أمل دنقل - لا تصالح
قصيدة لا تصالح
شاعر الحزن والألم أمل دنقل
(1)
لا تصالحْ !
.. ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك،
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي - بين عينيك - ماءً ؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس - فوق دمائي - ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب ؟
إنها الحربُ !
قد تثقل القلبَ ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ ..
ولا تتوخَّ الهرب !
(2)
لا تصالح على الدم .. حتى بدم !
لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك ؟!
أعيناه عينا أخيك ؟!
وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك ؟
سيقولون :
جئناك كي تحقن الدم ..
جئناك . كن - يا أمير - الحكم
سيقولون :
ها نحن أبناء عم.
قل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر ..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل - في سنوات الصبا -
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها - وهي ضاحكةٌ -
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن .. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها - ذات يوم - أخٌ !
من أبٍ يتبسَّم في عرسها ..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها ..
وإذا زارها .. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة ..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا .. فجأةً ،
وهي تجلس فوق الرماد ؟!
(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ ..؟
وكيف تصير المليكَ ..
على أوجهِ البهجة المستعارة ؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف ؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم - الآن - صار وسامًا وشارة
لا تصالح ،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك : سيفٌ
وسيفك : زيفٌ
إذا لم تزنْ - بذؤابته - لحظاتِ الشرف
واستطبت - الترف
(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
" .. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام .."
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس ؟
كيف تنظر في عيني امرأة ..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟
كيف تصبح فارسها في الغرام ؟
كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام
- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر - بين يديك - بقلب مُنكَّس ؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس ..
واروِ أسلافَكَ الراقدين ..
إلى أن تردَّ عليك العظام !
(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي - لمن قصدوك - القبول
سيقولون :
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ - الآن - ما تستطيع :
قليلاً من الحق ..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة !
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ .
لم أكن غازيًا ،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
أو أحوم وراء التخوم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: "انتبه" !
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ !
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضعلين..
واهتزَّ قلبي - كفقاعة - وانفثأ !
وتحاملتُ ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ : ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
(8)
لا تصالحُ ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا - بهجة الأهل - صوتُ الحصان - التعرف بالضيف - همهمة القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي - الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي - مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًّا
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة !
(9)
لا تصالح
ولو وَقَفَت ضد سيفك كلُّ الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد
وامتطاء العبيد
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم،
وسيوفهم العربية، قد نسيتْ سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك .. المسوخ !
(10)
لا تصالحْ
لا تصالحْ
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماةُ .. و الرماةُ .. و الفرسان
دُعيتُ للميدان !
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شان
أنا الذي أقصيتُ عن مجالس الفتيان :
أدعى الى الموت .. ولم أدع الى المجالسه !!)
العرافة المقدسة
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء أسأل يا زرقاء عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة
عن صور الأطفال في الخوذات... ملقاة علي الصحراء عن جاري الذي يهم بارتشاف الماء فيثقب الرصاص رأسه .. في لحظة الملامسة عن الفم المحشو بالرمال والدماء أسأل يا زرقاء عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدار عن صرخة المرأة بين السبي والفرار كيف حملت العار ثم مشيت؟ دون أن أقتل نفسي؟ دون أن أنهار؟ ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة؟ تكلمي أيتها النبية المقدسة تكلمي بالله باللعنة بالشيطان لا تغمضي عينيك، فالجرذان تلعق من دمي حساءها .. ولا أردها تكلمي لشد ما أنا مهان لا الليل يخفي عورتي .. ولا الجدران ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها ولا احتمائي في سحائب الدخان .. تقفز حولي طفلة واسعة العينين.. عذبة المشاكسة كان يقص عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادق فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادق وحين مات عطشا في الصحراء المشمسة رطب باسمك الشفاه اليابسة وارتخت العينان فأين أخفي وجهي المتهم المدان؟ والضحكة الطروب: ضحكته .. والوجه .. والغمازتان
أيتها النبية المقدسة لا تسكتي .. فقد سكت سنة فسنة لكي أنال فضلة الأمان قيل لي اخرس فخرست وعميت ائتممت بالخصيان ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان أجتز صوفها أرد نوقها أنام في حظائر النسيان طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة وها أنا في ساعة الطعان ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان دعيت للميدان أنا الذي ما ذقت لحم الضان أنا الذي لا حول لي أو شأن أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان أدعي الى الموت ولم أدعَ الى المجالسة تكلمي أيتها النبية المقدسة تكلمي تكلمي فها أنا علي التراب سائل دمي وهو ظمئ يطلب المزيدا أسائل الصمت الذي يخنقني ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا فمن تري يصدقني؟ أسائل الركع والسجودا أسائل القيودا ما للجمال مشيها ويدا ما للجمال مشيها وئيدا؟
أيتها العرافة المقدسة ماذا تفيد الكلمات البائسة؟ قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار فاتهموا عينيك، يا زرقاء بالبوار قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار فاستضحكوا من وهمك الثرثار وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا والتمسوا النجاة والفرار ونحن جرحي القلب جرحي الروح والفم لم يبقي الا الموت والحطام والدمار وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار ونسوة يسقن في سلاسل الأسر وفي ثياب العار مطاطئات الرأس، لا يملكن الا الصرخات التاعسة
- * *
ها أنت يا زرقاء وحيدة، عمياء وما تزال أغنيات الحب، والأضواء والعربات الفارهات، والأزياء فأين أخفي وجهي المشوها كي لا أعكر الصفاء الأبله المموها في أعين الرجال والنساء وأنت يا زرقاء وحيدة عمياء وحيدة عمياء
يونيو 1967
أمل دنقل وقصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
سيرة ذاتية
ولد أمل دنقل في بلدة القلقة بمحافظة قنا في صعيد مصر عام 1940، وله خمس مجموعات شعرية مطبوعة وهي: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، مقتل القمر، العهد الآتي، أحاديث في غرفة مغلقة، وله مجموعة شعرية كتبها خلال فترة مرضه، وهي بعنوان أوراق الغرفة رقم 8، وقد جمع شعره في ديوان واحد بعنوان ديوان أمل دنقل. وتوفي في القاهرة حيث توفي يوم السبت 21/4/1983.
قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!
أسأل يا زرقاء ..
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ !
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار ؟ !
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة ؟ !
تكلَّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. باللهِ .. باللعنةِ .. بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..
تلعقَ من دمي حساءَها .. ولا أردُّها !
تكلمي ... لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي .. ولا الجدران !
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..
ولا احتمائي في سحائب الدخان !
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة
( - كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحراء المشمسة ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..
وارتخت العينان !)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان ؟
والضحكةُ الطروب : ضحكته..
والوجهُ .. والغمازتانْ ! ؟
- * *
أيتها النبية المقدسة .. لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً .. لكي أنال فضلة الأمانْ قيل ليَ "اخرسْ .." فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان ! ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان أجتزُّ صوفَها .. أردُّ نوقها .. أنام في حظائر النسيان طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة . وها أنا في ساعة الطعانْ ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ دُعيت للميدان ! أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن .. أنا الذي لا حولَ لي أو شأن .. أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ، أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !! تكلمي أيتها النبية المقدسة تكلمي .. تكلمي .. فها أنا على التراب سائلً دمي وهو ظمئً .. يطلب المزيدا . أسائل الصمتَ الذي يخنقني : " ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! " أجندلاً يحملن أم حديدا .. ؟!" فمن تُرى يصدُقْني ؟ أسائل الركَّع والسجودا أسائل القيودا : " ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! " " ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! " أيتها العَّرافة المقدسة .. ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟ قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ .. فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار ! قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار .. فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار ! وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا .. والتمسوا النجاةَ والفرار ! ونحن جرحى القلبِ ، جرحى الروحِ والفم . لم يبق إلا الموتُ .. والحطامُ .. والدمارْ .. وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ، وفي ثياب العارْ مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة ! ها أنت يا زرقاءْ وحيدةٌ ... عمياءْ ! وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ ! فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها. في أعين الرجال والنساءْ !؟ وأنت يا زرقاء .. وحيدة .. عمياء ! وحيدة .. عمياء !
تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات
-1-
قلت لكم مرارا
إن الطوابير التي تمر..
في استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهارا)
لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغارا !
-2-
قلت لكم في السنة البعيدة عن خطر الجندي عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة يحرس من يمنحه راتبه الشهري وزيه الرسمي ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء والقعقعة الشديدة لكنه.. إن يحن الموت.. فداء الوطن المقهور والعقيدة: فر من الميدان وحاصر السلطان واغتصب الكرسي وأعلن "الثورة" في المذياع والجريدة!
-3-
قلت لكم كثيراً إن كان لابد من هذه الذرية اللعينة فليسكنوا الخنادقَ الحصينة (متخذين من مخافر الحدود.. دوُرا) لو دخل الواحدُ منهم هذه المدينة: يدخلها.. حسيرا يلقى سلاحه.. على أبوابها الأمينة لأنه.. لا يستقيم مَرَحُ الطفل.. وحكمة الأب الرزينة.. مع المُسَدسّ المدلّى من حزام الخصر.. في السوق.. وفى مجالس الشورى
- * *
قلت لكم..
لكنكم..
لم تسمعوا هذا العبث
ففاضت النار على المخيمات
وفاضت.. الجثث!
وفاضت الخوذات والمدرعات.
سبتمبر 1970
سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس
بكائيات
(الإصحاح الأول)
عائدون؛
وأصغر إخوتهم (ذو العيون الحزينة)
يتقلب في الجب،!
أجمل إخوتهم.. لا يعود!
وعجوز هي القدس (يشتعل الرأس شيبا)
تشم القميص. فتبيض أعينها بالبكاء ،
ولا تخلع الثوب حتى يجئ لها نبأ عن فتاها البعيد
أرض كنعان - إن لم تكن أنت فيها - مراع من الشوك!
يورثها الله من شاء من أمم،
فالذي يحرس الأرض ليس الصيارف،
إن الذي يحرس الأرض رب الجنود!
آه من في غد سوف يرفع هامته؟
غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص؟!
ومن سوف يخطب - في ساحة الشهداء -
سوى الجبناء؟
ومن سوف يغوى الأرامل؟
إلا الذي
سيؤول إليه خراج المدينة!!؟
(الإصحاح الثاني)
أرشق في الحائط حد المطواة
والموت يهب من الصحف الملقاة
أتجزأ في المرآة..
يصفعني وجهي المتخفي خلف قناع النفط
"من يجرؤ أن يضع الجرس الأول.. في عنق القط؟"
(الإصحاح الثالث)
منظر جانبي لفيروز
(وهى تطل على البحر من شرفة الفجر)
لبنان فوق الخريطة:
منظر جانبي لفيروز،..
والبندقية تدخل كل بيوت (الجنوب)
مطر النار يهطل، يثقب قلباً.. فقلبا
ويترك فوق الخريطة ثقباً.. فثقباً..
وفيروز في أغنيات الرعاة البسيطة
تستعيد المراثي لمن سقطوا في الحروب
تستعيد.. الجنوب!
(الإصحاح الرابع)
البسمة حلم
والشمس هي الدينار الزائف
في طبق اليوم
(من يمسح عنى عرقي.. في هذا اليوم الصائف؟)
والظل الخائف..
يتمدد من تحتي؛
يفصل بين الأرض.. وبيني!
وتضاءلت كحرف مات بأرض الخوف
(حاء.. باء)
(حاء.. راء.. ياء.. هاء)
الحرف: السيف
مازلت أرود بلاد اللون الداكن
أبحث عنه بين الأحياء الموتى والموتى الأحياء
حتى يرتد النبض إلى القلب الساكن
لكن..!!
(الإصحاح الخامس)
منظر جانبي لعمان عام البكاء
والحوائط مرشوشة ببقايا دم لعقته الكلاب
ونهود الصبايا مصابيح مطفأة..
فوق أعمدة الكهرباء..
منظر جانبي لعمان؛
والحرس الملكى يفتش ثوب الخلفية
وهى يسير إلى "إيلياء"
وتغيب البيوت وراء الدخان
وتغيب عيون الضحايا وراء النجوم الصغيرة
في العلم الأجنبي،
ويعلو وراء نوافذ "بسمان" عزف البيان!
(الإصحاح السادس)
اشترى في المساء قهوة، وشطيرة. واشترى شمعتين. وغدارة؛ وذخيرة. وزجاجة ماء! … … …
عندما أطلق النار كانت يد القدس فوق الزناد (ويد الله تخلع عن جسد القدس ثوب الحداد) ليس من أجل أن يتفجر نفط الجزيرة ليس من أجل أن يتفاوض من يتفاوض.. من حول مائدة مستديرة. ليس من أجل أن يأكل السادة الكستناء.
(الإصحاح السابع)
ليغفر الرصاص من ذنبك ما تأخر! ليغفر الرصاص.. يا كيسنجر!!
سفر التكوين
(الإصحاح الأول)
في البدء كنت رجلا.. وامرأة.. وشجرة.
كنتُ أباً وابنا.. وروحاً قدُسا.
كنتُ الصباحَ.. والمسا..
والحدقة الثابتة المدورة.
… … …
وكان عرشي حجراً على ضفاف النهر
وكانت الشياه..
ترعى، وكان النحلُ حول الزهرُ..
يطنُّ والإوزُّ يطفو في بحيرة السكون،
والحياة..
تنبضُ - كالطاحونة البعيدة!
حين رأيت أن كل ما أراه
لا ينقذُ القلبَ من الملل!
- * *
(مبارزاتُ الديكة كانت هي التسلية الوحيدة في جلستي الوحيدة بين غصون الشجر المشتبكة! )
(الإصحاح الثاني)
قلتُ لنفسي لو نزلت الماء.. واغتسلت.. لانقسمت!
(لو انقسمت.. لازدوجت.. وابتسمتْ)
وبعدما استحممت..
تناسجَ الزهرُ وشاحاً من مرارة الشفاهْ
لففتُ فيه جسدي المصطكّ.
(وكان عرشي طافيا.. كالفلك)
ورف عصفور على رأسي؛
وحط ينفض البلل.
حدقت في قرارة المياه..
حدقت؛ كان ما أراه..
وجهي.. مكللا بتاج الشوك
(الإصحاح الثالث)
قلتُ: فليكن الحبُ في الأرض، لكنه لم يكن!
قلتُ: فليذهب النهرُ في البحرُ، والبحر في السحبِ،
والسحب في الجدبِ، والجدبُ في الخصبِ، ينبت
خبزاً ليسندَ قلب الجياع، وعشباً لماشية
الأرض، ظلا لمن يتغربُ في صحراء الشجنْ.
ورأيتُ ابن آدم - ينصب أسواره حول مزرعة
الله، يبتاع من حوله حرسا، ويبيع لإخوته
الخبز والماء، يحتلبُ البقراتِ العجاف لتعطى اللبن
- * *
قلتُ فليكن الحب في الأرض، لكنه لم يكن. أصبح الحب ملكاً لمن يملكون الثمن! .. .. .. .. .. ورأى الربُّ ذلك غير حسنْ
- * *
قلت: فليكن العدلُ في الأرض؛ عين بعين وسن بسن. قلت: هل يأكل الذئب ذئباً، أو الشاه شاة؟ ولا تضع السيف في عنق اثنين: طفل.. وشيخ مسن. ورأيتُ ابن آدم يردى ابن آدم، يشعل في المدن النارَ، يغرسُ خنجرهُ في بطون الحواملِ، يلقى أصابع أطفاله علفا للخيول، يقص الشفاه وروداً تزين مائدة النصر.. وهى تئن. أصبح العدل موتاً، وميزانه البندقية، أبناؤهُ صلبوا في الميادين، أو شنقوا في زوايا المدن. قلت: فليكن العدل في الأرض.. لكنه لم يكن. أصبح العدل ملكاً لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان - الكفن! … … … ورأى الرب ذلك غير حسنْ!
- * *
قلت: فليكن العقل في الأرض.. تصغي إلى صوته المتزن. قلت: هل يبتنى الطير أعشاشه في فم الأفعوان، هل الدود يسكن في لهب النار، والبوم هل يضع الكحل في هدب عينيه، هل يبذر الملح من يرتجى القمح حين يدور الزمن؟
- * *
ورأيت ابن آدم وهو يجن، فيقتلع الشجر المتطاول، يبصق في البئر يلقى على صفحة النهر بالزيت، يسكن في البيت؛ ثم يخبئ في أسفل الباب قنبلة الموت، يؤوى العقارب في دفء أضلاعه، ويورث أبناءه دينه.. واسمه.. وقميص الفتن. أصبح العقل مغترباً يتسول، يقذفه صبية بالحجارة، يوقفه الجند عند الحدود، وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني.. وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن. قلت: فليكن العقل في الأرض، لكنه لم يكن. سقط العقل في دورة النفي والسجن.. حتى يجن … … … … ورأى الرب ذلك غير حسن!
(الإصحاح الرابع)
قلت: فلتكن الريح في الأرض؛ تكنس هذا العفن قلت: فلتكن الريح والدم… تقتلع الريح هسهسة؟ الورق الذابل المتشبث، يندلع الدم حتى الجذور فيزهرها ويطهرها، ثم يصعد في السوق.. والورق المتشابك. والثمر المتدلي؛ فيعصره العاصرون نبيذاً يزغرد في كل دن. قلت: فليكن الدم نهراً من الشهد ينساب تحت فراديس عدن. هذه الأرض حسناء، زينتها الفقراء لهم تتطيب، يعطونها الحب، تعطيهم النسل والكبرياء. قلت: لا يسكن الأغنياء بها. الأغنياء الذين يصوغون من عرق الأجراء نقود زنا.. ولآلئ تاج. وأقراط عاج.. ومسبحة للرياء. إنني أول الفقراء الذين يعيشون مغتربين؛ يموتون محتسبين لدى العزاء. قلت: فلتكن الأرض لى.. ولهم! (وأنا بينهم) حين أخلع عنى ثياب السماء. فأنا أتقدس - في صرخة الجوع - فوق الفراش الخشن!
- * *
(الإصحاح الخامس)
حدقت في الصخر؛ وفى الينبوع رأيت وجهي في سمات الجوع! حدقت في جبيني المقلوب رأيتني : الصليب والمصلوب صرخت - كنت خارجاً من رحم الهناءة صرخت؛ أطلب البراءة كينونتي: مشنقتي وحبلي السري: حبلها المقطوع!
سفر الخروج
(أغنية الكعكة الحجرية)
(الإصحاح الأول)
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة.
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدى.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان.. وجمجمة،
وشعاري: الصباح!
(الإصحاح الثاني)
دقت الساعة المتعبة
رفعت أمه الطيبة
عينها..!
(دفعته كعوب البنادق في المركبة!)
… … … …
دقت الساعة المتعبة
نهضت؛ نسقت مكتبه..
(صفعته يد..
- أدخلته يد الله في التجربة!)
… … …
دقت الساعة المتعبة
جلست أمه؛ رتقت جوربه..
(وخزته عيون المحقق..
حتى تفجر من جلده الدم والأجوبة!)
… … … … …
دقت الساعة المتعبة!
دقت الساعة المتعبة!
(الإصحاح الثالث)
عندما تهبطين على ساحة القوم؛ لا تبدئي بالسلام. فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام بعد أن أشعلوا النار في العش.. والقش.. والسنبلة! وغداً يذبحونك.. بحثاً عن الكنز في الحوصلة! وغدا تغتدي مدن الألف عام.! مدنا.. للخيام! مدناً ترتقي درج المقصلة!
(الإصحاح الرابع)
دقت الساعة القاسية وقفوا في ميادينها الجهمة الخاوية واستداروا على درجات النصب شجراً من لهب تعصف الريح بين وريقاته الغضة الدانية فيئن: "بلادي .. بلادي" (بلادي البعيدة!) … … … دقة الساعة القاسية "انظروا .."؛ هتفت غانية تتلوى بسيارة الرقم الجمركي؛ وتمتمت الثانية: سوف ينصرفون إذا البرد حل.. وران التعب. … … … … … دقت الساعة القاسية كان مذياع مقهى يذيع أحاديثه البالية عن دعاة الشغب وهم يستديرون؛ يشتعلون - على الكعكة الحجرية - حول النصب شمعدان غضب يتوهج في الليل.. والصوت يكتسح العتمة الباقية يتغنى لأعياد ميلاد مصر الجديدة!
(الإصحاح الخامس)
اذكريني!
فقد لوثتني العناوين في الصحف الخائنة!
لونتني.. لأني - منذ الهزيمة - لا لون لى..
(غير لون الضياع!)
قبلها؛ كنت أقرأ في صفحة الرمل..
(والرمل أصبح كالعملة الصعبة،
الرمل أصبح: أبسطة.. تحت أقدام جيش الدفاع)
فاذكريني؛.. كما تذكرين المهرب.. والمطرب العاطفي.
وكاب العقيد.. وزينة رأس السنة.
اذكريني إذا نسيتني شهود العيان
ومضبطة البرلمان
وقائمة التهم المعلنة
والوداع!
الوداع!
(الإصحاح السادس)
دقت الساعة الخامسة
ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب
ها هم الآن يقتربون رويداً.. رويداً..
يجيئون من كل صوب
والمغنون - في الكعكة الحجرية - ينقبضون
وينفرجون
كنبضة قلب!
يشعلون الحناجر،
يستدفئون من البرد والظلمة القارسة
يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب
يشبكون أياديهم الغضة البائسة
لتصير سياجاً يصد الرصاص!..
الرصاص..
الرصاص..
وآه..
تغنون: "نحن فداؤك يا مصر"
"نحن فداؤ .."
وتسقط حنجرة مخرسة
معها يسقط اسمك - يا مصر - في الأرض!
لا يتبقى سوى الجسد المتهشم.. والصرخات
على الساحة الدامسة!
دقت الساعة الخامسة
… … …
دقت الخامسة
… … …
دقت الخامسة
… … …
وتفرق ماؤك - يا نهر - حين بلغت المصب!
- * *
المنازل أضرحة، والزنازن أضرحة، والمدى أضرحة، فارفعوا الأسلحة! ارفعوا الأسلحة!
1972
لا تصالحْ!
شعر: أمل دنقل
(1 )
لا تصالحْ! ..ولو منحوك الذهب أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى..؟ هي أشياء لا تشترى..: ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك، حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ، هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ، الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما.. وكأنكما ما تزالان طفلين! تلك الطمأنينة الأبدية بينكما: أنَّ سيفانِ سيفَكَ.. صوتانِ صوتَكَ أنك إن متَّ: للبيت ربٌّ وللطفل أبْ هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟ أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء.. تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟ إنها الحربُ! قد تثقل القلبَ.. لكن خلفك عار العرب لا تصالحْ.. ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟! أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟ سيقولون: جئناك كي تحقن الدم.. جئناك. كن -يا أمير- الحكم سيقولون: ها نحن أبناء عم. قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك واغرس السيفَ في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم إنني كنت لك فارسًا، وأخًا، وأبًا، ومَلِك!
(3)
لا تصالح .. ولو حرمتك الرقاد صرخاتُ الندامة وتذكَّر.. (إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة) أن بنتَ أخيك "اليمامة" زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا- بثياب الحداد كنتُ، إن عدتُ: تعدو على دَرَجِ القصر، تمسك ساقيَّ عند نزولي.. فأرفعها -وهي ضاحكةٌ- فوق ظهر الجواد ها هي الآن.. صامتةٌ حرمتها يدُ الغدر: من كلمات أبيها، ارتداءِ الثياب الجديدةِ من أن يكون لها -ذات يوم- أخٌ! من أبٍ يتبسَّم في عرسها.. وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها.. وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه، لينالوا الهدايا.. ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ) ويشدُّوا العمامة.. لا تصالح! فما ذنب تلك اليمامة لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً، وهي تجلس فوق الرماد؟!
(4)
لا تصالح ولو توَّجوك بتاج الإمارة كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟ وكيف تصير المليكَ.. على أوجهِ البهجة المستعارة؟ كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم.. في كل كف؟ إن سهمًا أتاني من الخلف.. سوف يجيئك من ألف خلف فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة لا تصالح، ولو توَّجوك بتاج الإمارة إن عرشَك: سيفٌ وسيفك: زيفٌ إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف واستطبت- الترف
(5)
لا تصالح ولو قال من مال عند الصدامْ ".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.." عندما يملأ الحق قلبك: تندلع النار إن تتنفَّسْ ولسانُ الخيانة يخرس لا تصالح ولو قيل ما قيل من كلمات السلام كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟ كيف تنظر في عيني امرأة.. أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ كيف تصبح فارسها في الغرام؟ كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام -كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟ لا تصالح ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام وارْوِ قلبك بالدم.. واروِ التراب المقدَّس.. واروِ أسلافَكَ الراقدين.. إلى أن تردَّ عليك العظام!
(6)
لا تصالح ولو ناشدتك القبيلة باسم حزن "الجليلة" أن تسوق الدهاءَ وتُبدي -لمن قصدوك- القبول سيقولون: ها أنت تطلب ثأرًا يطول فخذ -الآن- ما تستطيع: قليلاً من الحق.. في هذه السنوات القليلة إنه ليس ثأرك وحدك، لكنه ثأر جيلٍ فجيل وغدًا.. سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً، يوقد النار شاملةً، يطلب الثأرَ، يستولد الحقَّ، من أَضْلُع المستحيل لا تصالح ولو قيل إن التصالح حيلة إنه الثأرُ تبهتُ شعلته في الضلوع.. إذا ما توالت عليها الفصول.. ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس) فوق الجباهِ الذليلة!
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم ورمى لك كهَّانُها بالنبأ.. كنت أغفر لو أنني متُّ.. ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ. لم أكن غازيًا، لم أكن أتسلل قرب مضاربهم أو أحوم وراء التخوم لم أمد يدًا لثمار الكروم أرض بستانِهم لم أطأ لم يصح قاتلي بي: "انتبه"! كان يمشي معي.. ثم صافحني.. ثم سار قليلاً ولكنه في الغصون اختبأ! فجأةً: ثقبتني قشعريرة بين ضعلين.. واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ! وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ فرأيتُ: ابن عمي الزنيم واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم لم يكن في يدي حربةٌ أو سلاح قديم، لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
(8)
لا تصالحُ.. إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة: النجوم.. لميقاتها والطيور.. لأصواتها والرمال.. لذراتها والقتيل لطفلته الناظرة كل شيء تحطم في لحظة عابرة: الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة والذي اغتالني: ليس ربًا.. ليقتلني بمشيئته ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة لا تصالحْ فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ.. (في شرف القلب) لا تُنتقَصْ والذي اغتالني مَحضُ لصْ سرق الأرض من بين عينيَّ والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
(9)
لا تصالح فليس سوى أن تريد أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد وسواك.. المسوخ!
(10)
لا تصالحْ لا تصالحْ
الورقة الأخيرة
الجنوبي
صورة
هل أنا كنت طفلاً أم أن الذي كان طفلاً سواي هذه الصورة العائلية كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي رفسة من فرس تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس أتذكر سال دمي أتذكر مات أبي نازفاً أتذكر هذا الطريق إلى قبره أتذكر أختي الصغيرة ذات الربيعين لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها المنطمس
أو كان الصبي الصغير أنا ؟ أن ترى كان غيري ؟ أحدق لكن تلك الملامح ذات العذوبة لا تنتمي الآن لي و العيون التي تترقرق بالطيبة الآن لا تنتمي لي صرتُ عني غريباً ولم يتبق من السنوات الغربية الا صدى اسمي وأسماء من أتذكرهم -فجأة- بين أعمدة النعي أولئك الغامضون : رفاق صباي يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح لكي نأتنس.
وجه
كان يسكن قلبي وأسكن غرفته نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء ولكنه يعد يومين مزق صورتها واندهش. خاض حربين بين جنود المظلات لم ينخدش واستراح من الحرب عاد ليسكن بيتاً جديداً ويكسب قوتاً جديدا يدخن علبة تبغ بكاملها ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي لكنه لا يطيل الزيارة عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب وفي غرفة العمليات لم يصطحب أحداً غير خف وأنبوبة لقياس الحرارة.
فجأة مات ! لم يحتمل قلبه سريان المخدر وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات عاد كما كان طفلاً سيشاركني في سريري وفي كسرة الخبز، والتبغ لكنه لا يشاركني .. في المرارة.
وجه
ومن أقاصي الجنوب أتى، عاملاً للبناء كان يصعد "سقالة" ويغني لهذا الفضاء كنت أجلس خارج مقهى قريب وبالأعين الشاردة كنت أقرأ نصف الصحيفة والنص أخفي به وسخ المائدة لم أجد غير عينين لا تبصران وخيط الدماء.
وانحنيت عليه أجس يده قال آخر : لا فائدة صار نصف الصحيفة كل الغطاء و أنا ... في العراء
وجه
ليس أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد وكأن الشراب نفد و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد عاش منتصباً، بينما ينحني القلب يبحث عما فقد.
ليت "أسماء" تعرف أن أباها الذي حفظ الحب والأصدقاء تصاويره وهو يضحك وهو يفكر وهو يفتش عما يقيم الأود . ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات خبأنه بين أوراقهن وعلمنه أن يسير ولا يلتقي بأحد .
مرآة
-هل تريد قليلاً من البحر ؟ -إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي البحر و المرأة الكاذبة.-سوف آتيك بالرمل منه وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً فلم أستبنه.
-هل تريد قليلاً من الخمر؟ -إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين : قنينة الخمر و الآلة الحاسبة.
-سوف آتيك بالثلج منه وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً فلم أستبنه بعدما لم أجد صاحبي لم يعد واحد منهما لي بشيئ
-هل نريد قليلاً من الصبر ؟ -لا .. فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقة و الأوجه الغائبة.
خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين
ها أنت تسترخي أخيراً فوداعاً يا صلاح الدين يا أيها الطبل البدائي الذي تراقص الموتى على إيقاعه المجنون يا قارب الفلين للعرب الغرقى الذين شتتتهم سفن القراصنة وأدركتهم لعنة الفراعنة وسنة .. بعد سنة صارت لهم " حطين" تميمة الطفل، وأكسير الغد العنين
(جبال التوباد حياك الحيا) (وسقا الله ثرانا الأجنبي)
مرت خيول الترك مرت خيول الشرك مرت خيول الملك - النسر مرت خيول التتر الباقين ونحن - جيلاً بعد جيل - في ميادين المراهنة نموت تحت الأحصنة و أنت في المذياع، في جرائد التهوين تستوقف الفارين تخطب فيهم صائحاً : " حطين" وترتدي العقال تارة وترتدي ملابس الفدائئين وتشرب الشاي مع الجنود في المعسكرات الخشنة
وترفع الراية، حتى تسترد المدن المرتهنة وتطلق النار على جوادك المسكين حتى سقطت - أيها الزعيم واغتالتك أيدي الكهنة.
(وطني لو شغلت بالخلد عنه ..) (نازعتني - لمجلس الأمن- نفسي)
نم يا صلاح الدين نم ... تتدلى فوق قبرك الورود كالمظليين ونحن ساهرون في نافذة الحنين نقشر التفاح بالسكين ونسأل الله "القروض الحسن" فاتحة : آمين .
تعليق على ما حدث في مخيم الوحدات
1
قلت لكم مرارا إن الطوابير التي تمر في استعراض عيد الفطر و الجلاء (فتهتف النساء في النوافذ انبهارا) لا تصنع انتصارا.
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى لا تطلق النيران .. الا حين تستدير للوراء إن الرصاصة التي ندفع فيها .. ثمن الكسرة و الدواء لا تقتل الأعداء لكنها تقتلنا .. إذا رفعنا صوتنا جهارا تقتلنا ، وتقتل الصغارا
2
قلت لكم في السنة البعيدة عن خطر الجندي عن قلبه الأعمى، وعن همته القعيدة يحرس من يمنحه راتبه الشهري وزيه الرسمي ليرهب الخصوم بالجعجعة الجوفاء والقعقعة الشديدة لكنه .. إن يحن الموت فداء الوطن المقهور و العقيدة : فر من الميدان وحاصر السلطان واغتصب الكرسي وأعلن "الثورة" في المذياع و الجريدة !
3
قلت لكم كثيرا إن كان لابد من الذرية اللعينة فليسكنوا الخنادق الحصينة (متخذين من مخافر الحدود .. دورا) لو دخل الواحد منهم هذه المدينة : يدخلها .. حسيرا يلقي سلاحه .. على أبوابها الأمينة لأنه .. لا يستقيم مرح الطفل وحكمة الأب الرزينة من المسدس المدلى من حزام الخصر في السوق .. وفي مجالس الشورى
قلت لكم لكنكم لم تسمعوا هذا العبث ففاضت النار على المخيمات وفاضت .. الجثث وفاضت الخوذات و المدرعات.
سبتمبر 1970
من أوراق " أبو نواس"
(الورقة الأولى)
"ملك أم كتابة ؟" صاح بي صاحبي، وهو يلقي بدرهم في الهواء ثم يلقفه (خارجين من الدرس كنا .. وحبر الطفولة فوق الرداء و العصافير تمرق عبر البيوت وتهبط فوق التخيل البعيد ) ..
"ملك أم كتابة؟" صاح بي .. فانتبهت، ورفت ذبابه حول عينين لامعتين فقلت : "الكتابة"
... ... فتح اليد مبتسماً، كان وجه المليك السعيد باسما في مهابة.
"ملك ألأم كتابة؟" صحت فيه بدوري فرفرف في مقلتيه الصبا و النجابة وأجاب : " الملك" (دون أن يتلعثم .. أو يرتبك) وفتحت يدي كان نقش الكتابة بارزاً في صلابة .
..... ...... دارت الأرض دورتها حملتنا الشواديف من هدأة النهر ألقت بنا في جداول أرض الغرابة نتفرق بين حقول الأسى .. وحقول الصبابة قطرتين ، التقينا على سلم القصر ذات مساء وحيد كنت فيه : نديم الرشيد بينما صاحبي .. يتولى الحجابة !!
(الورقة الثانية)
من يملك العملة يمسك بالوجهين والفقراءُ : بين .. بين .
(الورقة الثالثة)
نائماً كنت جانبه ، و سمعت الحرس يوقظون أبي خارجيّ ؟ أنا .. ؟! مارق ؟ من ؟ أنا !!
صرخ الطفل في صدر أمي (وأمي محلولة الشعر واقفة .. في ملابسها المنزلية) أخرسوا واختبأنا وراء الجدار أخرسوا وتسلل في الحلق خيط من الدم (كان أبي يمسك الجرح يمسك قامته .. ومهابته العائلية) يا أبي أخرسوا وتواريت في ثوب أمي و الطفل في صدرها ما نبسْ
ومضوا بأبي تاركين لنا اليتمَ .. متشحاً بالخرس .
(الورقة الرابعة)
- أيها الشعر .. يا أيها الفرح المختلس ّّ ... (كل ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقية صادرته العسس) ....
(الورقة الخامسة)
... وأمي خادمة فارسية يتناقل سادتها قهوة الجنس وهي تدير الحطب يتبادل سادتها النظرات لأردافها عندما تنحني لتضئ اللهب يتندر سادتها الطيبون بلهجتها الأعجمية !
نائماً كنت جانبها، ورأيت ملاك القدس ينجني ، ويربت وجنتها وتراخىا الذراعان عني قليلاً قليلاً.. وسارت بقلبي قشعريرة الصمت : -أمي وعاد لي الصوت -أمي وجاوبني الموت -أميّ وعانقتها .. وبكيت وغام بي الدمع حتى انحبس !
(الورقة السادسة)
لا تسألني إن كان القرآن مخلوقاً .. أو أزلي. بل سلني إن كان السلطان لصاً .. أو نصف نبي !!
(الورقة السابعة)
كنت في كربلاء قال لي الشيخ أن الحسين مات من أجل جرعة ماء .. وتساءلت كيف السيوف استباحت بني الأكرمين فأجاب الذي بصرته السماء : انه الذهب المتلألئ : في كل عين . ............. إن تكن كلمات الحسين وسيوف الحسين وجلال الحسين سقطت دون أن تنقذ الحق من ذهب الأمراء أفتقدر أن تنقذ الحق ثرثرة لشعراء ؟ و الفرات لسانٌ من الدم لا يجد الشفتين.
مات /ن أجل جرعة ماء فاسقني يا غلام .. صباح مساء اسقني يا غلام علني بالمدام أتناسى الدماء