أوباما.. وخطابه الأفريقي
أوباما.. وخطابه التاريخي
بقلم:أ. حلمي شعراوي
مازالت قوة جهاز العلاقات العامة للرئيس "باراك أوباما" تثبت تفوقها بما تبدعه من الجديد الأمريكي علي خط العلاقات الدولية؛ فبعد خطاب القاهرة إلي "المسلمين" في العالم، ها هو خطاب "أكرا" إلي "الأفريقيين" جنوب الصحراء، وها هي مقابلته الصحفية واسعة الانتشار تسبق الزيارة، بل جري استثمار تقليده في فتح موقع الكتروني لاستقبال رسائل أبناء القارة إلي الرئيس؛ كأنما لدراسة توقعاتهم! < <
ومثلما في القاهرة يطرح "أوباما" قضايا عامة، وفاقية، لا تغضب أحدا ولا تقدم حلولا محددة لمسائل حساسة ينتظر فيها العالم موقفا أمريكيا جديدا وسريعا، ففي الشرق الأوسط يلتزم التراضي مع "المسلمين الموالين" حول "تصور" متوقع لفلسطين لكن مع استمرار نزيف الدم في العراق وأفغانستان بل وباكستان، وفق الخطط الأمريكية السابقة تقريبا، وفي أفريقيا، وهي الجناح الضعيف في العالم- يتوقف عند التراضي مع الرأي العام الاوربي، وتأثيراته الشائعة في القارة نفسها حول "الإبادة الجماعية" في السودان، وتدمير استبداد موجابي لاقتصاد زيمبابوي، ودخول الإرهاب إلي الصومال، وكسل الأفارقة عن مساعدة أنفسهم في مسائل الفقر والتنمية.
لكن لهجة الخطاب ترتفع بالإعلامية عن تعاون الولايات المتحدة الأكيد في معالجة معظم هذه المسائل؛ "لأن: أفريقيا جزء متكامل مع العالم" وغانا في القلب منها، وهو ابن القارة، وابن راعي الغنم في إحدي بلدانها، وزوجته الناجحة بنت سلالة أفارقة أمريكيين، وليست مجرد وافدة حديثة مثله!
إذن نحن أمام استكمال خطة العلاقات العامة الأمريكية لرئيس جديد ذي كاريزما لافتة، بعد مرور نصف العام الأول، وبعد مقابلته لمعظم زعماء مناطق العالم الحية وآخرها في اجتماع قمة الثماني في إيطاليا.
ومع ذلك فقد شحنت الخطابات في القاهرة أو أكرا بقدر من الرومانسية "والخطابية" فعلا أعفته من المحددات في وقت مازالت الأزمة الاقتصادية العالمية تفرض نفسها، ومازالت العسكرية الأمريكية تعالج تحالفاتها الكبري- المرتبطة بتجارة وصناعة السلاح - مع أصدقائها في إسرائيل وباكستان، بل وشركات الأمن الخاصة في العراق. ومن هنا كان لابد أن يرتبط الخطاب "الاوبامي" بهذه العمومية أو الرومانسية في رأي البعض، تشفع له طبقته المتوسطة في أمريكا، والاسم الحسيني، والأدب الافريقي المسكين..!ولم يحن الوقت بعد- علي ما يبدو- لتقدير مكاسب هذا الخطاب، وإن كان هناك بالطبع ملامح الارتياح من قبل "حكومات الموالاة" في العالم الإسلامي، وقد أشار لهم- وأعاد في أكرا- حقهم في احترام "قيمهم التقليدية" في معالجة مسائل الحكم تبريرا علي ما يبدو لسكوته عن هذه القضية في القاهرة بينما جعلها أساس الخطاب في أفريقيا وغازل فيها نماذج نجاحات سياسة التكيف الهيكلي والديمقراطية الليبرالية خاصة في غانا وبتسوانا! وبدخول "أوباما" ساحة العولمة علي أساس من احترام قدر من التعددية وليس بفجاجة الرئيس بوش عن انفراد القيادة الأمريكية بها، يستطيع "أوباما"أن ينجو من مطالبة أفريقيا لأمريكا بتحمل أسباب الفقر والمعاناة والجوع الغذائي نتيجة السياسة الرأسمالية المتوحشة: وكأنه بإثارته للشراكة هنا يعالج "كون أمريكا أقل الدول السبع في تخصيص نسبة من الدخل القومي للمساعدات الخارجية وفق التقارير الأوربية نفسها، ولتصير اليابان وحتي بريطانيا الأكثر التزاما. يعالج ذلك باقتراحات موسعة للتعاون تضمن المسئولية الجماعية أوروبيا وأفريقيا عن التدهور الذي حدث للتنمية في السنوات الأخيرة.
وبينما "المفهوم العالمي" عن الديمقراطية والحكم الرشيد، لم يثر انتباهه كثيرا في الشرق الأوسط إزاء أصدقاء الموالاة، فإنه صار المدخل الرئيسي لمخاطبة الأفريقيين من أكرا.
وقد قادته في أكرا أيضا نفس الرغبة في تجاوز عمق كثير من المشاكل التي تعانيها القارة، ولا يمكن لأحد أن يتجاهل إلحاحه عن الفساد وتدهور الإنتاجية والتعليم والصحة وحل الصراعات المتعددة الأسباب. ولكني وأنا أراجع خطابه في زياراته السابقة لأفريقيا وخاصة في أغسطس 2006 -وهو عضو كونجرس صاعد- لبلدان ذات دلالة أكثر مثل كينيا وجنوب أفريقيا والكونغو والسودان وجيبوتي، وجدت أنه كان أكثر حرصا علي التلامس مع قضايا القارة الأساسية، وإذ به هنا- في أكرا يدخل بنا إلي متاهات العمومية في أربع قضايا يحددها في: الديمقراطية وفرص التنمية- والصحة- والحلول السلمية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قراءة في الخطاب
فماذا يري المتابعون في خطاب "أوباما" بغانا، غير تلك العموميات التي تحتاج لمزيد من الوقت للتأكد من جدارتها في إنقاذ السياسة الأمريكية بأفريقيا مثل حالة انتظار "المسلمين"" في العالم الإسلامي؟.
كان التصور أن يبدأ أوباما بالإشارة لجذور "الدراما الأفريقية" في الاستغلال الاستعماري الذي شهدته القارة، وأن نري ملامح موقفه بشأن مطالب "الاعتذار عن الاستعمار" أو تجارة الرقيق، علي نحو ما فعل كلنتون نفسه في جزيرة "جوري" بالسنغال من قبل، خاصة وأوباما يخاطب أفريقيا من عاصمة التحرر الوطني بقيادة نكروما الذي ذكره عابرا. كما أن الدعوة لإعلان اعتذار الدول الغربية عن الاستعمار تهم أوساط الطبقات الوسطي والمثقفين في أفريقيا الآن. وإذ بالرئيس أوباما يفاجئ أبناء القارة بأن "الاستعمار قد يكون أساء بالتصرف كسيد وليس كشريك في صراع علي القارة للايحاء بعدم "مسئولية الآخر" في المأساة الأفريقية، بقدر مسئولية أبناء القارة... الخ. وكان الوضع أفضل علي الأقل في خطاب القاهرة حين وضح مسئولية الإدارة الأمريكية عن تصعيد الخطاب ضد المسلمين والإسلام طلبا للتسامح المتبادل والوفاق ضد "المعادين للتعاون".. الخ.. ولذا صدم كثير من الأفارقة من خطاب أوباما حول الاستعمار.. بل إنه بذكره مثال زيمبابوي تحديدا- ترضية للأوربيين- تجاهل أثر تخريب المستوطنين خاصة الزراعيين لاقتصاديات واسعة في القارة (جنوب أفريقيا- المستعمرات البرتغالية سابقا..).
وحتي إشادته بغانا- نموذجا- فإنه يلمح إلي ذلك النجاح التقليدي الذي يشير له الغرب نتيجة سياسات التكيف الهيكلي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، رغم أن ذلك لم ينقذ غانا من الديون ومظاهر الإفقار التي ترتبط بها هذه السياسات.
لكن اختيار غانا لإلقاء الخطاب الافريقي، في رأي الكثيرين، لم يكن له علاقة كبيرة بانفرادها بميزة الليبرالية والديمقراطية، وتداول السلطة وقبول الآخر المعارض، علي نحو ما أبرز الخطاب، ولكن بعض الخبثاء سارعوا بالإشارة إلي الإعداد المبكر في غانا بالتدريب والمساعدات العسكرية- حتي قبل انجاز الديمقراطية- لتكون قاعدة للقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفروكوم)، وهو ما رفضته دول كبيرة مهمة مثل نيجيريا وجنوب أفريقيا، بل إن ذكر بتسوانا العارض" كمثال" آخر للديمقراطية ليس بعيدا عن ترشيحها هي الأخري بعد رفض جنوب أفريقيا. وهكذا نفهم كيف تبني الجملة السياسية في الخطابات المهمة مثل هذه...! وهنا يمكن للقارئ أن يطلع في المصادر النيجيرية علي مثل هذه التلميحات التي تدفع بها بالطبع الحزازات نتيجة عدم اختياره للبلد العملاق في القارة لإلقاء خطابه منه.. مما يذكرنا بمنافسات مشرقية مماثلة عند توجيه خطابه إلي مسلمي الشرق الأوسط!
ولأن أوباما تجاهل الاستعمار، وخاطب المصالح الأمريكية المباشرة فقط فإنه لم يشر للمساعدة في التنمية إلا عبر الجهد الأفريقي الذاتي من جهة وضرورة إتاحة الفرصة للاستثمارات وليس للمساعدات، مهتما مثل الرئيس بوش الذي ذكر "أوباما" مبادرته الأفريقية نحو الصحة والأمراض وتخصيص بعض المليارات لذلك، ويبدو أن الإشارة للصحة والتنمية، كانت تبريرا لانتهاج نفس سياسة بوش والرأسمالية الأمريكية والأوربية عموما تجاه دعم "المزارع الأوربي" ضد الواردات الأفريقية مهما حدث للمحاصيل الأفريقية.. ومشكلة المحاصيل والديون لم ترد في الخطاب بأية درجة واعتقد أن الأزمة الاقتصادية الأمريكية والعالمية تحول بينه وبين ولوج هذا الباب. أما الحديث عن أهمية الديمقراطية والحكم الرشيد، فقد ارتبطت بشكل أخلاقي مناسب لخطابه حول الفساد ونهب الحكام لشعوبهم، وافتقاد المؤسساتية، مما جعله لا يلجأ لتفاصيل في خطابه إلا عندما خاطب مشاعر الجماهير الساخطة مطالبا بمؤسسات برلمانية شفافة- وبوليس شريف، وقضاء مستقل وصحفيين، وقطاع خاص نشط ومجتمع مدني كعناصر فاعلة في المجتمع الافريقي الراغب في مساعدة نفسه.
أما قضايا دارفور والصومال فجعلها فريدة في ذكر الوقائع الأفريقية مرتبطة، بالسائد عن الإبادة الجماعية والإرهاب دون تقديم ملامح المعالجة الأمريكية المتوقعة.
لعل خطاب الديمقراطية والتنمية يجد مساعدة حقيقية ممن يتسابقون نحو القارة، وقد قلنا في مناسبة أخري إن الجميع يرون دائما ثمة "فرصة" علي حد التعبير الأمريكي، في الاقتراب من هذه القارة.. إلا حكام ومستثمرو العرب.. ناهيك عن مثقفيهم.