أحلام الفارس القديم

من معرفة المصادر

أحلام الفارس القديم، قصيدة للشاعر المصري صلاح عبد الصبور.

لو أننا كنّا كغُصنيْ شجره

الشمسُ أرضعتْ عروقَنا معا

والفجرُ روّانا ندىً معا

ثم اصطبغنا خضرةً مزدهره

حين استطلنا فاعتنقنا أذرُعا

وفي الربيع نكتسي ثيابَنا الملوّنه

وفي الخريف، نخلعُ الثيابَ، نعرى بدَنَا

ونستحمُّ في الشتا، يدفئنا حُنوُّنا!

لو أننا كنا بشطّ البحر موجتينْ

صُفِّيتا من الرمال والمحارْ

تُوّجتا سبيكةً من النهار والزبدْ

أَسلمتا العِنانَ للتيّارْ

يدفعُنا من مهدنا للحْدِنا معا

في مشيةٍ راقصةٍ مدندنه

تشربُنا سحابةٌ رقيقه

تذوب تحت ثغر شمسٍ حلوة رفيقه

ثم نعودُ موجتين توأمينْ

أسلمتا العنان للتيّارْ

في دورة إلى الأبدْ

من البحار للسماءْ

من السماء للبحارْ !

لو أننا كنا بخَيْمتين جارتينْ

من شرفةٍ واحدةٍ مطلعُنا

في غيمةٍ واحدةٍ مضجعُنا

نضيء للعشّاق وحدهم وللمسافرينْ

نحو ديارِ العشقِ والمحبّه

وللحزانى الساهرين الحافظين مَوثقَ

الأحبّه

وحين يأفلُ الزمانُ يا حبيبتي

يدركُنا الأفولْ

وينطفي غرامُنا الطويل بانطفائنا

يبعثنا الإلهُ في مسارب الجِنان دُرّتينْ

بين حصىً كثيرْ

وقد يرانا مَلَكٌ إذ يعبر السبيلْ

فينحني، حين نشدّ عينَهُ إلى صفائنا

يلقطنا، يمسحنا في ريشه، يعجبُه بريقُنا

يرشقنا في المفرق الطهورْ !

لو أننا كنّا جناحيْ نورسٍ رقيقْ

وناعمٍ، لا يبرحُ المضيقْ

مُحلّقٍ على ذؤابات السُّفنْ

يبشّر الملاحَ بالوصولْ

ويوقظ الحنينَ للأحباب والوطنْ

منقاره يقتاتُ بالنسيمْ

ويرتوي من عَرَقِ الغيومْ

وحينما يُجنّ ليلُ البحرِ يطوينا معاً.. معا

ثم ينام فوق قِلْعِ مركبٍ قديمْ

يؤانس البحّارةَ الذين أُرهقوا بغربة الديارْ

ويؤنسون خوفَهُ وحيرتهْ

بالشدوِ والأشعارْ

والنفخ في المزمارْ !

لو أننا

لو أننا

لو أننا، وآهِ من قسوةِ «لو»

يا فتنتي، إذا افتتحنا بالـمُنى كلامَنا

لكنّنا..

وآهِ من قسوتها «لكننا»!

لأنها تقول في حروفها الملفوفةِ المشتبكه

بأننا نُنكرُ ما خلّفتِ الأيامُ في نفوسنا

نودُّ لو نخلعهُ

نودُّ لو ننساه

نودّ لو نُعيده لرحمِ الحياه

لكنني يا فتنتي مُجرِّبٌ قعيدْ

على رصيف عالمٍ يموج بالتخليطِ والقِمامه

كونٍ خلا من الوَسامه

أكسبني التعتيمَ والجهامه

حين سقطتُ فوقه في مطلع الصِّبا

قد كنتُ في ما فات من أيّامْ

يا فتنتي محارباً صلباً، وفارساً هُمامْ

من قبل أن تدوس في فؤاديَ الأقدامْ

من قبل أن تجلدني الشموسُ والصقيعْ

لكي تُذلَّ كبريائيَ الرفيعْ

كنتُ أعيش في ربيع خالدٍ، أيَّ ربيعْ

وكنتُ إنْ بكيتُ هزّني البكاءْ

وكنتُ عندما أحسُّ بالرثاءْ

للبؤساء الضعفاءْ

أودُّ لو أطعمتُهم من قلبيَ الوجيعْ

وكنتُ عندما أرى المحيَّرين الضائعينْ

التائهينَ في الظلامْ

أودُّ لو يُحرقني ضياعُهم، أودُّ لو أُضيءْ

وكنتُ إنْ ضحكتُ صافياً، كأنني غديرْ

يفترُّ عن ظلّ النجومِ وجههُ الوضيءْ

ماذا جرى للفارس الهمامْ؟

انخلع القلبُ، وولَّى هارباً بلا زِمامْ

وانكسرتْ قوادمُ الأحلامْ

يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الدمعةِ البريئه!

يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الضحكةِ البريئه!

لكَ السلامْ

لكَ السلامْ

أُعطيكَ ما أعطتنيَ الدنيا من التجريب والمهاره

لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكاره

لا، ليس غيرَ «أنتِ» من يُعيدُني للفارسِ القديمْ

دونَ ثمنْ

دون حسابِ الربحِ والخساره

صافيةً أراكِ يا حبيبتي كأنما كبرتِ خارجَ الزمنْ

وحينما التقينا يا حبيبتي أيقنتُ أننا

مفترقانْ

وأنني سوف أظلُّ واقفاً بلا مكانْ

لو لم يُعدني حبُّكِ الرقيقُ للطهاره

فنعرفُ الحبَّ كغصنيْ شجره

كنجمتين جارتينْ

كموجتين توأمينْ

مثل جناحَيْ نورسٍ رقيقْ

عندئذٍ لا نفترقْ

يضمُّنا معاً طريقْ

يضمّنا معاً طريقْ .