آلة العبقرية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

آلة العبقرية

د.إيهاب عبد الرحيم محمد

لا أحد يدري على وجه التحديد من أين يأتي الإبداع ، لكن ذلك لم يعد يقلق بعض الباحثين… فهم يعتقدون أنهم يعرفون كيف يشغلون "آلة الإبداع" بكبسة زر‍! …يبدو الأمر غريبا؟ … إذن لنر معا إن كان ذلك ممكنا حقا…

ألان سنايدر Snyder هو مدير المركز الأسترالي لأبحاث العقل ، والحاصل على جائزة ماركوني العالمية ، وهي من أهم الجوائز العالمية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وهو يعتقد أن المخاطرة من بين أهم العوامل التي تحفز الإنسان على إخراج مكنونات طاقته العقلية. وللتدليل على صحة كلامه، يرينا كم من الناس يرغبون طواعية في تجربة آلته الجديدة التي يتم ارتداؤها على الرأس ، والتي تمكنه من تعريض أدمغتهم لنبضات مغناطيسية قوية في دعوية لتحويلهم، مؤقتا، إلى علماء يسبحون في الخيال! ولا يعبر سنايدر عن الموضوع بهذا الأسلوب بطبيعة الحال، فهو يقول أن آلته تقوم "بتشغيل" الوظائف العقلية العليا في محاولة لتقليد أعراض معينة لبعض الأمراض العقلية. لكن المفهوم في الحالتين واحد؛ أراد سنايدر أن يرى ما إن كان بوسعه تحويل أي إنسان إلى "رجل المطر" Rain Main، وهو بطل الفيلم الشهير لداستن هوفمان (1988)، ويلعب فيه دور شاب مصاب بمرض التوحد autism الذي يجعله يعيش في عزلة عقلية عن الآخرين، لكنه قادر على إجراء عمليات حسابية بالغة التعقيد في مخه في لمح البصر. قد تتساءل – عزيزي القارئ- لماذا يود عمل ذلك؟ حسنا، يفسر سنايدر الأمر بأنه إذا تمكن من الوصول إلى الظروف المثالية لتجربة جهازه ، فقد يعمل كآلة مولدة للعبقرية! بمعنى أنها تكشف عن العبقرية الداخلية التي لا يعرف عنها حتى صاحبها- الذي يخضع للتجربة هنا- أي شيء… وعلى اعتبار غرابة أطوار سنايدر واعترافه الشخصي بحبه للمخاطرة، من الممكن تفهم وجهة نظر القارئ الذي يفضل أن يعدو مسافة ميل كامل ولا يتركه يعبث بعقله… لكنه جاد تماما في عمله… ولنتأمل كم الجوائز والشهادات التي حصل عليها، ومراكز الأبحاث المزدهرة التي يديرها – والتي تمولها جامعة سيدني والجامعة الوطنية الأسترالية معا- ناهيك عن سجله في اجتذاب شخصيات مثل رئيس جنوب أفريقيا السابق نيلسون مانديلا والدالاي لاما- الزعيم الروحي للتبت، لحضور مؤتمراته، عندئذ سنشعر أن الرجل يستحق- على الأقل- أن نستمع إلى ما يود أن يقوله…. وبمجرد أن يبدأ الحديث، من الصعب أن نفرّق بين نهاية غرابة الأطوار وبداية العبقرية الإبداعية فيما يقوله، وربما كان ذلك بيت القصيد… فقد ارتبط الجنون بالعبقرية منذ قديم الأزل؛ ولنتأمل حياة كل من فان جوخ Van Gogh، إدجار ألان بو Poe، وتشايكوفسكي Tchaikovsky، لنرى أن كلا منهم كان يسير على الخط الرفيع الفاصل بين الاثنين. لكن عبقرية الجنون ليست هي الدافع وراء أبحاث سنايدر، لكنهم العلماء التوحديين autistic savants- أي الأشخاص المصابين بإعاقة عقلية شديدة لكنهم يمتلكون مهارة عقلية مدهشة أو أكثر ، قد تنصب على الرسم، أو الموسيقى، أو النحت، أو اللغة. وقد أطلقنا على هذه المهارات العقلية اسم "مذهلة" لأنها كثيرا ما تحدث في أشخاص يبقى ذكاؤهم – فيما عدا ذلك- محدودا للغاية. وعلى عكس الاعتقاد السائد، فمرض التوحد (الذاتوية autism) نادرا ما يرتبط بقدرات عقلية فائقة؛ فمقابل كل "عالم توحدي" ، ربما كان هناك 10 أشخاص أو أكثر مصابين بالتوحد ولا يمتلكون أية مهارات خاصة. كما أن نحو نصف هؤلاء "العلماء التوحديين" ليسوا مصابين بالتوحد أصلا ، لكنهم مصابون بنوع آخر من المرض العقلي، يتراوح بين التلف الدماغي والتخلف العقلي. لكن حقيقة وجود أولئك "العلماء التوحديين" أصلا، أوحت إلى سنايدر بفكرة رائعة؛ فيقول أن أبحاثه موجهة نحو الاعتقاد بأنه يمكنك "تشغيل" مهاراتك غير العادية عن طريق "إغلاق" جزء من المخ. وقد اهتم علماء النفس منذ زمن بعيد بالمهارات العقلية لهؤلاء "العلماء التوحديين"، وتتمثل الرؤية التقليدية في أن "جزر العبقرية" هذه تنتج عن الاستخدام المفرط لما يبقي عليه المرض لدى هؤلاء الأشخاص من قدرة عقلية محدودة ، لكن سنايدر لا يوافق على وجه النظر هذه، فهو يعتقد أننا جميعا نمتلك قدرات مدهشة ، لكنه مختفية تحت اللاشعور subconscious. وهو يعتقد أن مرض التوحد يؤدي لفقدان جزء من الوظيفة العقلية للمخ البشري، مما يؤدي أحيانا لانطلاق المهارات الإبداعية الخفية. والسبب الرئيسي للاعتقاد بأن المهارات النطاسية savant skills مختفية داخل دماغ كل منا هو أنها يمكن أن تظهر تلقائيا بعد أن يصاب المرء بتلف في جزء ما من مخه. وتذكر الأدبيات ، على سبيل المثال، حالة طفل اكتسب فجأة قدرات مذهلة على حساب التواريخ وذاكرة غير عادية بخصوص الأيام، والتواريخ، والموسيقى ، بعد أن تعرض لإصابة في الجانب الأيسر من رأسه في سن العاشرة. وهناك حالة شهيرة أخرى، لرجل اسمه ألونزو كليمونس Clemons، والذي ظهرت لديه موهبة مذهلة في نحت مجسمات للحيوانات بعد أن تعرض في طفولته لإصابة في الرأس أيضا. ويوجد هؤلاء النطاسيون أيضا بين المصابين بحالة تنكسية عصبية نادرة تسمى الخرف الجبهي-الصدغي frontotemporal dementia . وفي هذا المرض، يتعرض المصابون- وهم غالبا في العقد السادس من العمر- لفقدان تدريجي في قدراتهم العقلية كنتيجة لضمور الجزء الصدغي من المخ لديهم. وقد وثّق الدكتور بروس ميلرMiller ، وهو طبيب أعصاب بجامعة كاليفورنيا ، ويعد من الخبراء العالميين في هذا المرض، وثّق نحو خمس حالات لمرضى ظهرت لديهم مهارات فنية مع تقدم حالة المرض لديهم. لم تكن لدى واحد من أولئك المرضى أية اهتمامات فنية سابقة، لكنه – وفي سن الثالثة والخمسين- بدأ يرسم، من الذاكرة، مشاهد رائعة لمناظر شاهدها في طفولته. يقول سنايدر أن الفنون التي ينتجها هؤلاء لها طابع مميز ؛ إذ أنها تتكون من مناظر أو ذكريات واقعية وليست رسوم تعبيرية، تجريدية أو إبداعية. لكن ما أثار انتباه سنايدر على وجه الخصوص هو أن جميع مرضى الدكتور ميلر كانوا مصابين بتلف في نفس المنطقة من المخ، وهي الفص الجبهي الصدغي الأيسر. أشارت الدراسات السابقة إلى أن غالبية "العلماء التوحديين" لديهم تلف في الجانب الأيسر من المخ، كما درس ميلر نفسه حالة مريض بالتوحد وجد لديه تلف في الفص الجبهي الصدغي الأيسر من المخ. والأكثر من ذلك هو أن الأشخاص الذين تظهر عليهم مواهب غير عادية بعد إصابة في الرأس، تكون هذه الإصابة على الجانب الأيسر في الغالبية العظمى من الحالات. يقوم العلماء حاليا بعمل أشعات مقطعية على مخ شخص أصيب في رأسه، ومن ثم ظهرت لديه قدرات مدهشة في احتساب التواريخ والأيام، في محاولة لمعرفة كيف ظهرت لديه هذه الموهبة. ولكن بغض النظر عن الطريقة التي حدث بها ذلك، يعتقد سنايدر أن الظهور التلقائي والمفاجئ لقدرات عقلية غير عادية يعني أنه لا يمكن أن يكون ظهور هذه الملكات نتيجة للتدريب أو الممارسة المفرطة، إذ أنها – ببساطة - لم تكن من ضمن اهتمامات المصاب أصلا؛ وبالتالي لابد أنها كانت هناك منذ البداية. ويقول أن الأشخاص الذين تظهر لديهم هذه المواهب غير العادية يفعلون ذلك بسبب إصابتهم بالتلف المخي، وأن نظريته ترى أن التلف المخي جعلهم يصلون إلى شيء نمتلكه نحن البشر جميعا. لكن ما الذي يمكن أن يكونه هذا الشيء؟ … عرف علماء النفس منذ زمن طويل أن قسما كبيرا من النشاط المخي يحدث دون معرفة منا ، وأن قدرا ضئيلا منه فقط هو ما يصل إلى تفكيرنا الواعي. وتصور سنايدر لهذا النموذج هو أن مخك اللا واعي يستخلص جميع المعلومات الحسية الخام بخصوص العالم المحيط بك- نغمات وطبقات الصوت، الخيوط، الضوء والظلال… وهو يرى أن هذه المعلومات أكبر بكثير من أن نستطيع التعامل معها، لكن هذا الجزء من المخ هو المكان الذي نعايش فيه العالم "كما هو في حقيقة." لكن الاستثناء هو أن أغلب الناس لا يرون هذه النسخة من الحقيقة؛ فعقلنا الباطن يأخذ فيض المعلومات هذه ويبسطه ، ويصنفه إلى حزم يمكن لنا تناولها والاستفادة منها. وفي حين يرى العقل الباطن خطوطا ودرجات من النور والظلال، قد يرى عقلنا الواعي أن هذا حصان. نحن نعلم ذلك لأن مخنا تعلّم كل ما يتعلق بالخيول ، وتدله خبرته أن الشيء الذي يراه هو حصان، وليس كلبا أو منضدة مثلا، كما صاغ مفهوما وصورة عقلية للحصان. وهذه طريقة فعالة للغاية لعمل عقولنا ، فهي تتيح لنا التعرف على الأشياء بسرعة ، وأن نسميها بأسمائها ، وأن ننقل أفكارنا لبعضنا البعض. ويتعلم العقل أيضا كيفية تصرف الأشياء، بحيث يمكننا توقع ما يحدث من حولنا ووضع قواعد للتصرف بناء على هذه التوقعات. ويطلق سنايدر على هذه الطرق المتنوعة لاستخلاص المعاني من البيانات الخام، اسم "الأوضاع العقلية" mindsets. وفي نظر سنايدر، فما يفتقر إليه "العلماء التوحديون" هو تلك الأوضاع العقلية؛ فهم لا يخبرون سوى المعلومات الحسية الخام ، ورسومهم الدقيقة ما هي إلا انعكاس لذلك. وسبب عدم قدرة أغلب الناس على الرسم بهذه الطريقة هو أن أوضاعهم الحقلية تحول دون ذلك؛ فبمجرد أن يتم المخ صياغة مفهوم لشيء ما، فهو يمنع العقل الواعي من إدراك التفاصيل التي صنعت هذا المفهوم أصلا، وبالتالي؛ فبدلا من أن ترسم ما تراه، فأنت ترسم ما تعرفه. أعلن سنايدر- مع زميله جون ميتشل Mitchell- هذه الفكرة على العلن لأول مرة قبل نحو خمس سنوات ، وواجها نقدا لاذعا في ذلك الحين؛ ولذلك بدءا محاولة إثبات صحة نظريتهما ، وهنا ظهرت فكرة آلة العبقرية المغناطيسية التي سنتناولها الآن بشيء من التفصيل. قد يبدو الأمر غريبا، لكن استخدام الموجات المغناطيسية لإيقاف بعض أوجه النشاط المخي هو إجراء يتم بصورة روتينية في أقسام طب الأعصاب بأغلب المستشفيات الكبرى؛ وهي تقنية تعرف باسم التنبيه المغناطيسي عبر الجمجمة ، أو TMS اختصارا؛ وتستخدم كأداة بحثية لاختبار التأثيرات الجانبية لجراحة المخ والأعصاب، وللتعرف على وظائف الأجزاء المختلفة من المخ. والفكرة هنا بسيطة: ضع حقلا مغناطيسيا قويا على فروة رأسك ، وستوقف النشاط الكهربي في الجزء القريب من مخك ، تماما كما يمكن لقطعة من حجر المغناطيس القوي أن توقف عمل القرص الصلب لجهاز الكمبيوتر خاصتك (الصورة). قرر سنايدر وزملاؤه تركيز التنبيه المغناطيسي عبر الجمجمة على باحة ميلر Miller’s area- أي الفص الجبهي الصدغي الأيسر- على أمل أن يؤدي التلف المخي المؤقت والقابل للارتجاع في هذه المنطقة ، إلى إطلاق القدرات العقلية الإبداعية الكامنة. قام الفريق بإجراء التجربة في الصيف الماضي، على سنايدر نفسه أولا، ثم على 11 متطوعا تحت ظروف تجريبية. وقام سنايدر بنشر النتائج الأولية لتجربته في مجلة العلوم العصبية التكاملية. أما عن نتائج البحث، فسنبدأ بالجانب المظلم؛ فلم يستجب سوى أربعة فقط من المتطوعين للتنبيه TMS أصلا، وهو أمر- على أية حال- ليس بمستغرب تماما، فيرى أطباء الأعصاب أنك قد ترى تأثيرا لهذا التنبيه في بعض الناس، ولا تأثير في البعض الآخر، وفي جميع الأحوال لا يكون التأثير قويا جدا ، وهي نتيجة نمطية للتنبيه TMS.ولا يعلم أحد على وجه التحديد لماذا يحدث ذلك، لكن ذلك قد يرجع في الغالب إلى أن التنظيم الداخلي للمخ يتفاوت كثيرا من إنسان لآخر. وعلى أية حال، فالأشخاص الأربعة الذين استجابوا للتنبيه TMS، أظهروا نتائج جديرة بالملاحظة ؛ قام سنايدر بدراسة نمط الرسم لدى المفحوصين ؛ قبل ، وأثناء، وبعد 15 دقيقة من التعرض للتنبيه TMS. طلب منهم رسم أشخاص من الذاكرة بعد أن أراهم صورا لهم لفترة وجيزة ، ورسم حيوانات من الذاكرة. من الصعب القول بأن التنبيه TMS قد جعل أولئك الأشخاص يرسمون بصورة أفضل ، لكن المؤكد هو أنه غيّر بالفعل من طريقة رسمهم (الشكل). يمكنك القول بأن الرسوم أصبحت طبيعية أكثر، واستمر تأثير التنبيه المغناطيسي لمدة 45 دقيقة أو نحوها ، مما يشير إما لأن التنبيه TMS لديه ثمة تأثير طويل الأمد، أو أن المفحوصين تعلموا طرقا جديدة لعمل الأشياء. قرر ثلاثة من الأربعة الذين استجابوا تعرضهم لحالات من تبدل الوعي، فقالوا أنهم أصبحوا أكثر وعيا بالتفاصيل الدقيقة ، بينما ذكر الباقين أنهم أحسوا بشعور خفيف بالنشوة. لكن سنايدر أراد إجراء اختبار أكثر موضوعية، لذلك فقد طلب من المفحوصين مراجعة جمل بها أخطاء غير ملحوظة ؛ فبدون التنبيه TMS، لم يكتشف أي منهم الأخطاء الموجودة، ولكن بعد التنبيه ، وجد اثنان أنهم أقرب احتمالا لاكتشافها؛ فقد تحسنت نسبة نجاح أحدهما من صفر إلى 70% ، بينما تحسنت نسبة الآخر من صفر إلى 50%. ويدعي سنايدر أن ذلك دليل على أن التنبيه TMS يجعل الناس يرون العالم على حقيقته. يعمل سنايدر أيضا على مجموعة من الاختبارات التي تهدف لقياس المهارات الحسابية ؛ مثل مهارات توليد الأرقام الأولية ( prime numbers:التي لا تقسم إلا نفسها والواحد) ، وحساب التواريخ والأيام، وكذلك المهارات الموسيقية. وقد حصل باحثون آخرون على نتائج تدعم نظرية سنايدر؛ فقد كانت عالمة النفس الأسترالية روبين يونج Young متشككة في البداية في صحة تلك النظرية، وبالتالي فقد درست عددا أكبر من المهارات تحت تأثير التنبيه TMS؛ فطلبت من المتطوعين تذكر قوائم تحتوي على أسماء، وعناوين، وأرقام هواتف، ونسخ صور لم يشاهدوها إلا لفترة وجيزة فقط، والحكم على طبقات الصوت الموسيقية من حيث كونها أعلى، أم أخفض، أم نفس طبقة اختبارية، وتحديد الأعداد الأولية من بين قوائم طويلة من الأرقام. أظهر خمسة من بين 17 متطوعا بعض التحسن. لكن هذه التغيرات ليست إعجازية – على حد قول يونج- برغم أن هناك متطوع واحد أظهر تحسنا مدهشا، وتأمل في أن يتم نشر نتائج بحثها قريبا. إذا كان سنايدر وفريقه محقين، وكنا نمتلك جميعا قدرات عقلية خارقة وخفية، يقترح علينا بعض التطبيقات المثيرة للاهتمام؛ فيقترح أن التنبيه TMS يمكنه أن يمنحنا وصولا- ولو مؤقتا- إلى مهارات غير عادية مثل تحسن الذاكرة ، والقدرة على تعلم لغات جديدة في وقت وجيز دون أن تؤثر لكنتنا الأصلية على طريقة نطقنا لتلك اللغة، أما التطبيق المفضل لسنايدر فهو أنه يود أن يتمكن في يوم من الأيام من استخدام آلة للتنبيه TMS مثبتة في "قبعة للتفكير" يمكن استخدامها لتعزيز القدرة على الإبداع. لكن هذا محض ادعاء؛ فلم يتفق علماء النفس حتى على ماهية الإبداع ناهيك عن مصدره، لكن الأمر الوحيد الذي يتفقون عليه جميعا هو أن المهارات التي تظهر على أولئك المرضى ليست إبداعا، فقد تبدو هذه إبداعية ، لكنها لا تعدو كونها ضربا متقنا من النسخ copying كما يرى بعض علماء النفس. فيمكن لنطاسي عازف للبيانو أن يعزف مقطوعة كاملة بعد سماعها لمرة واحدة، لكنه لا يستطيع تأليف أية مقطوعة أو حتى تحسين مستواه. كما أن النطاسي الفنان أن يرسم مبنى بتفاصيله الحقيقية الدقيقة من الذاكرة، لكن رسمه سيفتقد للأصالة والتفسير. ولا ينكر سنايدر هذا، فيقول أنه من الواضح أن هذه المهارات هي محاكاة صرفة ، وهو ما يقترب من عكس الإبداع تماما، لكنه يحاول إثبات أن هناك ارتباط بين تلك المهارات وبين الإبداع. فيفسر الأمر بقوله أن الإبداع لا يعدو كونه الربط بين أفكار تبدو متباعدة بطريقة جديدة . وربما ساعدتك ، إذن، نظرة سريعة على العالم كنطاسي – مجردة من الأوضاع العقلية ، على رؤية تلك الارتباطات الإبداعية. وعادة ما يعمل النطاسيون بدون أوضاع عقلية أصلا، وبالتالي يكونون غير قادرين على استخدام التجربة بصورة إبداعية. ولكن إذا استطاع شخص عادي أن يغطس إلى عالم النطاسيين سريعا ثم يعود إلى عالمنا الواقعي، فقد تكون هذه قصة أخرى. وهذه فكرة لم يطرحها سنايدر وزملاؤه سوى مؤخرا على المجتمع العلمي، وكان رد الفعل الأولي- بصورة متوقعة- يحمل القليل من التشكك. فبرغم أن البعض يوافق سنايدر بصورة عامة على أن عقلنا للباطن يحمل كثيرا من الصفات المشتركة مع عقل "العلماء التوحديين" ، لكنهم لا يقبلون نظريته عن الإبداع. فيقول أحدهم أنها معتمدة كثيرا على التخمين وبعيدة الاحتمال تماما. وهناك فرق كبير بين إظهار وجود لمحات من المهارات الشبيهة بالنطاسيين لدينا جميعا، وبين جعلها مركز نظرية كبرى عن الإبداع- وخصوصا وأن سنايدر لم يُظهر بعد أن التنبيه TMS يمكنه أن يزود أمخاخنا بدفعة من الإبداع. ومن بين الاعتراضات الرئيسية على نظريته ، أن هناك نظريات أخرى بخصوص الإبداع ، والتي تبلورت منذ مدة طويلة في أدبيات علم النفس، والتي يتجاهلها سنايدر. وعلى سبيل المثال، فالأبحاث المتعلقة بتقنيات تصوير المخ أظهرت أن الحُصين hippocampus ، وهو عضو معني بالذاكرة يقع عميقا داخل المخ ، يكون نشطا في لحظة التبصر حين يتمكن الناس من حل معضلة أو مسألة معقدة. وليست هذه منطقة من المخ يعتبرها سنايدر مهمة، ولا يمكن للتنبيه TMS الوصول إليها لأنها عميقة جدا وبعيدة عن الجمجمة حيث يعمل. والأكثر من ذلك ، فقد اقترح علماء من جامعة أكسفورد البريطانية أن الإبداع يعتمد بصورة كبيرة على الأوضاع العقلية ، فقد وجدوا أن وجود ذاكرة كبيرة نشطة يرتبط بزيادة الإبداع. فكلما زاد حجم المعلومات التي يمكنك التلاعب بها، زاد احتمال قيامك بعمل ارتباطات إبداعية بينها. لكن هناك أفكارا راسخة أخرى يبدو أنها تتوافق كثيرا مع أفكار سنايدر. فيقول جوردون بيترسون- وهو باحث بجامعة تورونتو الكندية أن الإبداع يأتي عندما يفلت الناس من عاداتهم الإدراكية-الحسية perceptual habits، ويروا طرقا جديدة لعمل الأشياء. ويتحدث علماء النفس عن امتلاكنا "لأطر" frame، أو مدركات perceptions عن العالم، وهو أمر قريب من الأوضاع العقلية التي اقترحها سنايدر. وبرغم أن بيترسون لديه أفكارا مختلفة عن أفكار سنايدر فيما يتعلق بكيفية تكوين الناس لرؤية جديدة، إلا أنه يوافقه الرأي في أن المبدعين من الناس أن يتنقلوا بين الأطر العقلية المختلفة، بالإضافة إلة قدرتهم على تكوين أطر جديدة بسهولة مقارنة بغيرهم من الناس. كما أن الرابطة الراسخة بين المرض العقلي وبين الإبداع تتلاءم جيدا مع أفكار سنايدر بهذا الخصوص. فيقترح أنه ربما نتجت بعض الأمراض العقلية عن الدخول غير المقصود إلى رؤيتنا اللاواعية عادة للعالم ، ففقدان القدرة على الولوج إلى عالمك الإدراكي-الحسي قد يسبب العديد من المشاكل، لكن من بين الآثار الجانبية لذلك قد تكون رؤيتك للمحات من العالم الواقعي، كما هو – وليس كما يفهمه عقلك الواعي. ربما كان هناك عدد كبير من النظريات القائمة حول ما الذي يجعل المخ مبدعا، لكن أيا منها لم يتم إثباته بصورة قاطعة حتى الآن. فبدون اختبار عملي، من يمكنه القول أن هذا الشيء أو ذاك هو مركز الإبداع: سعة الذاكرة، تخصص specialization مناطق المخ المختلفة، الفروق في أنماط التفكير…؟ لن يقتنع كل إنسان بنظرية سنايدر حول ما يجعل المخ مبدعا، لكنها نظرية شجاعة وأصيلة ، كما أنه وضع أمام ناظرينا أمرا قابلا للاختبار والتمحيص. قد تكون الفكرة مجنونة تماما، لكن – في الوقت نفسه- قد تمثل واحدا من أكثر التبصرات المتعلقة بالإبداع صحة، من يدري…