أثر التقاليد العلمانية على تطور النظام السياسى التركى

من معرفة المصادر

أثر التقاليد العلمانية على تطور النظام السياسى التركى، عمر تاشبينار ÖMER TAŞPINAR** مجلة شرق نامه العدد السابع، يناير 2011.


ورثت الجمهورية التركية عن الإمبراطورية العثمانية تقليداً راسخاً يكرس مبدأ مصلحة الدولة الذى يقضى فى كثير من الأحيان بإعلاء هيمنة الدولة على الدين. وفى السياق العثمانى كان ذلك السمو السياسى على الحوزة الدينية ممكناً بفضل إحتواء المؤسسة الدينية الإسلامية داخل جسد الجهاز الإدارى للإمبراطورية. وفى إمتداد ملحوظ للنموذج العثمانى لم تحاول العلمانية فى تركيا أن تفصل بين الدين والدولة، بل قام النظام الجمهورى بممارسة السيطرة الحازمة على المؤسسة الدينية واحتكار الأنشطة الإسلامية واحتواء رموزها داخل المؤسسة البيروقراطية للدولة. وعليه فإن تحليل هذا الإمتداد التاريخى سوف يسهل كثيرا من مهمة فهم العلمانية فى النظام السياسى التركى. وطبقا لرأى خليل إينالشيك المؤرخ المرموق للتاريخ العثمانى فإن تأصيل هذا التقليد من قبل الدولة العثمانية يعود إلى عاملين: أحدهما من وسط آسيا والآخر فارسى . ولتلخيص هذه الفكرة يمكن القول بأن العثمانيين طوروا من خلال جذورهم فى وسط آسيا فكرة أن الدولة تستمر بالحفاظ على ما يطلق عليه "تورو" أو "ياسا"، وهو عبارة عن مجموعة من القوانين توضع مباشرة من قبل الحاكم. وقام السلاطين تنفيذاً لذلك المبدأ بتحديد السلطة السياسية من خلال سلطة التشريع. كذلك ورث أسلافهم من العثمانيين والسلاجقة -من آسيا الصغرى- عن الإمبراطورية الساسانية فى فارس المفهوم السياسى الذى يساوى بين الدولة والسلطة المطلقة للحاكم فى حفظ العدالة، مما جعل درجة عدالة الحكم تعتمد فى النهاية على الصفات الأخلاقية له. كان للدين فى هذا السياق السياسى والإقتصادى دور فى خدمة شرعية سلطة الدولة؛ فعندما اعتنقت معظم القبائل التركية فى آسيا الوسطى الإسلام فى القرن التاسع كان للدين الجديد دور هام فى تثبيت أركان السلطة المركزية. وكان الإسلام الذى يقوم على الكتاب وتفسير الرسالة السماوية مناسباً لعملية الإنتقال من البداوة إلى المراكز السياسية المستقرة. على أن أهم العوامل كان أن الإسلام أوجد وسيلة السيطرة السياسية والإجتماعية ونظام المعتقدات الذى أثبت جدوى أفضل كثيراً من عامل "الشامانية" الساحر والغريب الذى بنيت عليه الممالك الوراثية في تركيا . ولهذا السبب فإن الدول التركية كالسلجوقية ومن بعدها العثمانية، شجعت بقوة الدخول فى الإسلام وبدأت فى الدفاع عن قيمه الأصيلة . ولعب الإطار الروحى والقانونى للإسلام فى ذلك الحين دوراً هاماً فى تدعيم أركان جهاز الدولة القائم على الإملاءات الفوقية. وبعبارة أخرى فإن السلاطين المؤمنين اعتبروا أن الحوزة العثمانية تعدت مرحلة الأسرة لتتحول إلى مؤسسة إسلامية كان لابد أن تحكم بالعدل. ولكن الأسرة التى أسست الإمبراطورية ظلت مترددة إزاء السماح للإسلام بتقرير الحدود السياسية والقانونية لسلطة الدولة. وبالنظر إلى قوة الدين فى تحريك الجماهير، فإنه حتى العلماء من الحراس على الشريعة كانوا محل ريبة الحكام العثمانيين . وبهذه العقلية الحريصة كان رد الفعل العثمانى على التهديدات المحتملة هو وضع المؤسسة الدينية تحت الرقابة البيروقراطية للدولة. وكان السلاطين العثمانيون يعتبرون سلطتهم الرقابية على حراس الأصالة الدينية هى إمتداد طبيعى لسمو الدولة. ولما كانت الرموز الدينية هى همزة الوصل بين الدولة والمجتمع؛ فلم يكن غريباً أن يخضعوا للرقابة المركزية. بل أكثر من ذلك فإن ولاء العلماء للسلطان كان على درجة عالية من الأهمية وذلك لإجهاض أى معارضة إسلامية للحكم السلطانى ولتفادى المواجهات السياسية. ومن خلف هذه الواجهة التسلطية على الدين كان الإطار الأخلاقى المستمد من الإسلام يحمى الرعايا العثمانيين وهو ما قامت بتحديد معالمه وتقنينه الإلتزامات والواجبات الدينية للدولة. عبر شريف ماردين عن هذا المفهوم الدينى بقوله أنه كان يرقى إلى منزلة عقد إجتماعى ضمنى مبنى على مفهوم الحسبة فى الإسلام، أى الحرص على الخير والعدل. وبناءاً عليه فإن مبدأ فعل الخير الذى يحض عليه الإسلام شكل نوعاً من الترتيب الإجتماعى الإقتصادى ضد الظلم وقام بحماية أرواح وممتلكات المواطنين العاديين . وآمن السلاطين بالفعل أن التطبيق السليم للدين يولد نوع من القبول والإنسجام الإجتماعى ولهذا كانوا يحاولون تفادى المواجهة مع العلماء. وفى ذلك الإتجاه كان المركز السياسى واعياً لحقيقة أن الشرعية التى يقف عليها النظام السياسى العثمانى مدينة فى وجودها إلى حد بعيد للإسلام، فالدين فى مثل تلك الظروف يصبح الطريق إلى الحفاظ على الهيمنة السياسية دون إفساد الإنسجام الإجتماعى . اشتملت الصفة المميزة لعلاقة المنافع المتبادلة بين العلماء والدولة على عنصرى التكامل والتبعية؛ فالإسلام العظيم والصحيح ممثلاً فى شيخ الإسلام على رأس هيئة العلماء تم إدماجه فى جهاز الدولة. أما حيوية شيخ الإسلام – تماماً مثل بقية الطبقة الدينية-، فقد كانت منحة من الدولة وكان السلطان هو الذى يحدد مسار حياة شيخ الإسلام فى مراحلها المختلفة. وتبوأ شيخ الإسلام منصب الرئيس الرسمى الأعلى للنظام القضائى وكان عضواً فى المجلس الإمبراطورى، وبالرغم من مركزه الرفيع على سلم وظائف الدولة إلا أنه كان يمكن للسلطان عزله بسهولة –شأنه شأن كافة موظفى الدولة– فى حالة أى نزاع جدى معه. وتعد حادثة شيخ الإسلام الذى حاول فى عام 1702 أن يحصل لنفسه على مركز الوزير الأول مما كلفه حياته، دليلاً واضحاً على صحة ذلك .


وإلى جانب هذه التبعية الفعلية؛ فإن التكامل بين الدولة والدين تم تحقيقه على المستوى القضائى بفضل شبكة واسعة من الوظائف الإدارية والقضائية التى ملأها قضاة محليين تم تدريبهم على أساس من الشريعة. ومن وجهة نظر المؤسسة الدينية، فإن شرعية الدولة كانت تتأتى من قدرتها على حماية المجتمع الإسلامى ولهذا فقد كان تهديد الدولة يعنى بالتعريف حركة ضلال، وفى ذلك الإطار السياسى كان من النادر جداً أن تعارض الطبقة الدينية القوانين العلمانية المتعلقة بالنشاط الإدارى للدولة. وكانت السلطة النهائية والعليا موجودة داخل القصر العثمانى من السلطان نفسه ومسؤولى القصر. وكما يذهب ماردين فإن هيئة العلماء التى تم تعليمها فى المدرسة الدينية كان عليها أن تخوض تجربة التدريب العملى لتخفيف الصدمة التى لاقتها لدى اكتشافها أن حكم الشريعة لم يكن يغطى جميع الحالات المعروضة عليهم، وأن هناك مصلحة عليا للدولة فى العمل بطريقة مستقلة عن القيم الإسلامية . كانت هذه المصلحة العليا للدولة العثمانية امتداداً تاريخياً لما سبق الإشارة إليه من فهم وسط آسيا وتركيا لـــ "الياسا"، التى يعود أصلها إلى ما قبل جنكيز خان وبناء على ذلك كان للسلطان أن يضع قواعد ويسن قوانين بطريقة تعتمد بالكامل على مبادرته وفكره. وهذه القوانين المستقلة عن الشريعة ويطلق عليها القانون، كانت مبنية على العقلانية وليس على المبادىء الدينية ومطبقة بشكل أساسى فى مجالات القانون العام والإدارى والجنائى وكذلك فى مجال المالية العامة للدولة . وكان بعض القانونيين الإسلاميين يعتبرون هذه القوانين التى تصدر فقط بناء على مرسوم سلطانى غير ضرورية حيث أنهم تمسكوا بإمكانية حل كل المشاكل القانونية على أساس من الشريعة. إلا أن مبدأ القانون أصبح راسخاً بقوة فى إقليم الدولة العثمانية، حيث كان أغلب رجال القانون الإسلاميين العاملين فى خدمة الدولة يؤكدون على ضرورة وجود القانون وعلى شرعيته . وبتحقق سمو الدولة على الحوزة الدينية ليس من الصعب تصور أن شيخ الإسلام كان يتفنن فى الممارسة الذهنية لمواءمة القانون داخل الإطار الإسلامى المناسب. وقد سميت هذه القوانين فى مرحلة لاحقة "فرمانات" أو "مراسيم سلطانية"، ومما لا يدعو للدهشة أن هذه الفرمانات كانت تحوى صيغة تنص على مطابقتها للشريعة وللقوانين السابقة عليها، وهذا التكامل للإسلام والدولة فى حكم واحد كان يعبر عنه بالشعار الرسمى الذى يصف الإمبراطورية العثمانية باصطلاح دين ودولة . وكانت الرسالة التى يحملها هذا الإصطلاح هى أن أحدهما لا يقوم إلا بالآخر؛ فالدولة هى تجسيد للدين والدين هو روح الدولة. وبذلك تكون الدولة العثمانية قد حققت المثل الأعلى القرآنى القائل بوحدة الدولة والدين. اكتسب هذا التكامل الوظيفى للسلطة الدينية والسياسية شرعية من بعد أن حصل السلطان سليم (1512 – 1520) على الخلافة وسمح للسلاطين العثمانيين بارتداء عباءة خلافة الرسول محمد. وفى هذا الإطار من وحدة الدولة والدين كان للإسلام الأصولى حيز ضيق لتكوين نوع من المعارضة، ونتيجة لذلك -وعلى العكس مما كان جاريا فى أوروبا الغربية- لم يكن هناك مكافىء عثمانى لعلاقات المواجهة بين الدين والكنيسة. نجح العثمانيون فى خلق دولة قوية كانت السلطة فيها مركزة فى يد السلطان وحاشية صغيرة موالية له بالكامل، وفى جميع الأحوال فإن التأكيد على قيمة الإستقرار والسيطرة المركزية نتج عنه مفهوم سياسى محافظ فى الأساس بحيث كان أى تغيير فى النظام الإجتماعى أو الإقتصادى يتبعه عواقب سلبية. كانت الدولة تهدف إلى السيطرة على كل قطاعات المجتمع، ولم تترك مجالا لتحديات إجتماعية أو إقتصادية قد تخل بمركزها الحاكم. ومالت التركيبات الإجتماعية والإقتصادية إلى البقاء فى حالة خمود لأنه لم يسمح لأى قطاع فى المجتمع – سواء زراعى أو تجارى- بأن يحوز القوة الكافية تسمح له بتحدى النظام السياسى. وفى هذه الظروف لا يمكن إلا لعوامل خارجية أن تفرض تحدياً جدياً على الإستقرار العثمانى، وظهر ذلك فى القرن السادس عشر حينما وقعت ثورة الأسعار بسبب تدفق الذهب والفضة من العالم الجديد إلى حوض البحر المتوسط . وإزداد الوضع الإقتصادى سوءاً عندما ثبت أن الدولة العثمانية غير قادرة على المنافسة مع الطرق الجديدة للتجارة وأصبح الإقتصاد العالمى متركزاً -بطريقة متزايدة- فى غرب أوروبا. أخفق العثمانيون فى إنشاء عملة مستقرة للإمبراطورية بعد أن تم تخفيض قيمة عملاتهم المعدنية، كما أخفقوا فى الحفاظ على نظام ضريبى يضمن لهم النصيب الأكبر من فائض المناطق الريفية . وبدءا من أواخر القرن السابع عشر وعقب سلسلة من الهزائم العسكرية فى أوروبا، كان تفوق الغرب عسكرياً فى الأساليب وفى التنظيم مما لا يمكن إنكاره.

أثر التدهور العثمانى وجهود التحديث على تركيا المعاصرة كان التفوق الأوروبى عسكرياً مبرراً مشروعاً لإطلاق محاولات محاكاة المنجزات الغربية، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية تواجه تحديات داخلية وخارجية متصاعدة، مما أدى بها إلى تبنى برامج للإصلاح تركز بالذات على الجانب العسكرى. ولم تقض هذه الإصلاحات فقط بشراء أسلحة أوروبية، ولكن أيضاً بتبنى العلوم الأوروبية وطرق تعليمها، وهو ما فتح الطريق أمام طرق جديدة من التفكير من الصعب فهمها على أساس إسلامى. ولما إمتدت جهود التحديث العثمانى إلى مجالى الإدارة والحياة الثقافية شقت الأكاديميات ذات الطابع الغربى طريقها لتأخذ مكانها إلى جانب الأكاديميات العسكرية التى كانت أسبق منها فى الوجود. ونتج عن ذلك زيادة حدة البون الذى يفصل بين النخب الدينية والنخب السياسية، حيث كان لكل منهما رؤيته المختلفة للعالم وهو ما أثار حفيظة هيئة العلماء حيث مهدت تلك التطورات الطريق لمفهوم ضمنى يقول بأن الإسلام هو من قوى الرجعية . لا يمكن فى الواقع فهم السهولة التى أعلنت بها الإصلاحات القانونية والتعليمية والإدارية فى فترة التنظيمات (1839 – 1876) إلا من خلال السياق الأيديولوجى للمصلحة العليا للدولة. اشتملت هذه التنظيمات على تحول تدريجى إلى العلمانية فى مجالات الإدارة والقضاء والمؤسسات التعليمية، وهو ما أفضى إلى إضعاف مركز هيئة العلماء ومكانتها الإجتماعية. ومن خلال عملية إبعاد هذه الهيئة بطريقة مطردة عن مراكز صناعة القرار بلغ بها الأمر، بحلول النصف الثانى من القرن التاسع عشر، إلى حرمانها من الدور المركزى الذى كانت تقوم به فى مجالات القضاء والتعليم. كان الغرض الأساسى من عمل هذه التنظيمات هو إستعادة سلطة الدولة المركزية، وكان من الأهداف الهامة لها كبح عملية التحول إلى الإقطاع التى بدأت فى القرن السابع عشر؛ فمن خلال عملية إنفاذ التنظيمات المركزية كان مسؤولو الدولة من الإتجاه التحديثى مسلحين بسلطة توقيع العقوبات، فاستطاعوا التخلص من القوى الخارجة عن السلطة المركزية والتى تكونت خلال القرنين السابقين. وتضمنت هذه الإجراءات بصفة رئيسية الأمور التالية: 1. إعادة المركزية إلى نظام جمع الضرائب وذلك بتحجيم سلطة الأعيان، وهم الأغنياء من جامعى الضرائب والذين كانوا قد تحولوا إلى صورة خطيرة من الطبقة الإقطاعية فى البلقان والأناضول. 2. إلغاء الإعفاءات الضريبية لهيئة العلماء ولعوائد أوقافهم. 3. حل جهاز الإنكشارية لما سببه من مشاكل. أمكن تقوية السلطة المركزية بفضل جهاز متطور للمراقبة والقهر والتأصيل الفكرى والسيطرة ، ويوحى توقيت إصدار التنظيمات الرسمية بأهمية عامل الضغط الديبلوماسى الأوروبى كمحفز على تنفيذ هذه الإصلاحات الإدارية والقانونية. صدرت أول مجموعة مراسيم عام 1838 مباشرة عقب نجاة الإمبراطورية من التحدي العسكرى من جانب محمد على، وهى التى لم تكن ممكنة إلا من خلال الدعم الخارجى. وصدرت المراسيم الإصلاحية فى المرة الثانية عند اندلاع حرب القرم عام 1856 فى ظروف بدت كأنها فرصة مواتية للإمبراطورية العثمانية للقبول بها كقوة أوروبية. وفى هاتين المناسبتين اهتمت الإدارة العثمانية بصفة خاصة بالإعلان عن مساواة الأقليات المسيحية بالمسلمين أمام القانون العثمانى . وبهذه النظرة يمكن اعتبار أن تلك التنظيمات الإصلاحية هى خطوة إضافية فى إتجاه العلمانية فيما يتعلق بمعاملة غير المسلمين، فعلى سبيل المثال من بين عديد من الإصلاحات الإدارية والقانونية أعلن المرسوم الإمبراطورى لعام 1839 عن مساواة جميع رعايا الدولة أمام القانون وذلك لأول مرة فى التاريخ العثمانى. ثم صدر قانون عقوبات جديد فى عام 1840 ثم مرسوم شاهانى فى عام 1856 يؤكدان على نفس هذه النقطة ، وهو مايعنى عملياً أن أساس قبول المسيحيين واليهود والمسلمين جميعا إلى المدارس والوظائف الإدارية كان واحداً. وفى نفس الوقت فإن الضريبة الخاصة بغير المسلمين –الجزية– كان قد تم إلغاؤها، وهو ما أدى إلى خضوع غير المسلمين للخدمة العسكرية ولكن كان لهم الخيار لدفع ضريبة كبدل لإعفاءهم منها. كان الحجم المتزايد من اللوائح والقواعد بطبيعته علمانياً ووقع فى القلب من هذا التغيير التحول فى طبيعة عمل القائمين على العمل الإدارى من القاضى التقليدى إلى الموظف الإدارى. وبالتدريج نشأ نظام من المحاكم العلمانية المختصة بالقضايا التى تنجم عن تطبيق الحفنة الجديدة من التنظيمات، ولهذا أضحى القانون الدينى جزءا من القانون الخاص الذى تطبقه المحاكم الشرعية ويتعامل فى الأساس مع الأحوال الشخصية كالزواج والميراث . تمثلت الصفة العملية للبيروقراطية العثمانية فى عام 1870 بدعمها لهذه النظرة الإيجابية للأمور ، بيد أن المقاومة الإسلامية لذلك كانت مستمرة حيث دفع رجال الدين من ذوى النفوذ بأنه ليس من سلطة الدولة أن تنشىء مؤسسات إجتماعية تقوم على إنكار الدور الرائد للإسلام. وداخل صفوف مماثلة لذلك ولكن أعمق فكراً كانت هناك مجموعة من العثمانيين المثقفين، نافذة إلى ثقافة وتاريخ الغرب، تعارض الإتجاه الإصلاحى الأوتوقراطى لرجال الدولة من واضعى التنظيمات وكانت وجهة نظرهم التى تبنتها حركة شباب العثمانيين السياسية هى أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة التى تحميه من الإنحلال، وأن العثمانيين أهملوا البعد الدينى الهام جداً فى الثقافة لدى محاكاتهم الغرب بطريقة سطحية . بدأت حركة العثمانيين الشباب فى نشر أفكارها فى ستينات القرن التاسع عشر، وكانت تتميز بأيديولوجية الصفوة وتكونت فى الأساس من شباب موظفى قسم الترجمة فى وزارة الشئون الخارجية من الكتاب والصحفيين المتأثرين بالقومية الرومانسية الغربية، وآخرين من الصفوة المتعاطفة مع إصلاحات ذات روح إسلامية. وإلى جانب خلافاتهم الأيديولوجية كان العثمانيون الشباب متفقين على على مبادىء تشمل الدستورية والحاجة إلى تحديث الجهاز الحكومى مع الحفاظ على الإسلام كعنصر مركزى للنسيج الإجتماعى. وبذلك فلا غرو أنهم كانوا من أشد المؤيدين لنشر أول دستور فى التاريخ العثمانى يصدر تحت حكم السلطان الجديد عبد الحميد الثانى (1876 – 1908). وفى المقابل لم يكن السلطان عبد الحميد من المتعاطفين مع شباب العثمانيين ولا مع النظام البرلمانى الذى كانوا يعضدونه؛ بل كان فى جوهره على العكس من ذلك سلطاناً لا يريد أن يتقاسم السلطة فى إطار من الملكية الدستورية حتى أنه بعد وقت قصير من إعلان الدستور ولدى قيام حرب جديدة مع روسيا وجد فى ذلك عذراً مناسباً لوقف العمل بالدستور . كان عبد الحميد الثانى على الأغلب أول سلطان عثمانى يتفهم بدقة طبيعة خطر القومية على تلاحم الإمبراطورية، فقد ساقته الحركات الإنفصالية على أساس عرقى –مثله مثل عديد من شباب العثمانيين- إلى رؤية مستقبل الإمبراطورية كامناً فى مزيد من تلاحم المجتمع العثمانى. وكان عبد الحميد مدركا بشدة للنماذج الصاعدة فى الروح الوطنية التركية، ولكنه كان معتقداً أن التضامن الإمبراطورى لا يمكنه الإعتماد على أى جماعة عرقية؛ بل على الإسلام. وبهذا كان يبدو أنه قد تفهم أن النموذج الغربى للدولة القومية قد اكتسب زخماً قوياً ليس فقط من خلال جاذبيته العرقية القومية، بل بتعبئة المواطنين على أساس من تحديد هويتهم من خلال المؤسسات والقيم التى تؤيدها الدولة. ولهذا وبغرض وضع حد للتفتيت الإقليمى والقومى للإمبراطورية العثمانية، فإنه أنشأ فكرة وحدتها الإسلامية ودعا إليها، ولكن عندما تبنى السلطان فكرة الوحدة الإسلامية كانت غالبية السكان فى الأراضى المسيحية قد ضاعت منه وبدأ تدفق كثيف من اللاجئين المسلمين إلى اسطنبول والأناضول. لم تكن رسالة عبد الحميد عن الوحدة الإسلامية محاولة غير واقعية لتوحيد كل المسلمين، بقدر ما كانت جهداً أصيلاً لتوحيد شعبه حول رموز ومؤسسات إمبراطورية كالخلافة . وبالرغم من تسلط نظام عبد الحميد الذى دام قرابة الأربعين عاما إلا أنه لم يضع حداً لعملية التحديث. شهد حكم عبد الحميد، من وجوه شتى، إستمرار ما قد تم البدء فيه إبان زمن حكام التنظيمات؛ فمجال التعليم العام بالذات كان المجال الذى شهد اكبر غزواته. وكان النموذج الفرنسى للجراند ايكول (المدرسة الكبيرة) لا يزال مؤثراً على نظام التعليم العالى العثمانى فى فترة حكمه ، حيث ظلت هذه المدارس العسكرية والتقنية -حتى خلال حكم نظامه القهرى سياسياً- مراكز ثقافية هامة تمهد التربة لقوميى المستقبل والحركات ذات الخلفية الغربية. لاقت دعوة النظام إلى الوحدة العثمانية الإسلامية صدا محدوداً جداً لدى العدد المتزايد من المجموعات الأفضل تعليماً من موظفى الدولة وضباط الجيش، وهو أمر ليس مستغرباً بالنظر إلى ما سبق، إذ أن تعليمهم الإيجابى ومهاراتهم المهنية والفلسفة التى وضعتها نظم التعليم الفرنسية جعلت نظرتهم السياسية عن النخبة الجديدة تتماشى مع العلمانية القومية. وبدأ المتشددون منهم فى التساؤل عن جدوى الإبقاء على الربط بين الدولة والإسلام، إلا أنهم بالرغم من عدم حبهم لنظام عبد الحميد فإن معظم الضباط وموظفى الدولة من العلمانيين كانوا يرون فى الإسلام وسيلة ضرورية للإبقاء على تماسك الجماعات العرقية المتعددة التى تتكون منها الإمبراطورية العثمانية. انغمس ذلك الجيل من المتعلمين القوميين فى تسعينات القرن التاسع عشر المعروف باسم "تركيا الفتاة" فى حركات المعارضة السرية، وأصدر صحف معارضة للنظام تروج لمبدأ الحكومة الدستورية. كذلك فإن لجنة "الإتحاد والترقى" التى أسسها أربعة من طلاب الطب أضحت بسرعة أكثر منظمات الشباب التركى شعبية ، بعدما حازت تلك اللجنة قوة عسكرية وتنظيمية لها وزنها بانضمام ضباط من الجيش التركى إليها. وفى تلك الأيام تم تطويرها لتتحول إلى منظمة شاملة تقوم بتمثيل طوائف مختلفة ولكن يوحدها جميعاً هدف إسترجاع الحكومة الدستورية. وعلى كل الأحوال فإنه ففى عصر التفتت القومى كان مصير كل من حلم عبد الحميد فى الوحدة الإسلامية، والمشروع الوطنى لـ "تركيا الفتاة" فى التضامن العثمانى هو الزوال. وعلى الرغم من أن ضباط الجيش فى لجنة "الإتحاد والترقى" نجحوا فى الإطاحة بنظام عبد الحميد وإعادة الحكومة الدستورية عام 1908، إلا أنهم سرعان ما أدركوا أن مثلهم العليا عن الوطنية والديموقراطية لم توقف حركات القوميين الألبان والعرب والأرمن. وباختصار فإن القومية العرقية أثبتت أنها أكثر قدرة على الإنتشار من كل تصورات البيروقراطية العثمانية وعبد الحميد نفسه و"تركيا الفتاة". وفى هذه الظروف المحبطة ظهرت آخر موجة من القومية فى الإمبراطورية العثمانية فى صورة قومية تركية؛ وبعبارة أخرى فقد أظهرت القوميات الألبانية والعربية حدود رسالة الوحدة الإسلامية الإمبراطورية وفتحت الطريق أمام الاتحاديين للإنخراط فى مزيد من القومية العرقية العلمانية ذات ميول تنزع إلى وحدة تركية. بل أكثر من ذلك، ففى أعقاب فشل ثورة إسلامية مضادة فى عام 1909 أصبح الإتحاديون شديدى الريبة فى العمل الإسلامى ، ولعل أكثر الإصلاحات العلمانية مغزا فى حقبة "الإتحاد والترقى" (1908- 1918) هى: 1. عزل شيخ الإسلام من الوزارة. 2. البدء فى وضع المحاكم الشرعية تحت الرقابة العلمانية لوزارة العدل. 3. ضم مؤسسة المدرسة إلى الإختصاص القانونى لوزارة التعليم. 4. إنشاء وزارة جديدة للمؤسسات الدينية. وعلى الرغم من أن الإصلاحات العلمانية التى قامت بها لجنة الإتحاد والترقى لم تمض شوطاً بعيداً مثل تلك التى قام بها الكماليون بعد عقد من الزمان، إلا ان هناك قدراً ملحوظاً من الإستمرارية بين الشباب التركى والحقبة الجمهورية. وخلافا لما تردده الكتابة الرسمية للتاريخ عن الإصلاحات الكمالية فهناك عوامل مهمة للإستمرارية بين الكمالية وتقاليد الدولة العثمانية. وهذه الإستمرارية كانت واضحة بصفة خاصة أثناء فترة الحزب الواحد من 1923 – 1946 عندما تولت الحكومة الكمالية التقاليد السياسية فى التسلط البيروقراطى فى ثوب جمهورى. تشارك الكماليون من الآباء المؤسسين للجمهورية التركية مع الإصلاحيين ولجنة "الإتحاد والترقى" فى فهم مشترك لدور الدولة كالعامل الرئيسى فى عملية التحديث؛ فقد كانت النظرة المركزية للجمهورية إلى التقدم مثقلة بشدة بالتقليد البيروقراطى العثمانى وهذا التقليد الإمبراطورى للتحديث من أعلى وهندسة المجتمع كان يجرى إتباعه بنوع من الحماسة العقيدية لبناء دولة قومية علمانية . وليس مستغرباً إذن أن الكماليين كانوا مهتمين فى المقام الأول بإنشاء سلطة مركزية وليس حكومة ديموقراطية. كذلك فإن المناخ الدولى العام فى العشرينات والثلاثينات كان يصعب أن يولد فيه أى ليبرالية. وعلى كل حال وبالمفهوم العلمانى للإصلاحات الكمالية فإن هناك إستمرارية أيديولوجية لها وزنها بين حكم "الإتحاد والترقى" (1908 – 1918) وحكم فترة الحزب الواحد (1923 – 1946)، فالإصلاحات العلمانية التى قام بها حزب أتاتورك (حزب الشعب الجمهورى) كانت بالتأكيد أكثر شمولاً من سياسات الإتحاديين، ولكن لكى نفهم العلمانية التركية بصورة أفضل فلابد من التأكيد على أن العلمانية الكمالية كانت تتويجاً لموجة ذات ثقافة غربية بدأت قبلها بمائة عام تقريباً بإصلاحات التنظيمات واستمرت مع شباب العثمانيين و"تركيا الفتاة" .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أثر اليعقوبية الفرنسية على العلمانية التركية

لعبت التجربة السياسية التى خاضها إكتسبها مصطفى كمال كقائد عسكرى خلال حرب الإستقلال دوراً حاسماً فى تشكيل نظرته إلى التأثير الإجتماعى للدين فى مجتمع الأناضول، فمن أجل تأسيس جمهورية علمانية على النسق الغربى كان لابد له أن يلغى السلطنة العثمانية، ويتخلص من الخلافة ومن الحروف العربية والتعليم الإسلامى والأخوة الصوفية. لقد كان لكمال رسالة تمدينية متأثرة بشدة بالثورة الفرنسية وخصوصا بالتقاليد الفرنسية المعادية للمؤسسة الدينية (لايسيتى) وهو نوع معين من العلمانية النشطة المدفوعة بقوة الدولة. وبالنظر إلى التأثير الجارف لفلسفة التنوير الفرنسية والمثل الثورية على الكماليين و"تركيا الفتاة"، فلا يستغرب المرء لدى ملاحظة أن العلمانية التركية طورت ملامح خاصة بها تشبه المراحل الأولى من الليسيتى الفرنسية. ففى السياق الثورى الفرنسى، كما يلاحظ رينيه ريموند، اكتسبت (اللايسيتى) بعداً شديد العداء للمؤسسة الدينية. ويطرح ريموند أن ذلك الإتجاه المعادى للمؤسسة الدينية كان خاصية مهمة من خصائص التقاليد السياسية لليعاقبة و(اللايسيتى) المتشددة للأحزاب الجمهورية والمتطرفة التى حكمت فرنسا خلال العقود الثلاثة الأولى للجمهورية الثالثة (1871- 1940) . وبناء على مفهوم (اللايسيتى) المعادية للمؤسسة الدينية يستطيع المرء تقصى التشابه القوى بين اليعقوبية والكمالية فى فهمهما للعلمانية، ففى كلتى الحالتين تقوم نخبة مركزية أصبح الدين بالنسبة لها صنوا لقطاعات الثورة المضادة فى المجتمع بممارسة اللايسيتى كسياسة للدولة وهى متطرفة فى إلتزامها بحراسة المكاسب الثورية. وكانت المراكز السياسية لكل من الكماليين واليعاقبة تدعى لنفسها دوراً تقدمياً ضد الأعداء الرجعيين، وكنتيجة لذلك تحولت (اللايسيتى) - وفى سياق الإستقطاب المحيط بالكماليين واليعاقبة على حد سواء- إلى الخط الفاصل بين التقدميين والمحافظين، وبين التقليديين والمجددين، وبين المستنيرين وأهل الظلام، وبين الثوريين والرجعيين وهكذا.. وفى ذلك الصدد فإن (اللايسيتى) التركية والفرنسية إكتسبت خصائص من الأيديولوجية بمفهوم مشحون سياسياً ذهب بها بعيدا عن محددات العلمانية الأنجلوساكسونية. مثلت اليعقوبية الفرنسية بجذورها الضاربة فى المواجهات الفلسفية والعسكرية لثورة 1789 نموذجاً شديد المركزية متشدداً للتغيير الإجتماعى، وعلى ذلك فليس من المستغرب أنه فى وجود الطبيعة المتشددة للثورة الثقافية الكمالية التى كانت تهدف إلى اللحاق السريع بالحضارة الغربية كان أهل التحديث من الأتراك يجدون هويتهم بسهولة فى صفوف اليعاقبة وليس فى صفوف الليبرالية الأنجلوساكسونية، تلك التى تؤمن بالتغيير الإجتماعى عن طريق التطور. وبذلك المفهوم فإن مصطلح (اللايكليك) فى التركية المشتق من (اللايك) بالفرنسية يكشف عن ميل فلسفى جذوره أعمق من مجرد الإشتقاق اللغوى، أى أن الإصطلاح التركى يعكس شعوراً بالرسالة التمدينية التى شارك فيها الكماليون والشباب التركى نظرائهم الفرنسيين . أصبحت (اللايسيتية) فى المعجم السياسى الكمالى إختباراً للحداثة، ولكى يكون المرء مواطناً تركياً مستنيراً وقومياً وجمهورياً وحديثاً ومتمديناً؛ فإنه بالتعريف لابد أن يكون علمانياً. وانخرط الكماليون فى علمانية مسيطرة على السياسة حيث أنهم كانوا يؤمنون أن الإسلام كأسلوب للحياة يعيق التحول الإيجابى للفرد. وهذا الجانب المتشدد لما يسمى (اللايكليك) التركى يتشابه فى كثير من صفاته المهمة مع تطور (اللايسيتى) كأيديولوجية سياسية فى فرنسا بعد الثورة. كان اليعاقبة على سبيل المثال من المؤمنين بشدة أن الكنيسة الكاثوليكية ليس لها أن تستثنى من قوانين الثورة الفرنسية ، ولذلك تبنوا صورة متشددة ومتطرفة من (اللايسيزم) على خطوط من السيطرة السياسية والتمدد، إذ كانت واحدة من المهام الصعبة التى واجهت نخبة الجمهورية الفرنسية هى المعركة الأيديولوجية ضد الإتجاه المحافظ للكنيسة الكاثوليكية. رأى هؤلاء فى الكنيسة الكاثوليكية قوة رجعية تملك سلطة مؤسسية تعيق تكوين مجتمع ديموقراطى مبنى على علمانية المواطنة، وبعبارة أخرى فإن عملية التعليم الكاثوليكى والتواصل الإجتماعى الكاثوليكى للشعب الفرنسى كان ينظر إليهما على أنهما غير متوافقين مع مثل العقلانية والديموقراطية والمواطنة والتقدم، وفى هذه الظروف لم يكن هناك بديل عن شن حرب سياسية واقتصادية وثقافية ضد الكاثوليكية ومركزها الروحى فى الفاتيكان. وهذه المرحلة من العلمانية الفرنسية أطلق عليها إميل بولات إسم (لايسيتية الكفاح) وهى التى ميزت السنوات التى كانت بين قيام الثورة وعقد "إتفاق الكونكوردا" الذى وقعه نابليون مع الفاتيكان عام 1801 . وخلال تلك السنوات قامت الدولة الثورية باتباع سياسة هجومية الغرض منها هو إحكام السيطرة على الكنيسة الكاثوليكية، وقطع علاقاتها مع روما، وتأميم ممتلكاتها، وفرض الدستور المدنى على أفرادها. وطبقا لذلك الدستور المدنى أضحت الكنيسة الفرنسية مؤسسة ديموقراطية بأعضاء سلك كنسى منتخبين تدفع أجورهم الحكومة، بل أنه بالمزايدة على الفصل بين الكنيسة والدولة كان المشروع الجمهورى فى تلك السنوات التى أعقبت الثورة الفرنسية هادفاً إلى إنشاء سيادة كاملة ضد وصاية روما، ولهذا كانت (لايسيتي الكفاح) مهتمة بالضرورة بسياسة التوسع وسياسة الهيمنة. فرض التوتر فى العلاقة بين الدولة والدين على الكنيسة الخضوع للمعايير الجمهورية للنظام الجديد، فقد كان على رجال السلك الكنسى مثلا أن يقبلوا بإشراف السلطة السياسية التى كانت تشترك فى تسمية الأساقفة. إلا أنه من ناحية أخرى كانت الكاثوليكية معترفاً بها باعتبارها الدين الذى تدين به غالبية الفرنسيين، وكان مسموحاً للكنيسة أن تلعب دوراً فى مجال المرافق العامة وبالذات فى مجال التعليم. واستمر الاعتراف بالكنيسة الكاثوليكية كطرف شرعى فى المجال الاجتماعى العام حتى انتصار الجمهورية الثالثة. وكان الإنتقال من (لايسيتى الكفاح) إلى (لايستيى التعايش) -إن أخذنا بمصطلحات بولات- قد أصبح ممكناً فى أوائل القرن العشرين. وقد تحقق الفصل المحدد بين الكنيسة والدولة فى عام 1905 وذلك بقانون جديد يعلن أن الدولة الفرنسية لا تعترف ولا تحبذ ولا تدعم أى دين ، وبعبارة أخرى فإنه باتباع سياسة الفصل والعلمنة هجرت الدولة الفرنسية بالكامل مجال الدين وتعهدت بألا تمارس أى ضغط على التعليم الدينى والمؤسسات الدينية. وقاد ذلك إلى بدء مرحلة جديدة لما يعرف باسم (اللايسيتي الفرنسية) بنشوء نوع من التسامح الديموقراطى بين الكنيسة والدولة ، وبذلك يمكن القول بأن فصل الكنيسة عن الدولة تم تسهيله بشكل كبير عن طريق عملية موازية لعلمنة المجتمع الفرنسى. ويمكن تحليل الإنتقال من مرحلة (لايسيتى الكفاح) عبر مرحلة (لايسيتى التعايش) وصولا إلى مرحلة (لايسيتى التسامح) فى إطار من سياسة تحويل القيم أو علمنة الثقافة السياسية. بيد أنه من الأهمية بمكان أن نلاحظ أن (اللايسيتى الفرنسية) تعكس جوانب المواجهة الثورية فى التاريخ الفرنسى؛ ولهذا فإن عدداً قليلاً من بلاد العالم الغربى قامت بتطوير مفهومها عن العلمانية من خلال مبادىء دستورية تقضى بالفصل الجامد بين الدولة والدين. وعلى سبيل المثال فإن المفاهيم الأنجلوساكسونية والبروتستانتية عن العلمانية تختلف كثيراً عن (اللايسيتي الفرنسية) بسبب تطبيق الثانية الفصل الجامد بين الدولة والكنيسة . يتشابه الفهم التركى للعلمانية أيديولوجياً مع (اللايسيتي الفرنسية)، وهو أمر غير مستغرب فى ضوء قيام فرنسا بدور الراعى الروحى ثقافياً وسياسياً للإصلاحيين الأتراك منذ بداية عصر التنظيمات. وعلى الرغم من الفروق الهامة بين النموذجين من جهة تباين مستويات الوعى السياسى والتسامح فإن كل من تركيا وفرنسا يتقاسمان نظاماً جمهورياً مستمراً فى النظر إلى (اللايسيتي) باعتبارها العمود الفقرى للمشروع الثورى الخاص بكل منهما. إن هذه (اللايسيتي) أضحت بالنسبة لهذين البلدين جزءاً لا يتجزأ من من إنشاء والحفاظ على الأيديولوجية الجمهورية. وفى ذلك الإطار الأيديولوجى فإن الكماليين واليعاقبة على السواء قد تبنوا نماذج من المعاداة للمؤسسة الدينية، إلا أن (اللايسيتي التركية) قد تحولت إلى نوع من المشروع السلطوى لهندسة أو تشكيل المجتمع. وعلى خطوط شبيهة بالعلمانية اليسارية فى فرنسا يرى الكماليون من الآباء المؤسسين أن الدين ينبغى يظل مقصوراً على حيز الضمير الشخصى للأفراد، مع الإحتفاظ له بدور هامشى فى الحياة العامة. وفى سبيل تطبيق ذلك المفهوم اتبع الطرفان نماذج من (لايسيتى الكفاح) التى هى من بقايا الجمهوريات الفرنسية وأحزاب الجمهورية الثالثة الفرنسية، والقاسم المشترك بين هذين النموذجين هو (اللايسيتي) المتشددة حيث استهدف كلاهما الدور الإجتماعى للدين، وليس الدين فى حد ذاته. وعلى سبيل المثال حرص كل من (اللايسيتي) الفرنسية والتركية على إقصاء الدين والرموز الدينية عن الدائرة العامة ، وعليه فقد وقع إنتقال الدين إلى الحيز الفردى. وعلى الرغم من ذلك التآلف الفلسفى، فإن بعض الفوارق الهامة تفصل بين (اللايسيتي) الفرنسية والتركية، فتطور (اللايسيتي الفرنسية) تم تتويجه بالفصل الكامل بين الكنيسة والدولة فى عام 1905، بينما لاتزال الشؤون الدينية فى تركيا المعاصرة محكومة بالدولة. وعلى الرغم من أن غالبية المواطنين الفرنسيين هم من الكاثوليك، إلا أن الدولة الفرنسية ليس لها إتصال عضوى أو مؤسسى بأى مذهب دينى. أما فى تركيا فالدولة لا تقف على الحياد بين الجماعات الدينية، لأن الإسلام السنى يعتبر عملياً دين الدولة، وهو ما تنتقده الأقلية العلوية التى تشكل ما بين 15 و20% من التعداد الكلى للسكان. وفى النهاية فأهم الفروق بين (اللايسيتي) التركية والفرنسية هو فرق أيديولوجى. ففى تركيا تعتبر (اللايسيتي) شرطاً من شروط عملية الإتجاه نحو الغرب، بينما فى فرنسا شددت العلمانية على التحول نحو الديموقراطية وهذه نقطة هامة جداً، لأن هناك إحساساً عاماً بأن العلمانية التركية سادت على حساب عملية التحول نحو الديموقراطية. ويعود ذلك فى الأساس إلى أن (لايسيتي) تركيا تعتبر أن الديموقراطية الليبرالية بدون رقيب قد تفضى إلى استيلاء الإسلاميين على السلطة. ونتيجة لذلك فإن (اللايسيتي) فى سياقها التركى تصبح مبدءا سياسياً متيقظاً لما حوله يضفى الشرعية على سمو الدولة على الحيز الدينى باسم التحديث والتقدم. وليس بمستغرب أن هذا المفهوم لـ ( اللايسيتي) لا يفضى إلى فصل الدين عن الدولة، بل على العكس فإن التدخل المتشدد المتزايد من قبل الدولة فى الشأن الدينى ينتج رد فعل سياسى على أساس من الدين. وبما أنه سوف تتم مناقشته فى إطار من الإسلام السياسى فى تركيا، فإن النتيجة غير المقصودة لهذا الفهم للعلمانية قد تكون هى التحول إلى دائرة مفرغة من الإستقطاب بين الإسلام السياسى والصيغة التركية من (لايسيتي التعايش) ناهيك عن (لايسيتي التسامح).


الخلاصة

إن الفهم الكمالى للإسلام كعامل ربط وقاسم مشترك بين كل أخطار الثورة المضادة والتهديدات ضد الجمهورية جعل من الفصل السلمى بين مجال السياسة ومجال الدين أمراً غير واقعى، فالعلمانية أصبحت لذلك مفهومة على أنها عملية غير محسومة النتيجة. فلا الدولة تهيمن على الدين ولا المحافظين الدينيين سوف يستولون على السلطة. أما علمانية الفصل فقد كانت بطبيعة الحال غائبة فى ظروف الإستقطاب التى أحاطت بالثورة الكمالية. أما ما يميز العلمانية الكمالية عن الطرق العثمانية فى الحكم فليس إدخال المؤسسة الدينية إلى جهاز الدولة، بل هو تصميم النظام على تأسيس شرعيته على القومية التركية العلمانية. فالسلطنة والخلافة كان لابد من إلغائهما لأنهما كانتا مؤسسات إمبراطورية إسلامية من مرحلة ما قبل القومية تعيق تطور الهوية القومية التركية التى كان لابد من إيجادها. بل أكثر من ذلك، ففى محاولتهم لإيجاد شعور جماعى بالهوية القومية التركية لم يشأ الآباء المؤسسين أن يحرموا أنفسهم من الدور المحتمل والبناء الذى من الممكن أن يقوم به نوع من الإسلام المتمدين فى نطاق من الإصلاح. ولما كان من المحتمل أن الجماهير فى الأناضول سوف تقف فى مواجهة هذه الإصلاحات العلمانية الكمالية، فقد اتخذ الكماليون موقفاً من الدين يذكر بالطرق العثمانية كانت له جاذبية على الكماليين العمليين. وعلى أرض الواقع كان ذلك يعنى وضع ذلك الإسلام المتمدين فى نطاق من الإصلاح فى خدمة بناء المواطنة، وبذلك لم يكن مستغرباً أن تلك الخطة جعلت من الفصل الواقعى بين الدولة والدين أمرا أكثر صعوبة.

    • مدير مشروع تركيا فى مؤسسة بروكنجز للأبحاث-واشنطن.


مجلة شرق نامه