أمة خلعت موتها، ممدوح عدوان

من معرفة المصادر

أمة خلعت موتها، للشاعر السوري ممدوح عدوان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القصيدة

من أحرق السُفُنْ

قبلَ مجيء طارقْ ؟

وقبل أن تجيئنا البنادقْ

من أوصل النارَ إلى المُدُنْ ؟

الملايينُ كانت لديها الأماني

رَقَصت ذاتَ يومٍ بغير همومْ

بكت اليومَ إذ فاجأتها الجريمهْ

من تُرى أيقظ الأمة النائمه ؟

ما الذي ضيعت هذه الأمة الهائمه ؟

الملايين إذ صُعِقوا

عبّأوا ليل هذي الصحارى

فالرجال استفاقوا حيارى

والنساء ارتمينَ بغير عزيمه

لعنةٌ سقطت فوق أحزانهن القديمه

كل شيء هوى لاعقاًَ ما تبقّى من الغضبة العارمه

الخوف في العيون قابعٌ

ونحن في العراء

والرمل حولنا يغوضْ

ونحن نرفع العيون لا نرى السماءْ

لا غيث في المُزُنْ

والنار في السُفُنْ

تمتدُّ للمُدُنْ

الخوف وحده ملثماً يجوس بيننا

ونحن مطرقون

والمُدُن اليتيمةُ ارتمتْ

عارية مقتولة بلا كََفَن

وفي ضلوعنا تمرُّ خطوة الزَمَنْ

ونحن واقفونْ

ضَمدوا الحزنَ بالحزن ، والموتَ بالموتِ

هذا زمان عنيدْ

ضمدوا كل جرح بجرح جديدْ

وارقبوا خوف أن يغدر البرمكيُّ بنا

بعد موت الرشيدْ

لا ماءَ في المُدنْ

والنار في المُزُنْ

تهوي على السُفُنْ

مَرّت الرعشةُ فينا ، فانتبهنا

وابتدا كلٌّ يواري مقتله

أَفْلتَ الخوف من القيد اشرأبّا

وخشينا أن يرى الناس لدينا منزله

فتضاحكنا قليلاً .. واتكأنا

وصديقي ، قبل أن يكمل سرد النكتة المرتجله ،

مزقته قنبله

هذه وصمةٌ

قد دفنا رؤى طارقٍ بالهمومْ

كان سيفاً كسرناه فوق الصخورْ

هذه لعنة جلبتها إلينا السمومْ

لا نرى غير هذه الصقور ،

التي منذ جئنا تدورْ

لا ماءَ في البحارْ

والنار في السُفُنْ

تمتد للمُدُنْ

وطارق كالحلم طارْ

ولم تجئنا في غيابه المُزُنْ

قلتُ : أمضي ، وأترك خلفي الركامْ

قلتُ : أمضي ، كفاني عناداً فلستُ المسيحْ

الدروبُ استفاقت سيوفاً تفض الزحامْ

قلتُ: أمضي بعيداً ، فلا أَحَدٌ يسمع الصوتَ حولي

ووحدي أصيحْ

ليسَ هذا زماني.. من الغيظ للغيظ وحدي أطوفْ

قلتُ : أمضي فلا أبتغي من حياتي بطوله

ضيّعت هذه الأمة الوجه منذ الطفوله

جعتُ فيها ، وهم نهشوا كل جيفة حلمٍ قديمْ

أمة كَفّنت نفسها خشية الوهج عبر الحياهْ

أمة أدمنت موتها واستمرت رفاتْ

كل شيء لديها يموتْ

المنى والسيوفْ

والدموع الخبيئة ضمن البيوتْ

كل شيء لديها سكوتْ

صرخة الخوف والغيظ ، مثل ارتطام العظامْ

ترتمي كلها في الختام حطامْ

قلتُ أمضي .. ولكن!!

إلى أين وحدي أطوفْ

هذه أمة شخت فيها أسىً وهوى

هذه أمةٌ أدمنتني وأدمنتها ..

عذبتني وعذبّتها .

قوَّضتني وقوَّضتها

قلتُ أمضي .. فلم أقوَ حتى على الوقوفْ

ما تنفع البيارقْ

حين يجيء الجوعْ ؟

وحين تنصب المشانقْ

ما نفع هذه الدموعْ ؟

خبأوا الموتَ بين الصدورْ

ومضوا غيمة سائحة

غير ان الصقورْ

عرفتهم من الرائحه

لو أني أكلتُ على المائده

لقلت : قبضتُ الثَمَنْ

ولكنني حين جاء الطعامْ

وجدتُُ عظامي مع الوجبه البارده

وأطباقها ضمت اللحم مثل الدِمَنْ

تقلبتُ بين الملاعق ،

مُزِّقت في كلّ فمْ

وحين صرخت .. وجدتُ الصراخ

هو النغمة السائده

لا ضوءَ في المُدُنْ

لا غيث في المُزُنْ

والريح أهوت تَعَباً

قبل وصولها إلى السُفُنْ

مات جدي وأبي .. متُّ أنا .. ما عدت أدري

طرق الموت على الباب ، وحيّانا ، امتقعنا

وفرشنا مثلما تقضي الضيافه

ومع الفجر مضى يحمل شيئاً .. ربّما يحملني

كنتُ والموت أليفين ،

تعوَّدتُ وأطفال القرى الحضن الجميلا

كان يدنو .. يمسح الخوف بكف خشنه

ثم يمضي تاركاً فينا عويلا

حاملاً وجهاً عرفناه طويلا

فشبعنا منه موتاً

وألفناه ، عبثنا دونما خوف بشعر الشاربينْ

وعرفنا ما الذي تعنيه تلك الضحكات المتزنه

حين يرتدُّ إلينا سنة بعد سَنَهْ

تموت برداً وحدها المُدُنْ

والنار أضحت في الصواري

تشع ، تفضح الخواء في المُدُنْ

جاؤوا لكي ينال كل حصة من الجواري

والبرمكيُّ رابض .. في عينه وعيدْ

النار ورائي وأمامي

وأنا أتقلب بين جموع مذهوله

ووجوه لا يعرف واحدها الآخرْ

أعبر أجساداً جامدةً

وبوهج النار أراها مقتوله

والنار في الخنادقْ

وليس في أكفنا بنادقْ

ولم يعد إلى الجيوش طارقْ

لا تلوموه إذا مات ،

رأينا الموت في عينيه مذ كان جنينا

ولقد أثقله الهم سنينا

كان جسرَ البيت ، منهوكاً

ولكن كان جسر البيت وحدَه

وبه كنا يتامى وحيارى

وبه كنا حزانى أشقياء

لم نكن نتقن في حضرته إلا ادعاء الكبرياء

لا تلومونا إذا نحن بكينا

ألم البتر ، ولو كانت يداً شلاء ، يضني

كان جسر البيت ، كان العين للدمع

وشيطاناً لرجم الأتقياء

دمية للطفل كانْ

فارس الأحلام للعذراء ، ينبوع ملذات السكارى

لا تلوموه إذا مال وقد صار لكم متكأَ

منذ أن جاء رأيناه مسيحاً ويهوذا

ورأيناهُ سِراجا

فهجمنا صوبه سرب فراشْ

واحترقنا فيه حتى انطفأ

من أضرم النيران في السُفُنْ ؟

من قال: إنا تائهون في المُدُنْ ؟

فلتهجموا إلى المرافئ

فالغيث غادر المُزُنْ

ونحن قابعون في المخابيء

ما تنفع البيارقْ

حين يجيء الجوع؟

وحين تنصب المشانقْ

ما نفع هذه الدموع؟

خذوا حزنكم وارجعوا

خذوا العار والدمع والكبرياء

خذوها ابدأوا من جديدْ

ولا تجلسوا في البيوت انتظاراً لسيف القضاء

صرختُ طوال الحياة فلم تسمعوني ..

ولم أجن إلا العناء

محنةَ عَبرَتْ فبكينا من النيل حتى الشآمْ

هذه أمة خلعت موتها ،

فصَدَتْ موتها في جنازة طارقْ

حان وقت الفطامْ

في القبور استفاقت عظامْ

واكتست لحمها

فانتشت بالوعود الزنابقْ

ما تنفع البيارقْ

حين يجيء الجوعْ ؟

وحين تنصب المشانقْ

ما نفع هذه الدموعْ ؟

على الشط ماتوا عيوناً تنادي

على الشط ماتوا جياعاً

قضوا فقراء كما أقبلوا

قضوا في عروقي .. وهذي البلاد بلادي

على الشط ماتوا بصمت

فلا البحر يدري .. ولا الأرض تنهضْ

وأمواج هذي البحار تغطي الأنين

ويمتص ما سرقته الرياحُ ، ضجيجُ المزادْ

على الشط ماتوا وكنت أراهم

فلم يبق غير الرمادْ

خبأوا الموت بين الصدورْ

ومضوا غيمة سائحه

غير أن الطيور

كشفتهم من الرائحه

قبل ركوب البحر مات طارقْ

والنار جاءت في السُفُنْ

فلنتمسك بالشواطئ

لا بأس أن نموتْ

ونحن نرفع البيارقْ

ما تنفع البيارقْ

حين يجيء الجوعْ ؟

وحين تنصب المشانقْ

ما نفع هذه الدموعْ ؟

تنهض الصحراء بالموتى وتمشي

فارقبوها

وارقبوا الغصن الذي يخضرّ في أخشاب نعشي

تنهض الصحراء .. تمشي

كتلة الضوء اعترتنا

عندما اصطكت عظام الناس في فك العَدَمْ

تنهض الصحراء موتاً وحياة

رملها المجبول دمعاً ودماً

أقوى من الريح ومن فيض الألم

ما تنفع البيارقْ

حين يجيء الجوعْ ؟

وحين تنصب المشانقْ

ما نفع هذه الدموعْ ؟


المصادر