أحمد شوقي - عرابي وما جنى

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة

هذه هي ثاني قصائد أحمد شوقي في هجاء أحمد عرابي. وقد نُشرت القصيدة في اللواء في العدد 600 بتاريخ 19 سبتمبر 1901 بعنوان "عرابي وما جنى"، وأيضاً بدون توقيع، وتبين أنها لشوقي، إذ نشرت جريدة اللواء من أحد مراسليها في السويس يصف فيها وصول عرابي، واتهانة الناس به، وعلقت اللواء على المقال بقولها: "هذا ما كتب به إلينا ذلك الكاتب الثائر ... ولئن أثارت عودة عرابي خواطر الكتاب فقد أثارت عواطف الشعراء ... ومن ذلك قصيدةٌ فريدةٌ في بابها جادت بها قريحة أبلغ الشعراء، وأشدهم إصابة للمقاتل بِسِنِّ يَراعه، رمى بها اليوم عن قوس اللواء في تلك الكبد الغليظة، وما من كلمة فيها إلا وهي سهم مسموم، لو أصاب حجراً صلداً لصدعه، وفيها من جد بالقول، وهزل المقول فيه، ما كشف الحجاب عن سخافة هذا وفساد أوهامه وترهاته وجهله وجبنه وما فيه من خلال أخرجته عن طور الرجال، وحعلته أضحوكة الأطفال."

والقصيدة هجاء لعرابي، تهكم به، واستهزاء بمن تابعوه، وسخرية من نسبه إلى الحسين بن علي، ولوم له لأنه لم يمت في ميدان القتال، ورضي أن يُحاكَم، وقبل تخفيف الحكم عليه من الإعدام إلى النفي. وفيها حملة عليه لأنه ودَّ أن يقابل ملك الإنجليز.

وهي من بحر البسيط: مستفعلن فاعلن مستفعلن ...


عرابي وما جنى

أهلا وسهلا بحامــيها وفاديــها *** ومرحبـا وسلامــا يا عرابيهــا

وبالكرامة يا من راح يفضحها *** ومقدم الخـير يا من جاء يخـزيـهـا

وعد لها حين لا تـُغـْني مدافعها *** عن الزعيم ولاتجدي طوابيها

وارجع إليها فيالله فاتحها *** يوم الإياب ويالله غازيها

وانزل على الطائر الميمون ساحـَتـَها *** واجلس على تلها وانعق بواديها1

وبـِض لها بيضةً للنسر كافِلةً *** إن الدجاج عقيمٌ في نواحيهــا

واظْلِمْ صحيحَ البخاري كُلَّ آيَتِهِ *** ونَمْ عن الحرب واقرأ في لياليها2

واخرج القوم من مصر بخارقةِ *** تفوق "فاشودة" فيها وتنسيها3

من العجائب صاروا مِن أحِبـَّتها *** فيما زَعَمـْتَ وصاروا من أعاديها

كأن ما كان من حرْب ٍومن حَرَب ٍ *** عَتـْبُ المودةِ لا يودي بصافيها4

وضَعْ عِمامتك الخضراء من شرفٍ *** يَعرِفْك كلُّ جهول من أهاليها5

وقُصَّ رؤياك مكذوباً بمضحكها *** على البنين، ومكذوباً بمبكيها

فلست تـَعْدَمُ عُمياً من أكابـِرِها *** ولَسْتَ تـَعْدم بُكماً من أعاليها

ولَسْتَ تَعْدم في الأجواء ذا سَفـَهٍ *** يُحْصي الديون التي تَشـْكو ويَقـْضيها

قل للملك "إدورد" أصبت غِنىً *** عن الهنود وإرلندا وما فيها

هذا عرابي تمنى أن تقابلهُ *** وأن يَنالَ يَداً جَلَّت أياديها6

فَمُرَّ بإنكلترا تُزجي فيالِقَها *** وبالأساطيل تَدْوي في موانيها

ومُرَّ بلندرةٍ تبدو بزينتها *** وتنجلي للبرايا في مَجاليها

فأين "روبرس" منه إذ يُتَمِّمُها *** وأين "سيمور" منه إذ يوافيها؟

هذا الذي يعرف الإفرنج صولتهُ *** والبَرُّ يعلمها والبحر يَدريها؟

وسله بالله إن صافحت راحته *** ما نفسُهُ؟ ما مناها؟ ما مساعيها؟

وأين أيْمانُهُ اللاتي أشادَ بها *** ألا يُحَكَّم فيها غيْرَ أهليها

وأن يموت عزيزاً دون أرْبُعِها *** ولا يعيش ذليلاً في مغانيها

وقل لنا بلسان النيل تُوجعُهُ *** والنفس إن صَغُرَت لا شَيءَ يُؤذيها

تلك العظام بلا قبرٍ ولا كفن ٍ *** لولاك لم يَبْلَ في العشرينَ باليها7

فَاقْرَ السلام عليها حين تَنْدُبها *** وأمِّلِ العفوَ منها حين تَبكيها

وناجها مرة في العمر واحِدَةً *** لو كان سهلاً عليها أن تناجيها

اوردتها الموت لم تَبْلُغ بهِ شرفاً *** ولا توخيتَ بالأوطانِ تَنويها

يا بن الحسينِ، حُسينٌ ماتَ من ظمأ *** وأنت محتـَفِلٌ بالنفس تـُرويها

أبوة المصطفى ما زال يلبسها *** حرٌ قشيبُ ثياب العز ضافيها

حتى تنازعها في مصر صِبْيتُها *** دَعوى، وحتى تَرَدَّتها غوانيها

وأصبحت لجبان القوم مَنـْقَبة *** وزينةً لجهولِ القوم يُبديها

زعمت أنك أولى من أعِزتهـا *** بها، وأحنى عليها من مواليها

وكنتَ تطربُ إذ تتلى مَدائحـُها *** فأين دمعك إذ تُتلى مراثيها؟


هامش

(1) - انعق: صوره في صورة البومة، وهي مما يتشاءم الناس به، وتغشى الأماكن الخربة.

(2) - صحيح البخاري: أحد كتب السنة النبوية المعتمدة. يشير إلى أن عرابي ومن معه انهمكوا في قراءة البخاري ليلة المعركة يودّون كسبها بتلك القراءة. وتلك عادة مملوكية.

(3) - فاشودة: مدينة سودانية على النيل الأبيض تدعى الآن "كودوك"، كانت مسرحاً للتنافس بين فرنسا وإنجلترة في السيطرة على بلاد السودان والساحل. فقد دخل ج.ب. مارشان الفرنسي جنوب السودان، يقود حملة من الجنود السنغاليين، واستولى على "فاشودة" في يوليو 1898، فسارع كتشنر سِردار الجيش المصري في السودان لرده، وكادت تنشب الحرب بين الدولتين لولا أن سويت المشكلة لقضل الجهود البلوماسية، وانسحب مارشان، وتخلت فرنسا عن دعاواها في أعالي النيل.

(4) - الحرَب: الويل والهلاك.

(5) - عمامتك الخضراء: يشير إلى انتسابه إلى الحسين بن علي.

(6) - إشارة إلى ما ذكره مراسل اللواء بالسويس في العدد 601 أن عرابي حدَّثه بأن ولي عهد إنجلترة كتب من كندا كتاباً يطلب فيه منه ألا يبرح سيلان حتى يقابله. فأجابه عرابي بأنه لا يقدر أن يقابل أهل الشرف بغير شرفٍ.

(7) - فوجئ الجيش المصري في معركة التل الكبير فقُتل منه عشرة آلاف مصري.