إحكام ابن حزم - الجزء الثالث
فصل في النسخ بالإجماع قال أبو محمد النسخ بالإجماع المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم جائز لأن الإجماع أصله التوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إما بنص قرآن أو برهان قائم من آي مجموعة منه أو بنص سنة أو برهان قائم منها كذلك أو بفعل منه عليه السلام أو بإقرار منه عليه السلام لشيء علمه فإذا كان الإجماع كذلك فالنسخ به جائز قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن الإجماع صح على أن القتل منسوخ على شارب الخمر في الرابعة قال أبو محمد وهذه دعوة كاذبة لأن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان قال أبو محمد وبهذا القول نقول وبالله تعالى التوفيق فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد وقد أجاز قوم نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد وهذا قول تقشعر منه الجلود والقياس باطل والكلام في إبطاله مكان من هذا الديوان إن شاء الله تعالى ومن العجب العجيب أن القائلين بهذا الأمر العظيم يمنعون من نسخ القرآن بالسنة فهل في عكس الحقائق أعظم من هذا وإذا كان القياس باطلا فالباطل لا يحل استعماله ولا ترك الحقائق له وقد أجاز قوم نسخ السنة بقول الصاحب قال أبو محمد وهذا كفر من قائله وخروج عن الإسلام لقوله تعالى { أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون } ولقوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فهذا تكذيب للباري تعالى ومن كذب وأجاز لأحد أن يزيد في الدين
أو يبدله أو ينقص منه فقد كفر فمن أضل ممن دان بأن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل برأيه وإرادته دينا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن الأمة مجمعة بلا خلاف على أن خبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد أن يعارضه بنظر وخبر الواحد إذا صح عند القائلين به كخبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعة ولا فرق فمن أجاز نسخه بنظر أو معارضته بقياس فقد تناقض وخرج عن الإجماع وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق
الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام قال الله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } وأنبأنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم وبه إلى مسلم قال ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال حدثنا زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن حمى الله محارمه وقال تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقال تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }
قال أبو محمد فوجدناه تعالى قد حض على تدبر القرآن وأوجب التفقه فيه والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن المتشابهات التي بين الحرام البين والحلال البين لا يعلمها كثير من الناس فكان ذلك فضلا لمن علمها فأيقنا أن الذي نهى عز وجل عن تتبعه هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط صلى الله عليه وسلم عالمه هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه إذ لا يجوز أن يكلفنا تعالى طلب شيء وينهانا عن طلبه في وقت واحد فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه لنتفقه فيه وأن نعرف أي الأشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه فنظرنا في القرآن وتدبرناه كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها صحة النبوة وإلزامنا الإيمان بها فعلمنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه فأيقنا أن ذلك مما أمرنا بالتفكير فيه بقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } وبقوله تعالى { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } مثنيا عليهم فأيقنا أنه ليس من المتشابه ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه ووعيد حذرنا منه وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة ونفر عن النار فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتتبعه وإنما طلبناه
لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضا فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من المتبعين له وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه قد أوجع صبيا على سؤاله عن تفسير والذاريات فصح ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان فلم يبق غيرهما فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور مثل { كهيعص } و { حم عسق } و { ن } و { الم } و { ص } و { طسم } وحرام أيضا على كل مسلم أن يطلب معاني الأقسام التي في أوائل السور مثل { والنجم } و { الذاريات } { والطور } { والمرسلات عرفا } { والعاديات ضبحا } وما أشبه ذلك قال أبو محمد وقد قال قوم إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأن هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته وأيضا فإن ما اختلف فيه فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وقوله تعالى { بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } فالبيان مضمون موجود فمن طلبه طلبا صحيحا وفقه الله تعالى وأيضا فإن الأحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها وابتغاء تأويلها وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابها وإذا بطل ذلك صح أنه محكم ولا يضر الحق جهل من جهل ولا اختلاف من اختلف فيه وقال آخرون المتشابه هو ما تقابلت فيه الأدلة قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأنه دعوى من قائله بلا برهان ورأي
فاسد ولأن تقابل الأدلة باطل وشيء معدوم لا يمكن وجوده أبدا في الشريعة ولا في شيء من الأشياء والحق لا يتعارض أبدا وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق ولإشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان وليس جهل من جهل في إبطال الحق ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلا وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا التقريب وكتابنا الموسوم بالفصل وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد وأكذبه ربه تعالى إذ يقول { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وإذ يقول تعالى { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } وبقوله تعالى { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين } فصح أن متشابه الأحكام الذي ذكر صلى الله عليه وسلم أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز وجل بسؤالهم إذ يقول تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وقد قال قوم إن قوله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } معطوف على الله عز وجل قال أبو محمد وهذا غلط فاحش وإنما هو ابتداء وخبره في { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } والواو لعطف جملة على جملة وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه وأخبر أن متبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة وحذر النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتبعه ولا سبيل إلى علم معنى شيء دون تتبعه وطلب معناه فإذا كان التتبع حراما فالسبيل إلى علمه مسدود وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلا فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدا وأيضا فإن فرضا على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم يقول الله تعالى { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون } وبقوله عز وجل { إن الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }
قال أبو محمد فلو علمه الراسخون في العلم لكان فرضا عليهم أن يبينوه للناس ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين ولو بينوه لعلمه الناس ولو علمه الناس لكان محكما لا متشابها ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم وهذا ضد ما قال تعالى فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين فصح أن تلك المتشابهات ليست حراما في ذاتها على من جهلها خاصة ليست حراما عليه إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين قال أبو محمد وبين صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم قال أبو محمد فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره والتفقه فيه كما ذكرنا وقد تأول قوم في قوله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غدا نسخه فيحملون معنى تأويله على أنه مآله أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا إله إلا الله تعالى
قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه دعوى بلا برهان وما كان هكذا هو باطل بيقين لقول الله تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه نعوذ بالله من هذا وليكن هذا تخصيصا للآية بلا دليل وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لأننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبدا وقال قوم أيضا إن معنى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله قال أبو محمد وهذا أيضا فاسد كالذي قبله لأنه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه ولأنه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز وجل وقد أبطلنا قول من قال إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق
الباب الثاني والعشرون في الإجماع وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع قال أبو محمد اتفقنا نحن وجميع أهل الإسلام جنهم وإنسهم في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق لازم لكل أحد وإنه دين الإسلام ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الإجماع يقينا وأن من عاج عن شيء من ذلك فلم يتبع الإجماع وكذلك إجماع أهل الإسلام كلهم جنهم وإنسهم في كل زمان وكل مكان على أن السنة واجب اتباعها وأنها ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع السنة يقينا ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان ومن أتى بعدهم من الأئمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع السنة ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري وأننا أهل الإجماع كذلك والحمد لله رب العالمين ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل ثم اختلفنا فقالت طائفة هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص وقلنا نحن هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين في أي قول
المختلفين هو الحق لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص هو صاحب الحق المأجور مرتين مرة على اجتهاده وطلبه الحق ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له ويكون من خالف ذلك النص غير مستجيز لخلافه لكن قاصدا إلى الحق مخطئا مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق مرفوعا عنه الإثم إذا لم يعمد له وقد تيقن ألا يختلف المسلمون في بعض النصوص ولكن يوقع الله عز وجل لهم الإجماع عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت قال الله عز وجل { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قالوا فافترض الله طاعة أولي الأمر كما افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضا ولا فرق فلو كان عز وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان لتكرار الأمر بطاعتهم بمعنى لأنه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط لأنها على قولكم معنى واحد فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الإجماع تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا وقالوا أيضا قال عز وجل { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } قالوا وهذه كالتي قبلها وقالوا أيضا قال الله عز وجل { ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا } قالوا فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه من أي وجه أجمعوا عليه لأنه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه
وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة قالوا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبى عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله زاد العتكي وسعيد في روايتهما وهم كذلك وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفريري ثنا البخاري ثنا الحميدي ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا فصح أنه لا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غير الحق أبدا لأنه صلى الله عليه وسلم قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا قال أبو محمد وقد روي أنه عليه السلام قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما لهم حجة غير هذا أصلا قال أبو محمد وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الإجماع وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم أحدهما تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص والثاني دعواهم الإجماع في مواضع ادعوا فيها الباطل بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا وإما في مكان لا نعلم نحن فيه
اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن نعم وقد خالفوا الإجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فإذا الأمر هكذا فلا حجة لهم في شيء من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم إنما الأخبار التي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به وهكذا نقول وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق وأما قوله تعالى { ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا } فإنها حجة قائمة عليهم والحمد لله رب العالمين وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط لا مع مشاقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين الهدى وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين بل هو سبيل الكفر قال الله تعالى { إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون } قال أبو محمد هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم وأما قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقوله تعالى { وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا } فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الأول فيه في من هم أولي الأمر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قال هم الأمراء
وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال هم الفقهاء وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور عن هشيم وسفيان بن عيينة قال هشيم أخبرنا أبو معاوية ومنصور وعبد الملك بن معاوية عن الأعمش عن مجاهد ومنصور عن الحسن وعبد الملك عن عطاء وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال أبو محمد فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون ولا صح بذلك إجماع فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان لأنه مع ذلك تقويل لله عز وجل ما لم يقل ونحن نقطع بأنه تعالى لو أراد بعض أولي الأمر دون بعض لبينه لنا ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما فنقول إن أولي الأمر منا وإذ هذا هو الحق فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الأمراء العلماء فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فصح أن طاعة العلماء الأمراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به مما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط وأما قولهم إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالأمر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الأمر فكلام فاسد لأنه يقال لهم إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الأمر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا إن أمره تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل دليل على أنه عز وجل إنما أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله من عند نفسه لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا برهان وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه السلام وللإجماع المتيقن إذ جوزتم أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع لم يوح الله تعالى بشيء منها إليه قط والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول { قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون }
وإذ يقول عز وجل مخبرا عنه صلى الله عليه وسلم { وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى } فأخبر تعالى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى إليه فقط فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بينها رسوله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكذب من قال هذا إذ يقول { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا وأما تكرار الله تعالى الأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه تعالى وتكراره الأمر بطاعة أولي الأمر بعد أمره بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الأمر وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الأمر بطاعته فقط لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا إلا معاند له ولو لم يأمرنا تعالى إلا على الأمر بطاعة أولي الأمر منا لأمكن أن يهم جاهل فيقول لا يلزمنا طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما سمعنا منه مشافهة فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لو كان هذا لما كان قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } معنى لأن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم فواجب قبوله اتفق عليه أو اختلف فيه فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الأمر ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسوله
قلنا ليس في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير 9 وأحسن تأويلا } خلاف لأمره تعالى بطاعة أولي الأمر بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن والسنن المبلغة إلينا فقط ولكن في قوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه والأمر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة فوجب ذلك وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه وهكذا في سائر الشرائع أفهكذا القول عندكم و أمرنا بذلك بعد جميع أهل الأرض فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا لا فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الأمر فإن قالوا هذا محال لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لأنه كفر وضلال قلنا صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم برأي أو بقياس ولا فرق فبطل أن يكون لهم في شيء من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه والحمد لله رب كثيرا وقالوا لو كان الإجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا لأن الله تعالى قال { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون } فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الإجماع ليس على نص قال أبو محمد وهذا كلام أوله حق وآخره كذب ونحن نقول لا إجماع إلا عن نص وذلك النص إما كلام منه صلى الله عليه وسلم فهو منقول ولا بد محفوظ حاضر وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك وإما إقراره إذ علمه فأقره ولم ينكره فهي أيضا حال منقولة محفوظة وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف
فهو إجماع قلنا له وهذا تدبير من الكذب والدعوى الأفيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا مفرد لبعض قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية قال أبو محمد وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا قال عز وجل { تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص وبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص لأن النص باطل والإجماع حق والحق لا يوافق الباطل وقد ذكرنا قوله تعالى { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم } فصح أنه لا يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الدين وهذا باطل أن يجمع على شيء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط وصح أيضا بضرورة العقل أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال { أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم } قال أبو محمد ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه فنقول له وبالله تعالى التوفيق أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في
الأمصار أم هذا ممتنع غير ممكن البتة فإن قال هذا ممكن كابر العيان لأن علماء أهل الإسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا فصار بعضهم في اليمن في مدنها وبعضهم في عمان وبعضهم في البحرين وبعض في الطائف وبعض بمكة وبعض بنجد وبعض بجبل طيىء وكذلك في سائر جزائر العرب ثم اتسع الأمر بعده عليه السلام فصاروا من السند وكابل إلى مغارب الأندلس وسواحل بلاد البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم فإن قال ليس اجتماعهم ممكنا قلنا صدقت وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولا لا نص فيه أتقطع على أنه حق وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا أم تقف فيه فإن قال أقطع بأنه حق قلنا حكمت بالغيب وبما لا تدري وحكمت بالباطل بلا شك فإن قال بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم فلا بد من نعم فيقال لهم فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا فمن قوله نعم فيقال له فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا وهذا حكم على الله تعالى وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلا لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم وعلموه
ببدائة عقولهم فقط وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف وهذا برهان قاطع ضروري وأما الإجماع على القياس فيبطل من قرب لأنهم لم يجمعوا على صحة القياس فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه قال أبو محمد فاعترض فيها بعض المخالفين فقال قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد قال أبو محمد وهذا باطل ومخرقة ضعيفة لأن المسلمين لم يختلفوا قط في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه صلى الله عليه وسلم والذين لا يقولون بخبر الواحد ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد فإنهم يقولون إنما قلنا به لأنه نقل كافة لا لأنه خبر واحد فإن قلتم إن من القياس ما يوافق النص قلنا لكم المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه وكذلك لا يجوز الإجماع على قول إنسان دون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطىء فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين فإنما هو باتباع النص فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الإجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرونا عما جوزتم من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير نص هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات صلى الله عليه وسلم ولم يحرمه أو على تحليل شيء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حرمه أو على إيجاب فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبه وكل هذه الوجوه كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الإسلام ولا فرق بين هذه الوجوه وبين من جوز الإجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها أو على إيجاب صلوات غيرها أو ركوع زائدة فيها أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب
صوم شهر رجب أو على إبطال الحج إلى مكة أو على إيجابه إلى الطائف أو على إباحة الخنزير أو على تحريم الكبش كل هذا كفر صراح لا خفاء به فإن قالوا كل هذه نصوص وإنما جوزنا الإجماع على ما لا نص فيه قلنا وكل ما ذكرنا لا نص فيه وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين فإن قالوا هذا لا يجوز رجعوا إلى قولنا من قرب ومن أجاز شيئا من هذا كفر وبالله تعالى التوفيق وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه واعلموا أن قولهم هذه المسألة لا نص فيها قول باطل وتدليس في الدين وتطريق إلى هذه العظائم لأن كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات صلى الله عليه وسلم فقد حلله بقوله تعالى { هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم } وقوله { وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين } وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها وأما كل ما نص يأمر به صلى الله عليه وسلم بالأمر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لأحد مخالفته فصح أنه لا شيء إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد ثم نقول لهم أيضا أخبرونا عن الإجماع جملة هل يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شيء من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر مجرد كما قدمنا أو يكون إجماع الناس على شيء منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد
عنها أصلا وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه بل الحق حق وإن اختلف فيه وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به ولولا صحة النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل لقلنا والباطل باطل وإن أجمع عليه لكن لا سبيل إلى الإجماع على باطل قال أبو محمد فإذا الأمر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فإن قيل فقد صححتم الإجماع آنفا ثم توجبون الآن أنه لا معنى له قلنا الإجماع موجود كما الاختلاف موجود إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقله إلينا الأمر منا على ما بينا فقط ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما وحي مثبت في المصحف وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف وهو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } وقال تعالى { وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى } ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها إما شيء نقلته الأمة كلها عصرا بعد عصر كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه وإما شيء نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك وقد يختلف فيه كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه ما أجمع على القول به ومنه ما اختلف فيه فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة ومن ادعى
غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري ويقول ما لا علم له ويقول بما لا يفهم ويدين بما لا يعرف حقيقته وبالله تعالى التوفيق وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع قال أبو محمد ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع لا علينا أن نذكرها إن شاء الله تعالى وإن كنا قد بينا آنفا أنه لا حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف وإنما الفرض على الجميع والذي يحتاج إليه الكل فهو معرفة أحكام القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الإجماع ليعظموا خلاف من خالفه ويزجروه عن خلافه فقط وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جرأة على الكذب حيث الاختلاف موجود فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فقالت طائفة الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا وقالت طائفة إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة منهم إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح وليس لهم ولا لأحد بعد أن يقول بخلافه وقالت طائفة منهم أخرى بل يجب مراعاة ذلك العصر فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك ولا يكون ذلك إجماعا وقالت طائفة إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا وقالت طائفة بل إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا وقالت طائفة إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال فلا يسع أحدا الخروج على تلك الأقوال كلها له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده
وقالت طائفة ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لأحد وقالت طائفة ليس إجماعا وقالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد وقول الجمهور هو إجماع صحيح وهذا قول محمد بن جرير الطبري وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة قول الجمهور والأكثر إجماع وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة إجماع كل أهل المدينة هو الإجماع وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا فقال ابن بكير منهم وطائفة معه سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه إنما ذلك فيما كان نقلا فقط وقالت طائفة إجماع أهل الكوفة وهذا قول بعض الحنفيين وقالت طائفة إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم فهو إجماع وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين وقال بعض الشافعيين إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر ولم يعرف له منهم مخالف وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا بل خلافه جائز ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى التلاعب بالدين كقول بعض الحنفيين ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء شذوذ خرق الإجماع وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة ورد عليه وكان قوله إنه ليس لأحد أن يخرج عن اختيارات الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح قال أبو محمد أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى { لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون } وقوله تعالى { وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }
فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى وأن حدود الله ليست إلا في كلامه وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الصادقين بل هو كاذب آفك ضال مضل وبالله تعالى التوفيق إلا أنه لا بد بحول الله تعالى من بيان شبه هذه الأقوال الفاسدة التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا فيكون خيرا لنا من حمر النعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم ولم يقع منهم نكير له فهو إجماع صحيح فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا حاكم لنا عليهم وموجب لنا أننا المتبعون للإجماع وأن مخالفينا كلهم مخالفون للإجماع بإقرارهم والحمد لله رب العالمين كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الأعصار بعدهم وأي شيء هو الإجماع وبأي شيء يعرف أنه إجماع قال أبو محمد قال سليمان وكثير من أصحابنا لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين
إجماعا إنما الإجماع إجماع جميعهم وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم وليس من بعدهم كذلك قال أبو محمد أما قوله إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وإنما الكلام في الأعصار بعدهم وقد عارضه مخالفوه بأن قالوا قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة فهذا يدخل في التوقيف وأما قوله إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة وهو أنه قال إن كان هكذا فإنه مذ ماتت خديجة رضي الله عنها أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا فقل إن الإجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد فعارضه بعض أصحابنا بأن قال نعم هذا حق ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا قال بعض أصحابنا لا ولكن نقول إن كل من مات منهم رضي الله عنهم فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بلا شك وليس كذلك من بعدهم لأنه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به صلى الله عليه وسلم بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الإجماع بهذه الجملة فعارضه المخالف فقال إن الأمر وإن كان كذلك فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمر وخالد وأبو السنابل وغيرهم فإن لم يعتد هذا خلافا لأنه وهم من صاحبه فلا يعتد بخلاف أحد من أهل الإسلام للنص إذا خالفه متأولا باجتهاده لأن كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف قال أبو محمد وهذا اعتراض غير صحيح ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من أن
من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم لأن كل حكم نزل من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا ذلك الحكم لأنه لم يبلغهم وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه قال عز وجل { قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون } وإنما كان يراعي إجماعهم عليه أو خلافهم له لو بلغهم وليس من بعدهم إذا بلغ الحكم كذلك بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم وأما قوله إن عدد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم وليس كذلك من بعدهم فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم في البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة قال أبو محمد وأما من قال إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله قال أبو محمد ونحن إن شاء الله مبينون كيفية الإجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة وبالله تعالى التوفيق فنقول إن الإجماع الذي هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى لكن ينقسم قسمين أحدهما كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام في أن من لم يقل به فليس مسلما كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكوجوب الصلوات الخمس وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير والإقرار بالقرآن وجملة الزكاة فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام والقسم الثاني شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه وسلم منهم كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر أو
وصل إليه يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به على أن هذا القسم من الإجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للإجماع ولا سبيل إلى أن يكون الإجماع خارجا عنهما ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما ولا يمكن أحدا إنكارهما وما عداهما فدعوى كاذبة وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين فقد كذب على جميع أهل الإسلام ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا ابن الورد نا أحمد بن حماد زغبة نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى يعني عمر فتشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا بما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن ولا في سنة وأنه ليس كما قال ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح وأن وجوب اتباع النصوص هو الإجماع الصحيح وهو قولنا والحمد لله رب العالمين وأن من خالف هذين القولين فقد خالف الإجماع الصحيح وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله أو جهل وكده الاحتجاج بجميع
أقوال إنسان بعينه كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة ولجميع عصر التابعين ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم فنحن ولله الحمد المتبعون للإجماع وهم المخالفون للإجماع المتيقن نسأل الله تعالى أن يفيء بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه فصل في من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه وأما من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه فقول صحيح وضعوه موضع تلبيس وأخرجوه مخرج تدليس وصارت كلمة حق أريد بها باطل وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه فإن الاختلاف فيه سائغ جائز قال أبو محمد وهذا باطل بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سواء في هذا الباب فهلا يحل لأحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه فإن قيل فهلا عذرتم من خالف الإجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف قلنا كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للوحي المنزل إليه وأنه لا يحل لأحد خلاف شيء من ذلك فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير لم يتبين له الحق ولا فهمه فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف فيه هو مخطىء معذور مأجور مرة كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالإجماع عليه فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد لكنه مقدر أنه كذلك فهذا لا إثم عليه ولا حرج وهكذا في كل شيء ومن عمد فخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه وسلم له بقلبه ولسانه فهو مؤمن فاسق كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها لا الأقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق فصل في من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع وأما من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع فمن أحسن قول قيل لأن عصر الصحابة رضي الله عنهم اتصل مائة عام وثلاثة أعوام لأن سمية أم عمار رضي الله عنها ماتت في أول الإسلام ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث عاما عاما ومن مات في خلال ذلك إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم لأنه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الأنصار رضي الله عنهم قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لأنهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين وبقوا كذلك تمام عام ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات كلهم يعرف اسمه وحسبه وهم أهل بيعة العقبة وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال لأنهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين وهم الجمهور إلا من شاهد منهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم الأقل وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم من جميع جزيرة العرب كبلاد اليمن والبحرين وعمان والطائف وبلاد مصر وقضاعة وسائر ربيعة وجبلي طيىء والنجاشي فكل من لم يلق منهم النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين فلم يزل التابعون يموت منهم
الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر مقدار مائة عام وثلاثة أعوام ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة ويضبط أنفاسهم وإجماعهم هل اختلفوا بعد ذلك أم لا فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الأول بدهر طويل أكثر من مائة عام وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة وهكذا تتداخل الأعصار إلى يوم القيامة وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت بين الأمرين فرق كما بين النور والظلمة لأن الذي تباينت به الأعصار المذكورة هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين وليس كذلك جواز الفتيا لأنه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة وهذا باطل أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الأعصار وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا لأنه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده فإنه كان له ولغيره من التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم من الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا وليت شعري متى يمكنه التطوف عليهم في آفاقهم بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيد واحد ما في الرعونة أكثر من هذا ولا في الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال
فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لأن الاختلاف لا حكم له إلا الإنكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطىء معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما ثم أجمع أهل عصر ثان على أحد الأقوال التي اختلف عليه أهل الماضي فليس لأحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب وقد قلنا إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه إنما هو حق أو خطأ والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص ولا يحل لأحد أن يخطىء لأنه يعذر بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى التوفيق ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما على خلاف نص ثابت لأن خلاف النص باطل ولا يجوز إجماع الأمة على باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق فصح أن هذا القول الذي صدرنا في الباب فاسد
فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة وأما قول من قال إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد فإن ما لم يقولوه قد صح الإجماع منهم على تركه فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين فما فوقها خطأ على خطأ لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الأقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا صحيحا خارجة عن الإمكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به قال أبو محمد فموهوا ههنا بأن قالوا قد صح الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع من بيع أمهات الأولاد وكان بيعهم على عهده صلى الله عليه وسلم حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ولم يكن ذلك على عهده صلى الله عليه وسلم وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا كذبتم وأفكتم أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ونحن نسألكم ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب أو بقلع أضراس آكل الخنزير وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر ومن أجاز هنا فقد خرج عن الإسلام وكفر كفرا صراحا ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم وإنما جلد عمر الأربعين الزائدة تعزيرا كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين ويا معشر من لا يستحي من الكذب أين الإجماع الذي تدعونه وقد صح أن
عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر بحضرة الصحابة جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج مولى ابن عامر ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها قال عثمان يا علي قم فاجلده فقال علي يا حسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة فإن كان ضرب الثمانين إجماعا فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الإجماع ومخالف الإجماع عندهم كافر فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم وحاشا للأئمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر ومن مخالفة الحق ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى فإن قيل فما معنى قول علي وكل سنة قلبا صدق لأن التعزير سنة فإن قيل إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا فهذا جائز وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني حدثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا خالد بن الحارث حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين أنه حدث قال سمعت ابن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه
قال أبو محمد فاعجبوا لعمى هذا الإنسان يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه بحديث مملوء عللا أولها أن راويه مختلف فيه مرة عمير بن سعيد ومرة عمير بن سعد ومرة نخعي ومرة حنفي ثم الطامة الكبرى كيف يجعل هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود فإن كان حقا وسنة فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود وفي هذا كفاية ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام ثم لو صح لكان وجهه بينا وهو أنه إنما يجد في الأربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا ثم نقول لهم لو ادعى عليكم ههنا خلاف الإجماع لصدق مدعي ذلك عليكم لأنكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين وقد كان استقر الإجماع قبله على أربعين فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الإجماع ونسبتم عمر إلى خلاف الإجماع وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم وإقراركم على أنفسكم لازم لكم فإن لجأتم إلى مراعة انقراض العصر لزمكم مثله في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق وأما أمهات الأولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب لأن عبد الله بن الربيع قال ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا فهذا عمل الناس أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت أنبأنا أحمد بن عون الله أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني أنبأنا محمد بن بشار أنبأنا محمد بن جعفر غندر أنبأنا محمد بن سعيد بن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه فلما صلى سألاه فقال لأحدهما من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني
وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام وقال وسألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن زيد بن وهب قال مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له فقال إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أنه حدثه قال أخبرنا عطاء بن أبي رباح أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا قال عطاء وقال عباس لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الأولاد قال علي بن أبي طالب فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد وهذا قول زيد بن ثابت وغيره فيقال لهؤلاء الذين قد أعمى الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم نعم ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم فيقال لهم قد أقررتم أن عمر قد خالف الإجماع بهذا الفعل إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر فهل في خلاف الإجماع أكثر من هذا أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم بيعهم لا بد من إحداهما وقد أعاذ الله عمر من خلاف الإجماع وأما أنتم فأعلم بأنفسكم وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك
فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت خالفوا الإجماع وخلاف الإجماع عندكم كفر فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الإجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما وأما نحن فدعوى الإجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الإسلام ولا ينكر الوهم بالاجتهاد والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقول في شيء من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نبالي من خالف في ذلك ولا نتكثر بمن ولولا وما نا أحمد بن قاسم قال نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا مصعب بن محمد نا عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الإيصال ما قلنا إلا ببيع أمهات الأولاد لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها وما نبالي خلاف ابن عباس لروايته فقد يخالفها متأولا أنه خصوص أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا مما لا نكره فيه أصلا فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة ومعاذ الله من ذلك وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى ولا فرق وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا { إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون }
وفي قوله الصادق { إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه } فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلا ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن ولا على كافر وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر وأن في الناس منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه فعلم أن الذي فيه هو الحق وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى أذربيجان وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها يعلمونه من تعلمه من صبي أو امرأة ويؤمهم به في الصلوات في المساجد وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما في سورة ق { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } فرده عليه القرشي تحيد التنوين فراجعه القارىء وكان يحسن النحو
فلج المقرىء وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل وكان صديقا لهذا المقرىء فمضى إليه فدخل عليه وسلم عليه وسأله عن حاله ثم قال له إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فسارع المقرىء إلى ذلك فقال له الفزاري أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال له المقرىء ما شئت فبدأ عليه من أول المفصل فلما بلغ سورة ق وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له يحيى بن مجاهد لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها تنوين البتة فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران فوجدوها مشكولة بلا تنوين فرجع المقرىء إلى الحق وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي عن اللخمي الباجي قال نا محمد بن لبانة قال أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة وكان عديم الورع بعيدا عن الصلاح قال فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته { لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم } فقرأها بنونين عننتم قال فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها فقال نعم هكذا أقرأناها وهكذا هي فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا قال محمد بن عمر فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها
قال أبو محمد فالأول واهم مغفل والثاني فاسق خبيث فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما ولخفي الخطأ والتعمد فمثل هذا تخويف عثمان رضي الله عنه ولقد عظمت منفعة فعله ذلك أحسن الله جزاءه وأما الأحرف السبعة فباقية كما كانت إلى يوم القيامة مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال فما بين ذلك لأنها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا أمية هو ابن بسطام نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال قلت لعثمان { ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير } قال قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه وبه إلى البخاري نا موسى بن إسماعيل نا إبراهيم حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بهما إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من
القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق فهذان الخبران عن عثمان إذا جمعا صححا قولنا وهو أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم أو تعمد تبديله متعمد نا عبد الله بن الربيع التميمي نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا أبو سعيد الأعرابي العزي نا سليمان بن الأشعث نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته إن أمتي لا تطيق على ذلك ثم أتاه الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وبه إلى سليمان بن الأشعث نا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ فقرأت فقال هكذا نزلت ثم قال صلى الله عليه وسلم إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه قال أبو محمد فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تطيق ذلك أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لله تعالى إن أمته لا تطيق ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فهل الكفر إلا هذا نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده
وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الأحرف فضيلة لنا فيقول من لا يحصل ما يقول إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت حاشا لله من هذا قال أبو محمد ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرىء رحمه الله فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول ومرة قال لي ما كان من الأحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو باق وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع فقلت له إن البلية التي فررت منها في رفع السبعة الأحرف باقية بحسبها في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الأحرف السبعة أكثر من ذلك فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف وليس هو من تعليم رسول الله لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه ولا يجب قبوله وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن هذان لساحران } وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط فاضطرب وتلجلج قال أبو محمد وقد قال بعض من خالفنا في هذا إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عربا يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك فقلنا كذب هؤلاء مرتين إحداهما على الله تعالى والثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه فهو كاذب بلا شك والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه وأما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم والأكراد وسائر قبائل
العجم بلغة العرب التي بها نزل القرآن أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك وأن تعلم العربي للغة قبيلة من العرب غير قبيلته أمكن وأسهل من تعلم الأعجمي للعربية بلا شك والأمر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة فالحاجة إلى بقاء الأحرف الآن أشد منها حينئذ على قول المستسهلين للكذب في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم ولتقليدهم من غلط قاصد إلى خلاف الحق ولاتباعهم وله عالم قد حدروا عنها ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان ما قالوه حقا لم يكن لاقتضاء نزوله على سبعة أحرف معنى بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة وهي مكة لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر كذب الكاذب ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ قال أبو محمد وقال آخرون منهم الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان قال أبو محمد المقلدون كالغرقى فأي شيء وجدوه تعلقوا به قال أبو محمد وكذب هذا القول أظهر من الشمس لأن خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه شاهدان بكذبه مخبران بأن الأحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن ولا يجوز أن يقال في هذه الأقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر
اقتصر على مبادىء الكلام الأول فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط خبرا وتقديرا وأمرا بشرع وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الأنواع التي في اشخاص المعاني فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال فرض وندب ومباح ومكروه وحرام ووعد ووعيد والخبر عن الأمم السالفة وخبر عما يأتي من القيامة والحساب وذكر الله تعالى وأسمائه وذكر النبوة ونحو هذا فظهر فساد هذا وأيضا فإن هذه الأقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم قال أبو محمد فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه من قراءة { صراط لذين أنعمت عليهم غير لمغضوب عليهم ولا لضآلين } ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا قلنا كل ذلك موقوف على من روى عنه شيء ليس منه عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ونحن لا ننكر على من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ فقد هتفنا به هتفا ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به ولا تكفل بحفظه فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع ولا معارضة لنا بشيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق وإنما تلزم هذه المعارضة من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة وأما نحن فلا والحمد لله رب العالمين إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي كلاهما عن علقمة بن مسعود وأبي الدرداء كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقرأهما { ولليل إذا يغشى * ولنهار إذا تجلى * وما خلق لذكر ولأنثى }
قال أبو محمد وهذا خبر صحيح مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد إلا أنهما قراءة منسوخة لأن قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعا { وما خلق لذكر ولأنثى } فهي زيادة لا يجوز تركها وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي داود نا حفص بن عمر الحوضي نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون به وتختلفون فيه فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا صحابة محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس قال فكتبوا قال فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لها مكانا قال أبو محمد فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا وهم المالكيون قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي قال ابن مناس نا ابن مسرور نا يحيى نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب حدثني ابن أنس قال أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا { إن شجرة لزقوم * طعام لأثيم } فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له ابن مسعود طعام الفاجر قال ابن وهب قلت لمالك أترى أن يقرأ كذلك قال نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله قال
مالك ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل تعلمون يعلمون قال مالك لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا ولقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف قال أبو محمد فكيف يقولون مثل هذا أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا فيخالفون صاحبهم في أعظم الأشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره لكن قاصدا إلى الخير ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا ونعوذ بالله من الضلال قال أبو محمد فبطل ما قالوه في الإجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين فصل فيمن قال ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبسط الكلام فيما هو إجماع وفيما ليس إجماعا قال أبو محمد قد ذكرنا قبل قسمي الإجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا وهما إما شيء لا يكون مسلما من لا يعتقده كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان فإنه لا يشك مؤمن ولا كافر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى هذه الشهادة وحكم باسم الإسلام وحكمه لمن أجابه إليها وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه وأن أهل الإسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك وصلاها أهل كل محلة وأهل كل قرية وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا لا يختلفون في ذلك وكذلك الأذان والإقامة والغسل من الجنابة والوضوء
ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم حج إلى مكة في ذي الحجة وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز وجل ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه وكذلك تحريم الأم والابنة والجدة والخالة والعمة والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ والخنزير والميتة وكثير سوى هذا فقطع كل مؤمن وكافر أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه وعلمه المسلمين وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم وإن لم يجب إليه فليس مسلما وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الإجماع وتيقنه عليها كالخمر والجهاد وغير ذلك فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه الحجة فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } فإن قيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الأشياء من الإيمان كما أخرجتم من الإيمان بوجود الحرج مما قضى صلى الله عليه وسلم وترك تحكيمه قلنا لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بالزاني والسارق والشارب فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر والخروج عن الإيمان كما ورد فيه النص فهذا أحد قسمي الإجماع
والثاني شيء يوقن بالنقل المتصل الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وفعله جميع من بحضرته ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا وهكذا كل ما جاء هذا المجيء فهو إجماع مقطوع على صحته من كل مسلم علمه أو بلغه على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خطأ فعذر لجهله ما لم تقم عليه الحجة وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الإسلام إلا ما جاء هذا المجيء ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين قائل عليهم ما لا علم له به وقد قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقال تعالى ذاما لقوم قالوا { وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } وقال تعالى { إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى } وقال تعالى { وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا } فصح بنص كلام الله تعالى الذي لا يعرض عنه مسلم أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث قال أبو محمد فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز وجل ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن جميع المسلمين قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم نص القرآن ونص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد أرسلوها إرسالا فقالوا هذا إجماع فإذا قيل لهم كيف تقدمون على إضافة الإجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله أما تتقون الله قال أكابرهم كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم ولم يأت على سائر خلاف له فهو إجماع منهم لأنهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه فصح أنهم راضون به هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها نوردها إن شاء الله عز وجل وبه نستعين قال أبو محمد أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم هذا لا تعلمون فيه خلافا أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة فإن قالوا عند ذلك إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا وإن قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا قلنا لهم قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه كما أوردناه سواء بسواء فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل لا يمكن أن يكون في ذلك خلاف قلنا ومن أين لكم بأن ذلك العالم أحاط بجميع أقوال أهل الإسلام ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا صلى الله عليه وسلم حنينا في اثني عشر ألف إنسان وغزا تبوك في أكثر من ذلك وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب وفودا أسلموا وسألوه عن الدين وأقرأهم القرآن وصلوا معه كلهم يقع عليه اسم الصحابة ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر فلم نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين بين رجل وامرأة فقط مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير
فهؤلاء عشرون فقط والباقون مقلون جدا فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد هو إلى أصغر أقرب منه الكبر أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة إلا هذا والله هو الكذب البحت والإفك والبهت ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا قال { قل أوحي إلي أنه ستمع نفر من لجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى لرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا } وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا { وأنا منا لصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا } وأنهم قالوا { وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار الصحابة هذا لا ينكره مسلم ومن أنكره كفر وحل دمه فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة وإن لم يبلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذب الإجماع عليه لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعفن فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطلن دعواكم الإجماع وهذا لا مخلص منه فإنهم كسائر الصحابة مأمورون منهيون مؤمنون موعودون متوعدون ولا فرق فإن قالوا إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا كذبتم بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم { وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } والإسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالإمامة وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس ونحو ذلك
ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم وأتى عصر التابعين فملؤوا الأرض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز وجل وكابل وفارس وأصبهان والأهواز والجبال وكرمان وسجستان ومكران والسودان والعراق والموصل والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر وأرض الأندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون فمن الجاهل القليل الحياء المدعي إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد مذ أفتوا إلى أن ماتوا إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعيف الدين قليل الحياء فبطل دعوى الإجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط فإن قالوا إنما يقول المرء هذا إجماع عندي فقط قلنا قوله هذا كلا قول لأن الإجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره فمن الباطل أن يكون الشيء مجمعا عليه عند غير مجمع عليه معا وأيضا فإن قوله هذا إجماع عندي باطل لأنه منهي عن القطع بظنه فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع وقد مضى الكلام في المنع من القطع بالظن وقال تعالى { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم } الآية وقال تعالى { هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون } وهذا مالك يقول في موطئه إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه ثم قال هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان قال أبو محمد وهذه عظيمة جدا وإن القائلين بالمنع من رد اليمين أكثر من القائلين بردها ونا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن القاسم قال نا مالك ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة
هذا الشافعي يقول في زكاة البقر في الثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة وعمال ابن الزبير بالمدينة ثم عن إبراهيم النخعي وعن أبي حنيفة لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا فقد صدق عن نفسه ولا ملامة عليه وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا فادعى الإجماع إذ لم يعلم خلافا وقد ادعوا أن الإجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لأكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا وفي أربعين ميلا وفي اثنين وأربعين ميلا وفي خمسة وأربعين ميلا ثم قوله من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شيء عليه إلا القضاء فقط وادعوا الإجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل وهذا باطل روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية المجوسي ثمانمائة درهم وادعوا الإجماع أنه يقبل في القتل شاهدان وقد روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى ومثل هذا لهم كثير جدا كدعواهم الإجماع على وجوب خمس من الإبل في الموضحة وغير ذلك كثير جدا ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله فاعجبوا لهذا فقالوا إنما نقول ذلك إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك فحينئذ نقول إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد منهم وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض والاعتزال ومذهب الخوارج أو مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن كل واحد من أهلها قلنا لهم لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم
وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الإجماع كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والإنس إلا علمه ولا يفتي في شرق الأرض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول فهذه أعجوبة ثانية وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب ثم يندب حين لا تنفعها الندامة والكذبة الأخرى قولكم فلم ينكروها فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها وأنهم رضوها وهذه طامة أخرى ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا وسكنوا عن إنكاره لبعض الأمر نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم بن خليل نا إبراهيم بن حمادة نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله هو ابن المديني نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك قال فقال له زفر فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي قال هبته نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر فلما استخلف عمر تركهما فلما توفي عمر ركعهما قيل له ما هذه قال إن عمر كان يضرب الناس عليهما نا جهم نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي الديري نا عبد الرزاق عن معمر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب فقال إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت فدعاها عمر فسألها عن ذلك
فقالت نعم من مرعوش بدرهمين وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان أشيروا علي فقال علي وعبد الرحمن نرى أن ترجمها فقال عمر لعثمان أشر فقال قد أشار عليك أخواك قال عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك قال فإني لا أرى الحد إلا على من علمه وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا فقال عمر صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا عمن علمه فضربها عمر مائة وغربها عاما وبه عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه قال توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال أحبلت فقال نعم من مرعوش بدرهمين وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصادف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعثمان فقال أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن قد وقع عليها الحد فقال عمر أشر علي يا عثمان قال قد أشار عليك أخواك قال أشر علي أنت قال عثمان أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها ثم قال لعثمان صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الإنكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الأسود وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي الإنكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الأشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك بغير واجب سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء لأنه لم يلح له الحق أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه كما فعل علي في بيع أمهات الأولاد وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الأمرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب أو أقصى اليمين أو أقصى إرمينية
وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والبلاد التي ظهر فيها وغلب عليها قول ما فهذا أعظم حجة عليكم لأنه لا يختلف اثنان أن جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الأندلس وإفريقية وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة قائلون بالحديث أو بمذهب الظاهر أو مذهب الشافعي وهذا أمر مشاهد في كل وقت ولا أكثر من غلبة الإسلام على البلاد التي غلب عليها ولله الحمد وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا فظهر فساد تنظيرهم عيانا وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم وثبت بهذا حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها وهي محصنة مائة وغربها عاما بحضرة علي وعبد الرحمن وعثمان ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى فليتركوا هذا الأصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز وجل وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به فمن الجاهل المنكر لهذا حتى لو صح لهم أنهم عرفوه فكيف وهذا لا يصح أبد الأبد على ما بينا فإن قال قائل فإذ هو كما قلتم فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا إنه إجماع قلنا نعم فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين أحدهما أن الأصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم والثاني لأن الله تعالى بذلك قضى إذ يقول { ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين } فصح إن الأصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى أننا لا نزال عليه والذي له خلقنا إلا من استثنى من الأقل وبرهان ثالث وهو الذي لا يسع أحدا خلافه وهو أن ما ادعيتم فيه الإجماع بالظن الكاذب كما قدمنا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا
إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك سواء أجمع الناس أم اختلفوا ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الإجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الإجماع البتة وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون وإلى مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى كاذبة مفتراة وهذا لا يحل وإذا كان هذا القسم فنحن نقطع حينئذ ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا لأن الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه صلى الله عليه وسلم من الإجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الأمة حتى نسبتم إليهم الإجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها وليس ههنا قسم ثالث أصلا لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم إما باسمها الأعم وإما باسمها الأخص قال أبو محمد واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم وجسرهم على معنى الإجماع حيث وجد الاختلاف أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد فإنه قول خالفوا فيه الإجماع حقا وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الإجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لأحد أن يقطع بظنه اليقين فيه فهذا إجماع آخر فقد خالفوه في هذه المسألة نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال قال رجل لابن مسعود أوصني بكلمات جوامع فقال له ابن مسعود اعبد الله ولا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا
قال أبو محمد هذه جوامع الحق اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول وأخذ الحق ممن أتى به ولئن كان لا خير فيه وممن يجب بغضه وإبعاده وألا يقلد خطأ فاضل وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان هو الثوري عن جبلة بن عامر بن مطر قال قال لي حذيفة في كلام فأمسك بما أنت عليه اليوم فإنه الطريق الواضح كيف أنت يا عامر بن مطر إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون قال عامر فقلت له مع القرآن أحيا مع القرآن وأموت قال له حذيفة فأنت إذا أنت قال أبو محمد اللهم إني أقول كما قال عامر أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري قال أبو محمد وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا أحمد بن فريس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن المنصور نا هشيم أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الأولاد قال عبيدة قال علي فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان المشتهر المنتشر الفاشي والذي وافقهما عليه إجماعا بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه ولعمر الله إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور نا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي نا عبد الملك بن سليمان عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين فقال له عمر خالفت الناس فقال له علي دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا السنة
فقال له عمر صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها بل السنة خلافه فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رياح قال قلت لابن عباس إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول قال ابن عباس فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا قال أبو محمد فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه لا يلتفت إلى الناس ولا إلى ما اشتهر عندهم وانتشر من الحكم بينهم إذا كان خلافا لحكم الله تعالى في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الإجماع وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي زيد أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز وجل { يأيها لذين آمنوا ليستأذنكم لذين ملكت أيمانكم ولذين لم يبلغوا لحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة لفجر وحين تضعون ثيابكم من لظهيرة ومن بعد صلاة لعشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين لله لكم لآيات ولله عليم حكيم } قال ابن عباس لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس وإني لآمر هذه أن تستأذن علي يعني جارية له قال أبو محمد وهذا كالذي قبله نا يحيى بن عبد الرحيم نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا علي بن المديني نا سفيان بن عيينة نا مصعب بن عبد الله بن الزبير عن أبي مليكة عن ابن عباس قال أمر ليس في كتاب الله عز وجل ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا محمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها فقال وما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال
السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال له ابن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته قال أبو محمد فهذا ابن عمر رضي الله عنه بأصح إسناد إليه لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق وحدانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه قال أبو محمد ثم هذا أبو حنيفة يقول ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم وهذا مالك يفتي بالشفعة في الثمار ويقول إثر فتياه به وإنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدا قاله فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للإجماع كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا قال حمام بن أحمد ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام نا عباس بن أصبغ وقال يحيى نا أحمد بن سعيد بن حزم ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الرحمن بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب من ادعى الإجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ولم ينتبه إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك قال أبو محمد صدق أحمد ولله دره وبئس القدوة بشر بن عتاب المريسي
وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى وهما المرءان يرغب قولهما نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبيد الله بن محمد نا الحسن بن سلمون نا عبد الله بن علي بن الجارود نا إسحاق بن منصور قال سمعت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق أجاد لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك قال أبو إسحاق فهؤلاء الصحابة والتابعون ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق وألا يعلم قائلا به قبله فبمن تعلق هؤلاء القوم ليت شعري بل بالمريسي والأصم كما قال أحمد رحمه الله قال أبو محمد ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين ولم يعرف له خلاف إجماعا فيما في الأرض أشد خلافا للإجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي وأبي حنيفة ولقد أخرجنا لهم مئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قاله من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الإجماع وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة قول فإن ذلك التابع قال فيها بقول ولا يعرف أن أحدا قاله فالتابعون على هذا القول الخبيث مخالفون للإجماع كلهم أو أكثرهم ومخالف الإجماع عند هؤلاء الجهال كافر فالتابعون على قولهم كفار ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا
واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الإجماع في مثل هذا فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم وحسبنا الله ونعم الوكيل فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبالله تعالى التوفيق وأعجب شيء في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع ثم يأتون إلى الإجماع الصحيح المقطوع به المتيقن فيخالفونه جهارا وهو أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه فأخذ به كله ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه أو إلى قول صاحب فأخذ به كله كما ذكرنا ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى قول تابع أو قول صاحب فأخذ به كله فهذا الإجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة ثم هي الأعصار المحمودة قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط أو بأقوال مالك فقط أو بأقوال الشافعي فقط وهو عمل محدث مخالف للإجماع الصحيح فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الإجماع المتيقن جهارا ثم يدعون الإجماع حيث لا إجماع ونعوذ بالله العظيم من الضلال فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قال أبو محمد فيقال لهم ما معنى قولكم لا يعد خلافا أتنفون وجود خلاف فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان أم تقولون إن الله تعالى أمركم ألا تسموه
خلافا أو رسوله صلى الله عليه وسلم أمركم بذلك فهذه شر من الأولى لأنه كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أم تقولون إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين إما لفسقه وإما لجهله بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الأئمة في هذه المنزلة ولعمري إن من أنزل عالما من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين هذه المنزلة لأحق بهذه الصفة وأولى بها ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح إذ لا رابع لها فإن قالوا إنما قلنا إنه خطأ وشذوذ قلنا قد قدمنا أن كل من خالف أحدا فقد شذ عنه وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق فوجب أن كل خطأ فهو شذوذ عن الحق وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ وليس كل خطأ خلافا للإجماع فليس كل شذوذ خلافا للإجماع ولا كل حق إجماعا وإنما نكلمكم ههنا في قولكم ليس خلافا ولكون ما عداه إجماعا فقد ظهر كذب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ووجدناهم احتجوا برواية لا تصح عليكم بالسواد الأعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني عن المسيب بن واضح عن المعتمر بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا وعليكم بالسواد الأعظم فإنه من شذ شذ إلى النار قال أبو محمد المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به روى المنكرات منها أنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق لا يجوز غير ذلك وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين نا عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا وهب بن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال خطبنا عمر بن الخطاب فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم فقال من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد نا عبد الله بن
ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن نا حجاج بن محمد نا يوسف بن أبي إسحاق عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير قال قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال يا أيها الناس أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف قبل أن يستحلف ويشهد قبل أن يستشهد فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ألا إن الشيطان مع واحد وهو من الاثنين أبعد من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن وبه إلى أحمد بن شعيب نا الربع بن سليمان نا إسحاق بن بكر عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن مالك بن عمر عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن
الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن قال أبو محمد هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته فنقول وبالله تعالى نتأيد إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار فكانت على الحق وسائر أهل الأرض على ضلال ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم فكانوا بلا شك هم الجماعة وجميع أهل الأرض على الباطل وقد نبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فكان على الحق واحدا وجميع أهل الأرض على الباطل والضلال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده قال أبو محمد وذلك لأن زيدا آمن بالله تعالى وحده وجميع أهل الأرض على ضلالة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال النزاع من القبائل وقال صلى الله عليه وسلم الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال صلى الله عليه وسلم إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما عن مروان بن معاوية الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء وبه إلى مسلم نا الفضل بن سهل نا شبابة به سوار نا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن أبي دليم أخبرنا ابن وضاح أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال النزاع من القبائل
وبالسند المتقدم إلى مسلم نا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وقال الله عز وجل وذكر أهل الحق فقال { ركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب } وقال تعالى { وقال لذي شتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في لأرض ولنعلمه من تأويل لأحاديث ولله غالب على أمره ولكن أكثر لناس لا يعلمون } في سورة يوسف وقال تعالى { وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون } وقال تعالى { ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين } وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق والحق لا يتعارض وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر وكلاهما في غاية البيان فالأقل في الدين هم أهل الحق وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل وأن الواحد قد يكون هو المصيب وجميع الناس هم على باطل لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا لوجب ضرورة أنها ليست في الدين لكن في شيء آخر وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها لأن انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده وبرهان كاف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك لأن النصارى جماعة واليهود جماعة والمجوس وعباد النار جماعة أفترونه صلى الله عليه وسلم أراد هذه الجماعات حاشا لله من هذا فإن قالوا إنما أراد جميع المسلمين قلنا فإن المنتمين إلى الإسلام فرق فالخوارج جماعة والروافض جماعة والمرجئة جماعة والمعتزلة جماعة أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه الجماعات حاشا له من ذلك فإن قالوا إنما أراد أهل السنة قلنا أهل السنة فرق فالحنفية جماعة
والمالكية جماعة والشافعية جماعة والحنبلية جماعة وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد صلى الله عليه وسلم وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض فصح يقينا قطعا كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق وهم المتبعون للقرآن ولما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه للقرآن بقوله وفعله وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم وخيار التابعين من بعدهم حتى حدث التقليد المهلك فإذا لا شك في كل هذا وقد بينا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة إنما أراد يقينا أهل الحق وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك لم يرد كثرة العدد قط فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد وهو من الاثنين أبعد وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين بما لو أوردنا آنفا من النصوص وببرهان آخر وهو قوله وهو من الاثنين أبعد فلو أراد الدين لكان المنفرد بقوله مصاحبا للشيطان فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان فعاد الباطل حقا بدخول إنسان فيه وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين بل الباطل باطل وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين ولا عموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصا من الأحوال بلا شك فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك وإن الناسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل كاذب عليه وقد أخبر عليه السلام أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار فإذا كان الأمر كما قلنا يقينا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي أن يسافر المرء وحده وفي تلك الأخبار أنفسها لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة وأن الشيطان ههنا مع الواحد فإن كان اثنين فقد خرج عن النهي وبعد الشيطان عنهما فبطل التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب وأن خلاف الواحد لا يعد خلافا واعلموا أنه لا يمكن البتة للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين أن يحتجوا بشيء
من ذلك الأثر لأن خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذ منهم من مذاهب أصحابه وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول وبرهان ضروري أيضا هو أنه قد بينا أن له لو صح ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلا لأن اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج جماعات عظيمة فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم لأنهم أكثر من واحد يأبى الله تعالى هذا وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل البصري نا سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبجر عن طلحة بن مصرف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ربع السودان من لا يلبس الثياب أكثر من جميع الناس فصح بكل هذا يقينا لا مجال للشك فيه أنه لا يرد قط بذلك الدين وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى في تلك الأخبار على أصحابه وعلى قرن التابعين ثم على القرن الثالث فإذا أثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف وكل من خالفهم فهو أهل الباطل ولو كانوا أهل الأرض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحدا وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم والحمد لله رب العالمين وكل من قلد إنسانا بعينه فقد خالف الجماعة والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد وعلمنا أنهم مؤمنون يقينا بالجملة وأنهم من الأمة بلا شك ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الأمة وكان واجبا علينا اتباع من نوقن أنهم من الأمة دون من لا نوقن أنه منها قال أبو محمد وهذا خطأ لأن الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان ولم
يقل تعالى فردوه إلى الأكثر ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من رد إلى غير القرآن والسنة عاصيا لله عز وجل مخالفا لأمره وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الإسلام في الحكم كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق قال أبو محمد واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق ابن وهب أخبرني أبو فهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبع الأقلون العلماء الأكثرين قال أبو محمد وهذا مرسل لا خير فيه وباطل بلا شك أول ذلك أنه محال وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال لأنه لا يمكن أن يتبع الأقل والأكثر إلا بعد إمكان عد جميعهم وقد بينا أن عد جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له ووجه آخر وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم قد أصفقوا أثر موت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتل أهل الردة ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد وخالفهم أبو بكر وحده فكان هو المحق وكانوا على الخطأ فإن قالوا قد رجعوا إلى قوله قلنا نعم وهذه حجتنا وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب قلنا إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان وفي هذا ما فيه نعوذ بالله العظيم من البلاء ثم نسألكم هل ذلك الواحد عندكم مخالف للإجماع أم لا فإن قالوا نعم قلنا لهم ومخالف الإجماع عندكم كافر فمن قولهم نعم قلنا لهم فعلى هذا فابن عباس كافر وزيد بن ثابت عندكم كافر إذ أقررتم أنهما خالفا الإجماع وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الإجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق
قال أبو محمد أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي حدثنا الفريرى نا البخاري نا عبد العزيز بن عبد الله نا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولو آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو { إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون * إلا لذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } إلى قوله { إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون * إلا لذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم } إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وإن إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون قال أبو محمد ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره قال أبو محمد وبالعيان ندري أن المسلمين أقل من غيرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود وذكر عليه السلام الصلاة والسلام أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة ثم بالمشاهدة ندري أن الصالحين والعلماء أقل من الطالحين والجهال وأن هذين الصنفين هم الأكثر والجمهور وبالمشاهدة ندري أن الزكي من العلماء هم أقل منهم بخلاف قول المخالف وقد ذكر في باب إبطال التقليد قول ابن مسعود لا يقول أحدكم أنا مع الناس وذكرنا قبل هذا قول حذيفة كيف أنت إذا سلك القرآن طريقا وسلك الناس طريقا آخر وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك كثر القائلون به أو قلوا وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به وكثر الهالكون فيه ونعوذ بالله العظيم من البلاء قال أبو محمد وكلامنا هذا كله تطوع منا وإلا فلو اكتفينا من كل ذلك بما نذكره الآن إن شاء الله تعالى وهو أن نقول لهم إن كل من ادعى في أي قولة كانت
لا نحاشي قولة من الأقوال أن العلماء كلهم أجمعوا عليها إلا واحدا خالفهم فقط أو إلا اثنين أو إلا ثلاثة أو أي عدد ذكروا فإنه كذاب مفتر آفك قليل الحياء لأنه لا سبيل بوجه من الوجوه إلى معرفة ذلك يقينا ولا إلى القطع به أصلا لما قدمنا من تعذر إحصاء عدد المفتين من المسلمين فوضح أن هذه مسألة فارغة ولا حجة للاشتغال بها أو كثرة من ضل بها فصل في قول من قال قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل قال أبو محمد في الباب الذي قبل هذا نقض هذه المقالة وفيه ذكرنا كل ما يمكن أن يشغبوا به فأغنى عن إعادته إلا أن هنا سؤالا رائدا وهو أن نقول لهم قلتم المحال وأتيتم في دينكم الباطل والذي لا يمكن وجوده وذلك إلى أنه لا سبيل إلى توفية حكمهم هذا حقه إلا إحصاء عدد جميع من تكلم في تلك المسألة من صاحب وتابع فمن بعدهم ثم يعرف الأثر ولو بواحد وهذا مع أنه محال فهو حمق وقول بلا برهان وأيضا فما الفرق بينكم وبين من قال قول الطائفة التي هي أفضل وأشهر في العلم أولى وإن كانوا أقل عددا فحصل التعارض وبطل القولان لأنهم بلا دليل وبالله تعالى التوفيق فصل في إبطال قول من قال الإجماع هو إجماع أهل المدينة قال أبو محمد هذا قول لهج به المالكيون قديما وحديثا وهو في غاية الفساد واحتجوا في ذلك بأخبار منها صحاح ادعوا فيها أنها تدل على أن المدينة أفضل البلاد ومنها مكذوب موضوع في رواية محمد بن الحسن بن زبالة وغيره ليس هذا مكان ذكرها لأن كلامنا في هذا الكتاب إنما هو على الأصول الجامعة لقضايا
الأحكام لا لبيان أفضل البلاد وقد تقصينا تلك الأخبار في كتابنا المعروف بالإيصال في آخر كتاب الحج منه وتكلمنا على بيان سقوط ما سقط منها ووجه ما صح منها بغاية البيان والحمد لله رب العالمين وبجمع ذلك أنهم قالوا المدينة مهبط الوحي ودار الهجرة ومجتمع الصحابة ومحل سكنى النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامها فأهلها أعلم بذلك ممن سواهم وهم شهداء آخر العمل من النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم إنما إجماعهم إجماع وحجة فيما كان من جهة النقل فقط وقالت طائفة منهم إجماعهم إجماع وحجة من جهة النقل كان أو من جهة الاجتهاد لأنهم أعلم بالنصوص التي منها يستنبط وعليها يقاس فإذا هم أعلم بذلك فاستنباطهم وقياسهم أصح من قياس غيرهم واستنباط غيرهم وقالوا من المحال أن يخفى حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الذين بقوا بالمدينة ويعرفه الأقل وهم الخارجون عن المدينة مع شغلهم بالجهاد وذكروا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم إذ أراد أن يقوم بالموسم الذي بلغه من قول القائل لو قد مات عمر لقد بايعنا فلانا فقال عمر لأقومن بالعشية فلأحذرن الناس من هؤلاء الرهط يريدون يغصبونهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف ألا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلو بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظون مقالتك وينزلوها على وجهها نا بهذا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد حدثنا الفربري نا البخاري نا موسى بن إسماعيل نا عبد الواحد نا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة قال حدثني ابن عباس قال قال لي عبد الرحمن بن عوف لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال له إن فلانا يقول لو قد مات عمر فبايعنا فلانا ثم ذكر نصه كما أوردنا قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به وكله لا حجة لهم في شيء منه على ما تبين إن شاء الله عز وجل
أما دعواهم أن المدينة أفضل البلاد فدعوى قد بينا إبطالها في غير هذا المكان وبينا أن مكة أفضل البلاد بنص القرآن والسنن الثابتة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليس هذا مكان الكلام في ذلك لكن نقول لهم هبكم أنه كما تقولون وليس كذلك فأي برهان في كونها أفضل البلاد على أن إجماع أهلها هو الإجماع ألا يستحي من يدري أن كلامه مكتوب وأنه محاسب به بين يدي الله عز وجل من أن يموه هذا التمويه البارد ونحن نقول إن مكة أفضل البلاد وليس ذلك بموجب اتباع أهلها دون غيرهم ولا أن إجماعهم دون إجماع غيرهم ولا أنهم حجة على غيرهم إذ ليس فضل البقعة موجبا لشيء من ذلك وأيضا فإنه لا يختلف مسلمان في أنه قد كان في المدينة منافقون وهم شر الخلق قال تعالى { وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم } وقال تعالى { إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا } وكان فيها فساق كما في سائر البلاد وزناة وكذابون وشربة خمر وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق وأهلها اليوم وإنا لله وإنا إليه راجعون غلاة الروافض الكفرة أفترون لهؤلاء فضلا يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة فمن قولهم لا لكن إنما توجب الحجة بالفضلاء من أهل المدينة قلنا لهم ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبدا وأيضا فالمدينة فضلها باق بحسبه كما كان لم يتغير ولايتغير أبدا وأهلها أفسق الناس فقد بطل أن تكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها وصح أن الفاضل فاضل حيث كان والفاسق فاسق حيث كان وأما قولهم إن أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن سواهم فهو كذب وباطل وإنما الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العالمون بأحكامه صلى الله عليه وسلم سواء بقي منهم من بقي بالمدينة أو خرج منهم من خرج لم يزد الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه وفضله ولا حظ الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله
وأما قولهم إنهم شهدوا آخر حكمه صلى الله عليه وسلم وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش وكذب ظاهر بل الخارجون من الصحابة عن المدينة شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة فظهر فساد كل ما موهوا به وبنوه على هذا الأصل الفاسد وأسموه بهذا الأساس المنهار وأما قولهم إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الباقون بالمدينة وبعلمه الأقل وهم الخارجون عن المدينة فتمويه ظاهر وشغب غث وإنما كان ممكن أن يموهوا بذلك لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة وأما ولا يجدوا هذا أبدا ولا في مسألة واحدة وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك وروايتهم كذلك فممكن أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن النفر من الصحابة وبعلمه الواحد والأكثر منهم وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة ويمكن أن يبقى بها ويمكن خلاف ذلك أيضا ولا فرق وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأما قول عبد الرحمن لعمر الذي ذكرنا في تأخير الأمر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس وأهل الفقه وأهل العلم فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحدا وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الأمصار سواء ولا فرق وأيضا فما كل قول قاله عبد الرحمن ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة وقد علم جميع أهل الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم ألا هل بلغت وأشهد الله تعالى عليهم إلا في الموسم أحفل ما كان في الأعراب وغيرهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما وبرهان ذلك أنه لو سلك الأئمة هذا الرأي ما تعلم جاهل شيئا أبدا فصح أنه لا بد من مخاطبة الرعاع والجهال بما يلزم علمه والعجب كله أنهم يموهون إجماع أهل المدينة ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذون بسواه وهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم
ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري وسحنون التنوفي من إفريقية لأن ابن القاسم أخذ عن مالك ولأن سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك ولا يرون لأخذ مسروق والأسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجها ولا معنى ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتا لهم وكشفا لتناقضهم وهم أترك خلق الله لإجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مفتتحي خيبر إلى اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى ويخرجونهم متى شاؤوا وبقي كذلك إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسوخ تقليدا لخطأ مالك حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن ميسرة نا ابن وضاح بن يحيى نا مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن حاتم نا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة فهذا إجماع أهل المدينة حقا وعملهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة حقا فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة هذا عمل لا يجوز ولا يجزىء تقليدا لخطأ مالك وخلافا لأهل المدينة وتمويها برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها وتركوا عمل أهل المدينة كل من حضر منهم مع عمر في سجوده في { إذا لسمآء نشقت } وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه ثم رجع إلى خطبته فقال هؤلاء
المنتمون إلى اتباع أهل المدينة هذا لا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لأهل المدينة أعم من هذا وتركوا إجماع أهل المدينة إذ صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر صلاة صلاها بالناس فقالوا هذه صلاة فاسدة تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها فهل في العجب أكثر من هذا وهم يقولون إن إجماع أهل الكوفة هو الإجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان نا عمرو بن أيوب نا أفلح بن حميد نا محمد بن حميد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع ناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وابن شهاب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب وقال القاسم أخبرتني عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال كان عبد الله رجلا حادا محدا كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله قال سالم صدق فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم فقال هؤلاء المدعون إنهم يتبعون أهل المدينة لا يجوز ذلك تقليدا لخطأ مالك واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضا لكن موهوا بإيرادها وذكر قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمر بن
عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا ورأى ذلك الزهري قال أبو محمد فهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا أو أفشى منه فقال هؤلاء المموهون باتباع أهل المدينة هذا لا يحل ولا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب أن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين أحدهما لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الأمصار وهو الأقل والثاني قد وجدنا فيه الخلاف كما هو موجود في غير المدينة قال أبو محمد ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه من إجماع أهل المدينة من أن يكون عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون عن اجتهاد وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه أو إلى خلاف النص ثم لو صح لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا هذا الوجه فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد فهذا محال غير ممكن لأن كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم وحتى لو صح أنهم كتموه لسقطت عدالتهم قال الله عز وجل { إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون }
ولقد أعاذهم الله من هذا فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة وأيضا فإن الإجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله أو بنقل تواتر وهم لا يرجعون في دعواهم الكاذبة لإجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد وهو مالك فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق وأيضا فيقال لهم أخبرونا هل خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة فإن قالوا نعم كفروا وكذبوا إذ جعلوه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب وإن قالوا لا ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق وأيضا فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجاهدون ويحجون ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الأمصار عن أهل المدينة وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الأمصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين وصحب الشعبي وابن سيرين بن عمر وصحب قتادة بن المسيب وأخذ الزهري عن أنس وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي وأخذ عبيد الله بن عمر عن ثابت البناني وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال نا عبد الوارث بن حسرون نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب نا أحمد بن حنبل نا عبد الرحمن بن مهدي سمعت مالك بن أنس يقول قال سعيد بن المسيب إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد فاستوى الأمر في المدينة وغيرها بلا شك
وأيضا فنقول لهم هل تعمد عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يبعثا من يعلم أهل البصرة والكوفة والشام ومصر دينهم وأحكامهم أم أغفلا ذلك وضيعاه وعمالهما يترددون على هذه البلاد ووفود هذه البلاد يفدون عليهما كل عام أم لم يتركا ذلك بل علماهم كل ما يجب علمه من الدين ولا بد من أحد هذه الأقسام فإن قالوا تعمدنا كتمان الدين عنهم أو ضيعوا ذلك كذبوا جهارا ونسبوا الخليفتين الفاضلين إلى ما قد نزههما الله تعالى عنه مما هو أعظم الجور وأشد الفسق بل هو الانسلاخ من الإسلام وإن قالوا ما تركا ذلك علماهم كل ما يجب علمه والعمل به من الدين قلنا صدقتم وقد ثبت بهذا أن أهل المدينة وغيرهم سواء في المعرفة والعلم والعدالة وظهر فساد دعواهم الكاذبة في دعوى إجماع أهل المدينة أنبأنا محمد بن سعيد بن بنات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة نا أبو إسحاق السبيعي قال سمعت حارثة بن مضرب قال قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة إني بعثت عليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإنني آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة حدثني أحمد بن عمر بن أنس العدوي نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا أحمد بن يونس نا قيس بن أشعث عن الشعبي قال ما جاءك عن عمر فخذ به فإنه كان إذا أراد أمرا استشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أجمعوا على شيء كتب به فهذا تعليم عمر ما عنده من العلم لأهل الأمصار فصار الأمر في المدينة وغيرها سواء وأيضا فنقول لهم إذا كان إجماع أهل المدينة عندكم هو الإجماع ومن قولكم إن من خالف الإجماع كافر فتكفرون كل من خالف إجماع أهل المدينة بزعمكم أم لا فإن قالوا نعم لزمهم تكفير ابن مسعود وعلي وكل من روي عنه فتيا مخالفة لما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من صاحب أو تابع فمن دونهم وفي هذا ما فيه وإن أبوا من
ذلك قلنا لهم كذبتم في الدعوى إن إجماعهم هو الإجماع فارجعوا عن ذلك واقتصروا على أن تقولوا صوابا أو حقا ونحو ذلك قال أبو محمد وأيضا فلا شيء أظهر ولا أشهر ولا أعلن ولا أبين ولا أفشى من الأذان الذي هو كل يوم وليلة خمس مرات برفع الأصوات في مساجد الجماعات في الصوامع المشرفات لا يبقى رجل ولا امرأة ولا صبي ولا عالم ولا جاهل إلا تكرر على سمعه كذلك ولا يستعمله المسافرون كما يستعمله الحاضرون ولا يطول به العهد فينسى وفي المدينة فيه من الاختلاف كالذي خارج المدينة صح عن ابن عمر أن الأذان وتر وروي عنه وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قولهما في الأذان حي على خير العمل نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن منهال نا حماد بن سلمة نا أيوب السختياني وقتادة كلاهما عن محمد بن سيرين عن ابن عمر أنه مر على مؤذن فقال له أوتر أذانك نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الديري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول الأذان ثلاثا ثلاثا وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل عن ابن عمر أنه كان إذا قال في الأذان حي على الفلاح قال حي على خير العمل ومن ادعى أن الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة بدلوا الأذان فلكافر مثله أن يدعي ذلك على الصحابة بالمدينة وكلاهما كاذب ملعون وحق صحابة المدينة والكوفة والبصرة جائز واجب فرض سواء على كل مسلم ولا فرق من ادعى ذلك على التابعين بالكوفة والبصرة فالفاسق مثله أن يدعي على التابعين بالمدينة إذ لا فرق بينهم ومن ادعى ذلك على الولاة بالبصرة والكوفة فلغيره أن ينسب مثل ذلك إلى الولاة بالمدينة فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري وطارق وعثمان بن حيان المري وكلهم نافذ أمره في الدماء والأموال والأحكام وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى فهذا أصل عظيم ثم الزكاة فالزهري يراها في الخضر ومالك لا يراها وابن عمر لا يرى الزكاة مما أنبتت الأرض إلا في البر والشعير والتمر والزيت والسلت ومالك يخالفه ولا شيء بعد
الأذان بالصلاة أشهر من عمل الزكاة وابن عمر لا يجيز في زكاة الفطر إلا التمر والشعير ومالك يخالفه وقال ابن عمر وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وأبو سليمان وعبد الرحمن بن عوف والزهري وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عدل الناس بصاع شعير في صدقة الفطر مدين من بر وروي ذلك أيضا عن عمر وعثمان وأسماء بنت أبي بكر فخالفهم مالك فصح أنهم أترك الناس لعمل أهل المدينة وقال بعضهم من خرج عن المدينة اشتغل بالجهاد قلنا لا يشغل الجهاد عن تعليم الدين فقولكم هذا مجاهدة بالباطل وقالوا إن كان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها فإن أفتى بخلاف فتياه رجع إلى الكوفة ففسخ ما عمل قال أبو محمد وهذا كذب إنما جاء أنه أفتى بمسألتين فقط فأمر عمر بفسخ ذلك وعمر الخليفة فلم يمكنه خلافه نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد قال نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عمرو الشيباني أن رجلا سأل ابن مسعود عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها قال نعم فتزوجها فولدت له فقدم على عمر فسأله فقال فرق بينهما قال ابن مسعود إنها ولدت قال عمر وإن ولدت عشرا ففرق بينهما قال أبو محمد والخلاف في هذا موجود بالمدينة نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عنان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها وإن ماتت موتا لم يتزوج أمها نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا إسماعيل بن أبي أويس نا عبد الرحمن بن أبي الموال عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة أن رجلا من بني ليث يقال له الأجدع تزوج جارية شابة فكان يأتيها فيتحدث مع أمها فهلكت امرأته ولم يدخل بها فخطب أمها وسأل عن ذلك ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من رخص له ومنهم من نهاه
قال أبو محمد هذا والمسألة المذكورة منصوصة في القرآن الذي هو عند جميع الناس كما هو عند أهل المدينة لا يمكن أن يدعوا فيها توفيقا حتى خفي عمن هو خارج المدينة لكن من أباح ذلك حمل الأم على حكم الربيبة ومن منع أخذ بظاهر الآية وعمومها وهو الحق فلا مزية ههنا لأهل المدينة على غيرهم أصلا وقد صح أن عمر استفتى ابن مسعود بالبتة وأخذ بقوله وهذا مدني إمام أخذ بقول كوفي وذكر غريبة تضحك الثكالى ويدل على ضعف دين المموه وقلة عقله وهي أنهم ذكروا خبر ابن عمر إذ رأى سعدا وهو يمسح فلم يأخذ بعمله حتى رجع إلى المدينة فسأل أباه قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأن ابن عمر مدني وقد خفي عليه حكم المسح وسعد مدني فلم يأخذ ابن عمر بفعله إلا أن يقولوا إنه لا يجوز أن يؤخذ بقول مدني إلا إذا كان بين جدران المدينة فهذا حمق لا يقوله من لا مسكة له وموهوا بما أنبأنا عبد الله بن الربيع قال نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى نا خالد بن الحارث نا حميد عن الحسن قال قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر أخرجوا زكاة صومكم فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال من هنا من أهل المدينة قوموا فعلموا إخوانكم فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذكر أو أنثى حر أو مملوك صاعا من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه أولها أنه خبر ساقط منقطع أخذه الحسن بلا شك من غير ثقة ذلك لأن الحسن لم يكن بالبصرة أيام ابن عباس أميرا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وإنما نزلها الحسن أيام معاوية لا خلاف في هذا وثانيها أن البصرة بناها عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور أخي سليم بن منصور وهذا بدري من أكابر المهاجرين الأولين الممتحنين في الله تعالى في أول الإسلام سنة أربع عشرة من الهجرة في صدر أيام عمر رضي الله عنه وإنما وليها ابن عباس لعلي في آخر سنة ست وثلاثين بعد يوم الجمل بعد اثنتين وعشرين سنة من بنيانها وسكنها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ووليها أبو موسى الأشعري بعد عتبة بن غزوان والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي الله عنهما وولي قبض زكاتها
أنس بن مالك في تلك الأيام فكيف يدخل في عقل من له مسكة عقل أن مصرا يسكنه عشرات الألوف من المسلمين منهم مئون من الصحابة رضي الله عنهم تداوله الصحابة من قبل عمر وعثمان فلم يكن فيهم أحد يعلمهم زكاة الفطر التي يعلمها النساء والصبيان في كل مدينة وكل قرية لتكررها في كل عام في العيد إثر رمضان حتى بقوا المدة المذكورة ليس فيهم أحد علم ذلك وأهل المدينة يعرفونها فكيف يكتم مثل هذا والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين بالمدينة وتالله إن هذه لمصيبة على عمر وعثمان وأهل المدينة أعظم منها على أهل البصرة إذ تعمدوا ترك تعليمهم أو ضيعوا ذلك وكل ذلك باطل لا يمكن البتة وكذب لا خفاء به ومحال ممتنع لما ذكرنا وثالثها أن المحتجين بهذا الخبر وهم المقلدون لمالك أول مبطل لحكم هذا الخبر فلا يرون ما فيه من نصف صاع قمح مكان صاع شعير في زكاة الفطر أفليس من الرزايا والفضائح والبلايا والقبائح من يموه بخبر يحتج به فيما ليس فيه منه شيء على من لا يراه حجة لو صح لأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم المحتج به أول مخالف لما احتج به وأول مبطل ومكذب لما فيه مما لو صح ذلك الخبر لما حل لأحد خلافه لأنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله العظيم من مثل هذا المقال في الدنيا والآخرة وإذ قد صححوا ههنا رواية الحسن عن ابن عباس فقد نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الرقي نا أحمد بن عروة بن عبد الخالق البزار نا محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون نا حميد الطويل عن الحسن البصري قال خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد صاع من تمر أو صاع من شعير أو بنصف صاع من بر ومن أتى بدقيق قبل منه ومن أتى بسويق قبل منه وهم أول عاص لما في هذا الخبر فيا للناس مرة يصححون رواية الحسن عن ابن عباس إذا ظنوا أنهم يموهون به في إثبات باطل دعواهم ومرة يبطلونهم ويكذبونها إذا خالفت رأي مالك فيزورون شاهدهم ويكذبون أنفسهم ألا ذلك هو الضلال المبين قال أبو محمد وهذا خبر رواه ابن سيرين وأبو رجاء عن ابن عباس وهما حاضران
لولايته فلم يذكروا فيه ما ذكر ابن عباس من القول يا أهل المدينة قوموا علموا إخوانكم فصح أنها زيادة من لا خير فيه قال أبو محمد فبطل كل ما موهوا به ونحن ولله الحمد على ثقة من أن الله لو أراد أن يجعل إجماع أهل المدينة حجة لما أغفل أن يعين ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعل فنحن نثبت بأنه لم يجعل قط إجماعهم حجة على أحد من خلقه هذا لو صح وجود إجماع لهم في شيء من الأحكام فكيف ولا سبيل إلى وجود ذلك أبدا إلا حيث يجمع سائر أهل الإسلام عليه أو حيث نقل إجماعهم كلهم ورضاهم بذلك الحكم وتسليمهم لهم وإلا فدعوى إجماعهم كذب بحت على جميعهم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد وهذا مالك يقول في موطئه الذي رويناه عنه من طرق في كتاب البيوع منه في أوله في باب ترجمته العيب في الرقيق قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبدا أو وليدة أو حيوانا بالبراءة فقد برىء من كل عيب إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه فإن كان علم في ذلك عيبا فكتمه لم تنفعه تبرئته وكان ما باع مردودا عليه قال أبو محمد والذي عليه العمل عند أصحابه ومقلديه من قوله هو أن حكم الحيوان مخالف لحكم الرقيق وأن بيع البراءة لا يجوز البتة في الحيوان لكنه كالعروض لا يبرأ من عيب فيه علمه أو لم يعلمه قال أبو محمد فإذا كان عند هؤلاء المجرمين إجماع أهل المدينة إجماعا لا يحل خلافه وهذا مالك ههنا قد خالف ما ذكر أنه الأمر المجتمع عليه عندهم فلا بد ضرورة من أحد حكمين لا ثالث لهما أما إبطال تهويلهم بإجماع أهل المدينة وبخلافه وجواز مخالفته وإما أن يلحقوا بمالك الذي قلدوه دينهم ما يلحق مخالف الإجماع الذي يقر أنه إجماع وهذا صعب ممن خالف ما يقر أنه إجماع وفي هذا كفاية لمن له أدنى عقل ومن أراد الله تعالى توفيقه قال أبو محمد والقوم كما ترى يموهون بإجماع أهل المدينة فإن حقق عليهم لم يحصلوا من جميع أهل المدينة ومن إجماعهم إلا على ما انفرد به سحنون القيرواني وعيسى بن دينار الأندلسي عن ابن القاسم المصري عن مالك وحده من رأيه
وظنه وكثير من ذلك رأي ابن القاسم واستحسانه وقياسه على أقوال مالك فاعجبوا لهذه الأمور القبيحة كيف يستحسنها ذو ورع أو من يدري أن الله سيسأله عن قوله وفعله ونعوذ بالله العظيم من الخذلان فإن موهوا بما روي من عمل قضاة المدينة الذين أدرك مالك فليعلم كل ذي فهم أن النازلة كانت تقع في المدينة وغيرها فلا يقضي فيها الأمير ولا القاضي حتى يخاطب الخليفة بالشام ثم لا ينفذ إلا من خاطبه به فإنما هي أوامر عبد الله والوليد وسليمان ويزيد وهشام والوليد بحسبكم والقليل من ذلك من عهد عمر بن عبد العزيز أقصر مدته هذا أمر مشهور في كتب الأحاديث فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة قال أبو محمد إنما نتكلم بما يمكن أن يموه قائله بشغب يخفى على الجهال أو فيما يمكن أن يخفى وجه الحق فيه على بعض أهل العلم لخفاء الدلائل أو لتعارضها وإما ما لا شبه فيه غير الأحموقة والعصبية فلا ولا فرق بين إجماع أهل الكوفة وإجماع أهل البصرة وإجماع أهل الفسطاط هذا إن أرادوا إجماع من كان بها من الصحابة أو من بعدهم من التابعين أو على أن يسمح لهم في العصر الثالث وأما إن نزلنا عن ذلك فلا فرق بين أهل الكوفة وأهل أوقانية وأهل أوطانية وفساونسا ولو أن امرأ نصح نفسه فأقصر عن التلبيس في الدين وإضلال المساكين المغترين وشغل نفسه بالقرآن كلام الله تعالى وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم افترض الله تعالى علينا طاعته وترك التعصب لقول فلان وفلان كان أسلم لمعاده وأبعد له من الفضيحة في العاجلة وما توفيقنا إلا بالله تعالى فصل في إبطال قول من قال إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع وإن ظهر خلافه في العصر الثاني قال أبو محمد قال بهذا طوائف من المالكيين والحنفيين ثم أقحم هذا الشغب معهم الشافعيون ثم اختلفوا فقالت طائفة سواء انتشر أو لم ينتشر فهو إجماع
وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا اشتهر وانتشر وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فلا يكون إجماعا وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا كان من قول أحد الأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فقط وانتشر مع ذلك وإلا فليس إجماعا وإن كان من قول غيرهم فلا يكون حجة وإن انتشر وقالت طائفة ليس شيء من ذلك إجماعا ولكنه حجة قال أبو محمد فإنما قال من قال منهم هذه الأقوال عند ظفره بشيء منها مع انقطاع الحبل بيده وعدمه شيئا ينصر به خطأه وتقليده ثم هم أترك الناس لذلك إذا خالف تقليدهم لا مؤنة عليهم في إبطال ما صححوا وتصحيح ما أبطلوا في الوقت إنما حسب أحدهم نصر المسأل بينه وبين خصمه في حينه ذلك فإذا انتقلا إلى أخرى فأخف شيء على كل واحد منهم تصحيح ما أبطل في المسألة التي انقضى الكلام وإبطال ما صحح فيها فقد ذكر الأجهري محمد بن صالح المالكي عن ابن بكير وكل واحد منهم من جملة مذهب مالك ومقلديه أنه كانت أصوله مبنية على فروعه إذا خرج قوله في مسألة على العموم قال من قولي العموم وإذا خرج قوله في أخرى على الخصوص قال من قولي الخصوص ولقد رأيت لعبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي في كتابه المعروف بشرح الرسالة في باب من يعتق على المرء إذا ملكه فذكر قول داود لا يعتق أحد على أحد وذكر قول أبي حنيفة يعتق كل ذي رحم محرم فقال من حجتنا على داود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر وهذا نص جلي ثم صار إلى قول أبي حنيفة بعد ستة أسطار فقال فإن احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر قلنا هذا خبر لا يصح ولا أحصي كم وجدت للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيح رواية ابن لهيعة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا كان فيها ما يوافق تقليدهم في مسألتهم تلك ثم ربما أتى بعدها بصفحة أو ورقة أو أوراق احتجاج خصمهم عليهم برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أو برواية ابن لهيعة فيقولون هذه صحيفة وابن لهيعة ضعيف
قال أبو محمد وهذا فعل من لا يتقي الله عز وجل ومن عمله يوجب سوء الظن بباطن معتقده ونعوذ بالله من الخذلان قال الله تعالى { إنما لنسيء زيادة في لكفر يضل به لذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم لله فيحلوا ما حرم لله زين لهم سوء أعمالهم ولله لا يهدي لقوم لكافرين } وقال تعالى { يأيها لذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون } وقال تعالى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بلإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض لكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في لحياة لدنيا ويوم لقيامة يردون إلى أشد لعذاب وما لله بغافل عما تعملون } فأنكر الله تعالى على من صحح شيئا مرة ثم أبطله أخرى مع أن أقوالهم التي ذكرنا في هذا الباب دعاوى فاسدة بلا برهان ولا استدلال أصلا إلا ما تقدم إفسادنا له من قولهم إنهم لا يقرون على باطل فقلنا لهم ومن لكم بأنهم لم ينكروا ذلك وسائر ما ذكرنا هنالك وقد كتبنا في مناقضتهم في هذا الباب وغيره كتابا ضخما تقصينا فيه عظيم تناقضهم وفاحش تضاد حجاجهم وأقوالهم ونذكر هنا إن شاء الله تعالى يسيرا دالا على الكثير إذ لو جمع تناقضهم لأتى منه ديوان أكبر من ديواننا هذا كله نعم وقد تعدوا عقدهم الفاسد في هذا الباب إلى أن قلدوا قول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة في قولهم ذلك أو قد صح رجوع ذلك الصاحب عن ذلك القول فاحتجوا به وادعوا إجماعا فمن ذلك احتجاج المالكيين في التحريم على الناكح جاهلا في العدة يدخل بها أن يتزوجها أبدا احتجاجا بما روي عن عمر في ذلك وقد صح عن علي خلافه وصح رجوع عمر عن القول وكتعلقهم بما روي عن عمر في امرأة المفقودة وقد خالفه عثمان وعلي في ذلك وكتعليق الحنفيين بما روي عن ابن مسعود في جعل الآبق وخالفوه في تلك القضية نفسها في تحديد المسافة وكتوريثهم المطلقة ثلاثا في المرض تعلقا بعمر وعثمان وقد خالفهما ابن عباس وابن الزبير وقد اختلف عمر وعثمان في ذلك أيضا وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر بن الخطاب وتقليد الحنفيين له فيما صح عنه
من طريق الشعبي عن شريح أنه كتب إليه أن يحكم في غير الدابة بربع ثمنها وكتقليد المالكيين والحنفيين له في جلده في الخمر أربعين وخالفه الشافعيون في ذلك وقد صح عن عمر وعثمان وعلي وأبي بكر جلد أربعين في الخمر وكتقليد المالكيين والحنفيين لعائشة أم المؤمنين في ما لم يصح عنها في إنكارها بيع شيء إلى أجل ثم يبتاعه البائع له بأقل من ذلك الثمن وخالفها الشافعي في ذلك وخالفها فيه أيضا زيد بن أرقم وكتقليدهم عمر في أجل العنين وقد خالفه في ذلك علي ومعاوية والمغيرة بن شعبة وكتقليد الحنفيين والمالكيين عمر في تقويم الدية بالذهب والفضة وخالفه الشافعي وخالفه الحنفيون والمالكيون أيضا في تقويم الدية بالبقر والغنم والحلل وكتقليد المالكيين والحنفيين ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان في حيازة الهبات وقد خالفهم ابن مسعود وروي الخلاف في ذلك عن أبي بكر وكتقليد المالكيين والشافعيين لعمر في رد المنكوحة بالعيوب وخالفوه في الرجوع بالصداق وخالفه في ذلك علي وغيره وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر وابن مسعود في قولهما من ملك ذار رحم محرم فهو حر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة في ذلك وكخلاف المالكيين والزبير وقدامة بن مظعون وأبا الدرداء وابن مسعود في إباحة نكاح المريض ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وكمخالفة الحنفيين والمالكيين أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وابن الزبير وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في القود من اللطمة وكسر الفخذ لا يعرف لهم من الصحابة مخالف كخلافهم في إضعاف القيمة في ناقة المزني ولا يعرف من الصحابة مخالف في ذلك وكخلافهم عمر في قضائه في الترقوة بحمل وفي ضلع بحمل ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ومثل هذا لهم كثير جدا يجاوز المئين من القضايا قد جمعناها والحمد لله في كتابنا الموسوم بكتاب الإعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس قال أبو محمد وأما قول من قال منهم إذا كان ذلك من فعل الإمام فهم أترك الناس لذلك مع تعري قولهم من الدلالة ومما حضر ذكره من ذلك احتجاجهم في جلد الشاهد بالزنى والشاهدين والثلاثة إذ لم يتموا أربعة حد القاذف
احتجاجا بجلد عمر أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد بحضرة الصحابة في ذلك المقام نفسه إذ قال أبو بكرة لما تم جلده وقام أشهد أن المغيرة زنى فأراد عمر جلده فقال له علي إن جلدته فارجم المغيرة فتركه وكلهم يرى جلده ثانية إذا قالها بعد تمام جلده أفلا حياء إذ لا تقوى وهل سمع بأفحش من هذا العمل وأفصح منه ومثل هذا لهم كثيرا جدا وأما دعواهم وقولهم في الاشتهار والانتشار فطريف جدا وإنما هم قوم أتى أسلافهم كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وعيسى بن أبان ونظرائهم وكمالك وابن وهب وسحنون وإسماعيل ونظرائهم وكالشافعي والمزني والربيع وابن شريح ونظرائهم فاحتجوا لما قاله الأول منهم بمرسل أو رواية عن صاحب نجدها في الأكثر لا تصح أو تصح ونجد فيها خلافا من صاحب آخر أو لا نجد فأشاعوها في أتباعهم فتلقاها الأتباع عنهم وتدارسوها وتهادوها بينهم وأذاعوا عند القلة الآخذة عنهم فتداولوها على ألسنتهم ومجامعهم وفي تواليفهم وفي مناظرتهم بينهم أو مع خصومهم فوسموها بالانتشار والاشتهار والتواتر ونقل الكواف وهي في أصلها هباء منبث وباطل مولد أو خامل في مبدئه وإن كان صحيحا لم يعرف منتشرا قط فهذه صفة ما تدعون فيه الانتشار والتواتر كالخبر المضاف إلى معاذ رضي الله عنه في اجتهاد الرأي فما عرفه قط أحد في عصر الصحابة ولا جاء قط عن أحد منهم أنه ذكره لا من طريق صحيحة ولا من طريق واهية ولا متصلة ولا منقطعة ولا جاء قط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده وإنما أخذه عن مجهول لا يعرفه أحد عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا فأخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط شعبة وأبو إسحاق الشيباني ثم اختلفوا أيضا في كافة لفظه ومعناه على أبي عون فلما ظفر القائلون بالرأي عند شعبة وثبوا عليه وطاروا به شرقا وغربا وكادوا يضربون الطبول حتى عرفه من لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وادعوا فيه التواتر
ومعاذ الله من هذا فما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واه ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ممن لا يعرف عمن لم يسم ممن لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا ذكره أحد منهم غير أبي عون بن عبيد الله الثقفي وحده كما ذكرنا فهذه صفة جمهور ما يدعون فيه التواتر والانتشار بل صفة جميعه وأتوا إلى المشهور المنتشر الفاشي فخالفوه بلا كلفة ولا مؤنة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بالأصحاب وككونه صلى الله عليه وسلم إمامنا في صلاة ابتدأها أبو بكر وكالمساقاة إلى غير أجل وغير ذلك من حكم عمر في إضعاف القيمة في ناقة المزني على رقيق حاطب وإضعاف عثمان الدية على القاتل في الحرم وغير ذلك كثير جدا قال أبو محمد وفي كلامنا في الفصل الذي ذكرنا آنفا في كلامنا في الإجماع الذي أبطلنا فيه قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع إبطال لقولهم في هذا الباب لأنه إذا بطل القول بدعوى الإجماع فيما لا يعرف فيه خلاف والقول بدعوى الإجماع فيما يوجد فيه الخلاف العظيم أظهر بطلانا وأفحش سقوطا قال أبو محمد وليست منهم طائفة إلا وهي تضحك غيرها منهم بهذا الحجر يعني مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان هذا إجماعا ومخالف الإجماع عندهم كافر فكلهم كافر على هذا الأصل الفاسد إذ ليس منهم طائفة إلا وقد خالفت صاحبا فيما لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف في أزيد من مائة قضية وتمادوا عليها مع احتجاج بعضهم على بعض بذلك وتنكيثهم لهم أبدا ويلزمهم تكفير فضلاء التابعين بمثل هذا نفسه ولا بد لهم ضرورة من هذا أو من ترك دعواهم في هذا الفصل الإجماع وهذا أولى بهم لأنه ترفيه عن أنفسهم وترك لدعوى الكذب وقصة واحدة تكفي في خلاف الإجماع إذا قامت به الحجة على مخالفه فكيف وقد جمعنا لهم من ذلك مئين من المسائل على كل طائفة من الحنفيين والمالكيين والشافعيين وبالله التوفيق وأما قول من قال منهم إن قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف حجة وليس إجماعا فهو أيضا عائد عليهم فيما خالفوا فيه الذي لا يعرف له منهم مخالف وسيأتي الرد على هذا القول في باب الكلام في إبطال التقليد إن شاء الله عز وجل وبه نستعين لا إله إلا هو ويكفي من إبطال ذلك أنه لم يأت قرآن ولا سنة
بإيجاب تقليد الصاحب الذي لا يعرف له منهم مخالف لا سيما فيما خالف تلك الرواية عن ذلك الصاحب نص القرآن أو السنة الثابتة وفي هذا خالفناهم لا في رواية عن صاحب موافقة للقرآن أو السنة وإذا لم يأت بذلك قرآن ولا سنة فهو قول فاسد ودعوى باطلة وإنما جاء النص باتباع القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم فقط وبأن الدين قد كمل والحمد لله رب العالمين فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأما من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل العنبري ومحمد بن الحسن مولى بني شيبان والحسن بن زياد اللؤلؤي وقول بكر بن العلاء ليس لأحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ وقول القائل ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح الكلابي وعبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة فأقوال في غاية الفساد وكيد الدين لا خفاء به وضلال مغلق وكذب على الله تعالى إذا نسبوا ذلك إليه أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم في شيء وهي كما نرى متدافعة متفاسدة ودعاوى متفاضحة متكاذبة ليس بعضها بأولى من بعض ولا بعضها بأدخل في الضلالة والحمق من بعض ويقال لبكر من بينهم فإذا لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو من جاء بعد متعقبا عليه وعلى غيره ممن هو أعلم منه بالسنن وأصح نظرا أو مثله كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما ويقال له أيضا إن قولك هذا السخيف الدال على ضلالة قائله وجهالته وابتداعه ما لم يقله مسلم قبله يوجب أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل وهم أئمتك بإقرارك كان لهم أن يختاروا إلى أن انسلخ ذو الحجة من سنة مائتين فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين
وغابت الشمس من تلك حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم قبل ذلك من الاختيار فهل سمع بأسخف من هذا الاختلاط وليت شعري ما الفرق بين سنة مائتين وبين سنة ثلاثمائة أو أربعمائة أو غيرها من سني التاريخ ويقال للحنفيين أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والقول في دين الله تعالى بالظن الكاذب والرأي الفاسد والشرع لما لم يأذن به الله تعالى لأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن واللؤلؤي على جهلهم بالسنن والآثار وفساد رأيهم وقياساتهم التي لم يوفقوا منها إلا لكل بارد متخاذل والتي هي في المضاحك أدخل منها في الجد ويجعلون تلك الأقوال الفاسدة خلافا على القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يجيزون الأخذ بالسنن الثابتة للشافعي ولا لأحمد بن حنبل ولا لإسحاق بن راهويه وداود بن علي وأبي ثور ومحمد بن نصر ونظرائهم على سعة علم هؤلاء بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وعلى تبحرهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين وثقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل وأن من قال منهم بالقياس فقياسه من أعذب القياس وأبعده من ظهور الفساد فيه وأجرأه على علته مع شدة ورع هؤلاء وما منحهم الله تعالى من محبة المؤمنين لهم وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم وحلول أبي حنيفة وأصحابه في صدر هذه المنازل فإن موهوا بتقدم عصر أبي حنيفة وموه المالكيون بتقديم عصر مالك وتأخر عصر من ذكرنا قلنا هذا عجب آخر وقد علمنا وعلمتم أنه لم يكن بين آخر وقت فتيا أبي حنيفة وأول أوقات الشافعي إلا نحو ثلاثين عاما ولم يكن بين آخر فتيا مالك وبين أول فتيا الشافعي إلا عام أو نحوه ولعله قد أفتى في حياة مالك وقد أفتى الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن واللؤلؤي أحياء وكذلك أفتى المغيرة وابن كنانة وابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن الماجشون أحياء ومات الشافعي وأشهب في شهر واحد ومات الحسن بن زياد بعدهم بنحو عام ومات الماجشون ومطرف بعدهما بأعوام كثيرة فليت شعري من المبيح لبعضهم ما حجزوه عن بعض ثم لم يكن بين آخر فتيا مالك وأول وقت فتيا أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا عشرين عاما أفي مدة عشرين عاما
يغلق باب الاختبار تعالى الله عن قول المجانين وكل هؤلاء أفتى والحسن بن زياد حي فما الذي أباح للحسن بن زياد ولابن القاسم من الفتيا ما لم يبح لأحمد وإسحاق وأبي ثور وبالله إن بينهم وبين ذينك من التفاوت في العلم أكثر مما بين المشرق والمغرب ثم أفتى داود بن علي ومحمد بن نصر ونظراؤهما مع أحمد وإسحاق وأبي ثور ثم هكذا ينشأ العلماء ويموت العلماء عاما عاما وما هو إلا ليلة ثم جمعة ثم شهر إلى شهر وعام إلى عام حتى يرث الله الأرض ومن عليها فمن حد حدا أو وقف الاختيار عليه ومنعه بعده فقد سخف وكذب واخترع دين ضلالة وقال بلا علم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال الله عز وجل { يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } وقال تعالى { وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } وقال تعالى { تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } وقال تعالى { ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون } فلم يخص عز وجل عصرا من عصر ولا إنسانا من إنسان فمن خالف هذا فهو مضل داخل في أعداد النوكى لإطلاقه لسانه بالتخليط والحق في هذا الذي لا يحل خلافه فهو إن خالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى في القرآن وفي السنن المبينة للقرآن لا يحل لأحد أصلا ولا يجوز أن يعد قول قائل كائنا من كان خلافا لذلك بل يطرح على كل حال وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الأمة لا نقول مباح بل فرض لا يحل تعديه لأنهما لا يخلو أن في كل فتيا لهم من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا إما موافقة النص من القرآن والسنة الثابتة وإما مخالفة النص كذلك فإن كانت فتياهما أو فتيا أحدهما موافقة نص القرآن أو السنة فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك لأن الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى وإن
كانت فتياهما مخالفة للنص فلا يحل لأحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال قال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي قال ولا على ملة عثمان أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم نا يونس بن عبد الله بن مغيث نا يحيى بن عابد نا الحسين بن أحمد بن أبي خليفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر نا عبد الله بن الوليد نا عبيد بن الحسين قال قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب قال عمر بن عبد العزيز قاتلهم الله ما أردت دون رسول الله إماما فهؤلاء الصحابة والتابعون فيمن تعلق المخالفون فإن موهوا بكثرة أتباع أبي حنيفة ومالك وبولاية أصحابهما القضاء فقد قدمنا أن الكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله عز وجل { وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون } وقال { قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من لخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا لذين آمنوا وعملوا لصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فستغفر ربه وخر راكعا وأناب } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء وأنذر عليه السلام بدروس العلم وظهور الجهل فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن وهيهات إذا هبطت نجران من رمل عالج فقولا لها ليس الطريق هنالك ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دروس العلم والذي درس هو اتباع القرآن والسنن فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون
جعلنا الله منهم ولا عدا بنا عنهم وثبتنا في عدادهم وأحشرنا في سوادهم آمين آمين وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى وأندم وما عناية جورة الأمراء وظلمة الوزراء خلة محمودة ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء وعودة الخلافة ملكا عضوضا وانبراء على أهل الإسلام وابتزازا للأمة أمرها بالغلبة والعسف فأولئك القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام المحيين لسنن الجور والمكر والقبالات وأنواع الظلم وحل عرى الإسلام وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي ثم سائر ما كانوا يتشاهدونه معهم على ما استعانوا هم عليه من تسمية أمور ملكهم فمثل هؤلاء لا يتكثر بهم وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف على هارون الرشيد وتغلب يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم فلم يقلد للقضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان واعتنيا به والناس حراص على الدنيا فتلمذ لهما الجمهور لا تدينا لكن طلبا للدنيا وولاية القضاء والفتيا والتديك على الجيران في المدن والأرياض والقرى واكتساب المال بالتسمي بالفقه هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره فاضطرت العامة إليهم في أحكامهم وفتياهم وعقودهم ففشا المذهبان فشوا طبق الدنيا قال الله عز وجل { زين للناس حب لشهوات من لنساء ولبنين ولقناطير لمقنطرة من لذهب ولفضة ولخيل لمسومة ولأنعام ولحرث ذلك متاع لحياة لدنيا ولله عنده حسن لمآب } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصار من خالفهم مقصودا بالأذى مطلوبا في دمه أو مهجورا مرفوضا إن عجزوا عن أذاه لمنزلة له عند السلطان أو لكفه للسانه وسده لبابه إذ وسعته التقية والصبر صبر وكذلك إفريقية كان الغالب فيها السنن والقرآن إلى أن غلب أسد بن الفرات بن أبي حنيفة ثم ثار عليهم سحنون بن أبي مالك فصار القضاء فيهم دولا يتصاولون على
الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم الخيار وكان مالكيا فتوارثوا القضاء كما تورث الضياع فرجعوا كلهم إلى رأي مالك طمعا في الرياسة عند العامة فقط هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره قرب إلينا داء الأمم قبلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إننا سنركب سنن من قبلنا فقيل اليهود والنصارى يا رسول الله قال فمن إذا وهذا مما أنذر به رسول الله فهو من معجزات نبوته وبراهينه عليه السلام وهكذا قلدت هاتان الطائفتان أحبارهم وأساقفتهم فحملوهم على آرائهم قال أبو محمد وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن يختلف المسلمون في مسألتين على أقوال فيقوم برهان من النص على صحة أحد تلك الأقوال في المسألة الواحدة فقال أبو سليمان إنه برهان على صحة قولهم في المسألة الأخرى وخالفه في ذلك ابنه أبو بكر وأبو الحسن بن المغلس وجمهور أصحابنا وقول أبي سليمان في هذه المسألة خطأ لا خفاء به لأنه قول بلا برهان ثم يجب لو صح هذا أن يكون صواب من أصحاب في مسألة برهانا على أنه مصيب في كل مسألة قالها وهذا لا يخفى على أحد بطلانه وما ندري كيف وقع لأبي سليمان هذا الوهم الظاهر الذي لا يشكل وتكلموا أيضا في معنى نسبة هذا الإجماع وهو أن يصح إجماع الناس على أن حكم أمر كذا كحكم أمر كذا ثم اختلفوا فمن مانع لا من موجب ومن مبيح لكليهما أو من موجب حكما في كليهما فقال برهان من النص على حكم ما جاء في إحدى المسألتين فواجب أن يكون حكم الأخرى كحكمها لصحة الإجماع على أن حكمهما سواء قال أبو محمد لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الإسلام حتى لا يشذ منها شيء لكان هذا حكما صحيحا ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلما من لم يقل به وحتى لو أمكن معرفة قول العالم فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه
لا سبيل البتة ولا إمكان أصلا في حصر أقوال جميع علماء أهل الإسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا قال أبو محمد ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا قد اختلف الناس في ذلك فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة ومن مبيح لها جملة ثم صح النص بإباحتها عن النصف وقد صح الإجماع على أن حكمها أقل من النصف وأكثر من النصف كالحكم في النصف قال أبو محمد ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة والدعاوى المعوجة بل نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لأصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف والمعاملين النصف فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءا مسمى ويقتصر على بعضه فذلك له إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره فإن قيل فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل قلنا لم يجز ذلك لأن النص الوارد في الربا مما عنى التماثل وحظره وتوعدنا عليه ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل ولم يمنع ما دخل في الإباحة المذكورة بالنص ما هو أقل من النصف أو الكل وبالله التوفيق قال أبو محمد علي وكثيرا ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه ومثل هذا كثير جدا فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم وأنتم تنكرون دعوى معنى الإجماع وتجعلونها كذبا على الأمر أن يقال لكم
فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة القرآن وشرائع دينكم قال أبو محمد فقلنا ما تناقضنا في شيء من ذلك وأما احتجاجنا على مخالفينا موافقتهم لنا على حكم ما وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط فبينا عليهم القول في الدين بلا برهان وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة ولم ندع إجماعا ولم نصححه إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا بمعنى موافقته لنا فقط فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفا وهو امتناع اليهود من الإقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه وأنكرنا على المذكورين آنفا أن قالوا قولا بلا برهان وخروجهم عما قد صح البرهان بصحته وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة والحمد لله رب العالمين وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت والانتقال معه إذا نقل فقط وبالله تعالى التوفيق فصل في معنى نسبوه إلى الإجماع وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن ذكروا أن يختلف الناس على قولين فأكثر في مسألة فيشهد النص من القرآن والسنة بصحة قول من تلك الأقوال فيبطل سائرها ثم تقع فروع من تلك المسألة فقالوا يجب أن يكون المقول به هو ما قاله من شهد النص لصحه قوله في أصل تلك المسألة ونظروا ذلك بالحكم العاقلة قال بها قوم ولم يعرفها قوم منهم عثمان البتي فصح النص بقول من صححها فلما صرنا إلى من هم العاقلة وجب أن ينظروا إلى من أجمع القائلون بالعاقلة على أنه من
العاقلة فيكون من العاقلة ومن اختلفوا فيه أهو من العاقلة أم لا ألا يكون من العاقلة قال أبو محمد وقولنا ههنا هو قولنا فيما سلف من أنه إذا أمكن أن يعرف الإجماع في ذلك لكان حجة لكن لا سبيل إلى إحصائهم ولا إلى حصر أقوالهم لما قدمنا قبل ونحن في سعة والحمد لله عن التعلق بهذه الثنايا الأشبة والتورط في هذه المضايق القشبة بما قد بينه لنا ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من النص الذي لا دين لنا فيه وما عداه فليس من دين الله تعالى ولا من عنده عز وجل وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بطن عقولة وألزم اليهودية من قتل بينهم لو اعترفوا أنه قتله بعضهم خطأ أو قام بذلك بينة فوجب بذلك أن العاقلة هم بطن القاتل خطأ الذي ينتمي إليه حتى بلغ إلى القبيلة التي تقف عندها وهكذا في كل شيء والحمد لله رب العالمين فصل واختلفوا هل يدخل أهل الأهواء أم لا قال أبو محمد قد أوضحنا قبل والحمد لله رب العالمين أن الإجماع لا يكون البتة إلا عن نص منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على باطل لم يأت من عند الله تعالى من رأي ذي رأي أو قياس من قائس يحكمان بالظن فإن ذلك كذلك والسؤال باق وهل نقبل نقل أهل الأهواء وروايتهم فقولنا في هذا وبالله تعالى التوفيق إن من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو المؤمن المسلم ونقله واجب قبوله إذا حفظ ما ينقل ما لم يمل إيمانه إلى كفر أو فسق وأهل الأهواء وأهل كل مقالة خالفت الحق وأهل كل عمل خالف الحق مسلمون أخطؤوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يكدح شيء من هذا في إيمانهم ولا في عدالتهم بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا أجرا واحدا إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ
لأن الله تعالى يقول { دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما } ونقلهم واجب قبوله كما كانوا وكذلك شهادتهم حتى إذا قامت على أحد منهم الحجة في ذلك من نص قرآن أو سنة ما لم تخص ولا نسخت فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل أو خلاف رسوله صلى الله عليه وسلم أو نطق بذلك فهو كافر مرتد لقول الله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وإن لم يدن لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة فهو فاسق بعمله مؤمن بحقده وقوله ولا يجوز قبول نقل كافر ولا فاسق ولا شهادتهما قال الله تعالى { يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } وقد فرق بعض السلف بين الداعية وغير الداعية قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش وقول بلا برهان ولا يخلو المخالف للحق من أن يكون معذورا بأنه لم تقم عليه الحجة أو غير معذور لأنه قامت عليه الحجة فإن كان معذورا فالداعية وغير الداعية سواء كلاهما معذور مأجور وإن كان غير معذور لأنه قد قامت عليه الحجة فالداعية وغير الداعية سواء وكلاهما إما كافر كما قدمنا وإما فاسق كما وصفنا وبالله تعالى التوفيق ولا فرق فيما ذكرنا بين من يخالف الحق بنحلة أو بفتيا إذا لم يفرق الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين ذلك إنما قال { تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون } عم عز وجل ولم يخص قال بعضهم إن الصحابة اختلفوا في الفتيا فلم ينكر بعضهم على بعض بل أنكروا على من خالف في ذلك قلنا ليس كما قلتم إنما لم ينكروا على من لم تقم الحجة عليه في المسألة فقط
وأنكروا أشد الإنكار على من خالف بعد قيام الحجة عليه وكيف لم ينكروا وقد ضربوا على ذلك بالسيوف من خالفهم فأي إنكار أشد من هذا أو ليس عمر قد قال والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا موتا وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فما قدح هذا في عدالته إذ قال مخطئا ثم رجع إلى الحق إذ سمع القرآن { إنك ميت وإنهم ميتون } وإن المتمادي على هذا القول بعد قيام الحجة عليه كافر من جملة غالية السبائية أو ليس ابن عباس يقول أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الإمام أنه سمعه يقول من صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه يعني باعتقاده فهو كافر قال أبو محمد صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بحكم عمر وكيف لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما وإسحاق رحمه الله من نقول له قال الله عز وجل كذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قال أبى سحنون ذلك ومن قلنا له هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا في غنى عنه ما أحتاج إليه مع قول العلماء ومن قال لنا لو رأيت شيوخي يستدبرون القبلة في صلاتهم ما صليت إلى القبلة والله ما في بدع أهل البدع شيء يفوق هذه وليت شعري إن كان هؤلاء القوم مؤمنون بالله تعالى وبالبعث وبأنهم موقوفون وأن الله سيقول لهم ألم آمركم باتباع كتابي المنزل وبنبي المرسل ألم أنهكم عن اتباع آبائكم ورؤسائكم ألم آمركم برد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي وقدمت إليكم الوعيد فماذا أعدوا من الجواب لذلك الموقف الفظيع والمقام الشنيع والله لتطولن ندامتهم حين لا ينفعهم الندم وكأن به قد أزف وحل
نسأل الله أن يوزعنا شكر ما من علينا من اتباع كلامه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أن بغض إلينا اتباع من دونه ودون رسوله صلى الله عليه وسلم ونسأله أن يميتنا على ذلك وأن يفيء بأهل الجهالة والضلالة آمين آمين
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان جميع العقود والعهود والشروط إلا ما أوجبه منها قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة قال أبو محمد إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل من أجل أنه انتقل ذلك الشيء المحكوم فيه عن بعض أحواله أو لتبدل زمانه أو لتبدل مكانه فعلى مدعي انتقال الحكم من أجل ذلك أن يأتي ببرهان من نص قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة على أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل فإن جاء به صح قوله وإن لم يأت به فهو مبطل فيما ادعى من ذلك والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشيء المحكوم فيه عليه لأنه اليقين والنقلة دعوى وشرع لم يأذن الله تعالى به فهما مردودان كاذبان حتى يأتي النص بهما ويلزم من خالفنا في هذا أن يطلب كل حين تجديد الدليل على لزوم الصلاة والزكاة وعلى صحة نكاحه مع امرأته وعلى صحة ملكه لما يملك ويقال للمخالف في هذا أخبرنا أتحكم أنت بحكم آخر من عندك أم تقف فلا تحكم بشيء أصلا لا بالحكم الذي كنت عليه ولا بغيره فإن قال بل أقف قيل له وقوفك حكم لم يأتك به نص وإبطالك حكم النص الذي قد أقررت بصحته خطأ عظيم وكلاهما لا يجوز وإن قال بل أحدث حكما آخر قيل له أبطلت حكم الله تعالى وشرعت شرعا لم يأذن به الله وكلاهما من الطوام المهلكة نعوذ بالله من كل ذلك ويقال له في كل حكم تدين به لعله قد نسخ هذا النص أو لعل ههنا ما يخصه
لم يبلغك ويقال له لعلك قد قتلت مسلما أو زنيت فالحد أو القود عليك فإن قال أنا على البراءة حتى يصح علي شيء ترك قوله الفاسد ورجع إلى الحق وناقض إذ لم يكن سلك في كل شيء هذا المسلك ويلزمهم أيضا ألا يرثوا موتاهم إذ لعلهم قد ارتدوا أو لعلهم قد تصدقوا بها أو لعلهم أدانوا ديونا تستغرقها فيلزمهم إقامة البينة على براءة موتاهم في حين موتهم على كل ذلك والذي يلزمهم يضيق عنه جلد ألف بعير ويلزمهم ألا يقولوا بتمادي نبوة نبي حتى يقيم كل حين البرهان على صحة نبوته وأما نحن فلا ننتقل عن حكم إلى حكم آخر إلا ببرهان وكذلك نقول لكل من ادعى النبوة كمسيلمة والأسود وغيرهما عهدناكم غير أنبياء فأنتم على بطلان دعواكم حتى يصح ما يثبتها وكذلك نقول لمن ادعى أن فلانا قد حل دمه بردة أو زنى عهدناه بريئا من كل ذلك فهو على السلامة حتى يصح الدليل على ما تدعيه وكذلك نقول لمن ادعى أن فلانا العدل قد فسق أو أن فلانا الفاسق قد تعدل أو أن فلانا الحي قد مات أو أن فلانة قد تزوجها فلان أو أن فلانا طلق امرأته أو أن فلانا قد زال ملكه عما كان يملك أو أن فلانا قد ملك ما لم يكن يملكه وهكذا كل شيء على أننا ما كنا عليه حتى يثبت خلافه فإنما جاء قوم إلى هذه الحماقات في مواضع يسيرة أخطؤوا فيها فنصروا خطأهم بما يبطل كل عقل وكل معقول وذلك نحو قولهم إن الماء إذا حلته نجاسة فقد تنجس وإن من شك بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء وأشباه هذا فقالوا إن الماء الذي حكم الله بطهارته لم يكن حلته نجاسة فقلنا لهم وإن الرجل الذي حرم الله دمه لم يكن شاب ولا حلق رأسه ولا عليه صفرة من مرض لم يكن فيه فبدلوا حكمه لتبدل بعض أحواله وقالوا عليه ألا يصلي إلا بيقين طهارة لم يتلها شك قلنا فحرموا على من شك أباع أمته أم لم يبعها أن يطأها أو يملكها لشكه في انتقال ملكه وحدوا كل من شككتم أزنى أم لم يزن وقد ذكرنا اعتراضهم بمسألة قول اليهود قد وافقتمونا على صحة نبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبينا أننا لم ننتقل إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ببراهين أظهر من براهين موسى لولاها لم
نتبعه ونحن لا ننكر الانتقال من حكم أوجبه القرآن أو السنة إذ جاء نص آخر ينقلنا عنه إنما أنكرنا الانتقال عنه بغير نص أوجب النقل عنه لكن لتبدل حال من أحواله أو لتبدل زمانه أو مكانه فهذا هو الباطل الذي أنكرناه وقال المالكيون من شك أطلق امرأته أم لم يطلقها فلا شيء عليه فأصابوا ثم قالوا فإن أيقن أنه طلقها ثم شك أو واحدة أو اثنتين أو ثلاثا فهي طالق ثلاثا وقالوا من شك أطلق امرأة من نسائه أم لا فلا شيء عليه فإن أيقن أنه طلق إحداهن ثم لم يدر أيتهن هي فهن كلهن طلق ففرقوا بين ما لا فرق بينه بدعوى عارية عن البرهان فإن قالوا إن ههنا هو على يقين من الطلاق فقلنا نعم وعلى شك من الزيادة على طلاقها واحدة والشك باطل كسائر ما قدمنا قبل وكذلك ليس من نسائه امرأة يوقن أنه طلقها فقد دخلتم فما أنكرناه على المخالفين من نقل الحكم بالظنون بل وقعوا في الباطل المتيقن وتحريم يقين الحلال من باقي نسائه اللواتي لم يطلقهن بلا شك وفي تحليل الحرام المتيقن إذ أباحوا الفروج اللواتي لم تطلق للناس ولزمهم على هذا إذا وجدوا رجالا قد اختلط بينهم قاتل لا يعرفونه بعينه أو زان محصن لا يعرفونه بعينه أن يقتلوهم كلهم نعم وأن يحملوا السيف على أهل مدينة أيقنوا أن فيها قاتل عمد لا يعرفونه بعينه وأن يقطعوا أيدي جميع أهلها إذا أيقنوا أن فيها سارقا لا يعرفونه بعينه وأن يحرموا كل طعام بلد قد أيقنوا أن فيه طعاما حراما لا يعرفونه بعينه وأن يرجموا كل محصنة ومحصن في الدنيا لأن فيهم من قد زنى بلا شك ولزمهم فيمن تصدق بشيء من ماله ثم جهل مقداره أن يتصدق بماله كله ومثل هذا كثير جدا فظهر فساد هذا القول وبطلانه بيقين لا شك فيه فإن قيل وما الدليل على تمادي الحكم مع تبدل الأزمان والأمكنة قلنا وبالله تعالى التوفيق البرهان على ذلك صحة النقل من كل كافر ومؤمن على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بهذا الدين وذكر أنه آخر الأنبياء وخاتم الرسل وأن دينه هذا لازم لكل حي ولكل من يولد إلى القيامة في جميع الأرض فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال وأن ما ثبت فهو ثابت أبدا في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل
حال حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى وكذلك إن جاء نص بوجوب حكم في زمان ما أو في مكان أو في حال ما وبين لنا ذلك في النص وجب ألا يتعدى النص فلا يلزم ذلك الحكم حينئذ في غير ذلك الزمان ولا في غير ذلك المكان ولا في غير تلك الحال قال تعالى { يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا } وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدرك صلى أن يصلي حتى يكون على يقين من التمام وعلى شك من الزيادة لأنه على يقين من أنه لم يصل ما لزمه فعليه أن يصليه وهذا هو نص قولنا وأما إذا تبدل الاسم فقد تبدل الحكم بلا شك كالخمر يتخلل أو يخلل لأنه إنما حرمت الخمر والخل ليس خمرا وكالعذرة تصير ترابا فقد سقط حكمها وكلبن الخنزير والحمر والميتات يأكلها الدجاج ويرتضعه الجدي فقد بطل التحريم إذا انتقل اسم الميتة واللبن والخمر ومن حرم ما لا يقع عليه الاسم الذي جاء به التحريم فلا فرق بينه وبين من أحل بعض ما وقع عليه الاسم الذي جاء به التحريم وكلاهما متعد لحدود الله تعالى { يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا } وهذا حكم جامع لكل ما اختلف فيه فمن التزمه فقد فاز ومن خالفه فقد هلك وأهلك وبالله تعالى التوفيق وكل احتياط أدى إلى الزيادة في الدين ما لم يأذن به الله تعالى أو إلى النقص منه أو إلى تبديل شيء منه فليس احتياطا ولا هو خيرا بل هو هلكة وضلال وشرع لم يأذن به الله تعالى والاحتياط كله لزوم القرآن والسنة وأما العقود والعهود والشروط والوعد فإن أصل الاختلاف فيها على قولين لا يخرج الحق عن أحدهما وما عداهما فتخليط ومناقضات لا يستقر لقائلها قول على حقيقة فأحد القولين المذكورين إما أنها كلها لازم حق إلا ما أبطله منها نص
والثاني أنها كلها باطل غير لازم إلا ما أوجبه منها نص أما ما أباحه منها نص فكان من حجة من قال إنها كلها حق لازم إلا ما أبطله منها نص أن قال قال الله عز وجل { ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا } وقال عز وجل { هو لذي بعث في لأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم لكتاب ولحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو لعزيز لحكيم } وقال عز وجل { ولذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } وقال تعالى { إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين * لذين ينقضون عهد لله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر لله به أن يوصل ويفسدون في لأرض أولئك هم لخاسرون } وقال تعالى { أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } وقال تعالى { ليس لبر أن تولوا وجوهكم قبل لمشرق ولمغرب ولكن لبر من آمن بلله وليوم لآخر ولملائكة ولكتاب ولنبيين وآتى لمال على حبه ذوي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل ولسآئلين وفي لرقاب وأقام لصلاة وآتى لزكاة ولموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولصابرين في لبأسآء ولضراء وحين لبأس أولئك لذين صدقوآ وأولئك هم لمتقون } وقال تعالى { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين * إن الذين يشترون بعهد لله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في لآخرة ولا يكلمهم لله ولا ينظر إليهم يوم لقيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } وقال تعالى { إن لذين يبايعونك إنما يبايعون لله يد لله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه لله فسيؤتيه أجرا عظيما } وقال تعالى { يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد } وقال تعالى { وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سوآء إن لله لا يحب لخائنين }
وقال عز وجل { لذين يوفون بعهد لله ولا ينقضون لميثاق } وقال تعالى { ولا تشتروا بعهد لله ثمنا قليلا إنما عند لله هو خير لكم إن كنتم تعلمون } وقال تعالى { ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } وقال تعالى { يوفون بلنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا } وقال تعالى { ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن لله يعلمه وما للظالمين من أنصار } وقال عز وجل { ومنهم من عاهد لله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من لصالحين * فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } وقال تعالى { وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا } وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ني زهير بن حرب ثنا وكيع نا سفيان هو الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وبه إلى مسلم نا عبد الأعلى بن حماد ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وإن صام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا
ائتمن خان وبه إلى مسلم ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان ابن فلان وبه إلى مسلم ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن خليد عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وبه إلى مسلم ني زهير بن حرب ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا المستمر بن الريان ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمر عامة وبه إلى مسلم حدثني عبد الله بن هاشم ني عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان هو الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغفلوا ولا تغدروا وذكر باقي الحديث وبه إلى مسلم نا محمد بن المثنى نا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا أحمد بن صالح نا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري ثنا البخاري نا إسحاق نا يعقوب نا ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخبرني عروة بن
الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة فذكرا جميعا خبر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إنه لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة كان فيما اشترط سهيل بن عمرو أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ذلك فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن أبي سهل يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود حدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فذكر الحديث وفيه ثم رجع إلى المدينة فجاءه أبو بصير برجل من قريش يعني أرسلوا في طلبه فدفعه إلى رجلين فخرجا به فلما بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل قد جربت به فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمسكه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأى هذا ذعرا فقال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم قد نجاني الله منهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر وتفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن الفتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة عن الوليد بن جميع نا أبو الطفيل نا حذيفة بن اليمان قال ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم
حدثني محمد بن سعيد نا نبات ثنا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتيبة أن حذيفة بن الحسيل بن اليمان وأباه أسرهما المشركون فأخذوا عليهما ألا يشهدا بدرا فسألا النبي صلى الله عليه وسلم فرخص لهما ألا يشهدا حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا محمد بن بكر نا سليمان بن الأشعث نا قبيصة نا الليث عن محمد بن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيع العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر أنه قال دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت ها تعال أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا بشربن مرحوم نا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا مسدد نا يحيى بن سعيد هو القطان نا شعبة حدثني أبو حمزة نا زهد بن مضرب قال سمعت عمران بن حصين يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون وذكر باقي الخبر وبه إلى البخاري نا محمد بن مقاتل أنا عبد الله بن المبارك أنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال أوف بنذرك حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود السجستاني نا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال ثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون على شروطهم