أيام : كأنني هو (قصة قصيرة)
أيام : كأنني هو محمد همام فكري mhammam@qf.org.qa
كأنني هو , ذلك الطفل الذي يجلس أمام خزانة الكتب في غرفة أبي الأسطورية , كنت أجلس على كليم مزركش بجميع الألوان , ولكنها كانت ألوان باهته , تتداخل في بعضها البعض ليصبح الأحمر بني والبني أخضر والأخضر أزرق أو ما شابه , لكنني لم اكن اعرف حقيقة الالوان , بقدر معرفتي باختلافها , لان اللون الترابي الذي كان يملأ عيني كان يتوارى في ظلمة المكان المعتم . كنت أجلس على وسادة من فرو غنم خشن , كنت اجلس لأتأمل الأرفف التي أثقلتها الكتب, صفوف متراصة من كعوب الكتب العتيقة بجلدتها الغامقة , كان لها وقار اشبه بوقار كل حاجات أبي يرحمه الله , وعندما يخلو المكان اختلس اللحظة , لأفتح ضلفة الدولاب , ثم اشب لألتقط واحداً منها وفي كل مرة كانت تمتد إلي يد .لتزيحني عنها , كان اشدها يدا أبي اليابستين , وصوته الحنون يقول : - لازلت صغيراً .. فأنصرف إلى اللعب المسموح , أنصرف وفي نفسي شيئا تجاه الكتب , وأدخل الغرفة ثانية وأعاود الجلوس وأنظر إليها .. وأقول في نفسي متى يسمح أبي؟ سبقني أخي الأكبر إليها, عندما ناداه أبي يوماً , ليعرفه عليها فجلست بينهما, وسمعت ابي وهو يحملها بين راحتيه ويناولها لأخي ، بعناية شديدة وهو يقول: - هذا الزمخشري .. وهذه مقامات الحريري .. وهذه سيرة أبوزيد الهلالي وتلك دلائل الخيرات .. فأميل برأسي مندهشاً , فيبتسم أبي .. وينصرف .. وأبقى أنا وأخي وخزانة الكتب ...
كأنني هو, ذلك القروي الصغير , بسيط ككل البسطاء الذين جمعتهم قريتنا , نلتقي في الظهيرة تحت أشجار النخيل الباسقة نتأمل الحياة وهي تنساب مع جريان مياه النهر الصغير الراقد تحت أشجار البونسيانا عند أقدام الجسر الذي كان يجمعنا كل مساء .. صغاراً يتطلعون للحياة. كأني هو .. ذلك الفتى النحيل .. أجلس بينهم أصدقاء يتبادلون الأحاديث والأحلام بحجة الاستذكار.. نجلس على سور الجسر نستقبل نسمات المساء الباردة وأفواج البهائم وهي عائدة آخر النهار تحت (غيمة الغبار) . كان الحديث حلواً ملوناً بألوان عصافير الكناريا .. لا يخلو من الجد والهزار. عندما يمتزج الأدب بالنكات .. نطلق الضحكات صافية وهي تتصاعد في الفضاء حتى إذا دخل الليل ندخل فيه ونغني أغنيات صافية أيضاً. ولآن أحلامنا كانت كأفق الليل، ليس لها حدود، كنا نتوشح بدفء الأماني نهديها للنجوم المتلألئة في سماء القرية ونعود في منتصف الليل بعد أن نتواعد على اللقاء في طابور الصباح . وعندما عبرنا القرية إلى المدينة بعد أن أتممنا الدراسة في المرحلة الإعدادية ، حملتنا دراجاتنا كل صباح إلى المدرسة الثانوية.. نواجه بها البرد القارص وتدافع الهواء المترب , كبرنا وكبرت اهتماماتنا، عرفنا الأدب أشكالاً وألواناً .. وارتدنا مكتبات المدينة الصغيرة . وقرأ كل منا في جانب ، وكان الجسر يضمنا في المساء ليحكي كل منا حكاية قرأها أو ينشد شاعر قصيدة حب أو يستعيد درساً. فاستمع الليل إلينا .. حكينا له روايات المنفلوطي وعبدالحليم عبدالله ومحمد حسنين هيكل وردد الصدى معنا أشعار شوقي وحافظ والبارودي .. تبادلنا المشاعر والرؤى. وحدث كل منا الآخر حديث الأدب والفن والعلم في عصر طه حسين والعقاد والمازني ويحي حقي . كأنني هو ذلك الصعلوك الذي لا يملك ثمن إطعام نفسه فبدلاً من أن يملء معدته بالطعام , يشتري كتباً قديمة من على سور بيع الكتب (سور حديقة الأزبكية) .. كتاب أو كتابان يمنحاني زاداً جديداً الوكه في عجالة لاجتره في المساء , عندما يجمعنا سور الجسر فوق النهر المتدفق فقرأت شكسبير وموليير.. وهمنجواي .. وتشيكوف .. ويوسف إدريس .. وغيرهم لا أحصيهم .. وحين أردت أن أكتب قلدتهم .. فضحكت قبل أن أمزقها وألقي بها في النهر . كأنني هو ذلك الطالب الذي يسمتع بشغف إلى أستاذ التاريخ وهو يشرح لنا أسباب الكشوف الجغرافية يحكي أخبار الرحالة والمستكشفين وكأنه يروي لنا حكاية أبطال كأبطال الأساطير .. فيأخذ عقولنا إلى مكتبة المدرسة لنبحث ونقرأ ونلخص قراءاتنا .. نطالع وندون .. ونعلق , نتسابق على القراءة كما يتسابق زملاءنا على لعب الكورة .. وفي المساء يجمعنا الجسر .. منتدى القرية .. الذي يسع أحلامنا .. ويشهد معاركنا الصغيرة عن أبي العلاء وغيره من الشعراء إلى صلاح عبدالصبور. كأنني هو ذلك الصعلوك الذي كان يتردد على مجالس الأدباء من دار لدار .. يلهث وراء الفكر والأدب .. ولم تحده قاعات الدراسة .. فانطلق إلى الهواء الطلق يستنشق الحياة .. كبرنا .. وتناثرنا .. ولم يزل الجسر قابعاً في مكانه فوق النهر الصغير في قريتنا التي لم تعد بسيطة .. لكنني كلما مررت بسيارتي فوق الجسر أتذكر أنني ولدت هناك وشببت هناك.. فألقي سلاماً وأنصرف لكن دقات قلبي ترتجف .. كأنني هو الذي قلت .. رجل بسيط يقترب من الستين عاماً.