أصول الجصاص - الجزء الأول2
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ إنَّ الْقِيَاسَ مُطَّرَحٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا أَنَّ مَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ غَيْرُ مَحْكُومٍ ( بِهِ ) وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعُمُومِ بِهِ لِأَنَّ الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْهُ وَلَمْ أَذْكُرْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لِشُبْهَةٍ مِنْهَا عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ وَلَكِنِّي خَشِيت أَنْ تَمُرَّ بِبَعْضِ الْمُبْتَدَئِينَ مِنْ كُتُبِ الْمُخَالِفِينَ يَظُنُّهَا شُبْهَةً فَكَشَفْنَا عَنْ حَقِيقَتِهَا وَأَنْبَأْنَا عَنْ فَسَادِهَا لِيُعْتَبَرَ بِهِ سَائِرُ حِجَاجِهِمْ وَيُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَذْكُرُونَهُ كَلَامٌ مَارِقٌ يَجْرِي مِنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَحْصِيلٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى إفْسَادِهِ إلَى أَكْبَرِ مِنْ الْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ . .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ رَقَبَةِ الظِّهَارِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمُ الْكَلَامِ وَحُكْمُ اللَّفْظِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَهُ قِيَاسًا . وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا عِنْدَنَا فَاسِدَانِ لَا يَخِيلُ وَجْهُ الْفَسَادِ فِيهِمَا عَلَى مُتَأَمِّلٍ نَصَحَ نَفْسَهُ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : فَفَسَادُهُ وَسُقُوطُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ عَاقِلٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ قَائِلَهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ إلَى لُغَةٍ وَلَا شَرِيعَةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا ذَكَرَ شَيْئًا عُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَهُ وَعُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْآخَرِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْفُرُوضُ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى كُلُّهَا شُرُوطًا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ مُرَتَّبًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذِكْرَ الْكَفَّارَتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَبَيْنَ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ فَتَصِيرُ كُلُّهَا كَأَنَّهَا فَرْضٌ وَاحِدٌ مُتَعَلِّقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ إذَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ مُقَيَّدٍ ثُمَّ ذُكِرَ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مَحْمُولًا عَلَى الْمُقَيَّدِ قِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْت فِي الْفَرْضِ الْوَاحِدِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْتَ فَلِمَ قُلْت إنَّ الْفَرْضَيْنِ إذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا مُقَيَّدًا بِحُكْمٍ وَالْآخَرُ مُطْلَقًا أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ . وَإِنَّمَا كَلَامُنَا مَعَك فِي فَرْضَيْنِ وَكَفَّارَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ الْأُخْرَى بِهِ . وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَبَيْنَ الْكَفَّارَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ وَهَلْ ( يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ ) كَفَّارَةَ الْقَتْلِ فَرْضٌ غَيْرُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَأَنَّ ( كُلَّ ) وَاحِدَةٍ مِنْهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ الْأُخْرَى بِهِ كَسَائِرِ الْفُرُوضِ الْمُخْتَلِفَةِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّهُمَا قَدْ جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ فَكَانَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ أَحَدِهِمَا شَرْطًا فِي الْأُخْرَى . قِيلَ لَهُ : فَإِذَا جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ وَجَبَ عِنْدَك حَمْلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى قِيَاسًا أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِيهِ . فَإِنْ قَالَ : إنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ . قِيلَ لَهُ : وَعَنْ مَنْ حَكَيْت هَذَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ إذَا جَمَعَهُمَا اسْمُ الْكَفَّارَةِ أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُمَا مَحْمُولَةً عَلَى الْأُخْرَى فِي الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ لِإِحْدَاهُمَا . وَلَوْ كَانَ هَذَا وَاجِبًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا شُرِطَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مَشْرُوطًا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ , وَكُلُّ مَا شُرِطَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَشْرُوطًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ , وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا شُرِطَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعًا إلَى هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَك مِنْ حَيْثُ جَمَعَهُمَا ( اسْمُ الْكَفَّارَةِ ) كَالْمَعْطُوفِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ , وَالصِّفَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي بَعْضِهِ مَشْرُوطَةٌ فِي جَمِيعِهِ فَيَكُونُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا مَشْرُوطًا فِي الْقَتْلِ وَمَشْرُوطًا فِي الْيَمِينِ وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ , وَ ( فِي ) كُلِّ كَفَّارَةٍ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى . فَإِنْ قَالَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ بَعْضَهَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي الْبَعْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَصِيرُ تَقْدِيرُهَا: فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ". أَوْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَيَصِيرُ قَوْلُهُ فِي الظِّهَار:ِ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ "وَيَصِيرُ قَوْلُهُ فِي الْقَتْلِ: فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِي الظِّهَارِ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الظِّهَارِ فَمَشْرُوطٌ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَمَا ذُكِرَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَمَشْرُوطٌ فِي الظِّهَارِ . فَإِنْ اجْمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي كَفَّارَةٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَك قَدْ وَرَدَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا بَعْضُهَا مَنْسُوخٌ بِبَعْضٍ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَهَذَيَانٌ لَيْسَ يَخْفَى مِثْلُهُ عَلَى عَاقِلٍ . وَيُقَالُ لَهُ : هَلَّا دَلَّك حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ شَرَائِطَ كُلِّ كَفَّارَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ فِي الْأُخْرَى أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ شَرْطًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ , فَإِذَا لَمْ تَلْجَأْ فِيمَا ادَّعَيْتَ مِنْ ذَلِكَ إلَى لُغَةٍ وَلَا دَلَالَةٍ مِنْ شَرْعٍ وَلَا إجْمَاعٍ بَلْ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِهِ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ فَهَلَّا اسْتَدْلَلْتَ بِذَلِكَ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَانْحِلَالِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى بِأَصْلِ الْمُخَالِفِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهَا الْإِيمَانُ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَإِذَا خَصَّ رَقَبَةَ الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ تَخْصِيصُهُ ( لَهَا ) بِذَلِكَ عَلَى ( أَنَّ ) مَا عَدَاهُمَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ . وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ : بِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قوله تعالى: وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ". وَبِمَنْزِلَةِ قوله تعالى: عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ". ( وَالْمَعْنَى وَالْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ , وَعَنْ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) . فَيُقَالُ لَهُ : وَلِمَ أَوْجَبْت أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِي الثَّانِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْكَفَّارَاتِ . أَقُلْتَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ . وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ مَتَى طُولِبَ بِالدَّلَالَةِ ( عَلَيْهِ ) مِنْ لُغَةٍ أَوْ شَرْعٍ وَإِنَّمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إضْمَارٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا يُسْتَعْمَلُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى ضَمِيرٍ فِي إثْبَاتِ فَائِدَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الضَّمِيرِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا إذْ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ " وَالْحَافِظَاتُ وَالذَّاكِرَاتُ " وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمَّا افْتَقَرَ إلَى ضَمِيرٍ وَخَبَرٍ كَانَ ضَمِيرُهُ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُظْهَرًا ( فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ ) , وَهَذَا مَعْقُولٌ مِنْ اللُّغَةِ وَخِطَابِ النَّاسِ لَا يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى أَحَدٍ , وَلَوْ كَانَ اسْتَأْنَفَ ( لِلثَّانِي ) خَبَرًا لَمَا كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ وَالْحَافِظَاتُ أَمْوَالَهُنَّ لَمَا كَانَ الْفُرُوجُ الْمَذْكُورَةُ بَدْءًا فِي ذِكْرِ الْأَزْوَاجِ مُضْمَرَةً فِيهِنَّ وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَالذَّاكِرَاتُ آبَاءَهُنَّ أَوْ أَبْنَاءَهُنَّ لَمَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى مُضْمَرًا لَهُنَّ , هَذَا مَعَ كَوْنِ بَعْضِهِ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ مُضْمَرًا فِيهِ وَهِيَ قَضِيَّةٌ أُخْرَى وَحُكْمٌ آخَرُ وَارِدٌ فِي سَبَبٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى: عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ". لَوْ انْفَرَدَ ( قَوْلُهُ ) عَنْ الْيَمِينِ عَنْ ضَمِيرٍ لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ ( فِيهِ ) فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَبَرِ مُضْمَرًا فِيهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ : إنِّي أَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَرْطًا فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ قِيَاسًا عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ وَأَخُصُّ ( بِهِ ) رَقَبَةَ الظِّهَارِ . فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا وَفِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ شَرْطِ ( النِّيَّةِ ) بِالْمَاءِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ إثْبَاتِ زِيَادَةٍ لَا يُنَبِّئُ عَنْهَا اللَّفْظُ وَلَا يَنْتَظِمُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ , وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ وَكَذَا كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله فِي ذَلِكَ , وَ ( فِي ) نَظَائِرِهِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَاتِ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَا قَدْ حَكَيْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يُفِيدُ جَوَازَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ غَيْرِ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَمَتَى شَرَطْنَاهُ فِيهَا فَقَدْ حَظَرْنَا مَا أَبَاحَتْهُ الْآيَةُ مِنْ جَوَازِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ , وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ ( وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ مِثْلِهِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ) . فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ كُلِّ فَرْضٍ يُوجِبُ نَسْخَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُرُوضِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ قَبْلَ حُدُوثِهِ أَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ , فَإِذَا حَدَثَ فَرْضٌ آخَرُ فَقَدْ زَالَ الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ . قِيلَ لَهُ : لَوْ فَهِمْت عَنَّا مَا ذَكَرْنَاهُ لَكَفَيْتَ نَفْسَك هَذَا السُّؤَالَ . وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا إنَّ وُرُودَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ( ذِكْرِ ) الزِّيَادَةِ يُوجِبُ جَوَازَهُ عَنْ الْوَاجِبِ وَوُرُودُ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْأَوَّلِ وَكَوْنَهُ فَرْضًا ( وَهَذَا نَسْخٌ ) وَلَيْسَ وُرُودُ فَرْضٍ ثَانٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْأَوَّلِ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُبْقًى فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ جَوَازُهُ بِفِعْلِ الثَّانِي . أَلَا تَرَى أَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ , وَتَرْكُ الزَّكَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي جَوَازِ فِعْلِ الصِّيَامِ فَلَمْ يَكُنْ وُرُودُ بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوضِ بَعْدَ الْأَوَّلِ مُغَيِّرًا لِحُكْمِ الْأَوَّلِ وَكَوْنُ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِهَا مُطْلَقَةً عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ , فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِيهَا مُوجِبًا لِنَسْخِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَهُ لَوْ وَرَدَ نَصًّا كَانَ نَسْخًا لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اعْتِقُوا رَقَبَةً فِي الظِّهَارِ إنْ شِئْتُمْ كَافِرَةً ( وَإِنْ شِئْتُمْ ) مُؤْمِنَةً ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتِقُوا فِيهِ رَقَبَةً كَافِرَةً كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا . وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِي شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا كَانَ نَسْخًا . وَأَمَّا قَوْلُك إنَّ وُرُودَ فَرْضٍ ثَانٍ يُغَيِّرُ حُكْمَ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْأَوَّلَ حُكْمُهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وُرُودُ فَرْضٍ ثَانٍ لَزِمَهُ اعْتِقَادٌ ثَانٍ مِنْ ( غَيْرِ تَأْثِيرٍ مِنْهُ ) فِي اعْتِقَادِ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ كُنَّا نَعْتَقِدُ قَبْلَ وُرُودِ الْفَرْضِ الثَّانِي أَنْ لَا فَرْضَ إلَّا الْأَوَّلُ وَلَزِمَ بَعْدَ وُرُودِ الْفَرْضِ الثَّانِي أَنْ يُنَزَّلَ الِاعْتِقَادُ بِأَنْ لَا فَرْضَ غَيْرُهُ . قِيلَ لَهُ : اعْتِقَادُنَا بِأَنْ لَا فَرْضَ إلَّا الْأَوَّلُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَرْضٌ رَأْسًا لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنْ لَا فَرْضَ فَلَيْسَ اعْتِقَادُنَا أَنْ لَا فَرْضَ مُتَعَلِّقًا بِفَرْضٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ وُرُودَ فَرْضٍ ثَانٍ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الْأَوَّلِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ تَجْعَلَ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مَنْسُوخَةً بِامْتِنَاعِك عَنْ تَجْوِيزِهَا عَمْيَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَهَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْت . قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت لِأَنَّ الرَّقَبَةَ اسْمٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَعْضَائِهَا فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ رَقَبَةً تَامَّةً وَإِنَّمَا شَرَطْنَا ذَلِكَ فِيهَا بِمَا يَقْتَضِيهِ ( مُوجِبُ اللَّفْظِ وَلَيْسَتْ الرَّقَبَةُ اسْمًا لِلْإِيمَانِ وَلَا يَقْتَضِيهَا ) بِحَالٍ فَزِيَادَةُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا مُوجِبَةٌ لِلنَّسْخِ عَلَى مَا بَيَّنَّا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت ( أَنْ يَكُونَ ) شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ تَخْصِيصًا لِبَعْضِ الرِّقَابِ دُونَ بَعْضٍ لَا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ كَمَا أَنَّ شَرْطَ الْحِرْزِ وَالْمِقْدَارِ فِي السَّرِقَةِ تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ السُّرَّاقِ دُونَ بَعْضٍ لَا عَلَى وَجْهِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَلَا الْكُفْرَ ( وَلَا ) يُنْبِئُ عَنْهُمَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْإِيمَانِ ( فِيهَا ) إلَّا عَلَى جِهَةِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ بِمَا لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الِاسْمُ وَكَذَلِكَ شَرْطُ الْحِرْزِ وَالْمِقْدَارِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ آيَةَ السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ بِدَلَائِلَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوَاضِعَ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَازَ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي بَيَانِ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرَّقَبَةُ الْعَمْيَاءُ وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُهَا بِأَعْضَائِهَا فَلَمْ يَكُنْ امْتِنَاعُ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ مِنْ جِهَةِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ إذْ كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهَا صَحِيحَةً .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَكُونُ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ زِيَادَةً فِيهَا وَنَسْخًا لَهَا لَوْ وَرَدَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مُطْلَقَةً فَأَمَّا إذَا جُعِلَتْ فِي الْأَصْلِ كَأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ إلَّا مُقَيَّدَةً بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ بَلْ هُوَ تَخْصِيصٌ.
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِوُجُوبِهَا فِي الْأَصْلِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ الْمُلْحَقَةِ بِهَا إذَا كَانَ ثُبُوتُ الشَّرْطِ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَجُوزُ بِمِثْلِهَا النَّسْخُ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ نَسْخِ الْقُرْآنِ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ ( بِالْقِيَاسِ وَلَا ) بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّا إنَّمَا نَحْتَاجُ أَنْ نَعْتَبِرَ ذَلِكَ ( فِيمَا وَرَدَ ) مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ فَيُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى ( غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا ) .
وَلِامْتِنَاعِ جَوَازِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ وَجْهٌ آخَرُ , وَهُوَ : أَنَّ كُلَّ مَا خَرَجَ ( مَخْرَجَ ) الْجَوَابِ لِسَائِلٍ سَأَلَ عَنْهُ مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ فِيهِ أَوْ قَوْلٍ مِنْ الرَّسُولِ عليه السلام ( مَعَ لُزُومِ ) تَنْفِيذِ , هَذَا الْحُكْمِ وَعِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِجَهْلِ السَّائِلِ بِهِ فَإِنَّ مَا نَزَلَ بِهِ إطْلَاقُ الْآيَةِ أَوْ قَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ ( عَلَى ) إطْلَاقِهِ , وَمَهْمَا أَلْحَقْنَا بِهِ مِنْ شَرْطٍ لَمْ يَكُنْ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ شَرْطٌ آخَرُ أَوْ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ إطْلَاقِ الْجَوَابِ لَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَانَهُ لِلسَّائِلِ مَعَ إلْزَامِهِ إيَّاهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ وَعِلْمِهِ بِجَهْلِ السَّائِلِ , فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيمَا كَانَ ) هَذَا وَصْفَهُ إلَّا مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ , وَرَقَبَةُ الظِّهَارِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ { أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَجَاءَتْ امْرَأَتُهُ تَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الظِّهَارِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً قَالَتْ لَا يَجِدُ ...". إلَى أَنْ ذَكَرَ الصِّيَامَ وَالْإِطْعَامَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِيمَانِ , وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا كَذَلِكَ ". وَلَوْ كَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْإِيمَانُ ( لَبَيَّنَهُ ) النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ مَوْكُولًا إلَى اسْتِدْلَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ , وَنَظَرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّ السَّائِلَ كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فَيَكُونُ حُكْمُ الرَّقَبَةِ مَوْقُوفًا عَلَى اعْتِبَارِهِ بِالْأُصُولِ . وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعِتْقِ رَقَبَةٍ ". وَكَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ , فَلَوْ قَيَّدْنَاهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا نَسْخًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَدَلَّ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ مِنْ الرَّقَبَةِ هُوَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَأَنَّا مَتَى قَيَّدْنَاهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ نَسْخِ مُوجَبِ الْآيَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا عَلَى رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ , وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , وَإِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ أَبْعَدُ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ مُطْلَقَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا وَرَقَبَةَ الْقَتْلِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا أَيْضًا وَالْمَنْصُوصَاتُ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ قَدْ اسْتَغْنَى بِدُخُولِهِ تَحْتَ النَّصِّ عَنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ إذْ كَانَ الْقِيَاسُ إنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ وَهُوَ مِثْلُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى ( عَلَيْهِ ) فِي الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ مِنْ الْحَدَثِ عَلَى غَسْلِ أَرْبَعَةِ أَعْضَاءَ , وَنَصَّ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى مَسْحِ عُضْوَيْنِ , وَنَصَّ عَلَى قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ وَعَلَى قَطْعِ يَدِ الْمُحَارِبِ وَرِجْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ قِيَاسُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ ( فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي أَعْضَاءِ فِي الْوُضُوء ) وَلَا قِيَاسُ السَّارِقِ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ . وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَى حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْقِيَاسِ فِيهِ . وَنَظِيرُهُ مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ مَعَ الدِّيَةِ , وَنَصَّ فِي الْعَمْدِ عَلَى الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ كَفَّارَةٍ فَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ إلْحَاقِ الْعَمْدِ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتْلَيْنِ مَذْكُورٌ بِاسْمِهِ مَنْصُوصٌ عَلَى حُكْمِهِ وَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ ( الْمَنْصُوصِ بَعْضِهِ ) عَلَى بَعْضٍ , وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ قَدْ اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا وَمَنَعُوا الْقِيَاسَ فِي مِثْلِهِ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى التَّنْزِيلِ فَأَمَّا التَّنْزِيلُ ( بِعَيْنِهِ فَلَا يُقَاسُ ) . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَوْضِعُ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَعَدَمُ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَمَتَى قِسْنَا رَقَبَةَ الظِّهَارِ عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ فِي تَقْيِيدِهَا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَإِنَّمَا قِسْنَا غَيْرَ الْمَنْصُوصِ ( عَلَى الْمَنْصُوصِ ) . وَكَذَلِكَ قِيَاسُ كَفَّارَةِ قَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى الْخَطَأِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فَكُلُّ مَا تَنَاوَلَهُ هَذَا الِاسْمُ فَهُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ دَاخِلٌ تَحْتَهُ فَمَتَى أَلْحَقْنَاهَا بِرَقَبَةِ الْقَتْلِ فَقَدْ قِسْنَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ حُكْمُ قَتْلِ الْعَمْدِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَمَتَى قِسْنَاهُ عَلَى الْخَطَأِ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ فَقَدْ قِسْنَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ , وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا لَيْسَ بِقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ لَجَازَ قِيَاسُ الْأُمِّ عَلَى الِابْنَةِ
( فِي شَرْطِ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ ) لَيْسَ فِيهَا شَرْطُ دُخُولٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَجَازَ قِيَاسُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ فِي أَرْبَعَةِ أَعْضَاءٍ لِأَنَّ الْعُضْوَيْنِ الْآخَرَيْنِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِمَا فِي التَّيَمُّمِ وَلَجَازَ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ وَرِجْلِهِ قِيَاسًا عَلَى الْمُحَارِبِ لِأَنَّ الرِّجْلَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا فِي السَّرِقَةِ . فَلَمَّا امْتَنَعَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ عَلِمْت أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْقِيَاسِ خَطَأٌ لَا يَسُوغُ فِيهِ , وَ ( لَا ) فِي نَظَائِرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قِسْت جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَمْدِ وَالنَّصُّ وَارِدٌ فِي الْعَمْدِ لقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا".
قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الصَّيْدِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمْدُ فَجَازَ اعْتِبَارُ مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ ( عَلَيْهِ ) بِالْمَنْصُوصِ وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ جَمِيعًا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا , وَكَذَلِكَ ذِكْرُ قَتْلِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ مَنْصُوصٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَكَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَا تُقَاسُ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي بَابِ إيجَابِ الْإِطْعَامِ فِيهَا عِنْدَ عَدَمِ الصَّوْمِ , وَإِنْ كَانَ الْإِطْعَامُ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا لَمْ نَقِسْ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الظِّهَارِ فِي جَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ لَمَّا عَظُمَ أَمْرُهَا بِشَرْطِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَخْفِيفُ حُكْمِهَا بِجَوَازِ الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ قِيَاسًا عَلَى الظِّهَارِ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ إيجَابُهَا فِي الْأَصْلِ . قِيلَ لَهُ : فَامْتَنَعَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ قِيَاسُ رَقَبَةِ الظِّهَارِ عَلَى الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ لِأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ لَمَّا وَرَدَتْ مَوْرِدَ التَّخْفِيفِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ إلَى الْإِطْعَامِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّقَبَةِ وَالْعَجْزِ عَنْ الصِّيَامِ لَمْ يَجُزْ شَرْطُ الْإِيمَانِ فِيهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَغْلِيظَهَا عَلَى مَا أَجَازَتْهُ الْآيَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّغْلِيظِ بِتَقْيِيدِ الْإِيمَانِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا ذَكَرْت مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مُسَلَّمٌ لَك فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الصِّفَةِ لَا فِي إثْبَاتِ زِيَادَةِ مَعْنًى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيهَا فَتُقَاسُ رَقَبَةُ الظِّهَارِ عَلَى رَقَبَةِ الْقَتْلِ فِي بَابِ إثْبَاتِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا وَهِيَ صِفَةٌ كَمَا قِسْنَا جَمِيعًا التَّيَمُّمَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الصِّفَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ لَا فِي إثْبَاتِ عُضْوٍ آخَرَ . قِيلَ لَهُ : ( هَذَا ) خَطَأٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ إذَا كَانَتْ نَسْخًا عَلَى مَا بَيَّنَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةَ أَوْ إثْبَاتَ مَعْنًى غَيْرَهَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْك عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَنْ لَا تُثْبِتَ النَّفْيَ مَعَ الْجَلْدِ حَدًّا , وَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ , وَلَا يَلْزَمُ قَاتِلَ الْعَمْدِ كَفَّارَةٌ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ صِفَةٍ , وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَإِنَّا لَمْ نُثْبِتْهُ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ إنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ مِنْ قِبَلَ أَنَّ قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ". يَقْتَضِي الْيَدَ إلَى الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ فَأَسْقَطْنَا مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِلَّا فَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ وَأَبْقَيْنَا حُكْمَ اللَّفْظِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ . وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي أَنَّ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِي الرَّقَبَةِ ( لَمَّا ) لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اسْمُ الرَّقَبَةِ وَلَمْ تُنْبِئْ عَنْهُ كَانَ زِيَادَةً فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ , قَدْ اعْتَبَرَهُ أَصْحَابُنَا فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ أَيْضًا . قَالَ مُحَمَّدُ ( بْنُ الْحَسَنِ ) فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : لَوْ قَالَ رَجُلٌ إنْ اغْتَسَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ , أَوْ قَالَ : إنْ أَكَلْتُ أَوْ شَرِبْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَقَالَ عَنَيْتُ غُسْلًا مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ قَالَ عَنِيتُ طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ أَوْ شَرَابًا دُونَ شَرَابٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَبْدِي حُرٌّ وَعَنَى إنْ دَخَلَهَا وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ لَمْ تَعْمَلْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ لَفْظَ الْيَمِينِ لَا يُنْبِئُ ( عَلَى مَا عَنَاهُ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا ) نَوَى تَخْصِيصَ غَيْرِ اللَّفْظِ ( الْمَلْفُوظِ بِهِ ) فَفِي اللَّفْظِ عُمُومٌ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ النِّيَّةُ وَصَارَتْ النِّيَّةُ لَغْوًا . وَلَوْ كَانَ قَالَ : إنْ اغْتَسَلْت غُسْلًا أَوْ أَكَلْت طَعَامًا أَوْ شَرِبْت شَرَابًا صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ الَّذِي نَوَى تَخْصِيصَهَا مَذْكُورَةٌ فِي لَفْظِهِ فَصَلَحَتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا لَمَّا ( لَمْ ) يَتَنَاوَلْ اسْمُ الرَّقَبَةِ الْإِيمَانَ لَمْ ( يَصِحَّ ) تَخْصِيصُهَا ( بِهِ وَكَانَ مَتَى شُرِطَ فِيهَا الْإِيمَانُ كَانَ زِيَادَةً فِيهَا لَا تَخْصِيصًا ) وَهَذَا مَعْنًى يُبَيِّنُ الْفَصْلَ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ . وَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي امْتِنَاعِ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ الْقَوْلُ فِي شَرْطِ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَ الْجِلْدِ لِلزَّانِي لِأَنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ جَلْدَ الْمِائَةِ حَدًّا كَامِلًا فَمَتَى أَلْحَقْنَا بِهِ النَّفْيَ وَالرَّجْمَ مَعَهُ صَارَ جَلْدُ الْمِائَةِ غَيْرَ حَدٍّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْضَ الْحَدِّ وَلَمْ يَقَعْ الْجَلْدُ بِانْفِرَادِهِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ فَكَانَ إيجَابُ النَّفْيِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَهُ نَسْخًا فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ . وَكَذَلِكَ شَرْطُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَكَوْنِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَرْضًا فِي الْوُضُوءِ وَنَظَائِرُهُ يَجْرِي عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا كَانَ يَكُونُ مَا ذَكَرْتَ نَسْخًا لَوْ وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْآيَةِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ وُرُودَهُ كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْآيَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ بَلْ الْوَاجِبُ الْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا فَنَسْتَعْمِلهُمَا وَلَا نَجْعَلُ أَحَدَهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو الْخَبَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا مَعَ الْآيَةِ أَوْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا . فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَهُوَ نَاسِخٌ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا . إنْ كَانَ قَبْلَهَا فَالْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهُ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مُطْلَقَةً مُوجِبَةً لِكَوْنِ الْجَلْدِ حَدًّا كَامِلًا . وَإِنْ كَانَ مَعَهَا , وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقِيبَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ فَالْوَاجِبُ وُرُودُهُ , وَنَقْلُهُ فِي وَزْنِ نَقْلِ الْآيَةِ وَوُرُودِهَا , وَالْوَاجِبُ أَنْ يَرِدَ عَنْ الصَّحَابَةِ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ الْجَلْدِ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِلْجَلْدِ . فَلَمَّا وَجَدْنَا الصَّحَابَةَ مِثْلَ ( عُمَرَ وَعَلِيٍّ ) وَغَيْرِهِمَا رضي الله عنهم أجمعين قَدْ عَرَفُوا النَّفْيَ وَلَمْ يَرَوْهُ حَدًّا وَإِنَّمَا رَأَوْهُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَمَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وُرُودُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بَعْضُ الْحَدِّ مَعَ الْجَلْدِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَارِدٌ قَبْلَ الْآيَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ". وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ فِيهِ عَنْ السَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا". فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ". - وَكَانَ هَذَا حَدَّ الزَّانِيَةِ مَعَ الْأَذَى - وَبَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَاسِطَةٌ حُكِمَ فِي الزِّيَادَةِ فَثَبَتَ أَنَّ قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ". نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَارَ نَاسِخًا لَهُ , وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إنَّ الرَّجْمَ لَيْسَ بِحَدٍّ مَعَ الْجَلْدِ , وَإِنَّ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِكَوْنِهِمَا جَمِيعًا حَدًّا مُسْتَحَقًّا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مُطْلَقَةً بَعْدَ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الَّذِي ذَكَرْنَا . وَكَذَلِكَ سَبِيلُ خَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ الْآيَةِ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ عَلَيْنَا اعْتِبَارَ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِيهَا وَالْخَبَرُ يُجِيزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَهُ وَهُمَا فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ , وَإِنْ كَانَ خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِيهِ تَرْكُ بَعْضِ مُوجَبِ الْآيَةِ وَخَبَرُ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ أَوْ الرَّجْمِ مَعَ الْجَلْدِ زِيَادَةٌ فِيهِ , وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا تَرْكَ بَعْضِ مَا فِي الْآيَةِ , وَفِي الْآخَرِ زِيَادَةٌ فِيهَا غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ تَسَاوِيهِمَا فِي إيجَابِ نَسْخِهِمَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا وَلَا يَكُونُ نَسْخًا وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ الِاقْتِصَارِ فِي كَوْنِ الْجَلْدِ حَدًّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ نَفْيٌ , وَالْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي حَالٍ وَبِالشَّاهِدَيْنِ وَالشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فِي حَالٍ . وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّهَارَةِ لِأَنَّ شَرْطَ النِّيَّةِ فِيهَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَعْضِ الْغُسْلِ طَهَارَةً وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِطَهَارَةٍ , وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْآيَةِ لَا نَسْخَ فِيهِ . قِيلَ لَهُ : لَوْ عَرَفْت مَعْنَى التَّخْصِيصِ لَمْ تَسْأَلْ عَنْ هَذَا , وَذَلِكَ لِأَنَّ ( التَّخْصِيصَ لِلَّفْظِ ) إنَّمَا يَكُونُ فِي اللَّفْظِ الْمُنْتَظِمِ لِمُسَمَّيَاتٍ فَيَخْرُجُ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ اللَّفْظُ مِنْ الْحُكْمِ فَقَوْلُك فِي الْجَلْدِ أَنَّهُ صَارَ حَدًّا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَهِيَ ( حَالُ ) وُجُودِ النَّفْيِ مَعَهُ غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ فَيُخَصُّ بَعْضُهَا بِمَا ذَكَرْت وَمَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ . وَالثَّانِي : أَنَّك لَمْ تَجْعَلْ الْجَلْدَ حَدًّا بِحَالٍ كَانَ مَعَهُ نَفْيٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَعَهُ نَفْيٌ فَهُوَ وَالنَّفْيُ ( جَمِيعًا ) حَدٌّ وَاحِدٌ . وَإِذَا كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ حَدًّا فَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِهِ حَدًّا بَلْ هُوَ بَعْضُ الْحَدِّ كَمَا أَنَّ جَلْدَ تِسْعِينَ لَيْسَ بِحَدٍّ عِنْدَ أَحَدٍ وَإِنْ انْفَرَدَ عَنْ النَّفْيِ فَهُوَ أَيْضًا ( لَيْسَ بِحَدٍّ عِنْدَك ) فَلَيْسَ هَاهُنَا تَخْصِيصٌ بِوَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ نَسْخٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا . وَأَمَّا خَبَرُ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ عِنْدَك مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَمَا الَّذِي خَصَّصْت مِنْ الْآيَةِ بِخَبَرِ
( الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ ) فَقَدْ بَانَ لَك أَنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَخَبَرَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَا يَقْتَضِيَانِ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُمَا لَوْ بُنِيَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ ( الْمُخَالِفُ لَاعْتَرَضَا ) عَلَى حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ وَيَكُونُ مَا تَعَلَّقَ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى شَاهِدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ . وَالْآخَرُ : إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ , فَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ( خَيَّرَ فِي الْآيَةِ ) بَيْنَ شَيْئَيْنِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِأَنَّ الْخَبَرَ كَأَنَّهُ وَرَدَ هُوَ وَالْآيَةُ مَعًا عَقِيبَهَا بِلَا فَصْلٍ . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ . وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْآيَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ إلَّا مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَاسْتَعْمَلَهُ النَّاسُ مَعَهَا , فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ ثَابِتًا فِي الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ وَمَا أَلْحَقَ بِهِ زِيَادَةً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ لَا تُوجِبُ الْعِلْمَ فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا لِمَا وَصَفْنَا . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ". فَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهِ فَقَدْ زَادَ فِي حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ إذْ لَيْسَ ( هَاهُنَا ) تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ لَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ تَحْتَهُ . وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الْعُمُومَ شَرْطُهُ أَنْ يَنْتَظِمَ جَمْعًا , وَالْجَمْعُ الَّذِي فِي اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَأْمُورِينَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الطَّهَارَةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَيَكُونُ شَرْطُ النِّيَّةِ مُخَصِّصًا لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ وَلِأَنَّ أَحْوَالَ الطَّهَارَةِ وَأَوْقَاتَهَا مَذْكُورَةٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَتَكُونُ النِّيَّةُ مُخَصَّصَةً لِجَوَازِهَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ وَفِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَرْطَ النِّيَّةِ لَا يُوجِبُ بَعْضَ الْغَاسِلِينَ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْغَاسِلِينَ أَنْ يَخْرُجَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الْغُسْلُ . وَإِنَّمَا خَصَّ عَلَى قَوْلِهِمْ بَعْضَ الطِّهَارَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَبَعْضَ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ وَلَيْسَتْ الطَّهَارَةُ مَذْكُورَةً فِي عُمُومِ لَفْظٍ ( حَتَّى يَقَعَ ) ( فِيهِ ) التَّخْصِيصُ بِالنِّيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِشَرْطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَجْهٌ إلَّا نَسْخُ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ إيجَابُ ضَمَانِ السَّارِقِ مَعَ الْقَطْعِ ( مَعَ قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ". فَجَعَلَ الْقَطْعَ ) جَزَاءً وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا يُسْتَحَقُّ بِالْفِعْلِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الضَّمَانَ بِالْفِعْلِ مَعَ الْقَطْعِ صَارَ الْقَطْعُ بَعْضَ الْجَزَاءِ فَهَذَا نَظِيرُ إيجَابِ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ عَلَى الزَّانِي عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا , فَاعْتَبِرْ نَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ مَا حُكْمُ الْبَاقِي ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رضي الله عنه يَقُولُ فِي الْعَامِّ إذَا ثَبَتَ خُصُوصُهُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ وَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا ( عَلَى ) دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ . وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ إذَا أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ فَيَقُولُ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ غَيْرُ مَانِعٍ بَقَاءَ ( حُكْمِ ) اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمُسْتَثْنَى , لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَلَا يُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ . ( وَدَلَالَةُ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ اللَّفْظِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَتُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ ) , لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْعُمُومُ . وَكَانَ يَقُولُ - رحمه الله - إنَّ هَذَا مَذْهَبِي ( وَلَا يُمْكِنُنِي ) أَنْ أَعْزِيَهُ إلَى أَصْحَابِنَا . وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ يَذْهَبُ هَذَا الْمَذْهَبَ أَيْضًا وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ . قَالَ ( الشَّيْخُ الْإِمَامُ ) أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : وَاَلَّذِي عِنْدِي مِنْ ( مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا ) فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ ( بِهِ ) فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ أُصُولُهُمْ وَاحْتِجَاجُهُمْ لِلْمَسَائِلِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ احْتَجُّوا فِي إيجَابِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ". وَهَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ , لِأَنَّ الْجَارَ الَّذِي لَيْسَ بِمُلَاصِقٍ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ أَيْضًا وَلَا شُفْعَةَ ( لَهُ ) بِالِاتِّفَاقِ . وَاحْتَجُّوا فِي مَنْعِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْحَجِّ إلَّا بِمَحْرَمٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةِ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ :. وَهَذَا خَاصٌّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مِمَّا احْتَجُّوا فِيهِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ وَقَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهَا بِالِاتِّفَاقِ نَحْوُ " نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك وَعَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ". قَدْ احْتَجُّوا بِعُمُومِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ( عِنْدَنَا وَقَدْ وَافَقَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي احْتَجُّوا فِيهَا بِالْعَامِّ الَّذِي قَدْ ثَبَتَ خُصُوصُهُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَ يَقُولُ : إنَّمَا هَذَا شَيْءٌ أَعْتَقِدُهُ أَنَا فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَعْزِيهِ إلَى أَصْحَابِنَا ) . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ قِيَامَ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي الْبَاقِي وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فِي بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مَعَهُ فِيمَا عَدَاهُ وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّفْظَ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْمٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةً فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ أَظْهَرُ دَلَالَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عِبَارَةً عَنْهُ بِحَالٍ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ تِسْعَةٍ , وَالْمُشْرِكُونَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا حَقِيقَةٌ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ وُجُودَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ لَا يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ لِلْبَاقِي لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ اللَّفْظِ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ فَصَارَتْ التِّسْعَةُ لَهَا اسْمَانِ . أَحَدُهُمَا : تِسْعَةٌ , وَالْآخَرُ : عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا وَالِاسْمَانِ جَمِيعًا حَقِيقَةٌ لَهَا لِأَنَّ الصِّيغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ , وَكَمَا أَنَّ قَوْلَنَا وَاحِدٌ وَوَاحِدٌ , وَقَوْلَنَا اثْنَانِ سَوَاءٌ وَاللَّفْظَانِ جَمِيعًا عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَعْقُولٌ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ . وَأَمَّا قِيَامُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْتَرِنَ إلَى اللَّفْظِ حَتَّى تَصِيرَ الصِّيغَةُ الْمَسْمُوعَةُ مَعَ الدَّلَالَةِ عِبَارَةً عَنْ الْبَاقِي , لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُغَيِّرُ صِيغَةَ اللَّفْظِ فَصَارَتْ الصِّيغَةُ إذَا أُطْلِقَتْ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ مَجَازًا لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا اسْتِيعَابُ جَمِيعِ مَا تَحْتَهَا فَمَتَى أُطْلِقَتْ وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ فَقَدْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَصَارَ اللَّفْظُ مَجَازًا , وَالْمَجَازُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ ( تَقُومُ الدَّلَالَةُ ) عَلَيْهِ . كَذَلِكَ الْعُمُومُ مَتَى أُطْلِقَ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ فِي اعْتِبَارِ عُمُومِهِ فِي الْبَاقِي , وَكَانَ أُلْزِمَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إبْطَالَ فَائِدَةِ اللَّفْظِ رَأْسًا لِافْتِقَارِهِ إلَى دَلَالَةٍ ( مِنْ ) غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ فَكَانَ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ فَائِدَةِ اللَّفْظِ لِأَنَّ وُرُودَهُ ( قَدْ ) أَفَادَنَا حُدُوثَ حُكْمٍ يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ , فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ كَانَ الْحُكْمُ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ نَحْوُ قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ". مَتَى بُيِّنَ الْحَقُّ كَانَ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ . كَذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا مَتَى قَامَتْ دَلَالَةُ الْمُرَادِ كَانَ مُوجَبًا بِاللَّفْظِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا السُّؤَالُ لَازِمًا ( لَهُ ) عَلَى حَسَبِ مَا أَرَادَ السَّائِلُ إلْزَامَهُ وَحَاوَلَ بِهِ إفْسَادَ مَذْهَبِهِ . فَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ فِي أَنَّ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا وَلَا يَصِيرُ مَجَازًا بِالِاسْتِثْنَاءِ , فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ وُرُودَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا لِأَنَّ الْأَلْفَ لَا يَكُونُ أَبَدًا عِبَارَةً عَنْ أَقَلَّ مِنْهَا فَإِذَا قَالَ: أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا". ( فَإِنَّمَا ) أَطْلَقَ اسْمَ الْأَلْفِ وَمُرَادُهُ أَقَلَّ مِنْهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مَجَازًا وَاخْتِلَافُهُمَا مَرْجِعُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَفْظٌ مُتَّصِلٌ بِالْجُمْلَةِ وَدَلَالَةُ الْخُصُوصِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ مُتَّصِلٍ بِهَا وَلَا يُوجَبُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ , لِأَنَّ لِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ إذَا جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَلِفِ أَقَلَّ مِنْهَا لِمَا صَحِبَهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ , وَلَمْ يَمْنَعْ ( ذَلِكَ مِنْ ) بَقَاءِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ , فَكَذَلِكَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعُمُومِ مَعَ إرَادَةِ الْخُصُوصِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ . وَأَمَّا مَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجْعَلُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى مَجَازًا فَإِنَّهُمْ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْ يَقُولُ فِي دَلَالَةِ الْخُصُوصِ كَمَا يَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ , وَيَجْعَلُ اللَّفْظَ حَقِيقَةً فِي الْبَاقِي , وَيَأْبَى أَنْ يَكُونَ قِيَامُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا , وَيَقُولُ إنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَمْ يَكُنْ قَطُّ عُمُومًا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَحَكَيْنَاهُ عَنْ قَائِلِهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا بَقِيَ بَعْدَ الْخُصُوصِ يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا كَانَ اسْمًا لِثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَمَا فَوْقَهَا ثُمَّ قَالَ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ". وَقَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لَا يُقْتَلُونَ فَمَنْ بَقِيَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِمْ لَا مَجَازًا فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ . فَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فِي ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْجَوَابُ كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ , وَيَصِيرُ حِينَئِذٍ فِي الْأَصْلِ , وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ . وَأَمَّا الْفَرِيقُ الْآخَرُ الَّذِينَ يُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ يَجْعَلُ اللَّفْظَ مَجَازًا فَإِنَّهُمْ يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حُصُولَ اللَّفْظِ مَجَازًا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ دَلَالَتِهِ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ كَاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ بَاقِيَةً فِيمَا عَدَا الْمَخْصُوصَ .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إذَا عُلِّقَا بِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَنَاوَلَاهُ فِي الْحَقِيقَةِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِأَفْعَالِ الْمَأْمُورِينَ وَالْمَنْهِيِّينَ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِعْلًا لَهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَا بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤْمَرَ أَحَدٌ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ , وَإِذَا كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ ثُمَّ وَرَدَ لَفْظُ ( التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ) مُعَلَّقًا فِي ظَاهِرِ الْخِطَابِ بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِنَا عَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِعْلُنَا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ نَحْوُ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ". وَ " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ". وقوله تعالى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ". وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْأُمِّ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهَا وَغَيْرُ الْمَيْتَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا التَّحْرِيمُ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَالٌ أَنْ يَنْهَانَا عَنْ فِعْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ وَسَفَهٌ , وَاَللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ . وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَعْيَانٌ مَوْجُودَةٌ فَلَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهَا , وَ ( لَا ) الْأَمْرُ بِهَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْجُودُ وَالْأَمْرُ بِهَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْجُودُ وَهَذَا مُحَالٌ فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِكَ فِيهَا عَلِمْنَا أَنَّ ( التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ ) يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِنَا فِيهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ حِينَئِذٍ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ لَمَّا تَنَاوَلَ فِعْلَنَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلُكُمْ فِي الْأُمَّهَاتِ وَفِي الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فَيَسُوغُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُ فِيمَا وَصَفْنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُضَمَّنَةِ بِأَغْيَارِهَا فَيُفِيدُ إطْلَاقَهَا مَا ضُمِّنَتْ بِهِ كَقَوْلِنَا ضَرَبَ يَقْتَضِي ضَارِبًا وَمَضْرُوبًا وَجَذَبَ يَقْتَضِي مَجْذُوبًا وَأَبٌ يَقْتَضِي ابْنًا وَابْنٌ يَقْتَضِي أَبًا وَشَرِيكٌ يَقْتَضِي شَرِيكًا وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ التَّحْرِيمُ مُضَمَّنًا بِأَفْعَالِنَا يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَارِيًّا مِنْهَا وَصَارَ إطْلَاقُهُ مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْفِعْلِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ". حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فِعْلُكُمْ فِي الْمَيْتَةِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ هُنَاكَ عَادَةٌ لِقَوْمٍ فِي اسْتِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا عَلَيْهِ الْمَجُوسُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهِنَّ . وَقَوْمٌ كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَيْتَةِ عَلَى حَسَبِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْمُذَكَّى كَانَ مَخْرَجُ الْكَلَامِ تَحْرِيمَ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَسْتَبِيحُونَهُ فَيَكُونُ هَذَا الْمَعْنَى ( مُتَعَلِّقًا مَعْقُولًا بِوُرُودِ ) اللَّفْظِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ ( حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ ) . وَحَرَّمْت عَلَيْكُمْ الِانْتِفَاعَ بِالْمَيْتَةِ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ الْمُعْتَادَ مَتَى خَرَجَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ صَارَ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ فِيهِ فَيَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ . فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ وُرُودُ اللَّفْظِ هَذَا الْمَوْرِدَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِأَعْيَانٍ فَأَرَادَ ( بِهِ ) غَيْرَهَا وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا حَصَّلَ مَجَازًا احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ ( أُخْرَى ) مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ وَإِنْ عُلِّقَ بِمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَدْ عَقَلَ بِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ مَا يَعْقِلُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ أَفْعَالِنَا لَوْ عَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمَ بَلْ هُوَ آكَدُ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ فِيهِ لَوْ ذَكَرَ فِعْلَنَا فِيهَا لِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ ضَرْبٌ مِنْ الْفِعْلِ وَعُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِهِ كَانَ ( حُكْمُهُ ) مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ . وَإِذَا عُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِالْعَيْنِ تَنَاوَلَ سَائِرَ وُجُوهِ الْفِعْلِ فِي الْعَيْنِ , وَهَذَا ( عَلَى مَعْنًى ) رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: حُرِّمَتْ الْخَمْرُ بِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ". فَأَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ تَحْرِيمُهُ بِالْعَيْنِ تَنَاوَلَ سَائِرَ وُجُوهِهِ وَمَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْعَيْنِ قَصَرَ حُكْمَهُ عَلَى ذَلِكَ النَّوْعِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ وَإِنْ عُلِّقَ التَّحْرِيمُ بِالْعَيْنِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ إذَا قِيلَ لَهُ أُمُّك مُحَرَّمَةٌ عَلَيْك أَوْ قَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْك الْخَمْرُ وَالْمَيْتَةُ عَقَلَ مِنْ خِطَابِهِ بِنَفْسِ وُرُودِهِ مَا يَعْقِلُهُ مِنْهُ لَوْ ( قِيلَ لَهُ ) الِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ مُحَرَّمٌ عَلَيْك وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْأُمِّ مَحْظُورٌ عَلَيْك وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ فِي صِحَّةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ لَيْسَ يَتَنَاوَلُهُ الْفِعْلُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ قَبِيحًا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ ضَرْبًا مِنْ الْعِقَابِ , وَلَفْظُ التَّحْلِيلِ أَيْضًا لَا يَتَنَاوَلُهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَبِيحٍ وَلَا تَبِعَةَ عَلَى فَاعِلِهِ فِي مُوَاقَعَتِهِ إيَّاهُ . فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِالْفِعْلِ مَقْصُورًا عَلَى مَا بَيَّنَّا صَحَّ اعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فِي أَفْعَالِنَا الْمُضْمَرَةِ فِي الْخِطَابِ . وَأَمَّا النِّيَّةُ فَإِنْ تَعَلُّقَهَا بِالْفِعْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إثْبَاتُ فَضِيلَةِ الْعَمَلِ وَالْآخَرُ إثْبَاتُ حُكْمِهِ حَتَّى إذَا فُقِدَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ أَصْلًا وَمَتَى تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى وَجْهِ إثْبَاتِ فَضِيلَتِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ عَدَمُهَا فِي الْحُكْمِ نَحْوُ غَسْلِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ ( وَالْوُضُوءِ ) مَتَى نَوَى بِذَلِكَ طَهَارَةَ الصَّلَاةِ كَانَتْ نِيَّتُهُ مُثْبِتَةً لَهُ فَضِيلَةً , وَكَانَ مُسْتَحِقًّا بِهَا عَلَيْهِ الثَّوَابَ وَفَقْدُهُمَا لَا يَضُرُّهُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَاقِعَةٌ فِي حَالِ وُجُودِ النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَمَتَى تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى جِهَةِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ كَانَ عَدَمُهَا ( مَانِعًا مِنْ ) وُقُوعِ حُكْمِ الْفِعْلِ رَأْسًا . نَحْوُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَسَائِرِ الْفُرُوضِ الْمَقْصُودَةِ لِأَعْيَانِهَا مَتَى عَرِيَتْ مِنْ النِّيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا وَكَانَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ , فَلَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَلَمْ ( يَكُنْ ) بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْهَا بِالْآخَرِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا مَعَ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ الْمُرَادِ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ ادَّعَى فِي قَوْلِهِ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ إثْبَاتَ حُكْمِ الْأَعْمَالِ بِأَوْلَى مِمَّنْ ادَّعَى فَضِيلَةَ الْعَمَلِ . أَلَا ( تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ بِمِثْلِهِ لَفْظُ عُمُومٍ لَمَا سَاغَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَمَا لَيْسَ بِمَذْكُورٍ مِمَّا يَقْتَضِيهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَصْلُحَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ فِيهِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ". هُوَ ( فِي ) مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي" تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ عَنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : رَفْعُ الْحُكْمِ رَأْسًا . وَالْآخَرُ : رَفْعُ الْمَأْثَمِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ إذَا كَانَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الضَّمِيرِ مُخْتَلِفًا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْأُمِّ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ , وَبِالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَمْ يَتَعَلَّقْ فِي أَنْ يَبَرَّهَا وَيُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيُكْرِمَهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَيْتَةِ فِي أَنْ يَحْمِلَهَا فَيَرْمِيَ بِهَا وَفِي الْخَمْرِ بِأَنْ يُرِيقَهَا ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ جَوَازُ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ مِنْ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِيهِ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ . قِيلَ لَهُ : هَذَا سُؤَالُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا تَقَدَّمَ , وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا إنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ الْمُحَرَّمِ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ التَّحْلِيلُ ثُمَّ خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ مِنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ مَعْنَى التَّحْرِيمِ فَمَا تَعَلَّقَ بِهِ , وَلِذَلِكَ جَازَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". وَقَوْلُهُ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ" فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ إطْلَاقُ اللَّفْظِ مُخْتَلِفٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَكَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ ( فِيهِ ) .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَلَفْظِ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَا بِالْخِطَابِ مَا حُكْمُهُمَا ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا صَحِبَ خِطَابًا مَعْطُوفًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعَ إلَى مَا قَبْلَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَكَذَلِكَ كَانَ ( شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ ) رحمه الله ( يَقُولُ فِي ذَلِكَ ) فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَنَحْوُ قوله تعالى فِي الْقَاذِفِ: فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ". ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إلَّا الَّذِينَ تَابُوا". فَكَانَ الِاسْتِثْنَاء إنَّمَا عَمِلَ فِي إزَالَةِ سِمَةِ الْفِسْقِ عَنْ الْقَاذِفِ بِالتَّوْبَةِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ وَلَا فِي زَوَالِ الْحَدِّ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَ بِالْجُمْلَةِ نَحْوُ قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ". فَقَوْلُهُ: مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ:. تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ الرَّبَائِبِ دُونَ بَعْضٍ فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِنَّ غَيْرُ رَاجِعٍ إلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي آخَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ مُبْهَمَةٌ " وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ: أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى " فَكَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُكْمَ التَّخْصِيصِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ . وَكَذَلِكَ حُكِيَ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ هَذَا حَقُّ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَاهُ . وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ قوله تعالى { إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ } فَكَانَتْ ( الْمَرْأَةُ ) مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْمُنَجِّينَ لَاحِقَةً بِالْمُهْلَكِينَ لِاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمُنَجِّينَ وَنَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ عَلَيَّ ( لِفُلَانٍ ) عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ تِسْعَةَ ( دَرَاهِمَ ) لِأَنَّ الدِّرْهَمَيْنِ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْعَشَرَةِ ( فَبَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَكَانَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعَشَرَةِ ) وَهَذَا مَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ خِلَافٌ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ فَحُكْمُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّخْصِيصِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ هُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ وَالِاسْتِثْنَاءَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْعُمُومِ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ وَلَا جَائِزٌ تَخْصِيصُ شَيْءٍ فِيهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِذَا اتَّصَلَ الِاسْتِثْنَاءُ بِخِطَابٍ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ فَحُكْمُهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعَ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ وَقَدْ وَفَّيْنَا حَظَّهُ بِإِعْمَالِهِ فِيمَا يَلِيهِ فَاحْتَاجَ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ . وَكَذَلِكَ حُكْمُ لَفْظِ التَّخْصِيصِ إذَا اتَّصَلَ بِكَلَامٍ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ هُوَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ . فَإِنْ قِيلَ لَمَّا صَلُحَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ دُونَ بَعْضٍ , كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَمَّا صَلُحَ لِجَمِيعِ مَا هُوَ ( اسْمٌ ) لَهُ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ مَا انْتَظَمَهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ . قِيلَ لَهُ : إنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا انْطَوَى تَحْتَهُ فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ صَلُحَ لَهُ فَحَسْبُ وَلَوْ كَانَ تَنَاوُلُهُ لِلْكُلِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَجَازَ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لَهُ وَلَوْ عَلَّقَ ( الْحُكْمَ ) بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ يُسَمَّى زَيْدًا لَوَجَبَ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَنْ ( اسْمُهُ زَيْدٌ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لَهُ وَلَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ فِيهِ شَرْطًا غَيْرَ مَذْكُورٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَذْكُرَهُ وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ . وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَلَيْسَ فِي مَضْمُونِهِ وَلَا فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ إذْ قَدْ صَحَّ حُكْمُهُ فِيهِ , وَمَنْ ادَّعَى رُجُوعَهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ كَانَ مُدَّعِيًا لِتَخْصِيصِ عُمُومٍ بِلَا دَلَالَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ أَدْخَلَ شَرْطًا وَصَلَهُ بِاللَّفْظِ كَانَ جَمِيعُ الْخِطَابِ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ . قِيلَ لَهُ : يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عِنْدَنَا , مِنْهُ مَا يَرْجِعُ إلَى مَا يَلِيهِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ إلَى الْجَمِيعِ وَفِي تَفْصِيلِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْإِطَالَةِ وَلَيْسَ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يُجْعَلَ حُكْمُهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُخْرِجُ مِنْهَا بَعْضَ مَا انْتَظَمَتْهُ بَعْدَ ( صِحَّةِ ) الْكَلَامِ وَحُصُولِ الْفَرَاغِ مِنْهُ . وَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا حَتَّى يَتَعَلَّقَ حُكْمُهَا بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ لَمْ يَكُنْ لِلَّفْظِ حُكْمٌ فَلِذَلِكَ جَازَ تَعَلُّقُ جَمِيعِ الْمَذْكُورِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ ذَلِكَ مِنْهَا وَلَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . إلَى قوله تعالى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثُمَّ عَقَّبَهُ بَعْدَ ذِكْرِ وَعِيدِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فَكَانَ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُور ( وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ ) . قِيلَ لَهُ : لَوْلَا مَا فِي اللَّفْظِ مِنْ دَلَالَةِ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ لَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ قوله تعالى { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ زَوَالَ عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ لَا يَتَعَلَّقُ ثُبُوتُهُ قَبْلَ قُدْرَتِنَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ التَّوْبَةَ إذَا صَحَّتْ زَالَتْ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ فِي أَيِّ حَالٍ وُجِدَتْ فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْبَةَ الْمَشْرُوطَةَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ إنَّمَا هِيَ لِزَوَالِ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ . وَمَعَ ذَلِكَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِدَلَالَةٍ تَقُومُ لِأَنَّ حَقَّ الْكَلَامِ أَنْ لَا يُزَالَ تَرْتِيبُهُ وَنِظَامُهُ وَلَا يُجْعَلُ الْمُقَدَّمُ مِنْهُ مُؤَخَّرًا وَلَا الْمُؤَخَّرُ ( مِنْهُ ) مُقَدَّمًا إلَّا بِدَلَالَةٍ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ إرَادَةُ تَقْدِيمِ الْمُؤَخَّرِ وَتَأْخِيرِ الْمُقَدَّمِ فِي اللَّفْظِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَالْمَعْنَى وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْأَجَلُ مَضْمُومًا ( بِعَطْفِهِ ) عَلَى الْكَلِمَةِ وَكَذَلِكَ قوله تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا } وَالْمَعْنَى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ مَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْخِطَابِ لَمَا أَزَلْنَاهُ عَنْ نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ ثُمَّ جَازَ وُرُودُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ زَوَالِ تَرْتِيبِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ, وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ حُكْمُهُ لَنْ يَعْمَلَ فِيمَا يَلِيهِ وَلَا يَعْمَلُ فِيمَا تَقَدَّمَ إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّرِقَةِ { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَكَانَ حُكْمُ التَّخْصِيصِ فِيهِ مَقْصُورًا عَلَى مَا يَلِيهِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِهِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ, وَإِنَّمَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَكَالًا وَإِنَّمَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مَقْطُوعًا عَلَى وَجْهِ الْمِحْنَةِ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَلِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ عَلَى وَجْهِ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلثَّوَابِ بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا لِأَنَّ التَّائِبَ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ ( وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } كَلَامًا مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِهِ ) . وَمِنْ أَلْفَاظِ التَّخْصِيصِ مَا يَعْرِضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي وَقَعَ التَّخْصِيصُ فِيهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى تَتَوَسَّطُهَا فِي نَسَقِ الْخِطَابِ فَلَا يَمْنَعُ مَا عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ إعْمَالِ لَفْظِ التَّخْصِيصِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } إلَى قوله تعالى { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ } إلَى قوله تعالى { وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ } يَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مَا تَوَسَّطَهَا مِنْ قوله تعالى { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } وَمَا بَعْدَهُ رُجُوعَ حُكْمِ التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ إلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ خِطَابٌ وَاحِدٌ بَعْضُهُ مَعْطُوفٌ عَلَى بَعْضٍ وقوله تعالى { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ فِيهِ وَيُعْطَفَ عَلَيْهِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ تَحْرِيمُهُ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ وَقَدْ جَاءَ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ مَا لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنْ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا حُجَّةً وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ , ( وَيَحْتَمِلُ وَلَكِنْ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَمِثْلُهُ قوله تعالى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } وَالْمَعْنَى لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَحُكْمُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ لِأَنَّ قَتْلَ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ النَّهْيُ فَيَخْرُجَ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالِاسْتِثْنَاءِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ مَعْنَاهُ وَلَا خَطَأً وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَتْلُ الْخَطَأِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَطْفِهِ عَلَى النَّهْيِ وَقَتْلُ الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ فَدَلَّ أَنَّ الْمَعْنَى مَا وَصَفْنَا وَمِنْ هَذَا النَّحْوِ قوله تعالى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَمَعْنَاهُ لَكِنْ مَا ذَكَّيْتُمْ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ مَا أَكَلَ السَّبُعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ يَقُولُ الْعَرَبُ هَذَا أَكِيلَةُ السَّبُعِ إذَا قَتَلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ وَنَحْوُهُ قوله تعالى { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا } مَعْنَاهُ لَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ عليه السلام وقوله تعالى { طَه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْقُرْآنَ لِتَشْقَى . إلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } مَعْنَاهُ لَكِنَّ تَذْكِرَةً ( لِمَنْ يَخْشَى ) وَمِثْلُهُ قوله تعالى { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ } وَالْمَعْنَى لَكِنَّ إبْلِيسَ لَمْ يَسْجُدْ , وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ ( بِهِ ) حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ وَكَانَ إبْلِيسُ مِمَّنْ يَصِحُّ أَمْرُهُ بِالسُّجُودِ اسْتَثْنَاهُ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا وَجْهٌ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارٌ . أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( عَلَيَّ ) يَتَنَاوَلُ مَا ( يَثْبُتُ فِي ) الذِّمَّةِ ( وَالدِّينَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الدِّرْهَمِ فَإِنَّهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ ) فَصَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قوله تعالى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } مِنْ النَّوْعِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَأَنَّهُ بِمَعْنَى لَكِنْ تَكُونُ { تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدِي لِأَنَّ قوله تعالى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ التِّجَارَةُ عَنْ تَرَاضٍ وَعَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ التِّجَارَاتِ الْوَاقِعَةِ عَنْ تَرَاضٍ دَاخِلٌ فِي لَفْظِ النَّفْيِ وَهِيَ أَنْ يَقَعَ عَلَى فَسَادٍ وَعَلَى وُجُوهٍ مَحْظُورَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُقَدَّرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمُخْرِجًا لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا وَمِنْ الْجُمَلِ مَا يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ ثُمَّ يُعْطَفُ عَلَيْهَا بِكِنَايَةٍ فَحُكْمُ الْكِنَايَةِ فِي مِثْل ذَلِكَ رُجُوعُهَا إلَى مَا يَلِيهَا دُونَ مَا بَعُدَ مِنْهَا نَحْوُ قوله تعالى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فَهَذِهِ الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إلَى الرَّبَائِبِ اللَّاتِي يَلِينَ الْكِنَايَةَ , وَهَذَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَفْظِ التَّخْصِيصِ وَالْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ وَاحِدٌ . وَمِنْهَا مَا يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ بَعْضِ الْمَذْكُورِ مِمَّا يَلِي الْكِنَايَةَ وَيَشْتَرِكَانِ جَمِيعًا فِي حُكْمِهَا نَحْوُ قوله تعالى { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا } وَاَلَّذِي يَلِي الْكِنَايَةَ هُوَ اللَّهْوُ وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنْ مُؤَنَّثٍ وَهِيَ التِّجَارَةُ وَلَيْسَ اللَّهْوُ مُؤَنَّثًا فَتَكُونَ الْكِنَايَةُ عَنْهُ وَقَدْ اشْتَرَكَا جَمِيعًا فِي الْخَبَرِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّك مَتَى أَفْرَدْت اللَّهْوَ عَنْ الْخَبَرِ الْعَائِدِ إلَى التِّجَارَةِ سَقَطَتْ فَائِدَتُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى وَإِذَا رَأَوْا اللَّهْوَ وَهَذَا كَلَامٌ مُفْتَقِرٌ إلَى خَبَرٍ وَلَا شَيْءَ هَاهُنَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْهُ إلَّا مَا جَعَلَهُ خَبَرًا ( عَنْ التِّجَارَةِ ) وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا خَصَّ التِّجَارَةَ بِعَطْفِ الْكِنَايَةِ عَلَيْهَا دُونَ اللَّهْوِ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ عَنْ الذِّكْرِ وَالْخُطْبَةِ إلَى التِّجَارَةِ أَكْثَرُ فِي الْعَادَةِ فِي مَقَاصِدِ النَّاسِ مِنْهُ إلَى اللَّهْوِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إلَيْهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لَهُمَا وَمِمَّا عَادَتْ الْكِنَايَةُ فِيهِ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَظَاهِرُ الْكِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى الْفِضَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَعَادَهَا عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَلِيهَا وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ ; لِأَنَّ قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } لَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَبَرٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " خَبَرًا لَهُمَا جَمِيعًا . فَإِنْ قِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى { وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } خَبَرًا لَهُمَا جَمِيعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " وَلَا يُنْفِقُونَهَا " حُكْمًا مَقْصُورًا عَلَى الْفِضَّةِ الَّتِي عَادَتْ الْكِنَايَةُ إلَيْهَا وَيَكُونُ قَوْلُهُ { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خَبَرًا عَنْ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ . قِيلَ لَهُ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْوَعِيدَ لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الزَّجْرِ عَنْ كَنْزِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَّا عَلَى شَرِيطَةِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قوله تعالى { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَعِيدًا لِمَنْ كَنَزَ الذَّهَبَ مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ , وَعَلَى أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مُوجِبَةً ) لِحَظْرِ كَنْزِ الذَّهَبِ ( عَلَى الْإِطْلَاقِ ) وَحَظْرُ كَنْزِ الْفِضَّةِ عَلَى شَرْطِ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهَا وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ . وَأَيْضًا فَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قوله تعالى { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } إلَى قوله تعالى { هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُحْمَى عَلَيْهَا لِمَنْ كَنَزَهَا وَالذَّهَبُ ( قَدْ ) شَارَكَ الْفِضَّةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّ تَرْكَ الْإِنْفَاقِ رَاجِعٌ إلَيْهَا وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قوله تعالى { وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } فَعَطَفَ بِالْكِنَايَةِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالرِّضَى ( الْمَشْرُوطُ ) مَشْرُوطٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ عليه السلام . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قوله تعالى " وَرَسُولُهُ " مَتَى أَخْلَيْته مِنْ حُكْمِ هَذَا الْخَبَرِ افْتَقَرَ إلَى خَبَرٍ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ( خَبَرٌ ) غَيْرُ الرِّضَى فَعَلِمْنَا أَنَّ رِضَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مَشْرُوطٌ ( فِي ذَلِكَ ) . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ بِالْكِنَايَةِ عَنْ اللَّهِ دُونَ الرَّسُولِ لِأَنَّ رِضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى رِضَاءُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم . وَ ( قَدْ ) قِيلَ فِيهِ أَيْضًا : إنَّمَا أَفْرَدَ الْكِنَايَةَ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمَ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي كِنَايَةٍ فَيُقَالُ يُرْضُوهُمَا , وَأَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ ( ذِكْرُ ) اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَالْوَاجِبُ التَّبْدِئَةُ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ غَيْرِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ ( مَا رُوِيَ ) { أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مِنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ } يَعْنِي بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْصِهِمَا لِأَنَّهُ جَمَعَ ( بِقَوْلِهِ اسْمَ ) اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمَ ( الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ) فِي كِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ . وَمِنْ الْكِنَايَاتِ مَا يَتَقَدَّمُهُ مَذْكُورَانِ فَيَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا تَارَةً ثُمَّ تَعْلُقُ بِهِ صِفَةٌ أُخْرَى أَوْ حُكْمٌ آخَرُ فَيَرْجِعُ إلَى الْآخَرِ نَحْوُ قوله تعالى { لِتُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فَقَوْلُهُ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ( وَقَوْلُهُ ) وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى . وَمِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ مَا يَنْتَظِمُ مُسَمَّيَاتٍ بِحُكْمٍ مَذْكُورٍ لَهَا ثُمَّ يَعْطِفُ عَلَيْهَا بَعْضَ مَنْ شَمَلَهُ الِاسْمُ بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مَخْصُوصٌ فِيمَنْ عَطَفَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ اسْتَوْفَاهُ الِاسْمُ وَاقْتَضَاهُ الْعُمُومُ وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَهَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ ثَلَاثًا فَمَا دُونَهَا وَفِي الْعَاقِلَةِ وَالْمَجْنُونَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ ) فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِهِ الْعَاقِلَةُ دُونَ الْمَجْنُونَةِ وقوله تعالى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ عُمُومِ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي سَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ بِالْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهُنَّ وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَالَ ( فِي ) قوله تعالى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَنَّهُ فِي الثَّلَاثِ وَفِيمَا دُونَهَا وقوله تعالى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ } وقوله تعالى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قوله تعالى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } هُوَ عَامٌّ فِي الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ وَقَوْلُهُ { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } فِي الرَّجْعِيِّ وقوله تعالى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ } عَائِدٌ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيَقْتَضِي ذَلِكَ صِحَّةَ وُقُوعِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى جِهَةِ الْبَيْنُونَةِ وَالرَّجْعِيُّ وَمِثْلُهُ قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } عَامٌّ فِي الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وقوله تعالى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } تَخْصِيصٌ لِبَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ الْعُمُومُ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَمِنْهُ أَيْضًا قوله تعالى { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } وَهَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } وَذَلِكَ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ وَلَمْ يَمْنَعْ كَوْنُ أَوَّلِ الْخِطَابِ فِي الْفَرِيقَيْنِ , وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْإِجْمَاعِ ( وَالسُّنَّةِ ) إذَا حَصَلَا عَلَى مَعْنًى يُوَاطِئُ حُكْمًا مَذْكُورًا فِي الْكِتَابِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : كَانَ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ كُلُّ مَا وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُكْمٍ مَنُوطٍ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَعْضِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ ( السُّنَّةُ بِهِ ) ( فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ مَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ) مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاسْمِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } لَمَّا احْتَمَلَ اللَّفْظُ الْجِمَاعَ وَاللَّمْسَ بِالْيَدِ ثُمَّ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ } فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَطَعَ السَّارِقَ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ هَذَا حُكْمٌ مُبْتَدَأٌ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّارِقِ بَلْ قَالَ الْجَمِيعُ إنَّهُ حَكَمَ بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ لَمَّا صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ الْأُمَّةِ مَعْقُولَةً عَنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيهِ ( مَا ) يَنْتَظِمُ ذَلِكَ وَيُوجِبُهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنَّك لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ } فَكُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْقُرْآنِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُ فَيَكُونُ عِبَارَةً عَنْهُ فَذَلِكَ حُكْمُ الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِهِ وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قوله تعالى { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ حُكْمٌ لِبَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَالْوَاجِبُ بِأَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ بِالْآيَةِ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ( لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } ) كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا بِالْآيَةِ لِأَنَّ قوله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } لَمَّا احْتَمَلَ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ ( ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَحْرُمُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ , وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ انْتَفَى الْوَطْءُ ) لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مُرَادَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ . قِيلَ : لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ حَقِيقَةً حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ وَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ , وَإِنْ كَانَتْ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةً عَلَيْهِ فَإِنَّمَا مَنَعَنَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُرَادًا . وَإِنْ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ . فَإِنْ قَالَ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } حَقِيقَةٌ فِي اللَّمْسِ بِالْيَدِ فَاحْمِلُوهُ عَلَيْهِ وَاجْعَلُوا الْجِمَاعَ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ كَمَا جَعَلْتُمْ قوله تعالى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } عَلَى الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْوَطْءُ وَلَمْ تَجْعَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعَقْدِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ . قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ بِوَجْهٍ وَكَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ فِيهَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بِحَالٍ وَثَبَتَ أَنَّ الْجِمَاعَ مُرَادٌ بِهَا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجُنُبَ بِالتَّيَمُّمِ فَأَثْبَتْنَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ حَقِيقَةٌ مِنْ اللَّمْسِ بِالْيَدِ لِعَدَمِ السُّنَّةِ وَالِاتِّفَاقِ فِيهِ بَلْ قَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِخِلَافِهِ ; وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم { كَانَ يُقَبِّلُ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ } فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ . وَأَمَّا قوله تعالى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } فَإِنَّ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْوَطْءِ وَالِاتِّفَاقُ مَوْجُودٌ فِيهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يَحْرُمُ بِلَا خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَطْءُ وَأَثْبَتْنَا تَحْرِيمَ الْعَقْدِ بِالِاتِّفَاقِ .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ وَحُكْمِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْر
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَغَيْرُ خَالٍ مِنْ فَائِدَةٍ , فَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْقُولًا ( مِنْ لَفْظِهِ ) وَمِنْهُ مَا يُفِيدُ حُكْمًا وَمَعْنًى يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي . وَمِمَّا يَكُونُ مَعْنَاهُ مَعْقُولًا مِنْ لَفْظِهِ مَا يُفِيدُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ مَعْنًى لَيْسَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ نَحْوُ قوله تعالى: وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ". قَدْ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : النَّهْيُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ . وَأَفَادَ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ النَّهْيَ عَمَّا فَوْقَهُ مِنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ. وَمِنْهُ قوله تعالى: وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا". " وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا". فِيهِ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ الظُّلْمِ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ , وَدَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا". ( وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ". وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ". نَصَّ عَلَى ذِكْرِ غَدٍ وَأَفَادَ الْأَمْرَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ كُلِّ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى: إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ". ذَكَرَ السَّبْعِينَ وَالْمُرَادُ بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ كَثْرَةَ عَدَدِ الِاسْتِغْفَارِ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا الْعَدَدَ بِعَيْنِهِ . وَنَحْوُ قَوْلِهِ: إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ". وقوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ". نَصٌّ مِنْهُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَالْمُرَادُ التَّضْعِيفُ لَا هَذِهِ الْأَعْدَادُ بِأَعْيَانِهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا وَهَذَا الضَّرْبُ ( كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ) وَالسُّنَّةِ وَفِي عَادَاتِ النَّاسِ وَمُخَاطَبَاتِهِمْ وَهَذَا هُوَ دَلِيلُ الْخِطَابِ الَّذِي يَجِبُ اعْتِبَارُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ ذَا وَصْفَيْنِ فَخُصَّ أَحَدُهُمَا بِالذِّكْرِ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : كُلُّ مَا خُصَّ بَعْضُ أَوْصَافِهِ بِالذِّكْرِ , وَإِنْ كَانَ ذَا أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ فَقَوْلٌ ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ وَالْفَسَادِ لَا يَرْجِعُ قَائِلُهُ فِي إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ لُغَةٍ وَلَا شَرْعٍ بَلْ اللُّغَةُ عَلَى خِلَافِهِ ( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) : وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا وَصْفَيْنِ فَخُصَّ أَحَدُهُمَا بِالذَّكَرِ أَوْ كَانَ ذَا أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ فَخُصَّ بَعْضُهَا بِالذِّكْرِ ثُمَّ عُلِّقَ بِهِ حُكْمٌ . وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ وَيُعْزِي ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِنَا وَكَانَ يَحْكِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنْ لَيْسَ فِي تَخْصِيصِ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّهُ قَالَ إنَّ قوله تعالى: وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك". لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ مَعَهُ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ". ( وَكَانَ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله . أَيْضًا ) فِي قوله تعالى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ". إنَّمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَى دَرْءِ الْعَذَابِ عَنْهَا إذَا شَهِدَتْ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا إذَا لَمْ تَشْهَدْ لَا يُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ . مَطْلَبٌ: وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي "السِّيَرِ الْكَبِيرِ" قَالَ : إذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا مِنْ حُصُونِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْحِصْنِ أَمِّنُونِي عَلَى أَنْ أَنْزِلَ إلَيْكُمْ عَلَى أَنْ أَدُلَّكُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ مِنْ السَّبْيِ فِي قَرْيَةِ ( كَذَا ) فَأَمَّنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَنَزَلَ ثُمَّ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى مَأْمَنِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إنْ لَمْ أَدُلَّكُمْ فَلَا أَمَانَ لِي فَلَمْ يَجْعَلْ مُحَمَّدٌ وُقُوعَ الْأَمَانِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ فَلَا أَمَانَ لَهُ . وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ مَذْهَبِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ أَوْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ عِنْدِي بَيْنَ أَصْحَابِنَا خِلَافٌ فِي جُمْلَةِ الْمَذْهَبِ وَقَدْ كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا مِنْ شُيُوخِنَا يَقُولُ فِي الْمَخْصُوصِ بِعَدَدٍ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ . كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ مَا عَدَاهُنَّ وَكَقَوْلِهِ { أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُبَاحٍ . وَأَحْسَبُ مُحَمَّدَ بْنَ شُجَاعٍ الثَّلْجِيَّ قَدْ احْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا . وَلَسْت أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَانُوا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِذِكْرِ الْعَدَدِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِعَدَدٍ نَحْوِ قَوْلِهِ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } . وَذِكْرُهُ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ وَلَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ مِثْلَهُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُرْهَا بِعَدَدٍ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ الرِّبَا فِي سِتَّةِ أَشْيَاءَ كَمَا قَالَ { خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ } . ( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) وَاَلَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عَدَدٍ فِي أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ ( فِيهِ ) عَلَى حُكْمِ مَا عَدَاهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ . وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا : أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ دَلِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى أَحْكَامِهِ ثُمَّ يُوجَدُ عَارِيًّا مِنْ مَدْلُولِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِ دَلَالَتِهِ بِوَجْهٍ . وَهَذَا هُوَ وَصْفُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّا وَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَصَّ أَشْيَاءَ فَذَكَرَ بَعْضَ أَوْصَافِهَا ثُمَّ عَلَّقَ بِهَا أَحْكَامًا ثُمَّ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ بِخِلَافِهَا نَحْوُ قوله تعالى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } . فَخَصَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِحَالِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ . وَلَمْ يَخْتَلِفْ ( حُكْمُ ) النَّهْيِ فِي الْحَالَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } . فَخَصَّ النَّهْيَ عَنْ الظُّلْمِ بِهَذِهِ الْأَشْهُرِ وَمَعْلُومٌ صِحَّةُ النَّهْيِ عَنْهُ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ وَنَحْوُ قوله تعالى { وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } وَغَيْرُ جَائِزٍ لَهُ أَكْلُهَا بِحَالٍ وَإِنْ خَصَّ حَالَ الْإِسْرَافِ وَالْمُبَادَرَةِ لِبُلُوغِهِمْ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَهُوَ صلى الله عليه وسلم نَذِيرٌ لِلْبَشَرِ وقوله تعالى { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ بِحَالٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً . وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَقَدْ وَافَقَنَا مُخَالِفُنَا عَلَى أَنَّ الْمُخْطِئَ مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ . وَقَالَ ( تَعَالَى ) { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَلَمْ يَنْتِفْ ( بِهِ ) وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَائِدِ مَعَ ذِكْرِهِ الِانْتِقَامَ دُونَ غَيْرِهِ . وَقَالَ تَعَالَى { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } وَوَافَقَنَا الْمُخَالِفُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُهُنَّ وَإِنْ لَمْ يُحْصَنَ وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى . فَلَمَّا وَجَدْنَا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي شَرْطُهَا عِنْدَ مُخَالِفِنَا إيجَابُ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهَا بِخِلَافِ حُكْمِهَا ثُمَّ وَجَدْنَاهَا وَمَا عَدَاهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُكْمِ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا ادَّعَوْهُ مِنْ التَّخْصِيصِ تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُهُ عَلِمْنَا أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ دَلِيلًا لَمَا وُجِدَتْ فِي حَالٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَدْلُولِهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا كَقَوْلِكُمْ فِي الْعُمُومِ وَفِي الْعِلَلِ إنَّهَا مُوجِبَةٌ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ وَقِيَامُ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ لَا يَمْنَعُ حُكْمَ دَلَالَتِهِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ وَيُوجِبُهُ ( فِيمَا لَا تَقُومُ ) فِيهِ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ رَضِينَا بِمَا اسْتَشْهَدْت بِهِ حُكْمًا فَإِنَّهُ مِنْ أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ دَلَالَةً عَلَى فَسَادِ أَصْلِك . خَبِّرْنَا عَنْ لَفْظِ الْعُمُومِ هَلْ يَجُوزُ وُجُودُهُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمٍ أَصْلًا وَهَلْ يَصِحُّ وُجُودُ عِلَّةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ رَأْسًا . فَإِنْ قَالَ : لَا , لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ قِيَامِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ مِنْ أَنْ يَبْقَى مِنْ أَحْكَامِ الْعُمُومِ وَالْعِلَّةِ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ . قِيلَ ( لَهُ ) : أَفَلَيْسَ قَدْ وَجَدْت هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا إيجَابُ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِيهَا بِخِلَافِهِ فَهَلَّا اسْتَدْلَلْت بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ دَلِيلًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُوجَدَ عُمُومٌ أَوْ عِلَّةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ رَأْسًا لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَا دَلَالَةً عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْفُسِهِمَا . فَإِنْ قَالَ : دَلَالَةُ اللَّفْظِ قَائِمَةٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ فِيمَا عَدَاهُ الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ . قِيلَ لَهُ : لَمْ نَخْتَلِفْ فِي أَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْحُكْمِ مِمَّا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفْنَا فِي كَوْنِهِ دَالًّا عَلَى أَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ وَقَدْ جَازَ وُجُودُهُ غَيْرَ دَالٍّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَهَذَا الَّذِي تَبْطُلُ بِهِ قَاعِدَتُك . أَلَا تَرَى : أَنَّ اللَّفْظَ نَفْسَهُ لَمَّا كَانَ دَلَالَةً عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَمْ يَجُزْ وُجُودُهُ مُطْلَقًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إلَّا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى حُكْمِهِ . وَلَوْ قَدْ جَازَ وُجُودُهُ حَقِيقَةً فِي مَوْضِعِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِمَا وُضِعَ لَهُ لَمَا كَانَ ( ذَلِكَ ) دَلِيلًا عَلَى الْمَعْنَى وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ الْمُخَالِفِ لَنَا وَفِي ذَلِكَ الْمَعْقُولِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ حَقِّ اللَّفْظِ إفَادَةُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْحُكْمِ وَدَلَالَةٌ عَلَى نَظَائِرِهِ وَإِلْحَاقُهَا بِحُكْمِهِ فَأَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى خِلَافِ حُكْمِهِ فَهَذَا عَكْسُ الْمَعْنَى وَقَلْبُ الْوَاجِبِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فِي قوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مِنْ الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَوْدُهُ عَلَى الْمُخْطِئِ وَهُوَ قوله تعالى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَهَذَا إغْفَالٌ مِنْهُ لِحُكْمِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّ الْجَمِيعَ بِالْحُكْمِ فَقَالَ " وَمَنْ قَتَلَهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ ( مِنْ النَّعَمِ ) " لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ لِلْوَعِيدِ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ مَانِعًا مِنْ عَوْدِهِ إلَى الْعَامِدِ دُونَ الْمُخْطِئِ , وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ حُكْمُ عُمُومِ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدِيهِ حُسْنًا } وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَالْكَافِرَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاك لِتُشْرِكَ بِي } . وَهَذَا فِي بَعْضِ مَا شَمَلَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ فَعَلِمْت أَنَّ ذِكْرَ الْوَعِيدِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ ( غَيْرُ ) مَانِعٍ إطْلَاقَ عُمُومِ الْحُكْمِ فِي الْجَمِيعِ فَدَلَّ مُوَافَقَةُ مُخَالِفِنَا عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ مَعَ تَخْصِيصِهِ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ , عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ يُحْكَمُ بِخِلَافِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ وُجِدَ لَفْظُ الْأَمْرِ مَوْضُوعًا لِلْإِيجَابِ ثُمَّ قَدْ يَرِدُ تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ النَّدْبُ وَيَرِدُ أُخْرَى وَيُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ ثُمَّ قَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ , بَلْ يَدُلُّ عَلَى الزَّجْرِ وَالْوَعِيدِ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ } , { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ لِلْإِيجَابِ وقوله تعالى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } لِلنَّدْبِ وقوله تعالى { فَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } لِلْإِبَاحَةِ وقوله تعالى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } زَجْرٌ وَتَهْدِيدٌ . ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ وُرُودُهُ عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ الْإِيجَابِ مِنْ ( اقْتِضَائِهِ لِلْوُجُوبِ مَتَى خَلَا مِنْ دَلِيلٍ يَنْقُلُهُ مِنْ ) حُكْمِهِ . كَذَلِكَ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ عَلَى حُكْمِ مَا عَدَاهُ عَلَى الْوَجْهِ قَوْلَةٌ صَحِيحَةٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ تُزِيلُهَا عَنْ مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا . قِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ افْعَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ تَارَةً عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ وَأُخْرَى عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ الدُّعَاءِ وَإِنْ كَانَ بَابُهَا وَحَقِيقَتُهَا الْوُجُوبَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ لَمْ يَخْلُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ الصَّارِفَةِ لَهُ عَنْ جِهَةِ الْإِيجَابِ مِنْ أَنْ ( يَكُونَ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا اللَّفْظُ ( كَمَا يَبْقَى ) حُكْمُ الْعُمُومِ بَعْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ فِيمَا لَمْ يُخَصَّ وَيَبْقَى حُكْمُ الْعِلَّةِ إذَا قَامَتْ دَلَالَةُ تَخْصِيصِهَا فِيمَا لَمْ يُخَصَّ مِنْهَا . أَلَا تَرَى : أَنَّ أَكْثَرَ مَا يُفِيدُهُ قَوْلُهُ افْعَلْ لِلْإِيجَابِ . وَالْإِيجَابُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ وَالنَّدْبُ مُعَلَّقٌ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ذَمِّ تَارِكِهِ وَالْإِبَاحَةُ مُعَلَّقٌ بِهَا وُقُوعُ الْفِعْلِ لَا عَلَى جِهَةِ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِفِعْلِهِ وَلَا الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ فَعَلَى أَيِّ حَالٍ تَصَرَّفَتْ صِيغَةُ ( حَقِيقَةِ ) الْأَمْرِ فَإِنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ قَوْلَهُ افْعَلْ مَتَى لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيجَابَ كَانَ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى مَعْنَاهُ حَقِيقَةً وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ اعْتِبَارَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ الْمَجَازِ وَأَمَّا سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَرَدَتْ ( فِيهَا ) الْأَلْفَاظُ الْعَارِيَّةُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى حُكْمِ اعْتِبَارِهَا بِخِلَافِ مُوجَبِ حُكْمِهَا فَإِنَّهَا حَقَائِقُ فِيهَا لِأَنَّ قوله تعالى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وقوله تعالى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } حَقِيقَةٌ فِي مَوْضِعِهِ لَيْسَ بِمَجَازٍ , ثُمَّ قَدْ وُجِدَ عَارِيًّا مِنْ حُكْمِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ مَدْلُولِهِ عَلَى قَضِيَّتِك فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا قوله تعالى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } وَ { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ( وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ضَرْبٌ مِنْ ( التَّعَلُّقِ عَلَى وَجْهٍ وَهُوَ ) ( الزَّجْرُ وَالنَّهْيُ وَالْوَعِيدُ ) . ( وَأَيْضًا ) فَإِنَّهُ مَجَازٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ , وَإِنَّمَا الَّذِي أَنْكَرْنَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً غَيْرَ دَالٍّ بِوَجْهِهِ عَلَى مَا جُعِلَ دَلِيلًا عَلَيْهِ . وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ دَالًّا عَلَى مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَصُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ ( دَلِيلًا ) عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا وَأَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِمَا وَأَنْ يَكُونَ وُرُودُ النَّصِّ فِي تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُمَا فَمُبَاحٌ , وَكُلُّ مَا تَنُصُّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَهَذَا يُوجِبُ مَنْعَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ وُرُودَ النَّصِّ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ إذَا كَانَ مُوجِبًا ( لِإِبَاحَةِ التَّفَاضُلِ ) فِيمَا عَدَاهَا وَكَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِأَقَاوِيلِهِمْ أَنَّ هَذَا النَّصَّ قَدْ أَوْجَبَ الْحُكْمَ فِي نَظَائِرِهَا بِمِثْلِ مُوجَبِ حُكْمِهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا وَقَدْ دَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ نَظَائِرَهَا مِمَّا عَدَاهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالِاسْتِحَالَةِ . , وَأَيْضًا لَوْ كَانَ تَخْصِيصُ بَعْضِ أَوْصَافِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ ( بِهِ ) دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتَى نَصَّ لَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا أَنْ يَصِيرَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ نَاسِخًا لِحُكْمِ آخَرَ نَحْوِ قوله تعالى { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } فَوَجَبَ هَذَا عَلَى أَصْلِ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إبَاحَةُ الرِّبَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ثُمَّ قَوْلُهُ { وَحَرَّمَ الرِّبَا } مُطْلَقًا نَاسِخًا لِدَلَالَةِ الْآيَةِ الْأُخْرَى . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لقوله تعالى { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } ( وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى ) { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وقوله تعالى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } مُعَارِضًا لقوله تعالى { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } لِأَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ الْأُولَى تَقْتَضِي إبَاحَةَ الظُّلْمِ فِيمَا عَدَا الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ , وَالْآيَةُ الْأُخْرَى تَحْظُرُ الظُّلْمَ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فِي هَذَا تَرْفَعُ دَلَالَةَ الْأُخْرَى رَأْسًا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا ( عَلَى ) وَجْهِ النَّسْخِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ نَسْخٌ فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْأَصْلِ . وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ذَلِكَ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ لَكَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ وِجْهَتُهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَتَنَاظَرُوا فِيهَا وَحَاجَّ فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَارَةً بِالْعُمُومِ وَتَارَةً بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَتَارَةً بِالنَّظَرِ وَالْمُقَايَسَةِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَاجَّ صَاحِبَهُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْحِجَاجِ أَوْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ فَكَيْفَ أَغْفَلُوا ذَلِكَ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُ , وَهُوَ مَعْنًى مَعْقُولٌ مِنْ لُغَتِهِمْ وَمَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ خِطَابِهِمْ فِي زَعْمِ الْمُخَالِفِ , وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ فَقَالَ عُظْمُ الصَّحَابَةُ لَهَا النَّفَقَةُ وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ ( مِنْهُمْ ) فَكَيْفَ لَمْ يَحْتَجَّ نَافُوهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَهَذَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عِنْدَ الْمُخَالِفِ مَعْقُولٌ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ لَمْ يَسْتَدِلَّ الْمُوجِبُونَ لَهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِهَا وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِي إبْطَالِ ( النَّفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ ) وَقَالَ لَا نَدَعُ كِتَابَ ( اللَّهِ ) رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا ( عليه السلام لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلَّهَا أُنْسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ لَهَا ) فَكَيْفَ تَكُونُ ( عِنْدَهُ ) رِوَايَتُهَا لِذَلِكَ خِلَافَ الْكِتَابِ , وَدَلِيلُ الْكِتَابِ الْمَعْقُولُ مِنْ ظَاهِرِهِ يَنْفِيهَا . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ لِلْحَامِلِ , تُوجِبُونَهَا لِغَيْرِ الْحَامِلِ ؟ قِيلَ لَهُ : قَدْ قَالَتْ ذَلِكَ وَلَمْ تَسْتَدِلَّ مِنْ اللَّفْظِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَلَمْ نَقُلْ إنَّ تَخْصِيصَهُ الْحَامِلَ بِالذِّكْرِ يَنْفِي وُجُوبَهَا لِغَيْرِ الْحَامِلِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَمَا ادَّعَاهُ مُخَالِفُنَا لَكَانَ ( لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ ) يُوجَدَ عَنْ بَعْضِهِمْ ( فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِهِمْ ) الِاسْتِدْلَال بِمِثْلِهِ لَمَا ثَبَتَتْ حُجَّتُهُ وَلَا لَزِمَ الْقَوْلُ بِهِ ; لِأَنَّ الَّذِينَ نَفَوْهُ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ كَانُوا أَيْضًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ اللِّسَانِ لَمَا خَفِيَ مَوْضِعُهُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ كَمَا لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ سَائِرُ وُجُوهِ دَلَالَاتِ الْكَلَامِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ خِطَابِهِمْ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : ( قَدْ { قَالَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا , فَقَالَ عُمَرُ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَصَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَعَقَلَ عُمَرُ وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ دَلِيلِ الْآيَةِ نَفْيَ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْأَمْنِ . ( قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقُولَا إنَّ الْآيَةَ مَنَعَتْ الْقَصْرَ فِي حَالِ الْأَمْنِ ) وَإِنَّمَا قَالَا : كَيْفَ نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْأَمْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } وقوله تعالى { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ ثُمَّ لَمَّا خَصَّ حَالَ الْخَوْفِ بِذِكْرِ الْقَصْرِ كَانَ ( النَّصُّ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا ) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ الْقَصْرَ , فَكَيْفَ نَقْصُرُ وَهَلَّا كَانَ الْإِتْمَامُ وَاجِبًا بِسَائِرِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لَهُ . هَذَا هُوَ مَعْنَى مَا سَأَلَا عَنْهُ ( عِنْدَنَا ) , فَلَمَّا سَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ أَعْلَمَهُ أَنَّ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ فِي الْحَالَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالُ الْأَمْنِ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ بَلْ مِنْ جِهَةِ وَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ . وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِي أَنَّ الشَّافِعِيَّ ( قَدْ ) قَالَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَقَالَهُ - زَعَمَ - أَبُو عُبَيْدٍ وَثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ وَأَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ { بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ } ( قَالَ ) فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ { لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يُرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا } لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي هَجَى بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ قَدْ أَبَاحَ الْقَلِيلَ قَالَ وَقَوْلُهُ { لَيُّ الْوَاجِدُ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ( لَيَّ ) غَيْرِ الْوَاجِدِ بِخِلَافِ الْوَاجِدِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ إنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَنَّهُ ( قَدْ ) قَالَ ذَلِكَ فَثَبَتَتْ حُجَّتُهُ فَإِنْ مَنْ يَلْجَأُ إلَى مِثْلِهِ فِي الْحِجَاجِ عَلَى مُخَالِفِيهِ فَمَا بَقِيَ غَايَةٌ فِي إفْلَاسِهِ . فَيُقَالُ لَهُ : وَمَنْ قَالَ لَك إنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمَنْ حَكَى عَنْهُ مِنْهَا حَرْفًا يُحْتَجُّ بِهِ . فَإِنْ كَانَ إنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِأَنَّكُمْ ادَّعَيْتُمْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ ادَّعَاهُ هُوَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَعُوزُ أَحَدًا أَنْ يَدَّعِيَ مِثْلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ وَيَحْتَجَّ بِهِ عَلَى مُخَالِفِيهِ , وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الرَّجُلُ بِضَرْبٍ مِنْ الْعُلُومِ وَيُوصَفُ بِهِ بِحِكَايَةِ أَهْلِهِ عَنْهُ وَقَبُولِهِمْ قَوْلَهُ فِيهِ , كَمَا حَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ فِيهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا فِيمَا سَلَفَ . وَإِنْ كَانَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مَأْخُوذًا مِنْ ( أَهْلِ ) اللُّغَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا مِنْ أَهْلِهَا غَيْرَ مُدَافَعٍ وَهُوَ غَيْرُ قَائِلٍ ( بِمَا ذَكَرْتُمْ ) وَلَمْ يَعْقِلْ مِنْهَا مَا وَصَفْتُمْ وَإِنَّمَا حِكَايَةُ ( هَذَا ) الْحَاكِي عَنْ ثَعْلَبٍ وَالْمُبَرِّدِ فَإِنَّهَا حِكَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا وَالْحَاكِي لَهَا ذَلِكَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ . , وَ ( أَمَّا ) مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَةِ ( ذَلِكَ ) أَبُو عُبَيْدٍ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِمُسَمَّيَاتِهَا بِأَنْ ( يَقُولُوا ) إنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ كَذَا بِكَذَا . فَأَمَّا الْمَعَانِي وَدَلَالَاتُ الْكَلَامِ فَلَيْسَ يَخْتَصُّ ( أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَتِهَا ) دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ أَهْلُ سَائِرِ اللُّغَاتِ فِي لُغَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَبِيئَتِهَا وَلَا يَخْتَصُّ بِلُغَةِ الْعَرَبِ دُونَ غَيْرِهَا كَسَائِرِ ضُرُوبِ الْكَلَامِ إذَا نُظِمَتْ ضَرْبًا مِنْ النَّظْمِ وَرُتِّبَتْ ضَرْبًا مِنْ التَّرْتِيبِ ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى عَلَى نِظَامِهَا وَتَرْتِيبِهَا ; لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ أَهْلِ اللُّغَةِ الْمَنْقُولَةِ إلَيْهَا وَالْمَنْقُولَةِ عَنْهَا فِي مَعْرِفَةِ دَلَالَاتِهَا عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ اللُّغَةِ الْأُولَى فَإِذًا لَا اخْتِصَاصَ لِأَهْلِ اللُّغَةِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَقَوْلُهُمْ قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ سَاقِطٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ . وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ هُمْ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَعْقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ حُكْمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى حَسَبِ مَا بَيَّنَّاهُ أَيْضًا . وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ { فِي قوله تعالى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ } رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ , وَفِي تَجْوِيزِهِ انْسِلَاخٌ مِنْ الدَّيْنِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ( أَنْ ) تَوَفَّاهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ دَعَا النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِ تَخْلِيدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ قَطُّ غُفْرَانَ الْكُفْرِ فَمَنْ جَوَّزَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَوَازَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْمِلَّةِ . وَقَدْ أَخْبَرَ ( اللَّهُ تَعَالَى ) عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ مَا قَالَ أَنَّهُمْ مَاتُوا ( كُفَّارًا ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ " هَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَهُ وَلَا يُجَوِّزَهُ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَجُوزُ . وَإِنَّمَا الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ { فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ إذَا زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ لَزِدْتُ } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ السَّبْعِينَ وَمَا فَوْقَهَا سَوَاءٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أَبَدًا بَعْدَ مَوْتِهِمْ كُفَّارًا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ { وَاغْفِرْ لِأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ } فَلَيْسَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يُجِيزُ ذَلِكَ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِيدَ الْكُفَّارِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَ اسْتِغْفَارِ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } وَرُوِيَ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ كَانَ أَظْهَرَ لَهُ الْإِيمَانَ ( فَاسْتَغْفَرَ لَهُ ) فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَافِقٌ لَيْسَتْ لَهُ عَقِيدَةُ الْإِيمَانِ فَتَبَرَّأَ مِنْهُ حِينَئِذٍ . وَأَمَّا وَعِيدُ الْكَافِرِ بِالنَّارِ خَالِدًا مُخَلَّدًا ( فِيهِ ) فَقَدْ كَانَ مِنْ دِينِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَوَّلِ مَا بُعِثَ فَيَسْتَحِيلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُجِيزَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغُفْرَانَ لَهُمْ بِزِيَادَةِ الِاسْتِغْفَارِ عَلَى السَّبْعِينَ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مَا فَوْقَ السَّبْعِينَ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلَالَةِ فِي الْغُفْرَانِ أَوْ غَيْرِهِ . وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي السَّبْعِينَ لَا مَحَالَةَ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ بِأَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي بَابِ أَنَّ حُكْمَ الْمَذْكُورِ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ ثَابِتٌ وَمَا عَدَاهُ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الدَّلَالَةِ . وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ ( عَلَى ) الْمَذْكُورِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَذِكْرُ السَّبْعِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى جِهَةِ تَكْثِيرِ الْعَدَدِ وَهُوَ قوله تعالى { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وَمَا دُونَهَا , وَ ( مَا ) فَوْقَهَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ , وَذَلِكَ مَعْقُولٌ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ وَفِي مُخَاطَبَاتِ النَّاسِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَاقْتَضَى عِنْدَ الْجَمِيعِ كَوْنَ الْإِيمَانِ شَرْطًا فِيهَا وَعُقِلَ بِهَا أَنَّ غَيْرَ الْمُؤْمِنَةِ لَا تُجْزِئُ ( وَقَالَ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وَدَلَّ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُ لَا يُقْبَلُ ) وَقَالَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَأَوْجَبَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَسَادَ نِكَاحِ مَا عَدَا الْأَرْبَعَ , وَقَالَ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَمَا دُونَهَا لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَقَالَ تَعَالَى { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَمَا دُونَهَا لَيْسَ بِحَدٍّ وَقَالَ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَادِيرِ الْمَحْصُورَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهَا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ لِأَنَّ قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } تَخْصِيصٌ فِي الْحُكْمِ لَا الْمَحْكُومِ فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ كَلَامُنَا فِي تَخْصِيصِ الْمَحْكُومِ فِيهِ بِالذِّكْرِ إذَا نُصِبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَحْكُومِ فِيهَا حُكْمُهُ بِخِلَافِ حُكْمِهِ نَحْوُ قوله تعالى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فَخَصَّ الْمَحْكُومَ فِيهِنَّ ثُمَّ نَصَبَ عَلَيْهِنَّ الْحُكْمَ , وَنَحْوُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } , فَذَكَرَ الْحُكْمَ فِيهِ ثُمَّ نَصَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ . وَنَحْوُ قوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } فَخَصَّ حَالَ الْعَمْدِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ . وَأَمَّا قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَإِنَّمَا فِيهِ تَخْصِيصُ الرَّقَبَةِ الْوَاجِبَةِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَصَارَتْ صِفَةُ الْإِيمَانِ لِلرَّقَبَةِ مُوجَبَةَ الْأَمْرِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ وقوله تعالى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( أَيْضًا لِأَنَّهُ ) تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِصِفَةٍ قَدْ تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْإِيجَابِ فَلَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِ أَقَلِّ مِنْ شَاهِدَيْنِ إسْقَاطُ الْوُجُوبِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْأَمْرُ فِي قوله تعالى { فَاسْتَشْهِدُوا } وَأَمَّا قوله تعالى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } فَإِنَّهُ أَعْلَمَنَا بَدْءًا جَمِيعَ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ النِّسَاءِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ تَفْسِيرًا لِجَمِيعِهِ فَلَمْ يَبْقَ مِمَّا أَحَلَّ ( اللَّهُ تَعَالَى ) شَيْئًا لَمْ يَذْكُرْهُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُجَاوَزَتُهُ . وَأَمَّا قوله تعالى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ( حُكْمَهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ ) فِي سِيَاقِ اللَّفْظِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } فَلَا يَجُوزُ بَقَاءُ حُكْمِ الْمُدَّةِ مَعَ حُصُولِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ لِأَنَّ الْفَيْءَ وَهُوَ الْجِمَاعُ فِي الْمُدَّةِ يُسْقِطُ التَّرَبُّصَ إذْ لَا يَمِينَ هُنَاكَ بَعْدَ الْحِنْثِ وَتَرْكُهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ هُوَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ وَالتَّرَبُّصُ مَعَهُ سَاقِطٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ عَزِيمَةً , فَصَارَ حُكْمُ مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِخِلَافِهِ فِي الْمُدَّةِ لِلدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا بِتَحْدِيدِ الْمُدَّةِ فَحَسْبُ . وقوله تعالى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ عِدَّةً لقوله تعالى { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الْمَقَادِيرِ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ( فَلَمَّا ) لَمْ يَرِدْ التَّوْقِيفُ إلَّا بِهَذِهِ الْمُدَّةِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ أَوْ اتِّفَاقٍ ( عَلَيْهَا ) , فَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ وَسَائِرِ الْمَقَادِيرِ . وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فِي الْحُدُودِ أَنَّ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ مَحْظُورٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ إلَّا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَرِدُ بِهِ التَّوْقِيفُ أَوْ يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَإِلَّا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحَظْرِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْت مِنْ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ وَصِفَتِهِ فَهُوَ ( وَاجِبٌ ) لَازِمٌ وَقَدْ أَفَادَتْ الْآيَةُ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ حَدٌّ يَقَعُ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ فَلَمْ يَجُزْ الزِّيَادَةُ فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ . وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا فِيهِ لِمَا عَدَا الْمَذْكُورَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ قَبْلَ وُرُودِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ بِهَذَا الْحُكْمِ , فَلَمَّا وَرَدَ التَّوْقِيفُ فِي الْمَذْكُورِ بِالْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ( فِيهِ ) أَخْرَجْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ , وَتَرَكْنَا الْبَاقِيَ عَلَى حُكْمِهِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ وُرُودِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ . وَإِمَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى أَوْجَبَتْ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورَ ( بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ ) . فَأَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ ثَابِتٌ فِيمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ وَمَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَجْعَلُوهُ مَوْقُوفًا وَعِنْدَكُمْ ( أَنَّ ) الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ نَسْخَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَقُولُوا حُكْمُهُ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ نَسْخًا وَقَدْ كَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى قِيَامِ وُرُودِ الزِّيَادَةِ أَوْ نَفْيِهَا . قِيلَ لَهُ : لَوْ عَقَلْت مَا قَدَّمْنَا لَمْ تَسْأَلْ عَنْ هَذَا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِنَا فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ فِي تَخْصِيصِ الْمَحْكُومِ فِيهِ بِبَعْضِ أَوْصَافِهِ إذَا نُصِبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي مِثْلِ حُكْمِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ . فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ فَإِنَّمَا هِيَ كَلَامٌ فِي الْحُكْمِ نَفْسِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ كُلَّ حُكْمٍ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ وَلَا يَجْرِي عَلَى الْمَذْكُورِ الْوَاجِبِ غَيْرُ الْمَذْكُورِ مِمَّا لَيْسَ فِي صِفَتِهِ الْمَشْرُوطَةِ نَحْوُ قوله تعالى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ( هُوَ تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ وَمُقَيَّدٌ ) بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فَهَذَا عَلَى الْوُجُوبِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى غَيْرِ مُؤْمِنَةٍ , وَ ( كَذَلِكَ ) قوله تعالى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } إلَى قوله تعالى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَقَوْلُهُ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } كُلُّ هَذَا تَقْيِيدٌ لِلْحُكْمِ بِصِفَةٍ وَقَدْ تَضَمَّنَهَا لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ وَلَا جَائِزٌ إسْقَاطُ الْعَدَدِ وَلَا إسْقَاطُ الصِّفَةِ بِحَالٍ لِمَا وَصَفْنَا . ( وَنَحْوُ ) قوله تعالى { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ( تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ بِالْمِقْدَارِ ) الْمَذْكُورِ ( لَهُ ) وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الْحَدُّ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ وَالزِّيَادَةُ فِيهِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ بَعْضَ الْحَدِّ غَيْرَ وَاقِعٍ مَوْقِعَ الْإِجْزَاءِ وَهَذَا نَسْخٌ وَقَوْلُهُ { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } الْآيَةَ , مَتَى زِدْنَا فِيهِ النِّيَّةَ كَانَ زِيَادَةً فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ الَّذِي اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِهِ وَهُوَ نَسْخٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ ( النُّقْصَانُ أَوْ الزِّيَادَةُ ) لَاحِقًا بِالْحُكْمِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فَاقْتَضَى ظَاهِرُ اللَّفْظِ جَوَازَهُ فَهُوَ نَسْخٌ , وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْحُكْمِ , وَالتَّخْصِيصُ وَاقِعٌ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخٌ ; لِأَنَّ مَا عَدَا الْمَخْصُوصَ قَدْ كَانَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلِيلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ } , فَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْمَحْكُومِ فِيهِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ عَلَى حُكْمِ غَيْرِ الْحَامِلِ لَا بِالْإِيجَابِ وَلَا بِالنَّفْيِ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } فِيهِ تَخْصِيصُ الْمَحْكُومِ فِيهِنَّ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى تَخْصِيصِ الْحُكْمِ , وَلَا عَلَى أَنَّ غَيْرَهُنَّ لَيْسَ فِي حُكْمِهِنَّ وَكَذَلِكَ قوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } إنَّمَا فِيهِ تَخْصِيصُ الْقَاتِلِينَ بِالذِّكْرِ لَا تَخْصِيصُ الْحُكْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ فَإِنْ قِيلَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَاسْتَدْلَلْتُمْ ( بِهِ ) عَلَى إسْقَاطِ الدِّيَةِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ دُونَ الدِّيَةِ وَخَصَصْتُمْ ( بِهِ ) عُمُومَ قوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ فِي الْمَقْتُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَفِي الْمَقْتُولِ مِنْ أَهْلِ ( دَارِ ) الْحَرْبِ إذَا كَانَ مُسْلِمًا . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ ( فِيهِ ) عَلَى مَا ظَنَنْت لِأَنَّ قوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إلَيْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ } وَلَوْ كَانَ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ الْأَوَّلُ لَمَا اسْتَأْنَفَ لَهُ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ لَمْ يَخُصَّهُ بِحُكْمٍ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً لِأَنَّ ذِكْرَ الرَّقَبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا , فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا لَهُ وَهُوَ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهُ بَدْءًا وَيَسْتَأْنِفُ لَهُ ذِكْرًا يَنْقُضُ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِعَيْنِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ قوله تعالى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } لَمْ يَتَنَاوَلْهُ قوله تعالى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ } شَرْطٌ وَمُحَالٌ أَنْ يَذْكُرَ الْأَوَّلَ مُكَرَّرًا وَيَجْعَلَهُ نَفْسَهُ شَرْطًا مَعَ دُخُولِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخِطَابِ . وَإِذَا صَحَّ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ خِطَابِ الْآيَةِ ثُمَّ ( وَجَبَ فِيهِ رَقَبَةٌ ) عَلَى قَاتِلِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا إيجَابُ شَيْءٍ غَيْرِهَا لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ( عَلَى ) مَا تَقَدَّمَ ( مِنَّا بَيَانُهُ ) فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَإِنْ قِيلَ : مَعْلُومٌ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ وَتَعَارُفِهِمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا إنَّمَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدِّرْهَمِ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهُ ( إنْ ) لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى . قِيلَ لَهُ : هَذَا عَلَيْك لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ عَقَلَ ( مِنْهُ ) أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ إعْطَاءِ الدِّرْهَمِ إذَا لَمْ يَدْخُلْهَا وَأَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ الدُّخُولَ شَرْطًا لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الدِّرْهَمِ ( وَمَعَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا مُتَبَرَّعًا بِهِ . وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا إنَّ الدُّخُولَ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الدِّرْهَمِ ) , بِعَيْنِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِالدُّخُولِ لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ مَنَعَ الِاسْتِحْقَاقَ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ ) لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ عَلَّقَهُ بِالدُّخُولِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِهِ إذَا لَمْ يَدْخُلْ فَحُكْمُهُ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْإِعْطَاءِ أَوْ تَرْكِهِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَمَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } وَهَلْ هَذَا عِنْدَكُمْ عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا صَدَقَةَ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ فَأَوْجِبُوا الصَّدَقَةَ فِي الْعَوَامِلِ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرٍ آخَرَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } إذْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِشَرْطِ السَّوْمِ . قِيلَ لَهُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ سَائِرِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالذِّكْرِ إذَا عُلِّقَ بِهَا حُكْمٌ وَأَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا صَدَقَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا أَسْقَطْنَا صَدَقَةَ ( غَيْرِ ) السَّائِمَةِ بِدَلَائِلَ أُخَرَ وَإِلَّا فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا ذِكْرُ السَّوْمِ وَفِي الْآخَرِ إسْقَاطُهُ لَأَوْجَبْنَا الصَّدَقَةَ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الِاعْتِبَارُ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ مُحَدَّدَةٌ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ . قِيلَ لَهُ : فَقَدْ تَرَكْت دَعْوَاك الْأُولَى فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَانْتَقَلْت إلَى أَنَّ افْتِقَارَ ذِكْرِ التَّخْصِيصِ إلَى الْفَائِدَةِ هُوَ الْمُوجِبُ لِمَا ذَكَرْت فَنَقُولُ لَك الْآنَ خَبَرْنَا عَنْك أَتَقُولُ إنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِ التَّخْصِيصِ إلَّا دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ . فَإِنْ قَالَ : كَذَلِكَ أَقُولُ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت هَذَا , وَ ( مَا ) أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَوَائِدُ أُخَرُ غَيْرُ مَا ادَّعَيْت . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ قوله تعالى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَزْدَرِيَهُ وَيَضْرِبَهُ لِأَنَّ هَذَا هُوَ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذَا اللَّفْظِ بِالذِّكْرِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ قوله تعالى { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } عَلَى أَنَّ لَنَا قَتْلَهُمْ إذَا لَمْ نَخْشَ الْإِمْلَاقَ . وَيَدُلُّ قوله تعالى { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَظْلِمَ أَنْفُسَنَا فِي غَيْرِهِنَّ إذْ لَا فَائِدَةَ لِلتَّخْصِيصِ ( بِالذِّكْرِ ) إلَّا هَذَا , وَمَتَى أَخْلَيْنَا اللَّفْظَ مِنْ هَذِهِ الْفَائِدَةِ حَصَلَ ذِكْرُ التَّخْصِيصِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ ( فِي ) كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَا يُفِيدُ , فَإِذًا قَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا ذَكَرَهُ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا جَعَلْنَا مَا عَدَا الْمَذْكُورَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِدَلَالَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْمَذْكُورِ . قِيلَ لَهُ : فَيَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَرِدَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَلَامٌ فِيهِ تَخْصِيصُ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ ثُمَّ تَقُومُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِذَلِكَ . فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَرْتَكِبُهُ مُسْلِمٌ وَيُقَالُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ التَّخْصِيصِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ . وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ إذَا قَدْ جَوَّزْت أَنْ يَخُصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا بِالذِّكْرِ , وَلَا يَكُونُ فِي تَخْصِيصِهِ إيَّاهُ بِهِ فَائِدَةٌ . فَإِنْ قَالَ : لِتَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى , هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ , وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا . قِيلَ لَهُ : فَمَا أَنْكَرْت إلَّا أَنْ يَدُلَّ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ وَتَكُونُ فَائِدَتُهُ قَائِمَةً مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ( بِالتَّحْرِيمِ ) وَهَاهُنَا أَشْيَاءُ أُخَرُ مُحَرَّمَةٌ غَيْرُهَا . وَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحْرِيمَ التَّفَاضُلِ فِي الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ وَهَذَا مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا ( مِمَّا ) لَمْ يَذْكُرْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ فَوَائِدَ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافِهَا , وَ ( عِنْدَنَا ) أَنَّ جَمِيعَ مَا خُصَّ بِالذِّكْرِ وَنُصِبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ فَفِي تَخْصِيصِهِ أَجَلُّ الْفَوَائِدِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا الْمَخْصُوصِ مَعْقُولًا مِنْ النَّصِّ وَمَا عَدَاهُ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِنَا وَأَلْزَمَنَا ( بَعْدَ ) ذَلِكَ طَلَبَ الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ هَلْ هُوَ فِي مِثْلِ حُكْمِهِ أَوْ بِخِلَافِهِ لِيَظْهَرَ بِذَلِكَ فَضِيلَةُ الْمُسْتَنْبِطِينَ ( وَمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى الْجَمِيعِ لَقَصَرَ بِنَا عَنْ رُتْبَةِ الْمُسْتَنْبِطِينَ ) وَحُرِمْنَا بِهِ بُلُوغَ مَنْزِلَةِ النَّاظِرِينَ . وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّهُمْ يَخُصُّونَ الْعُمُومَ بِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى مُخَالَفَةِ حُكْمِ مَا عَدَاهُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْخِطَابِ فِي زَعْمِهِ كَمَا أَنَّ الْمُفَسَّرَ يَخُصُّ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ يَخُصُّ الظَّاهِرَ . وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ ( بَيَانَ ) فَسَادِ هَذَا الْفَرْعِ إذَا سُلِّمَ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ فِي الْأَصْلِ . فَنَقُولُ لَهُمْ : لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ يَخُصُّ الظَّاهِرَ . فَإِنْ قَالَ : كَمَا أَخُصُّهُ بِلَفْظٍ غَيْرِهِ وَكَمَا أَخُصُّهُ بِالْقِيَاسِ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مِثْلُ الْقِيَاسِ وَمِثْلُ لَفْظٍ آخَرَ ( هُوَ ) أَخَصُّ مِنْهُ فَلَا مَلْجَأَ فِي ذَلِكَ ( إلَّا ) إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : أَلَيْسَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الدَّلِيلِ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ عِنْدَك كَمَا يَجُوزُ فِي الْعُمُومِ فَلِمَ جَعَلْت الدَّلِيلَ حَاكِمًا عَلَى الْعُمُومِ دُونَ أَنْ تَجْعَلَ الْعُمُومَ حَاكِمًا عَلَيْهِ وَهَلَّا جَعَلْت أَقَلَّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَتَسَاوَيَا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِالْآخِرِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ عِنْدَك مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ قِيَاسٍ لَا يُوجِبُ حُكْمًا رَأْسًا وَيَجُوزُ وُجُودُ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الدَّلِيلِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِحُكْمِهِ عَلَى ( نَحْوِ مَا مَرَّ ) . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ هَلَّا جَعَلْت الْعُمُومَ أَوْلَى مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُجُودُ عُمُومٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي شَيْءٍ ( مِمَّا وَرَدَ بِهِ ) وَقَدْ جَازَ وُجُودُ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ فِيمَا عَدَاهُ رَأْسًا فَهَلَّا جَعَلْت الْعُمُومَ قَاضِيًا عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْمَزِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ كَدَلِيلِك هَذَا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ وَهَذَا فَرْعٌ عَلَيْهِ فَلِمَ تَرَكْت الْأَصْلَ بِهِ وَجَعَلْته أَوْلَى مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ كَمَا يَخُصُّ الْمُفَسَّرُ الْمُجْمَلَ فَإِنَّ الْمُفَسَّرَ مَذْكُورٌ وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقْضَى بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى أَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا ذَلِكَ فَقَالُوا إنَّ قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ حَتَّى تَكُونَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها { أَنَّهُ كَانَ لَا يُحَرِّمُ إلَّا عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُنَّ مِمَّا يُتْلَى } وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا يُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ } وَدَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ مَا زَادَ عَلَى الرَّضْعَتَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْخَمْسُ رَضَعَاتٍ وَيُجْعَلَ الْخَمْسُ فِي الْكَثِيرِ الَّذِي كَانَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ ثُمَّ نُسِخَ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : خَبِّرْنَا عَنْ دَلِيلِك هَذَا إذَا عَارَضَهُ الْقِيَاسُ أَيُّهُمَا يَكُونُ أَوْلَى ؟ . فَإِنْ قَالَ : هُوَ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت هَذَا وَهَلَّا جَعَلْت الْقِيَاسَ أَوْلَى مِنْهُ إذْ كَانَ ( دَلِيلُك هَذَا ) يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَلَا يَجُوزُ مِثْلُهُ عِنْدَك فِي الْقِيَاسِ وَهَلَّا جَعَلْتهمَا مُتَسَاوِيَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فَيَسْقُطُ حُكْمُهُمَا جَمِيعًا . وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ إنَّ هَذَا ( الضَّرْبَ ) مِنْ الدَّلِيلِ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْمُخْطِئِ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَيُوجِبُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ كَفَّارَةً قِيَاسًا وَدَلِيلُهُ هَذَا يَنْفِي وُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْعَامِدَ بِالذِّكْرِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } وَخَصَّ الْمُخْطِئَ بِالذَّكَرِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } . وَدَلِيلُ الْخِطَابِ عِنْدَك يَنْفِي مُوجَبَ الْقِيَاسِ ثُمَّ جَعَلْت الْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْهُ . فَإِنْ سَأَلَنَا سَائِلٌ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } هَلْ ( دَلَّ ) هَذَا الْقَوْلُ ( مِنْهُ ) عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَبِخِلَافِ حُكْمِهِ . قُلْنَا لَهُ نَعَمْ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( الْوَلَاءُ ) اسْمٌ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يُشِرْ بِهِ إلَى مَعْهُودٍ فَيَتَنَاوَلُهُ دُونَ غَيْرِهِ . فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ انْتَظَمَ كُلَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ لِلْمُعْتِقِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } اسْمٌ لِلْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ بَيِّنَةٍ صَارَتْ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعِي . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } يَتَنَاوَلُ جِنْسَ الْيَمِينِ الْوَاجِبَةِ ( بِالدَّعَاوَى ) فَصَارَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ يَمِينٌ تَكُونُ عَلَى الْمُدَّعِي وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى } فَتَنَاوَلَ كُلَّ صَدَقَةٍ فَمَا مِنْ صَدَقَةٍ إلَّا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اللَّفْظِ مُوجَبَةٌ بِشَرْطِ الْغِنَى وَدَلَّ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الصَّدَقَاتِ لَا تَجِبُ ( إلَّا ) عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَنَّ الْفَقِيرَ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ صَدَقَةٌ لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا اللَّفْظُ فَتَكُونُ مَوْقُوفَةً فِي كَوْنِهَا عَلَى غَنِيٍّ أَوْ ( عَلَى ) فَقِيرٍ ( فَمِنْ هَذِهِ ) الْجِهَةِ تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ نَفْيَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَهَا عَمَّا عَدَاهَا لَا مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِهِ لَهَا بِالذِّكْرِ وَهَذَا وَاضِحٌ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . بَابٌ الْقَوْلُ فِي حُكْمِ الْمُجْمَلِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ صِفَةَ الْمُجْمَلِ وَنُبَيِّنُ الْآنَ بِعَوْنِ اللَّهِ حُكْمَهُ وَمَا يَجِبُ فِيهِ . فَنَقُولُ إنَّ الْمُجْمَلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ مِنْ لَفْظِهِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ مِنْهُ فِيمَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ نَحْوُ قوله تعالى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } { وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْهِمْ حَقًّا فِي أَمْوَالِهِمْ } وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُنْبِئُ عَنْ الْمَعَانِي الْمُرَادِ بِهَا فَيَكُونُ حُكْمُ مَا ( كَانَ ) هَذَا وَصْفَهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ . وَالضَّرْبُ الْآخَرُ مِنْهُ : مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فِي أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ فَيَنْتَظِمَ الْجُمْلَةَ حِينَئِذٍ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : لُزُومُ اسْتِعْمَالِ الْحُكْمِ فِي أَقَلِّهِ . وَالْآخَرُ : أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَقَلِّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْبَيَانِ , فَمَتَى وَرَدَ الْبَيَانُ بِمِقْدَارٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَضَمَّنَ اللَّفْظُ وُجُوبَهُ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلُّوا وَصُومُوا وَحُجُّوا وَنَظَائِرِهِ . وَقَدْ عُلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَأَقَلُّ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ إيجَابَهُ صَلَاةً وَاحِدَةً وَصَوْمًا وَاحِدًا وَحَجًّا وَاحِدًا . وَلَا يَلْزَمُنَا فِي أَكْثَرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا مِقْدَارَ مَعْلُومٌ بَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَاحْتَاجَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلَى الْبَيَانِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَعْطِ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ رِجَالًا بَعْدَ سَنَةٍ أَقَلُّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَمَا زَادَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ تَنْفِيذِ الْأَمْرِ ( هُمْ عَشَرَةٌ ) لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ بَلْ بَيَانًا أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كَانُوا مُرَادِينَ بِهِ كَذَلِكَ إذَا وَرَدَ الْبَيَانُ بَعْدَ قَوْلِهِ صَلُّوا بِمَقَادِيرِ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ . وَقَدْ كَانَ فِي أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَيَقُولُ إنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ غَيْرُ جَائِزٍ فِي مِثْلِهِ وُرُودُ الْبَيَانِ بِإِرَادَةِ الْأَكْثَرِ إنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُقْتَضِيًا لِاسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ فِي جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَإِنَّمَا يَرِدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةً فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ فِيهِ فِي قَوْلِهِ صَلُّوا وَفِي عَدَدِ الرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ أَعْطِ رِجَالًا أَنَّهُ يَكُونُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ . قَالَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ تَنَاوَلَ صَلَاةً وَاحِدَةً . وَقَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا تَنَاوَلَ رِجَالًا ثَلَاثَةً بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الْبَيَانِ فِيهِ بِإِرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ . وَلَا أَنَّهُ أَرَادَ رِجَالًا بِأَعْيَانِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِالْأَمْرِ فَلَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُ الْأَمْرِ إلَّا مَعَ اسْتِقْرَارِ الْعَدَدِ وَصِفَتِهِ . ( فَأَمَّا إذَا ) أَطْلَقَهُ وَلَمْ يَعْقُبْهُ بَيَانُ عَدَدِ الرِّجَالِ وَصِفَتُهُمْ وَأَعْدَادُ الصَّلَوَاتِ وَمَقَادِيرُهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلُّوا أَكْثَرَ مِنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ , وَمَتَى وَرَدَ بَعْدَهُ ذِكْرُ عَدَدٍ أَوْ صِفَةٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَحُكْمٌ مُسْتَأْنَفٌ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ وَلَمْ يُوجِبْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ عَلَى حَسَبِ مَا نَقُولُهُ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ . قَالَ : لِأَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا إنْ كَانَ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ الصَّلَوَاتِ كَمَا يَصْلُحُ لِمَا فَوْقَهَا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْوَاحِدَةُ لَا مَحَالَةَ فَلِمَ أَوْجَبْت بِهِ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْبَيَانِ فَمَا أَنْكَرْت أَلَّا يَجِبَ بِهِ مَجِيءُ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الْمَوْقُوفِ ( عَلَى الْبَيَانِ ) لَا يَجِبُ بِهِ شَيْءٌ وَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ إلَى أَنْ يَرِدَ التَّفْسِيرُ وَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ كَانَ مَفْهُومًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَسَاغَ لِأَهْلِ الْخُصُوصِ وَالْوَقْفِ قَوْلُهُمْ إنَّ الْعُمُومَ كُلَّهُ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ إلَى تَفْسِيرٍ وَإِنَّ صُورَتَهُ صُورَةٌ تُوجِبُ التَّعْلِيقَ بِمَا , يَرِدُ مِنْ الْبَيَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَاَلَّذِي حَصَلَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهٍ فَلَا إجْمَالَ فِيهِ أَصْلًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ فِيهِ إنْ كَانَ مُرَادُهُ أَكْثَرَ مِمَّا اقْتَضَى اللَّفْظُ وُجُوبَهُ وَاسْتِعْمَالَ حُكْمِهِ , وَأَنَّ الْمُجْمَلَ عِنْدَهُ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلَى وَجْهٍ وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَيْضًا ; لِأَنَّ مَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا . وَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَالَ الزَّوْجُ كَذَلِكَ أَرَدْت وَقَعَتْ وَاحِدَةً فَجَعَلُوا لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصًّا بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ الْوَاحِدَةُ وَجَعَلُوهُ مَعَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلثَّلَاثِ لَوْلَا ذَلِكَ مَا عَمِلَتْ النِّيَّةُ فِي إرَادَتِهَا لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إيقَاعِ طَلَاقٍ لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ . وَقَالَ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِيمَنْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التَّزْوِيجِ : أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي ( تَزْوِيجَ ) امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لَا أَكْثَرَ مِنْهَا فَإِنْ زَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عَقْدٍ ( وَاحِدٍ ) لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْأُخْرَى فَتَحْصُلُ الْمَنْكُوحَةُ الْمَأْذُونُ فِي نِكَاحِهَا مَجْهُولَةً وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَقَالُوا : فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى عَنَيْت امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ جَعَلُوا لَفْظَ الْأَمْرِ يَصْلُحُ لِمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إنَّمَا اقْتَضَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا قَدْ يَتَنَاوَلُ صَلَاةً وَاحِدَةً وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا . فَلَمَّا كَانَ لِلِاحْتِمَالِ مَسَاغٌ فِي ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ الَّذِي يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ . وَمَتَى وَرَدَ فِيهِ الْبَيَانُ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ مُرَادًا بِاللَّفْظِ وَلَيْسَ إمْكَانُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ وَيَقَعُ عَلَيْهِ بِمَانِعٍ ( مِنْ ) أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ مَعْنَى حُكْمٍ مَعْلُومٍ مَفْهُومِ الْمِقْدَارِ وَمَعْنَى الْإِجْمَالِ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ رِجَالًا بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ حَيْثُ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْ الثَّلَاثَةِ وَعَمَّا فَوْقَهَا فَقَدْ عَقَلْنَا مِنْ اللَّفْظِ ثَلَاثَةً وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا زَادَ ( مَوْقُوفًا ) عَلَى بَيَانٍ يَرِدُ فِيهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ . فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : قَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا بَعْدَ سَنَةٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الثَّلَاثَةِ فَهَلَّا اسْتَعْمَلْته فِيهِمْ وَمَنَعْت الْإِجْمَالَ فِيهِ . قِيلَ لَهُ : لِأَنَّ الْإِجْمَالَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا فَصَارَ كَقَوْلِهِ قَدْ أَرَدْت بِالْإِعْطَاءِ ثَلَاثَةً وَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَمَوْقُوفٌ الْحُكْمُ عَلَى الْبَيَانِ , وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَقِيت رِجَالًا فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ اعْتِقَادُ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ وَيَجُوزُ وُرُودُ بَيَانٍ فِي الثَّانِي بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ , وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا لَيْسَ فِيهِ لَفْظُ عُمُومٍ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ بِاسْمٍ يَنْتَظِمُ جَمَاعَةً مِنْهُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِ الْفِعْلُ فَحَسْبُ وَالْمَفْعُولُ غَيْرُ مَذْكُورٍ . وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَقَلَّ مَا أُرِيدَ بِهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ . وَفِي اللَّفْظِ احْتِمَالٌ لِإِرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْهَا وَلَا نِهَايَةَ لِلْأَكْثَرِ فَكَانَ مُجْمَلًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَأَمَّا لَفْظُ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا انْطَوَى تَحْتَهُ لَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ بِأَوْلَى ( بِهِ ) مِنْ بَعْضٍ فَلِذَلِكَ وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْجَمِيعِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إجْمَالٌ إذْ لَا إجْمَالَ ( فِيهِ ) . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطِ رِجَالًا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ سَنَةٍ فَالْمُتَيَقَّنُ مِنْ الْمُرَادِ ثَلَاثَةٌ وَمَا عَدَاهُمْ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ رِجَالَ الدُّنْيَا كُلَّهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ ( بِهِ ) بَعْضَهُمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ إجْمَالٌ لِمَا فَوْقَ الصَّلَاةِ فَلِذَلِكَ كَانَ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ , وَلَوْ قَالَ أَعْطِ هَذَا رِجَالًا وَلَمْ يُوَقِّتْ لَهُ وَقْتًا وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِي الْحَالِ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ . فَمَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ وَفِي تَرْكِهِ الْبَيَانَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ إعْطَاءُ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الْحَالِ وَلَا يُمْكِنُهُ إنْفَاذُهَا فِي الْحَالِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . فَالثَّلَاثَةُ لَا مَحَالَةَ مُرَادَةٌ وَمَا زَادَ فَهُوَ ( فِيهِ ) بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ مِنْهَا وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى الثَّلَاثَةِ كَمَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَنْ يُعَيِّنَهَا فِيمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُعْطَيْنَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ التَّعْيِينَ . وَمِمَّا يُشَاكِلُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } قَدْ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ كَوْنِهِمْ ثَلَاثَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْهَا وَيَحْتَمِلُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعْطِيَهَا ثَلَاثَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهُمْ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مُتَيَقَّنَةٌ وَالزِّيَادَةُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مُرَادَةٌ . وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك أَيَّامًا أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , وَعَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ أَعْطِ هَذَا رِجَالًا قوله تعالى { فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } لَمَّا أَلْزَمَهُ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ فِي الْعَشَرَةِ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانِ عَشَرَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِأَوْصَافٍ يَخُصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ بَلْ هُوَ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ . وَمَتَى وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَفْظٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْإِطْعَامِ فِي عَشَرَةٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ عَشَرَةٍ مَخْصُوصِينَ بِأَوْصَافٍ دُونَ غَيْرِهِمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي حُكْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا تَرَاخَى عَنْ حَالِ لُزُومِ الْفَرْضِ وَإِمْكَانِ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ فِيهِ احْتِمَالٌ بَلْ ( هُوَ ) مُوجِبٌ لِإِعْطَاءِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَيَّ مَسَاكِينَ كَانُوا فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا عَلَى حَسَبِ دَلَالَةِ الْحَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } لَا يَخْلُو ( مِنْ ) أَنْ يُرِيدَ بِهِ صَلَاةً مَعْهُودَةً قَدْ عَرَفُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَانْصَرَفَ الْأَمْرُ إلَيْهَا فَتَنَاوَلَ جَمِيعَ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ ( عَلَى شَرَائِطِهَا وَأَوْصَافِهَا الْمَعْهُودَةِ لَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ إشَارَةً إلَى مَعْهُودٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ ) فَهُوَ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ لِأَنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ مُجْمَلٌ إذْ كَانَ قَدْ أُرِيدَ بِهَا ( فِي ) الشَّرِيعَةِ مَعَانٍ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُجْمَلٌ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ . وَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَسَائِرِ أَلْفَاظِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَارَفَةِ الْمَعْهُودَةِ لَهَا فَإِنَّهُ مَتَى أُطْلِقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا اسْتَقَرَّتْ مَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ مِنَّا إذَا قَالَ لِآخَرَ صَلِّ الظُّهْرَ وَصُمْ رَمَضَانَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ مُرَادُ الْقَائِلِ .
بَابٌ : حُكْمُ الْكَلَامِ الْخَارِجِ عَنْ سَبَبٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كُلُّ كَلَامِ خَرَجَ عَنْ سَبَبٍ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا لِلسَّبَبِ فَإِذَا كَانَ أَعَمَّ مِنْ السَّبَبِ وَجَبَ اعْتِبَارُ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ سَبَبِهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَبِرُ السَّبَبَ وَيَجْعَلُ حُكْمَ السَّبَبِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عُمُومًا فِي نَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا خَطَأٌ إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى السَّبَبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إزَالَتِهِ عَنْ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى سَبَبٍ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ وَالِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهِ عَلَى سَبَبِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْزَالِهِ الْحُكْمَ بَيَانَ حُكْمِ السَّبَبِ وَحُكْمَ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ هَذَا السَّبَبِ كَمَا يَنْزِلُ حُكْمًا عَامًّا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ تَقَدَّمَ . فَإِذًا لَيْسَ فِي نُزُولِهِ عَلَى سَبَبٍ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِهِ عَلَيْهِ . فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّمَا خَصَّ اللَّفْظَ وَأَزَالَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِغَيْرِ دَلَالَةٍ . وَقَدْ اعْتَبَرَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِأَقَاوِيلِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ النَّازِلَةِ عَلَى أَسْبَابٍ نَحْوُ قوله تعالى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ . وَالْحُكْمُ عَامٌّ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْمِلَّةِ . وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَوْمًا مُرْتَدِّينَ مُحَارِبِينَ وَمِنْهُ آيَةُ الظِّهَارِ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَكَانَ عُمُومًا فِي سَائِرِ النَّاسِ وَكَانَ سَبَبُ آيَةِ الْقَذْفِ الْقَوْمُ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةَ رضي الله عنها فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ إنْ لَمْ يُقِيمُوا بَيِّنَةً عَلَى ( صِدْقِ ) مَقَالَتِهِمْ وَقَذْفِهِمْ وَهُوَ حُكْمٌ عَامٌّ فِي سَائِرِ الْقَاذِفِينَ . وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا ذُكِرَ مَعَهُ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ أَنْ يُفْطِرُوا بَعْدَ النَّوْمِ لَيْلًا فَنَامَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ثُمَّ أَفْطَرَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَسَاقَ فِيهَا الْقِصَّةَ وَالسَّبَبَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَزَلَتْ ثُمَّ قَالَ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى قوله تعالى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } وَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ عَامَّةٌ فِيمَنْ اخْتَانَ نَفْسَهُ , وَ ( فِي ) غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } إلَى قوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } فَذَكَرَ قِصَّتَهُمْ وَسَبَبَ نُزُولِ ( هَذِهِ ) الْآيَةِ ثُمَّ كَانَ وُجُوبُ الصَّدَقَةِ عَامًّا عَلَى مَنْ كَانَ بِصِفَتِهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ قوله تعالى { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } إلَى قوله تعالى { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } . فَذَكَرَ السَّبَبَ الَّذِي أَبَاحَ تَرْكَ قِيَامِ اللَّيْلِ مِنْ الْمَرَضِ وَالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ , وَالْحُكْمُ عَامٌّ فِيمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ وَفِي غَيْرِهِمْ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلِاسْمِ لَا لِلسَّبَبِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى سَبَبٍ كَخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْجَوَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَ الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَا صَارَ جَوَابًا عَنْهُ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ بَلْ ( هُوَ ) عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْهُ مَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِيهِ لَفْظَ عُمُومٍ يَنْتَظِمُ مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ وَغَيْرَهُ , وَمِنْهُ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ جَارٍ عَلَى اللَّفْظِ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى مَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ . وَالثَّانِي : هُوَ مَا ( لَا ) يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَاقْتَصَرَ إلَى تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ فَهَذَا حُكْمُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْجَوَابِ . نَظِيرُ الْأَوَّلِ قوله تعالى { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . وقوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُكْتَفِيَةِ بِنَفْسِهَا عَنْ تَضْمِينِهَا بِغَيْرِهَا مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَا هِيَ جَوَابٌ عَنْهُ . وَعَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمُهَا مَقْصُورًا عَلَى الْجَوَابِ . وَنَظِيرُ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ قوله تعالى { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } ( فَقَوْلُهُمْ نَعَمْ ) , لَا يُفِيدُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ فَصَارَ مَعْنَاهُ مُطَابِقًا لِمَا هُوَ جَوَابٌ عَنْهُ لَا زَائِدًا وَلَا نَاقِصًا وَصَارَ الْجَوَابُ مُضْمَرًا فِيهِ وَعَلَى الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ قُلْنَا فِي قوله تعالى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } إنَّهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ مَا تُرِكَتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ عَامِدًا وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمَيْتَةِ حِينَ جَادَلَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالُوا لَهُمْ تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا قَتَلَهُ اللَّهُ فَلَمْ نَعْتَبِرْ السَّبَبَ وَأَجْرَيْنَا الْحُكْمَ عَلَى اللَّفْظِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ إنِّي أَرَى الشَّيْءَ فِي السُّوقِ ثُمَّ يَطْلُبُهُ مِنِّي طَالِبٌ فَأَبِيعَهُ ثُمَّ أَشْتَرِيهِ فَأُسْلِمَهُ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } فَهَذَا عُمُومٌ فِي كُلِّ بَيْعٍ لِمَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ فِي الذِّمَّةِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا .
وَقَدْ يَجِيءُ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ كَمَا يَخُصُّ سَائِرَ الْعُمُومِ بِالدَّلَائِلِ وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } عُمُومُهُ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ ( هُنَاكَ ) شَيْءٌ مُحَرَّمٌ غَيْرُ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا رُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ فِيمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَهُ مِنْ السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ صَارَ تَقْدِيرُهُ { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } مِمَّا يُحَرِّمُونَهُ إلَّا كَيْتَ وَكَيْتَ . وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هَاهُنَا أَشْيَاءَ أُخَرَ مُحَرَّمَةٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَنَحْوِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَا يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْمَحَايِضِ وَلُحُومِ الْكِلَابِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَالْمَعْنَى أَنَّ مَا كَانَ حَالُهُ حَالَ هَذَا الْبِئْرِ فَهَذَا حُكْمُهُ . لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ عُمُومَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ لُحُومُ الْكِلَابِ وَالْمَحَايِضُ . وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ الْبِئْرَ كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا ذَلِكَ ثُمَّ نُظِّفَتْ فَأُخْرِجَ مَا فِيهَا { فَسُئِلَ عَنْ الْمَاءِ الْحَادِثِ بَعْدَ النَّزْحِ وَالتَّطْهِيرِ فَقَالَ أَنَّهُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } وَهُوَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجِنْسَيْنِ مُتَفَاضِلًا فَقَالَ إنَّمَا الرِّبَا فِي مِثْلِهِ فِي النَّسِيئَةِ } . وَمَتَى كَانَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنْ السُّؤَالِ فَالْحُكْمُ لَهُ لَا لِلسُّؤَالِ نَحْوُ قوله تعالى { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } فَقَوْلُهُ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ سُؤَالٌ أَعَمُّ مِنْ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الْجَوَابَ وَغَيْرَهُ وقوله تعالى : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْحَلَالَ الَّذِي قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } , وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ السُّؤَالِ . وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ { عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَمَّا يَحِلُّ مِنْ الْحَائِضِ فَقَالَ لَك مِنْهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ } فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ اعْتِبَارُ عُمُومٍ مِنْ السُّؤَالِ فِي الْإِبَاحَةِ بَلْ يَجِبُ اعْتِبَارُ لَفْظِ الْجَوَابِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِمَثَابَتِهِ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ . بَابٌ حَرْفُ النَّفْيِ مَا حُكْمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَى الْكَلَامِ ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : حَرْفُ النَّفْيِ قَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ وَيُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْأَصْلِ نَحْوُ قوله تعالى { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } وقوله تعالى { فَالْيَوْمُ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ } , وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } وَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } , وَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ نَحْوُ قوله تعالى { إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } فَنَفَاهَا بَدْءًا ثُمَّ أَثْبَتَهَا ثَانِيًا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ الْكَمَالِ يَعْنِي لَا أَيْمَانَ لَهُمْ وَافِيَةً يَفُونَ بِهَا وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } , وَ { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } , وَ { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَ { لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } . وَنَحْوُ قَوْلِ الشَّاعِرِ : لَوْ كُنْتَ مِنْ أَحَدٍ يُهْجَى هَجَوْتُكُمْ يَا بْنَ الرِّقَاعِ وَلَكِنْ لَسْتَ مِنْ أَحَدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَوَدَّ نَفْيَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَّسِمًا بِذَلِكَ وَمَعْدُودًا مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ وَأَنَّهُ أَحَدُهُمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ لَسْتَ مِنْ أَحَدٍ يُؤْبَهُ لَهُ وَيُعْتَدُّ بِهِ . فَقَدْ ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ قَدْ يُنْفَى بِهِ الْأَصْلُ تَارَةً وَالْكَمَالُ أُخْرَى مَعَ ثَبَاتِ الْأَصْلِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ نَفْيَ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ وَمَتَى أَرَادَ إيجَابَ النَّقْصِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ فَقَدْ دَلَّ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْهُ قَدْ ثَبَتَ وَأَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ كَامِلٍ وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ . لِأَنَّا مَتَى قُلْنَا إنَّ هَذِهِ صَلَاةٌ نَاقِصَةٌ فَقَدْ أَثْبَتْنَا مِنْهَا شَيْئًا نَاقِصًا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ مَا لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالنُّقْصَانِ إذْ كَانَ النُّقْصَانُ هُوَ فَوَاتَ الْبَعْضِ مَعَ ثَبَاتِ الْأَصْلِ . فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا مِنْ نَفْيِ الْأَصْلِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . ثُمَّ مَا بَعْدَ هَذَا مِنْ حُكْمِهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . فَقَالَ قَائِلُونَ : اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ وَلَيْسَ هُوَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْآخَرِ . وَغَيْرُ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا فَغَيْرُ جَائِزٍ الْحُكْمُ بِهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْتَظِمَهَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ نَحْوُ الْقُرْءِ الْمُحْتَمِلِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَنَظَائِرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ . وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بِنَفْيِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْهُ بِنَفْيِ الْكَمَالِ وَإِنَّمَا الْحَمْلُ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ بِدَلَالَةٍ . قَالُوا لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ نَفْيُ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فَيَنْفِي جَمِيعُهُ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْبَعْضِ بِدَلَالَةٍ . وَ ( قَدْ ) قَالَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } إنَّهُ لَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ لَمْ يَخْلُ الْحَدِيثُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ وَهْمًا أَوْ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَرْطِ الْوُضُوءِ لَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ كَنَقْلِهَا الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَلَأَمَرُوا مَنْ لَمْ يُسَمِّ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَدَلَّ قَوْلُهُ أَنَّ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ الظَّاهِرِ ( إذْ ) الَّذِي ( يَقْتَضِيهِ ) ظَاهِرُ اللَّفْظِ هُوَ نَفْيُ الْأَصْلِ , وَ ( أَنَّهُ ) إنَّمَا صَارَ إلَى نَفْيِ الْكَمَالِ بِدَلَالَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا , لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَفْيَهُ رَأْسًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } وقوله تعالى { وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ } وَهَذَا ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ مِنْ اللَّفْظِ فِي دُخُولِهِ عَلَى الِاسْمِ أَيْضًا كَقَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ( وَلَا حَوْلَ ) وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وقوله تعالى { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ } , وَ { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } , وَ { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ } قَدْ اقْتَضَى نَفْيَ جَمِيعِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُ السَّامِعُ فِي الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِوُقُوعِ نَفْيِ الْأَصْلِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ . وَكَذَلِكَ عُقِلَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ وَلَيْسَ عِنْدَ فُلَانٍ مَالٌ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ إذَا أُطْلِقَ اقْتَضَى نَفْيَ الْجَمِيعِ وَلَا يَحْتَاجُ السَّامِعُ ( لَهُ ) إلَى اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ فِي إرَادَةِ نَفْيِ الْكَمَالِ أَوْ الْأَصْلِ بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْهُ نَفْيُ الْأَصْلِ . وَأَيْضًا : فَلَمَّا كَانَتْ حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ وَمَوْضُوعُهُ النَّفْيَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْجَمِيعِ أَوْلَى بِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ نَفْيِ الْبَعْضِ كَلَفْظِ الْعُمُومِ وَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْمَعَانِي تَقْتَضِي إفَادَةَ جَمِيعِ مَا وُضِعَ لَهُ وَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْهُ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ . فَالْحَقِيقَةُ مَا سُمِّيَ بِهِ الشَّيْءُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَمَوْضُوعِهَا وَالْمَجَازُ ( هُوَ ) مَا يَجُوزُ بِهِ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَسُمِّيَ بِهِ مَا لَيْسَ الِاسْمُ لَهُ حَقِيقَةً وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله يَحُدُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا لَا يَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ بِحَالٍ . وَالْمَجَازُ مَا يَنْتَفِي عَنْ مُسَمَّيَاتِهِ بِحَالٍ . نَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّا إذَا سَمَّيْنَا الْجَدَّ أَبًا وَالْأَبَ الْأَدْنَى أَبًا فَإِنَّ اسْمَ الْأَبِ قَدْ يَنْتَفِي عَنْ الْجَدِّ بِحَالٍ بِأَنْ نَقُولَ لَيْسَ هَذَا بِأَبِيهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَنْتَفِي ذَلِكَ عَنْ الْأَبِ الْأَدْنَى . وَالْمَجَازُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا : إطْلَاقُ اللَّفْظِ مَعَ حَذْفِ كَلِمَةٍ يُرِيدُهَا وَلَمْ يَلْفِظْ بِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَمَعْنَاهُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَحَذَفَ الْأَوْلِيَاءَ وَهُوَ يُرِيدُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَلَا الْمَنَافِعُ , وَ ( لَا ) الْمَضَارُّ وَنَحْوُ قوله تعالى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } وَمَعْنَاهُ ( وَ ) اسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَكَانَتْ الْقَرْيَةُ هِيَ الْمَسْئُولَةَ , وَمُحَالٌ مَسْأَلَةُ الْجُدْرَانِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ يُسَمَّوْنَ قَرْيَةً إذَا كَانُوا فِيهَا . قِيلَ لَهُ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ مَتَى أَشَرْنَا إلَى رِجَالٍ فِي الْقَرْيَةِ أَنْ نَقُولَ هَؤُلَاءِ قَرْيَةٌ نُرِيدُ بِهِ الرِّجَالَ دُونَ الْبُنْيَانِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ إطْلَاقًا عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ ( وَلَكَانَ جَائِزًا ) أَنْ يُسَمَّى هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْقَرْيَةِ فَنَقُولُ إنَّهُمْ قَرْيَةٌ لِأَنَّ الِاسْمَ لَهُمْ حَقِيقَةٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْفِي الْمَجَازَ وَأَنْ لَا يَمْنَعَ خُرُوجُهُمْ مِنْهَا إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ قَرْيَةٌ كَمَا لَا يَمْنَعُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ فِيهِمْ بِأَنَّهُمْ رِجَالٌ حَيْثُ كَانُوا فَدَلَّ امْتِنَاعُ إطْلَاقِ اسْمِ الْقَرْيَةِ عَلَى جَمَاعَةِ رِجَالٍ أَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَكُونُ اسْمًا لِلرِّجَالِ بِحَالٍ وَأَنَّ قَوْلَهُ { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } اقْتَضَى إضْمَارَ أَهْلِهَا وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ ( حَرْفِ لَيْسَ ) مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وَمُرَادُهُ لَيْسَ مِثْلُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عَنْ مِثْلِهِ إذْ هُوَ ( تَعَالَى ) لَا مِثْلَ لَهُ فَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ عَنْهُ رَأْسًا وَأَنَّ مَعْنَاهُ ( أَنْ ) لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ . وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنَ . وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ كَنِصْفِ الْجَفْنَةِ وَالْكَافُ زَائِدَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِوَضْعِ ( لَفْظٍ ) مَكَانَ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } يَعْنِي فِي أَمْرِ اللَّهِ يُعَبَّرُ عَنْ الْأَمْرِ بِالْجَنْبِ , وَقَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ إبْرَاهِيمَ ( خَلِيلِ اللَّهِ صلوات الله عليه ) { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } وَأَرَادَ بِهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فَعَبَّرَ عَنْ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهِ يَكُونُ مِنْ الْعِبَادِ وَقَالَ تَعَالَى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } يَعْنِي لُغَةً لِأَنَّ اللُّغَةَ بِاللِّسَانِ تَظْهَرُ . { وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَطَبَنِي أَبُو الْجَهْمِ فِي جُمْلَةِ مَنْ خَطَبَهَا فَقَالَ أَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ } يَعْنِي أَنَّهُ يَضْرِبُ النِّسَاءَ فَجَعَلَ هَذَا اللَّفْظَ عِبَارَةً عَنْ الضَّرْبِ وَقَدْ عُقِلَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِضَرْبِ النِّسَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ قوله تعالى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يَعْنِي عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ لِأَنَّ مَنْ عَنِيَ أَمْرًا عَظِيمًا شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ . وَمِنْهُ مَا يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فَيُحْذَفُ حَرْفُ التَّشْبِيهِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ نَحْوُ قوله تعالى { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَالصُّمِّ الْبُكْمِ الْعُمْيِ فِي عَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا سَمِعُوا وَأَبْصَرُوا وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ : فَإِنَّك شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ إذَا طَلَعَتْ لَمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ يَعْنِي أَنَّك كَالشَّمْسِ . وَقَالَ آخَرُ : وَكُنَّا حَسَبْنَا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً لَيَالِيَ لَاقَيْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا فَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تَكَسَّرَا سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا . فَقَالَ كُنَّا حَسَبْنَا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً فَهُمْ مَا حَسِبُوا كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً قَطُّ . وَالْمَعْنَى مَعَ ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ مُرَادَهُ وَكُنَّا كَمَنْ حَسِبَ كُلَّ أَسْوَدَ تَمْرَةً فِي إقْدَامِنَا عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ ( وَ ) طَمِعْنَا فِيهِمْ وَاسْتِهَانَتُنَا بِأَمْرِهِمْ ثُمَّ قَالَ قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَعُوا النَّبْعَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ وَلَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ ذَلِكَ قَطُّ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّا لَمَّا قَارَعْنَاهُمْ وَجَالَدْنَاهُمْ ثَبَتُوا لَنَا تَشْبِيهًا بَعِيدَانِ النَّبْعِ إذَا قُرِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا تَنْكَسِرُ لِصَلَابَتِهَا ثُمَّ قَالَ سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهِ وَمَا كَانَ هُنَاكَ كَأْسٌ وَلَا سَقْيٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ قَتَلْنَا مِنْهُمْ وَقَتَلُوا مِنَّا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا يَعْنِي أَجْرَأَ مِنَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يَعْنِي فَمَا أَجْرَأَهُمْ لِأَنَّهُ لَا صَبْرَ لِأَحَدٍ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَكَرَ الشَّاعِرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَهِيَ مَجَازٌ وَهِيَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ وَجَيِّدِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ الْحَقِيقَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْهُ أَنْ يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ عَلَى جِهَةِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمَهُ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ إذَا وَقَعَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ نَحْوُ قوله تعالى { قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } . وَلَيْسَ ( ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ اسْتِهْزَاءً ) فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ حِينَ أَخْبَرَ عَنْ جَزَاءِ الِاسْتِهْزَاءِ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ لقوله تعالى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَالْجَزَاءُ لَيْسَ تَشْبِيهًا وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بِهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ فِي مُقَابَلَتِهَا وَمُسْتَحَقَّةً مِنْ أَجَلِهَا . وَتَقُولُ الْعَرَبُ الْجَزَاءُ بِالْجَزَاءِ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِجَزَاءٍ فَسَمَّاهُ بِاسْمِ مَا يُقَابِلُهُ . وَمِمَّا يُسَمَّى بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلْمُجَاوَرَةِ أَوْ لِأَنَّهُ ( مِنْهُ ) بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ لِلْمَزَادَةِ ( وَ ) السِّقَاءِ رَاوِيَةٌ وَالرَّاوِيَةُ اسْمٌ لِلْجَمَلِ الَّذِي يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ . وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ : تَمْشِي مِنْ الرِّدَّةِ مَشْيَ الْجَفْلِ مَشْيَ الرَّوَايَا بِالْمَزَادِ الْأَثْقَلِ سُمِّيَتْ بِاسْمِ الْجَمَلِ لِلْمُجَاوَرَةِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلشَّاهِ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ حَلْقِ رَأْسِ الصَّبِيِّ عَقِيقَةٌ . وَالْعَقِيقَةُ اسْمٌ لِلشَّعْرِ نَفْسِهِ فَسُمِّيَتْ الشَّاةُ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ( هُوَ ) سَبَبَهَا . وَمِنْهُ الْغَائِطُ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ الْأَرْضِ وَكَانُوا يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ فِي مِثْلِهِ فَسُمِّيَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِهِ لِقُرْبِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ الْكِنَايَةِ . وَمِنْهُ الْجِمَاعُ كُنِّيَ عَنْهُ بِاللَّمْسِ ( وَ ) بِالدُّخُولِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي اللُّغَةِ وَرُبَّمَا كَانَ الْمَجَازُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَبْلَغَ وَأَحْسَنَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ فِيهِ وَهَذَا مَا لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِشَيْءٍ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَضَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ كُتُبًا فِي الْمَجَازِ وَقَالُوا هَذَا ( اللَّفْظُ ) مَجَازٌ وَهَذَا حَقِيقَةٌ مَشْهُورٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ ( مُتَعَارَفٌ ) مُتَعَالَمٌ بَيْنَهُمْ . وَرُبَّمَا سُمِّيَ الشَّيْءُ بِمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لَهُ بِحَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَعْتَبِرُ الْمُخَاطَبُ بِهِ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ كَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى : { وَانْظُرْ إلَى إلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } يَعْنِي الَّذِي فِي زَعْمِك أَنَّهُ إلَهُك وقوله تعالى { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ } يَعْنِي الَّذِينَ يَزْعُمُونَ بِأَنَّهُمْ آلِهَتَهُمْ , وَنَظِيرُهُ قوله تعالى { ذُقْ إنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } يَعْنِي إنَّك كُنْت فِي زَعْمِك كَذَلِكَ . وَقَدْ أَبَى بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ( ذَلِكَ ) بِغَيْرِ دِرَايَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي اللُّغَةِ اسْتِعَارَةٌ وَأَجَازَ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةُ فَمَنَعَ لَفْظَ الِاسْتِعَارَةِ وَأَعْطَى الْمَعْنَى وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ هُوَ الْآخِذُ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . فَيُقَالُ لَهُ : فَقَدْ أَعْطَيْتنَا أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا أُطْلِقَ ( عَلَى ) جِهَةِ التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ التَّحْقِيقُ فَكَأَنَّك إنَّمَا خَالَفْتنَا فِي الْعِبَارَةِ دُونَ الْمَعْنَى وَالْمُضَايَقَةُ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ الْمُدَافَعَةِ عَلَى الْمَعْنَى لَا وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِهَا . وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي ذَلِكَ إنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الِاسْتِعَارَةِ شَائِعٌ فِي اللُّغَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا لَفْظَةً حَقِيقَةً فِي مَوْضِعٍ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ سَمَّوْهُ مَجَازًا تَارَةً وَاتِّسَاعًا أُخْرَى ( وَاسْتِعَارَةً أُخْرَى ) لِيُفِيدُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ إطْلَاقُهُ عَلَى حَقِيقَةِ مَعْنَاهُ فِي مَوْضُوعِ اللِّسَانِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ إفْهَامًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَسَمَّوْهُ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ الِاسْمَ مَوْضُوعٌ لِغَيْرِهِ فِي الْأَصْلِ وَسُمِّيَ هَذَا بِاسْمِهِ وَلَنَا أَنْ نَقُولَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَعَارَ شَيْئًا لِأَنَّ لِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ , وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَ النَّاسَ اللُّغَاتِ ( وَهَدَاهُمْ إلَيْهَا ) . وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } . وَقَالَ { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وَكَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَاتِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ خَاطَبَنَا بِمَا فِي لُغَتِهَا مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ سَمَّوْا ذَلِكَ اسْتِعَارَةً بِوَاجِبٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ اسْتَعَارَ شَيْئًا وَلَكِنَّهُ خَاطَبَنَا بِمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ فِي اللُّغَةِ وَمَجَازٌ وَاتِّسَاعٌ فِيهَا لَا عَلَى حَقِيقَةِ مَوْضُوعِهَا فِي الْأَصْلِ , وَالْأَصْلُ فِي أَلْفَاظِ الْمَجَازِ أَنَّ طَرِيقَهَا السَّمْعُ وَمَا وَرَدَ مِنْهَا فِي اللُّغَةِ , وَلَيْسَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى بِهَا مَوَاضِعَهَا الَّتِي تَكَلَّمَتْ الْعَرَبُ بِهَا . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ اللَّهَ وَيَقْتُلُونَ اللَّهَ وَيُرِيدُ ( بِهِ ) يَضْرِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ أَوْلِيَاءَهُ لِأَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ } وَمُرَادُهُ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ ( اللَّهِ ) فَلَا يُسْتَعْمَلُ الْمَجَازُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحُكْمُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ . وَالْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ تَكَلَّمَتْ بِمَا سَمَّيْته مَجَازًا وَبِالْحَقِيقَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهَا فَمَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ مَا سَمَّيْته حَقِيقَةً إنَّمَا صَارَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكَلَّمَتْ بِهِ . قِيلَ لَهُ : لَمْ يَكُنْ الْحَقِيقَةُ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْعَرَبَ إنْ تَكَلَّمَتْ بِهِ دُونَ أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَتْ بِهِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ثُمَّ تَجَاوَزَتْ ذَلِكَ فَسَمَّتْ بِهِ مَا لَيْسَ الِاسْمُ لَهُ فِي الْأَصْلِ تَشْبِيهًا بِهِ وَاتِّسَاعًا فِي لُغَتِهَا ( وَ ) اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِالْمُرَادِ فَلَمْ تُسَمِّ ذَلِكَ حَقِيقَةً . فَأَفَدْنَا بِقَوْلِنَا حَقِيقَةً أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَسُمِّيَ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَيُفِيدُ بِقَوْلِنَا مَجَازًا أَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ غَيْرِهِ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ لَا ( نَتَعَدَّى بِهَا ) مَوَاضِعَهَا وَلَا يَجْرِي عَلَى غَيْرِهَا وَإِنْ شَارَكَتْ الْأَوَّلَ فِي مَعَانِيهِ فَإِنْ كُنْت إنَّمَا أَنْكَرْت اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى فَإِنَّا لَا نُضَايِقُك فِي اللَّفْظِ سَمِّهِ أَنْتَ بِمَا شِئْت بَعْدَ أَنْ تُوَافِقَ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كُنْت إنَّمَا خَالَفْت ( بِهِ ) فِي الْمَعْنَى رَدَدْنَاك إلَى اللُّغَةِ وَأَرَيْنَاك صِحَّةَ مَا ادَّعَيْنَاهُ فِيهَا بِمَا لَا يُمْكِنُك دَفْعُهُ مَتَى أَنْصَفْت نَفْسَك وَحَكَّمْت عَقْلَك وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا وَذِكْرُ جَمِيعِهِ يَعْجِزُ عَنْهُ الْكِتَابُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ . وَقَدْ يَكُونُ لَفْظٌ وَاحِدٌ يَتَنَاوَلُ ضِدَّيْنِ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمَا وَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ . وَقَدْ ذَكَرَ قُطْرُبٌ النَّحْوِيُّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا نَحْوُ الْجَوْنِ أَنَّهُ اسْمٌ ( لِلْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ ) وَالْمَسْجُورُ اسْمٌ لِلْفَارِغِ وَالْمَلْآنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . ( وَ ) مِمَّا يَكُونُ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ نَحْوُ الْقُرْءِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِلْحَيْضِ مَجَازٌ لِلطُّهْرِ وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ وَقَدْ أَبَى بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ وَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْهَذَيَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ أَحَدًا دَفْعُهُ وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ هَذَا الرَّادُّ عَلَى قُطْرُبٍ فِي هَذَا الْبَابِ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَعَانٍ بَعِيدَةٍ مُتَعَسِّفَةٍ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ ) يَقُولُ فِي اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ . وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي أَضْعَافِ مَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَّا قَوْلَ أَصْحَابِنَا فِيهِ فَمَتَى وَرَدَ لَفْظٌ يَتَنَاوَلُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ . فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا احْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ بِأَوْلَى ( بِهِ ) مِنْ الْآخَرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرِيدَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ كَانَ اللَّفْظُ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ
بَابٌ الْقَوْلُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : كَانَ أَبُو الْحَسَنِ رحمه الله يَقُولُ الْمُحْكَمُ ( مَا ) لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَالْمُتَشَابِهُ مَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا . وَسَبِيلُ الْمُتَشَابِهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيُرَدَّ إلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْفِقْهِ كَثِيرٌ نَحْوُ قوله تعالى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ . , فَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَقْدَ الْيَمِينِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ بِأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا إلَى الْيَمِينِ فَيَكُونَ تَقْدِيرُهُ لِمَا قَصَدْتُمُوهُ مِنْ الْأَيْمَانِ . وَتَقْدِيرُ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ , هِيَ الَّتِي تُعْقَدُ عَلَى حَالٍ مُسْتَقْبَلَةٍ فَقِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ . فَوَجَبَ حَمْلُ مَا احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ فِي قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ أُمًّا لِلْمُتَشَابِهِ وَأُمُّ الشَّيْءِ هِيَ مِنْهَا ابْتِدَاؤُهُ وَإِلَيْهَا مَرْجِعُهُ . قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ : الْأَرْضُ مَعْقِلُنَا وَكَانَتْ أُمَّنَا فِيهَا مَقَابِرُنَا وَفِيهَا نُوأَدُ فَسَمَّاهَا أُمًّا لَنَا مِنْ حَيْثُ كَانَ مِنْهَا ابْتِدَاءُ خَلْقِنَا وَإِلَيْهَا مَرْجِعُنَا . وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قوله تعالى { حَتَّى يَطْهُرْنَ } قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّخْفِيفِ أَرَادَ انْقِطَاعَ الدَّمِ لَا يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ غَيْرَهُ وَمَنْ قَرَأَهَا بِالتَّشْدِيدِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِانْقِطَاعِ الدَّمِ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ طَهُرَتْ الْمَرْأَةُ وَتَطَهَّرَتْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَاحْتَمَلَ أَيْضًا الِاغْتِسَالَ فَلَمَّا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ انْقِطَاعُ الدَّمِ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله يَقُولُ أَيْضًا فِي قوله تعالى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } إنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا عَطْفَهَا عَلَى الْغَسْلِ وَقِرَاءَةَ الْخَفْضِ تَحْتَمِلُ عَطْفَهَا عَلَى الْغَسْلِ وَتَكُونُ مَخْفُوضَةً بِالْمُجَاوَرَةِ وَيُحْتَمَلُ ( عَطْفُهَا ) عَلَى الْمَسْحِ . فَلَمَّا احْتَمَلَتْ قِرَاءَةُ الْخَفْضِ وَجْهَيْنِ وَلَمْ تَحْتَمِلْ قِرَاءَةُ النَّصْبِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ مَعْنَى الْخَفْضِ مَحْمُولَةً عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَتَكُونُ الرِّجْلُ مَغْسُولَةً . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : ذَكَرْت أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ وَالْمُحْكَمَ مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَسَمَّى الْجَمِيعَ مُتَشَابِهًا وَلَيْسَ الْجَمِيعُ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُوهِ . قِيلَ لَهُ : قَدْ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ بَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ فِي قوله تعالى { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فَجَعَلَ الْبَعْضَ مُتَشَابِهًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { كِتَابًا مُتَشَابِهًا } أَنَّ بَعْضَهُ مُتَشَابِهٌ كَمَا قَالَ مَثَانِيَ وَإِنَّمَا بَعْضُهُ مَثَانِي لَا جَمِيعُهُ وَهِيَ سُوَرٌ مَعْدُودَةٌ . وَقِيلَ إنَّهُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُك } وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ } وَإِنَّمَا أَرَادَ كُفَّارَ مُضَرَ دُونَ مُؤْمِنِيهِمْ . وَأَيْضًا : يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ مُتَشَابِهًا أَيْ مُتَمَاثِلًا غَيْرَ مُخْتَلِفِ الْمَعْنَى اخْتِلَافَ تَضَادٍّ وَإِنْ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } يَعْنِي اخْتِلَافَ التَّضَادِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ بَلْ كُلُّهُ مُتَّفِقُ الْمَعْنَى فِي الْإِتْقَانِ . وَالْحِكْمَةُ وُجْهَةُ الدَّلَالَةِ وَيَكُونُ قوله تعالى { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ( مَعْنَاهُ ) مُتَشَابِهَاتٌ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمُحْكَمَ مِنْ وَجْهٍ وَيُشْبِهُ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ ( فَيَجِبُ ) حِينَئِذٍ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُوَافِقُ الْمَعْنَى وَيُشْبِهُهُ دُونَ مَا يُخَالِفُهُ وَكَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي كُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي ذِكْرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُحْكَمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا وَكَذَلِكَ مَا احْتَمَلَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ , وَالثَّانِي لَا يُجَوِّزُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الْعَقْلِ ( دُونَ مَا لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ الْعَقْلَ أَصْلٌ , وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى يَجِبُ بِهِ اعْتِبَارُ مَا يَجُوزُ مِمَّا لَا يَجُوزُ .
بَابٌ الْقَوْلُ فِي ( الْعَامِّ وَالْخَاصِّ ) وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إذَا وَرَدَتْ آيَةٌ عَامَّةٌ تُوجِبُ حُكْمًا وَوَرَدَتْ آيَةٌ خَاصَّةٌ تُوجِبُ حُكْمًا بِضِدِّ مُوجَبِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : أَمَّا أَنْ يُعْلَمَ وُرُودُ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ ( حُكْمِ الْعَامَّةِ ) وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ يُعْلَمَ نُزُولُ الْآيَةِ الْخَاصَّةِ وَاسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا ثُمَّ نُزُولِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ بَعْدَهَا . أَوْ يَعْلَمُ وُرُودُهُمَا مَعًا مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ كَاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ . أَوْ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُ نُزُولِهَا . فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلِ : أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مُتَقَدِّمًا وَيَرِدَ الْخُصُوصُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِهِ , فَإِنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ لِبَعْضِ مَا اقْتَضَاهُ بِقَدْرِ مَا قَابَلَهُ مِنْهُ , وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَصَّ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِلَفْظِ الْعُمُومِ , وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَقِرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَرِدُ لَفْظُ التَّخْصِيصِ " ( الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ ) بِضِدِّهِ ( إلَّا ) عَلَى وَجْهِ نَسْخِ ذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ بِدَلَالَةِ أَنَّ { هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِك وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ } فِي الْمُسْلِمِينَ . { وَقَالَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ اللِّعَانِ } فَنُسِخَ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ , فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ نَسْخٌ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى قَدْ أُرِيدَ بِهَا عُمُومُ الْحُكْمِ وَقْتَ وُرُودِهَا فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ ( فِيهِ ) إلَّا مَنْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْعُمُومِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقْتَضَى لَفْظِهِ , وَإِنْ كَانَ قَائِلُهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ ( بِهِ ) لِجَهْلِهِ بِمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا إذَا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْخُصُوصِ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهُ ثُمَّ وَرَدَ الْعُمُومُ بِضِدِّ مُوجَبِ حُكْمِ الْخُصُوصِ فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا يُوجِبُ نَسْخَ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْخُصُوصِ مِنْ الْحُكْمِ مَتَى لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُرَتَّبٌ عَلَى الْخُصُوصِ ( وَكَذَا ) كَانَ يَحْكِي شَيْخُنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلَهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ . وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ قوله تعالى " فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً " مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ . وَقَالَ مُخَالِفُنَا بِتَرْتِيبِ الْعُمُومِ وَبِنَائِهِ عَلَى الْخُصُوصِ , وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا : إنَّ الْعُمُومَ حُكْمُهُ فِيمَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ وَهُوَ فِيمَا وَصَفْنَا مُوجِبٌ لِنَفْيِ حُكْمِ الْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُهُ فَكَأَنَّهُ ذَكَرَ مَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْخُصُوصِ ( وَذِكْرُ غَيْرِهِ مَعَهُ لَا يَنْفِي أَنْ ) يَكُونَ ( مَا قَابَلَ ) الْخُصُوصَ مِنْهُ مَذْكُورًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْخُصُوصِ نَظِيرُ ذَلِكَ قوله تعالى { يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . وقوله تعالى { لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ وَهُوَ خَاصٌّ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ , ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ عَامَّةً مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ وَقْتٍ مِنْ وَقْتٍ فَأَوْجَبَتْ نَسْخَ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لِاشْتِمَالِ اللَّفْظِ عَلَى قَتْلِهِمْ عَامَّةً مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنْهُ فِيهِ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَظْرِهِ فِيهِ مَنْسُوخًا بِهِ . فَإِذَا وَرَدَتْ الْإِبَاحَةُ بِعُمُومِ لَفْظٍ تَنَاوَلَ إبَاحَتُهُ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَجْعَلَهُ مُرَتَّبًا عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَيْهِ نَاسِخًا ( لَهُ ) كَمَا يَنْسَخُهُ لَوْ أَبَاحَهُ مُنْفَرِدًا بِذِكْرِهِ دُونَ غَيْرِهِ . وَأَيْضًا : فَمِنْ حَيْثُ كَانَ وُرُودُ الْخُصُوصِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْعُمُومِ نَاسِخًا لِمَا قَابَلَهُ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ الْوَارِدُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخُصُوصِ نَاسِخًا لَهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَسُوغُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيمَا ذَكَرْت إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ لَفْظُ خُصُوصٍ بِخِلَافِ حُكْمِهِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخُصُوصُ مُتَقَدِّمًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ ؟ لِأَنَّ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْخُصُوصِ لَا يَجُوزُ نَسْخُهٌ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ نَعَمْ . قِيلَ لَهُ : إنَّمَا الْكَلَامُ بَيْنَنَا ( وَبَيْنَك ) فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ لَوْ أُفْرِدَ بِهِ , فَقُلْنَا لَا فَرْقَ بَيْنَ إفْرَادِهِ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الْحُكْمِ يُوجِبُ نَسْخَهُ وَبَيْنَ وُجُوبِ نَسْخِهِ بِلَفْظِ عُمُومٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ . وَإِذْ جَازَ نَسْخُهُ فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ اعْتِبَارَ الْعُمُومِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ بِإِيجَابِ نَسْخِهِ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَرِدَ بَعْدَ الْخُصُوصِ لَفْظٌ يُقَابِلُ الْخُصُوصَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ يَنْتَظِمُ الْخُصُوصَ وَغَيْرَهُ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا أَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي عَلَى مِقْدَارِ مَا يُقَابِلُ الْخُصُوصَ الْمُتَقَدِّمَ كَانَ نَاسِخًا لَهُ فَهَلَّا لَزِمْت هَذَا الِاعْتِبَارَ فِي إيجَابِ نَسْخِهِ إذَا ذُكِرَ مَا يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ ( وَيَزِيدُ ) عَلَيْهِ . فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ مُتَيَقَّنٌ بِثُبُوتِهِ , وَنَسْخُهُ بِالْعَامِّ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ , إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ بِالشَّكِّ . قِيلَ ( لَهُ : مَا ) مَعْنَى قَوْلِك إنَّ الْحُكْمَ الْخَاصَّ مُتَيَقَّنٌ ثُبُوتُهُ أَعَنَيْت بِهِ أَنْ كَانَ مُتَيَقَّنًا قَبْلَ وُرُودِ الْعَامِّ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِخِلَافِهِ أَوْ أَرَدْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعَامِّ ؟ . فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّهُ كَانَ مُتَيَقَّنًا قَبْلَ وُرُودِ اللَّفْظِ الْعَامِّ . قِيلَ لَهُ : فَهَذَا مَا ( لَا ) يُخَالِفُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ مَوْضُوعَ الْمُنَازَعَةِ فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْهُ عَلَى انْتِفَاءِ نَسْخِهِ بِالْعُمُومِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ . فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أَرَدْت أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بَعْدَ وُرُودِ الْعُمُومِ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ وَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فَكَأَنَّك إنَّمَا ذَكَرْت صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي مِنْهَا الْخِلَافُ وَجَعَلْتهَا دَلَالَةً عَلَى نَفْسِهَا . فَإِنْ قَالَ : لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مُتَيَقَّنًا وَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ زَوَالُهُ . قِيلَ لَهُ : وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مَا قُلْت وَالْأَوَّلُ إنَّمَا كَانَ ( مُتَيَقَّنًا مُتَّفَقًا ) عَلَى ثُبُوتِهِ قَبْلَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ بِخِلَافِ حُكْمِهِ فَمَا الدَّلَالَةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِهِ بَعْدَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ , فَلَا يَرْجِعُ بِهِ ( عَلَيْهِ ) إذَا حَقَّقْت عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةَ إلَّا إلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ . ثُمَّ يُقَالُ ( لَهُ ) : مَا أَنْكَرْت أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ مُتَيَقَّنًا أَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ بِمَا تَقَدَّمَ لَفْظُ الْخُصُوصِ بِالشَّكِّ . فَإِنْ قَالَ : لَا يَكُونُ مُوجَبُ حُكْمِ الْعُمُومِ مُتَقَدِّمًا مَعَ تَقَدُّمِ لَفْظِ الْخُصُوصِ . قِيلَ لَهُ : وَلَا يَكُونُ بَقَاءُ حُكْمِ الْخُصُوصِ مُتَيَقَّنًا مَعَ وُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ بِخِلَافِهِ . فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ الْخُصُوصَ مَعَ الْعُمُومِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت ذَلِكَ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْجُمْلَةِ ثَابِتَ الْحُكْمِ مَعَهُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ الْخُصُوصِ بَعْدَ وُرُودِ الْعُمُومِ بِخِلَافِهِ حَتَّى يَجْعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ؟ . فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّ فِي بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا , وَفِي إثْبَاتِ النَّسْخِ إسْقَاطَ أَحَدِهِمَا , وَاسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ . قِيلَ لَهُ : وَفِي بِنَاءِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حُكْمِ الْعُمُومِ ( فِيمَا قَابَلَ الْخُصُوصَ مِنْهُ فَلِمَ جَعَلْت إسْقَاطَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ حُكْمِ الْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ ) . , وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِعْمَالَ حُكْمِ الْعُمُومِ فِيمَا لَمْ يُقَابِلْ الْخُصُوصَ عَنْهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِاسْتِعْمَالِ الْخُصُوصِ . وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ ( الِاسْتِعْمَالُ فِيمَا ) تَعَارَضَ فِيهِ لَفْظُ الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِك إنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّك لَمْ تَسْتَعْمِلْ مِمَّا قَابَلَ الْخُصُوصَ مِنْ لَفْظِ الْعُمُومِ شَيْئًا ( قَطُّ ) فَصَارَ مَا قَابَلَ الْعُمُومَ مِنْ لَفْظِ الْخُصُوصِ كَخَبَرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْآخَرِ فَيَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْآخِرِ مِنْهُمَا وَيَكُونُ الْأَوَّلُ مَنْسُوخًا بِهِ وَكُلُّ مَا اعْتَلَّ بِهِ خَصْمُنَا ( فِيهِ لِإِثْبَاتِ ) الْخُصُوصِ عُورِضَ بِهِ بِمِثْلِهِ فِي إثْبَاتِ مَا قَابَلَهُ مِنْ الْعُمُومِ ثُمَّ يَكُونُ لِقَوْلِنَا مَزِيَّةٌ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْعُمُومِ لَيْسَتْ لَهُ فِي إثْبَاتِ الْخُصُوصِ وَهِيَ وُرُودُهُ بَعْدَهُ وَأَلَّا يَقْضِي عَلَى الْأَوَّلِ وَيَنْسَخُهُ , وَالْأَوَّلُ ( لَا ) يَقْضِي عَلَى الْآخَرِ فَصَارَ الْعُمُومُ أَوْلَى . , وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنَّ بِنَاءَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ يَنْقُلُ لَفْظَ الْعُمُومِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى الْمَجَازِ وَيَجْعَلُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِمُوجَبِهِ فِيمَا عَدَا الْخُصُوصَ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوجِبًا ( لِلْعِلْمِ بِمُقْتَضَاهُ ) وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَفِي وُجُوبِ حَمْلِ لَفْظِ الْعُمُومِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَامْتِنَاعِ صَرْفِهِ إلَى الْمَجَازِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْخُصُوصِ الْمُتَقَدِّمِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا احْتَمَلَ الْعَامُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَامِّ وَجَبَ حَمْلُ مَا فِيهِ احْتِمَالٌ عَلَى مَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ . قِيلَ لَهُ : ( إنَّ ) قَوْلَك إنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ غَلَطٌ لِأَنَّ الْعُمُومَ حُكْمُهُ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ الِاحْتِمَالُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ وَيَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا بِهِ جَمِيعًا مِثْلُ الْقُرْءِ الْمُحْتَمِلِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ . , وَأَمَّا الْعُمُومُ فَمُنْتَظِمٌ لِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ فَلَا احْتِمَالَ فِيهِ لِغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْعُمُومُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا قُلْت إنَّ الْخُصُوصَ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ الِاحْتِمَالِ وَانْفَصَلْنَا نَحْنُ مِنْكُمْ بِوُرُودِ الْعُمُومِ بَعْدَ الْخُصُوصِ وَكَوْنُهُ نَاسِخًا لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا . , وَذَكَرَ بَعْضُ مِنْ احْتَجَّ عَلَى عِيسَى بْنِ أَبَانَ فِي هَذَا الْبَابِ أَلْفَاظًا مِنْ الْعُمُومِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخُصُوصِ رَامَ بِهَا دَفْعَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَمِنْهَا مَا فَسَادُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى كَشْفِهِ , وَمِنْهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ بِنَاءِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ . , وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ وَأَطَالَ الْقَوْلَ فِيهِ يَسْقُطُ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ نَحْنُ نَذْكُرُهُ ثُمَّ نَشْرَعُ فِي بَيَانِ خَطَئِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَتَى بِهِ عَلَى حِيَالِهِ وَتَوْضِيحِ أَنَّ أَكْثَرَهُ مَوْضُوعٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَنَقُولُ : إنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ هَذَا الرَّجُلُ لَوْ سُلِّمَ ( لَهُ ) عَلَى حَسْبِ مَا ادَّعَاهُ لَمْ يَكُنْ ( فِيهِ ) دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا ( لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ ) بِنَاءَ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَنَسْتَعْمِلُهَا فِي حَالٍ إذَا قَامَتْ دَلَالَتُهُ وَنَقْضِي بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فِي حَالٍ أُخْرَى فَنُوجِبُ نَسْخَهُ ( بِهِ ) فَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ . وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُنَا مَا ذَكَرَ لَوْ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ ( بِحَالٍ ) فَهَذَا يَسْقُطُ جَمِيعَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا أَنَّا مَعَ ذَلِكَ لَا نَدَعُ الْإِبَانَةَ عَنْ خَطَئِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ . فَمِمَّا ذَكَرَهُ هَذَا الرَّجُلُ قوله تعالى { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ } قَالَ فَهَذَا عَامٌّ وقوله تعالى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَهَذَا خَاصٌّ قَضَى عَلَى الْعَامِّ , فَيُقَالُ لَهُ هَذَا مَا لَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا نَقْضِي بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ وَأَمَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا فَإِنَّا قَدْ نَبْنِي الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ إذَا قَامَتْ ( دَلَالَتُهُ ) . , وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يُوجِبُ خُصُوصَهَا وَهُوَ قوله تعالى { وَلَا تُسْرِفُوا } وَأَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْإِسْرَافِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَخْصِيصِهَا بِغَيْرِهَا . وَذَكَرَ أَيْضًا قوله تعالى { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } ( قَالَ ) فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ عَفْوِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَنَسِيَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ . وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا تَخْصِيصٌ كَانَ بِدَلَالَةٍ . , وَذَكَرَ قَوْلَهُ عليه السلام { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } وَأَنَّهُ لَمْ يَنْسَخْهُ قَوْلُهُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ } وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمٌ شَرْعِيٌّ مَوْقُوفُ الْمَعْنَى عَلَى الدَّلَالَةِ فَقَوْلُهُ فَلْيُصَلِّهَا ( إذَا ذَكَرَهَا ) مَعْنَاهُ مَا تَكُونُ صَلَاةٌ فِي الشَّرْعِ وَمَنْ فَعَلَهَا بِغَيْرِ طَهُورٍ لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا وَقَوْلُهُ عليه السلام { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ } بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَا هِيَ إلَّا تَخْصِيصٌ ( فِيهِ ) . وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا أَمْرٌ بِقَضَاءِ ( الْفَائِتَةِ ) , وَالْفَائِتَةُ إنَّمَا كَانَتْ صَلَاةً بِطَهَارَةٍ وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةً قَبْلَ فَوَاتِهَا إلَّا بِهَذَا الْوَصْفِ كَمَا لَمْ تَكُنْ صَلَاةً إلَّا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَسَائِرُ شَرَائِطِهَا فَإِنَّمَا أَمَرَ بِقَضَاءِ الْفَائِتَةِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْفَوَاتُ فَأَيُّ تَخْصِيصٍ فِي ذَلِكَ إذَا جَمَعْنَا إلَى ذَلِكَ شَرْطَ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ . قَالَ هَذَا الرَّجُلُ : وَبِالذَّهَابِ عَنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ خَاصَمَتْ قُرَيْشٌ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قوله تعالى { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } حَتَّى وَرَدَ { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ فِي جِهَةِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ . وَذَلِكَ أَنَّ قوله تعالى { وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } لَمْ يَتَنَاوَلْ قَطُّ غَيْرَ الْأَصْنَامِ الَّتِي عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِأَنَّ " مَا " فِي اللُّغَةِ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ " وَمَنْ " لِلْعُقَلَاءِ فَمَنْ اعْتَرَضَ ( عَلَيْهِ ) بِعِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ صلوات الله عليهم فَقَدْ تَعَسَّفَ وَذَهَبَ عَنْ ( مَعْنَى ) الْآيَةِ . , وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ ( هَذَا ) اللَّفْظَ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْأَصْنَامِ وَلَكِنَّهَا اعْتَرَضَتْ بِمَا ذَكَرَتْ مِنْ عِبَادَةِ الْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ مُتَعَنِّتِينَ لَهُ فَقَالَتْ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ ( اللَّهِ ) فَقَدْ يَجِبُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ لِأَنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إنَّ الْأَصْنَامَ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ( وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ ) تَعْيِيرًا لِلْكُفَّارِ وَإِظْهَارًا لِتَكْذِيبِهِمْ بِأَنَّهُمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى . وَلَيْسَ يَجِبُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْأَصْنَامَ مَعَ عَبَدَتِهَا فِي النَّارِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ ( الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ ) ( لِأَنَّهُمْ ) مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَائِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ . ثُمَّ لَمْ يَدَعْهُمْ وَمَا اعْتَرَضُوا بِهِ حَتَّى أَنْزَلَ { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } وَعَلَى أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ الْجَنَّةَ خَبَرٌ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ فِي مَخْبَرِهِ , وقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } خَبَرٌ وَرَدَ بَعْدَهُ فَلَا بُدَّ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُهُ مَخْرَجَ عُمُومٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ كَمَا يَكُونُ الْعُمُومُ مُرَتَّبًا عَلَى أَحْكَامِ الْعَقْلِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ . , وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ تَرْتِيبِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ عَقَدْنَا فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ جَوَازَ ذَلِكَ بِدَلَالَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى { وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } لَمْ يَرِدْ إلَّا مُرَتَّبًا عَلَى مَا فِي الْعَقْلِ مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ تَعْذِيبِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي الْآخِرَةِ . وَذَكَرَ أَيْضًا { قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ تَعَالَى { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } حِينَ دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يُجِبْهُ } . ( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) : وَهَذَا عَلَيْهِ دَلَالَةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ أَنَّ قوله تعالى { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } قَاضٍ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ وَالْآيَةُ عَامَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ خَاصٌّ فَأَعْلَمَهُ عليه السلام أَنَّ الْعَامَّ قَاضٍ عَلَى الْخَاصِّ , وَالْإِكْثَارُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا هَذَا الرَّجُلُ إنَّمَا يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلٍ وَلَا فَائِدَةٍ . لِأَنَّ النُّكْتَةَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْبَابِ أَنَّ الْعَامَّ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَاصِّ بِدَلَالَةٍ وَقَدْ يُقْضَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ ( التَّرْتِيبِ ) وَكُلُّ مَوْضِعٍ بُنِيَ فِيهِ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ دَلَالَةٍ أَوْجَبَتْهُ . , وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي نَحْوِ هَذَا قوله تعالى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وَ وقوله تعالى { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْتِيبُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ , لِأَنَّ قوله تعالى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } لَمْ يَتَنَاوَلْ الْكِتَابِيَّاتِ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُشْرِكِ يَتَنَاوَلُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عُمُومًا لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا إنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْعَامَّ يَنْسَخُ الْخَاصَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا عِلْمُ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ . وَالثَّانِي : أَنَّا إنَّمَا رَتَّبْنَا الْعَامَّ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُ نُزُولِهِمَا . , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَحْوُ قوله تعالى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ } وقوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلَى آخِرِهِ وقوله تعالى { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وقوله تعالى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } . , وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا وَجَبَ فِيهِ التَّرْتِيبُ لِدَلَائِلَ أَوْجَبَتْهُ , وَاعْتِرَاضُ مُخَالِفِنَا عَلَيْنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ كَاعْتِرَاضِ نُفَاةِ الْعُمُومِ بِالْآيِ الَّتِي ظَوَاهِرُهَا الْعُمُومُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِهَا عَلَى نَفْيِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فَقُلْنَا لَهُمْ إنَّ الْأَصْلَ الْعُمُومُ وَصِرْنَا إلَى الْخُصُوصِ بِدَلَالَةٍ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلِمَةِ الْحَقِيقَةُ ( وَلَا تُصْرَفُ ) إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ . كَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَا ( قَدْ ) ذَكَرْنَا أَنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ الْمَقَالَةِ بِمَا وَصَفْنَا . , وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَرَيْتُمُونَا فِيهِ التَّرْتِيبَ فَإِنَّمَا رَتَّبْنَاهُ بِدَلَالَةٍ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْمَقَالَةِ كَمَا لَا يَقْدَحُ وُجُودُ لَفْظٍ مُرَادُهُ الْخُصُوصُ فِي أَصْلِ الْقَوْلِ فِي الْعُمُومِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عُمُومًا قَضَى عَلَى الْخُصُوصِ نَحْوَ قوله تعالى { يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } إلَى آخِرِهَا وقوله تعالى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } عُمُومٌ نُسِخَ بِهِ حَظْرُ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ قَدْ خَالَفَنَا فِيهِ جَمِيعًا وَزَعَمَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءِ بْنِ رَبَاحٍ . , وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِي نَحْوِ ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } عَامٌّ نُسِخَ بِهِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَقَوْلُهُ { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } وَجَمِيعُ ذَلِكَ خَاصٌّ نَسَخَهُ الْعَامُّ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَوْلُهُ { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ قوله تعالى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ } اقْتَضَى وَصِيَّةً مَنْكُورَةً لِمَنْ كَانَتْ مِنْ النَّاسِ , وَجَعَلَ بَاقِيَ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ وقوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } وَقَوْلُهُ { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ } اقْتَضَى وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ وَهُوَ خَاصٌّ نَسَخَهُ قوله تعالى { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّهُ اقْتَضَى جَوَازَ وَصِيَّةٍ لِمَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ وَيُجْعَلُ الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَبْقَى لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَلَا لِلزَّوْجَةِ وَصِيَّةٌ فَقَدْ دَلَّ ( هَذَا ) عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ نَسْخَ إيجَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ . قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ الْمُسْتَعِيرَةَ } وَرُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ( أَنَّهُ ) قَالَ { لَا قَطْعَ عَلَى حَائِزٍ } فَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْخَاصِّ , وَقَامَرَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه الْمُشْرِكِينَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ { أَلَمْ غُلِبَتْ الرُّومُ } ثُمَّ نَسَخَهَا عُمُومُ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ . قَالَ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا مُجْمَلٌ نَسَخَ كُلَّ رِبًا كَانَ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ يَقْضِي عَلَى الْخَاصِّ إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ { قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى فِي بَيْتِهَا رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ , مَا هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ وَقَدْ كُنْتَ نَهَيْتَ عَنْهُمَا ؟ فَقَالَ رَكْعَتَانِ كُنْت أُصَلِّيهَا فَشَغَلَنِي عَنْهُمَا الْوَفْدُ } . وَلَمْ يَقُلْ لَهَا إنَّ اعْتِبَارَك هَذَا ( لَا يَجُوزُ ) بَلْ بَيَّنَ لَهَا جِهَةَ الْخُصُوصِ وَرُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ ( أَوَنَقْضِيهِمَا ) إذَا فَاتَتَا ؟ قَالَ : " لَا " فَيُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ إذَا كُنْت قَدْ وَجَدْت عَامًّا قَضَى عَلَى خَاصٍّ ( وَنَسَخَهُ وَعَامًّا مُرَتَّبًا عَلَى خَاصٍّ ) فَلِمَ جَعَلْت مَا وَجَدْت مِنْ نَسْخٍ فِيهِمَا قَاضِيًا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي كُلِّ حَالٍ دُونَ أَنْ تَجْعَلَ مَا وَجَدْت مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ مُوجِبًا لِكَوْنِ الْخَاصِّ مَنْسُوخًا بِالْعَامِّ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ التَّرْتِيبِ , فَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَانَ أَكْثَرُ حِجَاجِهِ فِي الْبَابِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا وُجِدَ مِنْ التَّرَتُّبِ وَالِاسْتِدْلَالَ ( بِهِ ) عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِهِ فِي كُلِّ حَالٍ وَعَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ خَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ الَّذِي رَامَ هَذَا الرَّجُلُ نُصْرَتَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ ( بِالْعَامِّ ) . , وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَالَ فِي قوله تعالى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ( أَنَّهُ نَاسِخٌ لقوله تعالى فِي ذِكْرِ الْوَصِيَّةِ { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ قوله تعالى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ) خَاصٌّ وَرَدَ فِي شَأْنِ الرَّجْعَةِ . وقوله تعالى { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } خَاصٌّ أَيْضًا فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَكَيْفَ تَعْتَرِضُ إحْدَى الْآيَتَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَارِدَةٌ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَتْ فِيهِ الْأُخْرَى ؟ وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } إلَى قوله تعالى { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } إلَى قَوْلِهِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقوله تعالى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَقَدْ يَكُونُ حِينَ الْوَصِيَّةِ عُقُودُ الْمُدَايَنَاتِ وَإِمْلَاءُ الْحَقِّ الَّذِي عَلَى الْمَدِينِ , وَهَذِهِ الْآيَةُ مُنْتَظِمَةٌ لِحَالِ الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَصَارَتْ نَاسِخَةً لِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الدَّيْنِ . ( وَإِذَا ثَبَتَ ) بِهَذِهِ الْآيَةِ بُطْلَانُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى إمْلَاءِ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ بُطْلَانُهَا فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْوَصَايَا لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فَهَذَا عَامٌّ قَدْ نَسَخَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ حُكْمًا خَاصًّا فِي شَأْنِ الْوَصِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَرَى حُكْمَ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي جَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى وَصِيَّةٍ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ ( كَمُجَاهِدٍ وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدَ بْنِ الْمُسَيِّبِ ) وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ { قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُنَيْسٍ وَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } قَاضِيًا عَلَى قِصَّةِ مَاعِزٍ فِي اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ , فَقِصَّةُ مَاعِزٍ خَاصَّةٌ مُفَسَّرَةٌ وَقِصَّةُ أُنَيْسٍ عَامَّةٌ , هَذَا مَعَ احْتِمَالِ لَفْظِهِ لِمُوَافَقَةِ قِصَّةِ مَاعِزٍ لِأَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ مَرَّاتٍ ( مِنْ الْإِقْرَارِ ) يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اعْتِرَافًا فِي الْحُكْمِ وَمَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ فِي تَرْكِهِ عَدَدَ الْإِقْرَارِ عَلَى عِلْمِ أُنَيْسٍ بِأَنَّ الِاعْتِرَافَ الْمُوجِبَ لِلرَّجْمِ هُوَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : { الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } مَنْسُوخٌ { بِأَكْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا وَلَحْمًا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } فَنُسِخَ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عُمُومٌ فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا , وَتَرْكُهُ الْوُضُوءَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ خُصُوصٌ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ مِمَّنْ يَنْسَخُ الْعَامَّ بِالْخَاصِّ مَعَ امْتِنَاعِ وُقُوعِ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ غَيْرُ جَائِزٍ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ إيجَابِ نَسْخِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ . , وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَوْجَبْتُمْ أَنْتُمْ نَسْخَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ بِتَرْكِهِ الْوُضُوءَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت , وَذَلِكَ أَنَّ لَنَا أَصْلًا فِي قَبُولِ الْأَخْبَارِ وَشَرَائِطَ نَعْتَبِرُهَا فِيهِ مَتَى خَرَجَ الْخَبَرُ عَنْهَا لَمْ نَقْبَلْهُ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُهُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ . فَلَمَّا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامَّةً وَلَمْ يُرِدْ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْهُ ( إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ لَمْ يَثْبُتْ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْهُ ) . وَحَمَلْنَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى غَسْلِ الْيَدَيْنِ دُونَ وُضُوءِ الصَّلَاةِ . , وَ ( قَدْ ) قَالَ الشَّافِعِيُّ . قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { إنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ } وَهَذَا عَامٌّ نَسَخَ بِهِ خَاصًّا مَعَ وُجُودِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ شَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ ( لِأَنَّ الْحَسَنَ رَوَى ) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ " ائْتُونِي بِمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الرَّابِعَةِ فَإِنِّي أَقْتُلُهُ " وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ مَوْجُودٌ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُسْتَفِيضٌ مِنْ مَذْهَبِهِمْ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ رُوِيَ عَنْهُ الْمَذْهَبُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُخَالِفُونَا فِي هَذَا الْبَابِ وَمِمَّا رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَة وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّحْرِيمَ أَوْلَى فَقَضَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى " { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } عَلَى مِلْكِ الْيَمِينِ وَالنِّكَاحِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُتَرَتِّبًا عَلَى قوله تعالى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه يَقُولُ : أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ التَّحْلِيلَ أَوْلَى فَقَضَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِيهِ إلَى قوله تعالى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَهُوَ عُمُومٌ وَتَحْرِيمُ الْجَمْعِ خَاصٌّ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ ( الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة ) قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ ( شَيْئًا ) أَكْثَرُ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ عِيسَى أَوْ عَبْدٌ مِنْ الْعِبَادِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَاحْتَجَّ ( بِعُمُومِ قوله تعالى ) { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } فَجَعَلَهُ قَاضِيًا عَلَى قَوْلِهِ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } . , وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ " لَا يُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ " فَقَالَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ , قَالَ اللَّهُ { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَعَارَضَتْ عَائِشَةُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ثُمَّ قَالَ إنَّهُمْ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ فَقَالَتْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { " فَإِنَّك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } وَهَلْ ابْنُ عُمَرَ إنَّمَا قَالَ إنَّهُمْ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْت أَقُولُ لَهُمْ الْحَقُّ } وَرَدَّتْ حَدِيثَ { الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ } بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَرُدَّانِ ( حَدِيثَ ) { النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } وَجَعَلَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ ( بْنُ مَسْعُودٍ ) وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قَاضِيًا عَلَى قوله تعالى . { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَهَذَا خَاصٌّ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا , وَنَظَائِرُ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَمِلَ ذِكْرَهَا هَذَا الْكِتَابُ , وَفِيمَا ذَكَرْنَا مَا يُوَضِّحُ عَنْ مَذْهَبِ السَّلَفِ فِيهِ . وَأَمَّا إذَا وَرَدَ لَفْظُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي ( خِطَابٍ ) وَاحِدٍ فَإِنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ لَفْظَ التَّخْصِيصِ إذَا وَرَدَ مَعَ الْعَامِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ الْجُمْلَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ , وَذَلِكَ نَحْوُ قوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ } ثُمَّ قَالَ فِي سِيَاقِ ( خِطَابِ الْآيَةِ ) { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } فَخَصَّ حَالَ الِاضْطِرَارِ مِنْ الْجُمْلَةِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهَا فَصَارَ عُمُومُ اللَّفْظِ مَبْنِيًّا عَلَى الْخُصُوصِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ , وَ ( ذَلِكَ ) نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فَخَصَّ الرِّبَا بِالتَّحْرِيمِ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَلَّهُ مِنْ الْبَيْعِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَلَوْ لَمْ يَخُصَّهُ لَكَانَتْ الْإِبَاحَةُ عَامَّةً فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ رِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ . وَنَحْوُهُ فِي الْإِخْبَارِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } ( فَلَوْلَا التَّخْصِيصُ ) لَعَمَّ سَائِرَهُمْ فَلَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ ( الْخِطَابِ ) { وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } صَارَ أَوَّلُ الْخِطَابِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . فَأَمَّا إذَا وَرَدَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ وَلَمْ يُعْلَمُ تَارِيخُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ ذَكَرَ حُكْمَ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا بِهَذَا الْوَصْفِ فَقَسَّمَهُمَا أَقْسَامًا أَرْبَعَةً فَقَالَ : إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا فَيُسْتَعْمَلَانِ وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ { كَنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرُخْصَتُهُ فِي السَّلَمِ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } أَوْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ( وَالْآخَرُ ) مَنْسُوخٌ . أَوْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ بَعْضُ النَّاسِ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَالْعَامَّةُ تُخَالِفُهُ وَتَعِيبُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ فَالْعَمَلُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَنَعْنِي بِالْعَامَّةِ عَامَّةَ فُقَهَاءِ السَّلَفِ نَحْوُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ } . وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ( أَنَّهُ قَالَ ) { إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ } وَالْأَمْرُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَوَّلِ فِي الْجِنْسَيْنِ . وَقَالَ عِيسَى ( أَيْضًا ) فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمَا , وَاَلَّذِي يَعْمَلُ بِالْآخِرِ شَاذٌّ خَامِلٌ . وَيُسَوِّغُ الْأَوَّلُونَ الِاجْتِهَادَ لِهَؤُلَاءِ وَكَانَ سَبِيلُهُ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُمْ قَدْ سَوَّغُوهُ وَإِنْ عَابُوهُ عَلَيْهِمْ فَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا يُعْمَلُ بِالْآخِرِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا يَدُلُّ ( عَلَى ) أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَعَمَلُ ( بَعْضِ ) النَّاسِ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَالْعَامَّةُ تُخَالِفُهُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ وَاحِدٌ شَاذٌّ لَا ( يُعْتَرَضُ ) بِمِثْلِهِ عَلَى خِلَافِ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ . قَالَ عِيسَى : وَإِنْ وَجَدْنَا النَّاسَ مُخْتَلِفِينَ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ يُدْخِلُ بَعْضُهُمْ الْخَاصَّ فِي الْعَامِّ وَيُخْرِجُهُ بَعْضُهُمْ ( مِنْهُ ) وَسَوَّغَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ( فِيهِ ) كَانَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ ( عِنْدَنَا ) نَاسِخًا لِصَاحِبِهِ فَلَمْ نَعْرِفْ النَّاسِخَ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ , وَاخْتَلَفُوا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ وَسَوَّغَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ . , وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَنْقُضُ الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ لِلنَّاسِ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا ( وَيَعْمَلُوا بِهِمَا ) جَمِيعًا كَمَا عَمِلُوا بِالسَّلَمِ ( وَبِكَرَاهَةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ) قَالَ , وَمِنْ ذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ الْعَصْرِ . وَرُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا يَطُوفُ بِهَذَا الْبَيْتِ يُصَلِّي فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ الْغَدَاةَ فَقَالَ إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا وَجِئْتُمَا فَصَلِّيَا فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ فَقَالَ نَاسٌ : النَّهْيُ نَاسِخٌ لِلْإِبَاحَةِ وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ مَخْصُوصٌ كَالسَّلَمِ وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا وَوَجَدْنَا رُوَاةَ النَّهْيِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَذَكَرَ هُوَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّوَافِ فَلَوْ كَانَ مَخْصُوصًا كَانُوا أَعْلَمَ بِهِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : ( الَّذِي ) حَصَلَ مِنْ قَوْلِ عِيسَى فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إذَا وَرَدَا وَعَرِيَا مِنْ دَلَالَةِ النَّسْخِ أَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ جَمِيعًا عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَنَّهُ إنْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ النَّسْخِ لَكَانَ بَابُهُمَا التَّرْتِيبَ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَلَمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ , وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ اتِّفَاقَ السَّلَفِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ . فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ اتِّفَاقُهُمْ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ الْقَضَاءِ بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ فَهُوَ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ وَإِنْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا إلَّا وَاحِدًا شَذَّ عَنْهُمْ وَعَابُوا عَلَى الْوَاحِدِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ عَلَى مَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ قَوْلِهِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ الشَّاذُّ خِلَافًا عَلَى الْجُمْهُورِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ , وَإِنَّ شَرْطَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَهُ اتِّفَاقُ مِثْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَأَنَّ مَنْ انْفَرَدَ عَنْهُمْ كَانَ شَاذًّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْوَاحِدَ , وَ ( لَا ) الِاثْنَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ خِلَافًا عَلَى عُظْمِ الْفُقَهَاءِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِخِلَافِ هَذَا الْوَاحِدِ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ الَّتِي لَا أَثَرَ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ اجْتِمَاعَ الْجُمْهُورِ عَلَى حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَإِظْهَارِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ مُقَوِّيًا لِخَبَرِهِمْ وَدَالًّا عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا نَسْخَ الْخَبَرِ الْآخَرِ بِخَبَرِهِمْ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ لَهُمْ النَّكِيرُ عَلَى مُخَالِفِهِمْ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ فَدَلَّ إظْهَارُهُمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ شَذَّ عَنْهُمْ فِي مُخَالَفَتِهِمْ وَفِي اعْتِصَامِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي صَارَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا نَسْخَهُ بِمَا عَلِمُوا مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ , ( وَ ) لِأَنَّ مَا عَمِلُوا بِهِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَنْسُوخَ لَكَانُوا هُمْ أَوْلَى بِعِلْمِهِ مِنْ الْمُنْفَرِدِ الشَّاذِّ . فَجَعَلَ مَا وَصَفْنَا دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا اتَّفَقَتْ ( عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ ) وَهُوَ النَّاسِخُ وَأَنَّ الْآخَرَ مَنْسُوخٌ بِهِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدِي وَأَوْلَاهُمَا بِمُرَادِهِ فِيمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إنَّمَا جَعَلَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ ( أَوْلَى ) لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ لِمَا اخْتَلَفَ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ حُكْمُ ذَلِكَ الْمُنْفَرِدِ فِي حَالِ ظُهُورِ النَّكِيرِ مِنْ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ أَوْ تَرَكَهُ النَّكِيرُ عَلَيْهِ , لِأَنَّ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ظُهُورِ النَّكِيرِ عَلَيْهِ مِمَّنْ خَالَفَ ( عَلَيْهِ ) أَوْ تَرَكَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ . , وَقَدْ سَوَّغَ عِيسَى ( بْنُ أَبَانَ ) اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ وَالْمَصِيرُ إلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ الشَّاذِّ دُونَ الْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ تَعِبْ الْجَمَاعَةُ عَلَى الْوَاحِدِ مَا ذَهَبَ ( إلَيْهِ ) مِنْ ذَلِكَ . فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ حُكْمُ الْوَاحِدِ الْمُنْفَرِدِ إذَا ظَهَرَ نَكِيرُ الْجَمَاعَةِ ( عَلَيْهِ فِي مُخَالَفَتِهِ إيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَعُدَّهُ خِلَافًا وَأَنَّهُ إنَّمَا اُعْتُبِرَ مَا صَارَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ ) مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ عِنْدَهُمْ وَمِنْ أَجْلِهِ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ . , وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ لَا يَجُوزُ ظُهُورُ النَّكِيرِ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ فَإِذَا وَجَدْنَا النَّكِيرَ ظَاهِرًا مِنْ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَمْ يَلْجَئُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إلَّا إلَى الْخَبَرِ الَّذِي اعْتَصَمُوا بِهِ . وَقَدْ سَمِعُوا مَعَ ذَلِكَ خَبَرَ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ هُوَ النَّاسِخَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ , فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ التَّوَاتُرِ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى التَّوَاتُرِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ . قِيلَ لَهُ لَمْ يَذْكُرْ عِيسَى أَنَّ الْوَاحِدَ أَنْكَرَ عَلَى الْجَمَاعَةِ مَصِيرَهَا إلَى الْخَبَرِ الَّذِي رَوَتْهُ كَمَا ذَكَرَ إنْكَارَ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ وَلَا يَدْرِي مَا جَوَابُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّا نَلْتَزِمُهُ مَعَ ذَلِكَ وَنَقُولُ : إنَّهُ لَوْ ظَهَرَ ( مَعَ ذَلِكَ ) فِي النَّكِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسِخَ سَبِيلُهُ أَنْ يَظْهَرَ كَظُهُورِ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ فَلَوْ كَانَ مَا صَارَ إلَيْهِ الْوَاحِدُ هُوَ النَّاسِخَ لَظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْجَمَاعَةِ كَظُهُورِ الْأَصْلِ وَلَعَرَفَتْهُ وَمَا خَفِيَ عَلَيْهَا . فَلَمَّا لَمْ تَعْرِفْ الْجَمَاعَةُ ذَلِكَ نَاسِخًا وَعَرَفَتْ ( مَا صَارَتْ إلَيْهِ ) مِنْهُمَا نَاسِخًا كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ , وَلَيْسَ يُمْنَعُ أَنْ يَخْفَى حُكْمُ النَّسْخِ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَيَتَمَسَّكُ مِنْ أَجْلِ خَفَائِهِ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَهُ بَدْءًا لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذَا نَسَخَ حُكْمًا قَدْ حَكَمَ بِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ فِي عَيْنِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إظْهَارُهُ فِي الْجَمَاعَةِ . وَإِنْ خَفِيَ بَعْدَ ذَلِكَ حُكْمُهُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَصِيرَا فِيهِ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ وَأَيْضًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّسْخِ كَانَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَصِيرُوا بِمَنْزِلَةِ الْجَمَاعَةِ إذَا رَوَتْ النَّسْخَ وَخَالَفَهُمْ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ ( فَتَصِيرُ رِوَايَةُ ) الْجَمَاعَةِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ الْمُنْفَرِدِ فَبَانَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ مَا صَارَ إلَيْهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ . , وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فَقَضَى ( بَعْضُهُمْ ) بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَقَضَى بَعْضُهُمْ فِيهِمَا بِالتَّرْتِيبِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ بَعْضِهِمْ النَّكِيرُ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا صَارُوا إلَيْهِ . فَإِنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْأُصُولِ عَلَى مَا يَجِبُ مِنْ حُكْمِهِمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ كَانَ قَاضِيًا عَلَيْهِ ( وَ ) نَاسِخًا لَهُ وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا وَاحْتَمَلَ فِيمَا وَصَفْنَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ وَارِدًا بَعْدَ الْعَامِّ فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ , وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا وَرَدَا مَعًا فَيَجِبُ التَّرْتِيبُ أَيْضًا , وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ فَيَكُونُ نَاسِخًا ( لَهُ ) لَمْ يَجُزْ لَنَا الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ هَذِهِ الْوُجُوهُ دُونَ الْآخَرِ لِاحْتِمَالِهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا , فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا وَلَيْسَ بَعْضُ الْمَعَانِي لِلَّذِي يَحْتَمِلُ بِأَوْلَى ( بِهِ ) مِنْ بَعْضٍ فَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ غَيْرِهِ وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ وُرُودَ الْعَامِّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ يُوجِبُ نَسْخَهُ , فَمَنْ سَلَّمَ هَذَا الْأَصْلَ ثُمَّ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنِّي أُرَتِّبُ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مَعَ عَدَمِ التَّارِيخِ وَوُجُودِ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَتَسْوِيغِهِمْ الِاجْتِهَادَ فِيهِ بِتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مُخَالِفِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ يَرْجِعُ إلَيْهَا فِي إيجَابِ التَّرْتِيبِ كَانَ مُتَعَسِّفًا قَائِلًا لِمَا لَا دَلِيلَ لَهُ عَلَيْهِ . , وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْخِلَافَ إذَا حَصَلَ بَيْنَ السَّلَفِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي التَّرْتِيبِ وَالنَّسْخِ عَلَى مَا وَصَفْنَا صَارَ حُكْمُ اللَّفْظِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي يُحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهَا إلَى رَدِّهَا إلَى الْأُصُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِهَا عَلَيْهِ , فَلِذَلِكَ لَمْ نُجِزْ الْإِقْدَامَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِشْهَادِ بِالْأُصُولِ فَمَا شَهِدَ لَهُ ( الْأُصُولُ ) مِنْهُمَا كَانَ أَوْلَى بِالِاسْتِعْمَالِ وَهُوَ النَّاسِخُ وَالْآخَرُ مَنْسُوخٌ ( بِهِ ) . , وَأَيْضًا ( لَمَّا لَمْ ) نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا صَارَا كَالْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِمَا فَيَكُونُ سَبِيلُهُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا بِالنَّظَائِرِ وَالْأُصُولِ . فَإِنْ قِيلَ قَدْ عُلِمَ ثُبُوتُ الْخَاصِّ فِي وَقْتٍ وَثُبُوتُ الْعَامِّ أَيْضًا , وَاسْتِعْمَالهمَا مُمْكِنٌ فَلَا نَرْفَعُ مَا تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُ بِالشَّكِّ . قِيلَ لَهُ : إنَّا وَإِنْ كُنَّا ( قَدْ ) تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُمَا فَلَمْ نَتَيَقَّنْ بَقَاءَهُمَا لِأَنَّ الْعَامَّ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْخَاصِّ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ عِنْدَنَا . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا يَقِينٌ بِبَقَاءِ حُكْمِ الْخَاصِّ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِالشَّكِّ وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الدَّلَائِلِ فِي بَقَاءِ حُكْمِهِ أَوْ نَفْيِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا احْتَمَلَ الْعَامُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخَاصِّ وَلَمْ يَحْتَمِلْ الْخَاصُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَامِّ صَارَ الْعَامُّ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ ( الْمُحْتَمِلِ لِلْمَعَانِي فَحُمِلَ ) عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا يُحْمَلُ الْمُتَشَابِهُ عَلَى الْمُحْكَمِ . قِيلَ لَهُ : مَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُ مِنْ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْخَاصَّ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ( مَنْسُوخًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لَهُ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ) نَاسِخًا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا . فَلَمَّا كَانَ الِاحْتِمَالُ قَائِمًا فِي كُلِّ ( وَاحِدٍ ) مِنْهُمَا سَقَطَ قَوْلُ الْقَائِلِ إنَّ الْعَامَّ فِيهِ احْتِمَالٌ وَلَا احْتِمَالَ فِي الْخَاصِّ . , وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ رحمه الله ) يَقُولُ إنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّهُ مَتَى اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ الْآخَرِ كَانَ مَا اُتُّفِقَ عَلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ مِنْهُمَا قَاضِيًا عَلَى مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ , وَقَدْ رَأَيْت هَذَا الْمَعْنَى لِعِيسَى ( بْنِ أَبَانَ أَيْضًا ) وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } فَهَذَا خَبَرٌ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي الْخَمْسَةِ الْأَوْسُقِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَكَانَ خَبَرُ إيجَابِ الْعُشْرِ مُطْلَقًا قَاضِيًا عَلَيْهِ نَاسِخًا لَهُ . وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ { النَّهْيِ عَنْ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ } هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْلِ الْمُبْتَدَأِ وَمَا رُوِيَ ( عَنْهُ صلى الله عليه وسلم ) { أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ عِنْدَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ } { وَأَنَّهُ رَأَى قَيْسًا يُصَلِّي صَلَاةً بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ } . { وَقَالَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ الْفَجْرَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا الْمَسْجِدَ فَصَلِّيَا مَعَ الْإِمَامِ } كُلُّ هَذِهِ أَخْبَارٌ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ قَاضِيًا عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ { نَهْيُهُ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . , وَحَدِيثُ أَبِي ( ذَرٍّ ) { إلَّا بِمَكَّةَ } مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَانَ خَبَرُ النَّهْيِ أَوْلَى , وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي " قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا " وَسَائِرُ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي حَظْرِ الْكَلَامِ فِيهَا فَهِيَ قَاضِيَةٌ عَلَى خَبَرِ جَوَازِ الْبِنَاءِ مَعَ الْكَلَامِ لِأَنَّ خَبَرَ حَظْرِ الْكَلَامِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَالْبِنَاءُ بَعْدَ الْكَلَامِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ نَاسِخًا لِسَائِرِ مَا رُوِيَ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ مَعَ الْكَلَامِ , وَمِثْلُهُ { نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } , وَ { نَهْيُهُ عَنْ الْمُزَابَنَةِ } . فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا , وَخَبَرَا الْعَرَايَا وَالْخَرْصِ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا فَكَانَ النَّهْيُ قَاضِيًا عَلَى الْإِبَاحَةِ . وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ . , وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ يَجْرِي مَجْرَى التَّوَاتُرِ عِنْدَنَا وَيُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ , وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي نَسْخِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ , عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ امْتِنَاعِ جَوَازِ الِاعْتِرَاضِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ . , وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ الْخَاصُّ ثَابِتًا كَثُبُوتِ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَعْرِفَهُ الْجَمِيعُ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ النَّاسِخَ كَمَا بَيَّنَ الْمَنْسُوخَ قَبْلَ وُرُودِ نَسْخِهِ , فَسَبِيلُهُ أَنْ يَعْرِفَهُ عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ فَلَمَّا وَجَدْنَاهُمْ قَدْ عَرَفُوا الْعَامَّ ( وَاسْتَعْمَلُوهُ وَلَمْ يَعْرِفْ الْجَمِيعُ بَقَاءَ حُكْمِ الْخَاصِّ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ ) عَلِمْنَا أَنَّ الْعَامَّ نَاسِخٌ لَهُ ( وَ ) قَاضٍ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي التَّخْصِيصِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجْهُهُ النَّسْخَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ التَّخْصِيصِ إذَا كَانَ الْعَامُّ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ مَنْ عَرَفَ الْعَامَّ . فَإِنْ قِيلَ : فَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْرِفَ الْجَمِيعُ الْخَاصَّ وَنَسْخَهُ كَمَا عَرَفُوا الْعَامَّ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ( نَسْخُ ) الْخَاصِّ عِنْدَ الْجَمِيعِ كَثُبُوتِ الْعَامِّ . عَلِمْنَا أَنَّ الْخَاصَّ غَيْرُ مَنْسُوخٍ . قِيلَ لَهُ : لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْرِفُوا الْمَنْسُوخَ وَمَا قَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ وَلَا عَلَيْهِمْ نَقْلُهُ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنَسْخِهِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ مَنْسُوخًا وَلَا تَنْقُلُهُ الْكَافَّةُ وَيَخْفَى عَلَى بَعْضِهِمْ نَسْخُهُ فَيَتَعَلَّقَ بِهِ , وَنَقْلُهُمْ لِلْعَامِّ وَاسْتِعْمَالُهُمْ إيَّاهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ الْحُكْمُ , وَأَنَّ الْخَاصَّ مَنْسُوخٌ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا لَنَا إنَّهُ مَنْسُوخٌ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ رحمه الله : ( وَ ) ذَكَرَ عِيسَى ( بْنُ أَبَانَ ) مَا قَدَّمْنَا حِكَايَتَهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ إذَا وَرَدَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ إذَا كَانَتْ إحْدَاهُمَا خَاصَّةً وَالْأُخْرَى عَامَّةً إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي بَيَّنَّا . بَابُ الْقَوْلِ فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ ( وَجْهٍ آخَرَ )
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْأَصْلُ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَنُخْبِرُ عَنْ سَبَبِهِ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ غَيْرَ مُخَصَّصٍ لِصَاحِبِهِ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ , إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ فِيهِمَا ( عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ) فَيُصَارُ إلَيْهَا , وَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا } فَهَذَا وَارِدٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَوْقَاتِ وَرُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } . وَهَذَا وَارِدٌ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى تَارِكِهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ , فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى خَبَرِ بَيَانِ حُكْمِ الْأَوْقَاتِ . , وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ عليه السلام مِنْ قَوْلِهِ { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا طَائِفًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَنْعِ الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ , وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ } فَهَذَا أَمْرٌ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي ( يَجُوزُ فِيهِ أَوْ لَا يَجُوزُ , وَخَبَرُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي ) لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ , وَنَحْوُهُ قوله تعالى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وقوله تعالى { وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } وقوله تعالى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } هَذِهِ الْآيَاتُ وَارِدَةٌ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ تَفْصِيلِ الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا . , وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ } فَلَمْ يَعْتَرِضْ الْأَمْرُ بِفِعْلِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُطْلَقًا عَلَى حُكْمِ الْوَقْتِ بَلْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الصِّيَامِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ جَارِيًا عَلَى بَابِهِ وَمَحْمُولًا عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ , وَالْأَمْرُ بِوُجُوبِ صِيَامِ رَمَضَانَ وَصَوْمِ الْحَجِّ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ مَحْمُولًا عَلَى بَابِهِ فِي إيجَابِ الصَّوْمِ , وَنَحْوُ قوله تعالى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } فِيهِ بَيَانُ حَظْرِ الْجَمْعِ وَهُوَ عُمُومٌ فِي بَابِهِ وقوله تعالى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } لَا نَعْتَرِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي إبَاحَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالسَّبْيِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ ( لِجِهَةِ الْجَمْعِ ) فَلَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَيْهِ وَلَوْلَا اجْتِمَاعُ الْخَبَرَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ الْآخَرِ إجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَا انْتَظَمَهُ ظَاهِرُهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ بِإِزَائِهِ خَبَرٌ هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ فِي بَابِهِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِدًا عَلَى وَجْهٍ وَسَبَبٍ غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْآخَرُ أَجْرَيْنَا كُلًّا مِنْهُمَا وَحَمَلْنَاهُ عَلَى سَبَبِهِ .