه لقول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لرأي ولا لقياس ونعوذ بالله من ذلك وأما هم فإنهم يتركون نصوص القرآن لآرائهم وأهوائهم وتقليدهم ويتركون الصحيح من الحديث عندهم كذلك ويتركون القياس وهم يعرفونه ويعلمونه وهو ظاهر إليهم كذلك فالقوم لم يتمسكوا إلا باتباع الهوى والتقليد فقط ونعوذ بالله من الخذلان وقد انتهينا من إيضاح البراهين على إبطال الحكم بالقياس في دين الله تعالى إلى حيث أعاننا الله تعالى عليه راجين الأجر الجزيل على ذلك ولاح لكل من ينصف نفسه أن القياس ضلال ومعصية وبدعة لا يحل لأحد الحكم به في شيء من الدين كله فليتق كل امرىء ربه ولا يحمله اللجاج على الإعراض عن الحق ولا يقتحم به حب استدامة رياسة قليلة على تحمل ندامة طويلة فعن قريب يقف في مواقف الحكم بين يدي عالم الخفيات فليفكر من حكم في دين الله تعالى بغير ما عهد به إليه في كلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ماذا تكون حجته إذا سئل عن ذلك وليوقن أن من سئل يوم القيامة بماذا حكمت فقال بكلامك يا رب وكلام رسوله إلي فقد برىء من التبعة من هذا الوجه جملة ومن زاد على ذلك أو تعداه فلينظر في المخلص وليعد المسألة في حكمه بتقليد الآباء ورأيه وقياسه جوابا و { فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمري إلى لله إن لله بصير بلعباد } وحسبي الله ونعم الوكيل

الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى القول بالعلل واختلف المبطلون للقياس فقالت طائفة منهم إذا نص الله تعالى على أنه جعل شيئا ما سببا لحكم ما فحيث ما وجد ذلك السبب وجد ذلك الحكم وقالوا مثال ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن الذبح بالسن وأما السن فإنه عظم قالوا فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلا قالوا ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمن تقع فيه الفأرة فإن كان مائعا فلا تقربوه قالوا فالميعان سبب ألا يقرب فحيث ما وجد مائع حلت فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب قال أبو محمد وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله ولا أحد من أصحابنا وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه وقال هؤلاء وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه إن هذا لسبب كذا وقال أبو سليمان وجميع أصحابه رضي الله عنهم لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه فإذا نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا ولأن كان كذا أو لكذا فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها ولا توجب تلك الأسباب شيئا من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة قال أبو محمد وهذا هو ديننا الذي ندين به وندعو عباد الله تعالى إليه ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم فكل عظم ما عدا السن فالتذكية به جائزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عاجزا عما قدر عليه هؤلاء المتخرضون ولو كانت الذكاة بالعظام حراما لما اقتصر صلى الله عليه وسلم على ذكر السن وحده ولما رضي بهذا العي من ذكر شيء

وهو يريد غيره ولقال ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكلوا ما لم يكن عظما أو ظفرا وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة مانعة من الذبح لما هي فيه لما كان لذكر السن معنى ولكان تلبيسا لا بيانا فوضح يقينا أن العظمة ليست مانعة من الذبح بالجرم الذي هي فيه إلا أن يكون في سن فقط وكذلك القول في الحديث الآخر ولا فرق والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه ولم يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد لكن أتوا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث نفسه وأما الظفر فإنه مدى الحبشة فكان يلزمهم إذا جعلوا قوله صلى الله عليه وسلم فإنه عظم سببا مانعا من الذبح بكل عظم أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم وأما الظفر فإنه مدى الحبشة مانعا من التذكية بكل مدية ك أنت لحبشي وهذا ما لا يقولونه بل اقتصروا على المنع من الذبح بالظفر فقط فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى سائر العظام لكان اهدى لهم ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة وهم المغلبون للقياس على نصوص القرآن والحديث في كثير من أقوالهم فإنهم تركوا القياس ههنا جملة فأجازوا الذبح بكل عظيم لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك إلى تخصيص النص بلا دليل فأجازوا الذبح بكل سن نزعت واقتصروا على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع وأجازوا الذكاة بكل ظفر قلع وهذا خطأ منهم والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق { يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا } فلو كان التعليل صوابا لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن جعله سببا للحكم أولى عند كل من له مسكة عقل ودين من علة يتكهنون في استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى قال أبو محمد وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر منزوعين كانا أو غير منزوعين فأما ما عداهما من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك مما يفري فحلال الذبح به والنحر والتذكية فإن قالوا إن الإجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في الحديث المذكور قيل لهم وبالله تعالى التوفيق قد ثبت الإجماع على صحة قولنا وعلى إبطال التعليل وإلا نتعدى السبب

المنصوص عليه إلى ما لم ينص عليه ولو كان التعليل حقا ما جاز وجود الإجماع بخلافه قال أبو محمد وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن الصباح ثنا أبو علي الحنفي ثنا قرة بن خالد قال انتظرنا الحسن فجاء فقال دعانا جيراننا هؤلاء ثم قال قال أنس بن مالك نظرنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال ألا إن الناس قد صلوا رقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة قال أبو محمد فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسباب التي يختار لها تأخير العتمة انتظار الصلاة فيكون المنتظر لها في صلاة ما انتظرها ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير العصر والمغرب فإذا كان ما نص النبي صلى الله عليه وسلم عندهم ليس علة يبنى عليها فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى من ألا يبنى عليها وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عز وجل إلى أطم من هذا فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالأمر ويقول بالقول مما لا يجوز لكن لعلة شيء آخر أراده قال وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم ذكر أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلوات في الجماعات فقالوا هذا لا يجوز وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تغليظا لا أنه أراد ذلك وقالوا إن أمره صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ليس على إيجاب ذلك وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها لأنها كانت تؤذي المهاجرين قالوا ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي دخل المسجد بهيئة بذة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال قم فاركع ركعتين قالوا والركوع حينئذ لا يجوز وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه وقالوا من ذلك أيضا أمره صلى الله عليه وسلم بفسح الحج إنما أمر به وهو لا يجوز ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط المهلك كثير قال أبو محمد وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل وضعف العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه وبضرب العنق وباستيفاء المال لأنهم ينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر بالباطل وبما لا يجوز ويصفونه بالكذب وليت شعري أعجز النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يأمر بقتل الكلاب كما فعل إذ أمره الله

تعالى حتى يحلق هذا التحليق السخيف الذي يشبه عقول المعللين بغسل الإناء من ولوغها سبعا أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ الكلاب وأن من اتخذ كلبا لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم قيراطان فهو لأمره بغسل الإناء سبعا أعصى وأترك تعالى الله عن هذا وتنزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن هذا الوصف الساقط والصحابة رضي الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن تكون هذه صفتهم أو تراه صلى الله عليه وسلم عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة وقد اعتمد بهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد ثالثة لم تتم عمرة الحديبية وعمرة القضاء بعدها وعمرته من الجعرانة بعد فتح مكة كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع أما اكتفوا بهذا وبأمره صلى الله عليه وسلم لهم في حجة الوداع فمن شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة حتى يحتاج إلى أمرهم بما لا يحل بزعم من لا زعم له من فسخ الحج أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن هذا السخف والجنون إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم أو في غاية الشبه بالأنعام بل هو أضل سبيلا وتراه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة حقا أما كان يكتفي بأن يأمر بهجرهم كما فعل بالمتخلفين عن تبوك أو بطردهم كما طرد الحكم وهيثا المخنث أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالأربعين حتى يتعد إلى الكذب والأخبار بما لا يحل اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك حدثنا حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر قال قلت لعبيد الله بن عمر أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد بالقسامة قال لا قلت فأبو بكر قال لا قلت فعمر قال لا قلت فيم تجترئون

على ذلك فسكت قال فقلت ذلك لمالك فقال لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل ثم ذكر باقي الكلام قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه وهذا مذهب الأئمة وكل من في قلبه إسلام ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر فأتى هؤلاء الأوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن لا يحمل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الحيل قال أبو محمد فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بهم وقد نهاهم عن الوصال فليعلموا أن ذلك كان منه عليه السلام صياما مقبولا لأن الوصال له مباح بالنص من قوله صلى الله عليه وسلم لست كأحد منكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وكان منهم عقوبة لهم لا صياما وهكذا في نص الحديث أنه كان كالتنكيل بهم وجائز للإمام أن يمنع المرء الطعام اليوم والليلة ومقدارا يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال كما فعل صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل على حسب ما التزمنا لجميع خصومنا ومبينون بحول الله واهب القوة لا إله إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى تمويههم بها وحل شغبهم الفاسد ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل جملة إن شاء الله تعالى وبه نعتصم احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال فمن ذلك قول الله عز وجل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام لأخيه { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في لأرض فكأنما قتل لناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بلبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في لأرض لمسرفون } قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا أعظم حجة عليكم لأن الله تعالى لم يلزم هذا الإصر غير بني إسرائيل فقط ولو أن ذلك علة مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس فإن قالوا هو لازم لجميع الناس سألناهم ما تقولون في جميع الكبائر أهي فساد في الأرض أم ليست فسادا في الأرض إلا ما سمي فسادا في الأرض وليس هذا واقعا إلا على

المحاربة فقط ولا بد من أحد الجوابين فإن قالوا الكبائر كلها فساد في الأرض أريناهم شارب الخمر والسارق والمرابي وآكل أموال اليتامى والزاني غير المحصن وآكل لحم الخنزير والدم والميتة والغاصب والقاذف مفسدين في الأرض ولا يحل قتلهم بل من قتلهم قتل بهم قودا فقد نقضوا قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا لأن في نص تلك الآية إباحة قتل كل مفسد في الأرض فإن قالوا ليس شيء من الكبائر فسادا في الأرض حاشا المحاربة أريناهم الزاني المحصن يقتل وليس مفسدا في الأرض فانتفضت العلة التي ادعوها علة لأن في الآية المذكورة ألا تقتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض الزاني المحصن لم يقتل نفسا ولا أفسد في الأرض وهو يقتل ولا بد ولا يكون قاتله كأنه قتل الناس جميعا فإن قالوا إن زنى المحصن وحده ووطء امرأة الأب وردة المرتد وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة فساد في الأرض وما عدا هذا فليس فسادا في الأرض كابروا وتحكموا بلا دليل وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل الله أعظم جرما من سائر الزناة وسواء كانوا محصنين أو غير محصنين إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم جرما من المحصن في بعض الأحوال التي ذكرنا والمحصن على كل حال يقتل وإن كان غير المحصن أعظم جرما منه في بعض الأحوال التي ذكرنا وأيضا فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لأصولهم في العلل وموجب ألا يكون الشيء علة إلا حيث نص الله عز وجل على أنه علة لأنهم يقولون إن الكبيرة لا تكون فسادا إلا حيث نص على أنها فساد وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها وبطل إجراؤهم العلة حيث وجدت وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب فإنا لا نطلقه لأن النص لم يأت به وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله ولا معنى للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس وتسمية الباطل باسم الحق فهذا توقف على فساد عمله ونبين له قبح مغبته وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم بقول الله عز وجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا { فرح لمخلفون بمقعدهم خلاف رسول لله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل لله وقالوا لا تنفروا في لحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون }

قال أبو محمد وهذه الآية كافية في إبطال العلل لأن الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه وأمرهم الفرار عن حر جهنم وألا يصبروا عليها أصلا نعوذ بالله منها واحتجوا أيضا بقوله تعالى { وإذ تقول للذي أنعم لله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وتق لله وتخفي في نفسك ما لله مبديه وتخشى لناس ولله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على لمؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر لله مفعولا } قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم فنكاحه صلى الله عليه وسلم إياها موجب علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق الولادة لكن الاستلحاق المنسوخ فقط وهذا الذي قلنا هو نص الآية ولو كان علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه ولا بد فلما لم يكن ذلك بلا خلاف سقط ظنهم أن إنكاحه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك وصح قولنا أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى { مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب } قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية كالقول في الآية التي ذكرنا آنفا ولا فرق لأننا قد وجدنا أموالا كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هي ألا يكون دولة بين الأغنياء لكان ذلك أيضا علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب خاصة ألا يكون دولة بين الأغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم هذا الموضع وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضا في قسمة خمس الغنائم ولا مزيد وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله تعالى نتأيد واحتجوا بقوله تعالى

{ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على لله حجة بعد لرسل وكان لله عزيزا حكيما } وقال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن لأحد على الله تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم بل لله الحجة البالغة { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عز وجل ولكن الله تعالى أراد الإحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل وأراد الإعذار إلى من لم يؤمن منهم فهذا غرض الله عز وجل فيهم ومراده وليس هذا علة وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض ببيان جلي لا يحيل على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى { وعلى لذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن لبقر ولغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو لحوايآ أو ما ختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجبا أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة كأولئك وفينا نحن أيضا أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف الميزان وفينا فعل قوم لوط وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز ولا جوزوا بشيء بما جوزي به أولئك علمنا أن البغي ليس علة للجزاء بما جوزي به أولئك لأن العلة مطردة في معلوماتها أبدا لا تجوز أصلا وصح أن البغي من أولئك كان سببا لجزائهم بما جوزوا به وليس سببا في غيرهم لأن يجازوا بمثل ذلك فصح قولنا إن الأسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من أجلها في بعض الأمكنة وسقط قولهم سقوطا لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين وهذا قد ظهر كما ترى في الأسباب الصحيحة فما الظن بالأسباب الكاذبة التي يدعونها في الأحكام ويضعونها وضعا مختلفا متخاذلا بلا برهان إلا المجاهرة بالقربة

وما لا يصح بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى { هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار } الآيات إلى قوله { ههههه إلى قوله { ذلك بأنهم شآقوا لله ورسوله ومن يشآق لله فإن لله شديد لعقاب } قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأن المحاربين فيما بيننا وأهل الإلحاد منا فهم مشاقون لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب منا كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقينا أن المشاقة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليست علة لخراب البيت وأصلا ولا سببا في خراب بيوت المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم وهذا هو نفس قولنا إن الشيء إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم أصلا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى { إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون } قالوا فكانت هذه علل في وجوب تحريمها أو الانتهاء عنها قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم من وجوه أحدها أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرما إذا بغى على وجهه وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال صلى الله عليه وسلم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكت من كان من قبلكم أو كما قال صلى الله عليه وسلم مما هذا حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئا من عند أنفسنا أو برأينا أو بغير ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والإشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم

فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الإسلام وقد كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي حلال يشربها الصالحون بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر ذلك فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم لما وجدت قط إلا محرمة لأنها لم تكن قط إلا مسكرة ولم يكن الشيطان قط إلا مريدا لإلقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها أو سبب لا في الوقت الذي نص الله عز وجل على تحريمها فيه ولا قبله البتة لأن قوله عز وجل { إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون } إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها ولا أنه سبب تحريمها ولا يحل لأحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر به عز وجل عن نفسه ولا أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو قولنا إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا وبالله تعالى التوفيق وقد قال بعض أصحابنا إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر إنما كان بعد تحريمها لأن شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة مبغض من الصالحين ومعاد لهم قال أبو محمد وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد وقد أدى تعليلهم هذا الفاسد المفترى جماعة من الجهال إلى الضلال المبين فإذا رأوا سكرانا معربدا متلوثا في أقذاره وأهذاره جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت الخمر نعوذ بالله من هذا القول ومما سببه من التعليل الملعون واحتجوا بقوله تعالى { فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا } قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأننا نحن نظلم من بكرة إلى المساء ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات ولا سببا له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سببا له فقط لا فيما عدا ذلك المكان البتة

واحتجوا بقوله تعالى { وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } قال أبو محمد وهذا عليهم لأن الحكم المذكور لم يوجب استيقان جميع أهل الكتاب بل فيهم غير مستيقن وفيهم من تمادى على شكه وإفكه وشركه ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير مستيقن فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام { إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى } قال أبو محمد وهذا حجة عليهم لأن الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سببا له لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح قولنا إن الشيء إذا جعله الله سببا لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا إلا فيه وحده لا في غيره فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن وقد أريناهم بعون الله تعالى أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل الموجب عندهم للقياس والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث إنما فعلت ذلك من أجل الدابة قال أبو محمد أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لأنهم يبطلون هذا السبب الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه ولا يقيسون عليه شيئا أصلا نعم ولا يأخذون بذلك الحكم بعينه بل يعصونه ويجيزونه ادخار لحوم الأضاحي ما شاء المرء من الدهور وإن دفت الدواف أفلا يستحي من يبطل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك من أن يحتج بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز باللوز إلى أجل لا يحل إن هذا لخلق فاسد منتج من رذائل جمة منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية وقلة المبالاة بالصدق وشدة الجور وقلة النصيحة والضعف والعقل ونعوذ بالله من كل ذلك وأما نحن فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السبب في النهي عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الأضحى فإذا كان ذلك أبد الأبد حرم إدخار لحومها

أكثر من ثلاث ليال فإن لم تدف دافة بحضرة الأضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا وانقيادا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يأت ما ينسخه وهذا الذي قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الأذان من أجل البصر قال أبو محمد وهذا موافق لقولنا لا لقولهم لأننا لم ننكر وجود النص حاكما بأحكام ما لأسباب منصوصة لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى غيرها ووضع تلك الأحكام في غير ما نصت فيه واخترع أسباب لم يأذن بها الله تعالى وأيضا فهذا الحديث حجة عليهم لأنهم أول عاص له أكثر أهل القياس مخالفون لما في هذا الحديث من أن من اطلع على آخر ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شيء عليه وقالوا إن قول المظاهر لامرأته أنت علي كظهر أمي لما كان منكرا من القول وزورا كان ذلك علة لوجوب الكفارة قال أبو محمد وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم فأقروا أن قول المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي منكر من القول وزورا ولم يوجب ذلك عليها الكفارة وقال تعالى { ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل } فسوى الله تعالى بين قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وبين ادعائه ولد غيره ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة وجعل في الآخرة الكفارة فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة في الحكم وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين كفارة ولم يجب في الآخر وقد قال غيره من الفقهاء إيجاب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها ككفارة المظاهر ولا فرق فهذا كل ما موهوا به من الحديث لاح أنه حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وجملة القول إن كل شيء نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق وكل ما أوردوه

بآرائهم مما ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل وإفك وهم كمن قال لما حرم الله تعالى وفرض ما شاء حرمت أنا أيضا وفرضت ما شئت لأنه تعالى حرم وفرض ولا فرق وقد صح على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن عنبسة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إن تلك ساعة تطلع ومعها قرن الشيطان ويسجد لها الكفار حينئذ وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس و إن تلك الساعة تسجر فيها النار لو كان هذا على بادىء الرأي وظاهر الاحتياط لكانت الصلاة حينئذ أحرى وأولى معارضة الكفار فإذا سجدوا للشمس صلينا نحن لله تعالى وإذا سجرت النار صلينا ونعوذ بالله منها هذه صفة عللهم المفتراة الكاذبة وهذا ما جاء به النص فصح أنه لا يحل لأحد تعليل في الدين ولا القول بأن هذا سبب هذا الحكم إلا أن يأتي به نص فقط فصل في الاشتقاق قال أبو محمد واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل وأن الأحكام إنما وقعت العلل بأن الأسماء مشتقة في اللغة وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة إذ لا سبب في الاشتقاق يتوصل به إلى إثبات العلل في الأحكام فكيف وهو باطل الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشيء ما مأخوذ من صفة فيه كتسمية الأبيض من البياض والمصلي من الصلاة والفاسق من الفسق وما أشبه ذلك وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه ولا مصليا من لا يصلي ولا فاسقا من لا فسق فيه فأي شيء في هذا مما يتوصل به إلى إيجاب القياس والقول بأن البر إنما حرم أن يباع البر متفاضلا لأنه مأكول أو لأنه مكيل أو لأنه مدخر وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل وبالله تعالى التوفيق وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل اسم جنس أو نوع

أو صفة فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان ضروري وهو أننا نقول لمن قال إنما سميت الخيل خيلا لأجل الخيلاء التي فيها وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه والقارورة قارورة لاستقرار الشيء فيها والخابية خابية لأنها تخبىء ما فيها إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما البتة أحدهما أن تسمي رأسك خابية لأن دماغك مخبوء فيها وأن تسمي الأرض خابية لأنها تخبىء كل ما فيها وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما وكذلك القصر والجبل وأن تسمي بطنك قارورة لأن مصيرك مستقر به وأن تسمي البئر قارورة لأن الماء مستقر فيها وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلا للخيلاء التي فيهم ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتخذين لإضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب وصار ملهى وملعبا وضحكة يتطايب بخبره وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد والوجه الثاني أن يقال إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبء فمن أي شيء اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبء وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه وهذا جنون أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم ومع أنه كفر فهو محال ممتنع وأيضا فإذا بطل الاشتقاق في بعض الأسماء كلف من قال به في بعضها أن يأتي ببرهان وإلا فهو مبطل وأيضا فليس قول من قال إن الخيل مشتقة من الخيلاء أولى بالقبول من قول من قال إن الخيلاء مشتقة من الخيل وكلا القولين دعوى فاسدة زائفة لا دليل على صحتها في البرهان الضروري قد قام على بطلانها لأنه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة ولا وجدت الخيل إلا والخيلاء موجودة ولم يوجد قط أحدهما قبل الآخر فبطل قولهم وبالله تعالى نتأيد ولو كان ما قالوا لكانت الأسد أولى أن تسمى خيلا لأنهم أكثر خيلاء من الخيل ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور لأنها أشد ارتفاعا منها وإلا فما الذي جعل القوارير أولى بهذا الاسم من الرمان والعتائد والإدراج والقلال

وقالوا لما وجدنا العصير حلو لا يسمى خمرا وهو حلال ثم حدثت فيه الشدة فسمي خمرا فحرم ثم ارتفعت الشدة فلم يسم خمرا لكن سمي خلا علمنا أن العلة المحرمة والتي حرم من أجلها والتي من أجلها سمي خمرا هي الشدة قال أبو محمد هذا كلام فاسد في غاية الفساد فأول ذلك أن يقال لهم في أي عقل وجدتم أن كون الشدة فيه أوجبت أن يسمى بالخاء والميم والراء ولكن لا بد لكل عين فيها صفات مخالفة لصفات عين أخرى أن يوقع على كل واحد منها اسم غير اسم العين الأخرى ليقع التفاهم فيها بين المخاطبين فعلق على ما فيه الشدة اسم ما وعلى ما لا شدة فيه اسم آخر لا لشيء إلا ليفهم الناس مراد من كلمهم وخاطبهم وكذلك موجود في العالم وإلا ما ضاقت اللغة عن تسميته أو عجز أهلها عن ذلك أو لم يرد الله تعالى أن يكون له في هذه اللغة اسم وأيضا فإن اللغة العربية أول من نطق بها إسماعيل والخمر أقدم من كون إسماعيل في الأرض لأنهما من الأشياء التي علم آدم أسماءها قال تعالى { وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين } فعم تعالى ولم يخص فقد كانت الخمر على حالها من الإسكار والشدة وهي حلال وهي لا تسمى خمرا فقد كذب هذا القائل وأثم وأيضا فإن الخمر تسمى في كل لغة بغير اسم الخمر عندنا فما وجدنا ألسنتهم تلتوي لذلك ولا أحكامهم تنطوي ولا الخمر حلت لهم لأجل أن اسمها عندهم في اللغة العربية ولم نجد قط تلك العين المسماة خمرا إلا وهي مسكرة في كل وقت وفي كل أمة وفي كل مكان حاشا خمر الجنة فقط فبطل قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن العرب تسمي الخمر بخمسة وستين اسما ما وجدناها تضطر إلى ترك شيء منها ولا اضطرت إلى وضعه وقد بينا الكلام في كيفية أصل اللغات في باب مفرد من كتابنا هذا ولله الحمد وكذلك قالوا إن كون البر مطعوما محرما متفاضلا هو علة تسمية ذلك ربا والقول عليهم في ذلك كالقول في الخمر ولا فرق وبالله تعالى لا إله إلا هو التوفيق وقالوا العلة في وجوب كون الرقبة في الظهار مؤمنة هي وجوب كونها سليمة الأعضاء كرقبة القتل

قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد واحتجاج للخطأ بالخطأ وللدعوى بالدعوى ومثلهم في هذا القول كإنسان قال لي على زيد درهم فقيل له هل لك بينة فقال نعم فقيل وما هي قال إن لي على عمر درهما فقيل له وما بينتك على أن لك على عمر درهما قال بينتي على ذلك أن لي على زيد درهما فهو يريد أن يجعل دعواه صحة لدعوى أخرى وكلتاهما ساقطة إذ لا دليل عليهما وليس هذا الفعل من أفعال أهل العقول ودعواهم أن الرقبة في كلا الموضعين لا تجزىء إلا أن تكون سليمة دعوى زائفة لا تصح فكيف أن يقاس عليها ألا تكون إلا مؤمنة وقال بعضهم العلة في ذلك أنها كفارة عن ذنب قال أبو محمد وليس على قاتل الخطأ ذنب أصلا فبطل تعليلهم الفاسد وأيضا فهذه دعوى كالأولى لا دليل عليها وما الفرق بينهم وبين من قال إنما وجبت في القتل أن تكون الرقبة مؤمنة لأنها كفارة عن قتل فما عدا القتل فلا تجب فيه مؤمنة وهذا لا انفكاك منه فكل هذه دعوى لا دليل عليها ولا ينفكون ممن بطل ما أثبتوه ويثبت ما أبطلوا واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعي علة في شيء من الأحكام إلا أمكن لخصمه أن يأتي بعلة أخرى يدعي أن ذلك الحكم إنما وجب لها وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى نعتصم فصل في إبطال القول بالعلل قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به قد بينا عواره ولاح اضمحلاله والحمد لله رب العالمين ونحن الآن بعون الله تعالى وقوته لا إله إلا هو شارعون في إبطال القول بالعلل في شيء من الشرائع وبالله تعالى التوفيق فيقال لمن قال إن أحكام الشريعة إنما هي العلل

أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون أهي من فعل الله تعالى وحكمه أم من فعل غيره وحكم غيره أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا فإن قالوا من فعل غير الله من غير حكمه جعلوا ههنا خالقا غيره وفاعلا للحكم غيره وجعلوا فعل ذلك الفاعل موجبا على الله تعالى أن يفعل ما فعل وأن يحكم بما حكم به وهذا شرك مجرد وكفر صريح وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا ليست من فعله ولا من فعل غيره أوجبوا أن في العالم أشياء لا فاعل لها أو أنهم في هذا الحاكمون على الله تعالى بها وهم الذين يحللون ويحرمون ويقضون على الباري عز وجل وهذا كفر مجرد ومذهب أهل الدهر وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا بل هي من فعل الله عز وجل وحكمه قلنا لهم أخبرونا عنكم أفعلها الله تعالى لعلة أو فعلها لغير علة فإن قالوا فعلها تعالى لغير علة تركوا أصلهم وأقروا أنه تعالى يفعل الأشياء لا لعلة وقيل لهم أيضا ما الذي أوجب أن تكون الأحكام الثواني لعلل وتكون الأفعال الأول التي هي علل هذه الأحكام لا لعلل وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا برهان عليها وإن قالوا بل فعلها تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل أيضا كما سئلوا في التي قبلها وهكذا أبدا فلا بد لهم ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقفوا في أفعال ما فيقولون إنه فعلها لغير علة فيكونون بذلك تاركين لقولهم الفاسد إنه تعالى لا يفعل شيئا إلا لعلة أو يقولون بمفعولات لا نهاية لها وأشياء موجودة لا أوائل لها وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة وقبح الله قولا يضطر قائله إلى مثل هذه المواقف فبطل قولهم في العلل وصح قولنا إن الله تعالى يفعل ما يشاء إلا لعلة أصلا بوجه من الوجوه بهذا البرهان الضروري الذي لا انفكاك عنه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ويكفي من هذا كله أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي التابعين أولهم عن آخرهم ليس منهم أحد قال إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلة وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس وأيضا فدعواهم إن هذا الحكم حكم به الله تعالى لعلة كذا فرية ودعوى لا دليل عليها ولو كان هذا الكذب عن أحد من الناس لسقط قائله فكيف على الله عز وجل

ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسبابا له وقد بينا كثيرا من ذلك في أول هذا الباب قال أبو محمد ومن عجائب هؤلاء القوم أنهم لو قيل لهم تعمدوا الباطل ما قدروا على أكثر مما فعلوا ومن ذلك أنهم أتوا إلى حكم لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أن له سببا وهو تحريم البر بالبر متفاضلا فجعلوا له سببا وعلة وحرموا من أجله الحديد بالحديد متفاضلا وبيع الأرز بالأرز متفاضلا وبيع السقيمونيا بالسقمونيا متفاضلا ثم أتوا إلى حكم جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا وأخبر أنه حكم بذلك من أجله فعصوه وأطرحوه وهو قوله صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث لأجل الدافة فقالوا ليست الدافة سببا ولا يجب من أجلها ترك ادخار لحوم الأضاحي وهكذا يكون عكس الحقائق وبالله تعالى نعوذ من الخذلان قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالأسباب فما الفرق بين الأمرين فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الفرق بين العلة وبين السبب وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في بابه وكلها لا يوجب تعليلا في الشريعة ولا حكما بالقياس أصلا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن العلة هي اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا والعلة لا تفارق المعلول البتة ككون النار علة الإحراق والثلج علة التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلا وليس أحدهما قبل الثاني أصلا ولا بعده وأما السبب فهو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله لو شاء لم يفعله كغضب أدى إلى انتصار فالغضب سبب الانتصار ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر وليس السبب موجبا للشيء المسبب منه ضرورة وهو قيل الفعل المتسبب منه ولا بد وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه مفاعل ويقصده ويفعله وهو بعد الفعل ضرورة فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشيء هي شيء غير وجوده وإزالة الغضب غير الغضب والغضب هو السبب في الانتصار وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار فصح أن كل معنى مما ذكرنا غير المعنى الآخر فالانتصار بين الغضب وبين

إزالته وهو مسبب للغضب وإذهاب الغضب هو الغرض منه وأما العلامة فهي صفة يتفق عليها الإنسانان فإذا رآها أحدهما علم الأمر الذي اتفقا عليه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك فكان رفع الحجاب واستماع حركة الني صلى الله عليه وسلم علامة الإذن لابن مسعود وكقوله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار فكانت أصوات الأشعريين بالقرآن علامة لموضع نزولهم ومن هذا أخذت الأعلام الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق والأعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس وقال أبو محمد وهذا معنى رابع وقد سمي أيضا العلل معاني وهذا من عظيم شغبهم وفاسد متعلقهم وإنما المعنى تفسير اللفظ مثل أن يقول قائل معنى الحرام فتقول له هو كل ما لا يحل فعله أو يقول معنى الفرض فنقول هو كل ما لا يحل تركه أو يقول ما الميزان فنقول له آلة يعرف بها تباين مقادير الأجرام فهذا وما أشبه هو المعاني وهذا أيضا شيء خامس وكل هذا لا يثبت علة الشرائع ولا يوجب قياسا لأن العلامة إذا كانت موضوعة لأن يعرف بها شيء ما فلا سبيل إلى أن يعرف بها شيء آخر بوجه من الوجوه لأنه لو كان ذلك لما كانت علامة لما جعلت له علامة ولوقع الإشكال قال أبو محمد فلما كانت هذه المعاني المسماة الخمسة التي ذكرنا مختلفة متغايرة كل واحد منها غير الآخر وكانت كلها مختلفة الحدود والمراتب وجب أن يطلق على كل واحد منها اسم غير الاسم الذي لغيره منها ليقع الفهم واضحا ولئلا تختلط فيسمى بعضها باسم آخر منها فيوجب ذلك وضع معنى في غير موضعه فتبطل الحقائق والأصل في كل بلاء وزعماء تخليط وفساد اختلاط أسماء ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة فيخبر المخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي تحته فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر فيقع البلاء والإشكال وهذا في الشريعة أضر شيء وأشده هلاكا لمن اعتقد الباطل إلا من وفقه الله تعالى

وإذ قد بينا هذه الأسماء الأربعة وهي العلة والغرض والسبب والعلامة وبينا أن معانيها مختلفة وأن مسمياتها شتى وحسمنا داء من أراد إيقاع اسم العلة في الشريعة على معنى السبب فيخرج بذلك إلا ما لا يحل اعتقاده من أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليها أن يشرعها أو إلى الفرية على الله تعالى في الإدعاء أنه شرع عللا لم ينص عليها هو تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم و لا أذنا بها ولا بد لأهل العلل من أحد هذين السبيلين وكلاهما مهلك ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سببا لبعض ما شرع من الشرائع بل نقر بذلك ونثبته حيث جاء به في النص كقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وكما جعل تعالى كفر الكافر وموته كافرا سببا إلى خلوده في نار جهنم والموت على الإيمان سببا لدخول الجنة وكما جعل السرقة بصفة ما سببا للقطع والقذف بصفة ما سببا للجلد والوطء بصفة ما للجلد والرجم وكما نقر بهذه الأسباب المنصوص عليها فكذلك ننكر أن يدعي أحد سببا حيث لم ينص عليه ولسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب بل نقول ليس منها شيء لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء ولا نحرم ولا نحلل ولا نزيد ولا ننقص ولا نقول إلا ما قال ربنا عز وجل ونبينا صلى الله عليه وسلم ولا نتعد ما قالا ولا نترك شيئا منه وهذا هو الدين المحض الذي لا يحل لأحد خلافه ولا اعتقاده سواء وبالله تعالى التوفيق وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه وأن أفعاله لا يجزىء فيها لم وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله لم كان هذا فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمرا كذا لأجل كذا وهذا أيضا مما يسأل عنه فلا يحل لأحد أن يقول لم كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره ولا أن يقول لم جعل هذا الشيء سببا دون أن يكون غيره سببا أيضا لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل وألحد في الدين وخالف قوله تعالى

{ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فمن سأل عما يفعل فهو فاسق وجب أن تكون العلة كلها منفية عن الله تعالى ضرورة وفي قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } بيان جلي أنه لا يجوز لأحد منا أن يقول قولا لا يسأل عنه ولزمنا فرضا سؤال كل قائل من أين قلت كذا فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحة من ربه تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم لزمنا طاعته وحرم عليه التمادي في سؤاله وإن لم يأت به مصححا عن ربه تعالى ولا عن نبيه صلى الله عليه وسلم ضرب برأيه عرض الحائط ورد عليه أمره متروكا غير مقبول معه ولا مرضي عنه فهذا حكم السبب وفعله والعلامة والغرض والمعنى قد بينا كل ذلك غاية البيان ولم نقل إلا ما قاله الله ربنا عز وجل وليست العبارة بالألفاظ المخالفة خلافا إذا حقق المعنى فلم يبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب فقط بل إلى أهل كل لغة من الإنس والجن فلا بد ضرورة لكل أحد من عبارة يفهم بها كلام ربه تعالى ومعنى مراده في الدين اللازم له وإنما أوردنا هذا لئلا يتعلق جاهل فيقول إن كلامك هذا ليس منصوصا في القرآن فأرينا أن حقيقة مفهومه كلها ومعناه الذي لا يتحمل كلامنا معنى غيره منصوص في القرآن نصا جليا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر واعلم أن الأسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها وعن أحكامه حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط والغرض في بعضها أيضا أن يعتبر بها المعتبرون وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار ومن إدخاله الجنة من شاء ومن إدخاله النار من شاء وتسبيبه ما شاء لما شاء فكل ذلك أفعال من أفعاله وأحكام من أحكامه لا سبب لها أصلا ولا غرض له فيها البتة غير ظهورها وتكوينها فقط { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ولولا أنه تعالى نص على أنه أراد منا الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء ما قلنا به ولكنا صدقنا ما قال ربنا تعالى وقلنا ما علمنا ولم نقل ما لم نعلم فهذه حقيقة الإيمان الذي تعضده البراهين الحسية والعقلية

ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من أنهما مخلوقان لله تعالى أو أنهما غير مخلوقين أصلا أو أنهما مخلوقان لغيره فمن جعلهما غير مخلوقين أصلا كفر لأنه يجعل في العالم شيئا لم يزل ومن قال إنهما مخلوقان لغير كفر لأنه يجعل خالقا غير الله تعالى فثبت أنهما مخلوقان له تعالى وقد قام البرهان على أن كل ما دون الله تعالى فهو خلق الله فإذا قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالى فلا يخلو من أن يكون خلقهما لسبب أيضا ولغرض أو لا لسبب ولا لغرض فإن كان فعلها لسبب آخر وغرض آخر لزم أيضا فيهما مثل ذلك حتى تنتهي بقائل هذا إلى إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها وهذا كفر من قائله وإن كان تعالى فعلهما لا لسبب ولا لغرض فهذا هو قولنا إنه تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه لا لسبب ولا لغرض حاشا ما نص تعالى عليه فقط أنه فعله للغرض أراده أو لسبب وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب ولولا النصوص الواردة بذلك في بعض المواضع ما حل لمسلم أن يقول إن الله تعالى فعل كذا لسبب كذا ولا إن له عز وجل في فعل كذا إرادة كذا { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } قال أبو محمد ويقال لمن قال بالعلل وجعلها صفات في أشياء توجد فتشتبه بها فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد إنك لا تعدم معارضا بصفات أخر توجب غير الأحكام التي أوجبتم فإن أنتم أبطلتم حكم التشابه الذي يعارضكم به خصومكم فقد أقررتم أن الأتباع لا معنى له ولا يوجب حكما وليس قول خصومكم فيما أتى به من ذلك بأولى بالسقوط من قولكم ومثال ذلك أن تقولوا لما أشبه النبيذ الخمر في أنه شديد ملذ مسكر وجب له التحريم من أجل ذلك فيعارضكم خصومكم فيقولون لما أشبه النبيذ المسكر العصير في أنه لا يفكر مستحله وجب له التخليل من أجل ذلك فإن أبطلتم التشبيه الذي أتى به خصومنا فقد أقررتم أن التشبيه لا يوجب حكما وهذا عائدا على تشبهكم الذي شبهتم ولا فرق وقال بعضهم علة تحريم البر بالبر متفاضلا أنه مطعوم وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مكيل

وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مدخر قال أبو محمد وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به الأخرى فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم فليس ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الأخرى ولا بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها بل كلها دعوى زائفة ساقطة لا برهان عليها وهكذا جميع عللهم وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم فيثبتها في الدين فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقوله ما لم يقل أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه ولا بد من إحداهما وهما خطتا خسف نعوذ بالله منهما وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل ثم يجعلون علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا فيقرون أن النص أبطل علتهم ولو كانت حقا ما أبطلها لأن الحق لا يبطل الحق وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا إلا على سبيل النسخ فقط وأما على معنى ألا يقبل فلا سبيل إلى ذلك البتة والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا قال أبو محمد وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا لو كانت العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو تحريم لكانت غير مختلفة أبدا كما أن العلل العقلية لا تختلف أبدا مثال ذلك أن الشدة والإسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراما مذ خلقها الله تعالى فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة وقد كانت حلال في الإسلام سنين وهي على الصفة هي الآن لم تبدل ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الإحراق وتصعيد الرطوبات فلا تزال كذلك أبدا حاشا ما خص عز وجل منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم أعاذنا الله تعالى منها قال الله تعالى { إن لذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا لعذاب إن لله كان عزيزا حكيما }

قال أبو محمد فتفسخوا تحت هذا السؤال وتضوروا منه لأنه صحيح لا مخرج منه البتة فقال بعضهم إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة قال أبو محمد وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة وترك منهم للقياس ورجوع إلى النص وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم إلا تسميتهم الحكم علة فقط فلو قالوا لا يجب الحكم إلا إذا نصه الله عز وجل لوافقونا البتة ولكنهم تعلقوا باسم العلة لأنه مشترك ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم وليتعدوا النص إلى ما لا نص فيه وهذا ما لا يسوغونه وبالله تعالى التوفيق وقال بعضهم هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل وليس حجة في إيجاب العلم فلا تنكروا علينا كون الشيء علة في مكان وغير علة في مكان آخر فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه منكم لا تتخلصون به مما ألزمناكم إياه لأننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشيء حجة في مكانه وبابه وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه وإنما أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض مكانها وبابها بغير نص وغير حجة في سائر بابها وبعض أماكنها من غير نص أيضا فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل أبدا إذا كان عن النبي صلى الله عليه وسلم عند جميعنا ثم اختلفنا فقالت طائفة منهم ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم أبدا وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب للعلم أبدا وقالت طائفة هو موجب للعلم أبدا إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل تشبيههم للعلة بالخبر قال أبو محمد واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته أعتقوا عبدي ميمونا لأنه أسود وله عبيد سود كثير أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم والتي جعلها علة في عتق ميمون قياسا على ميمون أم لا تعتقون منهم أحدا حاشا ميمون وحده فإن قلتم نعتقهم نقضتم فتاويكم وخالفتم الإجماع وإن قلتم لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا

قال أبو محمد وهذا إلزام صحيح ونحن نزيده بيانا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأمراء سراياه إذا نزلتم بأهل حصن أو مدينة أرادوا أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تفعلوا فإنكم لا تدرون أتوافقون حكم الله تعالى فيهم أم لا ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم ما شئتم فإذا سألوكم أن تعطوهم ذمة الله عز وجل وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أعطوهم ذمتكم فإن تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله أو كلاما هذا معناه فهذا نص جلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الإقدام على نسبة شيء إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل وأن نسبة ذلك إلى الإنسان أهون وإن كان كل ذلك باطلا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان كذبا علي ليس ككذب على أحد فلو جاز أن يقال بالقياس وبالفعل لكان الإقدام به على كلام الناس وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلما اتفقوا على أن من قال اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه اتقاء أن يعتقه وخوفا من تبديل أمر الموصي وكلامه فإن الأولى بهم أن يتقوا الله عز وجل في قوله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الذبح بالسن فإنه عظم وفي أمره صلى الله عليه وسلم بهرق السمن إذا مات فيه الفأر فلا يتعدوا ذلك إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور وفي أمره صلى الله عليه وسلم البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي ألا يتوضأ منه ولا يغتسل فلا يتعدوه إلى المحدث في الماء ولا إلى ما لم يبل فيه أصلا فإن الأوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تعليلا لم ينصا عليه وأحكاما لم يأذنا بها ولا ذكراها أصلا ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقولا وحسبك بهذا عظيمة نعوذ بالله منها وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود واعتبروا فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود قال أبو محمد وهذا جواب فاسد من وجهين

أحدهما أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود لأنه ليس قوله اعتبروا أولى بأن يكون معناه قيسوا منه بأن يكون معناه واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي وأيضا فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شيء من الأحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم واعتبروا واعتبروا وهذا غير موجود في شيء من الأحكام ولا في الحديث ولا في صلة شيء من الآيات فبطل القياس جملة بنص قوله هذا المجيب والله تعالى الحمد قال أبو محمد والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول حتى لو قال فاعتبروا ثم لما كان نهارا آخر قال اذبحوا كبشي الفلاني لأنه أعرج وله كباش عرج أيذبحون كل كبش له أعرج من أجل قوله بالأمس في أمر عتق عبد واعتبروا أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به واعتبروا فإن قالوا نكتفي بقوله واعتبروا مرة واحدة خرقوا الإجماع وهذا أمر لا يقولونه ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل ومدعين بلا برهان وإن لم يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبدا قال أبو محمد وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال إذ تتبعنا عليهم إدخالهم في أحكام الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يأت به نص لكن تعليلا منهم وقياسا ثم يتحرون تجنب مثل هذا في أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي فلا يتعدون نصوص أقوالهم فقالوا خطاب الآدميين وقد يكون فاسدا ولا حكمة فيه وخطاب الله تعالى حكمة قال أبو محمد وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور ويقال له أي فساد في خطاب امرىء موص في ماله بما أباحه له الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة ولم يتعد إلى مكروه فلو جاز ألا يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده لما جاز تنفيذ تلك الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية وحملها على ظاهرها صح أنها حق وبطل تمويه من رام الفرق بين ما سألناهم عنه من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوى والظنون وما ليس فيه

ولا مفهوما منه وقلنا لهم فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا حكمة فيه من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة وأقوال مالك المتناقضة وأقوال الشافعي المتعارضة على المضمون فيه الحكمة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتى صرتم لا تأخذون من النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين ولا تزالون تتحيلون في إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة الغثة والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازما ليتبينوا ويتعلموا فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط فأجاب بعض أصحاب القياس فقال إنما نهوا عن سؤال من سأل عن أبيه قال أبو محمد وهذا الكذب بعينه لأن نص الآية يكذب هذا القائل في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } وبين ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله كنا نهينا أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع وقال النواس بن سمعان أقمت بالمدينة سنة لا أهاجر يريد لا أبايع على الهجرة لأننا كنا إذا هاجر أحدنا لم يجز له أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أو كلاما هذا معناه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقد قال صلى الله عليه وسلم اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ولكن إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فبطل اعتراض هذا المعترض

فصل فيما ورد في القرآن من النهي عن القول بالعلل قال أبو محمد ونحن موردون إن شاء الله تعالى ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عز وجل وشرائعه فكتاب الله تعالى هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ومن أبى ذلك ختمنا له الآية وهو قوله تعالى { بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون } قال أبو محمد قال الله تعالى { وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر } فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا لأنه لا بد من هذا أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى المراد وهذا خطأ لا يقوله مسلم بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم وعلى كل مسلم فيما يخصه فصح القول الثاني ضرورة ولا بد وقال الله تعالى { خالدين فيها ما دامت لسماوات ولأرض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد } وقال تعالى { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ودعوا شهدآءكم من دون لله إن كنتم صادقين } قال أبو محمد وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة فالمعلل بعد هذا عاص لله عز وجل وبالله نعوذ من الخذلان وقال تعالى { ويا آدم سكن أنت وزوجك لجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين * فوسوس لهما لشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه لشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من لخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن لناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا لشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق لجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما لشجرة وأقل لكمآ إن لشيطآن لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من لخاسرين }

قال أبو محمد وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين أحدهما تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب والثاني قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه لأنه خير منه إذ إبليس من نار وآدم من طين ثم بالتعليل للأوامر كما ذكرنا وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس وأنه مخالف لدين الله تعالى نعم ولرضاه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين ومن إثبات علة لشيء من الشريعة وبالله تعالى التوفيق وقال الله عز وجل حاكيا عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أمروا بالصدقة { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم لله قال لذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء لله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين } قال أبو محمد فهذا إنكار منه تعالى للتعليل لأنهم قالوا لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم وهذا نص لا خفاء به على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها وقال تعالى { فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا } فهم ظلموا فحرمت عليهم ونحن نظلم فلم تحرم علينا الطيبات التي أحلت

لنا وقال صلى الله عليه وسلم إننا سنركب سنن أهل الكتاب لو دخلوا جحر ضب لدخلناه فصح أننا ظلمنا كظلمهم ولم يحرم علينا ما حرم عليهم فبطل التعليل جملة إذ لو كان ظلمهم علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك فلما لم يكن هذا كذلك علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سببا لأن حرم عليهم ما حرم ولم يجعل ظلمنا سببا لأن يحرم علينا مثل ذلك فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شيء ما ولا يفعل ذلك في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشيء بعينه وهذا بطلان ما ادعاه خصومنا من العلل القياس نصا وقال تعالى لموسى عليه السلام { إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى } فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سببا لخلع نعليه ونحن نكون بذلك الوادي وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت المقدس ولا يلزمنا خلع نعالنا ولو كان دخول الوادي المقدس علة للخلع للزمنا ذلك وقال تعالى { إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين } قال أبو محمد هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شيء من الدين ولا أن يقول قائل لم حرم هذا وأحل هذا فقد صح قولنا إن قول القائل حرم البر بالبر لأنه مكيل أو أنه مدخل أو أنه مأكول بدعة نعوذ بالله منها فصل في تناقض قولهم في التعليل والقياس قال أبو محمد ونحن نورد إن شاء الله تعالى طرفا يسيرا من تناقضهم في التعليل لندل بذلك عن إفساد مذهبهم وإلا فتناقضهم لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة ولعل الله تعالى يعيننا على تقصي ذلك في كتاب الإعراب إن شاء الله تعالى فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها فكان يلزمهم أن يجعلوا ما حرم أكله محرما بيعه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل

كثير منهم يبيحون بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حيا كما هو محرم ولا خلاف في جواز بيع أكثره وكذلك فعلوا في قوله صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة فإنه عرق فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة كما جعلوا الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياسا على السمن لكنهم تناقضوا في ذلك وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس وهكذا يكون الباطل مرة مصحوبا ومرة متروكا وصح قولنا إن ما كان سببا في مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سببا في مكان آخر لم ينص عليه لمثل ذلك الحكم فقالوا معنى التعليل هو إجراء صفة الأصل في فروعه قال أبو محمد وهذا قول فاسد لأن جميع أحكام الشريعة كلها أصول فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة أصل جامع ثم النوازل فيها فروع إنما هي أجزاء من الصلاة ولا تسمى أجزاء الشيء فروعا له لأن الفرع غير الأصل والأجزاء ليست غير الكل فبطل ما موهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول وصح أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول ولا يوجد شيء منها إلا عن قرآن أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن إجماع ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام فقال بعضهم إن علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم فأجروا ذلك في كل مسجد فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة أن يلزم إلى المدينة لأن مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد مكة ومن مكة وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا فإذا ادعوا الإجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء الصيد بالمدينة وحرمه فقد قال بذلك بعض التابعين من الأئمة وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم صيده من صيد الحرم فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء العمل وتركوا القياس وتركوا أن يتعدوا النص ولو فعلوا هذا في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته وقالوا إن علة الحدود الزجر والردع

قال أبو محمد كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في الزنى بالأمة وفي السرقة ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا ولا كان الزنى أولى بذلك من القذف بالكفر أو بترك الصلاة ولا كان الزنى بذلك أولى من ترك الصلاة فظهر كذب دعواهم في ذلك والحمد لله رب العالمين وقالوا إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام على اختلافهم في ذلك قال أبو محمد وهذا أمر كان ينبغي لأهل التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا ويتركوا له قول ربهم تعالى فأول ذلك الكذب البحث أن أصل القصر المشقة ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون والذي به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها أولى بالقصر العظيم مشقة الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والإيماءة والتشهد صرف ذهنه إليها من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر ومن نهر إلى صيد ومن صيد إلى نزهة ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل إذا شاء إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من وطنه وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم فكيف على من يتعاطى التحريم والتحليل ويستدرك على ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إن هذا لهو الضلال المبين هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عز وجل بينهما في الفطر في رمضان وفي إباحة متيمم فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر لأنه أكثر مشقة منه وأحوج إلى الراحة فأين قياسهم وعللهم ثم هلك لو صح ما قالوه إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر وأعوذ بالله من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلا في سهل وأمن وظلال أشجار وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان ولفارس مريح قوي على سبعة وأربعين ميلا في أوعار وشعار وفي حمارة القيظ في تموز وفي خوف شديد لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم

فأباحوا للفارس الذي ذكرنا أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة ومنعوا الرجل المكدود في الوعر والحر من ذلك وقالوا لا بد له من الصيام والإتمام أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وأما نحن فنسأل أو من رسوله صلى الله عليه وسلم المبين مراد ربه تعالى ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان لأنهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم قال أبو محمد إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور فليت شعري أي شيء في منع المرأة من السفر يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة ومشي يوم وليلة يختلف ففي أيام كانون الأول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلا إلى الليل وفي أيام صدر حزيران في طيب الهواء وطول الأيام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك والسير يختلف فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج وبين مشي العساكر وبين مشي الرفاق وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة وبين مشي البريد في اختلاف الأزمان أشد الاختلاف وأعظم التباين فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام اتو اليوم التام ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف وهذا معروف بالمشاهدة وأيضا فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر على الإطلاق دون تحديد شيء أصلا فبطل احتجاجهم به

فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة نعم وابن عمر نفسه فقد صح عنه القصر في الأميال اليسيرة جدا وفي الميل وفي سفر ساعة وعللوا الشفعة في الأرضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في العبد والأمة يعتق الباقي بأن ذلك الضرر بالشريك وتناقضوا في ذلك في قولهم لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف وقد علم كل ذي عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع أعظم من الضرر في الأرضين فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على الشفعة في الأرضين خوف الضرر الداخل على الشريك وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه فيقولوا شريكه أولى بالهبة لئلا يدخل عليه ضرر فإن قالوا لم يرد أن يهبه قيل لهم وكذلك لم يرد أن يبيع منه فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا ولزمهم ألا يقيسوا أصلا ولا يتعدوا حدود الله في النصوص ولا يقيسوا الشفعة في التين والثمار دون سائر العروض على وجوبها في الأرضين والأشجار عندهم وهلا قاسوا من حبس شقصا له في أرض مشارعه على من أعتق شقصا له في عبد لاجتماعهما في الضرر ولكن هكذا يفضح الباطل أهله وكذلك يكون تناقض أهله وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه لأن الضرر في ذلك واحد وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئا فيوجبون عليه فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل قالوا نفعل ذلك قياسا على تقويم الشقص على المعتق فهلا قوموا على المعسر إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به دينا قال أبو محمد وفيما ذكرنا كفاية وقلما تخلو لهم مسألة من مثل ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وقال بعض حذاقهم قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال قوله مثال ذلك أن يقول الحنفي والمالكي لما كان الوقوف بعرفة لا يصح إلا بمعنى آخر

يقترن إليه وهو الإحرام وجب ألا يصح الاعتكاف إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الصيام فيقول الشافعي لما كان الوقوف بعرفة لا يقتضي الصيام وجب أن يكون الاعتكاف لا يفتقر إلى الصيام وعلتهم كلهم فيما ذكروا أن الوقوف بعرفة والاعتكاف لبث وإقامة في موضع مخصوص قال أبو محمد ومثل هذا لا يعجز أن يأتي به من استجاز الهذيان في حال صحته من البرسام ولو تتبعنا ترجيحاتهم العلل لأوردنا من ذلك مضاحك تغني عن كل ملهى وحسبنا الله ونعم الوكيل ومن تأمل كتب متأخريهم ومناظراتهم وتكلفهم إخراج العلل لكل حكم مختلف فيه أو مجتمع عليه في الشريعة كان فيه نص يعرفونه أو لم يعرفوا فيه نصا رأى كلاما لا يأتي بمثله سالم لدماغ أصلا إلا أن يكون سالكا سبيل المجون والسخافة ونعوذ بالله من الخذلان فصل الحكيم إلا لعلة قال أبو محمد وقالوا الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلة صحيحة والسفيه هو الذي يفعل لا لعلة فقاسوا ربهم تعالى على أنفسهم وقالوا إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده وراموا بذلك إثبات العلل في الديات قال أبو محمد وتكاد هذه القضية الفاسدة التي جعلوها عمدة لمذهبهم وعقدة تنحل عنها فتاويهم تكون أصلا لكل كفر في الأرض وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية الذين جعلوا برهانهم في إبطال الخالق لما رأوا الأمور لا تجري على المعهود فيما يحسن في عقولهم وأنه لا بد من علة للمفعولات وإذ لا بد من علة فلا بد لتلك العلة من علة وهكذا أبدا حتى يوجبوا كون أشياء لا أوائل لها وهي أيضا أصل لقول من قال إن الفاعل للعالم إنما هو النفس وأما الله تعالى فيحل عن أن يحدث هذه الأقذار في العالم وهذا الظلم الظاهر من استطالة بعض الحيوان على بعض

وهي أيضا أصل لقول من قال إن للعالم لم يزل وخالقه تعالى لم يزل لأنهم جعلوا علة الخلق وجوده تعالى ووجوده لم يزل فخلقه لم يزل وهي أيضا أصل لقول من قال بأن العالم له خالقان من المانية والديصانية لأنهم قالوا تعالى الله عن أن يفعل شيئا من غير الحكمة ولغير مصالح عباده فصح بذلك عندهم أن خالق السفه والشر ومضار العباد خالق آخر تعالى عن ذلك علوا كبيرا وهي أيضا أصل لقول من قال بالتناسخ لأنهم قالوا محال أن يعذب الحكيم من لم يذنب وأن يفعل شيئا إلا لعلة ومحال أن يعذب أقواما ليعظ آخرين أو ليجازي بذلك آخرين أو ليجازيهم بذلك وهو قادر على المجازاة بلا أذى ذلك هذا عبث فيما بيننا فلما رأيناه تعالى يعذب الأطفال بالجدري والقروح والجوع ويسلط بعض الحيوان على بعض علمنا أن ذلك لذنوب تقدمت لأنفس ذلك الحيوان وأولئك الصبيان وأنهم قد كانوا بالغين عصاه قبل أن تنسخ أرواحهم في أجسام الصبيان والحيوان وهي أيضا أصل لقول من أبطل النبوات كالبراهمة ومن اتبعها فإنهم قالوا ليس من الحكمة أن يبعث الله تعالى نبيا إلى من يدري أنه لا يؤمن به قال أبو محمد ثم حسدتهم المعتزلة على هذه القضية فأخرجوا على حكم الله تعالى وعن خلقه وقدرته وجميع أفعال العباد فضلوا ضلالا بعيدا وأثبتوا خالقين كثيرا غير الله تعالى وسلم الله تعالى من هذه البلية أهل الإثبات فنفس عليهم إبليس اللعين عدو الله السلامة فبغي لهم الغوائل ونصب لهم الحبائل ووسوس لهم القول بالعلل في الأحكام فوقعوا في القضية الملعونة التي ذكرنا وأصحب الله تعالى عصمته منها أصحاب الظاهر فثبتوا على الجادة المثلى وتبرؤوا إلى الله تعالى من أن يتعقبوا عليه أحكامه أو أن يسألوه لم فعل كذا أو أن يتعدوا حدوده أو أن يحرموا غير ما حرم ربهم أو أن يوجبوا غير ما أوجب تعالى أو أن يحلوا غير ما أحل عز وجل ولم يتجاوز ما أخبرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاهتدوا بنور الله التام الذي هو العقل الذي به تعرف الأمور على ما هي عليه ويمتاز الحق من الباطل ثم بنص القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للدين إذ لا سبيل إلى السلامة في الآخرة إلا بهذين السبيلين والحمد لله رب العالمين وهو المسؤول أصحاب الهداية حتى نلقاه على أفضل أحوالنا آمين

قال أبو محمد وكل هذه المقالات الفاسدة التي ذكرنا قد بينا بطلانها بالبراهين الضرورية في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل في الملل والنحل والحمد لله رب العالمين ونقول في ذلك ههنا قولا كافيا يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن أول ضلال هذه المسألة قياسهم الله تعالى على أنفسهم في قولهم إن الحكم بيننا لا يفعل شيئا إلا لعلة فوجب أن يكون الحكيم عز وجل كذلك قال أبو محمد وهم متفقون على أن القياس هو تشبيه الشيء بالشيء فوجب أنهم مشبهون الله تعالى بأنفسهم وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله { فاطر لسماوات ولأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن لأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو لسميع لبصير } ولو أن معارضا عارضهم فقال لما كنا نحن لا نفعل إلا لعلة وجب أن يكون تعالى بخلافنا فوجب ألا يفعل شيئا لعلة لكان أصوب حكما وأشد اتباعا لقوله { فاطر لسماوات ولأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن لأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو لسميع لبصير } وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنهم بهذه القضية الفاضحة قد أدخلوا ربهم تحت الحدود والقوانين وتحت رتب متى خالفها لزمه السفه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا كفر مجرد دون تأويل ولزمهم إن طردوا هذا الأصل الفاسد أو يقولوا لما وجدنا الفعل منا لا يكون إلا جسما مركبا ذا ضمير وفكرة وجب أن يكون الفعال الأول جسما مركبا ذا ضمير وفكرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال أبو محمد فهذا يلزمهم كما ذكرنا ثم نبين بالبرهان الضروري بطلان قضيتهم من غير طريق إلزامهم طردها فنقول بالله تعالى التوفيق إن الحكيم منا إنما صار حكيما لأنه انقاد لأوامر ربه تعالى ولتركه نواهيه فهذا هو السبب الموجب على الحكيم منا ألا يفعل شيئا إلا لمنفعة ينتفع بها في معاده أو لمضرة يستدفعها في معاده وأما الباري تعالى فلم يزل وحده ولا شيء معه ولا مرتب قبله فلم يكن على الله تعالى رتبة توجب أن يقع الفعل منه على صفة ما دون غيرها بل فعل ما فعل

كما شاء ولم يفعل ما لم يفعل كما لم يشأ فبطل تشبيههم أفعال الحكيم منا بأفعال الباري تعالى وأيضا فإنا لم نسم الله تعالى حكيما من طريق الاستدلال أصلا ولا لأن العقل أوجب أن يسمى تعالى حكيما وإنما سميناه حكيما لأنه سمى بذلك نفسه فقط وهو اسم علم له تعالى لا مشتق ويلزم من سمى ربه تعالى حتما من طريق الاستدلال أن يسميه عاقلا من طريق الاستدلال وقد بينا فساد هذه الطريقة وبطلانها وضلالها في كتاب الفصل فبطلت قضيتهم الفاسدة جملة وصح أنها دعوة فاسدة منتقضة وأما قولهم إنه تعالى يفعل الأشياء لمصالح عباده فإن الله تعالى أكذبهم بقوله { وإما تعرضن عنهم بتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا } فليت شعري أي مصلحة للظالمين في إنزال ما لا يزيدهم إلا خسارا بل ما عليهم في ذلك إلا أعظم الضرر وأشد المفسدة ولقد كان أصلح لهم لو ينزل وما أراد الله تعالى بهم مصلحة قط ولكنهم من الذين قال تعالى فيهم { وترى لشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات ليمين وإذا غربت تقرضهم ذات لشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات لله من يهد لله فهو لمهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا } قال أبو محمد ويقال لهم المصلحة جميع عباده فعل تعالى ما فعل أم لمصلحة بعضهم فإن قالوا لمنفعة جميعهم كابروا وأكذبهم العيان لأن الله تعالى لم يبعث قط موسى عليه السلام لمنفعة فرعون ولا لمصلحته ولا بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لمنفعة أبي جهل ولا لمصلحته بل لمضرتهما ولفساد آخرتهما ودنياهما وهكذا القول في كل كافر لو لم يبعث الله من كذبوه من الأنبياء لكان أصلح لدنياهم وآخرتهم وأيضا فلا شيء في العالم فيه مصلحة لإنسان إلا وفيه مضرة لآخر فليت شعري ما الذي جعل الصلاح على زيد بفساد عمرو حكمه وكل من فعل هذا بيننا فهو سفيه بل هو أسفه السفهاء والله تعالى يفعل كل ذلك وهو أحكم الحكماء فيلزمهم على قياسهم الفاسد وأصلهم الفاضح أن يسفهوا ربهم تعالى لأنه عز وجل يفعل ما هو سفه بيننا لو فعلناه نحن وقد وجدنا من أعرى بين الحيوانات بيننا حتى تتقابل كالديكة والكباش والقبج

وقتلها لغير أكل أنه غاية السفه والباري تعالى يفعل كل ذلك ويقتل الحيوانات لغير أكل ويسلط بعضها دون مثوبة للقاتل منهما ولا المقتول وهو أحكم الحاكمين وهذا خلاف الرتبة بيننا فبطل قوله إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده وصح بالضرورة أنه يفعل ما يشاء لصلاح ما شاء ولفساد ما شاء ولنفع من شاء ولضر من شاء ليس ههنا شيء يوجب إصلاح من صلح ولا إفساد من أفسد ولا هدي من هدى ولا إضلال من أضل ولا إحسان إلى من أحسن إليه ولا الإساءة إلى من أساء إليه لكن فعل ما شاء { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وهم دائبا يسألون ربهم لم فعلت كذا كأنهم لم يقرؤوا هذه الآية نعوذ بالله من الخذلان ونجده عز وجل قد حبب بين زوجين حتى أطاعاه وحبب بين آخرين حتى عصياه واشتغلا بما هما فيه عن الصلاة في أوقاتها وجذم صالحا وطالحا وسلم صالحا وطالحا وابتلى قوما فصبروا وابتلى قوما فكفروا وعافى قوما فصبروا وشكروا وعافى آخرين فبطروا وكفروا وعمر صالحا وصالحا أقصى العمر واخترم صالحا وطالحا في حداثة السن وجعل عيسى عليه السلام نبيا حين سقوطه من بطن أمه وآتى يحيى الحكم صبيا وبسط لفرعون أنواع الغرور حتى قال أنا ربكم الأعلى وخلق قوما ألباء فهماء كفارا كالفيومي اليهودي وأبي ريطة اليعقوبي وقوما ألباء فهماء مسلمين وقوما بلداء كفارا وقوما بلداء مسلمين فبأي شيء استحق عنده هؤلاء أن يرزقهم الفهم وهؤلاء أن يمنعهم إياه فإن قالوا لو رزق بلداء الكفار الفهم لكانوا ضررا على المسلمين أريناهم من ذكرنا ممن كان ضررا عليهم فصح تناقضهم وأكذبهم الباري عز وجل بقوله إنما نملى لهم ليزدادوا إثما وبقوله تعالى أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات فأخبر تعالى أنه إنما أملى لهم لضررهم لا لنفهم ولا لمصلحتهم وكذلك يكذبهم أيضا إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون

وكذلك قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فأبان الله تعالى كذبهم في قولهم إن الله تعالى إنما يفعل الشرائع لمصالح عباده وأيضا فقد كان أصلح لهم أن يدخلهم الجنة دون تكليف عمل ولا مشقة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننساأها نأت بخير منها أو مثلها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الناسخة إنما صارت خيرا لنا معشر المؤمنين بها خاصة إذ جعلها الله تعالى خيرا لنا لا قبل ذلك ولم يكن قط هنا سبب يوجب أن تكون خيرا لنا إلا أنه تعالى شاء ذلك بلا سبب ولا علة أصلا ويقال لهم وبالله تعالى التوفيق متى كانت الناسخة خيرا لنا إذ نسخ بها ما تقدم أو قد كنت خيرا لنا قبل أن يسنخ ما تقدم قإن قالوا كانت خيرا قبل أن يخاطبنا بها فقضوا أصلهم وأثبتوا أنه تعالى قد منعنا ما هو خير لنا مدة طويلة وإن قالوا بل صارنت خيرا لنا إذا نسخت هبا ما تقدم وإذ خاطبنا وأبطل بها الرتبة الأولى قيل لهم وما الذي أوجب أن تصير حينئذ خيرا لنا وما الذي أوجب أن تنتقل الرتبة الأولى عن كونها خيرا لنا أعلة متقدمة حكمت على البارى تعالى بذلك أم أنه شاء ذلك فقط فإن قالوا بل علة أوجبت ذلك على البارى عز وجل كفروا بإجماع الأمة وجعلوا الله تعالى مدبرا مصرفا تعالى الله عن ذلك فإن قالوا بل إنه شاء ذلك فقط رجعوا إلى أنه تعالى شاء ما فعل بلا علة أصلا ولم يشأ ما لم يفعل وأنه تعالى يريد ضلال من ضل ولم يرد به الهدى ولا المصلحة أصلا وبالله تعالى التوفيق وقد بين تعالى ذلك بقوله وفي آذانهم وقرا وبقوله تعالى ختم الله على قلوبهم فليت شعرى أي صلاح إرادة الله تعالى لمن ختم على قلبه وجعل في أذنيه وقرا عن قبول الحق نعوذ بالله من أن يريد منا ما أراد بهؤلاء ونقول لمن قال إنه تعالى أراد صلاحهم أن يدعو ربه أن يريد به من الصلاح ما أراد بهم

ونجده تعالى خلق الكلب مضروبا به المثل في الرذالة والخنزير رجسا وخلق الخيل في نواصيها الخير فأي علة وأي سبب أوجب على هذه الحيوانات أن يرتبها هكذا وما الذي أوجب أن يخترع بعضها نجسا وبعضها مباركا وبأي شيء استحقت ذلك قبل أن يكون منها فعل أو قبل أن توجد وأي علة أوجبت أن يخلق ما خلق من الأشياء على عدد ما دون ان يخلق أكثر من ذلك العدد أو أقل وأن يخلق الخلد أعمى والسرطان صارفا بصره أمام ووراء أي ذلك شاء والأفعى أضر من الخلد ولها بصر حاد فإن قالوا خلقها لتعتبر بها وعذب الأطفال بالأمراض ليعوضهم أو ليأخر آباءهم فهذا كله فاسد لأنه قد كان يعتبر ببعض ما خلق كالاعتبار بكله ولو زاد في الخلق لكان الاعتبار أكثر فلزم التقصير على قولهم تعالى الله على ذلك ولا فساد فيما بيننا أعظم من فعل من عذب آخر ليعطيه على ذلك مالا أو من فعل من عذب إنسانا لا ذنب له يعظ به آخر أو ليثبت على ذلك آخر وكل هذا يفعله البارى تعالى وهو أحكم الحاكمين فبطل قولهم إن الحكيم لا يفعل شيئا إلا لعلة قياسا على ما بيننا وأي فرق بين ذبح صغار الحيوان لمنافعنا وبين ذبح صغارنا لمنافعنا فيذبح ولد عمرو لمصلحة زيد إلا أن الله تعالى شاء فأباحه ولم يشأ هذا فحرمه ولو أحل هذا وحرم ذلك لكان عدلا وحكمة وإذا لم يفعله تعالى فهو سفه ولا علة لكل ذلك أصلا وقد أباح تعالى سبى نساء المشركين وأطفالهم واسترقاقهم قهرا وتملكنا رقابهم وأخذنا أموالهم غصبا لذنوب وقعت من آبائهم والدليل على أن ذلك لذنوب آبائهم أن آبائهم لو أسلموا لحرم علينا سبى أولادهم وتملكهم فما الذي جعل الأبناء مؤاخذين بذنوب غيرهم أو ما الذي جعل مصلحة أولى من مصلحة ابائهم وكل لا ذنب له لو فعل ذلك فاعل بيننا بغير نص من الله تعالى أما كان يكون أظلم الظالمين وأسفه السفهاء

الباب الأربعون وهو باب الكلام في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع على أنه خطأ عند الله تعالى فيما أراد إليه اجتهاده ومن لا يقع على أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه قال أبو محمد علي بن أحمد رحمه الله لفظة الاجتهاد مما يجب معرفة تفسيرها لأن أكثر المتكلمين في الاجتهاد وحكمه لا يعلمون معنا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن حقيقة بناء لفظة الاجتهاد أنه افتعال من الجهد وحقيقة معناها أنه استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه حيث يرجى وجوده فيه أو حيث يوقن بوجوده فيه هذا مالا خلاف بين أهل اللغة فيه والجهد بضم الجيم الطاقة والقوة تقول هذا جهدي أي طاقتي وقوتي والجهد بفتح الجيم سوء الحال وضيقتها تقول القوم في جهد أي في سوء حال فإذ ذلك كذلك فالاجتهاد في الشريعة هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم ما لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه قال أبو محمد وإنما قلنا في تفسير الاجتهاد العام حيث يرجى وجوده فعلقنا الطلب بمواضع الرجاء وقلنا في تفسير الاجتهاد في الشريعة حيث يوجد ذلك الحكم فلم نعلقه بالرجاء لأن احكام الشريعة كلها متيقن أن الله تعالى قد بينها بلا خلاف ومن قال إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يبن لنا الشريعة التي أراها الله تعالى منا وألزمنا إياها فلا خلاف في أنه كافر فأحكام الشريعة كلها مضمونة الوجود لعامة العلماء وإن تعذر وجود بعضها على بعض الناس فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس في وسعنا ما نعذر وجوده على الكل فلم يكلفنا الله تعاى إياه قط قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقال تعالى

وما جعل عليكم في الدين من حرج وبالضرورة ندرى أي تكليف أصابه مالا سبيل إلى وجوده حرج فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق ثم اتفق العلماء على أن القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قاله أو فعلعه أو أقره وقد علمه مواضع لوجود أحكام النوازل واختلفوا في نقل السنن على ما ذكرناه قبل وبينا البرهان هنالك بحول الله تعالى وقوته على وجوب قبول الخبر المسند بنقل العدول ثم اختلفوا فقالت طائفة لا موضع البتة لطلب حكم النوازل من الشريعة ولا وجود إلا هذه المعادن التي ذكرنا أما نص على اسم تلك النازلة وأما دليل منها على حكم تلك النازلة لا يحتمل إلا وجها واحدا وهذا قول جميع أهل الإسلام قطعا وإن اختلفوا في الطرق التي توصل إلى معرقة السنن وهو قول جميع اصحابنا الظاهريين وبه نأخذ وقد بينا أقسام الدليل المذكور فيما سلف من ديواننا هذا وحضرناها هنالك والحمد لله رب العالمين وقال آخرون بل ههنا مواضع أخر يطلب فيها حكم النازلة وهي الخبر المرسل وقال الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة إذا اشتهر وقال آخرون وإن لم يشتهر وقول الإمام الوالي منهم ودليل الخطاب والقياس والرأى المجرد والاستحسان وقول أكثر العلماء وعمل أهل المدينة والأخذ بقول عالم وإن كان له مخالف مثله وقد شرحنا معانى هذه الأسماء وأبطلنا الحكم بكلها أو بشيء منها بالبراهين الضرورية فيما سلف من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فأما تعلق قوم فيما اعتقدوه من أحكام بعض النوازل بقول صاحب له مخالفون أو بقول تابع أو بقول فقيه من الفقهاء المتقديم وإن خالفه غيره من أهل العلم فهذا هو التقليد الذي قد تكلمنا في إبطاله فيما سلف من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وليس للمتكلمين في الديانة اليوم قول يكون عندهم اجتهادا غير ما ذكرنا وقد كانت أقوال في ذلك لقوم من أهل الكلام قد درست مثل قول

بعضهم إن ما وقع في النفس من أول الفكر فهو الواجب ان يقال به وقال بعضهم الواجب أن يقال بالأثقل لأنه خلاف الهوى وقال بعضهم بل الأخف منها لقول الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قال أبو محمد وهذه أقوال فاسده لأنها كلها دعاوى يعارض بعضها بعضا وكل ما ألزمنا الله تعالى فهو يسر وإن نقل علينا وكل شريعة تتكلف فهى خلاف الهوى لأن تركها كان موافقها للهوى لأنه قد يقع في أوائل الفكر الوسواس وقال تعالى ذاما لقوم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ومن قطع بشيء مما يقع في نفسه من الدين فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فنص تعالى على أن من لا برهان له فليس بصادق وقال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم فهذا يدفع قول من قال بالأخف وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وهذا يدفع قول من قال بالأثقل وصح أنه لا لازم إلا ما ألزمنا الله تعالى وسواء وقع في النقس أو لم يقع وسواء كان أخف أو أثقل قال أبو محمد وإذ قد انحصرت وجوه الاجتهاد إلى ما قد وضحنا براهينه من القرآن أو الخبر المسند بنقل الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما نصا على الإسم وإما ليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا وسقط كل ما عداها من الوجوه التي قد حصرت فالواجب أن ننظر في أقسام المجتهدين فنظرنا في ذلك فوجدنا أقسام المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا وأما عند الله تعالى فقسمان لا ثالث لهما فالقسمان اللذان عند الله تعالى إما مصيب أو مخطىء لا بد أن يكون كل مجتهد عند الله تعالى واقعا في التعيين إما مصيب وإما مخطىء فقد أوضحنا فيما سلف من كتابنا هذا البراهين الضرورية على أن الحق لا يكون في قولين مختلفين في حكم واحد في إنسان واحد في وجه واحد

وأما الثلاثة أقسام التي عندنا فمصيب تقطع على صوابه عند الله عز وجل أو مخطىء نقع على خطئه عند الله عز وجل أو متوقف فيها لا ندري أمصيب عند الله تعالى أو مخطىء وإن أيقنا أنه في أحد الحيزين عند الله عز وجل بلا شك لأن الله تعالى لا يشك بل عنده علم حقيقة كل شيء ولكنا نقول مصيب عندنا أو مخطىء عندنا والله أعلم أو نتوقف فلا نقول إنه مخطىء ولا مصيب وإنما هذا فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل أصلا وما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهه إذ لا شك في أن عند غيرنا بيان ما جهلناه كما أن عندنا بيان كثيرا مما جهله غيرنا ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفله فإذا قال البرهان عند المرء على صحة قوله ما قياما صحيحا فحقه التدين به والعمل به والدعاء إليه والقطع أنه الحق عند الله عز وجل لما ذكرنا قبل وليس من هذا الحكم بالشهادة من العدلين وقد يكونان في باطن أمرهما عند الله تعالى كاذبين أو مغفلين وإذ لم يكلفنا الله تعالى معرفة باطن ما شهدا به ولكن كلفنا الحكم بشهادتهما وقد عملنا أنه لا يمكن أن يخفى الحق في الدين على جميع المسلمين بل بل لا بد أن تقع طائفة من العلماء على صحة حكمه بيقين لما قدمنا في كتابنا في هذا من أن الدين مضمون بيانه ورفع الإشكال عنه بقول الله تعال تبيانا لكل شيء وبقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم ولكن قد قال الله تعالى وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فصح بالنص أن الخطأ مرفوع عنا فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ وهو عند الله تعالى خطأ فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنه خطأ فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص القرآن فيما قالوه أو عملوا به مما هم مخطئون فيه وصح أن الجناح إنما هو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم أو العمل بمن يدرى أنه ليس حقا أو بما لم يقدم إليه دليل أصلا وصح بهذه الآية أن من قام عنده برهان على بطلان قول فتمادى عليه فهو في جناح لأنه قد تعمد بقلبه ذلك

وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران وقد ذكرناه بإسناده فيما سلف من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر فيما أداه اجتهاده إلى أنه حق عنده وأسقط عنه بذلك الإثم وإن كان مخطئا في الحقيقة عند الله تعالى قال أبو محمد واعتقاد الشيء والعمل به والفتيا به حكم به فدخل هؤلاء تحت لفظ الحديث المذكور وعمومه فصح ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ثم ينقسم المخطىء المجتهد قسمين لا ثالث لهما إما مخطىء معذور كما قلنا وإما مخطىء غير معذور على ما شهد به قول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم أن المخطىء المعذور هو الذي يتعمد الخطأ وهو الذي يقدر أنه على حق اجتهاده وأن المخطىء وغير المعذور هو من تعمد بقلبه ما صح عنده أنه خطأ أو قطع بغير اجتهاده فإن قال قائل فإنكم على هذا يلزمكم أن كل من قال من الصحابة أو من التابعين وفقهاء الأمة وخيارها بقول يخالف قولكم في كل مسألة فإنه داخل فيما ذكرتم من التكفير أو التفسيق أو الكذب وفي هذا ما فيه قلنا هذه دعوى منكم كاذبة بل هو اللازم لكم ولكل من قال إن الحق في واحد من الأقوال لأنكم في قوله لكم تزعمون في نصركم إياها أنها موافقة لما جاءه من عند الله تعالى إما لقرآن أو لسنة مسندة أو مرسلة وهما عندكم سواء في أمر الله تعالى بقبوله أو لقياس بل هو عندكم مما أمر الله تعالى به فيلزمكم أن كل من خالفكم فيها من صاحب أو تابع أو فقيه مخالف لما جاء من عند الله تعالى والمخالف لما جاء من عند الله تعالى عندكم إما كافر وإما فاسق فإن قال لا يكون كافرا ولا فاسقا ولا عاصيا إلا أن يعاند الحق الذي جاء من عند الله تعالى وهو يدري أنه حق قلنا هذا نفس قولنا ولله الحمد فإن كل من خالف قرآنا أو سنة صحيحة أو إجماعا متيقنا وهو لا يلوح له أنه مخالف لشيء من ذلك فليس كافرا ولا عاصيا ولا فاسقا بل هو مأجور أجرا واحدا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن اجتهد فأخطأ ولا خطأ في شيء من الشريعة إلا في خلاف قرآن أو سنة صحيحة فهذا برهاننا من السنة

وأما من القرآن فقوله تعالى للمسلمين { دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } ومن الإجماع أنه لا خلاف بين أحد من الأمة أن من قرأ فبدل من القرآن بلفظ آخر أو أسقط كلاما أو زاد ساهيا مخطئا فإنه لا يكفر ولا يبتدع ولا يفسق ولا يعصي وإنما الشأن فيمن قامت عليه الحجة فعند وخالف الآية بعد أن وقف عليها مقلدا أو متبعا لهواه أو خالف السنة بعد أن عرفها كذلك فهؤلاء هم الذين يقع عليهم التكفير والتفسيق على حسب خلافهم لذلك إن استحلوا خلاف ذلك كفروا وإن خالفوه معاندين غير مستحلين فسقوا وهكذا القول في الشريعة كلها ووطء الفرج الحرام وأكل الحرام واستباحة العرض الحرام والبشرة الحرام ونحو ذلك كل هذا من فعله مخطئا غير عالم أنه خالف ما جاء من عند الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يكفر ولا يفسق ولا يعصي ومن فعله عامدا غير معتقد لإباحة ما حرم الله تعالى من ذلك فهو فاسق ومن فعله عامدا مستحلا خلاف الله تعالى فهو كافر وقد نزه الله تعالى كل صاحب وكل فاضل عن هاتين المنزلتين وأوقع فيهما كل فاسق متبع هواه قاصدا إلى نصر الباطل والثبات عليه وهو يدري أنه باطل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فإذا قد صح كل ما قلناه فلنبين بحول الله تعالى وقوته وجوه الاجتهاد التي قدمنا وحكم من أخذ بوجه منها وفي أي خبر يقع عندنا من القطع بصوابه أو القطع بخطئه أو التوقف في أمره وبالله تعالى نعتصم فأول ذلك من تعلق بآية منسوخة فهذا لا يخلو من أحد وجهين إما أن تكون تلك الآية قد جاء نص منقول نقل تواتر بأنها منسوخة أو قال دليل متيقن النص أو الحال بأنها منسوخة فإن كان نسخها ثبت أحد هذه الوجوه فحكمها الثبات على ما بلغه من المنسوخ عند الله عز وجل بلا شك ما لم يثبت البرهان عنده بنسخها معذور مأجور مرتين فإذ قام عليه البرهان المذكور بأنها منسوخة فتمادى على ذلك من الأخذ بالمنسوخ معتقدا لصوابه في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم كمن تمادى على القول بأن المتوفى عنها وصية إلى الحول أو على القول بالصلاة إلى بيت المقدس وما أشبه ذلك

وأما إن قام الدليل عنده على أنها منسوخة من النص المتيقن كما ذكرنا إلا أنها مما اختلف الناس في نسخها فتمادى على القول بالمنسوخ وهو يعلم خلاف ذلك فهو فاسق عاص لله تعالى لتعمد قلبه القول بمخالفة الحق الصحيح فهو عامد كبيرة وبالله تعالى التوفيق فإن كانت تلك الآية مما قام الدليل على نسخها من نقل الآحاد وهو ممن يصحح مثل ذلك النقل فتمادى على القول بها فهو فاسق بتعمده مخالفة ما هو الحق عنده وإن كنا لا نقطع على أنه مخطىء وليس هذا فيما لم يأت من جهة الثقات مسندا فقط لكن من جهة من اختلف في توثيقه ولا بد ولا مزيد وهذا كمن رد شهادة العدلين من الحكام فيما يقبلان فيه بغير شيء يوجب رد شهادتهما فهذا فاسق لرده ما هو الحق عنده ولعله في باطن الأرض مصيب في ردها إذ لعلهما كاذبان أو مغفلان أو غاب عنهما سر تلك الشهادة فهذا أفضل وفصل ثان وهو أن يتعلق بآية مخصوصة مثل قوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } فهذه خاصة فيمن مات كافرا ببرهان نص آخر فهذه أيضا ما لم يقم عنده برهان بأنها مخصوصة فحكمه الثبات على المخصوص الذي بلغه وهو مأجور مرتين حتى إذا قام عليه الدليل البرهاني بأنها مخصوصة فكما قلنا في الفصل الذي قبل هذا وفصل ثالث وهو أن يتعلق بآية قد خص منها بعضها كقوله تعالى { قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } وكقوله تعالى { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } إلى قوله { ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما } وكقوله تعالى { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم } فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين فإن قام عليه البرهان فتمادى فإن كان صحيحا عنده فهو كافر كمن أحل الخمر بعموم هذه الآية أو أحل العبيد بملك اليمين

وفصل رابع وهو أن يتعلق بآية مزيد عليها نص آخر كمن تعلق بقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية إلى قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وقد زيد في هذه الآية تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ومثل هذا كثير فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين ما لم يقل عليه دليل بالزيادة فإن كان الدليل صحيحا عنده فخالفه معتقدا خلاف النص فهو كافر وفصل خامس وهو أن يتعلق بآية فيصرفها عن وجهها كمن ادعى في قول الله عز وجل { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } وقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أنهما مخالفان لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم باليمين مع الشاهد وموجبان ألا يحكم بأقل من الشاهدين أو شاهد وامرأتين قال أبو محمد وهذا تمويه تعمدوه أو جاز عليهم بغفلة أو صرف للآيتين عن وجههما وتمويه بوضعهما في غير موضعهما لأنه ليس في الآيتين المذكورتين أمر بالحكم بالشاهدين أو الشاهد والمرأتين أصلا ولا دليل على ذلك بوجه من الوجوه وإنما فيهما الأمر باستشهاد الشاهدين أو الشاهد والمرأتين المداينة والطلاق والرحمة فقط مع ما فيهما من قوله تعالى { وأشهدوا إذا تبايعتم } دون ذكر عدد إشهاد واحد يقع عليه اسم إشهاد وقوعا صحيحا في اللغة بلا شك فهو جائز بنص القرآن وكمن تعلق في إيجاب الزكاة بقوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } وهذا خطأ لأن إيتاء حق الزكاة فيما أنبتت الأرض لا يمكن يوم الحصاد وهي أيضا مكية والزكاة مدنية فصح أن من احتج بهذه الآية في أحكام الزكاة فصارف للآية عن وجهها فمن جهل هذه النكتة واحتج بهاتين الآيتين فيما ذكرنا فهو مخطىء لأنه لم يأمره الله تعالى قط بما ذهب إليه لكنه بجهله مأجور مرة معذور فإن وقف على ما ذكرنا فتمادى على قوله فهو فاسق أو كافر على ما قسمنا قبل مخطىء عند الله تعالى بيقين لما ذكرنا قبل قال أبو محمد وهذه الفصول كلها داخلة على من تعلق بالأحاديث كما ذكرنا قبل سواء بسواء كمن تعلق بحديث منسوخ أو مخصوص أو مخصوص منه أو مزيد عليه فهذا كما

قلنا في الآيات سواء بسواء إلا أنه لا يكفر إلا برد حديث ثبت عنده وإن كان مختلفا في الأخذ به فكما قلنا في الآيات إن خالف في ذلك ما هو الحق عنده معتقدا لذلك فهو كافر مخطىء عند الله تعالى وإن خالف ذلك بلسانه دون قلبه فهو فاسق ومما ذكرنا أيضا قول من احتج في إباحة الصلاة في المقبرة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء وهو لا يبيح الصلاة على القبر وأما لو اتخذ بهذا لكان هذا منه قياسا لا صرفا للخبر عن وجهه وكمن احتج بقوله صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث في رد الحج عن الميت وترك للصيام عنه وترك كشف رأسه إن مات محرما ومنها أن يدعي المرء في عموم آية نسخا أو تخصيصا أو تخصيصا منها أو ندبا فإن حق له دعواه في ذلك بنص صحيح فقوله حق مقطوع على صحته عند الله عز وجل ومن قال إن هذه الآية أو الخبر قد نسخها الله عز وجل أو خصهما أو خصص منهما أو يلزمنا ما فيهما أو أراد بهما غير ما يفهم منهما ولم يأت على دعواه بنص صحيح فقد قال الله ما لم يعلم قال أبو محمد وليس هؤلاء كمن تقدم ذكرنا لهم لأن من تعلق بنص لم يبلغه ناسخه ولا ما خصه ولا ما زيد به عليه فقد أحسن ولزم ما بلغه وليس عليه غير ذلك حتى يبلغه خلافه من نص آخر ومن ذكرنا في هذا الفصل فلم يتعلق بشيء أصلا بل تحكم في الدين كما اشتهى وهذا عظيم جدا فمن قال بهذا ممن نشاهده ساهيا غير عارف بما اقتحم فيه من الدعوى فهو معذور بجهله ما لم ينبه على خطئه فإن نبه عليه فثبت على خلاف ما بلغه عامدا فهذا غير معذور لأنه خالف الحق بعد بلوغه إليه وأما من روي عنه شيء من ذلك من الصحابة أو التابعين أو ممن سلف ممن يمكن أن يظن به أنه سمع في ذلك نصا شبه له فيه فهؤلاء معذورون لأننا لا نظن بهم إلا أحسن الظن وقد حضنا الله تعالى على أن نقول { ولذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا غفر لنا ولإخواننا لذين سبقونا بلإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنآ إنك رءوف رحيم } قال أبو محمد ولا يقين عندنا أنهم تحكموا في الدين بلا شبهة دخلت عليهم ولا شك أنهم لم يتبين لهم الحق في ذلك وأما من نشاهده أو لم نشاهده ممن صح عندنا بيقين حاله ومقدار عمله فنحن على يقين أنه ليس عنده في ذلك أكثر من الدعوى والقول على الله تعالى بما لا يعلم فهؤلاء فساق راكبون أعظم الكبائر ونعوذ بالله من الخذلان ومنها أن يتعلق بدليل الخطاب أو بالقياس فهذا أيضا معذور مأجور مخطىء عند الله تعالى بيقين إلا أنه لا يفسق ما لم تقم عليه الحجة في بطلان هذين العلمين فإن قام بذلك عنده البرهان من النصوص الثابتة المتظاهرة فتمادى على القول بالقياس أو بدليل الخطاب فهو فاسق لأنه ثابت على ما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قدمنا

ومنها أن يتعلق بالرأي والاستحسان وهذا أضعف من كل ما تقدم إذ الشبهة المتعلق بها في هذين الوجهين في غاية الوهاء لأنه دليل على صحتهما بل البرهان قائم على بطلانهما إلا أنهم قد تعلقوا في ذلك بأثرين واهيين ساقطين مصروفين أيضا عن وجههما أحدهما الحديث المنسوب إلى معاذ إلا أن من شبه عليه فظن أنه مصيب في ذلك فهو معذور مأجور فإن قامت عليه الحجة بطلان الرأي والاستحسان فثبت على القول بهما فهو فاسق لحكمه في الدين بما لم يأذن به الله تعالى ومنها أن يتعلق بقول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة أو بقول عالم ممن دونه ممن قد خالفه غيره من العلماء فهذا هو التقليد بعينه وليس من فعل هذا مجتهدا أصلا وهو حرام لا يحل فمن قد رأته معذور في ذلك ولم يبلغه المنع منه ولا بلغه أن ههنا عالما آخر مخالفا لهذا الذي تعلق به فهو معذور لأنه يظن أن هذا هو الحق وأما إذا بلغه أن عالما آخر مخالفا للذي تعلق هو به فهو فاسق لأنه ليس بيده شبهة أصلا يتعلق بها في اتباع رجل بعينه دون غيره بل هو ضلال مبين ونعوذ بالله من الخذلان وأما الوجوه التي لا تقع فيها على تفسيق المخالف لنا ولا على أنه مخطىء عند الله تعالى بل نقول نحن على الحق عند أنفسنا ومخالفنا عندنا مخطىء مأجور والله أعلم فأدق ذلك وأغمضه أن ترد آيتان عامتان أو حديثان صحيحان عامان أو آية عامة وحديث صحيح وفي كل واحدة من الآيتين أو في كل واحد من الحديثين أو في كل واحد من الآية والحديث تخصيص لبعض ما في عموم النص الآخر منهما وذلك مثل قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } مع قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما } وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن مع قوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الإمام وإذا قرأ القرآن فأنصتوا ومثل قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم فإن خصومنا يقولون { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } وقد خص منه الأختين بملك اليمين قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } وقلنا نحن إن قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } خص منه الأختين بملك اليمين قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين }

وقال خصومنا لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن خص منه المأموم قوله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن فأنصتوا وقلنا نحن قوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ القرآن فأنصتوا خص أم القرآن منه قوله لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن وقال خصومنا قول الله تعالى خص النساء منه قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم وقلنا نحن إن قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم خص سفر الحج قوله تعالى { فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين } قال أبو محمد فهذا وإن رجعنا استعمالنا للحديثين بدليل لازم صحيح فإن متعلق خصومنا هنا قوي ووجه خطأ من أخطأ ههنا خفي جدا دقيق البتة لا يؤمن في مثله الغلط على أهل العلم الواسع والفهم البارع والإنصاف الشائع وليس كسائر ما قدمنا مما تقود إليه العصبية ولا يخفى وجه الخطأ فيه على من أنصف أو تورع هذا ما لم يوجد فيه نص يشهد لأحد الاستعمالين فإن وجد نص صحيح بذلك عاد الأمر إلى ما قد ذكرناه في الفصول المتقدمة ولا بد من وجوده لأن الله تعالى قد ضمن لنا بيان الدين بقوله تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فلا يجوز البتة أن يبقى في الدين شيء مشكل بل هو كله مقطوع على أنه بين بيانا جليا والحمد لله رب العالمين الوجه الثاني أن يرد حديثان صحيحان متعارضان أو آيتان متعارضتان أو آية معارضة لحديث صحيح تعرضا مقاوما في أحد النصين منع وفي الثاني إيجاب في ذلك الشيء بعينه لا زيادة في أحد النصين على الآخر ولا بيان في أيهما الناسخ من المنسوخ كالنص الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب قائما والنص الوارد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما فإن من ترك الخبرين معا ورجع إلى الأصل الذي كان يجب لو لم يرد ذلك الخبران أو رجع أحد الخبرين على المعارض له بكثرة رواته أو بأنه رواه من هو أعدل ممن روى الآخر وأحفظ وما أشبه هذا من وجوه الترجيحات التي قد أوردناها في باب الكلام في

الأخبار من ديوننا هذا وبيان وجوه الصواب منها من الخطأ فإن هذا أيضا مكان يخفى بيان الخطأ فيه جدا وأما نحن فنقول بالأخذ الزائد شرعا إلا أننا نقول وبالله تعالى التوفيق إن من مال إلى أحد هذه الوجوه في مكان ثم تركه في مثل ذلك المكان وأخذ بالوجه الأخر مقلدا أو مستحسنا فما دام لم يوقف على تناقضه وتفاسد حكمه فمعذور مأجور حتى إذا وقف على ذلك فتمادى فهو فاسق عاص لله عز وجل لاتباعه الهوى قال الله تعالى { يداوود إنا جعلناك خليفة في لأرض فحكم بين لناس بلحق ولا تتبع لهوى فيضلك عن سبيل لله إن لذين يضلون عن سبيل لله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم لحساب } وكل من قال في الدين بقول لم يأت عليه ببرهان لكن بما وقع في نفسه الميل فإنه بيقين متبع لهواه والوجه الثالث أن يتعلق بحديث ضعيف لم يتبين له ضعفه أو بحديث مرسل أو ادعى تجريحا في راوي حديث صحيح إما بتدليس أو نحوه أو ادعى أن الناقل أخطأ فيه فمن اعتقد صحة ما ذكر من ذلك معذور مأجور حتى إذا ترك في مكان آخر مثل ذلك الحديث أو رد مرسلا آخر لإرساله فقط وأخذ بحديث آخر فيه من التعليل كالذي فيما قد رده في مكان آخر ووقف على ذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن لم تقطع على أنه مخطىء عند الله عز وجل لكن لإقدامه على الحكم في الدين بما قد شهد لسانه ببطلانه في موضع آخر فهو متبع هواه فهو ضال بالنص كمن حكم شهادة فاسقين يعلم فسقهما فيما لا يدري هو صحة شهادتهما به أو رد شهادة عدلين يعلم عدالتهما بغير حرج ثبت عنده بل علم منه ببطلان ما شهدا به فهذا فاسق بإجماع الأمة كلها وإن كان في الممكن أن يكون قد صادف الحق عند الله تعالى ولكن لما أقدم على خلاف ما أمر به بغير يقين كان عاصيا لله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان فإن قال قائل فكيف تقولون فيمن بلغه نص قرآن أو سنة صحيحة بخبر ليس من باب الأمر أنه قد جاء ذلك الخبر في نص آخر باستثناء منه أو زيادة عليه ولم يبلغه النص الثاني فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا بخلاف الأمر لأن الأوامر قد ترد ناسخا بعضها بعضا فيلزمه ما بلغه حتى يبلغه ما نسخه وليس الخبر كذلك بل يلزمنا تصديق

ما بلغنا في ذلك لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه في حق ولا نقطع بتكذيب ما ليس في ذلك الخبر أصلا وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لا تصدقوا أهل الكتاب إذا حدثوكم ولا تكذبوهم تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل أو كلاما هذا معناه فهذا حكم الأخبار الواردة في الوعظ وغيره وبالله تعالى التوفيق وما كان من الأخبار لا يحتمل خلاف نصه صدق كما هو ولزم تكذيب كل ظن خالف نص ذلك الخبر وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو عليه توكلت قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه قد انتهينا من الكلام في الأصول إلى ما أعاننا الله تعالى عليه ويسرنا له على حسب ما شرطنا في أول كلامنا في ديواننا هذا من التقصي والاستيعاب نسأل الله عز وجل أن يجعله لوجهه ودعاء إليه ونصرا له وأن يدخلنا بما من به علينا من ذلك في جملة من أثنى عليهم بقوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى لخير ويأمرون بلمعروف وينهون عن لمنكر وأولئك هم لمفلحون } وبقوله تعالى { لذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا لله ولولا دفع لله لناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها سم لله كثيرا ولينصرن لله من ينصره إن لله لقوي عزيز } قال أبو محمد فلنختم كلامنا بما ابتدأنا به فنقول والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليما ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم