قصة الحضارة - ول ديورانت - م 1 ك 3 ج 29

مراجعة 04:30، 30 أبريل 2007 بواسطة Shafei (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | مراجعة معتمدة (فرق) | النسخة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

صفحة رقم : 1441

قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> مقدمة


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب التاسع والعشرون: الأسس السياسية والأخلاقية

محاولات لدراسة الموضوع

إذا أقدمنا الآن على تصوير اليابان التي أسدل عليها الستار عام 1853، فلنذكر أنه من العسير علينا أن نفهم- كما قد يكون كذلك من العسير أن نحارب- شعباً يبعد عنا خمسة آلاف ميل، ويختلف عنا لوناً ولغة وحكومة وديانة وخلقاً وعادات وشخصية وأهدافاً وأدباً وفناً، ولقد كان "هيرن" أوثق صلة باليابان من أي كاتب غربي آخر في عصره، ومع ذلك فقد ذكر "الصعوبة الشديدة في إدراك وفهم ما يكمن تحت السطح الظاهر من الحياة اليابانية"(1)، وكتب أديب ياباني بارع مقالة يذكر فيها الغرب بأن: "ما تعلمه عنا قائم على ما جاءك من ترجمة هزيلة لأدبنا، إن لم يكن قائماً على الحكايات المشكوك في صحتها مما يرويه لك عنا الرحالة العابرون.... فما أكثر ما يروعنا نحن الآسيويين هذا النسيج العجيب الذي يمزج الحقائق بالأوهام حين تتحدثون عنا أيها الغربيون ؟ فنراكم تصوروننا كأنما نعيش في عالم كله عطر من زهرة اللوتس، أو نعيش على طعام من الفئران والصراصير"(2) فلن تجد فيما يلي- إذن- أكثر من محاولات- قائمة على معرفة مباشرة موجزة أشد إيجاز- لدراسة الحضارة اليابانية، والخلق الياباني؛ وينبغي لكل باحث أن يصحح هذه المحاولات بما يقع له من خبرة شخصية طويلة، فالدرس الأول الذي تلقيه علينا الفلسفة هو أننا قد نكون جميعاً مخطئين.


الفصل الأول: طبقة الساموراي (أي حَمَلة السيف)

الإمبراطور الذي لا حول له - سلطة "الشوجن" (أي الحاكم العسكري) - سيف "الساموراي" - قانون "الساموراي" "هاراكيري" - الرونانات" السبعة والأربعون - حكم قضى بتخفيفه


يقوم على رأس الأمة- من الوجهة النظرية- الإمبراطور المقدس، وكان البيت الحاكم حقيقة- وأعني به الحكم العسكري الوراثي- يسمح للإمبراطور وحاشيته بمبلغ يعادل خمسة وعشرين ألف ريال كل عام، مقابل الاحتفاظ بالأسطورة النافعة التي تؤثر في النفوس أثراً عميقاً، أسطورة اطراد الحكم في بيت واحد ؛ وكان كثيرون من رجال الحاشية يزاولون حرفاً يدوية منزلية ليكسبوا نفقات عيشهم: فبعضهم يصنع المظلات، وبعضهم يصنع الملاعق الخشبية أو لاقطات الفضلات من بين الأسنان أو ورق اللعب؛ وجعل الحكام العسكريون من أسرة "توجوواكا" من مبادئهم ألا يتركوا للإمبراطور ذرة من السلطان، وأن يعزلوه عن الشعب، وأن يحيطوه بالنساء ويفتُّوا من عضده بالتخنث والتعطل، ونزلت الأسرة الإمبراطورية عن سلطانها في كفاح، وقنعت بأن ترسم للعلية ألوان البدع في الثياب(3). أما "الشوجن" (أي الحاكم العسكري) فقد كان حينئذ ينعم بثروة اليابان التي أخذت تتزايد، واصطنع لنفسه امتيازات هي عادة من حق الإمبراطور فإذا سار في الطريق محمولاً في عربته التي يجرها ثور، ومحمولاً في محفته، أمرت الشرطة كل المنازل على طول الطريق أن تقفل أبوابها والمصاريع الخشبية في نوافذها العليا، وأن تطفأ كل النيران وأن تحبس الكلاب



 صفحة رقم : 1443   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


والقطط كلها داخل الدور، وأن يسجد الناس على جانبي الطريق، رؤوسهم على أيديهم وأيديهم على الأرض(4)؛ وكان "للشوجن" حاشية كبيرة، منها أربعة مضحكين وثماني سيدات مثقفات واجبهن أن يسلينه في غير التزام لقواعد الاحتشام(5)، وكان إلى جانبه مجلس وزراء استشاري قوامه اثنا عشر عضواً: كبير الوزراء، وخمسة وزراء، ثم ستة من الشيوخ يكونون مجلساً أصغر؛ وكان هناك- كما كان في الصين- مجلس للرقابة مهمته أن يشرف على المناصب الإدارية كلها، وأن يراقب أمراء الإقطاع؛ مع أن هؤلاء الأمراء- (أو "الدايميو" كما يسمونهم ومعناها "أصحاب الأسماء العظمى") لم يكونوا يعترفون من الوجهة الصورية إلا بالإمبراطور، هو الذي يولونه ولاءهم، بل استطاع بعضهم- مثل أسرة شيمادزو التي كانت تحكم إقليم ساتسوما- أن ينجحوا في الحد من سلطة الشوجن، حتى انتهى بهم الأمر إلى طرده من الحكم. وكان يتلو أمراء الإقطاع طبقة السادة (بارونات) ثم يتلو هؤلاء طبقة المشرفين على الأراضي: وكذلك كان يحيط بالأمراء ألوف من فئة "الساموراي"- والساموراي هم حراس يحملون السيف؛ فالقاعدة الرئيسية في المجتمع الإقطاعي الياباني هي أن كل رجل من السادة هو جندي، والعكس صحيح، أي أن كل جندي هو كذلك من السادة(6) فهاهنا يقع أكبر اختلاف بين اليابان وبين الصين المسالمة التي ظنت أن شرط الرجل من السادة هو أن يكون عالماً لا أن يكون محارباً؛ وعلى الرغم من أن حملة السيف هؤلاء كانوا يحبون قراءة القصص التي تغذي فيهم انتفاخ الأوداج، مثل القصة الصينية التي عنوانها "قصة المماليك الثلاثة"، بل كانوا إلى حد ما يصوغون حياتهم على نموذج تلك القصص، إلا أنهم كانوا يزدرون العلم للعلم، وكانوا يسمون، العالم الأديب بالسكران الذي يفوح برائحة الكتب(7)؛ وكان لهم امتيازات كثيرة، فهم معفَون من الضرائب، ولهم الحق في مقدار من الأرز يعطيهم



 صفحة رقم : 1444   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


إياه السيد الذي يخدمونه، ولم يكن يطلب إليهم أن يعملوا شيئاً إلا أن يموتوا في سبيل وطنهم إذا ما دعت إلى ذلك الظروف؛ وكانوا يحتقرون الحب ويعدونه لعبة رشيقة، ويؤثرون علاقة الصداقة على نمط إغريقي: والميسر والعربدة كانا جزءاً متمماً لعيشهم ولكي يحافظوا على مران سيوفهم، كانوا يدفعون المال للجلاد في مقابل أن يسمح لهم بجز رقاب المحكوم عليهم بالإعدام(8)، فسيف رجل من فئة "الساموراي" هو بمثابة روحه- على حد تعبير "أيياسو" وكثيراً جداً ما كان يجد الفرصة التي تدعوه إلى استعمال سيفه، على الرغم من المدة الطويلة التي نعمت فيها اليابان بالسلام؛ فله الحق- إذا أخذنا بما يقوله "أيياسو"(9)- أن يقضي فوراً على أي إنسان من الطبقات الدنيا إذا ما أساء إليه؛ وإذا كان سيفه جديداً وأراد أن يجربه، فيجوز أن يجربه في سائل كما يجوز أن يجربه في كلب(10). وفي ذلك يقول "لُنجفورد": "إن سيافاً مشهوراً قد اقتنى سيفاً جديداً، فوقف إلى جانب "ينهون باشي" (وهذا اسم جسر في وسط مدينة ييدو) ينتظر فرصة لاختبار مضاء سيفه، فجاء فلاح بدين ساعياً في الطريق، مرحاً بفعل الخمر، فقابله السياف بضربة يسمونها "ناشي واري" (ومعناها شق الكمثرى) وأصابت الضربة مرادها إذ شقت الرجل نصفين، من قمة رأسه إلى مفرق فخذيه، فمضى الفلاح في طريقه غير عالم بما نزل به، حتى اصطدم بحمال فسقط نصفين مشطورين على أدق صورة"(11) فما أتفه الفرق بين "الواحد" و "الكثير" هذا الموضوع الذي دوخ الفلاسفة في فهمه. لكن هؤلاء السيافين كانت لهم لطائف أخرى غير هذه المهمة المرحة التي كانوا يحولون بها الفناء إلى خلود؛ فقد التزموا أوضاعاً صارمة اشترطوها للرجل الشريف- ويطلق على مجموعة هذه الأوضاع اسم "بوشيدو" -



 صفحة رقم : 1445   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


ومعناها "طرائق الفروسية" وجوهر فكرتها فيه تعريف لما ترمي إليه من فضيلة: "هي القدرة على اختبار سلوكك في الحياة وفق ما يمليه العقل دون تردد، وأن تموت حين يجب عليك أن تموت، وأن تضرب حيث ينبغي لك أن تضرب"(12) وكانوا يحاكمون بمقتضى تشريعهم هذا، وهو أقسى من القانون السائد بين عامة الناس(13) وكانوا يزدرون كل الأعمال والمكاسب المادية، ويأبون أن يقرضوا المال أو يقترضوه أو يحسبوه، وقلما أخلفوا وعودهم، وكانوا لا يترددون في المخاطرة بحياتهم عوناً لكل من استنجدهم المعونة؛ وأخذوا على أنفسهم أن يحيوا حياة خشنة مقترة فلا يأكلون في اليوم إلا وجبة واحدة، وكانوا يروضون أنفسهم على أكل ما صادفهم من طعام كائناً ما كان؛ وكانوا يحتملون الآلام على اختلافها صامتين، ويكبحون في أنفسهم كل ما قد يدل على انفعالاتهم الداخلية، وعلموا نساءهم كيف يتهللن بشراً إذا ما نمى إليهن أن أزواجهن قد قضوا نحبهم في ساحات القتال(14). ولم يكونوا يلتزمون طاعة إلا طاعة الولاء لرؤسائهم، فطاعة الرؤساء جزء من تشريعهم الذي وضع تلك الطاعة فوق حب الآباء لأبنائهم أو الأبناء لآبائهم، ومن مألوف الأمور عند "الساموراي" (أي هؤلاء السيافين) أن يخرج الرجل منهم أمعاء نفسه إذا ما مات سيده لكي يخدمه ويحميه في الحياة الآخرة؛ فلما كان "الشوجن" (أي الحاكم العسكري) الذي يدعى "أيمتسو" يحتضر سنة 1651، ذكر كبير وزرائه "هتو" بواجبه في أداء الـ "جَنْشي" (أي اللحاق بسيده بعد موته, فقتل "هتو" نفسه دون أن ينبس ببنت شفة، ونسج على منواله كثير من الأتباع(15). ولما صعد "الإمبراطور ميسو هيتو" إلى أسلافه سنة 1912 انتحر الجنرال "نوجي" وزوجته ولاء منهما للإمبراطور(16). فلست ترى من التقاليد عند سائر الشعوب بما في ذلك تقاليد روما التي كانت تخرج جنوداً من الطراز الأول، ما بث شجاعة أبسل، أو زهداً أصرم،



 صفحة رقم : 1446   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


أو ضبطاً للنفس أقوى مما كانت تقتضيه تقاليد هؤلاء "السيافين" من أعضاء تلك الفئة التي تعرف عندهم باسم "ساموراي". وآخر القوانين في تشريع "بوشيدو" (أي تشريع طائفة السيافين) هو قانون "هاراكيري"- ومعناها الانتحار بإخراج الأمعاء؛ ولا تكاد الظروف التي تقتضي من السياف أن ينتحر على هذا الوجه تقع تحت حصر فقد كان الأمر من كثرة الوقوع بحيث لا يكاد يستوقف النظر؛ فإذا حكم بالموت على رجل من ذوي المكانة الاجتماعية، سمح له- إذا أراد الإمبراطور أن يدل على تقديره له- بأن يبقر بطنه بنفسه من اليسار إلى اليمين، ثم يشقها إلى أسفل، مستخدماً في ذلك سيفه الصغير الذي كان الواحد منهم لا ينفك مصطحباً له من أجل هذه الغاية؛ وإذا هزم أحدهم في القتال، أو اضطر إلى الاستسلام لعدوه، كان الاحتمال بأن يبقر بطنه بيده معادلاً تماماً لاحتمال أن يأبى على نفسه ذلك (فكلمة "هاراكيري" معناها شق البطن، وهي كلمة سوقية قلما ينطق بها الياباني، إذ هم يفضلون كلمة "سِبْيوكو") فقد حدث أن خضعت اليابان سنة 1895 لضغط الدول الأوربية في إخلاء "لياوتنج" فارتكب أربعون رجلاً من العسكريين "هاراكيري" احتجاجاً؛ كذلك حدث في حرب سنة 1905 أن أزهق عدد كبير من الضباط والجنود اليابانيين نفوسهم على هذا النحو، فذلك عندهم خير من الوقوع في أسر الروس، وإذا ألقى الرجل من فئة "الساموراي" (السيافين) إساءة من سيده، فإنه- إن كان سيافاً أصيلاً- يهلك حياة نفسه عند باب ذلك السيد؛ وكان فن "السبيوكو" (أي بقر البطن انتحاراً)- وهو ذو أوضاع دقيقة بمثابة الطقوس الدينية. في طليعة ما يلقن للشاب من فئة "الساموراي"، وآخر علامات المودة التي يبديها الصديق لصديقه أن يقف إلى جانبه ليجز له رأسه فيفصلها عن جسده، بعد أن يكون ذلك الصديق قد بقر بطن نفسه بيده(17)؛ من هذا التدريب وما أحاط به من



 صفحة رقم : 1447   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


تقاليد نشأ ما يتصف به الجندي الياباني من عدم الخوف من الموت . كذلك كان يسمح بالاغتيال- كما كان يسمح بالانتحار- في ظروف معينة أن يحل محل القانون، فاليابان في نظامها الإقطاعي كانت تقتر في الإنفاق على رجال الشرطة، بوسائل كثيرة منها أن تجيز لابن القتيل أو أخيه أن يثأر لنفسه بدل الالتجاء إلى القانون؛ ولقد أدى هذا الاعتراف بحق الثأر- إلى جانب إيحائه بنصف القصص والمسرحيات في الأدب الياباني- إلى الحيلولة دون كثير من الجرائم؛ ومع ذلك فالرجل من فئة "الساموراي" (أي السيافين) كان يحس عادة أن واجبه يقتضيه ارتكاب (الهاراكيري) بعد استخدامه لحقه في الثأر بنفسه من عدوه؛ مثال ذلك ما فعله "الرونانات" الأربعون المشهورون وهم فئة من السيافين لم يكونوا أعضاء رسميين في تلك الطائفة (حين تأثروا من "كوتسوكي" لما ارتكبه من قتل اغتيالي، فعلوا ذلك وهم يصطنعون له غاية الرقة ويقدمون له المعاذير، ثم انسحبوا في وقار إلى ضيعات عينها لهم "الحاكم العسكري" وقتلوا أنفسهم قتلاً التزموا فيه غاية الثبات (كان ذلك سنة 1703)، وأعاد الكهنة رأس "كوتسوكي" إلى رئيس حاشيته، فأخذ منهم الرأس وأعطاهم هذا الإيصال البسيط: مذكرة: 1. رأس واحد.



 صفحة رقم : 1448   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


2. حزمة ورقية واحدة. تسلمت الشيئين المذكورين أعلاه. (توقيع) سايارا موجوباي سايتو كوناي ولعل هذه الحادثة أن تكون أشهر حادثة في تاريخ اليابان كله وأصدقها تمثيلاً لليابانيين، وهي من أدل الحادثات تصويراً للخلق الياباني إذا أردت أن تفهمه؛ والذين اقترفوا ذلك الفعل، ما يزالون- في أعين الشعب- أبطالاً وقديسين؛ وإلى يومنا هذا ما يزال الأتقياء يزخرفون قبور أولئك النفر، ولا ينقطع البخور عن مثواهم(19). ولما دنا عهد وصاية "أيياسو" على العرش من ختامه، نهض شقيقان، هما "ساكون" و "نايكي"، وعمر الأول منهما إذ ذاك أربعة وعشرون، وعمر الثاني سبعة عشر، وحاولا أن يقتلاه لما أنزله بأبيهما من مظالم- في رأيهما- فوقعا في قبضة الحراس ساعة دخولهما في المعسكر، وحكم عليهما بالموت؛ لكن "أيياسو" تأثر بما أبدياه من شجاعة، وخفف عنهما حكم الإعدام بحيث أصبح أن يتركا ليقتلا نفسيهما على الطريقة المألوفة في إخراج المرء لأمعاء نفسه؛ ثم قضي كذلك- مراعاة لعادات عصره- أن يشمل هذا القرار الرحيم أخاهما الأصغر "هاشيمارو" وقد كان في الثامنة من عمره؛ وقد خلف الطبيب الذي كلف بملاحظة هؤلاء الصبية في قتل أنفسهم، وصفاً لما رأى، فيما يلي: لما أجلسوا جميعاً في صف ليرحلوا عن هذا العالم رحلة لا أوبة بعدها، التفت "ساكون" إلى الأخ الأصغر قائلاً: "اذهب أنت أولاً، لأني أود أن أستيقن من أنك تؤدي الأمر على وضعه الصحيح" فلما أجاب الصغير بأنه لم يشهد قط عملية الـ "سِبُولكو" من قبل فإنه يجب أن يرى أخويه وهما يؤديانها، حتى يستطيع بعدئذ أن يحذو حذوهما، فابتسم أخواه الأكبران



 صفحة رقم : 1449   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> طبقة الساموراي


وعيناهما تدمعان، وقالا: "لقد أصبت أيها الأخ الصغير، ويحق لك الآن أن تفخر بأنك ابن أبيك"؛ ولما وضعها بينهما، طعن "ساكون" خنجره في الجانب الأيسر من بطنه وقال: "انظر، أخي، أتفهم الآن ؟ والذي ينبغي أن تراعيه هو ألا تضرب الخنجر عميقاً حتى لا يطرحك على الأرض، بل كن أميل بجسدك إلى الأمام، واجعل ركبتيك في وضع ثابت". وفعل "نايكي" ما فعله "ساكون" وقال للصبي: "افتح عينيك خشية أن تبدو كالمرأة وهي تحتضر، وإذا أحسست أن شيئاً في جوفك يعوق إخراج خنجرك، وأن قواك تخور، فاجمع شجاعتك وضاعف جهدك في شد خنجرك جانباً لتقطع به البطن قطعاً أفقياً" فنظر الصبي إلى أخيه عن يمينه وإلى أخيه عن يساره، حتى إذا ما رآهما قد أسلما الروح، خلع ثيابه هادئاً عن نصف جسده، واحتذى حذو ما يراه عن يمينه وعن يساره"(20).



 صفحة رقم : 1450   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> القانون


الفصل الثاني



القانون



التشريع الأول - المسؤولية الجمعية - العقاب


كان التشريع القانوني في اليابان مكملاً عنيفاً لما كان يتم بالاغتيال وبالثأر وقد استمد ذلك التشريع بعض أصوله من تقاليد الشعب القديمة، كما استمد بعضها الآخر من التشريعات الصينية في القرن السابع، ذلك أن القانون قد صحب الدين في هجرة الثقافة من الصين إلى اليابان(21)؛ وبدأ "تنشي تبنو" صياغة مجموعة من القوانين، كملت وأذيعت في عهد الإمبراطور اليافع "مومو" عام 702؛ لكن هذا التشريع وغيره من تشريعات العصر الإمبراطوري، أهملت في العصر الإقطاعي، إذ جعل كل حاكم إقطاعي يسن لنفسه ما شاء من تشريع مستقلاً عن سائر المقاطعات، ولم يعترف الرجل من طبقة "السيافين" بقانون إلا ما يريده وما يأمر به مولاه(22). وكانت العادة في اليابان حتى سنة 1721 أن تكون الأسرة كلها مسئولة عن كل فرد من أفرادها، فتضمن حسن سلوكه؛ وكذلك كانت الأسرة الواحدة- في معظم الأقاليم- توضع في مجموعة من خمس أسرات، تكون كل منها مسئولة عن سائر أفراد المجموعة، فالرجل إذا حكم عليه بالصلب أو بالحرق، قضي كذلك بالموت على أبنائه الكبار، وبالنفي على أبنائه الصغار عندما يبلغون الرشد(23)، وكان نظام المحنة متبعاً في التحقيق على نحو ما كان متبعاً في العصور الوسطى، ولبث التعذيب شائعاً- في صوره الخفيفة- حتى هذا العصر الحديث واصطنع اليابانيون من وسائل التعذيب إزاء المسيحيين، ناسجين على منوال محاكم التفتيش نسجاً فيه انتقام لما أنزله المسيحيون أنفسهم



 صفحة رقم : 1451   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> القانون


بأنفسهم في تلك المحاكم، لكنهم كثيراً ما كانوا أدق في وسائلهم التعذيبية. فيربطون الرجل بحبال في وضع وثيق. يزيد المربوط ألماً كلما مرت به لحظات الزمن لحظة بعد لحظة(24)، وكثيراً ما كانوا يلجئون إلى الضرب بالسياط لأتفه الأخطاء، وكان الإعدام لديهم عقوبة على كثير جداً من أنواع الجرائم، وجاء الإمبراطور شومو (724- 56) فألغى عقوبة الإعدام وجعل الرحمة أساس حكمه، لكن الإجرام زادت نسبته بعد موته، حتى لم يقتصر الإمبراطور "كوشين" (770- 81) على إرجاع عقوبة الإعدام بل أضاف إلى ذلك أنه أمر بأن يضرب اللصوص بالسياط علناً حتى يلفظوا الروح(25)، وكانوا ينفذون الإعدام بالخنق وجز الرأس والصلب وقطع الجسد أربعة أرباع والحرق أو الغلي في الزيت(26)، وكان "أيياسو" قد ألغى العادة التي تقضي بأن يمزق المتهم نصفين بشده بين ثورين، كما ألغى العادة التي تقضي بأن يربط المتهم في عمود وسط الملأ، ثم يطلب من كل مار أن يأخذ نصيبه في تقطيع جسده بمنشار ينشره من كتفه فأسفل(27)، وكان من رأي "أيياسو" أن كثرة الالتجاء إلى العقوبات الصارمة لا تدل على إجرام الشعب بمقدار ما تدل على فساد الموظفين وعجزهم(28)، وكم ساء "يوشيموني" أن يجد سجون عصره بغير استعدادات صحية، وأن بين المسجونين فئة بدأت محاكماتها منذ ست عشرة سنة ولم تنته بعد، حتى لقد نسيت الاتهامات الموجهة إليهم، مات الشهود(29)، وأخذ هذا الحاكم العسكري الذي كان أكثر هذه الطائفة استنارة في إصلاح السجون، وعمل على السرعة في الإجراءات القضائية، وألغى المسئولية الأسرية، وواصل العمل المضني بغية أن يصوغ أول تشريع موحد للقانون الإقطاعي في اليابان (1729).



 صفحة رقم : 1452   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> العمال


الفصل الثالث



العمال



نظام الطبقات - تجربة في تأميم الأراضي - تحديد الدولة



للأجور - مجاعة - الصناعات اليدوية - الصناع والنقابات


انقسمت الجماعة في العصر الإمبراطوري ثماني طبقات، ثم زالت بعض الفوارق في العهد الإقطاعي بحيث أصبحت تلك الطبقات أربعاً: الساموراي (أي السيافون) والصناع والفلاحون والتجار- والطبقة الأخيرة هي كذلك أخيرة في الترتيب الاجتماعي، ويأتي تحت هذه الطبقات جمع غفير من العبيد فتبلغ نسبتهم ما يقرب من خمسة في كل مائة من السكان، وقوامهم المجرمون وأسرى الحرب والأطفال المخطوفون الذين باعهم خاطفوهم، وكذلك الأطفال الذين باعهم آباؤهم عبيداً في الأسواق ويأتي دون هؤلاء العبيد أنفسهم في المنزلة الاجتماعية، طبقة من المنبوذين يسمونهم "إيتا"، يعدهم بوذيو اليابان منبوذين نجسين لأنهم يشتغلون بالحرارة أو بالدباغة أو بحمل القمامة(32). والأكثرية العظمى من السكان (الذين بلغ عددهم في أيام يوشيموني عدداً يقرب من ثلاثين مليوناً) كانت تتألف من صغار ملاك الأراضي الذين يزرعون أرضهم زراعة مركزة، وهي مساحة تبلغ ثمن التربة اليابانية الجبلية التي تسمح للمحراث أن يشق جوفها ، وحدث في عصر "نارا" أن أممت الدولة الأراضي الزراعية، وأجرتها للفلاحين مدى ست سنوات، أو مدى حياة الفلاح على أكثر تقدير؛ لكن الحكومة سرعان ما تبينت أن الناس



 صفحة رقم : 1453   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> العمال


لم يعنهم أن يصلحوا الأرض أو أن يحرصوا عليها حرصاً حقيقيـاً مادام من الجائز أن تؤول إلى سواهم بعد حين قصير، وانتهت التجربة بالعودة إلى الملكية الخاصة، مع مد الحكومة الفلاحين بالمال في فصل الربيع ليتمكن الفلاحون من سد نفقات البذر والحصاد(33)، ومع هذه المعونة المالية لم تكن حياة الفلاح على درجة من اليسر تحلل قواه، فلا تزيد مزرعته على شريحة ضئيلة من الأرض، لأن الميل المربع- حتى في ذلك العهد الإقطاعي- كان مورد رزق لألفي رجل(34) وكان على الفلاح أن يسخر في عمل للدولة مدى ثلاثين يوماً كل عام، كان من الجائز خلالها أن يلاقي حتفه بطعنة رمح عقاباً له على لحظة واحدة تراخى فيها عن العمل ، وكانت تقتضيه الحكومة ستة في المائة من محصوله ضريبة وغيرها من القروض، كان ذلك في القرن السابع، أما في القرن الثاني عشر، فكانت تقتضيه سبعة في المائة، وأربعين في المائة في القرن التاسع عشر(37)، وكانت آلاته الزراعية غاية في بساطتها، وثيابه هلاهيل خفيفة في الشتاء، وهو في العادة لا يلبس شيئاً قط في الصيف، وكل أساسه في المنزل قدر للأرز وقليل من الأقداح وبضعة ملاعق خشبية، وداره من الضآلة بحيث يكفي نصف أسبوع لبنائها(38) ذلك لأن الزلازل تحطم له كوخه حيناً بعد حين، أو تقضي عليها المجاعة، وإذا عمل أجيراً عند رجل آخر، حددت له الحكومة- في عهد توكوجاوا- ما يستحق من أجر(39)، لكن تحديد الحكومة للأجور لم يمنع هبوطها هبوطاً فظيعـاً؛ وتجـد فـي كتاب لـ "هوكوكي"- وهـو من أشهر كتب الأدب الياباني- وصفاً لطائفة من الكوارث



 صفحة رقم : 1454   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> العمال


اجتمعت كلها في الثمانية الأعوام- ما بين 1177 و 1185- فزلزال ومجاعة وحريق كاد يأتي على كيوتو كلها ، ووصفه لما شاهده بعينه من مجاعة سنة 1181 يعد مثلاً من أجمل ما في النثر الياباني: "حدث في أرجاء البلاد جميعاً أن غادر الناس أراضيهم بحثاً عن سواها، أو نسوا ديارهم وذهبوا إلى التلال يتخذون في شعابها مسكناً؛ ولهجت الألسنة بكل ضروب الدعاء، وأدى الناس كل ألوان الشعائر الدينية التي لم تكن مألوفة في الأيام العادية، إذ أعادوها من جديد، كل ذلك فعلوه بغير ما جدوى... وأبدى سكان العاصمة استعدادهم لتضحية كل ما يملكون من نفائس من شتى الضروب، نفيساً في إثر نفيس (من أجل القوت) لكن لم يأبه لتلك النفائس أحد عندئذ... واحتشد السائلون الإحسان جماعات على جوانب الطريق، وامتلأت آذاننا بأصوات أنينهم الباكي... كان الناس جميعاً يموتون من جوع، وكلما تقدمت بنا الأيام، ازددنا يأساً حتى لقد أشبهنا ما تروى عنه القصة من سملك البركة؛ وانتهى الأمر حتى بأولئك الذين توحي سيماهم بالاحترام، والذين يرتدون القبعات ويغطون الأقدام، انتهى الأمر حتى بأولئك الناس إلى الإلحاف في سؤال الإحسان من باب إلى باب، وكان يحدث أحياناً أن يأخذك العجب كيف يستطيع هؤلاء الذين بلغت بهم تعاسة الحال كل هذا الحد أن يمشوا على أقدامهم، وإذا بك تراهم يسقطون أمام عينيك إعياء، فمات عدد لا يحصى من المجاعة، وكانوا يلفظون أرواحهم بجوار أسوار الحدائق أو إلى جوانب الطرقات؛ ولما كانت أجسادهم لا تجد من يزيلها من أماكنها، فقد امتلأ الهواء بالرائحة النتنة؛ حتى ما إذا أخذ التغير يطرأ



 صفحة رقم : 1455   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> العمال


على أجسادهم، نشأت مشاهد لا تستطيع العين أن تراها.... ومن لم يكن له كسب يشتري به القوت، هدم داره ليبيع أجزاءها في السوق، وقيل إن الحمل يحمله الرجل بكل طاقته، لم يكن ثمنه ليكفي سد رمقه يوماً واحداً، والعجب أنك كنت ترى في هذا الحطام من أخشاب المنازل، الذي كانوا يبيعونه وقوداً للنار، قطعاً مزدانة في بعض أجزائها بالألوان أو بالفضة أو بطلاء الذهب... وشيء آخر يستثير في النفس أشد أحزانها، وهو أنه إذا كان ثمة رجل وامرأة يربط بينهما رباط الحب الشديد، فالذي كان منهما أقوى حباً من الآخر، وأعمق ولاء، يموت قبل زميله؛ وعلة ذلك أن الواحد منهما يؤثر غيره على نفسه، فالذي يشتد حبه يقدم لمحبوبه- رجلاً كان أو امرأة- أي شيء يطلبه منه، فكان الوالدون بطبيعة الحال يموتون قبل أبنائهم؛ كذلك كنت ترى الرضع أحياناً عالقين بأثداء أمهاتهم، لا يعرفون أن هؤلاء الأمهات قد فاضت أرواحهن... وبلغ عدد الموتى في كيوتو الوسطى خلال الشهرين الرابع والخامس وحدهما 300ر42 من الأنفس البشرية(40). قارن هذه الفترة الفظيعة التي تخللت مجرى الزراعة، بالصورة التي يقدمها لنا "كيمفر" ساطعة عن الصناعات اليدوية في اليابان كما رآها في كيوتو سنة 1691. "كيوتو هي المستودع العظيم الذي تخزن فيه كل المنسوجات والسلع اليابانية، وهي المركز التجاري الرئيسي في الإمبراطورية؛ فتكاد لا تجد في هذه العاصمة الكبرى منزلاً واحداً لا يصنع فيه شيء أو يباع شيء؛ فالناس هاهنا يُصفّون النحاس ويسكون النقود ويطبعون الكتب ويطرزون أفخر المنسوجات بزهور الذهب والفضة. وهاهنا كذلك تصنع أحسن صنوف الصبغة وأندرها، وأروع النقوش فناً، وكل ضروب الآلات الموسيقية والصور والخزانات اليابانية، وشتى الأشياء التي تصاغ من الذهب وغيره من المعادن، وخصوصاً



 صفحة رقم : 1456   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> العمال


الصلب؛ مثال ذلك السيوف ذوات النصل القوي وغيرها من الأسلحة؛ كل ذلك يصنع هاهنا صناعة بلغت غاية الكمال، كما تصنع أفخر الأردية على خير طراز، وكل صنوف اللعب ونماذج الحيوان التي تحرك رؤوسها من تلقاء نفسها وأشياء أخرى أكثر عدداً من أن يحصرها العدد في هذا المكان؛ واختصاراً لست تستطيع أن تفكر في شيء مما لا تراه يصنع في كيوتو- وليس هنالك شيء مما يستورد من خارج البلاد- مهما بلغت دقة صناعته- مما لا تجد بين صناع العاصمة من يأخذ على نفسه أن يحاكيه.... إنه ليس في المنازل التي تقع في الشوارع الرئيسية إلا قلة لا تعرض شيئاً للبيع؛ ولم يسعني إلا العجب أنىَ لهؤلاء الناس الزبائن شراء هذه المقادير الهائلة من البضائع؟"(41). لقد استوردت اليابان قبل ذلك بزمن طويل كل فنون الصين وصناعاتها؛ وكما ترى اليابان اليوم قد بدأت تفوق معلميها من أهل الغرب في الاقتصاد والمقدرة على الإنتاج الآلي(42)، فكذلك حدث في أثناء حكومة توكوجاوا العسكرية، إذ أخذ صناعها ينافسون، بل وأحياناً يفوقون زملاءهم من أهل الصين وكورية الذين علموهم الصناعة؛ وكانت معظم الصناعة تقوم بها الأسرة في الدار- كما كانت الحال في أوربا في عصرها الوسيط- وكانت الأسرة تورث صناعتها ومهارتها من الوالد إلى ولده، وكثيراً ما أطلق على الأسرة اسم الصناعة التي كانت تقوم بها؛ وكذلك- كما كانت الحالة أيضاً في أوربا في عصرها الوسيط- تألفت نقابات كبرى، لم يكن قوامها الصفوف الدنيا من الصناع بقدر ما كان قوامها السادة الذين كانوا يستغلون الصناع استغلالاً لا يعرف الرحمة، وحددوا حق الالتحاق بهذه النقابات للأعضاء الجدد بقيود أسرفوا في ضيقها(43)؛ وكانت نقابة الصيارفة من أقوى النقابات، الصيارفة الذين كانوا يقبلون الودائع والتحويلات المالية و "الكمبيالات" ويقرضون القائمين على التجارة والصناعة والحكومة؛ وما جاءت سنة 1636



 صفحة رقم : 1457   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> العمال


حتى كانوا يؤدون كل العمليات المالية الكبرى(44). وأصبح التجار الأغنياء والممولون من أعلام أهل المدن، وأخذوا ينظرون بعين الحسد إلى السلطة السياسية التي كانت مقصورة على السادة الإقطاعيين الذين أثاروا في صدورهم الشحناء باحتقارهم السعي وراء الذهب؛ وأخذت الثروة التجارية تزداد شيئاً فشيئاً خلال عصر "توكوجاوا" حتى استطاعت آخر الأمر أن تتآزر مع المواهب الأمريكية والمدافع الأوربية على تحطيم القشرة المتحجرة فوق اليابان القديمة.



 صفحة رقم : 1458   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


الفصل الرابع



الشعب



قوام أجسادهم - عجائن الزينة - الثياب - الطعام - آداب المعاملة -



"سيك" - احتفال الشاي - احتفال الزهور - حب الطبيعة - الحدائق - المنازل


إن الشعب الذي يحتل أعلى مكانة في العالم السياسي المعاصر يتألف من أفراد قصار القامة، إذ يبلغ متوسط قامة الرجل منهم خمسة أقدام وثلاث بوصات ونصف البوصة، ويبلغ متوسط قامة المرأة أربعة أقدام وعشر بوصات ونصف البوصة؛ وقد جاءنا وصف لرجل هو من أعظم جنودهم، أعني "تامورامارو"، بأنه رجل جميل القوام إلى حد بعيد ... طوله خمسة أقدام وخمس بوصات"(45) ويذهب بعض علماء التغذية إلى أن هذا القصر في القامة يرجع إلى قلة الجير في الغذاء الياباني، وهذه القلة بدورها راجعة إلى قلة اللبن؛ وقلة اللبن سببها ارتفاع أثمان أراضي الرعي في مثل هذه البلاد الغاصة بأهليها(46)، لكننا لا ينبغي أن نعد هذه النظرية أكثر من فرض بعيد الاحتمال- شأنها في ذلك شأن كل ما يقال في العلم الذي يحلل غذاء الإنسان؛ ويبدو على النساء هناك ضعف وهزال، فالظاهر أن ما لهن من نشاط- وهن في ذلك كالرجال في نشاطهم هناك- يرجع إلى قوة الجهاز العصبي أكثر مما يرجع إلى القوة البدنية؛ ولست ترى علائم النشاط بادية إلا إذا دعت إليه ضرورات الحياة؛ ولهن جمال هو جمال التعبير الذي تنطق به وجوههن، وجمال المشية، وجمال القسمات؛ فهذه الرشاقة اللطيفة التي تراها فيهن مَثَلٌ جميل لما قد أدى إليه الفن في بلادهن. ومعاجين الزينة شائعة في اليابان وقديمة العهد فيها؛ كما هي الحال في



 صفحة رقم : 1459   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


سائر الأقطار؛ فترى الرجل منهم- حتى في العصر القديم الذي بسط فيه "كيوتو" زعامته على البلاد- ترى الرجل منهم إذا ما كان ذا منزلة اجتماعية، يُحَمِّرُ وجنتيه، ويضع المساحيق على وجهه، ويعطر ثيابه، ويحمل معه مرآة من ذهب(47)؛ وكذلك لبث نساؤهم قروناً طوالاً لا ترى وجوههن إلا مغطاة بالمساحيق؛ وفي ذلك تقول "السيدة سي شوناجون" في كتابها: "صور على الوسادة" (حوالي 994 ميلادية) مصطنعة الحشمة في قولها: "حَنَيْتُ رأسي فأخفيت وجهي بكمي، مخاطرة في ذلك بما قد يحدثه الكم من إزالة المسحوق عن وجهي فيبدو مُبَقَّعاً"(48)، فقد كان سيدات البدْع يحَمِّرْن خدودهن ويطلين أظفارهن، ويُذَهِّبْنَ أحياناً سيقانهن السفلى؛ فزينة المرأة في القرن السابع عشر لم تكمل بأقل من ستة عشر صنفاً، وهي في القرن الثامن عشر قد بلغت العشرين صنفاً، وعرَف النساء خمسة عشر طرازاً لتصفيف الشعر الأمامي، واثنى عشر طرازاً للشعر الخلفي، وكن يحلقن حواجبهن، ويرسمن مكانها أهِلَّةً أو غيرها من الرسوم؛ أو كن يضعن بدل الحواجب نقطتين سوداوين صغيرتين في أعلى الجبهة، لكي يحدثن بهما تناسقاً مع الأسنان التي كن يُسَوِّدْنها صناعةً؛ وكان تصفيف الشعر للمرأة عملاً يستغرق ساعتين إلى ست ساعات إن كان القائم بالتصفيف خبيراً بفنه؛ وكان معظم الرجال في عصر "هايي" يحلقون مقدمات رؤوسهم، ويجمعون ما تبقى من الشعر ضفيرة يمدونها وسط ذلك الجزء الأمامي الحليق، ليقسموه بها نصفين؛ وكانت اللحى ضرورة للرجال، رغم قلة شعراتها؛ ومن لم يكن لهم لحى بطبيعتهم، كانوا يضعون على وجوههم لحى صناعية؛ وكان يقدم للضيف في بيوت العلْية ملقط يسوّى به لحيته(49). كانت الثياب اليابانية في عصر "نارا" تقتفي أثر الثياب الصينية، فصدار وسراويل يغطيها ثوب محبوك على الجسم؛ فلما جاء عصر "كيوتو" وسع اليابانيون من ذلك الثوب بعض الشيء وزادوا من أجزائه؛ فالرجال والنساء



 صفحة رقم : 1460   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


كانوا يلبسون أثواباً بعضها فوق بعض يتراوح عددها من ثوبين إلى عشرين. وتختلف ألوان تلك الثياب باختلاف مكانة الملابس، وكانت تبدو أطرافها عند الكم متعددة الألوان كأنها الطيف في تداخل ألوانه؛ وجاء عهد كانت أكمام السيدة تتدلى إلى ما دون ركبتيها، وفي طرفها جرس يُتَنْتِن وهي تسير؛ وإذا كانت الطرقات مبتلة بالمطر أو بالثلج، كن يمشين على قباقيب من الخشب محمولة على كعوب خشبية يرتفع حول بوصة عن الأرض؛ وفي عصر "توكوجاورا" بلغ الإسراف في الثياب حداً جعل "السيافين" لا يعبئون بتقاليد الناس، ويحاولون الحد من هذا الإسراف بقوانين صارمة، فحرمت السراويل المبطنة بالحرير والموشاة كما حرقت الجوارب التي كانت تزخرف على ذلك النحو؛ وحرمت اللحى، وصنوف معينة من تصفيف الشعر؛ جاءت أيام كان رجال الشرطة فيها يؤمرون بالقبض على كل من يرونه في الطريق مرتدياً ثوباً فاخراً؛ وكان الناس يطيعون هذه القوانين أحياناً، لكنهم في معظم الأحيان كانوا يحتالون على التخلص منها بما عرف عن الإنسان من حماقة فطرية(50). لكن هذا الشغف الشديد بتعدد الأردية قد خفت حدته على مر الزمن؛ وأصبح اليابانيون من أكثر شعوب الأرض بساطة واحتشاماً وحسن ذوق. ولم يكن اليابانيون ليأخذوا عن سواهم من الشعوب شيئاً فيما يخص عادات النظافة؛ فالثياب تغير ثلاث مرات في اليوم الواحد عند من يستطيع إلى ذلك سبيلا؛ والناس جميعاً فقيرهم وغنيهم يستحمون كل يوم وأما في القرى، فكان الناس يستحمون في طسوت خارج منازلهم في



 صفحة رقم : 1461   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


الصيف، ويثرثر الجار مع جاره إذ هما يستحمان ثرثرة لا تنقطع(52)؛ وكانوا يستحمون في الشتاء بماء ساخن مبلغ حرارته مائة وعشر درجات، فيكون لهم ذلك وسيلة تدفئة من البرد؛ وكان غذاؤهم بسيطاً وصحياً قبل أن تطغى عليهم موجة الترف؛ ووصف الصينيون اليابانيين في الزمن القديم فقالوا عنهم إنهم "شعب طويل العمر، حتى ليكثر فيه الأفراد الذين يبلغون في أعمارهم مائة عام" (53). وكان الطعام الرئيسي عند الشعب هو الأرز، يضيفون إليه السمك والخضر ونبات البحر والفاكهة واللحم، كل بنسبة ثرائه؛ وكان اللحم لوناً من الطعام نادراً إلا بين الطبقة العالية وطبقة الجنود؛ وكان العامل الياباني يفضل هذا الطعام الذي يتألف من أرز وسمك ولا لحم، يتمتع برئتين سليمتين وعضلات قوية، فيستطيع الجري من خمسين ميلاً إلى ثمانين في أربع وعشرين ساعة دون أن يشكو إعياء. فإذا ما أضاف اللحم إلى غذائه، فقد قدرته هذه على الجري السريع وحاول الأباطرة في عصر كيوتو محاولة دينية قصدوا بها أن يؤيدوا قوانين التغذية كما تأخذ بها البوذية؛ فحرموا ذبح الحيوان وأكله؛ ولكن لما رأى الناس أن الكهنة أنفسهم كانوا يخرجون على تلك القوانين خفية، أخذوا يدخلون اللحم لوناً شهياً من الطعام ويسرفون في أكله كلما مكنتهم من ذلك قدرتهم المالية(57). فاليابانيون كالصينيين والفرنسيين يعدون إجادة الطهي علامة جوهرية للحضارة، حتى لقد أخذ الطهاة كأنهم في ذلك فنانون أو فلاسفة ينقسمون مدارس يناهض بعضها بعضاً بما تبدع كل منها من "وصفات".



 صفحة رقم : 1462   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


وأصبحت آداب المائدة عندهم من الأهمية بحيث عادلت أهمية الدين على أقل تقدير؛ إذ كان لهم قواعد دقيقة تنظم ترتيب القضمات مقاديرها، كما تنظم وضع الجسم في كل مرحلة من مراحل الوجبة، ولم يكن يجوز للسيدات أن تحدثن صوتاً في الطعام أو الشراب، أما الرجال فقد كانت تقتضيهم الأوضاع أن يدلوا على تقديرهم لكرم المضيف بجشئات عدة يظهرون بها عرفانهم بالجميل(58)؛ وكان الآكلون يجلسون على عقب واحد أو على العقبين فوق حصير، إزاء مائدة لا تعلو عن الأرض أكثر من بضع بوصات، أو قد يوضع الطعام على الحصير بغير حاجة إلى مائدة على الإطلاق، والعادة أن تبدأ الوجبة بشراب ساخن من عصير الأرز؛ ألم يعلن الشاعر "تاهيتو" في زمن بالغ في القدم مبلغ القرن السابع، بأن شراب "الساكي" هو الحل الوحيد الذي تفض به مشكلات الحياة جميعاً ؟


إن ما كان ينشده السبعة الحكماء



لأولئك الرجال الذين قدم بهم الزمان



هو- بغير شك- شراب "الساكي"



فبدل أن تجلس ساكناً



مفكراً، جاداً رصيناً



فخير ألف مرة أن تشرب "الساكي"



وأن تسكر به حتى تصيح صياحاً عالياً



فما دام الواقع الحق



هو أن الموت لاحق بنا جميعاً



فلنمرح



مادمنا على قيد الحياة



إن اللؤلؤة التي تتألق بريقها في الليل




 صفحة رقم : 1463   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب



أقل قيمة للإنسان من نشوة قلبه



التي تأتيه إذا ما شرب "الساكي".


لكن الشاي كان أكثر قدسية عند العلْية من "الساكي". فهذا النبات العجيب الذي نتغلب به على ما يفقده الماء من طعمه بعد الغلي، جاء إلى اليابان قادماً من الصين سنة 805، لكنه إذ ذاك لم يصب نجاحاً، ثم جاءها مرة أخرى سنة 1191 حيث استقر بها وأقام، فقد اجتنبه الناس أول الأمر باعتباره سماً لا ينبغي أن يقربوه؛ ولكن لما تبين للرجل من طائفة "السيافين" أن قليلاً من أقداح الشاي سرعان ما يرد إلى رأسه اتزانه بعد ما أصابه من دوار بسبب الإفراط في شراب "الساكي" ليلة البارحة، أخذ أهل اليابان يتبينون فائدة الشاي، ولقد أضاف ارتفاع ثمنه إلى سحره سحراً جديداً، فكان الناس يتهادون به ثمين الهدايا، بأن يتبادلوا الآنية الخزفية المليئة به؛ حتى لقد كان يُقَدَّمُ للمقاتلين جزاء ما أبلوا في أفعالهم الحربية الباسلة، فكان الذي يجود من هؤلاء بحيث يظفر بمنحة من الشاي، يجمع حوله الأصدقاء ليشاركوه هذا الشراب الملكي، ولقد جعل اليابانيون من شرب الشاي احتفالاً رشيقاً معقد الأوضاع، إذ وضع "ركيو" لذلك ست قواعد لا يجوز الخروج عليها، فارتفع شرب الشاي بفضل هذه القواعد الست إلى منزلة الطقوس الدينية، فمن قواعد "ركيو" هذا أن الدعوة التي توجه إلى الأضياف ليدخلوا قاعة الشاي، يجب أن تكون بالتصفيق بخشبتين معينتين؛ كما يجب أن يظل إناء الوضوء مليئاً بالماء الصافي، وإذا ما أحس ضيف من الأضياف بخطأ أو بنقص في أثاث المكان، وجب عليه أن يغادر من فوره دون أن يحدث بذلك ضجة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يجوز أن يغوص الحاضرون في حديث تافه، بل يجب عليهم ألا يطرقوا بالحديث إلا أموراً عالية جادة؛ ولا يجوز لأحد أن يفوه بكلمة واحدة مما يدل على غرور أو رياء، ثم لا يصح أن يستغرق الأمر أكثر من أربع ساعات،



 صفحة رقم : 1464   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


ولم يكن يستعمل إبريق للشاي في مثل هذه المحافل التي يطلق عليها "شا- نو- يو" (ومعناها ماء ساخن للشاي)؛ بل كان يوضع مسحوق الشاي في فنجان ممتاز في نوعه، ثم يصب فيه الماء الساخن، ثم يدور الفنجان بين الأضياف واحداً بعد واحد، كل منهم يمسح حافته مسحاً رقيقاً بمنشفة صغيرة، حتى إذا ما شرب آخر الشاربين آخر جرعة من الفنجان، أدير الفنجان بين الحاضرين من جديد ليفحصوه من الوجهة الفنية(60)، وعلى هذا النحو كان احتفال الشاي حافزاً للخزافين على إنتاج أقداح وآنية بالغة الجمال، كما كان هذا الاحتفال عاملاً على صياغة آداب اليابانيين في صورتها الهادئة الفاتنة التي يراعى فيها تبادل الاحترام . كذلك أصبحت الزهور موضع قدسية في اليابان؛ فكانت موضع تقدير من "ركيو" هذا الذي صاغ طقوس محافل الشاي، فكانت الزهور عنده تلقى من العناية ما تلقاه أقداح الشاي، ولما سمع أن "هيديوشي" آت لزيارته ليرى مجموعته المشهورة من زهور الأقحوان، أتى "ركيو" على كل الزهور في بستانه إلا واحدة، لعل هذه الواحدة تسطع في عيني هذا "السياف" المخيف سطوعاً يدرك منه أنها فذة في عالم الزهور ؛ وأخذ فن تنسيق الزهور يتقدم خطوة بعد خطوة مع "سرعة الشاي" في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر، أصبح موضعاً للاهتمام في حد ذاته، ونشأت طائفة "أساتذة الزهور" تعلم الرجال والنساء



 صفحة رقم : 1465   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


كيف ينبتون الزهور في البستان وكيف ينسقونها في دورهم، فكان هؤلاء الأساتذة يقولون إنه لا يكفي أن تعجب بالزهور نفسها، بل يجب أن تدرب نفسك على رؤية الجمال في ورقة الزهور وفي غصنها وفي عودها كما ترى الجمال في الزهرة نفسها، وأن تدرب نفسك على رؤية الجمال في زهرة واحدة كما تراه في ألف زهرة، وأن ترص الزهر رصاً لا يقوم على أساس اللون وحده، بل كذلك مع أساس طريقة ضمها في طاقات وصفها(64). وهكذا أصبح الشاي والزهور والشعر والرقص من لوازم الأنوثة بين بنات العلية في اليابان. الزهور عند اليابانيين بمثابة الدين، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً؛ وهم يرقبون في كل فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور؛ فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى أسبوع أو أسبوعين في أوائل شهر إبريل، يخيل إليك أن أهل اليابان جميعاً قد تركوا أعمالهم ليحدجوا فيها بأبصارهم؛ بل إنهم ليحجون إلى الأماكن التي تزخر بهذه المعجزة ويكمل فيها إزهار هذا الضرب من الشجر ؛ فهم لا يزرعون شجرة الكريز لثمارها، بل لأزهارها- وزهرتها رمز للمحارب المخلص الذي يستعد للموت في سبيل وطنه في اللحظة التي تصل فيها حياته أوج شبابها(65)؛ وقد يحدث أن يطلب المجرمون المساقون إلى الإعدام زهرة من زهرات الكريز وهم في طريقهم إلى الموت(66)، وتروي لنا "السيدة تشيو" في قصيدة لها مشهورة، أن فتاة قصدت بئراً تستخرج منه الماء، فلما وجدت الدلو والحبل ملتفاً عليهما أغصان النبات اللبلابي، قصدت مكاناً آخر تحصل منه على الماء، مؤثرة ذلك على قطع أسلاك النبات(67)، ويقول "تسورايوكي" "إنه ليستحيل عليك أن تفهم قلب الإنسان، لكن الزهور في قريتي ما تزال كسابق عهدها تنفث عبقها(68)، هذه العبارة الساذجة هي من أعظم الشعر



 صفحة رقم : 1466   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


الياباني، لأنها تعبر عن خصيصة عميقة لجنس بشري بأسره، تعبر عنها تعبيراً كاملاً يتعذر أن تحذف منه شيئاً، كما تعبر عن نتيجة صادقة من نتائج الفلسفة، إنك لن تجد بين أمم العالم أمة أحبت الطبيعة بمثل ما أحبها اليابانيون ولن تجد الناس في أي جزء من أجزاء الأرض غير اليابان يتقلبون راضين تقلبات الطبيعة كما تتبدى في الأرض والسماء والبحر، ولن تجد بلداً آخر غير اليابان عني فيه الناس بزراعة البساتين، أو بتغذية النبات إبان نموه، أو خصوه برعايتهم في دورهم، إن اليابان لم تنتظر حتى يجيئها "روسو" أو "وردزورث" لينبئها أن الجبال شوامخ أو أن البحيرات قد يكون لها روعة الجمال، فتكاد لا تجد في اليابان منزلاً بغير أصيص للزهور، كما توشك ألا تجد قصيدة واحدة في الأدب الياباني تخلو من وصف مشاهد الطبيعة في ثنايا سطورها؛ فكما أن "أوسكار وايلد" كان من رأيه أن إنجلترا لا ينبغي لها أن تحارب فرنسا لأن الفرنسيين يكتبون نثراً بلغ في فنه حد الكمال، فكذلك نقول أن أمريكا يجب أن تنشد السلام إلى آخر جهدها مع أمة تتعطش للجمال في عاطفة جارفة تكاد تبلغ في حدتها قوة نهمها إزاء السلطان. إن فن غرس الحدائق قد جاءها من الصين جنباً إلى جنب مع البوذية والشاي؛ لكن هاهنا ترى اليابانيين مرة أخرى يحولون بقوة إبداعهم ما قد تشربوه من غيرهم عن طريق المحاكاة، فتراهم يستملحون جمال الشيء إذا خلا من الاتساق. ويستجملون الأشكال المبتكرة التي لم يقتلها التكرار، فتجيء للرائي بمثابة المفاجأة، وهم يقصرون الأشجار والشجيرات بأن يحصروا جذورها في أُصُص، وتدفعهم في ذلك فكاهة شيطانية وصبٌّ عارم إلى أن يروضوا تلك الأشجار بحيث يصوغونها في أشكال يجوز لنا، إذا ما رأيناها تكوّن سور البستان أن نقول عنها إنها تمثل أشجار اليابان التي عصفت بها عواصف تلك البلاد فلوت أفنانها، وتراهم يبحثون في فوهات براكينهم وفي أوعر شطئانهم لعلهم واجدون صخوراً امتزجت بالمعادن بفعل



 صفحة رقم : 1467   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الشعب


النيران الداخلية، أو صاغها حجّارون صابرون في أشكال غريبة ملتوية الأجزاء، وهم يحتفرون البحيرات الصغيرة، ويشقون النهيرات الفوارة بمائها، ويصلون ضفافها بجسور تبدو للرائي كأنما جاءت نمواً طبيعياً في أشجار الغابات، وهم يدقون خلال هذه التكوينات المختلفة كلها مماش ينقشونها نقشاً دقيقاً، فتؤدي بك تارة إلى جديد يفجؤك، وطوراً إلى ركن هادي بليل الهواء. وحيث تسعفهم فسحة الأرض وكثرة المال تراهم أميل إلى أن يجعلوا بيوتهم جزءاً من حدائقهم، منهم إلى أن يجعلوا حدائقهم جزءاً من بيوتهم، ومنازلهم هزيلة البنيان لكنها جميلة؛ فلئن جعلت الزلازل الأبنية العالية خطراً داهماً، فقد عرف النجار وقاطع الخشب كيف يربط ألواح الخشب وشرائحه وعمده فيجعل منها مسكناً تبلغ بساطته حد التقشف. لكن يبلغ جماله حد الكمال، بحيث تراه في فن عمارته نسيج وحده، إنك لا ترى في مثل هذا المسكن ستائر أو أرائك أو أسرة أو مناضد أو مقاعد، ولا ترى دلائل بارزة تدل على ثروة الساكن ورفاهيته، لا ترى متحفاً للصور ولا التماثيل ولا التحف؛ لكنك ترى في ركن من الحديقة غصناً مزهراً، وعلى الحائط صورة من الحرير أو الورق، أو ترى قطعة من الخط الزخرفي، وتجد على الأرض المغطاة بالحصير وسادة وضع أمامها كرسي مما تسند عليه الكتب للقراءة، وعلى أحد جانبيها خزانة كتب وعلى جانبها الآخر مسندة، وهم يخفون الحشايا والأغطية في خزانة خشبية، ليخرجوها وينشروها على الأرض إذا حان وقت النوم، ففي مثل هذه الأحياء المتواضعة، أو في كوخ الفلاح الهزيل كانت تسكن الأسرة اليابانية، وتبقى على الحياة وعلى المدنية في "الجزر المقدسة" خلال ما تعاور البلاد من زعازع الحروب والثورات ومن فساد سياسي وكفاح في سبيل الدين.



 صفحة رقم : 1468   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الأسرة


الفصل الخامس



الأسرة



الأب المستبد - منزلة المرأة - الأبناء -



الأخلاق الجنسية - الـ "جيشا" - الحب


الأسرة هي المصدر الحقيقي للنظام الاجتماعي، ولئن كان هذا صحيحاً بالنسبة للغرب، فهو أصح بالنسبة للشرق، وجمع السلطة كلها في يد الأب في اليابان- كما هي الحال في سائر أنحاء الشرق- لا يدل على انحطاط في درجة الرقي الاجتماعي، بل يدل على إيثارهم للحكومة الأسرية على الحكومة السياسية؛ فليس للفرد من الأهمية في الشرق بمقدار ما له من الأهمية في الغرب، وذلك لأن الدولة في الشرق كانت أضعف منها في الغرب. ولذا تطلبت الدولة أن يكون إلى جانبها أسرة قوية النظام شديدة الطاعة لتقوم مقام السلطة المركزية التي تشمل بسلطانها شتى نواحي الحياة كبيرها وصغيرها على السواء؛ وقد فهمت الحرية في الشرق بالنسبة للأسرة لا بالنسبة للفرد، ذلك لأنه لما كانت الأسرة هي وحدة الإنتاج في عالم الاقتصاد كما كانت وحدة النظام الاجتماعي، كان النجاح أو الفشل، بل الحياة أو الموت، لا يخص الفرد الواحد بل يصيب الأسرة كلها؛ فكانت سلطة الوالد استبدادية، لكنها رغم استبدادها كانت تشوبها الرأفة التي لا يعقبها شيء من الضرر، وذلك بكونها تبدت للناس أمراً طبيعياً وضرورياً وإنسانياً؛ فقد كان من حقه أن يطرد من الأسرة زوج ابنته أو زوجة ابنه بينما يحتفظ بحفيدته في صحبته؛ بل كان من حقه أن يقتل ابنه أو ابنته إذا اتهم أحدهما بالدعارة أو غيرها من الجرائم الخطيرة، وأن يبيع أبناءه أو بناته في سوق النخاسة



 صفحة رقم : 1469   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الأسرة


أو سوق الدعارة ؛ وفي مستطاعه أن يطلق زوجته بكلمة واحدة(70), فإذا ما كان الرجل من عامة الشعب، كان الأغلب أن يقتصر على زوجة واحدة، أما إذا كان من أبناء الطبقة العليا فقد كان من حقه أن يحيط نفسه بالخليلات؛ ولم يكن أحد ليهتم بما يقترفه من خيانة زوجية آناً بعد آن(71)؛ ولما دخلت المسيحية بلاد اليابان، شكا الكتاب من أهل البلاد مما أحدثته من اضطراب في هدوء الحياة العائلية، بتعاليمها التي تجعل اتخاذ الخليلات واقتراف الزنا من الخطايا(72). وكانت منزلة المرأة في اليابان- كما هي الحال في الصين- أعلى في مراحل المدنية الأولى منها في المراحل المتأخرة، فترى ست نساء بين حكام البلاد إبان العهد الإمبراطوري، ولعبت المرأة في كيوتو دوراً هاماً، بل لعبت الدور الأول في حياة الأمة الاجتماعية والأدبية؛ وفي ذلك العهد الذهبي للثقافة اليابانية- لو جاز لنا أن نجازف بالرأي في مثل هذه النواحي الغامضة- سبق الزوجات أزواجهن في عالم الزنا، بحيث كن يبعن العفة بقول جميل يقال(73)، وتصف لنا "السيدة سي شوناجون" شاباً على وشك أن يرسل رسالة غرامية لخليلته، فقطعها ليغازل فتاة عابرة؛ ثم تضيف تلك الكاتبة المحبوبة البارعة في أدب المقالة، قولها: "ولست أدري إن كان الرسول الذي حمل رسالة هذا المحب معطرة بقطرات الندى انتثرت من الزهور العبقة، قد تردد في تقديمها إلى الحبيبة، إذ وجدها هي بدورها تستضيف عشيقاً"(74)؛ ثم انتشرت نظرية أهل الصين في إخضاع المرأة للرجل، حين انتشر النظام الإقطاعي الحربي، وحين تناوب البلاد تهاون وشدّة جعلا يتعاقبان على نحو طبيعي يسجله التاريخ؛ فأصبح المجتمع يسوده الذكور، وأذعن النساء "للطاعات الثلاث" الوالد والزوج والابن"؛ وأوشك الناس ألا يضيعوا جهدهم في تعليم النساء، اللهم إلا تعليمهن آداب الأوضاع الاجتماعية؛ وطولب النساء بالأمانة الزوجية يتهددهن في ذلك عقاب الإعدام؛ فإذا وجد



 صفحة رقم : 1470   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الأسرة


الـزوج زوجته متلبسـة بجريمة الزنا، كان من حقـه أن يقتلهـا مـع عشيقها فوراً؛ وقد أضاف "أيياسو" بدقته إلى هذا الحق شرطاً، فقال إن الزوج إذا قتل المرأة في مثل هذه الحال وأخلى سبيل الرجل، حق عليه هو نفسه عقاب الموت(76)؛ وقد نصح الفيلسوف "إكن" للزوج أن يطلق زوجته إذا ما أسرفت في حديثها من حيث ارتفاع الصوت، أو طول الكلام؛ أما إذا حدث أن كان الزوج منحل الخلق وحشي الطبع، فينبغي للزوجة في رأي "إكِن" أن تضاعف له الرحمة والدعة؛ وفي ظل هذا التدريب الشديد المتصل، أصبحت المرأة اليابانية أنشط الزوجات وأخلصهن وأكثرهن طاعة؛ وإن الرحالة الذين أخذهم العجب لهذا النظام الذي أنتج مثل هذه النتائج الحميدة، ليتساءلون إن كان من الحكمة أن ندخله في بلاد الغرب(77). ولم تكن كثرة النسل تجد تشجيعاً في اليابان "السامورية" على خلاف ما نراه في أقدم عادات المجتمع الشرقي وأكثرها قدسية؛ وذلك لأنه لما تكاثر السكان أحست الجزر الصغيرة أنها قد ازدحمت بأهليها، وأصبح من عوامل السمعة الحسنة للرجل من طائفة "السيافين" ألا يتزوج قبل سن الثلاثين، وألا ينجب من الأطفال أكثر من اثنين(78)؛ ومع ذلك فقد كان ينتظر من كل رجل أن يتزوج وأن ينسل الأبناء، فإذا تبين العقم في زوجته، كان من حقه طلاقها؛ وإن نسلت له بنات ولا أبناء، نصحوه بأن يتبنى ولداً حتى لا يضيع اسمه وتتبدد أملاكه، لأن البنات ليس من حقهن أن يرثن شيئاً(79)؛ وكان الأطفال يربون على أساس الفضائل الصينية، وفي جو من الأدب الذي يبث إخلاص البنوة، لأن انتظام الدولة وأمنها كانا يعتمدان على هذه الطاعة التي تُبعث في الأبناء والتي تكون معيناً للنظام في الأسرة، وقد أمرت



 صفحة رقم : 1471   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الأسرة


"الإمبراطورة كـوكن" فـي القرن الثامن كل أسرة يابانية أن تحصـل لنفسها على نسخة من متن الطاعة المفروضة على الأبناء للآباء"؛ وكان يطلب إلى كل تلميذ في مدارس الأقاليم أو في الجامعات أن يتقن دراسة هذا الكتاب إتقاناً تاماً؛ ولو استثنيت طائفة السيافين الذين كانت واجبات الطاعة عندهم مفروضة أولاً لسادتهم؛ إذا استثنيت هؤلاء، وجدت طاعة الأبناء لآبائهم هي الفضيلة الأساسية العليا عند اليابانيين؛ بل إن علاقة الياباني بالإمبراطور، كانت علاقة الحب والطاعة من ولد إلى والده؛ ولبثت هذه هي الفضيلة الرئيسية في التشريع الخلقي كله تقريباً عند عامة الناس في اليابان، حتى جاءهم الغرب بأفكاره الثورية التي تنادي بحرية الأفراد؛ وكان يستحيل على الجزر اليابانية أن تتحول إلى المسيحية، بسبب ما ورد في الإنجيل من أمر للرجل بأن يترك أباه وأمه ليلصق بزوجته(80). لم تكن الفضائل الأخرى- فيما عدا الطاعة والولاء- لتحتل بينهم مثل المكانة التي تحتلها في أوربا المعاصرة؛ فالعفة كانت فضيلة مرغوباً فيها، حتى لقد قتل بعض نساء الطبقة العليا أنفسهن حين تعرضت بكارتهن للخطر(81)، لكن كبوة واحدة لم يكن معناها عندهم القضاء على المرأة قضاء كاملاً؛ وأشهر القصص اليابانية، وهي قصة "جنجي مونوجاناري" هي عبارة عن ملحمة تروي قصة غواية في الطبقة العليا؛ وأشهر مقالات في الأدب الياباني، وهي المجموعة في كتاب "صور على الوسادة" لكاتبته "السيدة سي شوناجون" تراها في بعض المواضع كأنما أريد بها أن تكون رسالة في الأوضاع الصحيحة التي ينبغي مراعاتها عند اقتراف الخطيئة(82)، فقد نظر القوم إلى شهوات الجسد نظرتهم إلى أمر طبيعي كما ينظرون إلى الجوع والظمأ؛ فترى آلاف الرجال وكثير منهم أزواج محترمون يحتشدون ليلاً في "يوشي وارا"، (أي حي الزهر) في طوكيو؛ ففي ذلك الحي منازل خرجت على النظام، يسكنها خمسة عشر ألف زانية رخص لهن بالزنا ومهرن فيه، تراهن في الليل



 صفحة رقم : 1472   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الأسرة


جالسات وراء "شيش" نوافذهن، فاخرات الثياب بيضاوات بما وضعته على أجسادهن من مساحيق، مستعدات للغناء والرقص والدعارة لمن ليس له امرأة عشيرة من الرجال، أو لمن ساءت عشيرته منهم(83). وأعلى هؤلاء الزانيات ثقافة هن فتيات "الجيشا" الذي يدل اسمهن هذا على أنهن بارعات في فنهن (فكلمة جيشا مكونة من مقطعين: "جي" ومعناها بارع في الأداء الفني، و "شا" ومعناها شخص) وهن شبيهات بطائفة "الغواني" في اليونان، في أنهن قد أثرن في الأدب كما أثرن في عالم الحب، ومزجن فوضاهن الخلقية بالشعر، لكن حدث أن أمر الحاكم العسكري "أيناري" (1787-1836) عام 1791 بتحريم الاستحمام الذي يخلط الجنسين معاً، لأنه أحياناً يؤدي إلى الخروج على قواعد الأخلاق(84)، ثم أصدر أمراً شديداً سنة 1822 يقاوم به فتيات "الجيشا"، وقد وصف الواحدة منهن بأنها "مغنية تلبس فاخر الثياب، وتعرض نفسها مأجورة لتسلية رواد المطاعم، بالرقص والغناء في ظاهر الأمر، لكنها في الحقيقة تمارس شيئاً يختلف عن هذين كل الاختلاف(85)؛ ومنذ ذلك التاريخ عُدّ هؤلاء النساء بين "الزانيات اللاتي لا يقعن تحت الحصر" بحيث كن في عهد "كيمفر" يملأن حوانيت الشاي في القرى، كما يملأن الفنادق أينما وجدتها على طول الطريق(86)؛ ومع ذلك فقد لبثت الحفلات والعائلات تدعو فتيات "الجيشا" ليقمن بالتسلية في الاجتماعات؛ وفتحت مدارس تتلقى فيها فتيات "الجيشا" الناشئات على أيدي "الجيشا" القديمات مختلف أوضاع الفن؛ وكان يحدث أحياناً أن يجتمع المعلمات والمتعلمات معاً في حفلات الشاي، ليقمن بعرض الجانب المحتشم من ألوان ما يعرفونه من فنون؛ والآباء الذين يتعذر عليهم أحياناً أن يعولوا بناتهم، كانوا يوافقون بمحض اختيارهم على تدريب بناتهم في فنون "الجيشا" لعل ذلك يكون مورد كسب لهن؛ وما أكثر القصص اليابانية التي تروي عن بنات أسلمن أنفسهن لهذه الحرفة إنقاذاً لأسراتهن من أنياب الجوع(87).



 صفحة رقم : 1473   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> الأسرة


إن هذه العادات مهما بلغت من غرابة نفزع لها فزعاً لا تختلف في جوهرها عن عادات الغرب ونظمه الاجتماعية، اللهم إلا في الصراحة والتهذيب ولطف الأداء؛ وإنه ليقال لنا على سبيل التأكيد أن الأغلبية الكبرى من فتيات اليابان، لم تزل عفيفة كعذراوات الغرب سواء بسواء(88)؛ فعلى الرغم من هذه النظم الصريحة، ترى اليابانيين يحيون حياة لا بأس بها من حيث النظام والاحتشام؛ وعلى الرغم من أنهم كثيراً ما كانوا يأبون الجري مع دوافع الحب في عقد الزواج الدائم مدى الحياة، فقد كان في وسعهم أن يظهروا أرق العواطف نحو ما يميلون إليه من أشياء، فما أكثر الأمثلة التي نصادفها في حوادث التاريخ، وفي الوقائع الخيالية التي وردت في الأدب الياباني، التي تدل على أن الشبان والشابات قد قتلوا أنفسهم آملين أن يتمتعوا في الآخرة الأبدية بالاتصال الذي حرّمه عليهم آباؤهم على هذه الأرض(89)؛ وليس الحب هو الموضوع الرئيسي في الشعر الياباني؛ لكنك مع ذلك تسمع نغماته هنا وهناك بسيطة مخلصة عميقة على نحو لا يضارعها فيه أدب آخر:


آه، تحولت الأمواج البيض على مدى البصر،



مما أراه طافياً على بحر "أيسي"



زهراتٍ



أجمعها طاقةً



أقدمها هدية لحبيبّتي


ثم اسمع "تسورايوكي" العظيم يحكي قصة حبه المرفوض في أربعة أسطر، مزج فيها الطبيعة بشعوره مزجاً يميز الأدب الياباني:


أتقول ألا شيء وشيك الزوال



مثل زهرة الكريز؟.... لكني أذكر لحظة



ذبلت فيها زهرة الحياة بكلمة واحدة



ولم تعد تتحرك من الريح هَبّةٌ(.




 صفحة رقم : 1474   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> القديسون


الفصل السادس



القديسون



الدين في اليابان - تحول البوذية - الكهنة - الشكاك


إن شعور الولاء الذي يعلن عن نفسه في الوطنية وفي الحب وفي حب الوالدين وحب الأبناء وحب الخليل وحب الوطن، هو نفسه الشعور الذي لابد أن يلتمس في الكون باعتباره كلاً واحداً، قوة رئيسية يتوجه إليها بالولاء، ويستمد منها شيئاً من القيمة والمعنى اللذين يكونان أوسع نطاقاً من حدود الشخص الواحد، وأدوم بقاء من حدود عمر واحد؛ ولئن كان اليابانيون على درجة من الاعتدال في تدينهم- فهم ليسوا كالهندوس في عمق إيمانهم الديني وشدة انغماسهم في ذلك الدين، كلا ولا هم يشبهون قديسي الكاثوليكية في العصور الوسطى في حدة عاطفتهم الدينية وتهوسهم في عقيدتهم حتى بلغوا في ذلك حد تعذيب أنفسهم، وقل ذلك عن رجال الإصلاح الديني المتنازعين، لم يكن اليابانيون مثل هؤلاء ولا هؤلاء، ومع ذلك فقد أخلصوا إخلاصاً ظاهراً للتقوى وللصلاة وللفلسفة التي تنتهي بالتفاؤل، حتى لقد تميزوا بذلك من بني عمومتهم المتشككين الذين كان يفصلهم عنهم البحر الأصفر. لقد جاءت البوذية من لدن مؤسسها سحابة قائمة من التشاؤم، تدعو الناس إلى الموت، لكنها لم تلبث تحت سماء اليابان أن تحولت إلى عقيدة قوامها آلهة وافية، وإلى محافل دينية تبعث الغبطة في النفوس، وأعياد مرحة وحجيج إلى روائع الطبيعة على غرار ما كان يتمناه روسو، وجنة موعودة تسري عن الصدور كروبها؛ نعم إن البوذية آمنت بالجحيم كما آمنت بالجنة- بل آمنت



 صفحة رقم : 1475   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> القديسون


بوجود عدد من الجحيمات يبلغ مائة وثمانية وعشرين، أعدت لشتى الغايات ومختلف الأعداء وآمنت بعالم للشياطين، كما آمنت بعالم للقديسين، وكذلك آمنت بوجود شيطان مشخص (يسمونه أوني) له قرون وأنف أفطس ومخالب وأنياب، ويسكن في مكان مظلم يقع في الشمال الشرقي، وأنه آناً بعد آن يغري النساء بالذهاب إليه هناك ليمتعنه، كما يغري الرجال ليستمد منهم في غذائه مادة البروتين(92)؛ ولكن إلى جانب هذا كله كانت عقيدة البوذية اليابانية أن هناك "بوذين" كثيرين على استعداد أن يخلعوا على بني الإنسان جزءاً من الرحمة التي جمعوها مقداراً على مقدار بسبب عودتهم إلى الحياة مرة بعد مرة، وفي كل مرة يقضون حياتهم في فضيلة، وكانت هنالك كذلك عقيدة في آلهة رحيمة؛ مثل "مولاتنا كوانون" ومثل "جيزو" الذي يشبه المسيح؛ وفي أمثال هؤلاء تجد الرحمة الإلهية بأدق معانيها؛ وكانت العبادة يؤدّى بعضها صلاةً عند مذابح المنازل أو عند أضرحة المعابد، على أن معظم عبادتهم كان يتخذ صورة المواكب المرحة؛ كانت الديانة فيها تخلي المكان الأول لمظاهر الغبطة والفرح، وكانت التقوى تتبدى علائمها في لبس النساء للأثواب الجميلة، وفي انغماس الرجال في ألوان المتع؛ ويستطيع العابد الجادّ في عبادته أن يظهر روحه بالصلاة مدى ربع ساعة تحت شلال دافق في قلب الشتاء، أو بالأخذ في رحلات ينتقل فيها من ضريح إلى ضريح من أضرحة مذهبة ليشبع روحه أثناء هذه الرحلات بجمال أرض الوطن؛ ذلك لأن الياباني يستطيع أن يختار لنفسه مذهباً من عدة مذاهب في البوذية: فله أن يحقق وجود نفسه وأن يلتمس سعادة نفسه عن طريق شعائر "زِنْ" (أي التأمل) الهادئة؛ وله أن يتبع "نيشيرين" المتأجج فيأخذ عنه مذهب اللوتس ويظل في صيام وصلاة حتى يظهر له بوذا بشخصه؛ وله أن يختار لطمأنينة نفسه مذهب الأرض الطاهرة؛ بحيث لا يجد الخلاص إلا في الإيمان؛ وله أن يختار لنفسه سبيلها في حج صبور إلى حيث دير "كوباسان" وهناك يبلغ الجنة بأن



 صفحة رقم : 1476   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> القديسون


يدفن في أرض تقدست بفضل ما فيها من عظيم "كوبودايشي"- ذلك العظيم في علمه وفي تدينه وفي فنه، وهو الذي أسس في القرن التاسع مذهب "شنجون" أي مذهب "الكلمة الصادقة". وعلى وجه الجملة فالبوذية اليابانية هي من أمتع ما اعتقدت فيه الإنسانية من أساطير، ولقد غزت اليابان مسُالمةً، ولم يتعذر عليها وأن تخلي من نفسها مكاناً في لاهوتها وفي عداد آلهتها لمذاهب "شنتو" ولآلهتها، فاندمج بوذا عندهم بـ "أماتيراسو" وخصص مكان متواضع في المعابد البوذية لضريح "شنتو" وكان الكهنة البوذيين الذين ظهروا في القرون الأولى رجالاً فيهم الولاء وفيهم العلم وفيهم الرحمة، وكان لهم أثر عميق في تقدم الآداب والفنون في اليابان، حتى لقد كان بعضهم رسامين أو نحاتين من الطراز الأول، كما كان بعضهم علماء، أخذوا على أنفسهم ترجمة الأدب البوذي والصيني، فكانت ترجماتهم تلك حافزاً قوياً على التقدم الثقافي في اليابان، على أن هذا النجاح كان سبباً في إفساد الكهنة في العصور المتأخرة، إذ أصبح منهم كثيرون أميل إلى الكسل والجشع (لاحظ في هذا الصدد الصور الرمزية التي كثيراً ما يصورهم بها اليابانيون الذين يحترفون مهنة النقش على العاج أو الخشب)؛ وبَعُدَ بعض أولئك الكهنة عن بوذا بعداً فسيحاً بحيث راحوا ينظمون لأنفسهم جيوشاً ينشئون بها سلطة سياسية أو يحافظون بها على مثل هذه السلطة السياسية إن كانت قائمة(93)؛ ولما كان الكهنة يهيئون للناس ضرورة هي أولى ضرورات الحياة- وأعني بها تهيئة الأمل الذي يسّري عن النفوس. فقد ازدهرت صناعتهم حتى في الوقت الذي تدهورت فيه صناعات الآخرين؛ وأخذت ثروتهم تزداد قرناً بعد قرن، بينما لبث الشعب فقيراً على حاله(94)؛ وقد أكد الكهنة للعباد المؤمنين بأن الرجل في سن الأربعين يمكنه أن يشتري عقداً آخر من السنين يضيفه إلى حياته إذا هو دفع رسوماً لأربعين معبداً تدعو له بذلك، ويمكن للرجل في سن الخمسين أن يشتري عشر سنين أخرى إذا دفع الرسوم لخمسين



 صفحة رقم : 1477   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> القديسون


معبداً تدعوا له، وفي سن الستين يستأجر ستين معبداً وهكذا حتى يموت بسبب ما قد يكون في تقواه من نقص ، وكان الرهبان في عهد "توكوجاوا" يشربون الخمر إلى درجة الإسراف ويحيطون أنفسهم بالغانيات صراحة، ويمارسون اللواط ، ويبيعون أحسن مناصب الدين إلى من يدفع فيها أغلى الأثمان(96). ويظهر أن البوذية قد فقدت سلطانها على الأمة خلال القرن الثامن عشر؛ واتجه الحكام العسكريون نحو الكونفوشية، ونهض "مايوشي" و "موتو أوري" فتزعما حركة تدعو إلى إحياء عقيدة "شنتو"؛ وحاول علماء من أمثال "إشيكاوا" و "أراي هاكوسيكي" أن ينقدوا الدين نقداً عقلياً؛ فقال "إشيكاوا" في جرأة بأن الأصول الدينية التي تتناقلها الأجيال عن طريق الرواية الشفوية يستحيل أن تبلغ من اليقين مبلغ المدونّات المكتوبة؛ وأن الكتابة لم تدخل اليابان إلا بعد ألف عام تقريباً من الأصل المزعوم للجزر اليابانية وأهليها من أن هذه الجزر وهؤلاء الأهلين قد نشئوا من قطرات الرمح التي أمسك بها الآلهة، أو من أصلاب هؤلاء الآلهة؛ وأن ادعاء الأسرة الإمبراطورية بأنها من أصل إلهي، إن هو إلا حيلة سياسية، وأنه إذا لم يكن أسلاف البشر بشراً مثلهم فالأرجح أن يكونوا حيواناً، فذلك أقرب إلى التصديق من أن يكونوا آلهة(99)؛ وهكذا بدأت المدنية في اليابان القديمة- كما بدأت في بلاد كثيرة غيرها- بالدين، وهاهي ذي تدنو من ختامها بالفلسفة.



 صفحة رقم : 1478   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


الفصل السابع



المفكرون



كونفوشيوس يصل اليابان - ناقد للدين - ديانة العلماء - كايبارا إكن - في التربية - في



ألوان المتعة - المدارس المتنافسة - سبينوزا ياباني - إيتوجنساي - إيتوتوجاي -



أوجيو سواري - حرب العلماء - مايوشي - موتو أوري


جاءت الفلسفة- كما جاء الدين- إلى اليابان قادمة من الصين؛ وكما أن البوذية قد انتهت إلى "نيبون" بعد دخولها في "مملكة الشعب الوسطى الزاهرة" بستمائة عام؛ فكذلك بلغت الفلسفة مرحلتها الواعية في اليابان متخذة صورة المذهب الكنفوشيوسي بما يقارب من أربعمائة عام بعد أن أفاضت الصين على الكونفوشيوسية حياة جديدة؛ ففي نحو منتصف القرن السادس عشر، ظهر رجل من سلالة الأسرة اليابانية المشهورة، وهو: "فيوجيواراسيجوا" ولم يُرْضه العلم الذي حصله باعتباره راهباً؛ وكان قد سمع بحكماء عظماء في الصين، فقرر أن يرتحل إلى هناك طالباً للعلم؛ ولما كان الاتصال بالصين محرماً في سنة 1552، فقد دبر الكاهن الشاب خطة يعبر بها مياه البحر في سفينة كانت تشتغل بالتهريب؛ وحدث أن كان يرقب هذه السفينة في نُزُل في الميناء، فسمع إذ ذاك طالباً يقرأ بصوت عال باللغة اليابانية كتاباً صينياً عن كونفوشيوس؛ فكم كانت غبطة "سِجوا" حين علم أن الكتاب من تأليف "شوهسي" تعليقاً على "العلم الواسع"؛ فهمس لنفسه قائلاً: "هذا هو ما كنت أسعى إليه منذ طويل"؛ ولبث يبحث بحثاً لا يفتر حتى حصل على نسخة من هذا الكتاب كما حصل على نسخ من سائر ما أنتجته الفلسفة الكونفوشيوسية، وانغمس في تتبع ما في هذه الكتب من مجادلات،



 صفحة رقم : 1479   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


حتى نسي رحلته إلى الصين؛ ولم تمض بضعة أعوام حتى جمع حوله طائفة من طلبة العلم الناشئين، الذين نظروا إلى فلاسفة الصين نظرتهم إلى وحي أوحى به إليهم عن عالم طريف يسوده الفكر الدنيوي؛ وسمع "أيياسو" بما قد انتهت إليه تلك الدراسات، فطلب من "سِجوا" أن يأتيه ليعرض عليه مضمون هذه المؤلفات الخالدة التي تنسب إلى كونفوشيوس؛ لكن الكاهن المعتمد بنفسه آثر البقاء في مكانه الهادئ الذي يدرس فيه، وأرسل بدلاً عنه أحد تلاميذه النابهين؛ ورغم عكوفه هذا، أخذ الشباب الممتاز في عصره بفاعلية العقل، يحج إليه ويطرق بابه، واستوقفت محاضراته الأسماع إلى حد جعل الرهبان البوذيين في كيوتو يرفعون عقائرهم بالشكوى، قائلين إنها لثورة أن يقوم كاهن أصيل لم يزل في سلك الكهنوت، فيلقي محاضرات عامة أو يعلم الشعب(100)، غير أن الأمر حُلَّتْ عقدته بموت "سجوا" موتاً مفاجئاً (سنة 1619). وسرعان ما كسب تلميذه الذي أرسله إلى "أيياسو" شهرة فاقت شهرته، وأصبح له من التأثير ما بزَّ به تأثير أستاذه؛ وكان تلميذه هذا هو "هاياشي رازان" الذي مال إليه الحكام العسكريون الأولون من أسرة "توكوجاوا"، فجعلوه مستشارهم وطلبوا إليه أن يصوغ لهم الكلمات التي يتوجهون بها إلى الشعب؛ وضرب "أيمتسو" مثلاً لطائفة النبلاء، إذ جعل يختلف إلى محاضرات "هاياشي" في سنة 1630؛ وسرعان ما ملأ هذا الشاب الكونفوشيوسي صدور سامعيه حماسة للفلسفة الصينية، حتى لم يعد عسيراً عليها أن يجتذبهم من البوذية والمسيحية على السواء، ويضمهم إلى العقيدة الخلقية البسيطة التي أشاعها حكيم "شانتونج" في أرجاء الشرق الأقصى؛ فقد أنبأهم أن اللاهوت المسيحي خليط من أوهام خلقها الخيال ولا تعقلها العقول، كما أنبأهم أن البوذية مذهب يفت في عضد الأمة اليابانية ويتهدد نسيجها بالوهن وروحها المعنوية بالضعف؛ يقول لهم "رازان": "إن كهنتكم يذهبون إلى أن



 صفحة رقم : 1480   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


هذه الحياة الدنيا فانية زائلة؛ ثم تعملون أنتم على أن ينسى الناس علاقاتهم الاجتماعية، وبهذا تقتلون في الناس روح الواجب والفعل الصواب؛ ثم تقولون إن طريق الإنسان محفوف بالخطايا؛ فاهجر أباك وأمك وأبناءك ومولاك، وابحث عن الخلاص، وهاأنذا أقول لكم إني قد تعمقت الدراسة، فلم أجد قط للإنسان طريقاً سوى ولائه لمولاه وطاعة الابن لآبائه (101)؛ وكان "هاياشي" ينعم في شيخوخته بشهرة هادئة، حين شبت النار الكبرى في طوكيو سنة 1657، فشملته بين من قضت عليهم من أنفس بلغت مائة ألف؛ وكان تلاميذه قد أسرعوا إليه ينذرونه بالخطر الداهم، لكنه لم يفعل سوى أن هز رأسه وعاد بنظره إلى الكتاب؛ فلما دنت منه ألسنة اللهب، أمر بمحفة يحمل فيها، وحملوه وهو لم يزل يقرأ في كتابه؛ وقضى ليلته تلك- كما قضاها غيره ممن لا يحصيهم العدد- قضاها في العراء تحت نجوم السماء؛ ومات بعد ذلك بثلاثة أيام متأثراً بالبرد الذي أصابه أثناء الحريق. وعوضت الطبيعة اليابان عن موته، بأن هيأت لها في العام الثاني لموته رجلاً من أشد أنصار الكونفوشيوسية حماسة؛ وذلك هو "موروكيوسو" الذي اختار لنفسه "إله العلم" إلهاً يرعاه؛ ففي صدر شبابه قضى ليلة بأسرها أمام ضريح "متشيزان" يؤدي الصلاة، ثم وهب نفسه للعلم بعزم الشباب، وكانت عزيمته شديدة الشبه بعزيمة معاصره سبينوزا .


سأنهض من نومي كل صباح في الساعة السادسة، وآوي إلى مخدعي كل مساء في الساعة الثانية عشرة



ولن أجلس بغير عمل إلا إذا حال دون ذلك أضياف أو مرض أو غير ذلك من ظروف قاهرة....



لن أنطق بباطل




 صفحة رقم : 1481   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون



سأجتنب الألفاظ التي لا تعني شيئاً، حتى إن كنت أوجه الحديث إلى من هم دوني



سأكون معتدلاً في طعامي وشرابي



وإذا اشتعلتْ فيَّ الشهوات، سأقضي عليها فوراً، دون أن أعينها قط على التزايد



إن تشتت الفكر يفسد قيمة القراءة، فسأقاوم جهدي كل ما يصرفني عن حصر انتباهي، وسأقاوم في نفسي العجلة الزائدة.



سأسعى إلى تثقيف نفسي بنفسي، ولن أسمح للرغبة في الشهرة أو في الكسب أن تحدث في عقلي اضطراباً.



إني سأنقش هذه القواعد في صفحة قلبي، وسأحاول أن أتبعها.



وإني لأشهد الآلهة على ما أقول.


ومع ذلك فلم يكن "كيوسو" ليدعو الناس إلى عزلة العلماء التي نعهدها في رجال العصور الوسطى، بل كان له من رحابة الأفق ما كان "لجيته"؛ فوجَّه نفسه وجهة تساير العالم في مجراه: إن اعتزال الناس أحد الطرق، وإنه لطريقة جميلة، لكن الرجل الأعلى يسره أن يزور الأصدقاء؛ إن الرجل ليصقل نفسه صقلاً باتصاله بالناس؛ وإن من أراد تحصيل العلم، لا مندوحة له عن الصقل عن هذا الطريق أما إن اعتزل كل شيء وكل إنسان، فإنما هو بذلك يجاوز جادة الصواب.... إن طريق الحكماء ليس منفصلاً عن طريق الحياة اليومية. فعلى الرغم من أن البوذيين يسحبون أنفسهم من العلاقات الإنسانية، فيبترون الرابطة بين المتبوع وتابعه، وبين الوالد وولده، فهم عاجزون عن بتر علاقة الحب من أنفسهم.... إنها أنانية أن تسعى وراء السعادة في العالم الآخر. لا تظنوا أن الله بعيد عنكم، بل ابحثوا عنه في قلوبكم، لأن القلب هو مقر الإله(103).



 صفحة رقم : 1482   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


وأروع من يستوقف النظر من هؤلاء الكونفوشيوسيين اليابانيين القدامى رجل لا يسلكونه عادة في عداد الفلاسفة، لأن مثل "جيته" ومثل "إمرسن" كانت له القدرة على صياغة حكمته في عبارة رشيقة، فأحس الأدب غيرة عليه، وطالب به عضواً في جماعة الأدباء، وذلك هو "كايبارا إكِنْ" الذي كان ابن طبيب مثل أرسطو، ثم خرج عن دائرة الطب إلى فلسفة تجريبية تتصف بالدقة والحذر، فعلى الرغم من مشاركته في الحياة العامة بسيرة مليئة بالعمل، بما في ذلك كثير من المناصب شغلها، فقد وجد من وقته فراغاً يستعين به على أن يكون أعظم علماء عصره؛ وبلغت كتبه عدداً يربى على المائة، فكتبت له الشهرة في أرجاء اليابان جميعاً؛ وذلك لأنه لم يكتب كتبه تلك باللغة الصينية (كما كانت عادة زملائه الفلاسفة) بل كتبها باليابانية السهلة التي يستطيع كل من عرف القراءة أن يفهمها؛ وعلى الرغم من علمه وشهرته، فقد كان له- إلى جانب الغرور الذي تراه عند كل كاتب- تواضعٌ كالذي تراه عند كل حكيم، ويروي الرواة أن مسافراً على سفينة كانت تشق طريقها بحذاء الساحل الياباني، تعهد لزملائه في السفر أن يحاضرهم في الأخلاق الكونفوشيوسية؛ فأنصت له الجميع بادئ ذي بدء بما عرف عن اليابانيين من حب استطلاع وشغف بالزيادة من العلم؛ ولكن ما كاد يمضي المتكلم في حديثه قليلاً، حتى وجد السامعون أن كلامه يبعث الملل إذ لم يكن للرجل أنف حساسٌ يهديه إلى التمييز بين الحقيقة الحية والحقيقة الميتة، فانصرفوا عنه بعد وقت وجيز، ولم يبق منهم إلا سامع واحد، راح هذا السامع الواحد يتتبع البحث بتركيز عجيب في انتباهه، حتى سأله المحاضر حين فرغ من محاضرته، ما اسمه، فأجابه بصوت هادئ إن اسمه "كايبارا إكن"؛ فخجل الخطيب إذ علم أنه لبث ساعة أو يزيد، يحاول أن يلقن الكونفوشيوسية لرجل هو ألمع أعلام المذهب الكونفوشيوسي في عصره(104). كانت فلسفة "إكن" خالية من اللاهوت خلو فلسفة "ك أونج" منه إذ



 صفحة رقم : 1483   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


حصر نفسه في حدود هذه الدنيا مادام لا سبيل إلى معرفة سواها؛" إن حمقى الناس يؤدون صلواتهم لآلهة مشكوك في وجودها، طلباً لسعادة أنفسهم في الوقت الذي تراهم فيه يقترفون الموبقات(105)"؛ وحاول أن تكون فلسفته عاملاً على توحيد خبرة الحياة وحكمة العقل، وتوحيد الشهوات والخلق المستقيم، فقد كان من رأيه أن الأمر الأهم الذي يدعو قبل غيره إلى التفكير؛ هو كيف نجعل من الشخصية الإنسانية وحدة متكاملة، فذلك أجدى علينا من التفكير في كيفية توحيد المعرفة، وتراه يتحدث بلسان يدهشك أن تلمح فيه نغمة الزمن الذي نعيش فيه الآن. "ليس الغرض من التعلم هو مجرد التوسع في المعرفة، بل الغرض هو تكوين الشخصية؛ غاية التعلم أن نخلق من أنفسنا رجالاً صادقين قبل أن نكون رجالاً عالمين.... إن دراسة الأخلاق التي كانت تُعَدُّ عماد التعليم في مدارس العهد القديم تكاد لا تجد مكاناً في مدارسنا اليوم، لكثرة ما يطلب إلى التلاميذ دراسته من مواد؛ لم يعد الناس يرون في صالحهم أن ينفقوا مجهودهم في الإصغاء إلى تعاليم الأعلين من رجال الحكمة القدماء، ونتج عن ذلك أن ضحينا على المذبح الذي يسمونه "حق الفرد" بعلاقات الود بين السيد وخادمه، والرئيس ومرؤوسيه، والكبير والصغير. السبب الحقيقي الذي حدا بالناس ألا يقدروا تعاليم الحكماء هو أن العلماء يحاولون أن يتظاهروا بعلمهم فذلك عندهم أولى من أن يعيشوا على غرار ما جاء في تعاليم الحكماء"(106). ويظهر أن شباب عصره قد توجه إليه باللوم على جموده، لأننا نراه يلقي في وجوههم درساً لا بد لكل جيل قوي من الناس أن يعود إلى دراسته: "قد تظنون يا أبنائي أن كلمات رجل كهل تدعو إلى السأم، ومع ذلك فإذا ما لقنكم أبوكم درساً، فلا تزوروّا عنه، بل أصغوا إلى ما يقول؛ قد



 صفحة رقم : 1484   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


تظنون أن تقاليد أسرتكم أمر سخيف، ومع ذلك فلا تحطموها، لأنها تجسيد لحكمة آبائكم"(107). ولعله كان يستحق اللوم على أهم كتبه وعنوانه "أونا ديكاكو" ومعناه "الحكمة العظمى للنساء" لأن هذا الكتاب كان له تأثير رجعي قوي على مركز المرأة في اليابان، لكنه لم يكن واعظاً متجهماً يحاول أن يتلمس الخطيئة في كل ما يجلب المتعة، فقد أدرك أن من مهام المربي أن يعلمنا كيف نستمتع بالبيئة التي نعيش فيها، كما يعلمنا أن نفهم تلك البيئة وأن نتحكم فيها (إذا استطعنا): "لا تدعوا يوماً واحداً يفر من أيديكم بغير متعة... لا تسمحوا لحماقة الآخرين أن تنال من أنفسكم تعذيباً... تذكروا أن الدنيا لم تخل من الحمق منذ أول خلقها.... فلا ينبغي إذن أن نغّم أنفسنا، أو أن نضيع أسباب متعتنا، حتى إن حدث لأبنائنا وأشقائنا وأقربائنا أن يكونوا أثرين فيتجاهلوا خير مجهوداتنا في سبيل إسعادهم... إن "ساكي" (نوع من الخمر) هو هبة السماء الرائعة، فهي توسع القلب إذا ما شربناها بمقادير قليلة، وهي كذلك تنعش الروح إذا ما ناله الهم، وتفرق الهموم وتصلح الصحة، وبذلك تعين الإنسان وأصدقاءه أيضاً على التمتع بأسباب اللذة، غير أن من يسرف في شرابها يفقد احترامه، وينزلق لسانه بالثرثرة، وينطق بكلمات مسيئة كأنه مجنون... اشربوا "الساكي" بالمقدار الكافي لإنعاش نفوسكم ثم لا زيادة، وبذلك يمكنكم أن تتمتعوا برؤية الزهر وهو يتفتح من أكمامه، إن من الحمق أن تسرف في الشراب فتفسد على نفسك هذه الهبة العظيمة التي وهبتها لك السماء"(108). ولقد وجد- كما وجد غيره من سائر الفلاسفة- أن الطبيعة هي آخر موئل يلوذ به ليلتمس سعادته: "لو أننا جعلنا قلوبنا معين النعيم، وأعيننا وآذاننا أبوابه، ثم اجتنبنا سافل الشهوات إذن لتكاثر نعيمنا، لأننا عندئذ نصبح سادة الجبال والماء والقمر



 صفحة رقم : 1485   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


والزهور؛ ولا يكون بنا حاجة إلى سؤال أحد يهبنا هذه الأشياء؛ كلا ولا بنا أن ندفع سناً (مليماً) واحداً لنظفر بها، لأن هذه الأشياء لا يملكها إنسان بعينه، إن أولئك الذين يستطيعون أن يستمتعوا بجمال السماء من فوقهم، وجمال الأرض من تحتهم، ليس بهم حاجة إلى أن يغبطوا الأغنياء على رفاهية عيشتهم، لأنهم عندئذ يكونون أغنى من أغنى الناس؛ إن مشاهد الطبيعة في تغير دائم، فلست تجد صباحين أو مساءين على أتم تشابه... ففي لحظة ما قد يحس الإنسان كأن جمال الدنيا بأسره قد انمحى؛ لكن ما هو إلا أن يأخذ الثلج في السقوط، وينهض الإنسان من نومه في الصباح التالي، ليجد القرية والجبال قد تحولت إلى فضة، وتدب الحياة في الأشجار التي كانت عارية، إذ يعود إليها بأزهارها... إن الشتاء يشبه نعاس الليل، الذي يجدد لنا القوة والنشاط.


إنني أحب الزهر، فأنهض من نومي مبكراً



وأحب القمر، فآوي إلى مخدعي متأخراً....



إن الناس يجيئون ويروحون كأنهم مجاري الماء العابرة



أما القمر فباق على طول العصور


لقد كان تأثير الكونفوشيوسية على التفكير الفلسفي في اليابان أشد منه في الصين نفسها، لأنه قضى هناك على كل مقاومة من فريق الثائرين من جهة، كما قضى على المثاليين المتصوفين من جهة أخرى؛ إن مدرسة "شوشي" التي كان من رجالها "سيجوا" و "رازان" و "إكن"، التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى "شوهسي" لأنها اتبعت طريقته في تفسير الكتب الصينية التي تحتوي على المتون، تفسيراً توخى فيه التزام الأصل وعدم الحرية في التصرف، ولقد نهضت مدرسة أخرى ظلت تقاومها حيناً، هي مدرسة "أويومي" التي كان على رأسها "وانج يانج منج" الذي عرفه "نيبون" باسم "أويومي"



 صفحة رقم : 1486   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


ففلاسفة اليابان الذين كانوا ينتمون إلى مدرسة "أويومي" اقتفوا أثر "وانج" في استدلال الصواب والخطأ الأخلاقيين من ضمير الفرد، أكثر مما عمدوا في ذلك إلى تقاليد المجتمع وتعاليم الحكماء الأقدمين، يقول "ناكايي توجو" (1608-48): "لقد لبثت أعواماً طوالاً أؤمن إيماناً قوياً في "شوشي" حتى شاءت رحمة الله أن ترد إلى اليابان لأول مرة مؤلفات "أويومي"، ولولا ما استقيته من تعاليمها، لظلت حياتي فارغة جدباء"(110)، وعلى ذلك أخذ "ناكايي" على نفسه أن يبشر بوحدانية مثالية، تذهب إلى أن العالم وحدة من "كي" و "ري"- أي وحدة من الأشياء الجزئية (أو الأعراض) والعقل أو القانون؛ والله، وهذه الوحدة شيء واحد؛ فعالم الأشياء جسده والقانون الكوني روحه(111)، فقد جرى "ناكايي" مجرى "سبينوزا" و "وانج يانج منج" و "الفلاسفة المدرسيين في أوربا" في قبوله لهذا القانون الكوني بشيء من الحب العقلي، واعتبر الخير والشر لفظتين بشريتين، ووجهة نظر ذاتية لا تعبر عن حقائق موضوعية، وهو كذلك يشبه "سبينوزا" شبهاً عجيباً في أنه رأى معنى من معاني الخلود في الوحدة التأملية التي تدمج روح الفرد في قانون العالم، أي عقل العالم الذي لا يخضع لقيود الزمان: "إن عقل الإنسان هو عقل العالم الذي يخضع في سيره لمنطق العقل، لكن هناك عقلاً آخر يسمى بالضمير، وهذا هو الجانب الذي لا ينتمي إلى عالم الأشياء بل هو لا نهائي وأبدي، لأنه لما كان الضمير فينا هو نفسه العقل الإلهي أو الكوني، كان بغير بداية أو نهاية، فإذا ما سلكنا في أفعالنا مهتدين بهذا الجانب من العقل، أي بالضمير كنا بمثابة التجسيد اللانهائي والأبدي، وكانت لنا حياة خالدة إلى الأبد"(112). كان "ناكايي" رجلاً له إخلاص القديسين، لكن فلسفته لم تصادف هوى لا عند الشعب ولا عند الحكومة، فقد ارتعدت حكومة الحكام



 صفحة رقم : 1487   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


العسكريين للفكرة القائلة بأن كل إنسان له حق الحكم بنفسه فيما يعتبر صواباً وما يعتبر خطأ، فلما نهض رجل آخر، هو "كومازاوا بانزن" يبشر بمذهب "أويومي" ثم تجاوز حدود الميتافيزيقيا وأوغل في السياسة، بحيث انتقد جهل "السيافين" وخواء حياتهم، صدر أمر بالقبض عليه، وكان "كومازاوا" يدرك أهمية العقبين في الإنسان، باعتبارهما عضوين ينفعان الفلاسفة بصفة خاصة في الفرار، فهرب إلى الجبال، حيث قضى معظم ما بقي له من سنين في غمرة الغابات(113)، وفي سنة 1795 صدر مرسوم يحرم المضي في تعليم فلسفة "أويومي"، وكان العقل الياباني من الاستسلام بحيث توارت تعاليم "أويومي" منذ ذلك الحين، فاندست في عبارات كونفوشيوسية، أو دخلت عنصراً متواضعاً في القانون العسكري، مما يدل على ما قد يبديه مجرى التاريخ من متناقضات، إذ حولت العقيدة البوذية المسالمة إلى تعاليم توحي للمقاتلين المتحمسين للوطن بالقتال. ولما تقدم البحث العلمي في اليابان، بحيث صار في مقدور العلماء أن يتصلوا بكونفوشيوس في أصوله إلا في شروح الشارحين استطاع رجال من أمثال "إيتو جنسي" و "أوجيوسوراي" أن يؤسسوا المدرسة الكلاسيكية للفكر الياباني، التي أصرّت على أن تتخطى الشارحين جميعاً، فتصل بـ "ك أونج" العظيم اتصالاً مباشراً، ولم تكن أسرة "إيتو جنسي" لتتفق معه في تقديره لكونفوشيوس ووصمته بأنه يسبح من دراساته في عالم نظري مجرد، وتنبأت له بأنه سيموت فقيراً وأنبأته: "بأن البحث العلمي من خصائص أهل الصين، أما في اليابان فليس البحث العلمي بذي غناء، لأنك حتى إن برعت فيه، فلن تجد من تبيع له بضاعتك، وخير لك ألف مرة أن تكون طبيباً وتكسب المال" لكن الطالب الناشئ أصغى إلى قول أسرته دون أن يستمع له، ونسي منزلة أسرته وثراءها، وأطرح كل طموح مادي جانباً، وتنازل عن بيته وأملاكه إلى أخيه الأصغر، والتمس مكاناً معزولاً يعيش فيه ليتابع



 صفحة رقم : 1488   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


دراساته بغير اضطراب، وكان وسيماً حتى لقد ظنه الناس أحياناً أميراً، لكنه ارتدى ثوب فلاح وتوارى عن أعين الناس، يقول مؤرخ ياباني: إن "جنسي" كان فقيراً معدماً، بلغ من الفقر حداً أعجزه في نهاية العام أن يصنع كعك الأرز الذي يصنعه الناس في بداية العام الجديد؛ لكنه كان ثابت الجنان إزاء فقره هذا؛ ولقد جاءته زوجته وجثت تحت ركبتيها أمامه وقالت: "سأودي واجبات الدار مهما تكن الظروف، لكن ثمة شيئاً لا يحتمل، ذلك أن ولدنا "جنسو" لا يفهم معنى ما نحن فيه من فقر، وهو يغبط أبناء الجار على ما يأكلونه من كعك الأرز، وإنني أؤنبه على ذلك، لكن قلبي ينفطر له حتى ليكاد ينشق نصفين "لكن جنسي مضى منكباً على كتبه دون أن يجيبها بكلمة، ثم خلع خاتمه العقيق وناولها إياه، كأنما يقول لها: بيعي هذا واشتري بضعة كعكات من الأرز"(114). أنشأ "جنسي" في كيوتو مدرسة خاصة، وأخذ يحاضر هناك مدى أربعين عاماً، وأهم ما قام به أنه درب عدداً يقرب من ثلاثة آلاف طالب في الفلسفة وكان يتحدث آناً بعد آن في الميتافيزيقيا، ويصف الكون بأنه كائن عضوي حي، تتغلب فيه الحياة على الموت دائماً، لكنه كان مثل كونفوشيوس يتحيز تحيزاً شديداً لما هو نافع على هذه الأرض. "إن ما لا ينفع في حكم الدولة، أو في تيسير العلاقات بين أفراد الإنسان، لا غناء فيه... لابد للتعلم أن يكون مصحوباً بالفاعلية والحياة؛ ولا ينبغي أن يقتصر على مجرد النظريات الميتة أو التأمل.... إن من يعرف الطريق يلتمسها في حياته اليومية... إنك إذا حاولت أن تلتمس الطريق بعيداً عن العلاقات الإنسانية، فأنت بمثابة من يحاول أن يمسك الريح... إن الطريق المألوفة ممتازة بحسنها، ولن نجد في العالم ما يفوقها حسناً"(115).



 صفحة رقم : 1489   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


وبعد موت "جنسي" مضى ولده "إيتو توجاي" في مواصلة مدرسته وعمله؛ وكان "توجاي" يهزأ بالشهرة ويقول: "هل يسعك أن تسمي من يُنسى اسمه بمجرد موته إلا بأحد اسمين، فإما حيوان وإما رماد؟ ولكن ألا يخطئ الإنسان إذا ما اشتدت رغبته في تأليف الكتب وإنشاء العبارات لكي يلقى اسمه إعجاباً ولا ينساه الناس؟"(116) وهو نفسه كتب مائتين واثنين وأربعين كتاباً، ومع ذلك عاش حياة متواضعة تملؤها الحكمة؛ ويشكو النقاد من أن هذه الكتب كانت كلها قوية فيما أسماه "موليير" بالفضائل التي تجلب النعاس ولكن تلاميذ "توجاي" يقولون إنه كتب مائتين واثنين وأربعين كتاباً دون أن يقول كلمة واحدة عن أي فيلسوف آخر، ولما مات وضعوا على قبره هذا "الشاهد" الذي نغبطه عليه:


إنه لم يتحدث في أخطاء الآخرين....



ولم يهتم بشيء إلا بالكتب



وكانت حياته خلواً من الحوادث


على أن أعظم رجل من أتباع كونفوشيوس المتأخرين، هو "أوجيوسوراي" فعلى حد قوله هو "منذ عهد جمو- أول أباطرة اليابان- لم يظهر من يوازيني إلا نفر قليل" وهو على نقيض "توجاي" في أنه كان يحب النقاش، وكان يعبر عن رأيه بقوة عن الفلاسفة الأحياء منهم والأموات؛ فلما سأله سائل شاب: "ماذا تحب غير القراءة؟" أجاب "ليس أحبِّ إليّ من أكل الفول المحروق ونقد عظماء اليابان" ويقول "ناميكاوا تنجين": "إن سوراي رجل جد عظيم، لكنه يظن أنه يعلم كل ما يمكن علمه، وهذه عادة سيئة"(118)، وكان في مستطاع "أوجيو" أن يكون متواضعاً إذا ما أراد ذلك، ومن رأيه أن اليابانيين جميعاً- ويذكر نفسه بينهم صراحة- قوم همج، وليس يعرف المدنية غير أهل الصين، وأنه "إذا كان هناك شيء لا بد من قوله، فقد قاله



 صفحة رقم : 1490   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


بالفعل الملوك القدامى أو كونفوشيوس"(119)، وثارت في وجهه فئة "السيافين" وفئة العلماء، لكن الحاكم العسكري المصلح "يوشيموني" أعجبته فيه شجاعته ودافع عنه ضد السوقة العقلية، وقد أقام "سوراي" منبره في "ييدو" وراح يضحك ويسخر من "جنسي" الذي كان قد أعلن أن الإنسان خير بطبعه، فما أشبهه في ذلك بـ "هسون تسي" حين عارض النزعة العاطفية في "موتي" أو بـ "هُبز" حين فند "روسو" قبل أن يأتي "روسو" إلى عالم الوجود، وقال: "سوراي" إن الإنسان على نقيض ما ظنه "جنسي" شرير بطبعه، يختطف كل ما تقع عليه يداه، ولا يجعل منه مواطناً مقبولاً إلا الأخلاق والقوانين الموضوعتين، والتربية التي لا تلين في معاملته: "تثور في الإنسان شهواته بمجرد ولادته، فإذا عجزنا عن تحقيق تلك الشهوات في أنفسنا- وهي شهوات لا حد لها ينشأ النزاع، فإذا ما نشأ نزاع أعقبته الفوضى، ولما كان الملوك القدامى يكرهون الفوضى، فقد وضعوا أسس اللياقة والاستقامة في السلوك، واستطاعوا بهما أن يلجموا شهوات الناس.... فليست الأخلاق سوى الوسائل الضرورية لضبط رعايا الإمبراطورية فهي لم تنشأ مع الفطرة ولا مع نزوات القلب الإنساني، لكنها من تدبير طائفة معينة من الحكماء امتازت بذكائها، ثم خلعت عليها الدولة مسحة السلطان(120). وكأنما أرادت الأيام أن تثبت تشاؤم "سوراي"، فهبط الفكر الياباني في القرن الذي تلاه، هبط حتى عن الحد المتواضع الذي كان قد ارتفع إليه بفضل محاكاته لكونفوشيوس، وضاع أباديد في حرب أراقت المداد بين وثنيي الصين ومؤمني اليابان، وفي هذه الحرب التي شنها الأقدمون على المحدثين، كتب النصر للمحدثين، لأنهم جعلوا الأسلاف موضع إعجابهم، فتفوقوا في ذلك على أعدائهم وكانت الطائفة التي تناصر الصين من العلماء "واسمها كانجا كوشا" تسمى بلادهم اليابان- وهي وطنها -قطراً همجياً،



 صفحة رقم : 1491   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


واحتجت بأن الحكمة كل الحكمة مقرها في الصين، وقنعت بترجمة الأدب والفلسفة الصينيين والتعليق عليهما، أما العلماء الذين يناصرون اليابان (واسم جماعتهم واجا كوشا) فقد هاجموا هذا الموقف من معارضيهم لأنه موقف يؤدي إلى إشاعة الجهل ونبذ الروح الوطنية، ودعوا أمتهم أن تستدبر الصين، وأن تجدد قواها بالأخذ عن تراثها هي من شعر وتاريخ، وهاجم "مايوشي" أهل الصين قائلاً إنهم قوم أشرار بفطرتهم، ومجد اليابانيين لأنهم خيرون بطبعهم، وعزا فقر اليابان القديمة في الأدب والفلسفة إلى أن اليابانيين لم يكونوا بحاجة إلى إرشاد في الفضيلة ولا في العقل . وحدث لطبيب شاب اسمه "موتو أوري نوريناجا" أن زار "مايوشي" فتأثر به إلى حد جعله ينفق أربعة وثلاثين عاماً في كتابة أربعة وأربعين مجلداً، يشرح فيها الـ "جوجيكي" ومعناها "مدونات الحوادث القديمة"- وهي المستودع الأصيل لأساطير اليابان، وخصوصاً أساطير "شنتو"، فجاء هذا الشرح وعنوانه "كوجيكي دن"، هجمة عنيفة على كل ما هو صيني في اليابان أو خارج اليابان، واستمسك استمساكاً شديداً بالصحة الحرفية لما ترويه القصص البدائية عن الأصل الإلهي الذي نشأت عنه الجزر اليابانية، والأباطرة والشعب، وشجع هذا الكتاب طبقة المثقفين في اليابان- رغم أنف الأوصياء على العرش عندئذ من أفراد أسرة توكو جاوا- شجعهم على الرجوع إلى لغة بلادهم وطرائق العيش فيها وتقاليدها، ومعنى ذلك كله أن يعيدوا عقيدة "شنتو" بدلاً من البوذية، وأن يردوا للأباطرة سيادتهم على طبقة



 صفحة رقم : 1492   



قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأقصى -> اليابان -> الأسس السياسية والخلقية -> المفكرون


الحكام العسكريين، فقد كتب "موتو أوري" يقول: "كانت اليابان هي التي ولدت إلهة الشمس "أماتيراسو"، وتدل هذه الحقيقة على سيادتها على سائر الأقطار جميعاً"(122)، واستأنف تلميذه "هيراتا"- بعد موت موتو أوري- سبيل الحاجة في الموضوع فقال: "إنه لمما يدعو إلى الأسف الشديد، أن يسود كل هذا الجهل بالشواهد التي تدل على المذهبين الأساسيين، وهما أن اليابان بلد الآلهة، وأهلها سلالة الآلهة فبين الشعب الياباني وبين الصينيين والهنود والروس والهولنديين والساميين والكمبوديين وسائر أمم العالم، خلاف في النوع، ولا يقتصر الأمر على اختلاف في الدرجة، فلم يكن مجرد الغرور بالنفس هو الذي جعل أهل هذه البلاد يسمونها أرض الآلهة؛ فالآلهة الذين خلقوا كل بلاد الدنيا ينتمون جميعاً بغير استثناء إلى العصر الإلهي، وجميعهم ولدوا في اليابان، فاليابان هي موطنهم الأول، والعالم كله يعترف بصدق هذا النبأ، فالكوريون هم أول من أتيح له أن يعرف هذه الحقيقة ثم انتشرت منهم تدريجاً حتى عمَّت المعمورة بأسرها، وآمن بها الناس أجمعون.... فلئن كانت البلاد الأخرى قد نشأت طبعاً بفعل قوة الآلهة الخالقة، إلا أنها لم تكن وليدة "إيزاناجي" و "إيزانامي"، ولا كانت المنشأ الذي ولدت فيه إلهة الشمس، وهذا هو علة انحطاطهم عنا"(123). هؤلاء هم الناس، وتلك هي الآراء، التي كونت حركة "سونوجواي" ومرماها أن "تسمو بالإمبراطور، وأن تطرد الأجانب الهمج"؛ فمكنت هذه الحركة إبان القرن التاسع عشر للشعر الياباني أن يطيح بسلطة الحكام العسكريين؛ وأن يعيد السلطان والسيادة "للبيت الإلهي"، ثم أخذت هذا الحركة تلعب دوراً نشيطاً في القرن العشرين، إذ أخذت تغذي تلك الوطنية المستقلة التي لن تطمئن وترضى إلا إذا بسط "ابن السماء سلطانه على ملايين الناس في بلاد الشرق التي تعود، إلى بعثها، متكاثرة بخصوبة نسلها.