الفرق بين المراجعتين لصفحة: «محلى ابن حزم - المجلد الثالث2»

لا ملخص تعديل
 
(Removing all content from page)
سطر 1: سطر 1:
874 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ احْتَاجَ إلَى حَلْقِ رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ لِمَرَضٍ , أَوْ صُدَاعٍ , أَوْ لِقَمْلٍ , أَوْ لِجُرْحٍ بِهِ , أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فَلْيَحْلِقْهُ , وَعَلَيْهِ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيُّهَا شَاءَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهَا. إمَّا أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ,
وَأَمَّا أَنْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُتَغَايِرِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مِنْهُمْ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ ، وَلاَ بُدَّ ,
وَأَمَّا أَنْ يُهْدِيَ شَاةً يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ , أَوْ يَصُومَ , أَوْ يُطْعِمَ , أَوْ يَنْسَكَ الشَّاةَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَلَقَ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ , أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ دُونَ بَعْضٍ عَامِدًا عَالِمًا أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ بَطَلَ حَجُّهُ , فَلَوْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِهِ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , لاَ إثْمَ ، وَلاَ كَفَّارَةَ بِأَيِّ وَجْهٍ قَطَعَهُ , أَوْ نَزَعَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَكَانَ فِي هَذِهِ الآيَةِ التَّخْيِيرُ فِي أَيِّ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَعْمَالِ أَحَبَّ , وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ كَمْ يَصُومُ ، وَلاَ بِكَمْ يَتَصَدَّقُ ، وَلاَ بِمَاذَا يَنْسَك وَفِي الآيَةِ أَيْضًا حَذْفٌ بَيَّنَهُ الإِجْمَاعُ , وَالسُّنَّةُ وَهُوَ : فَحَلَقَ رَأْسَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ لَهُ : إنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً , وَإِنْ شِئْتَ فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ , وَإِنْ شِئْتَ فَأَطْعِمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، حدثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ ، عَنْ خَالِدِ الْحَذَّاءِ ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r مَرَّ بِهِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ لَهُ : آذَاكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ قَالَ : نَعَمْ , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r احْلِقْ , ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا , أَوْ صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ اطْعَمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ.
قال أبو محمد : هَذَا أَكْمَلُ الأَحَادِيثِ وَأَبْيَنُهَا , وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ : فِي بَعْضِهَا أَوْ نُسُكِ مَا تَيَسَّرَ. وَبَعْضُهَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ : أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْخَبَرِ , وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ لَهُ حِينَئِذٍ : أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ الزَّهْرَانِيِّ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ , فَذَكَرَ فِيهِ نِصْفَ صَاعِ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد : حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ، حدثنا أَبِي ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبَانُ ، هُوَ ابْنُ صَالِحٍ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ r فَذَكَرَ فِيهِ أَوْ إطْعَامَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَخْبَرَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ; وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ : هَلْ عِنْدَكَ نُسُكٌ قَالَ : مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ , فَأَمَرَهُ أَنْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ يُطْعِمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ , لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ : هَلْ تَجِدُ مِنْ نَسِيكَةٍ قَالَ : لاَ , قَالَ : وَهِيَ شَاةٌ قَالَ : فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ أَطْعِمْ ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ أَنَا دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ , أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَفْسِهِ أَمَعَكَ دَمٌ قَالَ : لاَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ لَهُ : فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ تَصَدَّقْ بِثَلاَثَةِ آصُعَ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لَمْ يَسْمَعْهُ الشَّعْبِيُّ مِنْ كَعْبٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَنَذْكُرُ الآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ ، حدثنا جَعْفَرُ الصَّائِغُ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ ، حدثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا ، عَنْ أَشْعَثَ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ : أَمَعَكَ هَدْيٌ قُلْتُ : مَا أَجِدُهُ , قَالَ : إنَّهُ مَا اسْتَيْسَرَ قُلْتُ : مَا أَجِدُهُ قَالَ : فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ , أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
قال أبو محمد : فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الْمُضْطَرِبَةُ كُلُّهَا إنَّمَا هِيَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ , وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلاً مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ : أَمَّا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعُ تَمْرٍ فَهُوَ ، عَنْ أَشْعَثَ الْكُوفِيِّ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَلْبَتَّةَ ; وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ دَاوُد ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ كَعْبٍ : إيجَابُ التَّرْتِيبِ , وَأَنْ لاَ يَجْزِيَ الصِّيَامُ , وَلاَ الصَّدَقَةُ إلاَّ عِنْدَ عَدَمِ النُّسُكِ , وَذَلِكَ الْخَبَرُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ كَعْبٍ , فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا : فَسَقَطَا مَعًا.
وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ , وَأَبِي عَوَانَةَ ، عَنِ الأَصْبَهَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَفِيهَا أَيْضًا : إيجَابُ التَّرْتِيبِ , وَقَدْ خَالَفَهُمَا شُعْبَةُ ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ فَذَكَرَهُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ النُّسُكِ أَوْ الصَّوْمِ , أَوْ الصَّدَقَةِ , ثُمَّ وَجَدْنَا شُعْبَةَ قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي هَذَا الْخَبَرِ : فَرَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ : نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ بِشْرُ بْنُ عُمَرَ : نِصْفَ صَاعٍ حِنْطَةً لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ : ثَلاَثَةَ آصُعَ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ , وَلَمْ يَذْكُرْ لِمَاذَا.
قال أبو محمد : وَهَذَا كُلُّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ , وَبِنُصُوصِ هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا أَيْضًا.فَصَحَّ أَنَّ جَمِيعَهَا وَهْمٌ إلاَّ وَاحِدًا فَقَطْ : فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ شُعْبَةَ قَدْ اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ , فَوَجَبَ تَرْكُ مَا اضْطَرَبُوا فِيهِ , إذْ لَيْسَ بَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ , وَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الَّذِي لَمْ يَضْطَرِبْ الثِّقَاتُ مِنْ رُوَاتِهِ فِيهِ , وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ ، عَنْ قَضَايَا شَتَّى لَوَجَبَ الأَخْذُ بِجَمِيعِهَا وَضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ ,
وَأَمَّا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ أَصْلاً. ثُمَّ وَجَدْنَا أَبَانَ بْنَ صَالِحٍ قَدْ ذَكَرَ فِي رِوَايَتِهِ فَرْقًا مِنْ زَبِيبٍ وَأَبَانُ لاَ يُعْدَلُ فِي الْحِفْظِ بِدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى , وَلاَ بِأَبِي قِلاَبَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى , وَلاَ بُدَّ مِنْ أَخْذِ إحْدَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ , إذْ لاَ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا ; لاَِنَّهَا كُلُّهَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ , فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ , فِي رَجُلٍ وَاحِدٍ , فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , فَوَجَبَ أَخْذُ مَا رَوَاهُ أَبُو قِلاَبَةَ , وَالشَّعْبِيُّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ , لِثِقَتِهِمَا وَلاَِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لِسَائِرِ الأَحَادِيثِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ عَالِمًا عَامِدًا بِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ , أَوْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ وَخَلَّى الْبَعْضَ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ : فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى , وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فُسُوقٌ , وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْفُسُوقَ يُبْطِلُ الإِحْرَامَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِمَرَضٍ , أَوْ أَذًى بِهِ فَقَطْ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُوجَبَ فِدْيَةٌ , أَوْ غَرَامَةٌ , أَوْ صِيَامٌ , لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلاَ رَسُولُهُ r فَهُوَ شَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى , وَلاَ يَجُوزُ قِيَاسُ الْعَاصِي عَلَى الْمُطِيعِ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَكَيْفَ وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ
وَأَمَّا مَنْ قَطَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ مَا لاَ يُسَمَّى بِذَلِكَ حَالِقًا بَعْضَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْصِ ، وَلاَ أَتَى مُنْكَرًا ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ إلاَّ عَنْ حَلْقِ رَأْسِهِ وَنَهَى جُمْلَةً عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ r ، عَنْ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ دُونَ بَعْضٍ وَهُوَ الْقَزَعُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، حدثنا مَعْمَرٌ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : رَأَى النَّبِيُّ r صَبِيًّا قَدْ حَلَقَ بَعْضَ شَعْرِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ فَنَهَاهُمْ ، عَنْ ذَلِكَ , وَقَالَ : احْلِقُوا كُلَّهُ , أَوْ اُتْرُكُوا كُلَّهُ.
قال أبو محمد : وَجَاءَتْ أَخْبَارٌ لاَ تَصِحُّ , مِنْهَا : مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ رَجُلٍ أَنْصَارِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَمَرَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ أَنْ يَحْلِقَ وَيُهْدِيَ بَقَرَةً وَهَذَا مُرْسَلٌ ، عَنْ مَجْهُولٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ عُجْرَةَ : أَنَّ كَعْبًا ذَبَحَ بَقَرَةً بِالْحُدَيْبِيَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ : أَنَّ رَجُلاً أَصَابَهُ مِثْلُ الَّذِي أَصَابَ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ فَسَأَلَ عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَمَّا كَانَ أَبُوهُ ذَبَحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي فِدْيَةِ رَأْسِهِ فَقَالَ : بَقَرَةً مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ , وَغَيْرِهِ , عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : سَأَلَ عُمَرُ ابْنًا لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ بِمَاذَا افْتَدَى أَبُوهُ فَقَالَ بِبَقَرَةٍ سُلَيْمَانَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : افْتَدَى كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ مِنْ أَذًى كَانَ بِرَأْسِهِ فَحَلَقَهُ بِبَقَرَةٍ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا أَبُو مَعْشَرٍ ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد : وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَعَلْقَمَةَ , وَمُجَاهِدٍ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَقَتَادَةَ , وطَاوُوس , وَعَطَاءٍ , كُلُّهُمْ قَالَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى : صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ , أَوْ نُسُكُ شَاةٍ , أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ. وَصَحَّ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ , وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ , وَعِكْرِمَةَ فِي فِدْيَةِ الأَذَى : نُسُكُ شَاةٍ , أَوْ صِيَامُ عَشْرَةِ أَيَّامٍ , أَوْ إطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ.
رُوِّينَا ذَلِكَ : مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ : أَنَا مَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ ، عَنِ الْحَسَنِ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ , وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ , وَعِكْرِمَةَ فَذَكَرَهُ.
قال أبو محمد : وَأَمَّا الْمُتَأَخِّرُونَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : إنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ أَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةُ مَا تَيَسَّرَ , فَإِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ نُسُكِ مَا شَاءَ , وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ , أَوْ صِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ , أَوْ إطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةٍ , أَوْ دَقِيقُ حِنْطَةٍ , أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ , أَوْ مِنْ شَعِيرٍ , أَوْ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَيُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنُ : لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إيَّاهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ : إنْ حَلَقَ نِصْفَ رَأْسِهِ فَأَقَلَّ صَدَقَةٌ , وَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَالْفِدْيَةُ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَرُوِيَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلٍ لَهُ آخَرَ إنْ حَلَقَ عُشْرَ رَأْسِهِ فَصَدَقَةٌ فَإِنْ حَلَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ. قَالُوا كُلُّهُمْ : فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لاَ يُجْزِئُهُ بَدَلُهُ صِيَامٌ , وَلاَ إطْعَامٌ وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ : لَيْسَ فِي حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ شَيْءٌ.
قال أبو محمد : وَهَذِهِ وَسَاوِسُ وَاسْتِهْزَاءٌ وَشَبِيهٌ بِالْهَزْلِ , نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ , وَلاَ يُحْفَظُ هَذَا السُّخَامُ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَهُمْ.
وقال مالك : إنْ حَلَقَ , أَوْ نَتَفَ شَعَرَاتٍ نَاسِيًا , أَوْ جَاهِلاً أَوْ عَامِدًا فَيُطْعِمُ شَيْئًا مِنْ طَعَامٍ فَإِنْ حَلَقَ , أَوْ نَتَفَ مَا يَكُونُ فِيهِ إمَاطَةَ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
قال علي : وهذا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَلاَ يُعْرَفُ ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ.
وقال الشافعي , وَالأَوْزَاعِيُّ فِي نَتْفِ شَعْرَةٍ أَوْ حَلْقِهَا عَامِدًا وَنَاسِيًا : مُدٌّ , وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ كَذَلِكَ مُدَّانِ , وَفِي الثَّلاَثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا كَذَلِكَ دَمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ أَحَبَّ فَشَاةٌ , وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مُدَّانِ مِمَّا يَأْكُلُ , وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد : رُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ : لَيْسَ فِي الشَّعْرَتَيْنِ ، وَلاَ فِي الشَّعْرَةِ شَيْءٌ , وَفِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ دَمٌ وَكَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ نَحَا إلَى هَذَا
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنِ الْحَسَنِ , وَعَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا فِي ثَلاَثِ شَعَرَاتٍ لِلْمُحْرِمِ : دَمٌ , النَّاسِي وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ : قَالَ : سَأَلْت عَطَاءً ، عَنْ مُحْرِمٍ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ لِدَوَاءٍ قَالَ : عَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد : رُوِّينَا ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حدثنا أَبُو أُسَامَةَ هُوَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ لاَ يَرَى بَأْسًا لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَحْلِقَ ، عَنِ الشَّجَّةِ :
قَالَ عَلِيٌّ : فَأَبَاحَ ذَلِكَ لَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا ، وَلاَ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم.
قال أبو محمد : وَأَمَّا مَوْضِعُ النُّسُكِ وَالإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُحْصِرِ نُسُكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنِ الْحُسَيْنِ رضي الله تعالى عنهما فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لِمَرَضٍ كَانَ بِهِ بِالسُّقْيَا ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم مُخَالِفًا وَنُسُكُ حَلْقِ الرَّأْسِ لاَ يُسَمَّى هَدْيًا ; فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ , إذْ لَمْ يُوجِبْ كَوْنَ النُّسُكِ بِمَكَّةَ قُرْآنٌ , وَلاَ سُنَّةٌ , وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ طَاوُوس قَالَ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ فَبِمَكَّةَ ,
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَحَيْثُ شَاءَ وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ مَا كَانَ مِنْ دَمٍ فَبِمَكَّةَ وَمَا كَانَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ صِيَامٍ فَحَيْثُ شَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ : كُلُّ دَمٍ وَاجِبٍ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَذْبَحَهُ إلاَّ بِمَكَّةَ.
رُوِّينَا ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا جَرِيرٌ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : اجْعَلْ الْفِدْيَةَ حَيْثُ شِئْت :
قال أبو محمد : لاَ يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِالنُّسُكِ مَكَانًا دُونَ مَكَان إلاَّ بِقُرْآنٍ , أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ.
875 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِنُورَةٍ فَهُوَ حَالِقٌ فِي اللُّغَةِ فَفِيهِ مَا فِي الْحَالِقِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَلَقَهُ فَإِنْ نَتَفَهُ فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ ; لاَِنَّهُ لَمْ يَحْلِقْهُ ; وَالنَّتْفُ غَيْرُ الْحَلْقِ : وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ وَالْفِدْيَةُ فِي الْحَلْقِ لاَ فِي النَّتْفِ.
بسم الله الرحمن الرحيم
الثالث
المحلى لابن حزم
876 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ تَصَيَّدَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِقِرَانٍ أَوْ بِحَجَّةِ تَمَتُّعٍ مَا بَيْنَ أَوَّلِ إحْرَامِهِ إلَى دُخُولِ وَقْتِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ , أَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ , أَوْ مُحِلٌّ فِي الْحَرَمِ : فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ غَيْرَ ذَاكِرٍ لاِِحْرَامِهِ أَوْ ; لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ , أَوْ غَيْرَ عَامِدٍ لِقَتْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ : فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , لاَ كَفَّارَةَ ، وَلاَ إثْمَ ; وَذَلِكَ الصَّيْدُ جِيفَةٌ لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ , فَإِنْ قَتَلَهُ عَامِدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ , أَوْ ; لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى , وَحَجُّهُ بَاطِلٌ وَعُمْرَتُهُ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ. فَصَحَّ يَقِينًا لاَ إشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كُلَّهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَامِدِ لِقَتْلِهِ , الذَّاكِرِ لاِِحْرَامِهِ , أَوْ ; لاَِنَّهُ فِي الْحَرَمِ , لإِنَّ إذَاقَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَالَ الأَمْرِ وَعَظِيمَ وَعِيدِهِ بِالاِنْتِقَامِ مِنْهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُخْطِئِ أَلْبَتَّةَ , وَلاَ عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ لِلْمَعْصِيَةِ الْقَاصِدِ إلَيْهَا ; فَبَطَلَ يَقِينًا أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ , وَلاَ فِي السُّنَّةِ إيجَابُ حُكْمٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ عَلَى غَيْرِ الْعَامِدِ الذَّاكِرِ الْقَاصِدِ إلَى الْمَعْصِيَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : رُفِعَ ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا : فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ الأَسَدِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , وَمَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ , وَعُمَرُ : يَسْأَلُ رَجُلاً قَتَلَ ظَبْيًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : عَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : لَقَدْ تَعَمَّدْت رَمْيَهُ وَمَا أَرَدْت قَتْلَهُ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا أَرَاك إلاَّ أَشْرَكْت بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ ; أَعْمِدْ إلَى شَاةٍ فَاذْبَحْهَا فَتَصَدَّقْ بِلَحْمِهَا وَأَسِقْ إهَابَهَا.
قال أبو محمد : فَلَوْ كَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً عِنْدَ عُمَرَ , وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ لَمَا سَأَلَهُ عُمَرُ أَعَمْدًا قَتَلْتَهُ أَمْ خَطَأً وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ ; لاَِنَّهُ كَانَ يَكُونُ فُضُولاً مِنْ السُّؤَالِ لاَ مَعْنَى لَهُ
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ ، عَنِ الْحُسَيْنِ الْمُعَلِّمِ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي مَدِينَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ : لَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ شَيْءٌ أَبُو مَدِينَةَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حِصْنٍ السَّدُوسِيُّ تَابِعِيٌّ , سَمِعَ أَبَا مُوسَى , وَابْنَ عَبَّاسٍ , وَابْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهم. وَمِنْ طَرِيق شُعْبَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ ، عَنِ الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : عَمَّنْ قَالَ : السُّنَّةُ.
قال أبو محمد : عَهْدُنَا بِالْمَالِكِيِّينَ يَجْعَلُونَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إذْ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ ، عَنْ قَوْلِهِ فِي الْمَرْأَةِ يُقْطَعُ لَهَا ثَلاَثُ أَصَابِعَ لَهَا ثَلاَثُونَ مِنْ الإِبِلِ فَإِنْ قُطِعَتْ لَهَا أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَلَيْسَ لَهَا إلاَّ عِشْرُونَ مِنْ الإِبِلِ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ : السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي ; فَجَعَلُوهُ حُجَّةً لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا. وَقَدْ خَالَفَ سَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُمَا ; ثُمَّ لَمْ يَجْعَلُوا هَاهُنَا حُجَّةَ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : إنَّ السُّنَّةَ هِيَ أَنَّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ خَطَأً , وَمَعَهُ الْقُرْآنُ , وَالصَّحَابَةُ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ طَاوُوس قَالَ : لاَ يُحْكَمُ إلاَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا كَمَا
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَعَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ فِيمَنْ أَصَابَ الْجَنَادِبَ خَطَأً قَالُوا : لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَصَابَهَا مُتَعَمِّدًا حُكِمَ عَلَيْهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وَصَحَّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْكَمُ عَلَى مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ مُحْرِمٌ خَطَأً ,
وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ عَامِدًا ذَاكِرًا لاِِحْرَامِهِ فَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ.
وقال أبو حنيفة , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ : الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ سَوَاءٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا ، عَنْ عُمَرَ , وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ , وَسَعْدٍ , وَالنَّخَعِيِّ , وَالشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد : الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ r . وَشَغَبَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَنْ قَالُوا : قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً فَقِسْنَا عَلَيْهِ قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً
قال علي : هذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ ; وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ فَارَقُوا حُكْمَ الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا ; أَمَّا كَوْنُهُ خَطَأً ; فَلاَِنَّ مِنْ أَصْلِهِمْ الَّذِي لاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَنَّ مَا خَرَجَ ، عَنْ حُكْمِ أَصْلِهِ مَخْصُوصًا أَنَّهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ , وَالأَصْلُ أَنْ لاَ شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ فَخَرَجَ عِنْدَهُمْ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً ، عَنْ أَصْلِهِ , فَوَجَبَ أَنْ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَقِيسُوا حُكْمَ الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا عَلَى الْوَاطِئِ فِيهِ عَمْدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا , وَقَتْلُ الصَّيْدِ أَشْبَهُ بِالْوَطْءِ مِنْهُ بِقَتْلِ الْمُؤْمِنِ ; لإِنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لَمْ يَحِلَّ قَطُّ ثُمَّ حُرِّمَ , بَلْ لَمْ يَزَلْ حَرَامًا مُذْ آمَنَ , أَوْ مُذْ وُلِدَ إنْ كَانَ وُلِدَ عَلَى الإِسْلاَمِ.
وَأَمَّا الْوَطْءُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَكَانَا حَلاَلَيْنِ , ثُمَّ حُرِّمَا بِالصَّوْمِ وَبِالإِحْرَامِ فَجَمَعَتْهُمَا هَذِهِ الْعِلَّةُ فَأَخْطَئُوا فِي قِيَاسِ قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مَا لاَ يُشْبِهُهُ.
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِلْقِيَاسِ هُنَا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ مِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُوجَبَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ أَوْجَبُوهَا هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ ;
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ , وَالْمَالِكِيِّينَ قَاسُوا الْخَطَأَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْخَطَأِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فَأَوْجَبُوا الْجَزَاءَ فِي كِلَيْهِمَا وَلَمْ يَقِيسُوا قَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا فَأَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَلَمْ يُوجِبُوهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا وَهَذَا تَنَاقُضٌ وَبَاطِلٌ.
وَأَيْضًا فَلَمْ يَقِيسُوا نَاسِي التَّسْمِيَةِ فِي التَّذْكِيَةِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِتَرْكِهَا فِيهَا مَعَ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ هُنَالِكَ ; وَتَفْرِيقِ الْحُكْمِ هَاهُنَا. وَالشَّافِعِيُّونَ فَرَّقُوا بَيْنَ النَّاسِي فِيمَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلاَةُ وَبَيْنَ الْعَامِدِ ,
وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ وَسَاوَوْا هَاهُنَا بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ , وَهَذَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ. وَقَالُوا : لَيْسَ تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ أَنَّ الْمُخْطِئَ بِخِلاَفِهِ وَذَكَرُوا مَا نَحْتَجُّ بِهِ نَحْنُ وَمَنْ وَافَقَنَا مِنْهُمْ مِنْ النُّصُوصِ فِي إبْطَالِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ :
قال أبو محمد : وَهَذَا جَهْلٌ شَدِيدٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ , لاَِنَّنَا إذَا أَبْطَلْنَا الْقَوْلَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لَمْ نُوجِبْ الْقَوْلَ بِالْقِيَاسِ بَلْ أَبْطَلْنَاهُمَا جَمِيعًا , وَالْقِيَاسُ : هُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ , وَدَلِيلُ الْخِطَابِ : هُوَ أَنْ يُحْكَمَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِخِلاَفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا هُمْ فَتَلَوَّنُوا هَاهُنَا مَا شَاءُوا , فَمَرَّةً يَحْكُمُونَ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ قِيَاسًا , وَمَرَّةً يَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِخِلاَفِ حُكْمِهِ أَخْذًا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مُضَادٌّ لِلآخَرِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَتَعَدَّى الْقُرْآنَ ، وَلاَ السُّنَّةَ وَنُوقِفُ أَمْرَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَلاَ نَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ ، وَلاَ بِحُكْمٍ آخَرَ , بِخِلاَفِ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ ; لَكِنْ نَطْلُبُ حُكْمَهُ فِي نَصٍّ آخَرَ فَلاَ بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ وَلَمْ نَقُلْ قَطُّ هَاهُنَا : إنَّهُ لَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُخْطِئُ بِخِلاَفِهِ , وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا , لَكِنْ
قلنا : لَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلاَّ الْمُتَعَمِّدُ وَحْدُهُ وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِلْمُخْطِئِ لاَ بِإِيجَابِ جَزَاءٍ عَلَيْهِ ، وَلاَ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهُ فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِهِ فِي نَصٍّ آخَرَ , إذْ لَيْسَ حُكْمُ كُلِّ شَيْءٍ مَوْجُودًا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ , وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَعْقِلُ أَحَدٌ سِوَاهُ ; فَإِذَا وَجَدْنَا حُكْمَهُ حَكَمْنَا بِهِ , إمَّا مُوَافِقًا لِهَذَا الْحُكْمِ الآخَرِ ,
وَأَمَّا مُخَالِفًا لَهُ , فَفَعَلْنَا : فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَسْقَطَ الْجُنَاحَ ، عَنِ الْمُخْطِئِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ قَالَ : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ وَأَنَّهُ قَدْ عَفَا ، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ , وَذَمَّ تَعَالَى مَنْ شَرَعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ. فَوَجَبَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنْ لاَ يَلْزَمَ قَاتِلُ الصَّيْدِ خَطَأً أَوْ نَاسِيًا لاِِحْرَامِهِ شَرْعُ صَوْمٍ , وَلاَ غَرَامَةُ هَدْيٍ , أَوْ إطْعَامٌ أَصْلاً ; فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا : بِأَنْ قَالُوا : لَمَّا كَانَ مُتْلِفُ أَمْوَالِ النَّاسِ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا بِالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ وَكَانَ الصَّيْدُ مِلْكًا لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
قال أبو محمد : وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ , وَلَكَانُوا أَيْضًا قَدْ أَخْطَئُوا فِيهِ. أَمَّا كَوْنَهُ خَطَأً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَبَيْنَ حُكْمِ مَا أُصِيبَ مِنْ الصَّيْدِ فِي الإِحْرَامِ فَجَعَلَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الْمِثْلَ , أَوْ الْقِيمَةَ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ , وَجَعَلَ فِي الصَّيْدِ جَزَاءً مِنْ النَّعَمِ لاَ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ الصَّيْدِ الْمُبَاحِ فِي الإِحْلاَلِ , أَوْ إطْعَامًا , أَوْ صِيَامًا , وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ; فَسَوَّوْا بَيْنَ حُكْمَيْنِ قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا وَهَذِهِ جُرْأَةٌ شَدِيدَةٌ وَخَطَأٌ لاَئِحٌ ;
وَأَمَّا خَطَؤُهُمْ فِيهِ فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَنْ تُؤْخَذَ قِيَاسًا , وَأَوْجَبُوا هَاهُنَا قِيَاسًا , وَالْقَوْمُ لَيْسُوا فِي شَيْءٍ , وَإِنَّمَا هُمْ فِي شَبَهِ اللَّعِبِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنَّهُمْ قَاسُوا مُتْلِفَ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى مُتْلِفِ أَمْوَالِ النَّاسِ عَمْدًا , وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ الْقِيمَةُ فَقَطْ , وَيَجِبُ عِنْدَهُمْ فِي الصَّيْدِ الْمِثْلُ مِنْ النَّعَمِ , أَوْ الإِطْعَامُ , أَوْ الصِّيَامُ , فَقَدْ تَرَكُوا قِيَاسَهُمْ الْفَاسِدَ.
فَإِنْ قَالُوا : اتَّبَعْنَا الْقُرْآنَ
قلنا : فَالْتَزَمُوا اتِّبَاعَهُ فِي الْعَامِدِ خَاصَّةً وَإِسْقَاطُ الْجُنَاحِ ، عَنِ الْمُخْطِئِ , وَأَوْجَبُوا فِي الصَّيْدِ : الْقِيمَةَ كَمَا فَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَرَدَ قِيَاسَهُ الْفَاسِدَ.
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ لاَ يَرَوْنَ ضَمَانَ مَا وَلَدَتْ الْمَاشِيَةُ الْمَغْصُوبَةُ إلاَّ أَنْ تُسْتَهْلَكَ الأَوْلاَدِ , وَيَرَى عَلَى مَنْ أَخَذَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَوَلَدَ عِنْدَهُ , ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ : أَنْ يَضْمَنَ الآُمَّ وَالأَوْلاَدَ , فَأَيْنَ قِيَاسُهُ الصَّيْدَ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِنْزِيرَ , وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ , وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ كَمَا حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي الإِحْرَامِ , وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى , ثُمَّ لاَ يُوجِبُونَ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ جَزَاءً , فَنَقَضُوا قِيَاسَهُمْ.
فَإِنْ قَالُوا : لَمْ يُحَرِّمْ قَتْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ
قلنا : وَلاَ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءَ إلاَّ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ
فأما الْتَزَمُوا النُّصُوصَ كَمَا وَرَدَتْ ، وَلاَ تَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ ,
وَأَمَّا اُطْرُدُوا قِيَاسَكُمْ فَأَوْجِبُوا الْجَزَاءَ فِي الْخِنْزِيرِ ; وَفِي السِّبَاعِ , وَفِي ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ , كَمَا فَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ فَظَهَرَ أَيْضًا فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال بعضهم : إنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ الْمُخْطِئِ مِثْلُهُ :
قال أبو محمد : وَهَذِهِ مِنْ أَسْخَفِ كَلاَمٍ فِي الأَرْضِ , وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ جَزَاءَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَامِدًا فِي جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ , لِيَعْلَمَ أَنَّ حُكْمَ قَاتِلِهِ مُخْطِئٌ مِثْلُهُ , وَإِلاَّ فَقَدْ ظَهَرَ كَذِبُ هَذَا الْقَائِلِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَافْتِرَاؤُهُ عَلَى خَالِقِهِ لاِِخْبَارِهِ عَنْهُ بِالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ. فَإِنْ قَالَ : قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ قَاتِلِ الْعَمْدِ وَقَاتِلِ الْخَطَأِ.
قلنا : وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ كُلِّ مُخْطِئٍ وَكُلِّ عَامِدٍ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ.
قَالَ عَلِيٌّ : مَا نَعْلَمُ لَهُمْ تَمْوِيهًا غَيْرَ هَذَا وَهُوَ كُلُّهُ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا : إنَّ ذَلِكَ الصَّيْدَ حَرَامٌ أَكْلُهُ ; فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ قَتْلاً وَنَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُبِحْ لَنَا عَزَّ وَجَلَّ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ إلاَّ بِالذَّكَاةِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عَزَّ وَجَلَّ , وَلاَ شَكَّ عِنْدَ كُلِّ ذِي حَسَنٍ سَلِيمٍ أَنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الذَّكَاةِ هُوَ غَيْرُ مَا نَهَى عَنْهُ مِنْ الْقَتْلِ ; فَإِذْ هُوَ غَيْرُهُ فَالْقَتْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ ذَكَاةً ; وَإِذْ لَيْسَ هُوَ ذَكَاةٌ فَلاَ يَحِلُّ أَكْلُ الْحَيَوَانِ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل : فَهَلاَّ خَصَّصْتُمْ الْعَامِدَ بِذَلِكَ
قلنا : نَصُّ الآيَةِ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ , وَسَمَّى إتْلاَفَ الصَّيْدِ فِي حَالِ الْحَرَمِ قَتْلاً وَحَرَّمَهُ. ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ فَأَوْجَبَ حُكْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الْعَامِدِ خَاصَّةً بِخِلاَفِ النَّهْيِ الْعَامِّ فِي أَوَّلِ الآيَةِ.
وَأَمَّا بُطْلاَنُ إحْرَامِهِ بِذَلِكَ : فَلاَِنَّهُ بِلاَ خِلاَفٍ مَعْصِيَةٌ , وَالْمَعَاصِي كُلُّهَا فُسُوقٌ ; وَالإِحْرَامُ يَبْطُلُ بِالْفُسُوقِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَمِنْ شَنَعِ الأَقْوَالِ وَفَاسِدِهَا إبْطَالُ الْمَالِكِيِّينَ الْحَجَّ بِالدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَمْنَعْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام , ثُمَّ لَمْ يُبْطِلُوهُ بِالْفُسُوقِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ تَعَالَى أَشَدَّ الْوَعِيدِ فِيهِ وَهُوَ قَتْلُ الصَّيْدِ عَمْدًا. وَأَبْطَلُوا هُمْ , وَالْحَنَفِيُّونَ الإِحْرَامَ بِالْوَطْءِ نَاسِيًا وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ ، وَلاَ رَسُولُهُ r وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ الْمُحْرِمِ. وَأَبْطَلُوا هُمْ , وَالشَّافِعِيُّونَ الْحَجَّ بِالإِكْرَاهِ عَلَى الْوَطْءِ وَلَمْ يُبْطِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِهِ ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام , وَلَمْ يُبْطِلُوهُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
877 - مَسْأَلَةٌ : فَلَوْ أَنَّ كِتَابِيًّا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
878 - مَسْأَلَةٌ : وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ لِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ أَيُّهَا شَاءَ فَعَلَهُ وَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَ الصَّيْدِ الَّذِي قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ وَهِيَ : الإِبِلُ , وَالْبَقَرُ , وَالْغَنَمُ ضَأْنُهَا , وَمَاعِزُهَا وَعَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُ الصَّيْدَ الَّذِي قَتَلَ مِمَّا قَدْ حَكَمَ بِهِ عَدْلاَنِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , أَوْ مِنْ التَّابِعِينَ رحمهم الله , وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْنِفَ تَحْكِيمَ حُكْمَيْنِ الآنَ وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ مَسَاكِينَ ; وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلاَثَةٌ , وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ إلَى مَا يُشْبِعُ ذَلِكَ الصَّيْدَ مِنْ النَّاسِ , فَصَامَ بَدَلَ كُلِّ إنْسَانٍ يَوْمًا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا. فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى التَّخْيِيرَ فِي ذَلِكَ بِلَفْظَةِ " أَوْ " وَأَوْجَبَ مِنْ الْمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا.
فَصَحَّ أَنَّ الصَّاحِبَيْنِ إذَا حَكَمَا بِمِثْلٍ فِي ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ فَرْضًا لاَزِمًا لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ ;
وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ وَالتَّابِعُ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ حُكْمُ صَاحِبَيْنِ ;
وَكَذَلِكَ حُكْمُ التَّابِعِينَ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي حُكْمِ صَاحِبٍ , وَأَوْجَبَ تَعَالَى طَعَامَ مَسَاكِينَ , وَهَذَا بِنَاءً لاَ يَقَعُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ , وَيَقَعُ عَلَى ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا إلَى مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إحْصَائِهِ إلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ; فَكَانَ إيجَابُ عَدَدٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةٍ قَوْلاً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلاَ بُرْهَانٍ , وَهَذَا لاَ يَجُوزُ وَوَجَبَ إطْعَامُ الثَّلاَثَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ لاَ أَقَلَّ , فَإِنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعُ خَيْرٍ. وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ فِي هَذَا عَدَدًا مَحْدُودًا مِنْ الْمَسَاكِينِ لاَ يُوجِبُهُ ظَاهِرُ الآيَةِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ الإِطْعَامِ لاَ يَقْتَضِيه وَظَاهِرُ الآيَةِ لَمَا أَغْفَلَهُ عَمْدًا ، وَلاَ نَسِيَهُ , وَلَبَيَّنَهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ r كَمَا بَيَّنَ عَدَدَ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ , وَكَفَّارَةِ الْعَوْدِ لِلظِّهَارِ , وَكَفَّارَةِ الأَيْمَانِ , وَكَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ , وَكَفَّارَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ لِلأَذَى فِي الإِحْرَامِ , فَإِذَا لَمْ يَنُصَّ تَعَالَى هُنَا عَلَى عَدَدٍ بِعَيْنِهِ ، وَلاَ عَلَى صِفَةٍ بِعَيْنِهَا فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ الصَّادِقَةِ أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الآيَةِ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكِّ فِيهِ , وَلاَ يُمْكِنُ سِوَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : كَقَوْلِنَا إلاَّ ، أَنَّهُ قَالَ : مَا أُطْعِمُهُمْ وَأَيُّ مِقْدَارٍ أُطْعِمُهُمْ أَجْزَأَهُ.
قال أبو محمد : وَهَذَا بَاطِلٌ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : طَعَامُ مَسَاكِينَ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ لاََجْزَأَ إطْعَامُ حَبَّةِ بَرَّةٍ لِمِسْكِينٍ , أَوْ حَبَّةَ خَرْدَلَةٍ , أَوْ وَزْنَ حَبَّةِ صَبْرٍ , أَوْ شَحْمَ حَنْظَلٍ , وَهَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. وَذَكَرَ تَعَالَى ، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ ذَكَرَ ، عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَمْدِهِ إيَّاهُ هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي فَإِنَّمَا أَرَادَ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ مَا أَمْسَكَ الْحَيَاةَ وَطَرَدَ الْجُوعَ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ لاَ مِمَّا يَحْرُمُ ، وَلاَ مِمَّا هُوَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ.
فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ يُشْبِعُ ثَلاَثَ مَسَاكِينَ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ ,
وَأَمَّا سَائِرُ مَا فِيهِ الإِطْعَامُ فَقَدْ جَاءَ مِقْدَارُ مَا يُطْعِمُ فِيهِ مَنْصُوصًا وَهِيَ : أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ فَقَطْ , الإِطْعَامُ فِي وَطْءِ الأَهْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا , وَالإِطْعَامُ فِي الظِّهَارِ , وَالإِطْعَامُ فِي كَفَّارَةِ الأَيْمَانِ , وَالإِطْعَامُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ لِلْمَرِيضِ الْمُحْرِمِ قَبْلَ مَحِلِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الصِّيَامِ : فَإِنَّ الإِشَارَةَ بِلَفْظَةِ ذَلِكَ إنَّمَا تَقَعُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي بِهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَبْعَدِ مَذْكُورٍ , وَكَانَ الصَّيْدُ فِي هَذِهِ الآيَةِ أَبْعَدَ مَذْكُورٍ فَلَزِمَ بِذَلِكَ عَدْلَهُ صِيَامًا , وَلاَ يَكُونُ عَدْلُهُ أَصْلاً إلاَّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا مَنْ قَوَّمَهُ قِيمَةً , ثُمَّ قَوَّمَ الْقِيمَةَ طَعَامًا , ثُمَّ رَأَى عَدْلَ ذَلِكَ صِيَامًا فَلَمْ يُوجِبْ عَدْلَ الصَّيْدِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَدْلَ قِيمَتِهِ وَلَيْسَ هَذَا فِي الآيَةِ فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِهِ جُمْلَةً. ثُمَّ نَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِتَقْوِيمِ الْهَدْيِ دَرَاهِمَ , أَوْ طَعَامًا ; أَيُّ الْهَدْيِ تُقَوِّمَ وَقَدْ يَخْتَلِفُ قِيَمُ النُّوقِ , وَالْبَقَرِ , وَالْغَنَمِ , فَأَيُّ نَاقَةٍ تُقَوَّمُ أَمْ أَيُّ بَقَرَةٍ تُقَوَّمُ أَمْ أَيُّ شَاةٍ وَهَذَا إلْزَامٌ مُضْمَحِلٌّ بِلاَ بُرْهَانٍ.
ثم نقول لِمَنْ قَالَ بِتَقْوِيمِ الصَّيْدِ : مَتَى تُقَوِّمُهُ أَحَيًّا أَمْ مَقْتُولاً
فَإِنْ قَالُوا : مَقْتُولاً
قلنا : هُوَ عِنْدَكُمْ جِيفَةٌ مَيِّتَةٌ , وَلاَ قِيمَةَ لِلْمَيْتَةِ ; ثُمَّ هُوَ أَيْضًا مِنْكُمْ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
وَإِنْ قَالُوا : بَلْ يُقَوَّمُ حَيًّا
قلنا : وَمَا بُرْهَانُكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقِيمَتُهُ حَيًّا تَخْتَلِفُ فَيَكُونُ حِمَارُ وَحْشٍ يَرْغَبُ فِيهِ الْمُلُوكُ حَيًّا فَيُغَالُونَ بِهِ فَإِذَا ذُكِّيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيرُ قِيمَةٍ , ثُمَّ فِي أَيِّ الْمَوَاضِعِ يُقَوَّمُ
فَإِنْ قَالُوا : حَيْثُ أُصِيبَ
قلنا : فَإِنْ أُصِيب بِفَلاَةٍ لاَ قِيمَةَ لَهُ فِيهَا أَصْلاً وَكُلُّ مَا قَالُوهُ فَبِلاَ دَلِيلٍ.
قال أبو محمد : وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَاهُنَا فِي مَوَاضِعَ , أَحَدُهَا التَّخْيِيرُ : فَقَالَ قَوْمٌ : هَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ ، وَلاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ الْهَدْيُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالإِطْعَامُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصِّيَامُ :
رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَزَاءُ ذَبْحِهِ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَزَاءٌ قُوِّمَ جَزَاؤُهُ دَرَاهِمَ ; ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا فَصَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا , وَإِنَّمَا جُعِلَ الطَّعَامَ لِلصَّائِمِ ; لاَِنَّهُ إذَا وُجِدَ الطَّعَامُ وُجِدَ جَزَاؤُهُ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَعَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانٍ
وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنِ اللَّيْثِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ " أَوْ " فَهُوَ مُخَيَّرٌ وَكُلُّ شَيْءٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَهُوَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ.
وَرُوِّينَا التَّخْيِيرَ أَيْضًا : عَنْ عَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَإِبْرَاهِيمَ , وَالزُّهْرِيِّ , وَقَتَادَةَ ,
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدُ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَإِذَا تَنَازَعَ النَّاسُ فَالْمَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ , وَحُكْمُ الْقُرْآنِ التَّخْيِيرُ , وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ قَاسَ قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى الْعَامِدِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ , أَوْ عَلَى قَاتِلِ الْخَطَأِ أَنْ يَقِيسَ حُكْمَ كَفَّارَةِ الصَّيْدِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيَجْعَلُهَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا كَفَّارَةُ الْقَتْلِ عَلَى التَّرْتِيبِ وَإِلاَّ فَقَدْ تَنَاقَضُوا وَمِنْهَا اسْتِئْنَافُ التَّحْكِيمِ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ جَاءَتْ ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ وَيَحْكُمَانِ بِحُكْمِ يَوْمِهِمَا ، وَلاَ يَنْظُرَانِ إلَى حُكْمِ مَنْ مَضَى , فَإِنَّ مَالِكًا , وَابْنَ أَبِي لَيْلَى , وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ , وَالثَّوْرِيَّ قَالُوا : لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ اسْتِئْنَافِ تَحْكِيمِ حَكَمَيْنِ , ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مَالِكٌ : الْخِيَارُ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لاَ إلَى الْحَكَمَيْنِ ; وَيَقُولُ لَهُمَا : لاَ تَحْكُمَا عَلَيَّ إلاَّ بِالإِطْعَامِ إنْ شَاءَ أَوْ بِالصِّيَامِ إنْ شَاءَ , أَوْ بِالْجَزَاءِ إنْ شَاءَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى , وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ , وَالْحَسَنُ , وَابْنُ حَيٍّ : الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَى الْحَكَمَيْنِ لاَ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.
وقال مالك : لاَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أَنْ يَحْكُمَا بِغَيْرِ حُكْمِ مَنْ مَضَى. قَالَ ابْنُ حَيٍّ : إنْ كَانَ حُكْمُ الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ حُكْمِ مَنْ مَضَى ; حُكِمَ بِحُكْمِ الْيَوْمِ , وَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْيَوْمِ أَقَلَّ مِنْ حُكْمِ مَنْ مَضَى : حُكِمَ بِحُكْمِ مَنْ مَضَى.
وقال أبو حنيفة , وَالشَّافِعِيُّ , أَبُو سُلَيْمَانَ : لاَ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ الْيَوْمَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : إنَّمَا هُوَ مَا حَكَمَ بِهِ السَّلَفُ لاَ يَجُوزُ تَجَاوُزُهُ.
قال أبو محمد : وَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مَا حَكَمَ بِهِ فِي ذَلِكَ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا فَإِذَا حَكَمَ اثْنَانِ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّاعَةَ لِمَا حَكَمَا بِهِ فَاسْتِئْنَافُ تَحْكِيمِ آخَرَيْنِ لاَ مَعْنَى لَهُ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ , وَلاَ سُنَّةٌ , وَلاَ إجْمَاعٌ : فَهُوَ عَمَلٌ فَارِغٌ فَاسِدٌ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ أَصْلاً. ثُمَّ قَوْلُ مَالِكٍ : إنَّ الْخِيَارَ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ خَطَأً مُكَرَّرٌ , إذْ لَوْ وَجَبَ تَحْكِيمُ حَكَمَيْنِ لاَ تَجِبُ طَاعَتُهُمَا فِيمَا حَكَمَا بِهِ مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِمَا الْحُكْمَ بِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَمَلاً فَاسِدًا. فَإِنْ مَوَّهُوا بِالْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَلَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ إلَيْهِمَا فُرْقَةً ، وَلاَ إيجَابَ غَرَامَةٍ , وَإِنَّمَا جَعَلَ تَعَالَى إلَيْهِمَا الإِصْلاَحَ لِيُوَفِّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فَقَطْ. وَمِنْهَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ ذَكَرْنَا رَأَى التَّحْكِيمَ فِي الإِطْعَامِ , وَالصِّيَامِ , وَهَذَا خَطَأٌ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ التَّحْكِيمَ فِي ذَلِكَ إلاَّ فِي الْجَزَاءِ بِالْهَدْيِ فَقَطْ هَذَا هُوَ نَصُّ الآيَةِ , ثُمَّ الْقَائِلُ بِهَذَا قَدْ خَالَفَ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَغَيْرِهِ مِنْ الْحُكْمِ فِي الإِطْعَامِ , وَالصِّيَامِ فَتَنَاقَضَ. وَمِنْهَا مِقْدَارُ الإِطْعَامِ , وَالصِّيَامِ : فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنْ يُقَوَّمَ الْجَزَاءُ مِنْ النَّعَمِ دَرَاهِمَ , ثُمَّ تُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا فَيَصُومُ بَدَلَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا ; وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا كَذَلِكَ , وَكِلاَهُمَا لاَ يَصِحُّ عَنْهُمَا , فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الإِطْعَامَ يَكُونُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ إنْ قَتَلَ نَعَامَةً , أَوْ حِمَارَ وَحْشٍ فَبَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ ثَلاَثِينَ مِسْكِينًا , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا وَالإِطْعَامُ مُدُّ مُدٍّ فَقَطْ , فَإِنْ قَتَلَ أُيَّلاً أَوْ نَحْوَهُ فَبَقَرَةٌ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا , فَإِنْ قَتَلَ ظَبْيًا فَشَاةٌ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد : مَا نَعْلَمُ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَوْلَةً غَيْرَ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَرُوِّينَا ، عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنْ يَحْكُمَ فِي ذَلِكَ بِهَدْيٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قُوِّمَ الْهَدْيُ طَعَامًا , ثُمَّ قُوِّمَ الطَّعَام صِيَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ , وَمَكَانُ كُلِّ مِسْكِينٍ صَوْمُ يَوْمٍ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ نَحْوَ هَذَا. وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُهُ أَيْضًا. وَعَنْ عَطَاءٍ يُقَوَّمُ الْجَزَاءُ طَعَامًا , ثُمَّ يَصُومُ بَدَلَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا , فَإِنْ وَجَدَ الطَّعَامَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّوْمِ أَطْعَمَ.
وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا بَدَلَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ صِيَامَ يَوْمٍ. عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانٍ : أَنَّ صِيَامَ يَوْمٍ بَدَلَ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا. وَعَنْ أَبِي عِيَاضٍ وَهُوَ تَابِعِيٌّ رَوَى ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : أَكْثَرُ الصَّوْمِ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا. وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّهُ قَالَ : الصَّوْمُ فِي فِدْيَةِ الصَّيْدِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَا نَعْلَمُ ، عَنْ تَابِعٍ فِي هَذَا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ اللَّيْثُ : لاَ يَتَجَاوَزُ فِي ذَلِكَ بِالصَّوْمِ سِتِّينَ يَوْمًا.
وقال أبو حنيفة : يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ فَيَبْتَاعُ بِهَا طَعَامًا فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ أَوْ زَبِيبٍ , أَوْ يَصُومُ بَدَلَ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا ,
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ , إلاَّ ، أَنَّهُ قَالَ : يُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مُدًّا أَوْ يَصُومُ بَدَلَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا , وَقَوْلُهُمْ بِتَقْوِيمِ الصَّيْدِ لاَ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُمْ ، عَنْ أَحَدٍ وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلُ بِتَقْوِيمِ الْهَدْيِ وَهُوَ الْجَزَاءُ.
وقال الشافعي : يُقَوَّمُ الْجَزَاءُ لاَ الصَّيْدُ دَرَاهِمَ , ثُمَّ تُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ طَعَامًا فَيُطْعِمُ مُدًّا مُدًّا أَوْ يَصُومُ بَدَلَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : الإِطْعَامُ ثَلاَثَةُ آصُعَ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ , وَالصِّيَامُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ.
قال أبو محمد : أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ , وَكُلُّهَا قَدْ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ , وَالشَّافِعِيُّ , وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ , لإِنَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ التَّرْتِيبَ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهِ. وَفِيهِ : أَنْ يُقَوِّمَ الْجَزَاءَ , وَلاَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ , وَلاَ مَالِكٌ بِهِ. وَفِيهِ : عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَكَانُ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا , وَلاَ يَقُولُ مَالِكٌ , وَلاَ الشَّافِعِيُّ بِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي فَكُلُّهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ جُمْلَةً , وَلاَ يُعْرَفُ فِيمَا ذَكَرْنَا لاِبْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ عُمَرَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
قَالَ عَلِيٌّ : لَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ بُرْهَانًا مِنْ قُرْآنٍ , وَلاَ سُنَّةٍ , وَلاَ حُجَّةٍ إلاَّ فِيهِمَا , وَلاَ أَفْحَشُ قَوْلاً مِمَّنْ اسْتَسْهَلَ خِلاَفَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِرَأْيِ نَفْسِهِ أَوْ بِرَأْيِ تَابِعٍ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ , ثُمَّ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ الْتِزَامًا لِلْقُرْآنِ , وَنَحْنُ رَاضُونَ مَسْرُورُونَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا وَلَهُمْ لاَ أَعْدَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ آمِينَ. وَالتَّابِعُونَ مُخْتَلِفُونَ كَمَا ذَكَرْنَا فَمَنْ تَعَلَّقَ بِبَعْضِ قَوْلَةٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلاَ نَصٍّ فِي ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَهُ نَفْسَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلَةٍ أُخْرَى فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا , وَإِنَّمَا هُمْ سَبْعَةٌ فَقَطْ مُخْتَلِفُونَ مُتَنَازِعُونَ : مُجَاهِدٌ , وَعَطَاءٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ , وَالْحَسَنُ , وَأَبُو عِيَاضٍ , وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَسُفْيَانَ , وَمَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , فَمَعَ اخْتِلاَفِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ فَلاَ بُرْهَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ لاَ مِنْ قُرْآنٍ , وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ , وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ , وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلاَ قِيَاسٍ , وَلاَ مِنْ تَابِعٍ مُوَافِقٍ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ كُلِّهِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا اللَّيْثُ فَإِنَّهُ قَاسَ الصِّيَامَ فِي ذَلِكَ عَلَى الصِّيَامِ فِي قَتْلِ النَّفْسِ , وَلَقَدْ كَانَ يُلْزِمُ مَنْ قَاسَ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً عَلَى وُجُوبِهَا فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً أَنْ يَقِيسَ الصِّيَامَ فِي هَذِهِ عَلَى الصِّيَامِ فِي ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ اللَّيْثُ , وَلاَ سِيَّمَا مَنْ لَمْ يُبْلِغْ دِيَةَ الْعَبْدِ وَالأَمَةِ إلَى دِيَةِ الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ , وَمَنْ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمًا , وَقَالَ : لاَ أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ , ثُمَّ فَضَّلَ الْبَهَائِمَ هَاهُنَا عَلَى النَّاسِ فِي الصِّيَامِ ، عَنْ نُفُوسِهَا.
قال أبو محمد : وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَاهُنَا بَاطِلاً ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ مِثْلاً مِنْ النَّعَمِ أَوْ إطْعَامًا وَلَمْ يُوجِبْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً بَلْ أَوْجَبَ هُنَالِكَ دِيَةً. وَعِتْقَ رَقَبَةٍ وَلَمْ يُوجِبْهَا هَاهُنَا ; فَكَيْفَ يَسْتَجِيزُ أَحَدٌ قِيَاسَ شَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا.
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ فَإِنَّهُ قَاسَ الإِطْعَامَ , وَالصِّيَامَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى الإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فِي فِدْيَةِ حَلْقِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ لِلأَذَى يَكُونُ بِهِ وَالْمَرَضِ.
قال علي : وهذا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ ; لإِنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى فَاسِقٌ آثِمٌ , ثُمَّ مُتَوَعِّدٌ أَشَدَّ الْوَعِيدِ , وَحَالِقُ رَأْسِهِ لِمَرَضِ بِهِ : مُطِيعٌ مُحْسِنٌ مَأْجُورٌ , فَكَيْفَ يَجُوزُ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ وَلَيْسَ مِثْلُهُ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ تَحْكِيمَ حَكَمَيْنِ وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ فِي حَالِقِ رَأْسِهِ , وَهَذَا بَيِّنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ
رُوِّينَا ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةٍ فَقَالَ : أَحْسَنُ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا يُوَافِقُنِي عَلَيْهَا , فَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو يَعْقُوبَ رحمه الله الْقَوْلَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ بِهِ قَائِلٌ إذَا وَافَقَ الْقُرْآنَ , أَوْ السُّنَّةَ لاَ كَمَنْ يُنْكِرُ هَذَا ثُمَّ يَأْتِي بِأَقْوَالٍ مِنْ رَأْيِهِ مُخَالِفَةٍ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ لاَ يَعْرِفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُ , وَفِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ , وَاللَّيْثِ , وَالشَّافِعِيِّ , مَا لاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ التَّقْسِيمِ الَّذِي قَسَّمُوهُ , فَمُتَّبِعُ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَّةِ أَوْلَى بِالْحَقِّ. وَمِنْهَا : مَا هُوَ الْمِثْلُ الَّذِي يُجْزِئُ بِهِ الصَّيْدُ مِنْ النَّعَمِ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ جَاءَتْ
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا عَائِذُ بْنُ حَبِيبٍ ، عَنْ عَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَإِبْرَاهِيمَ قَالُوا جَمِيعًا : إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا حُكِمَ عَلَيْهِ بِثَمَنِهِ فَاشْتَرَى بِهِ هَدْيًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قُوِّمَ طَعَامًا فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ لِكُلِّ صَاعٍ يَوْمَيْنِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَإِبْرَاهِيمَ غَيْرُ هَذَا , وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : الْجَزَاءُ بِالْمِثْلِ مِنْ النَّعَمِ لاَ بِالْقِيمَةِ وَهَكَذَا
رُوِّينَا ، عَنْ عُثْمَانَ , وَعُمَرَ , وَعَلِيٍّ , وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ , وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَمُعَاوِيَةَ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَطَارِقِ بْنِ شِهَابٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهم , وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ أَيْضًا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ , وَعَنْ شُرَيْحٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَغَيْرِهِمْ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَابْنِ حَيٍّ , وَابْنِ أَبِي لَيْلَى , وَأَحْمَدَ , وَإِسْحَاقَ , وَأَبِي ثَوْرٍ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَغَيْرِهِمْ. فَأَتَى أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلٍ لَمْ يُسْمَعْ بِأَوْحَشَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ , وَهُوَ ، أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَتَلَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ دَرَاهِمَ , ثُمَّ يَبْتَاعُ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ مَا بَلَغَتْ مِنْ الْهَدْيِ ، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إلاَّ الْجِذْعُ مِنْ الضَّأْنِ فَصَاعِدًا وَالثَّنْيُ مِنْ الإِبِلِ , وَالْبَقَرُ , وَالْمَاعِزُ , فَصَاعِدًا. فَإِنْ وَجَدَ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً أَوْ أَرْبَعَةً : لَزِمَهُ أَنْ يُهْدِيَ كُلَّ ذَلِكَ هَكَذَا يَفْعَلُ فِي الظَّبْيِ وَالنَّعَامَةِ , وَحِمَارِ الْوَحْشِ , وَالإِبِلِ , وَالْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ , وَالضَّبِّ , وَالْيَرْبُوعِ وَالْحَمَامَةِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قِيمَةُ ذَلِكَ هَدْيًا ابْتَاعَ بِهِ طَعَامًا فَأَطْعَمَ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُ قَبْلُ. فَإِنْ قَتَلَ فِيلاً لَمْ يَتَجَاوَزْ بِالْهَدْيِ فِي جَزَائِهِ شَاةً وَاحِدَةً
وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَ قِرْدًا. وَيُجْزِئُ الْخِنْزِيرُ الْبَرِّيُّ إنْ قَتَلَهُ ; فَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يُقَوَّمُ الْخِنْزِيرُ وَقَالَ صَاحِبُهُ زُفَرُ : يُقَوَّمُ الصَّيْدُ فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ النَّعَامَةِ أَكْثَرَ مِنْ بَدَنَةٍ لَمْ يَتَجَاوَزْ بِهَا بَدَنَةً وَاحِدَةً , فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ حِمَارِ الْوَحْشِ , وَثَوْرِ الْوَحْشِ , وَالأَيْلِ , وَالأَرْوِيِّ أَكْثَرَ مِنْ بَقَرَةٍ لَمْ يَتَجَاوَزْ بِهَا بَقَرَةً وَاحِدَةً ; فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الثَّيْتَلِ وَالْغَزَالِ , وَالظَّبْيِ , وَالأَرْنَبِ , وَالْوَبَرِ , وَالْيَرْبُوعِ , وَالضَّبِّ , وَالْحَمَامَةِ , وَالْحَجْلَةِ , وَالْقَطَاةِ , وَالدُّبْسِيِّ , وَالْحِبَارَيْ , وَالْكَرَوَانِ , وَالْكَرَاكِيِّ , وَالدَّجَاجَةِ الْحَبَشِيَّةِ , أَكْثَرَ مِنْ شَاةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَتَجَاوَزْ بِهَا شَاةً وَاحِدَةً ; فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ هَدْيٍ ابْتَاعَ بِهِ طَعَامًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَخَالَفَهُمَا أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , فَرَأَيَا الْجَزَاءَ بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ سَائِرُ النَّاسِ.
قال أبو محمد : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَزُفَرَ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , وَمُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَقُولُ تَعَالَى فَجَزَاءُ قِيمَةِ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ , وَلاَ تَدُلُّ الآيَةُ عَلَى ذَلِكَ أَصْلاً ، وَلاَ تَحْتَمِلُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. وَصَحَّ ، عَنِ النَّبِيِّ r فِي الضَّبُعِ : كَبْشٌ , وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهَا قِيمَةً , وَقَدْ وَجَدْنَا قِيمَةَ الْحَمَامَةِ الْهَادِيَةِ , وَالْمُقِلِّينَ الْمُغَرِّدِ يَبْلُغُ عَشْرَاتِ الدَّنَانِيرِ , فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَكُونُ جَزَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْهَدْيِ أَكْثَرَ مِنْ جَزَاءِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَالنَّعَامَةِ مِنْ الْهَدْيِ , فَهَذَا مَعَ خِلاَفِ الْقُرْآنِ تَخْلِيطٌ فَاحِشٌ. ثُمَّ سَائِرُ تَقْسِيمِهِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ شَيْءٌ لَمْ يُحْفَظْ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ , وَقَدْ وَقَفَ أَبُو يُوسُفَ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْبَابَ قَدْ رُوِيَتْ فِيهِ آثَارٌ مُؤَقَّتَةٌ ; فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ وَقَالَ : إنَّمَا نَتْبَعُ لِلْقُرْآنِ
قال أبو محمد : فَوَاَللَّهِ مَا وُفِّقَ فِي هَذَا لاِتِّبَاعِ الْقُرْآنِ , وَلاَ لاِتِّبَاعِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ , وَقَدْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُمْ ذَلِكَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَإِبْرَاهِيمَ.
قال أبو محمد : وَهَذَا إطْلاَقٌ فَاسِدٌ إنَّمَا جَاءَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ , وَعَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ : أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ فَقَطْ وَجَاءَ عَنْهُمْ خِلاَفُهُ.
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فَقَطْ مِمَّا قَدْ خَالَفُوهُ كُلَّهُ وَلَقَدْ أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : الْقِيمَةُ أَعْدَلُ
قَالَ عَلِيٌّ : كَذَبَ الآفِكُ الآثِمُ ، وَلاَ كَرَامَةَ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَعْدَلَ مِنْ الْمِثْلِ مِنْ النَّعَمِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ , بَلْ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ ; وَإِنَّمَا هُوَ أَصْلٌ بَنُوهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ لَهُمْ فَاسِدٌ وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ فِيمَا أَتْلَفَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ مِمَّا لاَ يُكَالُ , وَلاَ يُوزَنُ بِالْقِيمَةِ لاَ بِالْمِثْلِ وَهَذَا رَدٌّ مِنْهُمْ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ , وَمَا الْوَاجِبُ فِي كُلِّ ذَلِكَ إلاَّ الْمِثْلُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ.
قال أبو محمد : فَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ التَّخَالِيطُ فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ إلَى الْقُرْآنِ وَمَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r وَمَا حَكَمَ بِهِ الْعُدُولُ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم كَمَا أَمَرَ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِمْ هَاهُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
879 - مَسْأَلَةٌ : وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ , وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ , وَثَوْرِ الْوَحْشِ , وَالآُرْوِيَّةِ الْعَظِيمَةِ , وَالآُيَّلِ : بَقَرَةٌ , وَفِي الْغَزَالِ , وَالْوَعِلِ وَالظَّبْيِ : عَنْزٌ , وَفِي الضَّبِّ , وَالْيَرْبُوعِ , وَالأَرْنَبِ وَأُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ , وَفِي الْوَبْرِ : شَاةٌ ,
وَكَذَلِكَ فِي الْوَرَلِ وَالضَّبُعِ , وَفِي الْحَمَامَةِ , وَكُلِّ مَا عَبَّ وَهَدَرَ مِنْ الطَّيْرِ : شَاةٌ ,
وَكَذَلِكَ الْحُبَارَى وَالْكُرْكِيُّ , والبلدج , وَالإِوَزُّ الْبَرِّيُّ , وَالْبُرَكُ الْبَحْرِيُّ , وَالدَّجَاجُ الْحَبَشِيُّ , وَالْكَرَوَانُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ فَلاَ يَخْلُو الْمِثْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ , أَوْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ , أَوْ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ ; فَوَجَدْنَا الْمُمَاثَلَةَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ مَعْدُومَةً مِنْ الْعَالَمِ جُمْلَةً لإِنَّ كُلَّ غَيْرَيْنِ فَلَيْسَا مِثْلَيْنِ فِي تَغَايُرِهِمَا فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الْمُمَاثَلَةِ مِنْ أَقَلِّ الْوُجُوهِ , وَهُوَ وَجْهٌ وَاحِدٌ فَوَجَدْنَا كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا , فَهُوَ يُمَاثِلُ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلاَ بُدَّ وَهُوَ الْخَلْقُ , لإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ وَهُوَ مَا دُونَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا. وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ لاََجْزَأَتْ الْعَنْزُ بَدَلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ , وَالنَّعَامَةِ ; لاَِنَّهُمَا حَيَّانِ مَخْلُوقَانِ مَعًا ; وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ. فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ أَغْلَبِ الْوُجُوهِ , وَأَظْهَرِهَا , وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ إلاَّ أَقْوَالٌ مَحْصُورَةٌ فَبَطَلَتْ كُلُّهَا إلاَّ وَاحِدًا فَهُوَ الْحَقُّ بِلاَ شَكٍّ ; فَهَذَا مُوجَبُ الْقُرْآنِ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ r قَدْ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ , فَعَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ عليه السلام إنَّمَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْقَدِّ وَهَيْئَةِ الْجِسْمِ , لإِنَّ الْكَبْشَ أَشْبَهُ النَّعَمِ بِالضَّبُعِ وَبِهَذَا جَاءَ حُكْمُ السَّلَفِ الطَّيِّبِ رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ " قَالَ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ r ، عَنِ الضَّبُعِ فَقَالَ : هُوَ صَيْدٌ وَجَعَلَ فِيهِ كَبْشًا إذَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، حدثنا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : حَكَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ ، عَنْ رَبَاحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالاَ جَمِيعًا : فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ فَهُمْ : عُمَرُ , وَعَلِيٌّ , وَجَابِرٌ , وَابْنُ عُمَرَ , وَابْنُ عَبَّاسٍ , وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَوْلُ عُمَرَ هَذَا فَلَمْ يُخَالِفْهُ
وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ , وَعُثْمَانَ , وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ , وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالُوا فِي النَّعَامَةِ : بَدَنَةٌ مِنْ الإِبِلِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ , وَمُعَاوِيَةَ , قَالاَ : فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ يَعْنِي مِنْ الإِبِلِ
وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوس , وَعَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَلاَ شَيْءَ أَشْبَهُ بِالنَّعَامَةِ مِنْ النَّاقَةِ فِي طُولِ الْعُنُقِ , وَالْهَيْئَةِ وَالصُّورَةِ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَدَنَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ , وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِيهِ بَدَنَةٌ وَعَنْ عَطَاءٍ فِيهِ بَدَنَةٌ , وَقَدْ رُوِيَ ، عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا فِيهِ بَقَرَةٌ وَالرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَصِحُّ , وَلاَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لاَِنَّهُ مُرْسَلٌ عَنْهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالاَ جَمِيعًا : فِي حِمَارِ الْوَحْشِ : بَقَرَةٌ , وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ : بَقَرَةٌ , قَالَ عَطَاءٌ : وَفِي الأَرْوَى بَقَرَةٌ , وَقَالَ مُجَاهِدٌ : فِي الْقَادِرِ الْعَظِيمِ مِنْ الأَرْوَى بَقَرَةٌ ,
وَهَذَا صَحِيحٌ عَنْهُمَا وَهُمَا ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا فَوَجَدْنَا حِمَارَ الْوَحْشِ أَشْبَهَ بِالْبَقَرَةِ مِنْهُ بِالنَّاقَةِ , لإِنَّ الْبَقَرَ , وَحِمَارَ الْوَحْشِ , ذَوَا شَعْرٍ وَذَنَبٍ سَابِغٍ وَلَيْسَ لَهُمَا سَنَامٌ , وَالنَّاقَةُ ذَاتُ وَبَرٍ وَذَنَبٍ قَصِيرٍ وَسَنَامٍ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِالْبَقَرَةِ لِقُوَّةِ الْمُمَاثَلَةِ.
وَرُوِيَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الآُيَّلِ : بَقَرَةٌ .
وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ. وَفِي الثَّيْتَلِ : بَقَرَةٌ ,
وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ. وَفِي الْوَبْرِ : شَاةٌ
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَطَاءٍ فِي الْغَزَالِ : شَاةٌ.
قال أبو محمد : الشَّاةُ تَقَعُ عَلَى الْمَاعِزَةِ كَمَا تَقَعُ عَلَى الضَّأْنِيَّةِ. وَعَنْ سَعْدٍ , وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فِي الظَّبْيِ : تَيْسٌ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَزَيْدٍ ، عَنْ جَابِرٍ فِي الضَّبِّ : جَدْيٌ رَاعٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَطَارِقِ بْنِ شِهَابٍ مِثْلُهُ أَيْضًا فَقَالَ مَالِكٌ , وَأَبُو حَنِيفَةَ : لاَ يَجُوزُ هَذَا.
وَرُوِيَ ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الضَّبِّ : شَاةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي الضَّبِّ : حُفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ لإِنَّ خِلاَفَ حُكْمِ عُمَرَ , وَطَارِقٍ , وَمَنْ مَعَهُمَا لاَ يُجَوِّزُ خِلاَفَهُ , لأَنَّهُمْ ذَوُو عَدْلٍ مِنَّا مَعَ مُوَافَقَتِهِمْ الْقُرْآنَ فِي الْمُمَاثَلَةِ ; وَقَوْلُ عَطَاءٍ حَادِثٌ بَعْدَهُمْ , وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ كَذَلِكَ مَعَ خِلاَفِ قَوْلِهِمَا , وَقَوْلِ مَالِكٍ لِلْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِ عُمَرَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ , وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدُ , وَغَيْرُهُمْ. وَعَنْ عُمَرَ فِي الأَرْنَبِ : عَنَاقٌ , وَهِيَ الْجَدْيُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , وَعَمْرِو بْنِ حَبَشِيٍّ , وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحْمَدَ , وَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَغَيْرِهِمْ , قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ : لاَ يَجُوزُ فَخَالَفُوا كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا , وَالْمُمَاثَلَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْقُرْآن. وَعَنْ عُمَرَ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَمُجَاهِدٍ فِي الْيَرْبُوع : سَخْلَةٌ , أَوْ جَفْرَةٌ , وَهُمَا سَوَاءٌ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ , وَأَبِي يُوسُفَ , وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَغَيْرِهِمْ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ : لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ بِشَيْءٍ , وَعَنِ الزُّهْرِيِّ : فِيهِ حُكُومَةٌ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ : فِيهِ قِيمَتُهُ وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وقال مالك فِي الأَرْنَبِ , وَالضَّبِّ , وَالْيَرْبُوعِ قِيمَتُهُ يُبْتَاعُ بِهِ طَعَامٌ وَهَذَا خَطَأٌ لَمْ يُوجِبْهُ الْقُرْآنُ , وَلاَ السُّنَّةُ , وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ , وَلاَ إجْمَاعٌ , وَلاَ قِيَاسٌ.
فَإِنْ قَالُوا : قِسْنَا عَلَى الأَضَاحِيِّ لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ ، وَلاَ مَا دُونَ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ
قلنا : الْقِيَاسُ بَاطِلٌ , ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكُنْتُمْ أَوَّلَ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْقِيَاسِ لاَِنَّكُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْكَبْشَ , وَالتَّيْسَ , أَفْضَلُ فِي الأَضَاحِيِّ مِنْ الإِبِلِ , وَالْبَقَرِ , وَإِنَّ الذَّكَرَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ الآُنْثَى , وَتَقُولُونَ فِي الْهَدْيِ كُلِّهِ : إنَّ الإِبِلَ , وَالْبَقَرَ : أَفْضَلُ مِنْ الضَّأْنِ , وَالْمَاعِزِ , وَإِنَّ الإِنَاثَ أَفْضَلُ فِيهَا مِنْ الذُّكُورِ ; فَمَرَّةً تَقِيسُونَ حُكْمَ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ , وَمَرَّةً تُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَحْكَامِهَا بِلاَ نَصٍّ ، وَلاَ دَلِيلٍ.
فَإِنْ قَالُوا : قَدْ صَحَّ ، عَنِ النَّبِيِّ r ، أَنَّهُ قَالَ : لاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَبِي بُرْدَةَ.
قلنا : نَعَمْ , وَاَلَّذِي أَخْبَرَ بِهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْبَرَنَا ، عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى بِإِيجَابِ مِثْلِ الصَّيْدِ الْمَقْتُول مِنْ النَّعَمِ , وَلَيْسَ بَعْضُ كَلاَمِهِ أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ , بَلْ كُلُّهُ فُرِضَ اسْتِعْمَالُهُ , وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْهُ لِشَيْءٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَمْ يَنْهَ قَطُّ عليه السلام ، عَنْ مَا دُونَ الْجَذَعِ بِاسْمِهِ ; لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَعْضُ مَا دُونَ الْجَذَعِ لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَاةٍ لَمْ يُجْزِ فِيمَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِإِيجَابِ شَاةٍ فَقَطْ.
وَأَمَّا الْجَذَعَةُ فَلاَ تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَيْضًا ; لإِنَّ النَّهْيَ عَنْهَا عُمُومٌ , إلاَّ حَيْثُ أُوجِبَتْ بِاسْمِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلاَّ فِي زَكَاةِ الإِبِلِ , وَالْبَقَرِ , فَقَطْ , مَعَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ , وَالْمَاعِزِ , وَالإِبِلِ , وَالْبَقَرِ : لاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاتِهِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ إنَّمَا يُرَاعَى الْمِثْلُ فِي الْقَدِّ وَالصُّورَةِ لاَ مَا لاَ يُعْرَفُ إلاَّ بَعْدَ فَرِّ الأَسْنَانِ
فَصَحَّ أَنَّ الْجَذَعَةَ لاَ تُجْزِئُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ فِي الْوَرَلِ : شَاةٌ.
قال أبو محمد : إنْ كَانَ عَظِيمًا فِي مِقْدَارِ الشَّاةِ فَكَذَلِكَ , وَإِلاَّ فَفِيهِ , وَفِي الْقُنْفُذِ : جَدْيٌ صَغِيرٌ. وَعَنْ عُمَرَ , وَعُثْمَانَ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ عُمَرَ فِي الْحَمَامَةِ : شَاةٌ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَحْمَدَ.
وقال الشافعي , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : كُلُّ مَا يَعُبُّ كَمَا تَعُبُّ الشَّاةُ فَفِيهِ شَاةٌ بِهَذِهِ الْمُمَاثَلَةِ
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدُّبْسِيِّ , وَالْقُمْرِيِّ , وَالْحُبَارَى , وَالْقَطَاةِ , وَالْحَجَلَةِ شَاةٌ شَاةٌ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ فِي الْكَرَوَانِ , وَابْنِ الْمَاءِ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ الْقَاسِمِ , وَسَالِمٍ : ثُلُثُ مُدٍّ : خَيْرٌ مِنْ حَجَلَةٍ
قال أبو محمد : لاَ يَجُوزُ هَاهُنَا خِلاَفُ مَا حَكَمَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَعَطَاءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ : وَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْهُدْهُدِ : دِرْهَمٌ , وَفِي الْوَطْوَاطِ : ثُلُثَا دِرْهَمٍ , وَفِي الْعُصْفُورِ : نِصْفُ دِرْهَمٍ. وَعَنْ عُمَرَ فِي الْجَرَادَةِ : تَمْرَةٌ , وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ : لاَ شَيْءَ فِيهَا ; لاَِنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ , وَهَذَا خَطَأٌ ; لاَِنَّهَا إنْ غُمِسَتْ فِي الْبَحْرِ مَاتَتْ. وَعَنْ كَعْبٍ فِي الْجَرَادَةِ دِرْهَمٌ.
قال أبو محمد : إنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْكِيمٍ فِي الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ لاَ فِي الإِطْعَامِ ، وَلاَ فِي الصِّيَامِ , فَلاَ يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِي هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ , وَإِنَّمَا هُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ , فَكُلُّ مَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ جُزِيَ بِهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ مِنْ كِبَارِ النَّعَمِ ، وَلاَ صِغَارِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ كَمَا
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لإِنَّ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءَ صَيْدٍ بِمِثْلِهِ مِنْ النَّعَمِ وَهُوَ لاَ مِثْلَ لَهُ مِنْهَا , لإِنَّ هَذَا تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلاَ شَكَّ أَيْضًا فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ الَّذِي خُلِقَ صَغِيرًا جِدًّا كَصِغَارِ الْعَصَافِيرِ وَالْجَرَادِ فَلَمْ يَجْعَلْ فِي كَبِيرِ الصَّيْدِ وَصَغِيرِهِ إلاَّ فِدْيَةً طَعَامَ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلَهُ صِيَامًا : فَوَجَبَ فِي الْجَرَادَةِ فَمَا فَوْقَهَا إلَى النَّعَامَةِ , وَفِي وَلَدِ أَصْغَرِ الطَّيْرِ إلَى حِمَارِ الْوَحْشِ : إطْعَامُ ثَلاَثَةِ مَسَاكِينَ فَقَطْ.
وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلاَ صِيَامَ فِي الإِسْلاَمِ أَقَلُّ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ , فَفِي كُلِّ صَغِيرٍ مِنْهَا صَوْمُ يَوْمٍ فَقَطْ ; فَإِنْ كَانَ يُشْبِعُ بِكِبَرِ جِسْمِهِ إنْسَانَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً فَأَكْثَرَ : فَلِكُلِّ آكِلٍ صَوْمُ يَوْمٍ كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى.
فإن قيل : إنَّ هَذَا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ ، عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ سَلَفَ
قلنا : نَحْنُ لاَ نَدَّعِي الإِحَاطَةَ بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ كُلِّهِمْ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ نَقُولُ وَنَقْطَعُ : أَنَّ مَنْ ادَّعَى الإِحَاطَةَ بِأَقْوَالِهِمْ فَقَدْ كَذَبَ كَذِبًا مُتَيَقَّنًا لاَ خَفَاءَ بِهِ , وَلاَ نُنْكِرُ الْقَوْلَ بِمَا أَوْجَبَهُ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ رِوَايَةٌ ، عَنْ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ لَنَا قَطُّ ، وَلاَ رَسُولُهُ r لاَ تَقُولُوا بِمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ إنْسَانًا قَالَ بِمَا فِيهِمَا ; بَلْ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدَنَا ضَلاَلٌ وَبِدْعَةٌ وَكَبِيرَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ , وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. وَالنَّاسُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْجَرَادِ : فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُسْنَدًا مِثْلُهُ. وَعَنْ كَعْبٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْجَرَادَ نَثْرُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ , وَأَبَاحَ أَكْلَهُ لِلْمُحْرِمِ وَصَيْدَهُ ; فَهَذَا قَوْلٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا هُشَيْمٌ ، حدثنا أَبُو بِشْرٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ كَعْبٌ : ذُكِرَ لِعُمَرَ أَنِّي أَصَبْت جَرَادَتَيْنِ وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لِي عُمَرُ : مَا نَوَيْت فِي نَفْسِك قُلْت : دِرْهَمَيْنِ , فَقَالَ عُمَرُ : تَمْرَتَانِ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَتَيْنِ , امْضِ لِمَا نَوَيْت فِي نَفْسِك. فَهَذَا عُمَرُ , وَكَعْبٌ : جَعَلاَ فِي الْجَرَادَةِ دِرْهَمًا فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، عَنِ الأَسْوَدِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ جَرَادَةً : تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الْجَرَادَةِ تَمْرَةٌ فَهَذَا قَوْلٌ ثَالِثٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : أَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جَرَادَةٍ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ بِأَنْ يَقْصِدَ بِقَبْضَةٍ مِنْ طَعَامٍ
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ ، عَنْ شُعَيْبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَارِقِيِّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : فِي الْجَرَادَةِ إذَا صَادَهَا الْمُحْرِمُ : قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ فِي الْجَرَادَةِ : قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ رَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ فِي الْجَرَادَةِ : قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنْ إسْرَائِيلَ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ , وَعَطَاءٍ , وطَاوُوس , وَمُجَاهِدٍ , قَالُوا كُلُّهُمْ : فِي الْجَرَادَةِ لَيْسَ فِيهَا فِي الْخَطَأِ شَيْءٌ فَإِنْ قَتَلَهَا عَمْدًا أَطْعَمَ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي الْجَرَادَةِ قَالَ : يُطْعِمُ كِسْرَةً فَهَذَا قَوْلٌ خَامِسٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا أَبُو الأَحْوَصِ ، عَنْ سِمَاكٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي مُحْرِمٍ أَصَابَ صَيْدًا لَيْسَ لَهُ نِدٌّ مِنْ النَّعَمِ : إنَّهُ يُهْدِي ثَمَنَهُ إلَى مَكَّةَ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِيهِ ثَمَنُهُ فَهَذَا قَوْلٌ سَادِسٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَهَذَا قَوْلٌ سَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيُّ ، حدثنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ أَنَّ عُمَرَ كَرِهَ أَكْلَ الْجَرَادِ لِلْمُحْرِمِ وَلَمْ يَجْعَلْ فِيهِ جَزَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ أَنَا أَبُو بِشْرٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ : نَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَخْذِ الْجَرَادِ فِي الْحَرَمِ قَالَ : لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهِ مَا أَخَذُوهُ , فَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ كَمَا أَوْرَدْنَا , فَمَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ
وَأَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r فَمَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٌّ لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ أَبَا الْمُهَزِّمِ وَهُوَ هَالِكٌ وَفِي الآُخْرَى مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَبِالْعِيَانِ يَرَى النَّاسُ الْجَرَادَ يَبِيضُ فِي الْبَرِّ وَفِي الْبَرِّ يَفْقِسُ عَنْهُ الْبَيْضُ وَفِي الْبَرِّ يَبْقَى حَتَّى يَمُوتَ , وَأَنَّهُ لَوْ غُمِسَ فِي مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مَلْحٍ لَمَاتَ فِي مِقْدَارِ مَا يَمُوتُ فِيهِ سَائِرُ حَيَوَانِ الْبَرِّ إذَا غُمِسَ فِي الْمَاءِ , وَرَسُولُ اللَّهِ r لاَ يَقُولُ الْكَذِبَ ; فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينٍ. وَصَحَّ أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ بِلاَ شَكٍّ. وَالأَقْوَالُ الْبَاقِيَةُ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَكَعْبٍ فِي الْجَرَادَةِ : دِرْهَمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْجَرَادَة : تَمْرَةٌ. وَقَالَ عُمَرُ : تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَابْنِ عُمَرَ , وَابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْجَرَادَةِ : قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ : قَبْضَةٌ أَوْ لُقْمَةٌ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ : كِسْرَةٌ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ , وَعَطَاءٍ , وطَاوُوس , وَمُجَاهِدٍ : يُطْعِمُ شَيْئًا إنْ أَصَابَهَا عَمْدًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا لاَ نِدَّ لَهُ مِنْ النَّعَمِ : ثَمَنُهُ يُهْدِيهِ إلَى مَكَّةَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ : ثَمَنُهُ وَالْجَرَادَةُ مِمَّا لاَ نِدَّ لَهَا مِنْ النَّعَمِ. وَعَنِ الْحَسَنِ : هِيَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَعَنْ عُمَرَ , وَابْنِ عَبَّاسٍ : الْمَنْعُ مِنْ صَيْدِهَا وَلَمْ يَجْعَلاَ فِيهَا شَيْئًا. فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ هُوَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ إذْ يَقُولُ تَعَالَى ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. وَالْقُرْآنُ يُوجِبُ مَا
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ خَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ فِي بَيْضِ الصَّيْدِ كُلَّ مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَنَّى لَهُمْ إنْكَارُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ : مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ , أَوْ الطَّيْرِ صِغَارُهَا فِي صِغَارِهِ , وَكِبَارُهَا فِي كِبَارِهِ , فَفِي رَأْلِ النَّعَمِ : فَصِيلٌ مِنْ الإِبِلِ. وَفِي وَلَدِ كُلِّ مَا فِيهِ بَقَرَةٌ عُجَيْلٌ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّغِيرِ , وَفِيمَا فِيهِ شَاةٌ , حَمَلٌ , أَوْ جَدْيٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وقال مالك : فِي صِغَارِهَا مَا فِي كِبَارِهَا وَهَذَا خَطَأٌ لإِنَّ الْكَبِيرَ لَيْسَ مِثْلاً لِلصَّغِيرِ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ فِي فَرْخَيْ حَمَامَةٍ وَأُمِّهِمَا بِثَلاَثَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ فِي كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ. وَيُفْدَى الْمَعِيبُ بِمَعِيبٍ مِثْلِهِ , وَالسَّالِمُ بِسَالِمٍ , وَالذَّكَرُ بِالذَّكَرِ وَالآُنْثَى بِالآُنْثَى لقوله تعالى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حَبِيبٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : فِي الظَّبْيَةِ الْوَالِدِ : شَاةٌ وَالِدٌ. وَفِي الْحِمَارَةِ الْوَحْشِ النَّتُوجِ بَقَرَةٌ نَتُوجٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَرَأَيْت لَوْ أَصَبْت صَيْدًا فِيهِ نَقْصٌ أَوْ عَوَرٌ أَغْرَمُ مِثْلَهُ قَالَ : نَعَمْ , قُلْت : الْوَفِيُّ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ : نَعَمْ وَفِي وَلَدِ الضَّبُعِ وَلَدُ الْكَبْشِ لإِنَّ الصَّغِيرَ مِنْ الضِّبَاعِ لاَ يُسَمَّى ضَبُعًا إنَّمَا يُسَمَّى الْفَرْغَلَ. وَالسُّلَحْفَاةُ هِيَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ , لإِنَّ عَيْشَهَا الدَّائِمَ فِي الْبَرِّ فَفِيهَا الْجَزَاءُ بِصَغِيرٍ مِنْ الْغَنَمِ. وَمَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَاءِ أَبَدًا لاَ يُفَارِقُهُ فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ. وَقَدْ
رُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَا عَاشَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِيهِ : نِصْفُ الْجَزَاءِ.
قَالَ عَلِيٌّ : وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ صَيْدَ الْبَحْرِ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ صَيْدَ الْبَرِّ فَلَيْسَ إلاَّ حَرَامٌ أَوْ حَلاَلٌ , وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَلاَلٌ حَرَامٌ مَعًا , وَلاَ لاَ حَلاَلٌ ، وَلاَ حَرَامٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
880 - مَسْأَلَةٌ : وَبَيْضُ النَّعَامِ وَسَائِرِ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَأَصْحَابِهِمَا : لإِنَّ الْبَيْضَ لَيْسَ صَيْدًا , وَلاَ يُسَمَّى صَيْدًا , وَلاَ يُقْتَلُ , وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ صَيْدِ الْبَرِّ فَقَطْ ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ مَيِّتٍ فَلاَ جَزَاءَ لَهُ , لاَِنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا وَلَمْ يَقْتُلْهُ ; فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا فَرْخَ حَيٍّ فَمَاتَ فَجَزَاؤُهُ بِجَنِينٍ مِنْ مِثْلِهِ ; لاَِنَّهُ صَيْدٌ قَتَلَهُ.
وقال مالك : فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ : عُشْرُ الْبَدَنَةِ , وَفِي بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ , عُشْرُ الشَّاةِ , قَالَ : لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ , وَلاَ لِلْحَلاَلِ إذَا شَوَاهُ الْمُحْرِمُ أَوْ كَسَرَهُ.
وقال الشافعي : فِيهِ قِيمَتُهُ فَقَطْ.
قال أبو محمد : أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَخَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ صَيْدًا ; وَأَخْطَأَ خَطَأً آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ جَزَاؤُهُ بِثَمَنِهِ وَالْجَزَاءُ بِالثَّمَنِ لاَ يُوجَدُ فِي قُرْآنٍ ، وَلاَ سُنَّةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَجَمَعَ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ وُجُوهًا :
أَوَّلُهَا أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ قَبْلَهُ وَهُمْ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا أَشَدَّ الإِنْكَارِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي قَوْلِنَا فِي الْجَرَادِ. وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَوْلٌ لاَ يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ , وَلاَ فِي السُّنَّةِ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الاِشْتِرَاكَ فِي الْهَدْيِ حَيْثُ صَحَّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسُّنَّةِ عَلَى جَوَازِهِ , ثُمَّ أَجَازُوهُ هَاهُنَا حَيْثُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ يُعْرَفُ قَبْلَهُمْ
فَإِنْ قَالُوا : إنَّمَا تُقَوَّمُ الْبَدَنَةُ , أَوْ الشَّاةُ , ثُمَّ نَأْخُذُ عُشْرَ تِلْكَ الْقِيمَةِ فَنُطْعِمُ بِهِ
قلنا : هَذَا خَطَأٌ رَابِعٌ فَاحِشٌ لاَِنَّكُمْ تُلْزِمُونَهُ وَتَأْمُرُونَهُ بِمَا تَنْهَوْنَهُ عَنْهُ مِنْ وَقْتِكُمْ فَتُوجِبُونَ عَلَيْهِ عُشْرَ بَدَنَةٍ , وَعُشْرَ شَاةٍ ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ إهْدَاؤُهُ , إنَّمَا يَلْزَمُهُ طَعَامٌ بِقِيمَةِ ذَلِكَ الْعُشْرِ , وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيكَ بِهِ , وَتَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَخَامِسُهَا : احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى جَنِينِ الْحُرَّةِ الَّذِي فِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ .
فَقُلْنَا : هَذَا قِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ وَتَشْبِيهٌ لِلْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ الْمُشَبَّهِ بِالْبَاطِلِ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ ، وَلاَ فِي جَنِينِ الأَمَةِ : عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ , وَلاَ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ ; وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَنِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام : غُرَّةً عَبْدًا , أَوْ أَمَةً فَقَطْ , وَلاَ جَعَلَ فِي الدِّيَةِ قِيمَةً ; بَلْ جَعَلَهَا مِائَةً مِنْ الإِبِلِ.
قال أبو محمد :
وَأَمَّا اخْتِلاَفُ النَّاسِ فِي هَذَا فَإِنَّنَا :
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ r بَيْضًا وَتَتْمِيرَ وَحْشٍ فَقَالَ لَهُ : أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r مِثْلُهُ حَرْفًا حَرْفًا.
قال أبو محمد : الأَوَّلُ مُرْسَلٌ , وَفِي الثَّانِي عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ , ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ فِيهِمَا نَهْيٌ ، عَنْ أَكْلِهَا وَإِنَّمَا هُوَ تَرْكٌ مِنْهُ عليه السلام وَقَدْ يَتْرُكُ مَا لَيْسَ حَرَامًا كَمَا تَرَكَ الضَّبَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ. وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ كِلاَهُمَا ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ هُوَ أَبُو الزِّنَادِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r سُئِلَ ، عَنْ بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهَا مُحْرِمٌ فَقَالَ عليه السلام : فِي كُلِّ بَيْضَةٍ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ.
قَالَ عَلِيٌّ : أَبُو الزِّنَادِ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ ، رضي الله عنها ، فَهُوَ مُنْقَطِعٌ , وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ , وَقَالَ بِهَذَا بَعْضُ السَّلَفِ.
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ : صَوْمُ يَوْمٍ , أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا عَبْدَةُ ، عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهِ : صَوْمُ يَوْمٍ , أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قَالَ : فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ صِيَامُ يَوْمٍ , أَوْ إطْعَامُ مِسْكِينٍ
وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا.
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ أَفْتَى بِذَلِكَ عَلَى مُحْرِمٍ أَشَارَ لِحَلاَلٍ إلَى بَيْضِ نَعَامٍ فَهَذَا قَوْلٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَضَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ تُرْسِلُ الْفَحْلَ عَلَى إبِلِك فَإِذْ تَبَيَّنَ لِقَاحُهَا سَمَّيْت عَدَدَ مَا أَصَبْت مِنْ الْبَيْضِ فَقُلْت : هَذَا هَدْيٌ ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْك ضَمَانُ مَا فَسَدَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَعَجِبَ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ يَعْجَبْ مُعَاوِيَةُ مِنْ عَجَبٍ مَا هُوَ إلاَّ مَا يُبَاعُ بِهِ الْبَيْضُ فِي السُّوقِ يُتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَقَالَ عَطَاءٌ : مَنْ كَانَتْ لَهُ إبِلٌ فَإِنَّ فِيهِ مَا
قَالَ عَلِيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ فَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ ; وَثَالِثٌ وَرَابِعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا الأَعْمَشُ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ : قِيمَتُهُ. أَوْ ثَمَنُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنْ خُصَيْفٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي بَيْضِ النَّعَامِ : قِيمَتُهُ , أَوْ ثَمَنُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَالشَّعْبِيِّ , وَالزُّهْرِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا بَيْضُ الْحَمَامِ : فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ وَعَطَاءٍ كِلاَهُمَا قَالَ : إنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : فِي كُلِّ بَيْضَتَيْنِ دِرْهَمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ مَكَّةَ دِرْهَمٌ
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ; وَقَالَ : فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ فَدِرْهَمٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ : بِنِصْفِ دِرْهَمٍ طَعَامٌ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ , وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِي بَيْضِ حَمَامِ مَكَّةَ : دِرْهَمٌ وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضِ حَمَامِ الْحِلِّ : مُدٌّ. قَالَ مَعْمَرٌ : وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : فِيهِ ثَمَنُهُ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ ، عَنْ خُصَيْفٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْبَيْضَةِ : دِرْهَمٌ فَهِيَ أَقْوَالٌ كَمَا تَرَى : أَحَدُهَا : أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ صَوْمَ يَوْمٍ , أَوْ إطْعَامَ مِسْكِينٍ فِيهِ خَبَرٌ مُسْنَدٌ ;
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنَيْهِ أَبِي عُبَيْدَةَ , وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ , وَابْنِ سِيرِينَ. وَثَانِيهَا : أَنَّ فِي كُلِّ بَيْضَةٍ مِنْهَا لِقَاحَ نَاقَةٍ
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ , وَمُعَاوِيَةَ , وَعَطَاءٍ. وَثَالِثُهَا : أَنَّ فِي بَيْضَةِ النَّعَامَةِ ثَمَنَهَا هُوَ قَوْلُ عُمَرَ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ , وَإِبْرَاهِيمَ , وَالشَّعْبِيِّ , وَالزُّهْرِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ. وَرَابِعُهَا : أَنَّ مَنْ لَهُ إبِلٌ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ لِقَاحُ نَاقَةٍ وَمَنْ لاَ إبِلَ لَهُ فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ. وَفِي بَيْضِ الْحَمَامِ أَقْوَالٌ : أَحَدُهَا : فِي الْبَيْضَةِ دِرْهَمٌ
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا : فِي الْبَيْضَةِ نِصْفُ دِرْهَمٍ
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ , وَثَالِثُهَا : فِيهَا نِصْفُ دِرْهَمٍ , فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ فَدِرْهَمٌ
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ , وَرَابِعُهَا : فِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ مَكَّةَ دِرْهَمٌ , وَفِي بَيْضَةٍ مِنْ حَمَامِ الْحِلِّ مُدٌّ
وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَخَامِسُهَا : فِيهَا ثَمَنُهَا
وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ. فَخَرَجَ قَوْلاَ : مَالِكٍ , وَأَبِي حَنِيفَةَ ، عَنْ أَنْ يُعْرَفَ لَهُمَا قَائِلٌ مِنْ السَّلَفِ. وَهُمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا إذَا خَالَفَ تَقْلِيدَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
881 - مَسْأَلَةٌ : وَلَا يُجْزَى الْهَدْيُ فِي ذَلِكَ إلَّا مُوقَفًا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ يُنْحَرُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } .
882 - مَسْأَلَةٌ : وَأَمَّا الإِطْعَامُ وَالصِّيَامُ فَحَيْثُ شَاءَ , لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ لَهُمَا مَوْضِعًا .
883 - مَسْأَلَةٌ : وَصَيْدُ كُلِّ مَا سَكَنَ الْمَاءَ مِنْ الْبِرَكِ , أَوْ الأَنْهَارِ , أَوْ الْبَحْرِ , أَوْ الْعُيُونِ أَوْ الآبَارِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ صَيْدُهُ وَأَكْلُهُ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ﴾.
وَقَالَ تَعَالَى ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ﴾ فَسَمَّى تَعَالَى كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَوْ مِلْحٍ بَحْرًا , وَحَتَّى لَوْ لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَ صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَالنَّهْرِ وَكُلِّ مَا ذَكَرْنَا حَلاَلاً بِلاَ خِلاَفٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ حُرِّمَ بِالإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ صَيْدُ الْبَرِّ وَلَمْ يُحَرَّمْ صَيْدُ الْبَحْرِ فَكَانَ مَا عَدَا صَيْدَ الْبَرِّ حَلاَلاً كَمَا كَانَ إذْ لَمْ يَأْتِ مَا يُحَرِّمُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
884 - مَسْأَلَةٌ : وَالْجَزَاءُ وَاجِبٌ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِيمَا أُصِيبَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ , أَوْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُ حَلاَلٌ , أَوْ مُحْرِمٌ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ ﴾ الآيَةَ. فَمَنْ كَانَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ , أَوْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَاسْمُ " حَرَمٍ " يَقَعُ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا وَكِيعٌ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ قَالَ : سَأَلْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى عَمَّنْ أَصَابَ صَيْدًا بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ : يُحْكَمُ عَلَيْهِ
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ , وَمُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ النَّيْسَابُورِيِّ , وَبَعْضِ كِبَارِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r حَرَّمَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ وَهُمَا حَرَّتَانِ بِهَا مَعْرُوفَتَانِ , وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ مَعْرُوفٌ كَحَرَمِ مَكَّةَ.
وقال أبو حنيفة , وَمَالِكٌ : لاَ جَزَاءَ فِيهِ وَهُوَ خَطَأٌ لِمَا ذَكَرْنَا ;
وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ اُمْتُحِنَ بِتَقْلِيدِهِمَا بِخَبَرَيْنِ : فِي أَحَدِهِمَا : أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ كَانَ يَتَصَيَّدُ بِالْعَقِيقِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لاَِنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ , وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْحَرَمِ بِالْمَدِينَةِ وَالنَّهْيِ ، عَنْ صَيْدِهَا.
وَالثَّانِي : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ لَهُ وَحْشٌ فَكَانَ يَلْعَبُ فَإِذَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ r قَبَعَ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ , ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ , لإِنَّ الصَّيْدَ إذَا صِيدَ فِي الْحِلِّ , ثُمَّ أُدْخِلَ فِي الْحَرَمِ حَلَّ مِلْكُهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
885 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ صَيْدٍ فِي الْحِلِّ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لاَِنَّهُ قَتَلَ الصَّيْدَ وَهُوَ حَرَمٌ , فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ وَالْقَاتِلُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلاَ يُؤْكَلُ ذَلِكَ الصَّيْدُ ، وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ ; أَمَّا سُقُوطُ الْجَزَاءِ فَلاَِنَّهُ لَيْسَ حَرَمًا
وَأَمَّا عِصْيَانُهُ وَالْمَنْعُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ فَلاَِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ وَلَمْ يَأْتِ فِيهِ جَزَاءٌ إنَّمَا جَاءَ تَحْرِيمُهُ فَقَطْ ; وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ إذَا كَانَ حَرَمًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا جَرِيرُ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r يَوْمَ افْتَتَحَ مَكَّةَ فَذَكَرَ كَلاَمًا فِيهِ : هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ , وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، حدثنا أَبِي ، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ ، حدثنا عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r : " ، أَنَّهُ قَالَ : إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لاَِهْلِهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ.
قال أبو محمد : فَصَحَّ تَحْرِيمُ قَتْلِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَحُكْمِ حَرَمِ مَكَّةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ صَيْدٍ قُتِلَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ , أَوْ مَكَّةَ فَهُوَ غَيْرُ ذَكِيٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
رُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ , وَقَتَادَةَ : مَنْ رَمَى صَيْدًا فِي الْحِلِّ , وَالرَّامِي فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
886 - مَسْأَلَةٌ : وَالْقَارِنُ , وَالْمُعْتَمِرُ , وَالْمُتَمَتِّعُ : سَوَاءٌ فِي الْجَزَاءِ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِي حِلٍّ أَصَابُوهُ , أَوْ فِي حَرَمٍ إنَّمَا فِي كُلِّ ذَلِكَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ; وَالشَّافِعِيِّ.
وقال أبو حنيفة عَلَى الْقَارِنِ جَزَاءَانِ فَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ وَهَذَا تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ ; ثُمَّ قَالَ : إنْ قَتَلَ الْمُحِلُّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا فِيهِ الْهَدْيُ , أَوْ الصَّدَقَةُ فَقَطْ , وَلاَ يُجْزِئُهُ صِيَامٌ وَهَذَا تَخْلِيطٌ آخَرُ , وَقَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ أَحَدٌ قَالَ بِهِ قَبْلَهُ ; وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ وَهُوَ حَرَمٌ جَزَاءَ مِثْلِ مَا قَتَلَ , لاَ جَزَاءَ مِثْلَيْ مَا قَتَلَ ; فَخَالَفَ الْقُرْآنَ فِي كِلاَ الْمَوْضِعَيْنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ سُئِلُوا ، عَنِ الصَّيْدِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ فَمَا سَأَلُوا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَارِنٌ هُوَ , أَمْ مُفْرِدٌ , أَمْ مُعْتَمِرٌ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
887 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ عَامِدِينَ لِذَلِكَ كُلُّهُمْ , فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إلاَّ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ فَلَيْسَ فِي الصَّيْدِ إلاَّ مِثْلُهُ لاَ أَمْثَالُهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّ مَوَالِيَ لاِبْنِ الزُّبَيْرِ قَتَلُوا ضَبُعًا وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَسَأَلُوا ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ : اذْبَحُوا كَبْشًا فَقَالُوا ، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ مِنَّا فَقَالَ : بَلْ كَبْشٌ وَاحِدٌ جَمِيعَكُمْ وَهَذَا فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ , وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مُخَالِفٌ.
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ , وَالزُّهْرِيِّ , وَمُجَاهِدٍ , وَالنَّخَعِيِّ , وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ; وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ , وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَالأَوْزَاعِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ ,
وَرُوِيَ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَالشَّعْبِيِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ.
وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا ، عَنِ النَّخَعِيِّ , وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وقال أبو حنيفة : أَمَّا الْمُحْرِمُونَ فَسَوَاءٌ أَصَابُوهُ فِي الْحَرَمِ , أَوْ الْحِلِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ,
وَأَمَّا الْحَلاَلاَنِ فَصَاعِدًا يُصِيبُونَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ; فَكَانَ هَذَا الْفَرْقُ طَرِيفًا جِدًّا لاَ يُحْفَظُ ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ : وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ إحْرَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُحْرِمِينَ غَيْرُ إحْرَامِ صَاحِبِهِ , وَالْحَرَمُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَقِيلَ لَهُمْ : بَلْ مَوْضِعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْحَرَمِ غَيْرُ مَوْضِعِ الآخَرِ , وَكُلُّ مَكَان مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ حَرَمٌ آخَرُ , غَيْرُ الْمَكَانِ الثَّانِي , وَالإِحْرَامُ حُكْمٌ وَاحِدٌ لاَزِمٌ لِجَمِيعِ الْمُحْرِمِينَ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ رَأَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ بِأَنْ قَالَ : هِيَ كَفَّارَةٌ , فَكَمَا عَلَى كُلِّ قَاتِلِ خَطَأٍ إذَا اشْتَرَكُوا فِي دَمِ الْمُؤْمِنِ كَفَّارَةٌ , وَعَلَى كُلِّ حَانِثٍ إذَا اشْتَرَكُوا فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَعَارَضَهُمْ الآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ وَإِطْعَامٌ وَاحِدٌ.
قال أبو محمد : وَهَذَا قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ مَحْظُورَةٌ فَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُهُمْ غَرَامَةً بِغَيْرِ نَصٍّ ، وَلاَ إجْمَاعٍ , فَالْجَزَاءُ بَيْنَهُمْ وَالإِطْعَامُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الصِّيَامُ فَإِنْ اخْتَارُوهُ : فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الصِّيَامُ كُلُّهُ لإِنَّ الصَّوْمَ لاَ يُشْتَرَكُ فِيهِ ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ , بِخِلاَفِ الأَمْوَالِ. فَإِنْ اخْتَلَفُوا : فَمَنْ اخْتَارَ مِنْهُمْ الْجَزَاءَ لَمْ يُجْزِهِ إلاَّ بِمِثْلٍ كَامِلٍ لاَ بِبَعْضِ مِثْلٍ وَمَنْ اخْتَارَ الإِطْعَامَ لَمْ يُجْزِهِ أَقَلُّ مِنْ ثَلاَثَةِ مَسَاكِينَ , لاَِنَّهُ كَانَ يَكُونُ خِلاَفَ النَّصِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
888 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ مَرَّةٍ جَزَاءٌ وَلَيْسَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بِمُسْقِطٍ لِلْجَزَاءِ عَنْهُ لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ : لاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ , بَلْ قَدْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ عَمْدًا , فَهُوَ عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ مَعَ النِّقْمَةِ عَلَى الْعَائِدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
889 - مَسْأَلَةٌ : وَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ ذَبْحُ مَا عَدَا الصَّيْدَ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ الدَّجَاجِ , وَالإِوَزِّ الْمُتَمَلَّكِ , وَالْبُرَكِ الْمُتَمَلَّكِ , وَالْحَمَامِ الْمُتَمَلَّكِ , وَالإِبِلِ , وَالْبَقَرِ , وَالْغَنَمِ , وَالْخَيْلِ , وَكُلِّ مَا لَيْسَ صَيْدًا الْحِلُّ وَالْحَرَمُ سَوَاءٌ وَهَذَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُحَرِّمْهُ ;
وَكَذَلِكَ يَذْبَحُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا الْحَلاَلُ فِي الْحَرَمِ بِلاَ خِلاَفٍ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ
890 - مَسْأَلَةٌ : وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ , وَلِلْمُحِلِّ فِي الْحَرَمِ وَالْحِلِّ قَتْلُ كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَيْدٍ مِنْ الْخَنَازِيرِ , وَالآُسْدِ وَالسِّبَاعِ , وَالْقَمْلِ , وَالْبَرَاغِيثِ , وَقِرْدَانِ بَعِيرِهِ أَوْ غَيْرِ بَعِيرِهِ , وَالْحَلَمِ كَذَلِكَ. وَنَسْتَحِبُّ لَهُمْ قَتْلَ الْحَيَّاتِ , وَالْفِئْرَانِ , وَالْحِدَأِ وَالْغِرْبَانِ , وَالْعَقَارِبِ , وَالْكِلاَبِ الْعَقُورَةِ , صِغَارُ كُلِّ ذَلِكَ وَكِبَارُهُ سَوَاءٌ ,
وَكَذَلِكَ الْوَزَغُ وَسَائِرُ الْهَوَامِّ ، وَلاَ جَزَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا ، وَلاَ فِي الْقَمْلِ. فَإِنْ قَتَلَ مَا نُهِيَ ، عَنْ قَتْلِهِ مِنْ هُدْهُدٍ , أَوْ صُرَدٍ , أَوْ ضُفْدَعٍ , أَوْ نَمْلٍ : فَقَدْ عَصَى ، وَلاَ جَزَاءَ فِي ذَلِكَ.
بُرْهَانُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ قَتْلَ مَا ذَكَرْنَا , ثُمَّ لَمْ يَنْهَ الْمُحْرِمَ إلاَّ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فَقَطْ , وَلاَ نَهَى إلاَّ عَنْ صَيْدِ الْحَرَمِ فَقَطْ , وَلاَ جَعَلَ الْجَزَاءَ إلاَّ فِي الصَّيْدِ فَقَطْ. فَمَنْ حَرَّمَ مَا لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِتَحْرِيمِهِ , أَوْ جَعَلَ جَزَاءً فِيمَا لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِالْجَزَاءِ فِيهِ : فَقَدْ شَرَّعَ فِي الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ.
وقال أبو حنيفة : لاَ يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ إلاَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ , وَالْحَيَّةَ , وَالْعَقْرَبَ , وَالْحِدَأَةَ , وَالْغُرَابَ , وَالذِّئْبَ فَقَطْ , وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا.
فأما الأَسَدُ , وَالنَّمِرُ , وَالسَّبُعُ , وَالدُّبُّ , وَالْخِنْزِيرُ , وَسَائِرُ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ , وَجَمِيعُ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَفِيهَا الْجَزَاءُ إلاَّ أَنْ تَكُونَ ابْتَدَأَتْهُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهَا , وَجَزَاؤُهَا عِنْدَهُ الأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ كُلِّ ذَلِكَ أَوْ شَاةٌ , وَلاَ يَتَجَاوَزُ بِجَزَاءِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَاةً وَاحِدَةً , وَيَقْتُلُ الْقِرْدَانَ ، عَنْ بَعِيرِهِ ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , وَلاَ يَقْتُلُ الْقُمَّلَ , فَإِنْ قَتَلَهَا أَطْعَمَ شَيْئًا , وَلَهُ قَتْلُ الْبُرْغُوثِ , وَالذَّرِّ , وَالْبَعُوضِ , وَلاَ جَزَاءَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ زُفَرُ : سَوَاءٌ ابْتَدَأَتْ الْمُحْرِمَ السِّبَاعُ أَوْ لَمْ تَبْتَدِئْهُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِيمَا قَتَلَ مِنْهَا ; وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ : لاَ يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ , وَلاَ الْوَزَغَ , وَلاَ شَيْئًا غَيْرَ الْحِدَأَةِ , وَالْغُرَابِ , وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ , وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ.
وقال مالك : يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ , وَالْعَقْرَبَ , وَالْحِدَأَةَ , وَالْغُرَابَ , وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ , وَالْحَيَّةَ , وَجَمِيعَ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ , إلاَّ أَنَّهُ كَرِهَ قَتْلَ الْغُرَابِ , وَالْحِدَأَةِ , إلاَّ أَنْ يُؤْذِيَاهُ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ الثَّعْلَبِ , وَلاَ الْهِرِّ الْوَحْشِيِّ , وَفِيهِمَا الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ قَتَلَهُمَا , إلاَّ إنْ ابْتَدَآهُ بِالأَذَى. وَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ صِغَارِ السِّبَاعِ أَصْلاً ، وَلاَ قَتْلُ الْوَزَغِ , وَلاَ قَتْلُ الْبَعُوضِ , وَلاَ قِرْدَانِ بَعِيرِهِ خَاصَّةً , فَإِنْ قَتَلَهُ أَطْعَمَ شَيْئًا , وَلاَ يَقْتُلُ شَيْئًا مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ , فَإِنْ فَعَلَ فَفِيهَا الْجَزَاءُ , وَلَهُ قَتْلُ الْقُرَادِ إذَا وَجَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَلاَ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُ صِغَارِ الْغِرْبَانِ , وَلاَ صِغَارِ الْحِدَأَةِ ; وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي صِغَارِ الْفِئْرَانِ أَيَقْتُلُهَا أَمْ لاَ قَالَ : وَلاَ يَقْتُلُ الْقُمَّلَ , فَإِنْ قَتَلَهَا أَطْعَمَ شَيْئًا. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا إلاَّ فِي الثَّعْلَبِ فَإِنَّهُ رَأَى فِيهِ الْجَزَاءَ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ مُجَاهِدٍ : قَتِّلْ الْحِدَأَةَ , وَارْمِ الْغُرَابَ , وَلاَ تَقْتُلْهُ. وَمِنْ طَرِيق وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : لاَ يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ.
قال أبو محمد : كُلُّ مَا ذَكَرْنَا آرَاءٌ فَاسِدَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ , وَلَئِنْ كَانَتْ السِّبَاعُ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمُحْرِمِ وَفِي الْحَرَمِ فَإِنَّ تَفْرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ جَزَاءِ الصَّيْدِ ; فَرَأَى فِيهِ قِيمَتَهُ يَبْتَاعُ مَا بَلَغَتْ مِنْ الإِهْدَاءِ وَلَوْ ثَلاَثَةً , أَوْ أَرْبَعَةً وَبَيْنَ جَزَاءِ السِّبَاعِ فَلَمْ يَرَ فِيهَا إلاَّ الأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ شَاةً فَقَطْ لاَ يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ : عَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ , وَدِينٌ جَدِيدٌ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ , وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ لاَ مِنْ قُرْآنٍ , وَلاَ سُنَّةٍ. وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ. وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ يُعْرَفُ قَبْلَهُ. وَلاَ قِيَاسٍ. وَلاَ رَأْيٍ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ السَّدَادِ.
وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ صِغَارِ الْغِرْبَانِ , وَالْحُدَيَّا , وَبَيْنَ صِغَارِ الْعَقَارِبِ , وَالْحَيَّاتِ , وَبَيْنَ سِبَاعِ الطَّيْرِ , وَبَيْنَ سِبَاعِ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ.
فَإِنْ قَالُوا : قِسْنَا سِبَاعَ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ
قلنا : فَهَلاَّ قِسْتُمْ سِبَاعَ الطَّيْرِ عَلَى الْحِدَأَةِ أَوْ هَلاَّ قِسْتُمْ سِبَاعَ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ عَلَى الضَّبُعِ وَعَلَى الثَّعْلَبِ عِنْدَكُمْ وَاحْتَجُّوا فِي الْقِرْدَانِ بِأَنَّهَا مِنْ الْبَعِيرِ.
قال علي : هذا كَلاَمٌ فَاحِشُ الْفَسَادِ لِوَجْهَيْنِ , أَحَدُهُمَا أَنَّهُ بَاطِلٌ وَمَا كَانَتْ الْقِرْدَانُ قَطُّ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الإِبِلِ ,
وَالثَّانِي أَنَّهُ مَا عُلِمَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إحْرَامٌ عَلَى بَعِيرٍ وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا أَنْزَى بَعِيرَهُ عَلَى نَاقَةٍ أَوْ أَنْزَى بَعِيرًا عَلَى نَاقَتِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ , فَكَيْفَ أَنْ يُعَذَّبَ بِأَكْلِ الْقِرْدَانِ لَهُ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَاحْتَجُّوا فِي الْقَمْلَةِ بِأَنَّهَا مِنْ الإِنْسَانِ .
فَقُلْنَا : فَكَانَ مَاذَا وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الصُّفَارَ مِنْ الإِنْسَانِ وَلَوْ قَتَلَهَا الْمُحْرِمُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ , وَقَالُوا : هُوَ إمَاطَةُ الأَذَى ، عَنْ نَفْسِهِ .
فَقُلْنَا : نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ فِي إمَاطَةِ الأَذَى بِغَيْرِ حَلْقِ الرَّأْسِ بِشَيْءٍ وَأَنْتُمْ لاَ تَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ تَعْصِيرَ الدُّمَّلِ وَحَكَّ الْجِلْدِ وَغَسْلَ الْقَذَى ، عَنِ الْعَيْنِ وَقَتْلَ الْبَرَاغِيثِ إمَاطَةُ أَذًى ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَكُمْ ; وَإِذْ قِسْتُمْ إمَاطَةَ الأَذَى حَيْثُ اشْتَهَيْتُمْ عَلَى إمَاطَةِ الأَذَى بِحَلْقِ الرَّأْسِ فَاجْعَلُوا فِيهَا مَا فِي إمَاطَةِ الأَذَى بِحَلْقِ الرَّأْسِ وَإِلاَّ فَقَدْ خَلَطْتُمْ وَتَنَاقَضْتُمْ وَأَبْطَلْتُمْ قِيَاسَكُمْ
قال علي : وهذا الْبَابُ كُلُّهُ مَرْجِعُهُ إلَى شَيْئَيْنِ , أَحَدُهُمَا : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ الآيَةَ وَإِلَى مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقْتُلُ مِنْ الدَّوَابِّ إذَا أَحْرَمْنَا قَالَ : خَمْسٌ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ : الْحِدَأَةُ , وَالْغُرَابُ , وَالْعَقْرَبُ , وَالْفَأْرَةُ , وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
وَمِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّبِيِّ r : خَمْسٌ لاَ جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالإِحْرَامِ : الْفَأْرَةُ , وَالْغُرَابُ , وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ , وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ.
قَالَ عَلِيٌّ : فَقَالَ قَائِلُونَ : قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ r بِالْبَيَانِ وَسُئِلَ : مَاذَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فَأَجَابَهُمْ عليه السلام بِهَذِهِ الْخَمْسِ , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ فِي الْحَرَمِ وَالإِحْرَامِ , فَلَوْ كَانَ هُنَالِكَ سَادِسٌ لَبَيَّنَهُ عليه السلام وَحَاشَا لَهُ مِنْ أَنْ يُغْفِلَ شَيْئًا مِنْ الدِّينِ سُئِلَ عَنْهُ.فَصَحَّ أَنَّ مَا عَدَا هَذِهِ الْخَمْسَةَ لاَ يَجُوزُ قَتْلُهُنَّ.
قال أبو محمد : وَهَذَا الاِحْتِجَاجُ لاَ يُمَكِّنُ الْمُقَلِّدِينَ لاَِبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِهِ لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَدْ زَادُوا إلَى هَذِهِ الْخَمْسِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِنَّ , فَأَضَافَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَيْهِنَّ : الذِّئْبَ , وَالْحَيَّاتِ , وَالْجِعْلاَنَ وَالْوَزَغَ , وَالنَّمْلَ , وَالْقُرَادَ وَالْبَعُوضَ.
فَإِنْ قَالُوا : إنَّمَا زِدْنَا الذِّئْبَ لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ : يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الذِّئْبَ وَالْمُرْسَلُ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ
قلنا : فَقُولُوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ قَالَ : أَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ الْبَجَلِيُّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : الْحَيَّةُ , وَالْعَقْرَبُ , وَالْفُوَيْسِقَةُ , وَيَرْمِي الْغُرَابَ ، وَلاَ يَقْتُلُهُ , وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ , وَالْحِدَأَةُ , وَالسَّبُعُ الْعَادِي فَاقْتُلُوا كُلَّ سَبُعٍ عَادٍ. وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام : السَّبُعُ الْعَادِي عَلَيْهِ بَلْ أَطْلَقَهُ إطْلاَقًا.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَأْخُذْ بِمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ النَّهْيِ ، عَنْ قَتْلِ الْغُرَابِ ; لإِنَّ رَاوِيَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ الْمُبَارَكِ : ارْمِ بِهِ , عَلَى جُمُودِ لِسَانِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَشِدَّةِ تَوَقِّيهِ وَتَكَلَّمَ فِيهِ شُعْبَةُ , وَأَحْمَدُ وَقَالَ فِيهِ يَحْيَى : لاَ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَكَذَّبَهُ أَبُو أُسَامَةَ , وَقَالَ : لَوْ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا صَدَّقْته.
فَإِنْ قَالُوا : قَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي الضَّبُعِ الْجَزَاءَ وَهِيَ سَبُعٌ ذُو نَابٍ
قلنا : نَعَمْ , وَهِيَ حَلاَلٌ مِنْ بَيْنِ السِّبَاعِ فَهِيَ صَيْدٌ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تَقِيسُوا سَائِرَ السِّبَاعِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الضَّبُعِ الْحَلاَلِ أَكْلُهَا وَلَمْ تَقِيسُوهَا عَلَى الذِّئْبِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ عِنْدَكُمْ وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الأَسَدَ : هُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ , وَأَبُو هُرَيْرَةَ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ , وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ.
قال أبو محمد : أَمَّا هَذِهِ الأَقْوَالُ فَظَاهِرَةُ الْفَسَادِ , وَلَمْ يَبْقَ الْكَلاَمُ إلاَّ فِي تَخْصِيصِ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ وَإِلْحَاقِ مَا عَدَا مَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِالتَّحْرِيمِ , أَوْ تَخْصِيصِ الآيَةِ وَإِلْحَاقِ مَا عَدَا مَا ذَكَرَ فِيهَا بِالْخَبَرِ الْمَذْكُورِ , أَوْ أَنْ نَحْكُمَ بِمَا فِي الآيَةِ وَبِمَا فِي الْخَبَرِ وَنَطْلُبَ حُكْمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ.
قَالَ عَلِيٌّ : فَكَانَ الْوَجْهَانِ الأَوَّلاَنِ مُتَعَارِضَيْنِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الآخَرِ ;
وَأَيْضًا : فَإِنَّ إلْحَاقَ مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الآيَةِ بِمَا ذَكَرَ فِيهَا , أَوْ إلْحَاقَ مَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْخَبَرِ بِمَا ذَكَرَ فِيهِ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ : وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَشَرَّعَ فِي الدِّينِ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى , وَهَذَا لاَ يَحِلُّ , فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْوَجْهُ الثَّالِثُ , فَكَانَ هُوَ الْحَقَّ لاَِنَّهُ هُوَ الاِئْتِمَارُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ عليه السلام وَتَرْكُ تَعَدٍّ لِحُدُودِهِمَا.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ : فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَ فِي الإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ قَتْلَ الصَّيْدِ , وَجَعَلَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَهُوَ حَرَمٌ بِالْعَمْدِ الْجَزَاءَ , فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ. وَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ الْمُحْرِمَ يَقْتُلُ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَاتِ , وَأَنَّهُ لاَ جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ فِي حَرَمٍ , أَوْ إحْرَامٍ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا عَدَا الْخَمْسَ الْمَذْكُورَاتِ مِمَّا لَيْسَ صَيْدًا : فَوَجَدْنَا الْكَلاَمَ فِيهِمَا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا : قَتْلُهَا ,
وَالثَّانِي : هَلْ فِي قَتْلِهَا جَزَاءٌ أَمْ لاَ
فَنَظَرْنَا فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ : فَوَجَدْنَاهُ بَاطِلاً لاَ إشْكَالَ فِيهِ , لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى إيجَابِ جَزَاءٍ فِي ذَلِكَ أَصْلاً ، وَلاَ شَيْءٌ مِنْ النُّصُوصِ كُلِّهَا ; فَكَانَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ شَرْعًا فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى ; فَبَطَلَ جُمْلَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَتْلِهَا : فَوَجَدْنَا مَنْ مَنَعَ مِنْهُ يَقُولُ : اقْتِصَارُ النَّبِيِّ r عَلَى جَوَابِ السَّائِلِ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا بِخِلاَفِهَا وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ كَلاَمُهُ عليه السلام غَيْرَ مُسْتَوْعِبٍ لِجَوَابِ السَّائِلِ ، وَلاَ مُبَيِّنٍ لَهُ حُكْمَ مَا سَأَلَ عَنْهُ , وَحَاشَا لَهُ مِنْ هَذَا , وَوَجَدْنَا مَنْ أَبَاحَ قَتْلَهَا يَقُولُ : اقْتِصَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ خَاصَّةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الصَّيْدَ بِخِلاَفِ الصَّيْدِ فِي ذَلِكَ , وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ كَلاَمُهُ تَعَالَى غَيْرَ مُسْتَوْعِبٍ لِمَا يُحَرَّمُ عَلَيْنَا ، وَلاَ مُبَيِّنٍ لَنَا حُكْمَ مَا أَلْزَمَنَا إيَّاهُ , وَحَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ هَذَانِ الاِسْتِدْلاَلاَنِ مُتَقَابِلَيْنِ فَلاَ بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِيهِمَا فَأَوَّلُ مَا نَقُولُ : أَنَّ الْيَقِينَ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ قَدْ صَحَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا أَلْزَمَنَا , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَدْ بَيَّنَ لَنَا مَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى , وَلَمْ يَجُزْ لَنَا تَعَدِّي مَا نَصَّهُ عَلَيْنَا رَبُّنَا تَعَالَى وَنَبِيُّنَا عليه السلام , فَوَجَدْنَا الآيَةَ فِيهَا حُكْمُ الصَّيْدِ وَلَيْسَ فِيهَا حُكْمُ غَيْرِهِ لاَ بِتَحْرِيمٍ , وَلاَ بِإِبَاحَةٍ , وَوَجَدْنَا الْخَبَرَ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الْخَمْسِ الْمَحْضُوضِ عَلَى قَتْلِهَا فِي الْحَرَمِ وَالإِحْرَامِ وَالْحِلِّ لَيْسَ فِيهِ حُكْمُ غَيْرِهَا لاَ بِتَحْرِيمٍ , وَلاَ بِإِبَاحَةٍ ; فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُضَافَ إلَى هَذِهِ الآيَةِ ، وَلاَ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا لَيْسَ فِيهِمَا , فَوَجَبَ النَّظَرُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِمَا وَطَلَبُ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِهِمَا ; فَوَجَدْنَا الْحَيَوَانَ قِسْمَيْنِ سِوَى مَا ذَكَرَ فِي الآيَةِ وَالْخَبَرِ : فَقِسْمٌ مُبَاحٌ قَتْلُهُ : كَجَمِيعِ سِبَاعِ الطَّيْرِ , وَذَوَاتِ الأَرْبَعِ , وَالْخَنَازِيرِ , وَالْهَوَامِّ , وَالْقَمْلِ , وَالْقِرْدَانِ , وَالْحَيَّاتِ , وَالْوَزَغِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُخْتَلَفُ أَنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي قَتْلِهِ. وَقِسْمٌ مُحَرَّمٌ قَتْلُهُ بِنُصُوصٍ وَارِدَةٍ فِيهِ : كَالْهُدْهُدِ , وَالصُّرَدِ , وَالضَّفَادِعِ , وَالنَّحْلِ , وَالنَّمْلِ ; فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا كَانَ , وَأَنْ لاَ يُنْقَلَ بِظَنٍّ قَدْ عَارَضَهُ ظَنٌّ آخَرُ , وَبِغَيْرِ نَصٍّ جَلِيٍّ ; فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ.
فإن قيل : فَإِنَّ مَا لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ قَدْ يَصِيدُهُ الْمَرْءُ لِيُطْعِمَهُ جَوَارِحَهُ
قلنا : هَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَيْنَا حُكْمَ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ فَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا
فَصَحَّ أَنَّ الْمُحَلَّلَ لَنَا إذَا حَلَلْنَا هُوَ الْمُحَرَّمُ عَلَيْنَا إذَا أَحْرَمْنَا , وَأَنَّهُ تَصَيُّدُ مَا عَلَّمَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمَهُ الَّذِي بِالْتِزَامِهِ يَتَبَيَّنُ مَنْ يَخَافُ رَبَّهُ تَعَالَى فَيَلْتَزِمُ مَا أَمَرَ بِهِ فِي صَيْدِهِ وَيَجْتَنِبُ مَا نَهَى عَنْهُ فِيهِ مِمَّنْ لاَ يَخَافُ رَبَّهُ فَيَعْتَدِي مَا أَمَرَهُ تَعَالَى ; وَلَيْسَ هَذَا بِيَقِينٍ إلاَّ فِيمَا تُصُيِّدَ لِلأَكْلِ , وَمَا عَلِمْنَا قَطُّ فِي لُغَةٍ ، وَلاَ شَرِيعَةٍ أَنَّ الْجَرْيَ خَلْفَ الْخَنَازِيرِ , وَالآُسْدِ , وَقَتْلَهَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ : صَيْدٍ.
فإن قيل : فَمَا وَجْهُ اقْتِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ r عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ
قلنا : وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : ظَاهِرُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَحْضُوضٌ عَلَى قَتْلِهِنَّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَيَكُونُ غَيْرُهُنَّ مُبَاحًا قَتْلُهُ أَيْضًا وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مِمَّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْخَمْسِ مَأْمُورًا بِقَتْلِهِ أَيْضًا : كَالْوَزَغِ , وَالأَفَاعِي , وَالْحَيَّاتِ , وَالرُّتَيْلاَ وَالثَّعَابِينِ. وَقَدْ يَكُونُ عليه السلام تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ فَاكْتَفَى ، عَنْ إعَادَتِهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ , وَلَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَهُنَّ , فَلَوْلاَ هَذَا الْخَبَرُ مَا عَلِمْنَا الْحَضَّ عَلَى قَتْلِ الْغُرَابِ ، وَلاَ تَحْرِيمَ أَكْلِهِ , وَأَكْلِ الْفَأْرَةِ , وَالْعَقْرَبِ , فَلَهُ أَعْظَمُ الْفَائِدَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَقَدْ
قلنا : إنَّ هَذَا الْحِجَاجَ كُلَّهُ لاَ مَدْخَلَ فِي شَيْءٍ لاَِبِي حَنِيفَةَ , وَلاَ لِمَالِكٍ لأَنَّهُمْ زَادُوا عَلَى الْخَمْسِ دَوَابَّ كَثِيرَةً , وَمَنَعُوا مِنْ قَتْلِ دَوَابَّ كَثِيرَةٍ بِالرَّأْيِ الْفَاسِدِ الْمُجَرَّدِ , فَلاَ بِالآيَةِ تَعَلَّقُوا ، وَلاَ بِالْحَدِيثِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ : فَإِنَّهُ تَنَاقَضَ فِي الثَّعْلَبِ , لاَِنَّهُ ذُو نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ فَهُوَ حَرَامٌ لَمْ يَأْتِ تَحْلِيلُهُ فِي نَصٍّ قَطُّ وَلَيْسَ صَيْدًا. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ احْتَجَّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ وَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ لَهُ ; وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ لَمْ يُبَالُوا بِأَنْ يَزِيدُوا عَلَى حَدِيثِ الأَصْنَافِ السِّتَّةِ فِي الرِّبَا أَلْفَ صِنْفٍ لاَ يُذْكَرُ , لاَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ , وَلاَ فِي غَيْرِهِ :
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا سُفْيَانُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : اُقْتُلْ مِنْ السِّبَاعِ مَا عَدَا عَلَيْك وَمَا لَمْ يَعْدُ عَلَيْك وَأَنْتَ مُحْرِمٌ قَالَ : وَلاَ بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ : الذِّئْبَ , وَالسِّنَّوْرَ الْبَرِّيَّ , وَالنَّسْرَ.
قال أبو محمد : أَمَّا النَّسْرُ فَفِيهِ الْجَزَاءُ ; لاَِنَّهُ صَيْدٌ حَلاَلٌ أَكْلُهُ ; إذْ لَمْ يُنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ :
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : مَا سَمِعْنَا أَنَّ الثَّعْلَبَ يُفْدَى وَعَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ : أَنَّ الثَّعْلَبَ سَبُعٌ , وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَزَاءٌ , أَوْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : أَمَرَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ , وَالْعَقْرَبِ , وَالْفَأْرِ , وَالزُّنْبُورِ , وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : لَيْسَ فِي الزُّنْبُورِ جَزَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَنْ قَتَلَ وَزَغًا فَلَهُ بِهِ صَدَقَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ : اُقْتُلُوا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيِّ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقْتُلُ الْوَزَغَ فِي بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ : سَأَلْت عَطَاءً أَيُقْتَلُ الْوَزَغُ فِي الْحَرَمِ قَالَ : لاَ بَأْسَ , وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَدِيرِ قَالَ : رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَخَّصَ فِي الْمُحْرِمِ أَنْ يُقَرِّدَ بَعِيرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ، حدثنا الْعَلاَءُ ، هُوَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ : سُئِلَ عَطَاءٌ أَيُقَرِّدُ الْمُحْرِمُ بَعِيرَهُ قَالَ : نَعَمْ , قَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ ، حدثنا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : لاَ بَأْسَ أَنْ يُقَرِّدَ الْمُحْرِمُ بَعِيرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا سُفْيَانُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يُقَرِّدَ بَعِيرًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَكَرِهَ عِكْرِمَةُ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقُمْ فَانْحَرْهُ فَنَحَرَهُ , فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : لاَ أُمَّ لَك كَمْ قَتَلْت مِنْ قُرَادٍ وَحَلَمَةٍ وَحَمْنَانَةٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ إلاَّ رِوَايَةٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَدْ أَوْرَدْنَا عَنْهُ خِلاَفَهَا. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : يُقَرِّدُ الْمُحْرِمُ بَعِيرَهُ , وَيَطْلِيهِ بِالْقَطْرَانِ , لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ
وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَدْ
رُوِّينَا خِلاَفَ ذَلِكَ ، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ.
وَأَمَّا النَّمْلُ : فَلاَ يَحِلُّ قَتْلُهُ , وَلاَ قَتْلُ الْهُدْهُدِ , وَلاَ الصُّرَدِ , وَلاَ النَّحْلَةِ , وَلاَ الضُّفْدَعِ : لِ
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، حدثنا مَعْمَرٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r ، عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ : النَّمْلَةِ , وَالنَّحْلَةِ , وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، حدثنا سُفْيَانُ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ : أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ r ، عَنْ ضُفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ عليه السلام ، عَنْ قَتْلِهَا.
قال أبو محمد : فَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ لاَ لِمُحِلٍّ , وَلاَ لِمُحْرِمٍ , فَإِنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْهَا عَامِدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ عَالِمًا بِالنَّهْيِ : فَهُوَ فَاسِقٌ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ لاَِنَّهَا لَيْسَتْ صَيْدًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ : سَمِعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَسَأَلَهُ مُحْرِمٌ ، عَنْ قَتْلِهِ نَمْلاً فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : لَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ.
وَأَمَّا الْبَعُوضُ , وَالذُّبَابُ : فَرُوِّينَا ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : مَا أُبَالِي لَوْ قَتَلْت عِشْرِينَ ذُبَابَةً وَأَنَا مُحْرِمٌ , وَأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقَتْلِ الْبَقِّ لِلْمُحْرِمِ يَعْنِي الْبَعُوضَ. وَعَنْ عَطَاءٍ : لاَ بَأْسَ بِقَتْلِ الذُّبَابِ لِلْمُحْرِمِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ لاَ شَيْءَ فِي الرَّخَمِ وَالْعُقَابِ , وَالصَّقْرِ , وَالْحِدَأِ , يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ.
وَأَمَّا الْقَمْلُ : فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ هُوَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ : شَهِدْت امْرَأَةً سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ ، عَنْ قَمْلَةٍ قَتَلَتْهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ فَقَالَ : مَا نَعْلَمُ الْقَمْلَةَ مِنْ الصَّيْدِ , وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا عِيسَى بْنُ حَفْصٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَنْقُرُ رَأْسِي وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ : هَكَذَا حَكًّا شَدِيدًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا عُيَيْنَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَحُكُّ رَأْسِي وَأَنَا مُحْرِمٌ فَحَكَّ ابْنُ عَبَّاسٍ رَأْسَهُ حَكًّا شَدِيدًا ; فَقَالَ الرَّجُلُ : أَفَرَأَيْت إنْ قَتَلْت قَمْلَةً , قَالَ : بَعُدْت مَا الْقَمْلَةُ مَانِعَتِي أَنْ أَحُكَّ رَأْسِي وَإِيَّاهَا أَرَدْت ; وَمَا نُهِيتُمْ إلاَّ عَنِ الصَّيْدِ. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ كُلُّ مَا لاَ يُؤْكَلُ فَإِنْ قَتَلْته وَأَنْتَ مُحْرِمٌ فَلاَ غُرْمَ عَلَيْك فِيهِ , مَعَ أَنَّهُ يُنْهَى ، عَنْ قَتْلِهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا أَوْ يُؤْذِيك. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ الْقَمْلَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا هُشَيْمٌ سَمِعْت أَبَا بِشْرٍ وَقَدْ سَأَلْته ، عَنِ الْقَمْلَةِ يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ , فَقَالَ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ لَيْسَ لِلْقَمْلَةِ جَزَاءٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْهَوَامَّ كُلَّهَا إلاَّ الْقَمْلَةَ فَإِنَّهَا مِنْهُ
قال أبو محمد : لَمْ يَجْعَلْ فِيهَا شَيْئًا.
وقال أبو حنيفة : إنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَطْعَمَ شَيْئًا ; وَأَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ غَسْلَ ثِيَابِهِ , وَغَسْلَ رَأْسِهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ. وَسُئِلَ مَالِكٌ ، عَنِ الْبَعُوضِ , وَالْبَرَاغِيثِ , يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ أَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَقَالَ : إنِّي لاَ أُحِبُّ ذَلِكَ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ , وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ، أَنَّهُ قَالَ فِي مُحْرِمٍ لَدَغَتْهُ دَبْرَةٌ فَقَتَلَهَا وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ فَقَالَ : يُطْعِمُ شَيْئًا ,
وَكَذَلِكَ مَنْ قَتَلَ قَمْلَةً.
وقال الشافعي : إنْ أَخَذَهَا مِنْ رَأْسِهِ فَقَتَلَهَا فَلْيُطْعِمْ لُقْمَةً.
قَالَ عَلِيٌّ : فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ إذْ رَآهُ يَتَنَاثَرُ الْقَمْلُ عَلَى وَجْهِهِ فَأَمَرَهُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ , وَأَنْ يَفْتَدِيَ
قلنا : نَعَمْ هَذَا حَقٌّ وَلَسْنَا مَعَكُمْ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ إنَّمَا نَحْنُ فِي قَتْلِ الْقَمْلِ , وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام : إنَّ هَذِهِ الْفِدْيَةَ إنَّمَا هِيَ لِقَتْلِ الْقَمْلِ ; وَمَنْ قَوَّلَهُ هَذَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ , وَلَئِنْ كَانَتْ الْقَمْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيْدِ فَمَا لَهَا جَزَاءٌ , وَلَئِنْ كَانَتْ مِنْ الصَّيْدِ فَمَا مِثْلُهَا لُقْمَةً , وَلاَ قَبْضَةَ طَعَامٍ ; وَإِنَّمَا مِثْلُهَا حَبَّةَ سِمْسِمَة. فَمَا نَدْرِي بِمَاذَا تَعَلَّقُوا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
891 - مَسْأَلَةٌ : وَجَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ دُخُولُ الْحَمَّامِ , وَالتَّدَلُّكُ , وَغَسْلُ رَأْسِهِ بِالطِّينِ , وَالْخِطْمِيِّ , وَالاِكْتِحَالُ , وَالتَّسْوِيكُ , وَالنَّظَرُ فِي الْمِرْآةِ , وَشَمُّ الرَّيْحَانِ , وَغَسْلُ ثِيَابِهِ , وَقَصُّ أَظْفَارِهِ وَشَارِبِهِ , وَنَتْفُ إبْطِهِ , وَالتَّنَوُّرُ , وَلاَ حَرَجَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي مَنْعِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ , وَلاَ سُنَّةٌ , وَمُدَّعِي الإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ : كَاذِبٌ عَلَى جَمِيعِ الآُمَّةِ , قَائِلٌ مَا لاَ عِلْمَ بِهِ وَمَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً فَقَدْ أَوْجَبَ شَرْعًا فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذَا :
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَصْنَعُ بِوَسَخِ الْمُحْرِمِ شَيْئًا. وَ، أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْرِمُ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ , وَيَنْزِعُ ضِرْسَهُ , إنْ انْكَسَرَ ظُفْرُهُ طَرَحَهُ , أَمِيطُوا عَنْكُمْ الأَذَى إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِأَذَاكُمْ شَيْئًا. وَأَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بِشَمِّ الرَّيْحَانِ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا , وَأَنْ يَقْطَعَ ظُفْرَهُ إذَا انْكَسَرَ , وَيَقْلَعَ ضِرْسَهُ إذَا آذَاهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَعْضَ بَنِيهِ أَحْسَبُهُ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ , وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى ضِفَّةِ الْبَحْرِ , وَهُمَا يَتَمَاقَلاَنِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ : يُغَيِّبُ هَذَا رَأْسَ هَذَا وَيُغَيِّبُ هَذَا رَأْسَ هَذَا : فَلَمْ يَعِبْ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْت أُطَاوِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ النَّفَسَ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فِي الْحِيَاضِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، حدثنا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتنِي أُمَاقِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالْجُحْفَةِ وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ الْمُمَاقَلَةُ : التَّغْطِيسُ فِي الْمَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ هُوَ ، وَابْنُ عُمَرَ بِإِخَاذِ بِالْجُحْفَةِ يَتَرَامَسَانِ وَهُمَا مُحْرِمَانِ :
قال أبو محمد : الإِخَاذُ الْغَدِيرُ وَالتَّرَامُسُ التَّغَاطُسُ. وَرَأَى مَالِكٌ عَلَى مَنْ غَيَّبَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ : الْفِدْيَةَ , وَخَالَفَ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا ; وَاخْتَلَفَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ فَاحْتَكَمَا إلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ , وَوَجَّهَا إلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُنَيْنٍ فَوَجَدَهُ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ , وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ r يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ r عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَنْقُضَ رَأْسَهَا وَتَمْتَشِطَ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا الْعُمْرِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : لاَ بَأْسَ أَنْ يَغْسِلَ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ ذَلِكَ يَعْنِي ، عَنْ غَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ فَقَالَ : لاَ بَأْسَ بِهِ إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا
وَمِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : لاَ بَأْسَ أَنْ تُمَشِّطَ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ الْمَرْأَةَ الْحَرَامَ وَتَقْتُلَ قَمْلَ غَيْرِهَا. وَعَنْ عَطَاءٍ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالاَ : لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ الْمُحْرِمِ الْحَمَّامَ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
قلنا :
رُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : التَّفَثُ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَجِّ , وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ الْفِطْرَةِ : قَصُّ الأَظْفَارِ , وَنَتْفُ الإِبْطِ , وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَقَصُّ الشَّارِبِ , وَالْفِطْرَةُ سُنَّةٌ لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهَا , وَلَمْ يَخُصَّ عليه السلام مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِهِ : وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يَجْعَلُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ , أَوْ أُبِيحَ لَهُ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ : كَفَّارَةً أَوْ غَرَامَةً , ثُمَّ لاَ يَجْعَلُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي فُسُوقِهِ وَمَعَاصِيهِ , وَارْتِكَابِهِ الْكَبَائِرَ شَيْئًا , لاَ فِدْيَةً , وَلاَ غَرَامَةً , بَلْ يَرَى حَجَّهُ ذَلِكَ تَامًّا مَبْرُورًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لاَ بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُحْرِمُ فِي الْمِرْآةِ ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ , وَابْنِ سِيرِينَ , وَعَطَاءٍ , وطَاوُوس , وَعِكْرِمَةَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وقال مالك : يُكْرَهُ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَتْ كَرَاهَةُ ذَلِكَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَالإِبَاحَةُ عَنْهُ أَصَحُّ.
وقال أبو حنيفة : إنْ قَلَّمَ الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ , أَرْبَعَ أَصَابِعَ مِنْ كُلِّ يَدٍ مِنْ يَدَيْهِ , وَمِنْ كُلِّ رِجْلٍ مِنْ رِجْلَيْهِ : فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ مَا شَاءَ , فَإِنْ قَلَّمَ أَظْفَارَ كَفٍّ وَاحِدَةٍ فَقَطْ , أَوْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ : فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ قَلَّمَ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ , أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ , أَوْ مِنْ يَدَيْنِ , أَوْ مِنْ رِجْلَيْنِ , أَوْ مِنْ يَدَيْهِ , وَرِجْلَيْهِ مَعًا : فَعَلَيْهِ دَمٌ , فَإِنْ قَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَظْفَارٍ كَذَلِكَ : فَعَلَيْهِ إطْعَامٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , إلاَّ ، أَنَّهُ قَالَ : يُطْعِمُ ، عَنْ كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ زُفَرُ , وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : إنْ قَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ , أَوْ مِنْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ; أَوْ مِنْ يَدَيْنِ وَرِجْلٍ , أَوْ مِنْ رِجْلَيْنِ وَيَدٍ : فَعَلَيْهِ دَمٌ فَإِنْ قَلَّمَ أَقَلَّ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ ، عَنْ كُلِّ أُصْبُعٍ نِصْفَ صَاعٍ. وَقَالَ الطَّحَاوِيَّ : لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَلِّمَ جَمِيعَ أَظْفَارِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ : فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وقال مالك : مَنْ قَلَّمَ مِنْ أَظْفَارِهِ مَا يُمِيطُ بِهِ ، عَنْ نَفْسِهِ أَذًى فَالْفِدْيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ عَلَيْهِ.
وقال الشافعي : مَنْ قَلَّمَ ظُفْرًا وَاحِدًا فَلْيُطْعِمْ مُدًّا , فَإِنْ قَلَّمَ ظُفْرَيْنِ فَمُدَّيْنِ , فَإِنْ قَلَّمَ ثَلاَثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الأَقْوَالِ الشَّنِيعَةِ الَّتِي لاَ حَظَّ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ الصَّوَابِ ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُمْ
وَقَدْ ذَكَرْنَا ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ آنِفًا : لاَ بَأْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا انْكَسَرَ ظُفْرُهُ أَنْ يَطْرَحَهُ عَنْهُ وَأَنْ يُمِيطَ ، عَنْ نَفْسِهِ الأَذَى.
وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَمُجَاهِدٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ , وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ , لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ جَعَلَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَعَنْ عَطَاءٍ : إنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ لاَِذًى بِهِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , فَإِنْ قَصَّهَا لِغَيْرِ أَذًى فَعَلَيْهِ دَمٌ وَعَنْهُ , وَعَنِ الْحَسَنِ : إنْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ الْمُنْكَسِرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , فَإِنْ قَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْكَسِرَ : فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ : إنْ نَزَعَ الْمُحْرِمُ ضِرْسَهُ : فَعَلَيْهِ دَمٌ.
قال أبو محمد : وَلاَ مُخَالِفَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَيَلْزَمُ مَنْ رَأَى فِي إمَاطَةِ الأَذَى الدَّمَ أَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ فِي إيجَابِ إمَاطَةِ الأَذَى بِقَلْعِ الضِّرْسِ , وَنَعِمَ , وَفِي الْبَوْلِ , وَفِي الْغَائِطِ لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ إمَاطَةُ أَذًى. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ ثِيَابَهُ. وَمِنْ طُرُقِ وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ قَالَ فِي غَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ : إنَّ اللَّهَ لاَ يَصْنَعُ بِدَرَنِك شَيْئًا.
وبه إلى سُفْيَانَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : لاَ بَأْسَ بِغَسْلِ الْمُحْرِمِ ثِيَابَهُ , وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
892 - مَسْأَلَةٌ : وَكُلُّ مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ فِي الْحِلِّ فَأَدْخَلَهُ الْحَرَمَ , أَوْ وَهَبَهُ لِمُحْرِمٍ , أَوْ اشْتَرَاهُ مُحْرِمٌ : فَحَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ , وَلِمَنْ فِي الْحَرَمِ مِلْكُهُ , وَذَبْحُهُ , وَأَكْلُهُ
وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ ذَلِكَ , أَوْ فِي مَنْزِلِهِ قَرِيبًا , أَوْ بَعِيدًا , أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ لَهُ كَمَا كَانَ أَكْلُهُ , وَذَبْحُهُ وَمِلْكُهُ , وَبَيْعُهُ , وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً التَّصَيُّدُ لِلصَّيْدِ وَتَمَلُّكُهُ وَذَبْحُهُ حِينَئِذٍ فَقَطْ , فَلَوْ ذَبَحَهُ لَكَانَ مَيْتَةً , وَلَوْ انْتَزَعَهُ حَلاَلٌ مِنْ يَدِهِ لَكَانَ لِلَّذِي انْتَزَعَهُ , وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُحْرِمُ وَإِنْ أَحَلَّ , إلاَّ بِأَنْ يَحْدُثَ لَهُ تَمَلُّكًا بَعْدَ إحْلاَلِهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا. وَقَالَ : لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هَاتَانِ الآيَتَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا , وَالشَّيْءُ الْمُتَصَيَّدُ هُوَ الْمُحَرَّمُ مِلْكُهُ وَذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ كَيْفَ كَانَ فَحَرَّمُوا عَلَى الْمُحْرِمِ أَكْلَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ جُمْلَةً وَإِنْ صَادَهُ لِنَفْسِهِ حَلاَلٌ وَإِنْ ذَبَحَهُ الْحَلاَلُ. وَحَرَّمُوا عَلَيْهِ ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْهُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ قَبْلَ إحْرَامِهِ , وَأَوْجَبُوا عَلَى مَنْ أَحْرَمَ وَفِي دَارِهِ صَيْدٌ أَوْ فِي يَدِهِ , أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ أَنْ يُطْلِقَهُ , وَأَسْقَطُوا عَنْهُ مِلْكَهُ أَلْبَتَّةَ , وَلَمْ يُبِيحُوا لاَِحَدٍ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَكْلَ شَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ , أَوْ تَمَلُّكَهُ , أَوْ ذَبْحَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ التَّصَيُّدُ لاَ الشَّيْءَ الْمُتَصَيَّدَ وَهُوَ مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ صَيْدُهُ لِمَا يَتَصَيَّدُ فَقَطْ. وَقَالُوا : قوله تعالى : لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ هُوَ التَّصَيُّدُ أَيْضًا نَفْسُهُ الْمُحَرَّمُ فِي الآيَةِ الآُخْرَى. وَاسْتَدَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى مَا قَالَتْهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا قَالُوا : فَاَلَّذِي أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا بِالإِحْلاَلِ هُوَ بِلاَ شَكٍّ الْمُحَرَّمُ عَلَيْنَا بِالإِحْرَامِ لاَ غَيْرُهُ. وَقَالُوا : لاَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ اسْمُ الصَّيْدِ إلاَّ عَلَى مَا كَانَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْشِيًّا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ فَإِذَا تُمُلِّكَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ صَيْدٍ بَعْدُ.
قال أبو محمد : فَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ هُمَا اللَّذَانِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ الآيَةِ غَيْرُهُمَا وَكُلُّ مَا عَدَاهُمَا فَقَوْلٌ فَاسِدٌ مُتَنَاقِضٌ لاَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ أَصْلاً فَوَجَبَ أَنْ نَنْظُرَ فِي أَيِّ الْقَوْلَيْنِ يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ الْ
بُرْهَانُ : فَوَجَدْنَا أَهْلَ الْمَقَالَةِ الآُولَى يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ r رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ , وَقَالَ : إنَّا حُرُمٌ لاَ نَأْكُلُ الصَّيْدَ.
وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيث أَيْضًا بِلَفْظِ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ r حِمَارَ وَحْشٍ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : لَوْلاَ أَنَّا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ مِنْكَ.
رُوِّينَا اللَّفْظَ الأَوَّلَ : مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ. وَاللَّفْظَ الثَّانِيَ : مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَهْدَى الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حدثنا يَحْيَى ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ : إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ. وَهَذَانِ خَبَرَانِ رُوِّينَاهُمَا مِنْ طُرُقٍ كُلُّهَا صِحَاحٌ
وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ ، عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذٍ , وَابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ بْنُ دَاوُد :
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ : أُهْدِيَ إلَى ابْنِ عُمَرَ ظَبْيٌ مَذْبُوحَةٌ بِمَكَّةَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا , وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ :
فَنَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الآُخْرَى : فَوَجَدْنَاهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ ، حدثنا سُفْيَانُ ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، حدثنا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ : سَمِعْت أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ فَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ بَصُرْت بِأَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ شَيْئًا فَنَظَرْتُ فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ فَأَسْرَجْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي ثُمَّ رَكِبْتُ فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي فَقُلْتُ لاَِصْحَابِي : نَاوِلُونِي سَوْطِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ فَقَالُوا : لاَ وَاَللَّهِ لاَ نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَنَزَلْتُ فَتَنَاوَلْتُهُ ; ثُمَّ رَكِبْتُ فَأَدْرَكْتُ الْحِمَارَ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحٍ فَعَقَرْتُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ أَصْحَابِي فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُوهُ ,
وقال بعضهم : لاَ تَأْكُلُوهُ , وَكَانَ النَّبِيُّ عليه السلام أَمَامَنَا فَحَرَّكْتُ فَرَسِي فَأَدْرَكْتُهُ فَقَالَ : هُوَ حَلاَلٌ فَكُلُوهُ. أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ ثِقَةٌ اسْمُهُ نَافِعٌ رَوَى عَنْهُ أَبُو النَّضْرِ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ ، حدثنا فُضَيْلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ ، حدثنا أَبُو حَازِمٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَبُو قَتَادَةَ مُحِلٌّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ قَالُوا : مَعَنَا رِجْلُهُ فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَأَكَلَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حدثنا يَحْيَى ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنَّا مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ , وَنَحْنُ حُرُمٌ فَأُهْدِيَ لَنَا طَيْرٌ وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ , فَمِنَّا مَنْ تَوَرَّعَ , وَمِنَّا مَنْ أَكَلَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ وَفَّقَ مَنْ أَكَلَهُ , وَقَالَ : أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r .
وَمِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمِ التَّيْمِيِّ ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r بِالرَّوْحَاءِ وَهُمْ حُرُمٌ إذَا حِمَارٌ مَعْقُورٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه r دَعُوهُ فَيُوشِكُ صَاحِبُهُ أَنْ يَأْتِيَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٍ هُوَ الَّذِي عَقَرَ الْحِمَارَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ شَأْنَكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ , فَأَمَرَ عليه السلام أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَطَلْحَةَ كَمَا ذَكَرْنَا , وَأَبِي هُرَيْرَةَ :
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ : سَأَلَنِي قَوْمٌ مُحْرِمُونَ ، عَنْ مُحَلِّينَ أَهْدَوْا لَهُمْ صَيْدًا قَالَ : فَأَمَرْتهمْ بِأَكْلِهِ , ثُمَّ لَقِيت عُمَرَ فَأَخْبَرْته , فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ أَفْتَيْتهمْ بِغَيْرِ هَذَا لاََوْجَعْتُك.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ : أَقْبَلْنَا مَعَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَمِيرُنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَأَتَى رَجُلٌ بِحِمَارِ وَحْشٍ قَدْ عَقَرَهُ فَابْتَاعَهُ كَعْبُ بْنُ مُسْلِمٍ فَجَاءَ مُعَاذٌ وَالْقُدُورُ تَغْلِي بِهِ , فَقَالَ مُعَاذٌ : لاَ يُطِيعُنِي أَحَدٌ إلاَّ أَكْفَأَ قِدْرَهُ فَأَكْفَأَ الْقَوْمُ قُدُورَهُمْ فَلَمَّا وَافَوْا عُمَرَ قَصَّ عَلَيْهِ كَعْبٌ قِصَّةَ الْحِمَارِ , قَالَ عُمَرُ : مَا بَأْسُ ذَلِكَ وَمَنْ نَهَى ، عَنْ ذَلِكَ لَعَلَّك أَفْتَيْت بِذَلِكَ يَا مُعَاذُ قَالَ : نَعَمْ فَلاَمَهُ عُمَرُ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ , وَابْنِ مَسْعُودٍ , وَأَبِي ذَرٍّ , وَمُجَاهِدٍ , وَاللَّيْثِ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد : فَكَانَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا صِحَاحًا كُلُّهَا , فَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ الأَخْذُ بِجَمِيعِهَا وَاسْتِعْمَالُهَا كَمَا هِيَ دُونَ أَنْ يُزَادَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ , فَيَقَعُ فَاعِلُ ذَلِكَ فِي الْكَذِبِ ,
فَنَظَرْنَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ فَوَجَدْنَا فِيهَا إبَاحَةَ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ لِلْمُحْرِمِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَوَجَدْنَاهَا لَيْسَ فِيهَا نَهْيُ الْمُحْرِمِ ، عَنْ أَكْلِ مَا صَادَهُ الْمُحِلُّ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهَا قَوْلُهُ عليه السلام : إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ , وَلَوْلاَ أَنَّنَا مُحْرِمُونَ لَقَبِلْنَاهُ فَإِنَّمَا فِيهِ رَدُّ الصَّيْدِ عَلَى مُهْدِيهِ , لأَنَّهُمْ حُرُمٌ وَتَرْكُ أَكْلِهِ لأَنَّهُمْ حُرُمٌ ; وَهَذَا فِعْلٌ مِنْهُ عليه السلام وَلَيْسَ أَمْرًا , وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَمْرُهُ وَإِنَّمَا فِي فِعْلِهِ الاِئْتِسَاءُ بِهِ فَقَطْ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ عليه السلام : أَمَّا أَنَا فَلاَ آكُلُ مُتَّكِئًا. وَتَرْكِهِ أَكْلَ الضَّبِّ فَلَمْ يُحَرِّمْ بِذَلِكَ الأَكْلَ مُتَّكِئًا لَكِنْ هُوَ الأَفْضَلُ. وَلَمْ يُحَرَّمْ أَيْضًا أَكْلُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ يَصِيدُهُ الْمُحِلُّ بِقَوْلِهِ عليه السلام إنَّا لاَ نَأْكُلُهُ إنَّا حُرُمٌ لَكِنْ كَانَ تَرْكُ أَكْلِهِ أَفْضَلَ. وَهَكَذَا رُوِيَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، وَلاَ حَرَجَ فِي أَكْلِهِ أَصْلاً ، وَلاَ كَرَاهَةَ لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَبَاحَهُ وَأَكَلَهُ أَيْضًا , فَمَرَّةً أَكَلَهُ , وَمَرَّةً لَمْ يَأْكُلْهُ , وَمَرَّةً قَبِلَهُ , وَمَرَّةً لَمْ يَقْبَلْهُ فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ مُبَاحٌ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ r بَيْضُ نَعَامٍ وَتَتْمِيرُ وَحْشٍ فَقَالَ : أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ فَإِنَّا حُرُمٌ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ ، وَلاَ يَصِحُّ فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَقَدْ صَحَّ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّصَيُّدَ فِي الْبَرِّ فَقَطْ. وَصَحَّ أَنَّ قوله تعالى : لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نَهْيٌ ، عَنْ قَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِ الْمَرْءِ حَرَمًا , وَالذَّكَاةُ لَيْسَتْ قَتْلاً بِلاَ خِلاَفٍ فِي الشَّرِيعَةِ , وَالْقَتْلُ لَيْسَ ذَكَاةً.
فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ ، عَنْ تَذْكِيَتِهِ , وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِنَهْيٍ ، عَنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ التَّصَيُّدِ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ : وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام سَكَنَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ مَاتَ , وَهِيَ حَرَمٌ كَمَكَّةَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَهُ , وَلَمْ يَزَلْ عليه السلام يُهْدَى لَهُ الصَّيْدُ وَلاَِصْحَابِهِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْمَدِينَةَ حَيًّا فَيُبْتَاعُ وَيُذْبَحُ وَيُؤْكَلُ وَيُتَمَلَّكُ , وَمُذَكًّى فَيُبَاعُ وَيُؤْكَلُ , هَذَا أَمْرٌ لاَ يَقْدِرُ عَلَى إنْكَارِهِ أَحَدٌ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ ,
وَكَذَلِكَ بِمَكَّةَ وَهِيَ حَرَمٌ : حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ ، هُوَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْتُ دَاوُد بْنَ أَبِي هِنْدٍ يُحَدِّث هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ أَنَّ عَطَاءً يَكْرَهُ مَا أُدْخِلَ مِنْ الصَّيْدِ مِنْ الْحِلِّ أَنْ يُذْبَحَ فِي الْحَرَامِ , فَقَالَ هِشَامٌ : وَمَا عِلْمُ عَطَاءٍ , وَمَنْ يَأْخُذُ ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ يَعْنِي عَمَّهُ ابْنَ الزُّبَيْرِ تِسْعَ سِنِينَ يَرَاهَا فِي الأَقْفَاصِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام يُقَدِّمُونَ بِهَا الْقَمَارِيَّ وَالْيَعَاقِيبَ لاَ يَنْهَوْنَ ، عَنْ ذَلِكَ.
قال أبو محمد : مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْحَرَمُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الإِحْرَامُ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ النَّصُّ أَصْلاً فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : مَنْ أَحْرَمَ وَفِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ أَوْ مَعَهُ فِي قَفَصٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إرْسَالُهُ فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ إحْلاَلِهِ فِي يَدِ إنْسَانٍ قَدْ أَخَذَهُ كَانَ لَهُ ارْتِجَاعُهُ وَانْتِزَاعُهُ مِنْ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ , وَهَذَا تَخْلِيطٌ نَاهِيكَ بِهِ , وَلَئِنْ كَانَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَمَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِمَّنْ مَلَكَهُ ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى عَوْدَةِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ سُقُوطِهِ إلاَّ بِبُرْهَانٍ , وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِإِحْرَامِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ. وَقَالَ أَيْضًا : إنْ صَادَ مُحِلٌّ صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ حَرَمَ مَكَّةَ حَيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ فَإِنْ بَاعَهُ فُسِخَ بَيْعُهُ , فَإِنْ بَاعَهُ مِمَّنْ يَذْبَحُهُ أَوْ ذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَهَذَا تَخْلِيطٌ وَتَنَاقُضٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ مُجَاهِدٍ لاَ بَأْسَ أَنْ يُدْخَلَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ حَيًّا ثُمَّ يُذْبَحَ. وَعَنْ عَطَاءٍ , وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ : رَأَيْت الصَّيْدَ يُبَاعُ بِمَكَّةَ حَيًّا فِي إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ.
قال أبو محمد : وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ , وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ , لإِنَّ كِلَيْهِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ حَرَمٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَالْوَاجِبُ فِيمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مُتَمَلَّكًا وَهُوَ مُحْرِمٌ أَوْ فِي الْحَرَمِ أَنْ يُؤَدِّيَ لِصَاحِبِهِ صَيْدًا مِثْلَهُ يَبْتَاعُهُ لَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ , وَلاَ جَزَاءَ فِيهِ ، وَلاَ يُؤْكَلُ الَّذِي قُتِلَ لاَِنَّهُ مَيْتَةٌ , إذْ قَتْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ.
قال أبو محمد :
وَهَا هُنَا قَوْلاَنِ آخَرَانِ , أَحَدُهُمَا : قَوْمٌ قَالُوا : لَحْمُ الصَّيْدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا لَمْ يَصِدْهُ هُوَ أَوْ يُصَدْ لَهُ , وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فَأَحْرَمَ أَصْحَابِي وَلَمْ أُحْرِمْ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ فَاصْطَدْتُهُ فَذَكَرْتُ شَأْنَهُ لِلنَّبِيِّ عليه السلام وَذَكَرْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَحْرَمْتُ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام : صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلاَلٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلاَّ مَا اصْطَدْتُمْ وَصِيدَ لَكُمْ. فَرُوِّينَا هَذَا ، عَنْ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ أُتِيَ بِصَيْدٍ وَهُوَ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهِ وَلَمْ يَأْكُلْهُ هُوَ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : يَا عَجَبًا لَك تَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ مِمَّا لَسْت آكِلاً فَقَالَ عُثْمَانُ : إنِّي أَظُنُّ إنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي , فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
قال أبو محمد : أَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ فَسَاقِطٌ , لاَِنَّهُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّ مَعْمَرًا رَوَاهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَرَوَاهُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ , وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ كِلاَهُمَا يَقُولُ فِيهِ : عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ , وَلاَ يَذْكُرَانِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ , وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْمَرٌ سَمَاعَ يَحْيَى لَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا : شُعْبَةُ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا : أَبُو مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا ذَكَرَ مَعْمَرٌ , وَرَوَاهُ أَبُو حَازِمٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ فَذَكَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام أَكَلَ مِنْهُ. فَلاَ يَخْلُو الْعَمَلُ فِي هَذَا مِنْ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ تُغَلَّبَ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى رِوَايَةِ مَعْمَرٍ لاَ سِيَّمَا وَفِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ سَمَاعَ يَحْيَى مِنْ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْمَرًا. وَتَسْقُطَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ جُمْلَةً لاَِنَّهُ اضْطَرَبَ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذَ بِرِوَايَةِ أَبِي حَازِمٍ , وَأَبِي مُحَمَّدٍ , وَابْنِ مَوْهَبٍ , الَّذِينَ لَمْ يَضْطَرِبْ عَلَيْهِمْ لاَِنَّهُ لاَ يَشُكُّ ذُو حِسٍّ أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهْمٌ. إذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ عليه السلام أَكَلَ مِنْهُ , وَتَصِحَّ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ , وَهِيَ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ , فِي مَكَان وَاحِدٍ فِي صَيْدٍ وَاحِدٍ , وَيُؤْخَذُ بِالزَّائِدِ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ تَعَدِّيهِ
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ : فَوَجَدْنَا مَنْ رَوَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَكَلَ مِنْهُ قَدْ أَثْبَتَ خَبَرًا وَزَادَ عِلْمًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ , فَوَجَبَ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ ، وَلاَ بُدَّ وَتَرْكُ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُثْبِتْ مَا أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ فَإِنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ يُصَادُ لَهُ الْوَحْشُ عَلَى الْمَنَازِلِ ثُمَّ يُذْبَحُ فَيَأْكُلُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ سَنَتَيْنِ مِنْ خِلاَفَتِهِ , ثُمَّ إنَّ الزُّبَيْرَ كَلَّمَهُ , فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا يُصَادُ لَنَا وَمِنْ أَجْلِنَا لَوْ تَرَكْنَاهُ فَتَرَكَهُ. فَصَحَّ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْ عُثْمَانَ , وَالزُّبَيْرِ , وَاسْتِحْسَانٌ , لاَ مَنْعٌ , وَلاَ عَنْ أَثَرٍ عِنْدَهُمَا , وَمِثْلُ هَذَا لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ , وَلاَ يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ لَمْ يَصِدْ الْحِمَارَ إلاَّ لِنَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r مِنْ أَكْلِهِ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَقَوْلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلاَلُ مَا لَمْ يُشِرْ لَهُ إلَيْهِ أَوْ يَأْمُرْهُ بِصَيْدِهِ
وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ يُحَدِّثُ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي مَسِيرٍ لَهُمْ بَعْضُهُمْ مُحْرِمٌ وَبَعْضُهُمْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ فَرَأَيْتُ حِمَارَ وَحْشٍ فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَأَخَذْتُ رُمْحِي فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُونِي فَاخْتَلَسْتُ سَوْطًا مِنْ بَعْضِهِمْ وَشَدَدْتُ عَلَى الْحِمَارِ فَأَصَبْتُهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ فَأَشْفَقُوا مِنْهُ , فَسُئِلَ ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فَقَالَ : هَلْ أَشَرْتُمْ أَوْ أَعَنْتُمْ قَالُوا : لاَ , قَالَ : فَكُلُوهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِهِ إلاَّ ، أَنَّهُ قَالَ : هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ قَالُوا : لاَ.
قال أبو محمد : وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا كَانَ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ r لَوْ قَالَ لَهُ : نَعَمْ إلاَّ أَنَّ الْيَقِينَ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَقُلْهُ عليه السلام ، وَلاَ حَكَمَ بِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ لاَزِمٍ ، وَلاَ تُؤْخَذُ الدِّيَانَةُ بِالتَّكَهُّنِ , وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَزِمَ بِإِشَارَتِهِمْ إلَيْهِ , أَوْ أَمْرِهِمْ إيَّاهُ , أَوْ عَوْنِهِمْ لَهُ حُكْمُ تَحْرِيمٍ لَبَيَّنَهُ عليه السلام , فَإِذْ لَمْ يَفْعَلْ فَلاَ حُكْمَ لِذَلِكَ. وَقَدْ
رُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ فِي مُحْرِمٍ كَانَ بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى حَجَلَةً فَأَمَرَ مُحِلًّا بِذَبْحِهَا أَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
893 - مَسْأَلَةٌ : فَلَوْ أَمَرَ مُحْرِمٌ حَلاَلاً بِالتَّصَيُّدِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُطِيعُهُ وَيَأْتَمِرُ لَهُ فَالْمُحْرِمُ هُوَ الْقَاتِلُ لِلصَّيْدِ فَهُوَ حَرَامٌ , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَأْتَمِرُ لَهُ ، وَلاَ يُطِيعُهُ فَلَيْسَ الْمُحْرِمُ هَاهُنَا قَاتِلاً , بَلْ أَمَرَ بِمُبَاحٍ حَلاَلٍ لِلْمَأْمُورِ. وَلَوْ اشْتَرَكَ حَلاَلٌ وَمُحْرِمٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ كَانَ مَيْتَةً لاَ يَحِلُّ أَكْلُهُ ; لاَِنَّهُ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ الذَّكَاةُ خَالِصَةً , وَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ كُلُّهُ لاَِنَّهُ قَاتِلٌ ، وَلاَ جَزَاءَ عَلَى الْمُحِلِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
894 - مَسْأَلَةٌ : وَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُقَبِّلَ امْرَأَتَهُ وَيُبَاشِرَهَا مَا لَمْ يُولِجْ , لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْهَ إلاَّ عَنِ الرَّفَثِ , وَالرَّفَثُ : الْجِمَاعُ , فَقَطْ. ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَنْهَى ، عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْهَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام قَطُّ ، عَنْ ذَلِكَ , وَيُبْطِلُ الْحَجَّ بِالإِمْنَاءِ فِي مُبَاشَرَتِهَا الَّتِي لَمْ يَنْهَهُ قَطُّ قُرْآنٌ ، وَلاَ سُنَّةٌ عَنْهَا , ثُمَّ لاَ يُبْطِلُ حَجَّهُ بِالْفُسُوقِ الَّذِي صَحَّ نَهْيُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَنْهُ فِي الْحَجِّ مِنْ تَرْكِ الصَّلاَةِ , وَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ الْحَقِّ وَسَائِرِ الْفُسُوقِ , إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ ، عَنْ شَيْخٍ يُقَالُ لَهُ : أَبُو هَرِمٍ قَالَ : سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ مِنْ امْرَأَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ هَذَا وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ يَدِهِ يَعْنِي الْجِمَاعَ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّهُ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ : مَا نَعْلَمُ فِيهَا شَيْئًا فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَسَمِعْت عَطَاءً يَقُولُ : مِثْلَ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَيْضًا ، عَنْ عَطَاءٍ لاَ يُفْسِدُ الْحَجَّ إلاَّ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ فَإِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَسَدَ الْحَجُّ وَوَجَبَ الْغُرْمُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ : سَأَلَنِي وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَحَلِيمُ بْنُ الدُّرَيْمِ مُحْرِمٌ فَقَالَ : وَضَعْت يَدِي مِنْ امْرَأَتِي مَوْضِعًا فَلَمْ أَرْفَعْهَا حَتَّى أَجْنَبْت .
فَقُلْنَا كُلُّنَا : مَا لَنَا بِهَذَا عِلْمٌ فَمَضَى إلَى أَبِي الشَّعْثَاءِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فَسَأَلَهُ , ثُمَّ رَجَعَ إلَيْنَا يُعْرَفُ الْبِشْرُ فِي وَجْهِهِ فَسَأَلْنَاهُ مَاذَا أَفْتَاك فَقَالَ : إنَّهُ اسْتَكْتَمَنِي فَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِي ذَلِكَ شَيْئًا
فَإِنْ ذَكَرُوا الرِّوَايَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ : يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مِنْ امْرَأَتِهِ كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ الْكَلاَمَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا الرَّفَثُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ عِنْدَ النِّسَاءِ فَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا لأَنَّهُمْ يُبِيحُونَ لَهُ النَّظَرَ , ثُمَّ إنَّهَا وَابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَجْعَلاَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وقال أبو حنيفة : وَالشَّافِعِيُّ : مَنْ جَامَعَ دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ دَمٌ وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ وَحَجُّهُ تَامٌّ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِيمَنْ نَظَرَ فَأَمْذَى , أَوْ أَمْنَى : عَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْ عَلِيٍّ ، وَلاَ يَصِحُّ : مَنْ قَبَّلَ فَعَلَيْهِ دَمٌ. أَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ.
وَأَمَّا رِوَايَةُ عَلِيٍّ فَعَنْ شَرِيكٍ ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ وَكُلُّهُمْ لاَ شَيْءُ
قال أبو محمد : إيجَابُ الدَّمِ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ , وَلاَ سُنَّةٌ , وَلاَ قِيَاسٌ , وَلاَ قَوْلٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
895 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا , أَوْ تَدَاوَى بِطِيبٍ , أَوْ مَسَّهُ طِيبُ الْكَعْبَةِ , أَوْ مَسَّ طِيبًا لِبَيْعٍ , أَوْ شِرَاءٍ , أَوْ لَبِسَ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِبَاسُهُ نَاسِيًا , أَوْ لِضَرُورَةٍ طَالَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ , أَوْ قَصُرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , وَلاَ يَكْدَحُ ذَلِكَ فِي حَجِّهِ , وَعَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَ ، عَنْ نَفْسِهِ كُلَّ ذَلِكَ سَاعَةَ يَذْكُرُهُ أَوْ سَاعَةَ يَسْتَغْنِي عَنْهُ ,
وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , وَلَهُ أَنْ يَحْتَجِمَ وَيَحْلِقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ , وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , وَلَهُ أَنْ يَدْهُنَ بِمَا شَاءَ , فَلَوْ تَعَمَّدَ لِبَاسَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ أَوْ فِعْلَ مَا حُرِّمَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ : بَطَلَ حَجُّهُ وَإِحْرَامُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ : قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : عُفِيَ لاُِمَّتِي ، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ فَالْمُسْتَكْرَهُ عَلَى كُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَالْمَرْأَةُ الْمُكْرَهَةُ عَلَى الْجِمَاعِ لاَ شَيْءَ عَلَيْهَا , وَلاَ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا , وَحَجُّهُمْ تَامٌّ , وَإِحْرَامُهُمْ تَامٌّ.
وقال أبو حنيفة : مَنْ غَطَّى رَأْسَهُ , أَوْ وَجْهَهُ , أَوْ لَبِسَ مَا نُهِيَ عَامِدًا , أَوْ نَاسِيًا , أَوْ مُكْرَهًا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ , فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ , فَإِنْ حَلَقَ قَفَاهُ لِلْحِجَامَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ , فَإِنْ حَلَقَ بَعْضَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ.
وقال مالك : مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَاطَ بِهِ ، عَنْ نَفْسِهِ أَذًى فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ الَّتِي عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ , وَلاَ يَحْتَجِمُ إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ , فَإِنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
وقال الشافعي : لاَ شَيْءَ فِي النِّسْيَانِ فِي كُلِّ ذَلِكَ إلاَّ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فَقَطْ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ قَالَ : وَلاَ يَحْلِقُ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ , وَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً.
قال أبو محمد : أَمَّا أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرَةُ الْفَسَادِ وَالتَّنَاقُضِ ، وَلاَ نَعْلَمُهَا ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ , وَلاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ , وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ , وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ , وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلاَ قِيَاسٍ ; لإِنَّ تَفْرِيقَهُ بَيْنَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ : دَعْوَى فَاسِدَةٌ.
وقال بعضهم : هَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ.
قَالَ عَلِيٌّ : كَذَبَ فِي ذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللِّبَاسَ لاَ يَقِلُّ فِي النَّهَارِ بَلْ قَدْ يُوضَعُ لِلْقَائِلَةِ , وَأَخْبَرَ أَنَّ اللِّبَاسَ يَقِلُّ إلَى بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ يَكُونُ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ.
فَإِنْ ذَكَرُوا مَا رُوِيَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَالنَّخَعِيِّ , أَنَّ مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا فَلْيُرِقْ دَمًا
قلنا : أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ لاَِنَّكُمْ تَجْعَلُونَ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ صَدَقَةً لاَ دَمًا ; ، وَلاَ عَجَبَ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ يَرَاهُ حَقًّا , ثُمَّ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ , وَلَوْ كَانَتْ إمَاطَتُهُ الأَذَى بِغَيْرِ حَلْقِ الرَّأْسِ تُوجِبُ الْفِدْيَةَ لاََوْجَبَ الْفِدْيَةَ : الْبَوْلُ , وَالْغَائِطُ , وَالأَكْلُ , وَالشُّرْبُ , وَالْغُسْلُ لِلْحَرِّ وَالتَّرَوُّحِ , وَالتَّدَفُّؤُ لِلْبَرْدِ , وَقَلْعُ الضِّرْسِ لِلْوَجَعِ , فَكُلُّ هَذَا إمَاطَةُ أَذًى.
فَإِنْ قَالُوا : قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى إسْقَاطِهِ الْفِدْيَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
قلنا : حَسْبُنَا وَإِيَّاكُمْ إقْرَارُكُمْ بِصِحَّةِ الإِجْمَاعِ عَلَى إبْطَالِ عِلَّتِكُمْ , وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ إمَاطَةِ أَذًى تَجِبُ فِيهِ فِدْيَةٌ , وَإِلْزَامُ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ شَرْعٌ لاَ يُجَوِّزُ إلْزَامَهُ أَحَدٌ حَيْثُ لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام. فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا كَذَبُوا ; لأَنَّهُمْ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُورِدُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ عَشَرَةٍ مِنْ صَاحِبٍ , وَتَابِعٍ فِي ذَلِكَ مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ احْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُهُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا يَقْدِرُ النَّاسُ عَلَى إزَالَتِهِ ، عَنْ نَفْسِهِ إلاَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى إنْبَاتِهِ .
فَقُلْنَا : فَكَانَ مَاذَا وَأَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ وَهَلْ زِدْتُمْ إلاَّ دَعْوَى لاَ بُرْهَانَ لَهَا
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ الْخَبِيصَ الأَصْفَرَ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَعْنِي الْمُزَعْفَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ بِأَيِّ كُحْلٍ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ ، عَنْ شُمَيْسَةَ الأَزْدِيَّةِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ لَهَا : اكْتَحِلِي بِأَيِّ كُحْلٍ شِئْت غَيْرَ الإِثْمِدِ أَمَا إنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ زِينَةٌ , وَنَحْنُ نَكْرَهُهُ. وَمِنْ الْخِلاَفِ فِي ذَلِكَ : مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ قَتَادَةَ : أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمَرَ امْرَأَةً مُحْرِمَةً اكْتَحَلَتْ بِإِثْمِدٍ أَنْ تُهْرِقَ دَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا مَرْوَانُ ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ ، حدثنا صَالِحُ بْنُ حَيٍّ قَالَ : رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَصَابَ ثَوْبَهُ خَلُوقُ الْكَعْبَةِ فَلَمْ يَغْسِلْهُ وَكَانَ مُحْرِمًا وَعَنْ عَطَاءٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُهُ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ : إنْ شَمَّ الْمُحْرِمُ رَيْحَانًا , أَوْ مَسَّ طِيبًا : أَهْرَقَ دَمًا. وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ عَطَاءٍ , وطَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا الْمُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الأَعْرَجِ ، عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ : احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِطَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَسَطَ رَأْسِهِ.
قال أبو محمد : لَمْ يُخْبِرْ عليه السلام أَنَّ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً ، وَلاَ فِدْيَةً وَلَوْ وَجَبَتْ لَمَا أَغْفَلَ ذَلِكَ , وَكَانَ عليه السلام كَثِيرَ الشَّعْرِ أَفْرَعَ وَإِنَّمَا نُهِينَا ، عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الإِحْرَامِ وَالْقَفَا لَيْسَ رَأْسًا ، وَلاَ هُوَ مِنْ الرَّأْسِ.
فَإِنْ ذَكَرُوا
مَا رُوِّينَا ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ مُحْرِمًا احْتَجَمَ أَنْ يَفْتَدِيَ بِصِيَامٍ , أَوْ صَدَقَةٍ , أَوْ نُسُكٍ ; فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ; فَهَذَا عَلَيْهِمْ ; لأَنَّهُمْ خَالَفُوهُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوْجَبَ الدَّمَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ إنْ حَلَقَ لَهَا شَعْرًا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا.
وَرُوِّينَا ، عَنْ مَسْرُوقٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ , وَلاَ يَحْتَجِمُ الصَّائِمُ , وَلَمْ يَشْتَرِطْ تَرْكَ حَلْقِ الْقَفَا. وَعَنْ طَاوُوس يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إذَا كَانَ وَجِعًا وَمَا نَعْلَمُ مَنْ أَوْجَبَ فِي ذَلِكَ حُكْمًا مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ قَالَ : مَنْ احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ أَرَاقَ دَمًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ , وَعَطَاءٍ : إنْ حَلَقَ مَوَاضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا الاِدِّهَانُ : فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ ، وَ، هُوَ ابْنُ أَبِي الشَّعْثَاءِ ، عَنْ مُرَّةِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : رَآنَا أَبُو ذَرٍّ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَقَالَ : اُدْهُنُوا أَيْدِيَكُمْ. وَصَحَّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعَالِجَ الْمُحْرِمُ يَدَيْهِ بِالدَّسَمِ , وَأَنْ يَدْهُنَ بِالسَّمْنِ رَأْسَهُ لِصُدَاعٍ أَصَابَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَطَاءٍ : مَنْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلاَ بَأْسَ بِالأَدْهَانِ الْفَارِسِيَّةِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ : فِي الطِّيبِ الْفِدْيَةُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ : إذَا تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالسَّمْنِ , أَوْ الزَّيْتِ , أَوْ الْبَنَفْسَجِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ. وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ : كَانَ الْحَكَمُ , وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ فِي الْمُحْرِمِ يُدَاوِي قُرُوحًا بِرَأْسِهِ وَجَسَدِهِ : إنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ نَاسِيًا : فَعَنْ عَطَاءٍ فِي الْمُحْرِمِ يُغَطِّي رَأْسَهُ نَاسِيًا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا نَاسِيًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ تَعَالَى ; فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَالْكَفَّارَةُ. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِمِثْلِهِ لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّاسِي. وَعَنْ مُجَاهِدٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا أَجَازَا لِلْمُحْرِمِ أَكْلَ الطَّعَامِ , وَفِيهِ الزَّعْفَرَانُ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ , وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يَأْثُرُ قَوْلَهُ ، عَنْ أَحَدٍ. وَعَنْ طَاوُوس , وَعَطَاءٍ : إبَاحَةُ الْخَبِيصِ الْمُزَعْفَرِ لِلْمُحْرِمِ. وَمِثْلُهُ ، عَنِ الْحَسَنِ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ , وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ , وَعَطَاءٍ , وَالْحَسَنِ , فِي لِبَاسِ الْقَمِيصِ , وَالْقَلَنْسُوَةِ , وَالْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ أَنَّهُ يُهْرِقُ دَمًا : وَهَذِهِ كُلُّهَا أَقْوَالٌ مُخَالِفَةٌ لاَِقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَمَالِكٍ.
قال أبو محمد :
وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ فَسَقَ , وَالْفُسُوقُ يُبْطِلُ الْحَجَّ كَمَا قَدَّمْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
896 - مَسْأَلَةٌ : وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُدَّ الْمِنْطَقَةَ عَلَى إزَارِهِ إنْ شَاءَ أَوْ عَلَى جِلْدِهِ وَيَحْتَزِمَ بِمَا شَاءَ , وَيَحْمِلَ خُرْجَهُ عَلَى رَأْسِهِ , وَيَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَيْهِ وَرِدَاءَهُ إنْ شَاءَ , وَيَحْمِلَ مَا شَاءَ مِنْ الْحُمُولَةِ عَلَى رَأْسِهِ , وَيَعْصِبَ عَلَى رَأْسِهِ لِصُدَاعٍ , أَوْ لِجَرْحٍ , وَيَجْبُرَ كَسْرَ ذِرَاعِهِ , أَوْ سَاقِهِ , وَيَعْصِبَ عَلَى جِرَاحِهِ , وَخُرَّاجِهِ , وَقَرْحِهِ , وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَيُحْرِمُ فِي أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ حَاشَا مَا صُبِغَ بِوَرْسٍ , أَوْ زَعْفَرَانٍ لاَِنَّهُ لَمْ يَنْهَهُ ، عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ , وَلاَ سُنَّةٌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا إلاَّ أَنَّنَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَأَى مُحْرِمًا مُحْتَزِمًا بِحَبْلٍ فَقَالَ : يَا صَاحِبَ الْحَبْلِ أَلْقِهِ.
وبه إلى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ : سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : لاَ تَعْقِدْ عَلَيْكَ شَيْئًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ الْهِمْيَانَ لِلْمُحْرِمِ
فأما الأَثَرُ فَمُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ. وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ الأَسْلَمِيِّ عَمَّنْ سَمِعَ صَالِحًا مَوْلَى التَّوْأَمَةِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ.
قال أبو محمد : كِلاَهُمَا وَتَمْرَةٌ
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلاَفُ هَذَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا ابْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ عَطَاءٍ , وطَاوُوس قَالاَ جَمِيعًا : رَأَيْنَا ابْنَ عُمَرَ قَدْ شَدَّ حَقْوَيْهِ بِعِمَامَةٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ : ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ : أَنَّهَا كَانَتْ تُرَخِّصُ فِي الْهِمْيَانِ يَشُدُّهُ الْمُحْرِمُ عَلَى حَقْوَيْهِ , وَفِي الْمِنْطَقَةِ أَيْضًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَعْرَجِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ : لاَ بَأْسَ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ الزُّبَيْرِ جَاءَ حَاجًّا فَرَمَلَ حَتَّى رَأَيْت مِنْطَقَتَهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَلَى بَطْنِهِ.
قال أبو محمد : لاَ شَكَّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَى إحْرَازِ نَفَقَتِهِ , وَابْنُ عُمَرَ لَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَرَأَى مَالِكٌ عَلَى مَنْ عَصَبَ رَأْسَهُ فِدْيَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ : لاَ يَعْصِبُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ بِسَيْرٍ ، وَلاَ بِخِرْقَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ شَدَّ شَعْرَهُ بِسَيْرٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكِلاَهُمَا لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ شَيْئًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا سُفْيَانُ ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءَ : يَنْحَلُّ إزَارِي يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ : اعْقِدْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَوَشَّحَ الْمُحْرِمُ بِثَوْبِهِ وَيَعْقِدَهُ عَلَى قَفَاهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا هُشَيْمٌ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ ثَوْبَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَبَاحَ لِبَاسَ الْهِمْيَانِ لِلْمُحْرِمِ : مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ , وَعَطَاءٌ , وطَاوُوس ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَإِبْرَاهِيمُ , وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَمُجَاهِدٌ , وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ يَنْكَسِرُ ظُفْرُهُ : أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ مُرَارَةً وَلَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا أَبُو الأَحْوَصِ ، حدثنا مَنْصُورٌ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٍ قَالاَ جَمِيعًا : يَجْبُرُ الْمُحْرِمُ عَظْمَهُ إذَا انْكَسَرَ , قَالاَ : وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : إذَا انْكَسَرَتْ يَدُ الْمُحْرِمِ , أَوْ شُجَّ عَصَبَ عَلَى الشَّجِّ وَالْكَسْرِ وَعَقَدَ عَلَيْهِ , وَلَمْ يَجْعَلْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ , وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : لاَ بَأْسَ أَنْ يَعْقِدَ الْمُحْرِمُ : قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْقَرْحَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَلَى الْجَرْحِ. وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ لِلْمُحْرِمِ : الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ , وَأَنْ يَحْمِلَ الْخُرْجَ عَلَى رَأْسِهِ , وَنَحْوَ ذَلِكَ , وَلَمْ يَرَوْا فِيهِ بَأْسًا. وَأَبَاحَ مَالِكٌ لِبَاسَ الْمِنْطَقَةِ لِلْمُحْرِمِ إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَتُهُ , وَمَنَعَهُ لِبَاسَهَا إذَا كَانَتْ فِيهَا نَفَقَةُ غَيْرِهِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةَ. وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ شَدِّ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْعَضُدِ لِلْمُحْرِمِ , وَأَبَاحَ شَدَّهَا عَلَى جِلْدِهِ , وَمَنَعَ مِنْ شَدِّهَا فَوْقَ الإِزَارِ. وَجَعَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبَهُ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً فَأَقْوَالٌ مُتَنَاقِضَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا , وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهَا قَبْلَهُمَا. وَمَنَعَ مَالِكٌ الْمُحْرِمَ مِنْ حَمْلِ خُرْجٍ لِغَيْرِهِ عَلَى رَأْسِهِ , وَرَأَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فِدْيَةً , وَأَبَاحَ لَهُ حَمْلَهُ عَلَى رَأْسِهِ إذَا كَانَ لَهُ وَهَذَا فَرْقٌ فَاسِدٌ لاَ نَعْلَمُهُ أَيْضًا ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَقَدْ رُوِيَ ، عَنْ عَطَاءٍ إبَاحَةُ حَمْلِ الْمُحْرِمِ الْمِكْتَلَ عَلَى رَأْسِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ : رَأَى عُمَرُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ثَوْبَيْنِ مُضَرَّجَيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ : مَا هَذَا فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : مَا أَخَالُ أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ فَسَكَتَ عُمَرُ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَبِسَ ثَوْبًا مُوَرَّدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ.
فإن قيل : قَدْ رُوِيَ ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ لِبَاسَ ثَوْبٍ مَصْبُوغٍ لِلْمُحْرِمِ
قلنا : أَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ عُمَرَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تُنْكِرُوهُ ، وَلاَ رَأَيْتُمْ فِيهِ شَيْئًا وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقِيَاسَ فَأَبَاحُوا الْمُصَبَّغَاتِ وَلَمْ يَقِيسُوهَا عَلَى الْوَرْسِ وَالْمُعَصْفَرِ , كَمَا قَاسُوا كُلَّ مَنْ أَمَاطَ بِهِ أَذًى عَلَى حَالِقٍ رَأْسَهُ , وَكَمَا قَاسُوا جَارِحَ الصَّيْدِ عَلَى قَاتِلِهِ ; وَكَمَا أَوْجَبُوهَا عَلَى مَنْ لَبِسَ قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً.
897 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ قَطْعُ شَيْءٍ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ بِمَكَّةَ , وَالْمَدِينَةِ ، وَلاَ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا , وَلاَ مِنْ حَشِيشِهِ حَاشَا الإِذْخِرَ فَإِنَّ جَمْعَهُ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَرْعَى إبِلَهُ أَوْ بَعِيرَهُ أَوْ مَوَاشِيَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ وَجَدَ غُصْنًا قَدْ قَطَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ وَقَعَ فَفَارَقَ جِذْمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ حِينَئِذٍ. فَإِنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً فَإِنَّ سَلْبَهُ حَلاَلٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : إنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ اللَّهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لاَِحَدٍ قَبْلِي , وَلَمْ يَحِلَّ لِي إلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةٍ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ يُعْضَدُ شَجَرُهُ ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ , وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا قَالَ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إلاَّ الإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ : إلاَّ الإِذْخِرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حدثنا لَيْثُ ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ " أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ : إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلَّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا ، وَلاَ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام فِيهَا فَقُولُوا لَهُ : إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ , وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
قال أبو محمد : هَذَا مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام وَلَمْ يَنْهَ ، عَنْ إرْعَاءِ الْمَوَاشِي : وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : بِكَرَاهِيَةِ الرَّعْيِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَهَذَا تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبَاحَ مَالِكٌ أَخْذَ السَّنَى وَسَائِرِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَهَذَا أَيْضًا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام , وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّنَى وَبَيْنَ سَائِرِ حَشِيشِ الْحَرَمِ.
وقال أبو حنيفة , وَالشَّافِعِيُّ , وَسُفْيَانُ : بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى قَاطِعِ شَجَرِ الْحَرَمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغُصْنِ فَمَا فَوْقَهُ إلَى الدَّوْحَةِ : قِيمَةُ ذَلِكَ , فَإِنْ بَلَغَ هَدْيًا أَهْدَاهُ , فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ هَدْيًا فَقِيمَتُهُ طَعَامًا يَتَصَدَّقُ بِهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ , أَوْ صَاعُ تَمْرٍ , أَوْ شَعِيرِ , وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ صِيَامٌ. وَقَالَ زُفَرُ : يَتَصَدَّقُ بِالْقِيمَةِ ، وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ ، وَلاَ صِيَامٌ.
قال أبو محمد :
رُوِّينَا ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الدَّوْحَةِ بَدَنَةٌ. وَعَنْ عَطَاءٍ فِيهَا بَقَرَةٌ , وَفِي الْوَتَدِ مُدٌّ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ فِي الدَّوْحَة : بَقَرَةٌ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ فِي الدَّوْحَةِ سِتَّةُ دَنَانِيرَ , أَوْ خَمْسَةٌ , أَوْ سَبْعَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهَا بِمَكَّةَ وَمَا نَعْلَمُ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فِي قَوْلِهِمَا سَلَفًا.
وقال مالك , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ r ، وَلاَ يَجُوزُ شَرْعُ هَدْيٍ , وَلاَ إيجَابُ صِيَامٍ , وَلاَ إلْزَامُ غَرَامَةِ إطْعَامٍ , وَلاَ صَدَقَةٍ , إلاَّ بِقُرْآنٍ , أَوْ سُنَّةٍ ; وَهَذَا مِمَّا تَرَكَتْ فِيهِ الطَّوَائِفُ الْمَذْكُورَةُ الْقِيَاسَ. فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيَّ قَاسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ عَلَى إيجَابِ الْجَزَاءِ فِي صَيْدِهِ وَلَمْ يَقِيسَا إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى إيجَابِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَكِلاَهُمَا حَرَمٌ مُحَرَّمٌ صَيْدُهُ. وَقَاسَ مَالِكٌ إيجَابَ الْفِدْيَةِ عَلَى اللاَّبِسِ وَالْمُتَطَيِّبِ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى حَالِقِ رَأْسِهِ , وَلَمْ يَقِسْ إيجَابَ الْجَزَاءِ فِي شَجَرِ حَرَمِ مَكَّةَ , وَفِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ عَلَى وُجُوبِهِ فِي صَيْدِ حَرَمِ مَكَّةَ. وَكُلُّ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ لاَ وَجْهَ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
898 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُسْفَكَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ دَمٌ بِقِصَاصٍ أَصْلاً , وَلاَ أَنْ يُقَامَ فِيهَا حَدٌّ , وَلاَ يُسْجَنَ فِيهَا أَحَدٌ , فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أُخْرِجَ ، عَنِ الْحَرَمِ وَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام أَنْ يُسْفَكَ بِهَا دَمٌ , وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا إخْرَاجُ الْعَاصِي مِنْهُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فَتَطْهِيرُهُ مِنْ الْعُصَاةِ وَاجِبٌ , وَلَيْسَ هَذَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ , لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ ، وَلاَ يُسَمَّى ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمُتَمَلَّكِ ، وَلاَ الْحِجَامَةُ , وَلاَ فَتْحُ الْعِرْقِ : سَفْكَ دَمٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَالَ : سَمِعْت طَاوُوسًا يَقُولُ : سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : مَنْ أَصَابَ حَدًّا , ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ وَذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ : فَإِذَا خَرَجَ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ عُمَرَ مَا نَدَهْتُهُ يَعْنِي حَرَمَ مَكَّةَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ وَجَدْت قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا عَرَضْت لَهُ.
قال أبو محمد : فَلَمْ يَخُصُّوا مَنْ أَصَابَ حَدًّا فِي الْحَرَمِ مِمَّنْ أَصَابَهُ خَارِجَ الْحَرَمِ ; ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ وَفَرَّقَ عَطَاءٌ , وَمُجَاهِدٌ بَيْنَهُمَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ خَرَّجَ قَوْمًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَصَلَبَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ قَتَلَ , ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ قَالَ : يُخْرَجُ مِنْهُ فَيُقْتَلُ.
وقال أبو حنيفة : تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْحَرَمِ إلاَّ الْقَتْلَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُقَامُ فِيهِ حَدُّ قَتْلٍ ، وَلاَ قَوَدٍ حَتَّى يَخْرُجَ بِاخْتِيَارِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُخْرَجُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَتْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ : تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ فَاسِدٌ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ أَبَاحَ الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ حَجَّةً أَصْلاً , وَلاَ سَلَفًا , إلاَّ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ , وَمَنْ بَعَثَهُ , وَالْحَجَّاجَ , وَمَنْ بَعَثَهُ.
قال أبو محمد :
وَأَمَّا مَنْ تُعُدِّيَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ فَلْيَدْفَعْ ، عَنْ نَفْسِهِ قَالَ تَعَالَى ﴿ ، وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
899 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يُخْرَجُ شَيْءٌ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ ، وَلاَ حِجَارَتِهِ إلَى الْحِلِّ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا هُشَيْمٌ أَنَا حَجَّاجٌ ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : يُكْرَهُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ , أَوْ يُدْخَلَ تُرَابُ الْحِلِّ إلَى الْحَرَمِ
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرِهِ. وَلاَ بَأْسَ بِإِخْرَاجِ مَاءِ زَمْزَمَ لإِنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ إنَّمَا هِيَ لِلأَرْضِ وَتُرَابِهَا وَحِجَارَتِهَا , فَلاَ يَجُوزُ لَهُ إزَالَةُ حُرْمَتِهَا وَلَمْ يَأْتِ فِي الْمَاءِ تَحْرِيمٌ.
900 - مَسْأَلَةٌ : وَمِلْكُ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعُهَا وَإِجَارَتُهَا جَائِزٌ. وَقَدْ
رُوِّينَا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّهُ قَالَ : لاَ يَحِلُّ بَيْعُ دُورِهَا ، وَلاَ إجَارَتُهَا. وَمَنَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ كِرَائِهَا.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عُمَرَ الْمَنْعَ مِنْ التَّبْوِيبِ عَلَى دُورِهَا ;
وَرُوِّينَا فِي ذَلِكَ خَبَرَيْنِ مُرْسَلَيْنِ لاَ يَصِحَّانِ
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
قَالَ عَلِيٌّ : قَدْ مَلَكَ الصَّحَابَةُ بِهَا دُورَهُمْ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّه عليه السلام فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ , وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ رَبْعًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ رَسُولُهُ عليه السلام فَكُلُّ ذَلِكَ مُبَاحٌ فِيهَا.
901 - مَسْأَلَةٌ : وَأَمَّا مَنْ احْتَطَبَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ فَحَلاَلٌ سَلْبُهُ كُلَّ مَا مَعَهُ فِي حَالِهِ تِلْكَ وَتَجْرِيدُهُ إلاَّ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَقَطْ ; فَلِ
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ ، عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، عَنْ عَمِّهِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : إنَّ سَعْدًا أَبَاهُ رَكِبَ إلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ فَسَلَبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلاَمِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلاَمِهِمْ فَقَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، أَنَّهُ قَالَ لِمَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ : إنِّي اسْتَعْمَلْتُك عَلَى مَا هَاهُنَا فَمَنْ رَأَيْتَهُ يَخْبِطُ شَجَرًا أَوْ يَعْضِدُهُ : فَخُذْ حَبْلَهُ وَفَأْسَهُ قُلْت : آخُذُ رِدَاءَهُ قَالَ : لاَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ هَذَا.
قال أبو محمد : وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ يُعْرَفُ وَلَيْسَ هَذَا فِي الْحَشِيشِ لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي الاِحْتِطَابِ وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ بِكُلِّ حَالٍ.
902 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى عَرَفَةَ أَوْ إلَى مِنًى أَوْ إلَى مَكَان ذَكَره مِنْ الْحَرَمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، أَوْ الشُّكْرِ لَهُ تَعَالَى لاَ عَلَى سَبِيلِ الْيَمِينِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ لِلصَّلاَةِ هُنَالِكَ , أَوْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَطْ ، وَلاَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ , وَلاَ أَنْ يَعْتَمِرَ إلاَّ أَنْ يَنْذِرُ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلاَ. فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ إلَى حَيْثُ نَذَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْكَبْ ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ; فَإِنْ رَكِبَ الطَّرِيقَ كُلَّهُ لِغَيْرِ مَشَقَّةٍ فِي طَرِيقٍ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ ، وَلاَ يُعَوِّضُ مِنْهُ صِيَامًا ، وَلاَ إطْعَامًا. فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا فَلْيَمْشِ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى يُتِمَّ حَجَّهُ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَرْكَبَ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْكَبَ ، وَلاَ بُدَّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ فَالْمَشْيُ وَالرُّكُوبُ إلَى كُلِّ مَا ذَكَرْنَا طَاعَةٌ لِلَّهِ ، عَزَّ وَجَلَّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ. وَقَالَ تَعَالَى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَقَالَ تَعَالَى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَإِنَّمَا أَمَرَ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِعُقُودِ الطَّاعَةِ لاَ بِعُقُودِ الْمَعَاصِي. .
وَقَالَ قَوْمٌ : لاَ يَمْشِي إلاَّ فِي حَجٍّ , أَوْ عُمْرَةٍ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خَطَأٌ ; لاَِنَّهُ إلْزَامُ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ , وَلاَ سُنَّةٍ.
وقال مالك : إنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْمَسْجِدِ , أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ , أَوْ إلَى الْحَرَمِ لَزِمَهُ , فَإِنْ نَذَرَ إلَى عَرَفَةَ , أَوْ إلَى مُزْدَلِفَةَ , أَوْ مِنًى , أَوْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ وَهَذَا تَقْسِيمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَّمٍ ، حدثنا الْفَزَارِيّ ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ أَخْبَرَنِي ثَابِتٌ هُوَ الْبُنَانِيُّ ، عَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ رَأَى شَيْخًا يُهَادِي بَيْنَ بَنِيهِ فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا قَالُوا : نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ ، عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ عليه السلام شَيْئًا لِرُكُوبِهِ. وَقَالَ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا فَمَنْ لَيْسَ الْمَشْيُ فِي وُسْعِهِ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَشْيَ , وَكَانَ نَذْرُهُ لِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ مَعْصِيَةً لاَ يَجُوزُ لَهُ الْوَفَاءُ بِهَا.
قَالَ عَلِيٌّ : الْفَزَارِيّ هَذَا هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ أَوْ مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ , وَكِلاَهُمَا ثِقَةٌ إمَامٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى ، حدثنا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ : أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ حَدَّثَهُ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ r فَاسْتَفْتَيْتُ النَّبِيَّ عليه السلام فَقَالَ : لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ فَأَمَرَهَا بِكِلاَ الأَمْرَيْنِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ شَيْئًا. وَقَدْ عَلِمْنَا ضَرُورَةً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام لَمْ يَأْمُرْهَا بِالْمَشْيِ إلاَّ وَهِيَ قَادِرَةٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حدثنا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ ، حدثنا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتُوَائِيُّ ، حدثنا قَتَادَةُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُخْتَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْبَيْتِ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ عليه السلام أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا. فَهَذَانِ أَمْرَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام , أَحَدُهُمَا : أَنْ تَرْكَبَ وَتَمْشِيَ دُونَ إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ , وَالآخَرُ : أَنْ تَرْكَبَ وَتُهْدِيَ هَدْيًا دُونَ مَشْيٍ فِي ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا.
قال أبو محمد :
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زُحَرَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الرُّعَيْنِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ " أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَهَا أَنْ تَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ".
وَرُوِيَ أَيْضًا مِثْلُ هَذَا مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا حَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَمِثْلُهُ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا شَرِيكٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا لِئَلاَّ يُغْتَرَّ بِهَا. وَقَدْ اعْتَرَضَ قَوْمٌ فِي الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدْنَا بِأَنْ قَالُوا : قَدْ رَوَاهُ مَطَرُ الْوَرَّاقُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ عُقْبَةَ , وَعِكْرِمَةُ لَمْ يَلْقَ عُقْبَةَ ; وَأَوْقَفَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رُوِيَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلاَفُهُ.
قال علي : وهذا مِمَّا يَمْقُتُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ; لإِنَّ الْمُفْتَرَضَ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِ : إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُنْقَطِعَ كَالْمُسْنَدِ ثُمَّ يَعِيبُ هُنَا مُسْنَدًا صَحِيحًا بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ مُنْقَطِعًا أَوْ مَوْقُوفًا إنْ خَالَفَ تَقْلِيدَهُ , وَهَذَا فِعْلُ مَنْ لاَ وَرَعَ لَهُ ، وَلاَ صِدْقَ ، وَلاَ يَعْتَرِضُ عَلَى الْمُسْنَدِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ بِمِثْلِ هَذَا إلاَّ جَاهِلٌ ; لاَِنَّهُ اعْتِرَاضٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَدَعْوَى فَاسِدَةٌ ; لإِنَّ الْمُسْنَدَ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ , وَالْمُرْسَلُ مُطَّرَحٌ , وَأَيُّ نَقِيصَةٍ عَلَى الْحَقِّ مِنْ رِوَايَةِ آخَرَ مِمَّا لاَ حُجَّةَ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ قَدْ رُوِيَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلاَفُ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ , فَإِنَّ الرِّوَايَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتَلَفَتْ : فَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : امْشِ مَا اسْتَطَعْت وَارْكَبْ وَاذْبَحْ , أَوْ تَصَدَّقْ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا رُوِيَ إلاَّ ذِكْرُ الصَّدَقَةِ فَقَطْ.
وَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيق حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حُمَيْدٍ ، عَنْ بَكْرٍ ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَ امْرَأَةً نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً بِأَنْ تَشْتَرِيَ رَقَبَةً وَلْتَمْشِ فَإِذَا عَجَزَتْ فَلْتَرْكَبْ وَلْتَمْشِ الرَّقَبَةُ فَإِذَا أَعْيَتْ الرَّقَبَةُ فَلْتَرْكَبْ وَلْتَمْشِ النَّاذِرَةُ فَإِذَا قَضَتْ حَجَّهَا فَلْتُعْتِقْهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ ، عَنْ أُمِّ مَحَبَّةَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَشَتْ حَتَّى أَعْيَتْ فَرَكِبَتْ , ثُمَّ أَتَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ : أَتَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَحُجِّي قَابِلاً وَتَرْكَبِي حَتَّى تَنْتَهِي إلَى الْمَكَانِ الَّذِي رَكِبْت فِيهِ فَتَمْشِي مَا رَكِبْتِ قَالَتْ : لاَ , قَالَ : أَلَكِ ابْنَةٌ تَمْشِي عَنْك قَالَتْ : لِي ابْنَتَانِ هُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ; قَالَ : فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ.
قال أبو محمد : هَذِهِ أُمُّ مَحَبَّةَ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَى رِوَايَتِهَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إلَى أَجَلٍ بِثَمَانِمِائَةٍ وَابْتِيَاعِهَا إيَّاهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ , فَمَرَّةً يُقَلِّدُونَ رِوَايَتَهَا حَيْثُ اشْتَهَوْا , وَمَرَّةً يَطْرَحُونَهَا ; وَالْحُجَّةُ إنَّمَا هِيَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ فِي رَأْيِهِ وَقَدْ يَهِمُ وَيَنْسَى ,
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا أَخَذُوا بِهِ مِمَّا رَوَاهُ الصَّاحِبُ وَخَالَفَهُ كَرِوَايَةِ عَائِشَةَ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ , ثُمَّ كَانَتْ لاَ تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَلِيٍّ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلْيَرْكَبْ وَلِيُهْدِ هَدْيًا.
وَرُوِّينَا عَنْهُ أَيْضًا يُهْدِي بَدَنَةً. وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ , وَابْنِ عُمَرَ : يَمْشِي فَإِذَا أَعْيَا يَرْكَبُ وَيَعُودُ مِنْ قَابِلٍ فَيَرْكَبُ مَا مَشَى وَيَمْشِي مَا رَكِبَ.
وقال أبو حنيفة : يَمْشِي فَإِنْ رَكِبَ فَلْيُهْدِ شَاةً فَمَا فَوْقَهَا.
وقال مالك فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ : يَمْشِي , فَإِنْ عَجَزَ رَكِبَ وَأَهْدَى شَاةً فَمَا فَوْقَهَا وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمُ أَنَّهُ يَمْشِي فَإِذَا أَعْيَا رَكِبَ وَيَعْرِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي رَكِبَ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مِنْ قَابِلٍ رَجَعَ فَمَشَى مَا رَكِبَ وَرَكِبَ مَا مَشَى فَإِنْ كَانَ رُكُوبُهُ يَوْمًا فَأَقَلَّ لَمْ يَرْجِعْ لِذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْهَدْيُ , فَإِنْ رَكِبَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى إلَى عَرَفَةَ إلَى مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى إلَى مَكَّةَ رَجَعَ مِنْ قَابِلٍ فَمَشَى كُلَّ ذَلِكَ بِخِلاَفِ الرُّكُوبِ يَوْمًا فِي الطَّرِيقِ وَعَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ هَدْيٌ فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مَشَى وَلَوْ نِصْفَ مِيلٍ ; ثُمَّ رَكِبَ وَيُهْدِي ، وَلاَ يَرْجِعُ ثَانِيَةً.
وقال الشافعي : يَمْشِي فَإِنْ أَعْيَا رَكِبَ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ غَيْرُ وَاجِبٍ , وَلَكِنْ احْتِيَاطًا. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ كَقَوْلِنَا : إنْ عَجَزَ رَكِبَ ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمٌ لاَ يُعْرَفُ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَهُ , وَخِلاَفٌ لِكُلِّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ ، عَنِ الصَّحَابَةِ , وَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حَبِيبٍ ، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ : يَمْشِي مِنْ حَيْثُ نَوَى فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلْيَرْكَبْ فَإِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ مَشَى إلَى الْبَيْتِ
903 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا , أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَكَمَا ذَكَرْنَا ، وَلاَ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إلاَّ مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ مَنَاسِكَ عَمَلِهِ ; لإِنَّ هَذَا هُوَ الْحَجُّ , فَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ فَكَمَا قَالَ عَطَاءٌ : مِنْ حَيْثُ نَوَى , فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَلْيَمْشِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَشْيٍ وَلْيَرْكَبْ غَيْرَ ذَلِكَ ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ ; لاَِنَّهُ قَدْ أَوْفَى بِمَا نَذَرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
904 - مَسْأَلَةٌ : وَدُخُولُ مَكَّةَ بِلاَ إحْرَامٍ جَائِزٌ ; لإِنَّ النَّبِيَّ عليه السلام إنَّمَا جَعَلَ الْمَوَاقِيتَ لِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ يُرِيدُ حَجًّا , أَوْ عُمْرَةً , وَلَمْ يَجْعَلْهَا لِمَنْ لَمْ يُرِدْ حَجًّا ، وَلاَ عُمْرَةً , فَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ , وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلاَّ بِإِحْرَامٍ فَهُوَ إلْزَامُ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ إلْزَامُهُ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ مُحْرِمًا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ مِنْ بَعْضِ الطَّرِيقِ فَدَخَلَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ : لاَ بَأْسَ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ.
وقال أبو حنيفة : أَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمِيقَاتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ بِإِحْرَامٍ بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ ,
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِيقَاتِ فَلَهُ دُخُولُ مَكَّةَ ، وَلاَ إحْرَامَ.
وقال مالك : لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ مَكَّةَ إلاَّ بِإِحْرَامٍ إلاَّ مَنْ اخْتَلَفَ مِنْ الطَّائِفِ وَعُسْفَانَ , بِالْحَطَبِ , وَالْفَاكِهَةِ : فَلَهُ دُخُولُهَا بِلاَ إحْرَامٍ , وَإِلاَّ الْعَبِيدَ فَلَهُمْ دُخُولُهَا بِلاَ إحْرَامٍ , وَإِلاَّ مَنْ خَرَجَ مِنْهَا , ثُمَّ رَجَعَ مِنْ قُرْبٍ فَلَهُ دُخُولُهَا بِلاَ إحْرَامٍ.
وقال الشافعي : لاَ يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلاَّ بِإِحْرَامٍ.
فأما قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; لاَِنَّهُ تَقْسِيمٌ لاَ يُعْقَلُ ، وَلاَ لَهُ وَجْهٌ , وَفِيهِ إيجَابُ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ لَمْ يُوجِبْهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام ; وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الدِّينِ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ إلاَّ مَنْ نَذَرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِهِ بِالنَّصِّ , وَقَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا : كَذَلِكَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ وَمَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ سَلَفًا أَصْلاً. وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ r فِي مَكَّةَ إنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلُّ لاَِحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ. فَلَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَحَلُّوا أَنْ يُوهِمُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَثَرٌ ، وَلاَ دَلِيلٌ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَالْقِتَالَ حَرَامٌ لَمْ يَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِلإِحْرَامِ مَعْنًى. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام دَخَلَهَا وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ أَوْ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ , وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ وَحَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ هَذَا لَكَانَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِإِيجَابِ الإِحْرَامِ عَلَى مَنْ قَصَدَهَا لِغَيْرِ حَجٍّ , أَوْ عُمْرَةٍ كِفَايَةٌ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
905 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ , أَوْ يَعْتَمِرَ , وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ ، وَلاَ اعْتَمَرَ قَطُّ فَلْيَبْدَأْ بِحَجَّةِ الإِسْلاَمِ وَعُمْرَتِهِ , وَلاَ يُجْزِيهِ إلاَّ ذَلِكَ , وَلاَ يُجْزِيه أَنْ يَحُجَّ نَاوِيًا لِلْفَرْضِ وَلِنَذْرِهِ , وَلاَ لِحَجَّةِ فَرْضٍ وَعُمْرَةِ نَذْرٍ , وَلاَ لِحَجَّةِ نَذْرٍ وَعُمْرَةِ فَرْضٍ ; لإِنَّ عَقْدَ اللَّهِ ثَابِتٌ عَلَيْهِ قَبْلَ نَذْرِهِ , فَإِنْ أَخَّرَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَاصٍ وَالْمَعْصِيَةُ لاَ تَنُوبُ ، عَنِ الطَّاعَةِ ، وَلاَ يُجْزِي عَمَلٌ وَاحِدٌ ، عَنْ عَمَلَيْنِ مُفْتَرَضَيْنِ إلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ النَّصُّ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ فَالْعُمْرَةُ الْمُوجَبَةُ عَلَيْهِ لَسَوْقِ الْهَدْيِ هِيَ غَيْرُ الَّتِي نَذَرَ ; فَلاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَلاَ يُجْزِئُهُ عَمَلٌ ، عَنْ عَمَلَيْنِ إلاَّ حَيْثُ أَجَازَهُ النَّصُّ , وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لاَ تُجْزِئُ صَلاَةٌ ، عَنْ صَلاَتَيْنِ , وَوَافَقُونَا نَعْنِي الْحَاضِرِينَ مِنْ خُصُومِنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ صَوْمُ يَوْمٍ ، عَنْ يَوْمَيْنِ , وَلاَ رَقَبَةٌ ، عَنْ رَقَبَتَيْنِ ، وَلاَ زَكَاةٌ ، عَنْ زَكَاتَيْنِ , فَتَنَاقَضُوا , وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ عَمَّنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ فَقَالَ : هَذِهِ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ وَفِي بِنَذْرِك. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : يَبْدَأُ بِالْفَرِيضَةِ فِيمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ بَعْدُ. وَفِي هَذَا خِلاَفٌ.
رُوِّينَا ، عَنْ مُجَاهِدٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ , قَالاَ جَمِيعًا : تُجْزِئُهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , وَأَبُو يُوسُفَ : مَنْ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ فَنَوَى بِعَمَلِهِ فَرْضَهُ , وَالتَّطَوُّعَ مَعًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ، عَنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ , وَتَبْطُلُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ. فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فَحَجَّ يَنْوِي نَذْرَهُ وَالتَّطَوُّعَ مَعًا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُجْزِئُهُ ، عَنْ نَذْرِهِ فَقَطْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هِيَ تَطَوُّعٌ ، وَلاَ تُجْزِي ، عَنِ النَّذْرِ.
قال أبو محمد : الْعَمَلُ كُلُّهُ بَاطِلٌ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِمَا لَزِمَهُ كَمَا أُمِرَ.
906 - مَسْأَلَةٌ : مَنْ أَهْدَى هَدْيَ تَطَوُّعٍ فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَكَّةَ , أَوْ مِنًى فَلْيَنْحَرْهُ , وَلْيُلْقِ قَلاَئِدَهُ فِي دَمِهِ وَلِيُخْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهُ ; وَإِنْ قَسَّمَهُ بَيْنَ النَّاسِ ضَمِنَ مِثْلَ مَا قَسَّمَ. فَلَوْ قَالَ : شَأْنُكُمْ بِهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا فَلاَ بَأْسَ ; ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ هُوَ ، وَلاَ رُفَقَاؤُهُ مِنْهُ شَيْئًا , فَمَنْ أَكَلَ مِنْهُمْ مِنْهُ أَدَّى إلَى الْمَسَاكِينِ لَحْمًا مِثْلَ مَا أَكَلَ فَقَطْ الْغَنَمُ , وَالْبَقَرُ , وَالإِبِلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. فَإِنْ بَلَغَ مَحَلَّهُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَلاَ بُدَّ , وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ ، وَلاَ بُدَّ وَهَكَذَا
رُوِّينَا ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ سُفْيَانَ , وَمَعْمَرٍ , كُلِيهِمَا ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ يَعْطَبُ : لِيَنْحَرْهُ , ثُمَّ لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ , ثُمَّ لِيَضْرِبْ بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ , أَوْ أَمَرَ بِأَكْلِهِ غُرِّمَ. فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَعَطِبَ فَلْيَنْحَرْهُ , ثُمَّ لِيَغْمِسْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ , ثُمَّ لِيَضْرِبْ بِالنَّعْلِ صَفْحَتَهُ فَإِنْ شَاءَ أَكَلَ , وَإِنْ شَاءَ أَهْدَى ; وَإِنْ شَاءَ تَقَوَّى بِهِ فِي ثَمَنِ أُخْرَى وَعَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي التَّطَوُّعِ مِثْلُهُ.
وَرُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ : أَخْبَرَنِي حَمَّادٌ ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ فِي الْهَدْيِ يَعْطَبُ فِي الطَّرِيقِ : كُلُوهُ ، وَلاَ تَدَعُوهُ لِلْكِلاَبِ , وَالسِّبَاعِ , فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَأَهْدُوا مَكَانَهُ هَدْيًا , وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتُمْ فَلاَ تُهْدُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَهْدُوا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَطِبَتْ لَهُ بَدَنَةُ تَطَوُّعٍ فَنَحَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَأَكَلَهَا وَلَمْ يُهْدِ مَكَانَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا سُفْيَانُ ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَهْدَيْت هَدْيًا وَهُوَ تَطَوُّعٌ فَعَطِبَ فَانْحَرْهُ , ثُمَّ اغْمِسْ النَّعْلَ فِي دَمِهِ , ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ صَفْحَتَهُ , ثُمَّ كُلْهُ إنْ شِئْت , وَاهْدِهِ إنْ شِئْت وَتَقَوَّ بِهِ فِي هَدْيٍ آخَرَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ تَطَوُّعًا فَعَطِبَ : كُلْ وَأَطْعِمْ وَلَيْسَ عَلَيْك الْبَدَلُ
وَهُوَ قَوْلُ نَافِعٍ أَيْضًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إذَا عَطِبَ الْهَدْيُ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَكُلْ مِنْ التَّطَوُّعِ , وَلاَ تَأْكُلْ مِنْ الْوَاجِبِ.
وَرُوِّينَا قَوْلاً آخَرَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : يَدْعُهَا تَمُوتُ فَرَجَعْنَا إلَى السُّنَّةِ فَ
وَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا مُسَدَّدٌ ، حدثنا حَمَّادٌ ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ r مَعَ فُلاَنٍ الأَسْلَمِيِّ ثَمَانِ عَشْرَةَ بَدَنَةً فَقَالَ : أَرَأَيْتَ إنْ أُزْحِفَ عَلَيَّ مِنْهَا شَيْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام : تَنْحَرُهَا ثُمَّ تَصْبِغُ نَعْلَهَا فِي دَمِهَا ثُمَّ اضْرِبْ بِهَا عَلَى صَفْحَتِهَا ، وَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ ، وَلاَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ نَاجِيَةَ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ فَقَالَ : إنْ عَطِبَ مِنْهَا شَيْءٌ فَانْحَرْهُ , ثُمَّ اُصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ , ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ هَدْيٍ.
قال أبو محمد : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَهَذَا خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام ; لاَِنَّهُ إذَا تَوَلَّى تَوْزِيعَهَا : فَلَمْ يُخَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا.
وقال مالك : إنْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْهَدْيَ كُلَّهُ. وَهَذَا خَطَأٌ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً فَيَغْرَمُ عَنْهَا نَاقَةً مِنْ أَصْلِهَا , وَهَذَا عُدْوَانٌ لاَ شَكَّ فِيهِ.
وقال أبو حنيفة , وَالشَّافِعِيُّ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : لاَ يَغْرَمُ إلاَّ مِثْلَ مَا أَكَلَ. وَهَذَا مِمَّا يَتَنَاقَضُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ , وَمَالِكٌ , فَأَخَذَا فِيهِ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَرَكَا رَأْيَهُ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ مَا رُوِيَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. 907 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ ، عَنْ وَاجِبٍ وَهِيَ سِتَّةُ أَهْدَاءٍ فَقَطْ لاَ سَابِعَ لَهَا إمَّا جَزَاءُ صَيْدٍ ,
وَأَمَّا هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ ,
وَأَمَّا هَدْيُ الإِحْصَارِ ,
وَأَمَّا نُسُكُ فِدْيَةِ الأَذَى ,
وَأَمَّا هَدْيُ مَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْكَعْبَةِ فَرَكِبَ ,
وَأَمَّا نَذْرُ هَدْيٍ. وَهَذَا الْهَدْيُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ , وَقِسْمٌ مَنْذُورٌ بِعَيْنِهِ فَإِنْ عَطِبَ الْوَاجِبُ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ فَعَلَ بِهِ صَاحِبُهُ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ أَكْلٍ أَوْ هَدِيَّةٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَيُهْدِي مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَلاَ بُدَّ حَاشَا الْمَنْذُورَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْحَرُهُ وَيَتْرُكُهُ ، وَلاَ يُبَدِّلُهُ ; لاَِنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا هَدْيٌ وَاجِبٌ فِي مَالِهِ وَذِمَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَبَدًا وَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ عَمَّا عَلَيْهِ فَهُوَ مَالٌ مِنْ مَالِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ عَطِبَ أَوْ لَمْ يَعْطَبْ.
وَأَمَّا الْمَنْذُورُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَارِجٌ ، عَنْ مَالِهِ لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَهُ إلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى عَلَيْهِ فَيُهْلِكَهُ فَيَضْمَنَهُ بِالْوَجْهِ الَّذِي نَذَرَهُ لَهُ ; لاَِنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ تَحَكُّمِ الْمَرْءِ فِي هَدْيِهِ مَا لَمْ يُبْلِغْهُ مَحِلَّهُ فَمُبْطِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ , وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ التَّطَوُّعُ يَعْطَبُ قَبْلَ مَحِلِّهِ بِالنَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَا. وَالتَّطَوُّعُ ثَلاَثَةُ أَهْدَاءٍ لاَ رَابِعَ لَهَا : مَنْ سَاقَ هَدْيًا فِي قِرَانٍ أَوْ فِي عُمْرَةٍ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ , أَوْ أَهْدَى وَهُوَ لاَ يُرِيدُ حَجًّا ، وَلاَ عُمْرَةً.
908 - مَسْأَلَةٌ : وَيَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ ، وَلاَ بُدَّ كَمَا
قلنا ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الأَهْدَاءِ الْوَاجِبَةِ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا فَإِنْ أَكَلَ ضَمِنَ مِثْلَ مَا أَكَلَ فَقَطْ , وَلاَ يُعْطَى فِي جِزَارَةِ الْهَدْيِ شَيْءٌ مِنْهُ أَصْلاً وَيَتَصَدَّقُ بِجِلاَلِهِ وَجُلُودِهِ ، وَلاَ بُدَّ. أَمَّا التَّطَوُّعُ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ , وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ جَابِرٌ ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً , ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ , ثُمَّ أَمَرَ فِي كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عليه السلام بِأَخْذِ الْبِضْعَةِ وَطَبْخِهَا وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الأَكْلِ مِنْ بَعْضِ الْهَدْيِ دُونَ بَعْضٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ ، حدثنا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَاقَ ، حدثنا ابْنُ جُرَيْجٍ ، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا فِي الْمَسَاكِينِ ، وَلاَ يُعْطِي فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا.
قال أبو محمد : مَنْ جَعَلَ بَعْضَ أَوَامِرِهِ عليه السلام فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا فَرْضًا وَبَعْضَهَا نَدْبًا فَقَدْ تَحَكَّمَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لاَ يَحِلُّ مِنْ الْقَوْلِ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَقَالَ : كُلْ أَنْتَ وَأَصْحَابَك ثُلُثًا وَتَصَدَّقْ بِثُلُثٍ وَابْعَثْ إلَى آلِ عُتْبَةَ ثُلُثًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا : ثُلُثٌ لاَِهْلِك , وَثُلُثٌ لَك , وَثُلُثٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَعَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَمَرَ أَنْ يُدْفَعَ لَهُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ بِضْعَةٌ وَيُتَصَدَّقَ بِسَائِرِهَا. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ : فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ وَنَذْرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ : لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَلاَ مِنْ النَّذْرِ ، وَلاَ مِمَّا جُعِلَ لِلْمَسَاكِينِ. وَعَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ : يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ كُلِّهِ إلاَّ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ خَمْسَةٌ : النَّذْرُ , وَالْمُتْعَةُ , وَالتَّطَوُّعُ , وَالْوَصِيَّةُ , وَالْمُحْصَرُ , إلاَّ الْكَفَّارَاتِ كُلَّهَا.
وقال أبو حنيفة : لاَ يُؤْكَلُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ الْمُتْعَةُ , وَالْقِرَانُ , وَالتَّطَوُّعُ إذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ
وقال مالك : يُؤْكَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الْهَدْيِ إلاَّ التَّطَوُّعَ إذَا لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ , وَجَزَاءَ الصَّيْدِ , وَفِدْيَةَ الأَذَى , وَنَذْرَ الْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد : هَذِهِ آرَاءٌ مُجَرَّدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُؤْكَلَ مِنْ كُلِّ هَدْيٍ إلاَّ مَا جُعِلَ لِلْمَسَاكِينِ. .
فَقُلْنَا : وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ لِلْمَسَاكِينِ , وَأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالإِحْصَارِ لَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ
وقال بعضهم : قِسْنَا هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى هَدْيِ الْقِرَانِ. .
فَقُلْنَا : أَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيًا يَلْزَمُهُ بَعْدَ قِرَانِهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلاَمُ فِي هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ : كُلُّ هَدْيٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْضًا فَقَدْ أَلْزَمَ صَاحِبَهُ إخْرَاجَهُ مِنْ مَالِهِ وَقَطْعَهُ مِنْهُ ; فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَا قَدْ سَقَطَ مِلْكُهُ عَنْهُ إلاَّ بِنَصٍّ ; لَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ إنْ شَاءُوا ; لأَنَّهُمْ غَيْرُهُ إلاَّ مَا سُمِّيَ لِلْمَسَاكِينِ فَلاَ يَأْكُلُوا مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُونُوا مَسَاكِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
909 - مَسْأَلَةٌ : وَالآُضْحِيَّةُ لِلْحَاجِّ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا هِيَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ. .
وَقَالَ قَوْمٌ : لاَ يُضَحِّي الْحَاجُّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا عَمْرُو النَّاقِدُ ، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r ، وَلاَ نَرَى إلاَّ الْحَجَّ فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ , وَفِيهِ فَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام ، عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ، حدثنا مُسَدَّدٌ ، حدثنا سُفْيَانُ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، رضي الله عنها ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام دَخَلَ عَلَيْهَا وَقَدْ حَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حَاضَتْ , فَقَالَ لَهَا عليه السلام : فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ قَالَتْ : فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَقُلْتُ : مَا هَذَا فَقَالُوا : ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام ، عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْهَدْيُ مَا قُلِّدَ وَأُشْعِرَ وَوُقِفَ بِهِ بِعَرَفَةَ وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هِيَ ضَحَايَا.
وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ الْحَسَنَ أَبَاهُ تَمَتَّعَ فَذَبَحَ شَاتَيْنِ شَاةً لِمُتْعَتِهِ وَشَاةً لاُِضْحِيَّتِهِ. وَقَدْ حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام عَلَى الآُضْحِيَّةَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ الْحَاجُّ مِنْ الْفَضْلِ وَالْقُرْبَةِ إلَى اللَّه تَعَالَى بِغَيْرِ نَصٍّ فِي ذَلِكَ.
910 - مَسْأَلَةٌ : وَإِنْ وَافَقَ الإِمَامُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ : جَهَرَ , وَهِيَ صَلاَةُ جُمُعَةٍ , وَيُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَيْضًا بِمِنًى وَبِمَكَّةَ ; لإِنَّ النَّصَّ لَمْ يَأْتِ بِالنَّهْيِ ، عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ فَلَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَمِنًى مِنْ عَرَفَةَ وَمِنًى.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، حدثنا بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : إذَا وَافَقَ يَوْمُ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ : جَهَرَ الإِمَامُ بِالْقِرَاءَةِ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ : وَافَقَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحَجَّةَ النَّبِيِّ عليه السلام فَقَالَ : مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى فَلْيَفْعَلْ , فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى وَلَمْ يَخْطُبْ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزُ : وَفَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِثْلَ ذَلِكَ.
وبه إلى إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ وَبَرَةَ قَالَ : وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ الظُّهْرَ وَلَمْ يَجْهَرْ بِالْقِرَاءَةِ : فَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ فِيهِ كُلُّ بَلِيَّةٍ. إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ مَتْرُوكٌ مِنْ الْكُلِّ , ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ , وَفِيهِ ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ ابْنِ أَبِي يَحْيَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ ; ثُمَّ الْكَذِبُ فِيهِ ظَاهِرٌ ; لإِنَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ عليه السلام إنَّمَا كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَكَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ :
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ، حدثنا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْفٍ ، حدثنا أَبُو الْعَمِيسِ ، حدثنا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ ".
فإن قيل : إنَّ الآثَارَ كُلَّهَا إنَّمَا فِيهَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
قلنا : نَعَمْ , وَصَلاَةُ الْجُمُعَةِ هِيَ صَلاَةُ الظُّهْرِ نَفْسُهَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَجْهَرْ فِيهَا , وَالْجَهْرُ أَيْضًا لَيْسَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِي أَنَّ ظُهْرَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ لِلْجَمَاعَةِ رَكْعَتَانِ.
911 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ لَهُمَا ; فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ عَصَى وَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَمِرَ وَيَحُجَّ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وقال الشافعي : هُوَ فِي سَعَةٍ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَالَ تَعَالَى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً .
وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ هَذَا مُتَوَجَّهٌ إلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ ; فَلاَ يَخْلُو الْمُسْتَطِيعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ أَوْ لاَ يَكُونُ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ ; فَإِنْ كَانَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي عَامِهِ
وَهُوَ قَوْلُنَا , وَهُوَ إنْ لَمْ يَحُجَّ مُعَطِّلُ فَرْضٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مُفْتَرَضًا عَلَيْهِ الْحَجُّ فَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ.
وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ مَفْسُوحًا لَهُ إلَى آخِرِ عُمْرِهِ فَإِنَّمَا تَلْحَقُهُ الْمَلاَمَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ , وَالْمَلاَمَةُ لاَ تَلْحَقُ أَحَدًا بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَصَحَّ أَنَّهُ مَلُومٌ فِي حَيَاتِهِ. فَإِنْ احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ إلاَّ فِي آخِرِهَا
قلنا : لاَ بَيَانَ عِنْدَكُمْ مَتَى افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ , وَمُمْكِنٌ أَنْ لاَ يَكُونَ اُفْتُرِضَ إلاَّ عَامَ حَجَّ عليه السلام , وَمَا لاَ نَصَّ بَيِّنًا فِيهِ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ , إلاَّ أَنَّنَا مُوقِنُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r لاَ يَدَعُ الأَفْضَلَ إلاَّ لِعُذْرٍ مَانِعٍ , وَلاَ يَخْتَلِفُونَ مَعَنَا فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ.
فَإِنْ ذَكَرُوا تَأْخِيرَ الصَّلاَةِ إلَى آخِرِ وَقْتِهَا.
قلنا : هَذَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ فَأَوْجِدُونَا نَصًّا بَيِّنًا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ
وَهُوَ قَوْلُكُمْ حِينَئِذٍ , وَلاَ سَبِيلَ إلَى هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
912 - مَسْأَلَةٌ : وَإِنَّمَا تُرَاعَى الاِسْتِطَاعَةُ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي حَدَثَتْ لَهُ فِيهِ الاِسْتِطَاعَةُ فَيُدْرِكُ الْحَجَّ فِي وَقْتِهِ وَالْعُمْرَةَ , فَإِنْ اسْتَطَاعَ قَبْلَ ذَلِكَ الْعَامِ كُلِّهِ وَبَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا ، وَلاَ لَزِمَهُ الْحَجُّ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ إلاَّ فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَيَكُونُ قَارِنًا , أَوْ مُتَمَتِّعًا.
913 - مَسْأَلَةٌ : فَمَنْ اسْتَطَاعَ كَمَا ذَكَرْنَا , ثُمَّ بَطَلَتْ اسْتِطَاعَتُهُ أَوْ لَمْ تَبْطُلْ فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ أَدَاؤُهُمَا عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَبْلَ دُيُونِ النَّاسِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ يَحُجُّ عَنْهُ إلاَّ بِأُجْرَةٍ اُسْتُؤْجِرَ عَنْهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام " دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرُ مِنْ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ لاَ يَلْزَمُ غَيْرُ هَذَا , إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ مِنْ بَلَدِهِ , فَتَكُونُ الإِجَارَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِ مَا مِنْ الثُّلُثِ ; لاَِنَّهُ عَمَلٌ لاَ يَلْزَمُ. وَلَوْ خَرَجَ الْمَرْءُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لاَ يَنْوِي حَجًّا , وَلاَ عُمْرَةً فَأَتَى الْمِيقَاتَ فَحِينَئِذٍ لَزِمَهُ الإِحْرَامُ وَالدُّخُولُ فِي عَمَلِ الْحَجِّ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَجَائِزٌ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ ، عَنِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ , وَالرَّجُلُ ، عَنِ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ , لاَِمْرِ النَّبِيِّ عليه السلام الْخَثْعَمِيَّةَ أَنْ تَحُجَّ ، عَنْ أَبِيهَا , وَأَمْرِهِ عليه السلام الرَّجُلَ أَنْ يَحُجَّ ، عَنْ أُمِّهِ ; وَالرَّجُلَ أَنْ يَحُجَّ ، عَنْ أَبِيهِ , وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ يَنْهَى ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَقَالَ تَعَالَى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ وَهَذَا خَيْرٌ , فَجَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهُ كُلُّ أَحَدٍ ، عَنْ كُلِّ أَحَدٍ. وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَغَيْرِهِمَا.
وقال أبو حنيفة : لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الْحَجِّ , وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مَالاً لِيَحُجَّ ، عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ بِهِ فَقَطْ ,
وَاحْتَجَّ فِي مَنْعِ الإِجَارَةِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ قَائِلُهُمْ : لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَلاَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
قال أبو محمد : أَمَّا الإِجَارَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَنَعَمْ ,
وَأَمَّا عَلَى الطَّاعَةِ فَقَوْلُهُمْ فِيهِ بَاطِلٌ , بَلْ الإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ , وَقَدْ أَمَرَ عليه السلام بِالْمُؤَاجَرَةِ وَأَبَاحَهَا وَحَضَّ عَلَى إعْطَاءِ الأَجِيرِ أَجْرَهُ , فَكَانَ هَذَا جَائِزًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إلاَّ مَا مَنَعَ مِنْهُ نَصٌّ فَقَطْ , وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ فِي بُنْيَانِ الْمَسَاجِدِ , وَعَلَى جَوَازِ الإِجَارَةِ لِلإِبِلِ لِلْحَجِّ عَلَيْهَا , وَعَلَى جَلاَءِ سِلاَحِ الْمُجَاهِدِينَ , وَكُلُّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى , فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ. وَتُعْقَدُ الإِجَارَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِأَنْ تُعْطَى دَرَاهِمُ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ , أَوْ فِي هَدْيٍ يَسُوقُهُ قَبْلَ الإِحْرَامِ لِيَكُونَ قَارِنًا , ثُمَّ يُوصَفُ لَهُ عَمَلُ الْحَجِّ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ كُلُّهُ مِنْ تَحْدِيدِ الْمِيقَاتِ وَعَدَدِ التَّلْبِيَةِ , وَوَقْتِ الْمِيقَاتِ بِعَرَفَةَ , وَصِفَةِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ وَالتَّعْجِيلِ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ التَّأْخِيرِ , فَإِنْ حَجَّ الْعَامَ فَحَسَنٌ , فَإِنْ لَمْ يَحُجَّ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الإِجَارَةِ شَيْءٌ وَبَطَلَ الْعَقْدُ , وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ فَحَسَنٌ , وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ الْحَجِّ لَهُ وَيُجْزِي مَتَى حَجَّ عَنْهُ كَسَائِرِ الأَعْمَالِ الْمَوْصُوفَةِ مِنْ الْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا. وَكُلُّ مَا أَصَابَ الأَجِيرَ مِنْ فِدْيَةِ الأَذَى فَهُوَ عَلَيْهِ لاَ عَلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَإِنْ تَعَمَّدَ إبْطَالَ الْحَجِّ , أَوْ عُمْرَتِهِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ مِنْ الآُجْرَةِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ. فَلَوْ عَمِلَ بَعْضَ عَمَلِ الْحَجِّ , أَوْ الْعُمْرَةِ , ثُمَّ مَرِضَ أَوْ مَاتَ , أَوْ صُدَّ كَانَ لَهُ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلَ , وَلاَ يَكُونُ لَهُ الْبَاقِي ; لاَِنَّهُ قَدْ عَمِلَ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمَا أُمِرَ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ تَرْكَ الْبَاقِي , وَيَكُونُ هَدْيُ الإِحْصَارِ فِي مَالِ الْمُحْصَرِ ; لاَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُعْمَلُ ، عَنِ الْمَيِّتِ فَيَسْتَأْجِرُ عَنْهُ مَنْ يَرْمِي الْجِمَارَ , أَوْ يَطُوفُ عَنْهُ , وَيَسْعَى مِمَّنْ قَدْ رَمَى ، عَنْ نَفْسِهِ , وَطَافَ ، عَنْ نَفْسِهِ , وَمِمَّنْ يُحْرِمُ عَنْهُ وَيَقِفُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ , وَيُوَفِّي عَنْهُ بَاقِيَ عَمَلِ الْحَجِّ إنْ كَانَ لَمْ يَعْمَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَلاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ مَالٍ لِيَحُجَّ بِهِ ، عَنِ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ ; لإِنَّ الْمَالَ قَدْ يَضِيعُ فَلاَ يَلْزَمُ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ضَمَانُ مَالٍ ، وَلاَ عَمَلُ حَجٍّ , فَهُوَ تَضْيِيعٌ لِمَالِ الْمَيِّتِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ. فَلَوْ أَعْطَاهُ حَيٌّ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْهُ كَانَ عَقْدًا غَيْرَ لاَزِمٍ حَتَّى يُتِمَّ الْحَجَّ , فَإِذَا تَمَّ حِينَئِذٍ اسْتَحَقَّ مَا أُعْطِيَ وَأَجْزَأَ ، عَنِ الْمُعْطِي وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلاَ يُجْزِئُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ ، وَلاَ اعْتَمَرَ إلاَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ حِينَ اُسْتُؤْجِرَ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ ; لاَِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِلْحَجِّ ، عَنْ نَفْسِهِ فَلاَ يَلْزَمُهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لِلْحَجِّ ، عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ الآُجْرَةِ فَاسْتِئْجَارُهُ لِمَا يَسْتَطِيعُ عَلَيْهِ جَائِزٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
914 - مَسْأَلَةٌ : وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ وَالْمَعْلُومَاتُ وَاحِدَةٌ , وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ , وَثَلاَثَةٌ أَيَّامٍ بَعْدَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَالتَّعْجِيلُ الْمَذْكُورُ وَالتَّأْخِيرُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ بِلاَ خَوْفٍ مِنْ أَحَدٍ فِي أَيَّامِ رَمْيِ الْجِمَارِ. وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ بِلاَ خِلاَفٍ هُوَ يَوْمُ النَّحْرُ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ. وَقَالَ تَعَالَى لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَهَذِهِ بِلاَ شَكٍّ أَيَّامُ النَّحْرِ الَّتِي تُنْحَرُ فِيهَا بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ , وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، حدثنا ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ : يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ : أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنِ الْحَكَمِ ، عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
وَقَوْله تَعَالَى فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ قَالَ : يَوْمُ النَّحْرِ , وَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَهَذَا قَوْلُنَا. وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ هَذَا , وَقَبْلُ وَبَعْدُ , فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ إلاَّ بِنَصٍّ ,
وَأَمَّا بِالدَّعْوَى وَقَوْلِ قَائِلٍ قَدْ خُولِفَ فَلاَ. صَحَّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ , وَمُجَاهِدٍ , وَعَطَاءٍ , وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ الأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ , آخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ , وَأَنَّ الْمَعْدُودَاتِ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، عَنْ هُشَيْمٍ ، حدثنا أَبُو بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , وَعَنْ أَبِي عَوَانَةَ ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ , عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ , وَعَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ , وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَطَاءٍ , وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ حُمَيْدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ زِرٍّ , وَنَافِعٍ , قَالَ زِرٌّ : عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ , وَقَالَ نَافِعٌ : عَنِ ابْنِ عُمَرَ , ثُمَّ اتَّفَقَ عَلِيٌّ , وَابْنُ عُمَرَ , قَالاَ جَمِيعًا : الأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ , اذْبَحْ فِي أَيُّهَا شِئْت , وَأَفْضَلُهَا
أَوَّلُهَا
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى ، حدثنا حَمَّادٌ بْن عِيسَى الْجُهَنِيُّ ، حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ : أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، حدثنا ابْنُ عَجْلاَنَ ، حدثنا نَافِعٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ : يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ , وَالْمَعْدُودَاتُ : ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ النَّحْرِ , فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ.
قال أبو محمد : مَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً إلاَّ تَعَلَّقَهُ بِابْنِ عُمَرَ , وَقَدْ
رُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلاَفَ هَذَا , وَخَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَعَلِيٌّ , فَلَيْسَ التَّعَلُّقُ بِبَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.
وَاحْتَجَّ الآخَرُونَ بِأَنْ قَالُوا : قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ اسْمَيْهِمَا
قلنا : نَعَمْ وَجَمَعَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فِي أَنَّهُ أَمَرَ بِذَكَرِهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَطْ وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ يَوْمٌ دُونَ يَوْمٍ ,
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِالنَّحْرِ لِلَّهِ تَعَالَى يَوْمٌ دُونَ يَوْمٍ ; لاَِنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِرٍّ إلاَّ بِنَصٍّ , وَلاَ نَصَّ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
915 - مَسْأَلَةٌ : وَنَسْتَحِبُّ الْحَجَّ بِالصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا جِدًّا أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ حَجٌّ وَأَجْرٌ , وَهُوَ تَطَوُّعٌ , وَلِلَّذِي يَحُجُّ بِهِ أَجْرٌ , وَيَجْتَنِبُ مَا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ , وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ وَاقَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ يَحِلُّ لَهُ , وَيُطَافُ بِهِ , وَيُرْمَى عَنْهُ الْجِمَارُ إنْ لَمْ يُطِقْ ذَلِكَ. وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ ذَلِكَ ، عَنْ نَفْسِهِ.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُدَرَّبُوا وَيُعَلَّمُوا الشَّرَائِعَ مِنْ الصَّلاَةِ , وَالصَّوْمِ إذَا أَطَاقُوا ذَلِكَ وَيُجَنَّبُوا الْحَرَامَ كُلَّهُ , وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَفَضَّلُ بِأَنْ يَأْجُرَهُمْ , وَلاَ يَكْتُبُ عَلَيْهِمْ إثْمًا حَتَّى يَبْلُغُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا سُفْيَانُ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ r صَبِيًّا فَقَالَتْ : أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ : نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ.
قال أبو محمد : وَالْحَجُّ عَمَلٌ حَسَنٌ ,
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً.
فإن قيل : لاَ نِيَّةَ لِلصَّبِيِّ
قلنا : نَعَمْ , وَلاَ تَلْزَمُهُ إنَّمَا تَلْزَمُ النِّيَّةُ الْمُخَاطَبَ الْمَأْمُورَ الْمُكَلَّفَ , وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مُخَاطَبًا ، وَلاَ مُكَلَّفًا ، وَلاَ مَأْمُورًا وَإِنَّمَا أَجْرُهُ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدٌ عَلَيْهِ كَمَا يَتَفَضَّلُ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلاَ نِيَّةَ لَهُ ، وَلاَ عَمَلَ بِأَنْ يَأْجُرَهُ بِدُعَاءِ ابْنِهِ لَهُ بَعْدَهُ وَبِمَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ عَنْهُ مِنْ حَجٍّ , أَوْ صِيَامٍ , أَوْ صَدَقَةٍ , وَلاَ فَرْقَ , وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. وَإِذَا الصَّبِيُّ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ فَلاَ جَزَاءَ عَلَيْهِ فِي صَيْدٍ إنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي إحْرَامِهِ , وَلاَ فِي حَلْقِ رَأْسِهِ لاَِذًى بِهِ , وَلاَ عَنْ تَمَتُّعِهِ , وَلاَ لاِِحْصَارِهِ ; لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَلَوْ لَزِمَهُ هَدْيٌ لَلَزِمَهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْهُ الصِّيَامَ وَهُوَ فِي الْمُتْعَةِ , وَحَلْقِ الرَّأْسِ , وَجَزَاءِ الصَّيْدِ , وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا ، وَلاَ يَفْسُدُ حَجُّهُ بِشَيْءِ مِمَّا ذَكَرْنَا , إنَّمَا هُوَ مَا عَمِلَ , أَوْ عُمِلَ بِهِ أُجِرَ , وَمَا لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الصِّبْيَانُ يَحْضُرُونَ الصَّلاَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام , صَحَّتْ بِذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ : كَصَلاَتِهِ بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي وَقَّاصٍ , وَحُضُورِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَهُ الصَّلاَةَ , وَسَمَاعِهِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَيُجْزِي الطَّائِفَ بِهِ طَوَافُهُ ، عَنْ نَفْسِهِ ; لاَِنَّهُ طَائِفٌ وَحَامِلٌ , فَهُمَا عَمَلاَنِ مُتَغَايِرَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ , كَمَا هُوَ طَائِفٌ وَرَاكِبٌ , وَلاَ فَرْقَ.
916 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فِي حَالِ إحْرَامِهِ لَزِمَهُ أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامًا وَيَشْرَعَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ , فَإِنْ فَاتَتْهُ عَرَفَةُ , أَوْ مُزْدَلِفَةُ , فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ ، وَلاَ شَيْءَ. أَمَّا تَجْدِيدُهُ الإِحْرَامَ فَلاَِنَّهُ قَدْ صَارَ مَأْمُورًا بِالْحَجِّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ أَنْ يَبْتَدِئَهُ ; لإِنَّ إحْرَامَهُ الأَوَّلَ كَانَ تَطَوُّعَا وَالْفَرْضُ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ.
917 - مَسْأَلَةٌ : مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَرَ , ثُمَّ ارْتَدَّ , ثُمَّ هَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ فَأَسْلَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْحَجَّ ، وَلاَ الْعُمْرَةَ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَحَدُ قَوْلَيْ اللَّيْثِ.
وقال أبو حنيفة , وَمَالِكٌ , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : يُعِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ , وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَهَا , وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فِيهَا : لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك الَّذِي عَمِلْت قَبْلَ أَنْ تُشْرِكَ , وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَجُوزُ , وَإِنَّمَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْبَطُ عَمَلُهُ بَعْدَ الشِّرْكِ إذَا مَاتَ أَيْضًا عَلَى شِرْكِهِ لاَ إذَا أَسْلَمَ وَهَذَا حَقٌّ بِلاَ شَكٍّ. وَلَوْ حَجَّ مُشْرِكٌ أَوْ اعْتَمَرَ , أَوْ صَلَّى , أَوْ صَامَ , أَوْ زَكَّى , لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، عَنِ الْوَاجِبِ ,
وَأَيْضًا فَإِنَّ قوله تعالى فِيهَا : وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَيَانُ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَجَعَ إلَى الإِسْلاَمِ لَمْ يَحْبَطْ مَا عَمِلَ قَبْلُ فِي إسْلاَمِهِ أَصْلاً بَلْ هُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ وَمُجَازًى عَلَيْهِ بِالْجَنَّةِ ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الآُمَّةِ لاَ هُمْ ، وَلاَ نَحْنُ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا رَاجَعَ الإِسْلاَمَ لَيْسَ مِنْ الْخَاسِرِينَ , بَلْ مِنْ الْمُرْبِحِينَ الْمُفْلِحِينَ الْفَائِزِينَ.
فَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يَحْبَطُ عَمَلُهُ هُوَ الْمَيِّتُ عَلَى كُفْرِهِ مُرْتَدًّا أَوْ غَيْرَ مُرْتَدٍّ , وَهَذَا هُوَ مِنْ الْخَاسِرِينَ بِلاَ شَكٍّ , لاَ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كُفْرِهِ أَوْ رَاجَعَ الإِسْلاَمَ بَعْدَ رِدَّتِهِ , وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ ، عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَصَحَّ نَصُّ قَوْلِنَا : مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحْبَطُ عَمَلُهُ إنْ ارْتَدَّ إلاَّ بِأَنْ يَمُوتَ وَهُوَ كَافِرٌ. وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وَقَالَ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَهَذَا عُمُومٌ لاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ.
فَصَحَّ أَنَّ حَجَّهُ وَعُمْرَتَهُ إذَا رَاجَعَ الإِسْلاَمَ سَيَرَاهُمَا ، وَلاَ يَضِيعَانِ لَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طُرُقٍ كَالشَّمْسِ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ , وَيُونُسَ , وَمَعْمَرٍ كُلُّهُمْ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَرُوِّينَا أَيْضًا ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ الْمَعْنَى , ثُمَّ اتَّفَقَ الزُّهْرِيُّ , وَهِشَامٌ كِلاَهُمَا ، عَنْ عُرْوَةَ وَاللَّفْظُ لِلزُّهْرِيِّ , قَالَ : حدثنا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ , أَوْ عَتَاقَةٍ , أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ , أَفِيهَا أَجْرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ,
قال أبو محمد :
فَصَحَّ أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ , وَالْكَافِرُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ قَطُّ , إذَا أَسْلَمَا فَقَدْ أَسْلَمَا عَلَى مَا أَسَلَفَا مِنْ الْخَيْرِ , وَقَدْ كَانَ الْمُرْتَدُّ إذَا حَجَّ وَهُوَ مُسْلِمٌ قَدْ أَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ , وَمَا كُلِّفَ كَمَا أُمِرَ بِهِ فَقَدْ أَسْلَمَ الآنَ عَلَيْهِ , فَهُوَ لَهُ كَمَا كَانَ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ يَحُجُّ كَالصَّابِئِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ فِي دِينِهِمْ , فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ ; لاَِنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ; لإِنَّ مِنْ فَرْضِ الْحَجِّ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ كُلِّهَا أَنْ لاَ تُؤَدَّى إلاَّ كَمَا أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام فِي الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ , الَّذِي لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى دِينًا غَيْرَهُ ,
وَقَالَ عليه السلام : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرْنَا فَهُوَ رَدٌّ. وَالصَّابِئُ إنَّمَا حَجَّ كَمَا أَمَرَهُ يوراسف , أَوْ هُرْمُسُ فَلاَ يُجْزِئُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَيَلْزَمُ مَنْ أَسْقَطَ حَجَّهُ بِرِدَّتِهِ أَنْ يُسْقِطَ إحْصَانَهُ , وَطَلاَقَهُ الثَّلاَثَ , وَبَيْعَهُ , وَابْتِيَاعَهُ , وَعَطَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ فِي الإِسْلاَمِ , وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا ; فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
918 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ تَحِلُّ لُقَطَةٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ , وَلاَ لُقَطَةُ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ , أَوْ عُمْرَةٍ , مُذْ يُحْرِمُ إلَى أَنْ يُتِمَّ جَمِيعَ عَمَلِ حَجِّهِ. إلاَّ لِمَنْ يَنْشُدُهَا أَبَدًا لاَ يُحَدُّ تَعْرِيفُهَا بِعَامٍ ، وَلاَ بِأَكْثَرَ ، وَلاَ بِأَقَلَّ , فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا قَطْعًا مُتَيَقِّنًا حَلَّتْ حِينَئِذٍ لِوَاجِدِهَا , بِخِلاَفِ سَائِرِ اللُّقَطَاتِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ الْعَامِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ ، حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٌ ، حدثنا الأَوْزَاعِيُّ ، حدثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَبَسَ ، عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ , وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ , وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي , وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ , وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ بَعْدِي , فَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا , وَلاَ تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إلاَّ لِمُنْشِدٍ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
قال أبو محمد : لَيْسَتْ هَذِهِ إلاَّ صِفَةَ الْحَرَمِ لاَ الْحِلِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ ، حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا جَرِيرٌ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : هَذَا بَلَدٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ ذَكَرَ كَلاَمًا وَفِيهِ فَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ , فَأَحَلَّهَا عليه السلام لِلْمُنْشِدِ وَأَوْجَبَ تَعْرِيفَهَا بِغَيْرِ تَحْدِيدٍ.
وَقَالَ عليه السلام : " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَاللُّقَطَةُ هِيَ غَيْرُ مَالِ الْمُلْتَقِطِ فَهِيَ عَلَيْهِ حَرَامٌ. وَالتَّعْرِيفُ إنَّمَا هُوَ لِيُوجَدَ مَنْ يَعْرِفُهَا أَوْ صَاحِبُهَا فَهَذَا الْحُكْمُ لاَزِمٌ , فَإِذَا يَئِسَ بِيَقِينٍ ، عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ , إذْ مِنْ الْبَاطِلِ تَعْرِيفُ مَا يُوقَنُ أَنَّهُ لاَ يُعْرَفُ , وَإِذَا سَقَطَ التَّعْرِيفُ حَلَّتْ حِينَئِذٍ بِالنَّصِّ لِمُنْشِدِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ، حدثنا ابْنُ وَهْبٍ ، حدثنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ ، عَنْ بُكَيْرٍ ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام نَهَى ، عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ
قال أبو محمد : الْحَاجُّ هُوَ مَنْ هُوَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ ,
وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ فَهُوَ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَلَيْسَ حَاجًّا بَعْدُ ,
وَأَمَّا بَعْدَ إتْمَامِهِ عَمَلَ الْحَجِّ فَقَدْ حَجّ وَلَيْسَ حَاجًّا الآنَ , وَإِنَّمَا سُمِّيَ حَاجًّا مَجَازًا , كَمَا أَنَّ الصَّائِمَ , أَوْ الْمُصَلِّيَ , أَوْ الْمُجَاهِدَ , إنَّمَا هُوَ صَائِمٌ , وَمُصَلٍّ , وَمُجَاهِدٍ , مَا دَامَ فِي عَمَلِ ذَلِكَ ,
وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ. وَنَهْيُهُ عليه السلام ، عَنْ لُقَطَةٍ لاَ يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا , إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهَى عليه السلام ، عَنْ أَخْذِهَا , أَوْ نَهَى ، عَنْ تَمَلُّكِهَا ,
فأما أَخْذُهَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَنَهَى عليه السلام ، عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ , وَتَرْكُهَا إضَاعَةٌ لَهَا بِلاَ شَكٍّ , وَحِفْظُهَا تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى. فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عليه السلام ، عَنْ تَمَلُّكِهَا
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عليه السلام لَمْ يَنْهَ ، عَنْ حِفْظِهَا ، وَلاَ عَنْ تَعْرِيفِهَا , وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهَا بِعَيْنِهَا , هَذَا نَصُّ الْحَدِيثِ. فَصَحَّ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى ، عَنْ تَمَلُّكِهَا فَإِذَا يَئِسَ ، عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا بِيَقِينٍ فَكُلُّ مَالٍ لاَ يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ لِلَّهِ تَعَالَى , ثُمَّ فِي مَصَالِحِ عِبَادِهِ , وَالْمُلْتَقِطُ أَحَدُهُمْ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا , وَلاَ يَتَعَدَّى بِهِ إلَى غَيْرِهِ إلاَّ بِبُرْهَانٍ , وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ كَحُكْمِ الْحَاجِّ لِقَوْلِهِ عليه السلام دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
919 - مَسْأَلَةٌ : وَمَكَّةُ أَفْضَلُ بِلاَدِ اللَّهِ تَعَالَى , نَعْنِي الْحَرَمَ وَحْدَهُ وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ عَرَفَاتٍ فَقَطْ. وَبَعْدَهَا مَدِينَةُ النَّبِيِّ عليه السلام نَعْنِي حَرَمَهَا وَحْدَهُ. ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ , نَعْنِي الْمَسْجِدَ وَحْدَهُ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وقال مالك : الْمَدِينَةُ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ ,
وَاحْتَجَّ مُقَلِّدُوهُ بِأَخْبَارٍ ثَابِتَةٍ. مِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا , وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ , وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لاَِهْلِ مَكَّةَ.
قال أبو محمد : هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لاَِنَّهُ لاَ دَلِيلَ فِيهِ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً , وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام حَرَّمَهَا كَمَا حَرَّمَ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَدَعَا لَهَا كَمَا دَعَا إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ فَقَطْ , وَهَذَا حَقٌّ , وَقَدْ دَعَا عليه السلام لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ كَمَا دَعَا لاَِبِي بَكْرٍ , وَعُمَرَ , وَلاَِصْحَابِهِ رضي الله عنهم فَهَلْ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِنَا عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى مُسَاوَاتِنَا فِي الْفَضْلِ هَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ. وَقَدْ حَرَّمَ عليه السلام : الدِّمَاءَ , وَالأَعْرَاضَ , وَالأَمْوَالَ , وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلٍ ; وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ آخَرَ صَحِيحٍ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي تَمْرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا , اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ وَإِنَّهُ دَعَا لِمَكَّةَ , وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ. وَبِخَبَرٍ صَحِيحٍ فِيهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ , وَنَعَمْ , هِيَ وَاَللَّهِ مُبَارَكَةٌ , وَإِنَّمَا دَعَا إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى إذْ يَقُولُ : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ. وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ الثِّمَارَ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِمَّا بِمَكَّةَ. ، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام لَمْ يَدْعُ لِلْمَدِينَةِ بِأَنْ تَهْوِي أَفْئِدَةُ النَّاسِ إلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ هَوِيِّهَا إلَى مَكَّةَ ; لإِنَّ الْحَجَّ إلَى مَكَّةَ لاَ إلَى الْمَدِينَةِ.
فَصَحَّ أَنَّ دُعَاءَهُ عليه السلام لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَا بِهِ إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ إنَّمَا هُوَ فِي الرِّزْقِ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَضْلِ فِي شَيْءٍ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عليه السلام : الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا , وَإِنَّمَا تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ، وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ ; لإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ , وَفِي قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ , وَفِي خَاصٍّ لاَ فِي عَامٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ , وَمَنْ أَجَازَ عَلَى النَّبِيِّ عليه السلام الْكَذِبَ فَهُوَ كَافِرٌ ; وَقَالَ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ.
فَصَحَّ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ أَخْبَثُ الْخَلْقِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ ,
وَكَذَلِكَ قَدْ خَرَجَ : عَلِيٌّ , وَطَلْحَةُ , وَالزُّبَيْرُ , وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ , وَمُعَاذٌ , وَابْنُ مَسْعُودٍ , عَنِ الْمَدِينَةِ , وَهُمْ مِنْ أَطْيَبِ الْخَلْقِ رضي الله عنهم بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ مُسْلِمٍ حَاشَا الْخَوَارِجَ فِي بُغْضِهِمْ. فَصَحَّ يَقِينًا لاَ يَمْتَرِي فِيهِ إلاَّ مُسْتَخِفٌّ بِالنَّبِيِّ عليه السلام أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَعْنِ بِالْمَدِينَةِ تَنْفِي الْخُبْثَ إلاَّ فِي خَاصٍّ مِنْ النَّاسِ , وَفِي خَاصٍّ مِنْ الزَّمَانِ لاَ عَامٍّ. وَقَدْ جَاءَ كَلاَمُنَا هَذَا نَصًّا
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ ، حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزُ يَعْنِي الدَّرَاوَرْدِيَّ ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ فِي حَدِيثٍ أَلاَ إنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ يُخْرِجُ الْخَبَثَ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. وَمِنْ طَرِيق أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ ، حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ ، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : لَيْسَ بَلَدٌ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ , إلاَّ الْمَدِينَةَ , وَمَكَّةَ , عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْ أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ الْمَلاَئِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنْزِلُ بِالسَّبْخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاَثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ مُنَافِقٍ وَكَافِرٍ وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ لاَ بِنَصٍّ , وَلاَ بِدَلِيلٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ عليه السلام : مَا مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ إنَّمَا هُوَ سَيَطَؤُهُ أَمْرُهُ وَبُعُوثُهُ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا , وَسَكَّانُ الْمَدِينَةِ الْيَوْمَ أَخْبَثُ الْخُبْثِ , وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُصِيبَتِنَا فِي ذَلِكَ ; فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ , وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَذَكَرَ مِثْلُ هَذَا حَرْفًا حَرْفًا فِي فَتْحِ الشَّامَ , وَفَتْحِ الْعِرَاقِ. وَقَوْلُهُ عليه السلام : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ : هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ , هَلُمَّ إلَى الرَّخَاءِ , وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ , وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً عَنْهَا إلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ.
قال أبو محمد : إنَّمَا أَخْبَرَ عليه السلام بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ الْيَمَنِ , وَالشَّامِ , وَالْعِرَاقِ , وَبِلاَدِ الرَّخَاءِ , وَهَذَا لاَ شَكَّ فِيهِ , وَلَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ , وَلاَ ذِكْرَ لِمَكَّةَ أَصْلاً.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام أَيْضًا بِأَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الْبِلاَدِ لَهُمْ فَإِنَّمَا هُوَ أَيْضًا فِي خَاصٍّ لاَ عَامٍّ وَهُوَ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا طَلَبَ رَخَاءٍ , أَوْ لِعَرَضِ دُنْيَا ;
وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ عَنْهَا لِجِهَادٍ , أَوْ لِحُكْمٍ بِالْعَدْلِ , أَوْ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ دِينَهُمْ فَلاَ , بَلْ الَّذِي خَرَجُوا لَهُ أَفْضَلُ مِنْ مُقَامِهِمْ بِالْمَدِينَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ خُرُوجُهُ عليه السلام عَنْهَا لِلْجِهَادِ وَأَمْرُهُ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ وَالْوَعِيدُ عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ ,
وَكَذَلِكَ بَعْثَتُهُ عليه السلام أَصْحَابَهُ إلَى الْيَمَنِ , وَالْبَحْرَيْنِ , وَعُمَانَ لِلدُّعَاءِ إلَى الإِسْلاَمِ , وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَنِ , وَهُوَ عليه السلام يَقُولُ : الدِّينُ النَّصِيحَةُ فَبِلاَ شَكٍّ أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُمْ فِي إخْرَاجِهِمْ لِذَلِكَ.
فَصَحَّ قَوْلُنَا : وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ فِي هَذَا فِي دَعْوَاهُمْ فَضْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه السلام : لاَ يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَغْبَةً عَنْهَا فَهَذَا الْحَقُّ وَعَلَى مَنْ يَرْغَبُ ، عَنِ الْمَدِينَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ فَمَا هُوَ بِمُسْلِمٍ ,
وَكَذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ مَنْ رَغِبَ ، عَنْ مَكَّةَ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى وَهَذَا إنَّمَا فِيهِ : أَنَّ مِنْ الْمَدِينَةِ تُفْتَحُ الدُّنْيَا وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ وَقَدْ فُتِحَتْ خُرَاسَانُ , وَسِجِسْتَانُ , وَفَارِسُ , وَكَرْمَانُ , مِنْ الْبَصْرَةِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى فَضْلِ الْبَصْرَةِ عَلَى مَكَّةَ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : إنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ ، عَنْ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بِلاَ شَكٍّ. وَ
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ وَهُوَ الْيَوْمَ بِخِلاَفِ ذَلِكَ فَوَا حُزْنَاهُ وَوَا أَسَفَاهُ وَمَا الإِسْلاَمُ ظَاهِرًا إلاَّ فِي غَيْرِهَا وَنَسْأَلُ اللَّهُ إعَادَتَهَا إلَى أَفْضَلِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ عليه السلام. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ بِزِيَادَةٍ كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، حدثنا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ ، حدثنا عَاصِمُ ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : إنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا
فَفِي هَذَا أَنَّ الإِيمَانَ يَأْرِزُ بَيْنَ مَسْجِدِ مَكَّةَ , وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهَا : حَدِيثُ أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَع رَاحِلَتَهُ مِنْ حُبِّهَا وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ إلاَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُحِبُّهَا. وَنَعَمْ هَذَا حَقٌّ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّهَا أَكْثَرَ مِنْ حُبِّهِ مَكَّةَ , وَلاَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : لاَ يَكِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إلاَّ انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : لاَ يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إلاَّ أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ , أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ , وَمَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللَّهُ , وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ , وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ , لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا ، وَلاَ عَدْلاً. وَقَوْلُهُ عليه السلام مَثَلُ هَذَا فِيمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا
وَهَذَا صَحِيحٌ , وَإِنَّمَا فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ كَادَ أَهْلَهَا ، وَلاَ يَحِلُّ كَيْدُ مُسْلِمٍ , فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ، عَنْ مَكَّةَ : وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فَصَحَّ الْوَعِيدُ عَلَى مَنْ ظَلَمَ بِمَكَّةَ كَالْوَعِيدِ عَلَى مَنْ كَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : لاَ يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لاَْوَائِهَا وَشَدَّتِهَا إلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّمَا فِي هَذَا الْحَضِّ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى شِدَّتِهَا وَأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ شَفِيعًا وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام يَشْفَعُ لِجَمِيعِ أُمَّتِهِ. وَقَدْ قَالَ عليه السلام : " الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا , وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الْجَنَّةَ " وَهَذَا لاَ يَكُونُ إلاَّ بِمَكَّةَ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ بِرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ وَإِنَّمَا دَعَا عليه السلام بِهَذَا كَمَا تَرَى فِي أَحَدِ الأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُحَبِّبَهَا إلَيْهِمْ كَحُبِّهِمْ مَكَّةَ ,
وَأَمَّا أَشَدُّ مِنْ حُبِّهِمْ مَكَّةَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ الأَمْرَيْنِ أُجِيبَ بِهِ دُعَاؤُهُ عليه السلام , وَحُبُّ الْبَلَدِ يَكُونُ لِلْمُوَافَقَةِ وَالآُلْفَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ عَلَى مَكَّةَ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدٍ يَعْنِي سُقُوطَهُ خَيْرٌ مِنْ الأَنْبَاطِ وَمَا فِيهَا. وَقَوْلُهُ عليه السلام : بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي وَأَرَادُوا أَنْ يُثْبِتُوا مِنْ هَذَا أَنَّ مَكَّةَ مِنْ الدُّنْيَا فَمَوْضِعُ قَابِ قَوْسٍ مِنْ تِلْكَ الرَّوْضَةِ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوهُ , وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مِصْرُ , وَالْكُوفَةُ , وِرَاؤُنَا : خَيْرًا مِنْ مَكَّةَ , وَالْمَدِينَةِ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ مُسْلِمٍ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ ، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام : سَيْحَانُ , وَجَيْحَانُ , وَالْفُرَاتُ , وَالنِّيلُ , كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ مُسْلِمٌ : أَنَّ هَذِهِ الْبِلاَدَ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ , خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ , وَالْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد : وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ لَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ , وَأَنَّ هَذِهِ الأَنْهَارَ مُهْبَطَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ , هَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ إنَّ لَكَ أَنْ لاَ تَجُوعَ فِيهَا ، وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا ، وَلاَ تَضْحَى فَهَذِهِ صِفَةُ الْجَنَّةِ بِلاَ شَكٍّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ الأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ ، وَلاَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ , وَرَسُولُ اللَّهِ عليه السلام لاَ يَقُولُ إلاَّ الْحَقَّ.
فَصَحَّ أَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ الْجَنَّةِ إنَّمَا هُوَ لَفْظُهَا , وَأَنَّ الصَّلاَةَ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ , وَأَنَّ تِلْكَ الأَنْهَارَ لِبَرَكَتِهَا أُضِيفَتْ إلَى الْجَنَّةِ , كَمَا تَقُولُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ : هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ ; وَكَمَا قِيلَ فِي الضَّأْنِ : إنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ , وَكَمَا قَالَ عليه السلام : إنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ فَهَذَا فِي أَرْضِ الْكُفْرِ بِلاَ شَكٍّ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ , ثُمَّ لَوْ صَحَّ مَا ادَّعُوهُ وَظَنُّوهُ لَمَا كَانَ الْفَضْلُ إلاَّ لِتِلْكَ الرَّوْضَةِ خَاصَّةً لاَ لِسَائِرِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ.
فَإِنْ قَالُوا : مَا قَرُبَ مِنْهَا أَفْضَلُ مِمَّا بَعُدَ.
قلنا : يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْجُحْفَةَ , وَخَيْبَرَ , وَوَادِيَ الْقُرَى أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ ; لاَِنَّهَا أَقْرَبُ إلَى تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ مَكَّةَ , وَهَذَا لاَ يَقُولُونَهُ , وَلاَ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ , فَبَطَلَ تَظَنُّنُهُمْ , وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ يَتَأَوَّلُونَ الأَخْبَارَ الصِّحَاحَ بِلاَ بُرْهَانٍ مِثْلُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَمِثْلُ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرُ ذَلِكَ , ثُمَّ يَأْتُونَ إلَى الأَخْبَارِ الَّتِي قَدْ صَحَّ الْ
بُرْهَانُ مِنْ الْقُرْآنِ , وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحِسِّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا فَيُرِيدُونَ حَمْلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا , إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ ; فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ , وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيُّ ، حدثنا مُوسَى بْنُ دَاوُد ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَالَ : الْحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ فَهَذَا بِمَكَّةَ فَاَلَّذِي بِمَكَّةَ مِنْ هَذَا كَاَلَّذِي لِلْمَدِينَةِ , إذْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْجَنَّةِ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام : صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
قال أبو محمد : تَأَوَّلُوا هُمْ أَنَّ الصَّلاَةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ بِدُونِ الأَلْفِ , وَقُلْنَا نَحْنُ : بَلْ هَذَا الاِسْتِثْنَاءُ ; لإِنَّ الصَّلاَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ : فَكِلاَ التَّأْوِيلَيْنِ مُحْتَمَلٌ. نَعَمْ , تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّ الصَّلاَةَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ , وَلاَ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى أَحَدِ هَذِهِ التَّأْوِيلاَتِ دُونَ الآخَرِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ , وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانٌ فِي فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلاَئِكَةٌ لاَ يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ ، وَلاَ الدَّجَّالُ وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ فَضْلُهَا عَلَى مَكَّةَ ; لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَكَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا الدَّجَّالُ أَيْضًا ; وَاَللَّهُ تَعَالَى يَصْرِفُهُ عَنْهَا كَمَا يَصْرِفُهُ ، عَنِ الْمَدِينَةِ وَالْمَلاَئِكَةُ تَنْزِلُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ كَمَا أَخْبَرَ عليه السلام : " أَنَّهُ يَتَعَاقَبُ فِينَا مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ". وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عليه السلام هِيَ طَيِّبَةٌ وَنَعَمْ , هِيَ وَاَللَّهِ طَيِّبَةٌ , وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً. فَهَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مَا لَهُمْ خَبَرٌ صَحِيحٌ سِوَى هَذِهِ , وَكُلُّهَا لاَ حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ أَصْلاً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَاحْتَجُّوا عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ : أَنْتَ الْقَائِلُ : لَمَكَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ , وَفِيهَا بَيْتُهُ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ شَيْئًا , أَنْتَ الْقَائِلُ : لَمَكَّةَ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ , وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لاَ أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ شَيْئًا ; ثُمَّ انْصَرَفَ.
قال أبو محمد : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ ; لإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ لَمْ يُنْكِرْ لِعُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ مَا قَرَّرَهُ عَلَيْهِ بَلْ احْتَجَّ لِقَوْلِهِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ يَعْتَرِضْ فِيهِ عُمَرُ.فَصَحَّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَيَّاشٍ وَهُوَ صَاحِبٌ كَانَ يَقُولُ : مَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ، عَنْ عُمَرَ : لاَ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ , وَلاَ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ ; وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْرِيرُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَطْ , وَنَحْنُ نُوجِدُهُمْ ، عَنْ عُمَرَ تَصْرِيحًا بِأَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ. حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ نَصْرٍ ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ ، حدثنا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيّ ، حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُول : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُول : " صَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام " وَهَذَا سَنَدٌ كَالشَّمْسِ فِي الصِّحَّةِ , فَهَذَانِ صَاحِبَانِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ , وَمِثْلُ هَذَا حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : مِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إِيلِيَا فَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ , وَمِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه السلام فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ. فَهَذَا سَعِيدٌ فَقِيهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُصَرِّحُ بِفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
قال أبو محمد : وَاحْتَجُّوا بِأَخْبَارٍ مَوْضُوعَةٍ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَالتَّحْذِيرُ مِنْهَا. مِنْهَا : خَبَرٌ رُوِّينَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ فِي مَيِّتٍ رَآهُ : دُفِنَ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا , قَالُوا : وَالنَّبِيُّ عليه السلام دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ فَمِنْ تُرْبَتِهَا خُلِقَ وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَهِيَ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ. وَهَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ ; لإِنَّ فِي أَحَدِ طَرِيقَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ وَهُوَ سَاقِطٌ بِالْجُمْلَةِ , قَالَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِثِقَةٍ وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَى اطِّرَاحِهِ ثُمَّ هُوَ أَيْضًا ، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ يَحْيَى مُرْسَلٌ ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ أُنَيْسُ بْنُ يَحْيَى وَالطَّرِيقُ الآُخْرَى مِنْ رِوَايَةِ أَبِي خَالِدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ ، عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ ; لاَِنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَكُونُ الْفَضْلُ لِقَبْرِهِ عليه السلام فَقَطْ , وَإِلاَّ فَقَدْ دُفِنَ فِيهَا الْمُنَافِقُونَ , وَقَدْ دُفِنَ الأَنْبِيَاءُ عليهم السلام مِنْ إبْرَاهِيمَ , وَإِسْحَاقَ , وَيَعْقُوبَ , وَمُوسَى , وَهَارُونَ , وَسُلَيْمَانَ , وَدَاوُد عليهم السلام , وَغَيْرِهِمْ بِالشَّامِ , وَلاَ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ. وَمِنْهَا اُفْتُتِحَتْ الْمَدَائِنُ بِالسَّيْفِ وَفُتِحَتْ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ الْمَذْكُورِ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ , وَهَذَا مِنْ وَضْعِهِ بِلاَ شَكٍّ ; لاَِنَّهُ رَوَاهُ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام , وَمِثْلُ هَذَا الشَّارِعِ الْعَجِيبِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْلُكَ إلَيْهِ إلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْمَزْبَلَةِ , وَهَذَا إسْنَادٌ لاَ يَنْفَرِدُ بِمِثْلِهِ إلاَّ ابْنُ زُبَالَةَ دُونَ سَائِرِ مَنْ رَوَى ، عَنْ مَالِكٍ مِنْ الثِّقَاتِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ ; لإِنَّ الْبَحْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مَدَائِنِ الْيَمَنِ كَصَنْعَاءَ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهَا لَمْ تُفْتَحْ بِسَيْفٍ إلاَّ بِالْقُرْآنِ فَقَطْ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ فَضْلَهَا عَلَى مَكَّةَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهَا مَا عَلَى الأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي فِيهَا مِنْهَا وَهَذَا مِنْ رِوَايَة الْكَذَّابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ فِي فَضْلِهَا عَلَى مَكَّةَ ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَرِهَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ سَيِّدُهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى مَكَّةَ لِيُحْشَرُوا غُرَبَاءَ مَطْرُودِينَ ، عَنْ وَطَنِهِمْ فِي اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى إنَّهُ عليه السلام رَثَا لِسَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ تَمَامِ نُسُكِهِ أَنْ يَبْقَى بِمَكَّةَ إلاَّ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَقَطْ ; فَإِذَا خَرَجَتْ مَكَّةَ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، عَنْ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا النَّبِيُّ عليه السلام فَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ الْبِقَاعِ بَعْدَهَا بِلاَ شَكٍّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبَزَّارِ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هَيَّاجٍ ، حدثنا الْفُضَيْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبُو نُعَيْمٍ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى قَالَ : مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكَّةَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ عليه السلام يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ تَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ فِي الأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا قَالَ : بَلَى وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ , فَهَذَا نَصُّ مَا
قلنا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَمِنْهَا : اللَّهُمَّ إنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ بِلاَدِكَ إلَيَّ فَأَسْكِنِي أَحَبَّ الْبِلاَدِ إلَيْكَ وَهَذَا مَوْضُوعٌ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ الْمَذْكُورِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مُرْسَلٌ. وَمِنْهَا : الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ هَكَذَا تَصْرِيحٌ
رُوِّينَا مِنْ طُرُقٍ. أَحَدُهَا : مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ صَاحِبِ هَذِهِ الْفَضَائِحِ كُلِّهَا الْمُنْفَرِدِ بِوَضْعِهَا ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r .
وَالثَّانِي : مِنْ طَرِيق مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ الرَّدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَشِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، عَنِ النَّبِيّ عليه السلام ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ هَذَا مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِيه أَحَدٌ. وَالثَّالِثُ : مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ الصَّائِغِ صَاحِبِ مَالِكٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الرَّدَّادِ الْمَذْكُورِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ عَمْرَةَ قَالَ رَافِعٌ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ هَذَا ضَعِيفٌ بِلاَ خِلاَفٍ , وَابْنُ الرَّدَّادِ مَجْهُولٌ وَمِثْلُ هَذَا الشَّارِعِ الْعَجِيبِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْلَكَ عَلَيْهِ إلاَّ عَلَى هَذِهِ الزَّوَايِغِ الْوَحْشَةِ.
وهذا الخبر رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ , قَالَ مُسْلِمٌ " ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : خَطَبَ مَرْوَانُ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا فَنَادَاهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ أَسْمَعُك ذَكَرْت مَكَّةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا وَلَمْ تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَهْلَهَا وَحُرْمَتَهَا , وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا وَذَلِكَ عِنْدَنَا فِي أَدِيمٍ خُولاَنِيٍّ إنْ شِئْتُمْ أَقْرَأْتُكُمْ فَقَالَ مَرْوَانُ : قَدْ سَمِعْت بَعْضَ ذَلِكَ ".
قال أبو محمد : فَهَكَذَا كَانَ الْحَدِيثُ فَبَدَّلَهُ أَهْلُ الزَّيْغِ عَصَبِيَّةً عَجَّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِهَا الْفَضِيحَةَ فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عليه السلام وَصِفَةِ الْحَمَاقَةِ , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
قال علي : هذا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ قَدْ أَوْضَحْنَاهُ ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ثُمَّ نُورِدُ الآثَارَ الصَّحِيحَةَ وَالْبَرَاهِينَ الْوَاضِحَةَ فِي فَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا , أَوَّلُ ذَلِكَ : حَبْسُ اللَّهِ تَعَالَى الْفِيلَ عَنْهَا وَإِهْلاَكُهُ جَيْشَ رَاكِبِهِ إذْ أَرَادَ غَزْوَ مَكَّةَ. ثُمَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّه عليه السلام فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ إذْ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ : خَلاََتْ فَقَالَ النَّبِيُّ عليه السلام : مَا خَلاََتْ ، وَلاَ هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ , وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا , وَقَالَ تَعَالَى إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ , وَقَالَ تَعَالَى إنَّ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ , وَقَالَ تَعَالَى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ , وَقَالَ تَعَالَى أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ , ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا تَمَامَ الصَّلاَةِ , وَالْحَجِّ , وَالْعُمْرَةِ , فَهِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ إلاَّ بِالْقَصْدِ نَحْوَهَا , وَإِلَيْهَا الْحَجُّ الْمُفْتَرَضُ , وَالْعُمْرَةُ الْمُفْتَرَضَةُ , وَإِنَّمَا فُرِضَتْ الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ مَا لَمْ تُفْتَحْ مَكَّةُ فَلَمَّا فُتِحَتْ بَطَلَتْ الْهِجْرَةُ , فَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ لِمَكَّةَ ثُمَّ لِلْمَدِينَةِ , وَأَمَرَ عليه السلام أَنْ لاَ يُسْفَكَ فِيهَا دَمٌ , وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ , وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ وَنَهَى عليه السلام أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا أَحَدٌ أَوْ يَسْتَدْبِرَهَا بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيِّ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حدثنا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ ، حدثنا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، هُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ هُوَ أَخُوهُ قَالَ : سَمِعْت أَبِي هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَلاَ أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا : أَلاَ شَهْرُنَا هَذَا. قَالَ : أَلاَ أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا : أَلاَ بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ : أَلاَ أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمَ حُرْمَةً قَالُوا : أَلاَ يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ , وَأَمْوَالَكُمْ , وَأَعْرَاضَكُمْ , إلاَّ بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا , فِي بَلَدِكُمْ هَذَا مِنْ شَهْرِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاَثًا , كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ : أَلاَ نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام فِي حَجَّتِهِ : أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً .
فَقُلْنَا : يَوْمُنَا هَذَا قَالَ : فَأَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً .
فَقُلْنَا : بَلَدُنَا هَذَا ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. فَهَذَانِ : جَابِرٌ , وَابْنُ عُمَرَ يَشْهَدَانِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام قَرَّرَ النَّاسَ عَلَى أَيِّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُ مَكَّةُ وَصَدَّقَهُمْ فِي ذَلِكَ , وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ فِي إجَابَتِهِمْ إيَّاهُ عليه السلام بِأَنَّ بَلَدَهُمْ ذَلِكَ , وَهُمْ بِمَكَّةَ , فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ. فَصَحَّ بِالنَّصِّ وَالإِجْمَاعِ أَنَّ مَكَّةَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْمَدِينَةِ , وَإِذَا كَانَتْ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ الْمَدِينَةِ فَهِيَ أَفْضَلُ بِلاَ شَكٍّ ; لإِنَّ أَعْظَمَ الْحُرْمَةِ لاَ يَكُونُ إلاَّ لِلأَفْضَلِ ، وَلاَ بُدَّ , لاَ لِلأَقَلِّ فَضْلاً.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام كَانَ بِالْحَجُونِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَيَّ وَلَوْ لَمْ أُخْرَجْ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ , لَمْ تَحِلَّ لاَِحَدٍ قَبْلِي , وَلاَ تَحِلُّ لاَِحَدٍ بَعْدِي وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدِ الدَّرَاوَرْدِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَقَفَ بِالْحَجُونِ فَقَالَ : إنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ , وَلَوْ تُرِكْتُ فِيكِ مَا خَرَجْتُ مِنْكِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ ، حدثنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ , وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ , وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَلَمَةُ : عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ : سَمِعْت مَعْمَرًا ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ فِي سُوقِ الْجَزُورَةِ بِمَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ الْبِلاَدِ إلَى اللَّهِ , وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ : حدثنا اللَّيْثُ ، وَ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ خَالِدٍ , وَقَالَ إِسْحَاقُ : حدثنا يَعْقُوبُ ، وَ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفِ ، حدثنا أَبِي ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ; ثُمَّ اتَّفَقَ عُقَيْلٌ , وَصَالِحٌ , وَكِلاَهُمَا ، عَنِ الزُّهْرِيِّ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْجَزُورَةِ مِنْ مَكَّةَ يَقُولُ لِمَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ , وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ , وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ. لَمْ يَخْتَلِفْ عُقَيْلٌ , وَصَالِحٌ , فِي شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهِ عليه السلام , إلاَّ أَنَّ عَقِيلاً قَالَ : عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ ابْنِ الْحَمْرَاءِ وَعَبْدُ اللَّهِ هَذَا مَشْهُورٌ مِنْ الصَّحَابَةِ زُهْرِيُّ النَّسَبِ. حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ ، حدثنا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ ، حدثنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْرَوَيْهِ ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى ، حدثنا أَبُو الْيَمَانِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام يَقُولُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْجَزُورَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ : وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ , وَلَوْلاَ أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ رَوَاهُ ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام أَبُو هُرَيْرَةَ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ وَرَوَاهُ عَنْهُمَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ وَرَوَاهُ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الزُّهْرِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ. وَرَوَاهُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , والدراوردي وَرَوَاهُ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَصْحَابُهُ الثِّقَاتُ : مَعْمَرٌ , وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ , وَعُقَيْلٌ , وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْهُ يُونُسُ بْنُ زَيْدٍ , وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ خَالِدٍ. وَرَوَاهُ ، عَنْ هَؤُلاَءِ الْجَمْعِ الْغَفِيرِ , وَلاَ مَقَالَ لاَِحَدٍ بَعْدَ هَذَا. حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جَبْرُونَ ، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ , وَأَبُو يَحْيَى بْنُ أَبِي مُرَّةَ قَالاَ جَمِيعًا : حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ ، حدثنا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام : صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلاَةٍ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ : سَأَلْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ فَقَالَ : ثِقَةٌ ,
وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ : حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ ثِقَةٌ مَا أَصَحَّ حَدِيثَهُ , هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُرَّةَ فِي رِوَايَتِهِ صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ , وَصَلاَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَة صَلاَةٍ فِي مَسْجِدِي. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام. حَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ صَحِيحٌ فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً , وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. فَرُوِيَ الْقَطْعُ بِفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ كَمَا أَوْرَدَنَا ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام : جَابِرٌ , وَأَبُو هُرَيْرَةَ , وَابْنُ عُمَرَ , وَابْنُ الزُّبَيْرِ , وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ. خَمْسَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم , مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَرَوَاهَا ، عَنْ هَؤُلاَءِ : أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ , وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ , مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ ، عَنْ هَؤُلاَءِ : عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَالأَعْمَشُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ , وَالزُّهْرِيُّ , وَحَبِيبُ الْمُعَلَّمُ , مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ ، عَنْ هَؤُلاَءِ : وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَأَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ الضَّرِيرُ , وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ , وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ , وَمَعْمَرٌ , وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَعُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ , وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ , وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ خَالِدٍ , وَيُونُسُ بْنُ زَيْدٍ مِنْهُمْ : ثَلاَثَةٌ مَدَنِيُّونَ. وَرَوَاهُ ، عَنْ هَؤُلاَءِ مَنْ لاَ يُحْصَى كَثْرَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ , وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَرْوِيًّا عَنْهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ أَسْلَمَ الْمُنْقِرِيُّ : قُلْت لِعَطَاءٍ : آتِي مَسْجِدَ النَّبِيِّ r فَأُصَلِّي فِيهِ قَالَ : فَقَالَ لِي عَطَاءٌ : طَوَافٌ وَاحِدٌ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ سَفَرِك إلَى الْمَدِينَةِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَسُفْيَانَ , وَأَحْمَدَ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَغَيْرِهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
بِك اللَّهُمَّ أَسْتَعِينُ
كِتَابُ الْجِهَادِ
920 - مَسْأَلَةٌ : وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَامَ بِهِ مِنْ يَدْفَعُ الْعَدُوَّ وَيَغْزُوهُمْ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ وَيَحْمِي ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ فَرْضُهُ ، عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلَّا فَلاَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خِدَاشٍ نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ نَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : كَانَ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً فَلاَ أَحَدَ مِنْ النَّاسِ إِلاَّ خَفِيفٌ أَوْ ثَقِيلٌ. وَمِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَهْمٍ الأَنْطَاكِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، عَنْ وُهَيْبٍ الْمَكِّيِّ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ سُمَيٍّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ ] نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ "
قال أبو محمد : هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ نَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ نَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى الْمَهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r بَعَثَ بَعْثًا إلَى بَنِي لَحْيَانَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَالَ : لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا.
921 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ أَمَرَهُ الأَمِيرُ بِالْجِهَادِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ لَهُ عُذْرٌ قَاطِعٌ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ] قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا.
922 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَجُوزُ الْجِهَادُ إِلاَّ بِإِذْنِ الأَبَوَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَنْزِلَ الْعَدُوُّ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُمْكِنُهُ إعَانَتُهُمْ أَنْ يَقْصِدَهُمْ مُغِيثًا لَهُمْ أَذِنَ الأَبَوَانِ أَمْ لَمْ يَأْذَنَا إِلاَّ أَنْ يَضِيعَا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَهُ , فَلاَ يَحِلُّ لَهُ تَرْكُ مَنْ يَضِيعُ مِنْهُمَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا آدَم نَا شُعْبَةُ نَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ : سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاسِ الشَّاعِرَ وَكَانَ لاَ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ عليه السلام : أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا مُسَدَّدٌ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيّ r قَالَ : السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ ، وَلاَ طَاعَةَ.
وَرُوِّينَا ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ t ، أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَعَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t ، أَنَّهُ قَالَ : لاَ طَاعَةَ لأََحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
923 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَفِرَّ ، عَنْ مُشْرِكٍ , وَلاَ عَنْ مُشْرِكَيْنِ وَلَوْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ أَصْلاً ; لَكِنْ يَنْوِي فِي رُجُوعِهِ التَّحَيُّزَ إلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إنْ رَجَا الْبُلُوغَ إلَيْهِمْ , أَوْ يَنْوِي الْكَرَّ إلَى الْقِتَالِ , فَإِنْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ تَوْلِيَةَ دُبُرِهِ هَارِبًا فَهُوَ فَاسِقٌ مَا لَمْ يَتُبْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ وَمِنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ. قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْفِرَارَ لَهُ مُبَاحٌ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَصَاعِدًا وَهَذَا خَطَأٌ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ " إنْ فَرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ فَقَدْ فَرَّ , وَإِنَّ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ ".
قال أبو محمد : أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَدْ خَالَفُوهُ فِي مِئِينَ مِنْ الْقَضَايَا , مِنْهَا قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ جَهْرًا فِي صَلاَةِ الْجِنَازَةِ , وَإِخْبَارُهُ أَنَّهُ لاَ صَلاَةَ إِلاَّ بِهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ , وَلاَ حُجَّةَ إِلاَّ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ كَلاَمِ رَسُولِهِ r .
وَأَمَّا الآيَةُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ فِيهَا ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهَا لاَ نَصٌّ ، وَلاَ دَلِيلٌ بِإِبَاحَةِ الْفِرَارِ ، عَنِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ ; وَإِنَّمَا فِيهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّ فِينَا ضَعْفًا , وَهَذَا حَقٌّ إنَّ فِينَا لَضَعْفًا ، وَلاَ قَوِيَّ إِلاَّ وَفِيهِ ضَعْفٌ بِالإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ فَهُوَ الْقَوِيُّ الَّذِي لاَ يَضْعُفُ ، وَلاَ يُغْلَبُ. وَفِيهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَفَّفَ عَنَّا فَلَهُ الْحَمْدُ وَمَا زَالَ رَبُّنَا تَعَالَى رَحِيمًا بِنَا يُخَفِّفُ عَنَّا فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ الَّتِي أَلْزَمْنَا. وَفِيهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنَّا مِائَةٌ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ , وَإِنْ يَكُنْ مِنَّا أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ , وَهَذَا حَقٌّ , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْمِائَةَ لاَ تَغْلِبُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ ، وَلاَ أَقَلَّ أَصْلاً ; بَلْ قَدْ تَغْلِبُ ثَلاَثَمِائَةٍ , نَعَمْ وَأَلْفَيْنِ وَثَلاَثَ آلاَفٍ ، وَلاَ أَنَّ الأَلْفَ لاَ يَغْلِبُونَ إِلاَّ أَلْفَيْنِ فَقَطْ لاَ أَكْثَرَ ، وَلاَ أَقَلَّ ,
وَمَنْ ادَّعَى هَذَا فِي الآيَةِ فَقَدْ أَبْطَلَ وَادَّعَى مَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ أَثَرٌ , وَلاَ إشَارَةٌ , وَلاَ نَصٌّ , وَلاَ دَلِيلٌ , بَلْ قَدْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ : كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ , فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلاً , وَنَسْأَلُهُمْ ، عَنْ فَارِسٍ بَطَلٍ شَاكِي السِّلاَحِ قَوِيٍّ لَقِيَ ثَلاَثَةً مِنْ شُيُوخِ الْيَهُودِ الْحَرْبِيِّينَ هَرْمَى مَرْضَى رِجَالَةً عُزَّلاً أَوْ عَلَى حَمِيرٍ , أَلَهُ أَنْ يَفِرَّ عَنْهُمْ لَئِنْ قَالُوا : نَعَمْ لَيَأْتُنَّ بِطَامَّةٍ يَأْبَاهَا اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَكُلُّ ذِي عَقْلٍ ,
وَإِنْ قَالُوا : لاَ لَيَتْرُكُنَّ قَوْلَهُمْ.
وَكَذَلِكَ نَسْأَلُهُمْ ، عَنْ أَلْفِ فَارِسٍ , نُخْبَةٍ , أَبْطَالٍ , أَمْجَادٍ , مُسَلَّحِينَ , ذَوِي بَصَائِرَ , لَقَوْا ثَلاَثَةَ آلاَفٍ , مِنْ مَحْشُودَةِ بَادِيَةِ النَّصَارَى , رِجَالَةً , مُسَخَّرِينَ أَلْهَمَ أَنْ يَفِرُّوا عَنْهُمْ
وَرُوِّينَا ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ , إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً.
قال أبو محمد : وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلآيَةِ بِلاَ دَلِيلٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ نَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى , قَالاَ جَمِيعًا : نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ نَا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ نَا ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ : كَانَتْ ( الأَنْفَالُ ) مِنْ أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدِ الأُُبُلِّيُّ نَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ , وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ , وَأَكْلُ الرِّبَا , وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ , وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو نَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيّ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : كَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى فَقَرَأَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ , وَإِسْلاَمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى بِلاَ شَكٍّ بَعْدَ نُزُولِ " سُورَةِ الأَنْفَالِ " الَّتِي فِيهَا الآيَةُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ. وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ غَيْرَهُ كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمَرْوَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ , نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَجَبِيُّ نَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ نَا شُعْبَةُ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ : سَمِعْت رَجُلاً سَأَلَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلاً حَمَلَ عَلَى الْكَتِيبَةِ وَهُمْ أَلْفٌ , أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ قَالَ الْبَرَاءُ لاَ , وَلَكِنَّ التَّهْلُكَةَ : أَنْ يُصِيبَ الرَّجُلُ الذَّنْبَ فَيُلْقِي بِيَدِهِ وَيَقُولُ : لاَ تَوْبَةَ لِي. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : إذَا لَقِيتُمْ فَلاَ تَفِرُّوا. وَعَنْ عَلِيٍّ , وَابْنِ عُمَرَ : الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَلَمْ يَخُصُّوا عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ , وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ , وَلاَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ أَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ , عَلَى الْعَسْكَرِ الْجَرَّارِ وَيَثْبُتَ حَتَّى يُقْتَلَ. وَقَدْ ذَكَرُوا حَدِيثًا مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَقُوا الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ , أَوْ أَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : أَتُرَاكَ قَاتِلٌ هَؤُلاَءِ كُلَّهُمْ اجْلِسْ , فَإِذَا نَهَضَ أَصْحَابُكَ فَانْهَضْ وَإِذَا شَدُّوا فَشُدَّ وَهَذَا مُرْسَلٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ ; بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه السلام : أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ سَأَلَهُ مَا يُضْحِكُ اللَّهُ مِنْ عَبْدِهِ قَالَ : غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا فَنَزَعَ الرَّجُلُ دِرْعَهُ وَدَخَلَ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ t.
924 - مَسْأَلَةٌ : وَجَائِزٌ تَحْرِيقُ أَشْجَارِ الْمُشْرِكِينَ , وَأَطْعِمَتِهِمْ , وَزَرْعِهِمْ وَدُورِهِمْ , وَهَدْمُهَا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ وَقَالَ تَعَالَى وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نِيلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ وَقَدْ أَحْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ r نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَهِيَ فِي طَرَفِ دُورِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَصِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمٍ أَوْ غَدِهِ. وَقَدْ
رُوِّينَا ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ t : لاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا ، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا , وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r وَقَدْ يَنْهَى أَبُو بَكْرٍ ، عَنْ ذَلِكَ اخْتِيَارًا ; لأََنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَيْضًا مُبَاحٌ كَمَا فِي الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ , وَلَمْ يَقْطَعْ r أَيْضًا نَخْلَ خَيْبَرَ , فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. 925 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ عَقْرُ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانِهِمْ أَلْبَتَّةَ لاَ إبِلٍ , وَلاَ بَقَرٍ , وَلاَ غَنَمٍ , وَلاَ خَيْلٍ , وَلاَ دَجَاجٍ , وَلاَ حَمَامٍ , وَلاَ أَوَزًّ , وَلاَ بِرَكٍ , وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلاَّ لِلأَكْلِ فَقَطْ , حَاشَا الْخَنَازِيرَ جُمْلَةً فَتُعْقَرُ , وَحَاشَا الْخَيْلَ فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ فَقَطْ , وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ , أَوْ لَمْ يَأْخُذُوهَا أَدْرَكَهَا الْعَدُوُّ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَنْعِهَا , أَوْ لَمْ يُدْرِكُوهَا وَيُخَلَّى كُلُّ ذَلِكَ ، وَلاَ بُدَّ إنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى مَنْعِهِ , وَلاَ عَلَى سَوْقِهِ , وَلاَ يُعْقَرُ شَيْءٌ مِنْ نَحْلِهِمْ , وَلاَ يُغَرَّقُ , وَلاَ تُحَرَّقُ خَلاَيَاهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ وَقَعَتْ دَابَّتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ عَقْرُهَا لَكِنْ يَدَعُهَا كَمَا هِيَ وَهِيَ لَهُ أَبَدًا مَالٌ مِنْ مَالِهِ كَمَا كَانَتْ لاَ يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا حُكْمٌ بِلاَ نَصٍّ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ , وَالْمَالِكِيُّونَ : يُعْقَرُ كُلُّ ذَلِكَ ,
فأما الإِبِلُ , وَالْبَقَرُ , وَالْغَنَمُ , فَتُعْقَرُ , ثُمَّ تُحْرَقُ ,
وَأَمَّا الْخَيْلُ , وَالْبِغَالُ , وَالْحَمِيرُ فَتُعْقَرُ فَقَطْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ : أَمَّا الْبِغَالُ , وَالْحَمِيرُ , فَتُذْبَحُ ,
وَأَمَّا الْخَيْلُ فَلاَ تُذْبَحُ , وَلاَ تُعْقَرُ , لَكِنْ تُعَرْقَبُ , أَوْ تُشَقُّ أَجْوَافُهَا.
قال أبو محمد : فِي هَذَا الْكَلاَمِ مِنْ التَّخْلِيطِ مَا لاَ خَفَاءَ بِهِ عَلَى ذِي فَهْمٍ , أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ , وَتَفْرِيقٌ لاَ يُعْرَفُ ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ , وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ رُبَّمَا أَكَلُوا الإِبِلَ , وَالْبَقَرَ , وَالْغَنَمَ , وَالْخَيْلَ إذَا وَجَدُوهَا مَنْحُورَةً فَكَانَ هَذَا الأَحْتِجَاجُ أَدْخَلَ فِي التَّخْلِيطِ مِنْ الْقَوْلَةِ الْمُحْتَجِّ لَهَا. وَلَيْتَ شِعْرِي مَتَى كَانَتْ النَّصَارَى , أَوْ الْمَجُوسُ , أَوْ عُبَّادُ الأَوْثَانِ يَتَجَنَّبُونَ أَكْلَ حِمَارٍ , أَوْ بَغْلٍ , وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى أَكْلِ الأَنْعَامِ , وَالْخَيْلِ , وَكُلُّ هَؤُلاَءِ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ , وَلاَ يُحَرِّمُونَ حَيَوَانًا أَصْلاً
وَأَمَّا الْيَهُودُ , وَالصَّابِئُونَ : فَلاَ يَأْكُلُونَ شَيْئًا ذَكَّاهُ غَيْرُهُمْ أَصْلاً وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَاحْتَجُّوا فِي إبَاحَتِهِمْ قَتْلَ كُلِّ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ.
قال أبو محمد :.
.
فَقُلْنَا لَهُمْ : فَاقْتُلُوا أَوْلاَدَهُمْ , وَصِغَارَهُمْ , وَنِسَاءَهُمْ , بِهَذَا الأَسْتِدْلاَلِ فَهُوَ بِلاَ شَكٍّ أَغِيظُ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ حَيَوَانِهِمْ فَقَالُوا : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ r نَهَى ، عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ , وَالصِّبْيَانِ.
.
فَقُلْنَا لَهُمْ : وَهُوَ عليه السلام نَهْيٌ ، عَنْ قَتْلِ الْحَيَوَانِ , إِلاَّ لِمَأْكَلِهِ , وَلاَ فَرْقَ ; وَإِنَّمَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَغِيظَهُمْ فِيمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ لاَ بِمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا فِعْلُهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرٍو ، هُوَ ابْنُ دِينَارٍ ، عَنْ صُهَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : مَا مِنْ إنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إِلاَّ سَأَلَهُ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، عَنْهَا. قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَقُّهَا قَالَ يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا ، وَلاَ يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ نَهَى النَّبِيُّ r عَنْ أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنْ الدَّوَابِّ صَبْرًا
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ الْمَكِّيُّ نَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : : لاَ تُمَثِّلُوا بِالْبَهَائِمِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ t قَالَ لأََمِيرِ جَيْشٍ بَعَثَهُ إلَى الشَّامِ : لاَ تَعْقِرَنَّ شَاةً ، وَلاَ بَعِيرًا إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ ، وَلاَ تُحَرِّقَنَّ نَحْلاً ، وَلاَ تُغْرِقَنَّهُ , وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
وَأَمَّا الْخَنَازِيرُ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا إِسْحَاقُ ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ نَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ نَا أَبِي ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ , وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ فَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ قَتْلَ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْعَدْلِ الثَّابِتِ فِي مِلَّتِهِ الَّتِي يُحْيِيهَا عِيسَى أَخُوهُ عليهما السلام. وَذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ خَبَرًا لاَ يَصِحُّ , فِيهِ : أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَرْقَبَ فَرَسَهُ يَوْمَ قُتِلَ وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُرَّةَ لَمْ يُسَمِّهِ , وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ r عَرَفَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ.
وَأَمَّا الْفَرَسُ فِي الْمُدَافَعَةِ فَإِنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ قَتْلَهُ أَوْ أَسْرَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْكَنَهُ.
926 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ قَتْلُ نِسَائِهِمْ ، وَلاَ قَتْلُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُمْ , إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَلاَ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ مَنْجًى مِنْهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَلَهُ قَتْلُهُ حِينَئِذٍ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيِّ نَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ نَا اللَّيْثُ ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ " أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ r مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ] رَسُولُ اللَّهِ r قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ".
927 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ أُصِيبُوا فِي الْبَيَاتِ أَوْ فِي اخْتِلاَطِ الْمَلْحَمَةِ ، عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَا سُفْيَانُ نَا الزُّهْرِيُّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r سُئِلَ ، عَنْ أَهْلِ الدَّارِ يُبَيَّتُونَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَيُصَابُ مِنْ ذَرَارِيِّهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَقَالَ : هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ.
928 - مَسْأَلَةٌ : وَجَائِزٌ قَتْلُ كُلِّ مَنْ عَدَا مِنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُقَاتِلٍ , أَوْ غَيْرِ مُقَاتِلٍ , أَوْ تَاجِرٍ , أَوْ أَجِيرٍ وَهُوَ الْعَسِيفُ أَوْ شَيْخٍ كَبِيرٍ كَانَ ذَا رَأْيٍ , أَوْ لَمْ يَكُنْ , أَوْ فَلَّاحٍ , أَوْ أُسْقُفٍ , أَوْ قِسِّيسٍ , أَوْ رَاهِبٍ , أَوْ أَعْمَى , أَوْ مُقْعَدٍ لاَ تُحَاشِ أَحَدًا. وَجَائِزٌ اسْتِبْقَاؤُهُمْ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فَعَمَّ ، عَزَّ وَجَلَّ ، كُلَّ مُشْرِكٍ بِالْقَتْلِ إِلاَّ أَنْ يُسْلِمَ. .
وَقَالَ قَوْمٌ : لاَ يُقْتَلُ أَحَدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا , وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ نَا الْمُغِيرَةُ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْمُرَقَّعِ ، عَنْ جَدِّهِ رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ لِرَجُلٍ : أَدْرِكْ خَالِدًا وَقُلْ لَهُ : لاَ تَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً , وَلاَ عَسِيفًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ ، عَنِ الْمُرَقَّعِ بْنِ صَيْفِيِّ ، عَنْ عَمِّهِ حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : لاَ تَقْتُلُوا الذُّرِّيَّةَ ، وَلاَ عَسِيفًا.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ نَا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُيَيِّ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْفِرْزِ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ لَهُمْ : انْطَلِقُوا بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ عَدُوَّ اللَّهِ لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا , وَلاَ طِفْلاً , وَلاَ امْرَأَةً
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا حُمَيْدٍ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَوْلًى لِبَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r كَانَ إذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ : لاَ تَقْتُلُوا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : لاَ تَقْتُلُوا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : لاَ تَقْتُلُوا صَغِيرًا ، وَلاَ امْرَأَةً ، وَلاَ شَيْخًا كَبِيرًا. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ شَيْخٍ بِمِنًى ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r نَهَى ، عَنْ قَتْلِ الْعُسَفَاءِ وَالْوُصَفَاءِ.
وَمِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى عَنْبَسَةَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ r أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْتَلَ شَيْخٌ كَبِيرٌ أَوْ يُعْقَرَ شَجَرٌ إِلاَّ شَجَرٌ يَضُرُّ بِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ ، عَنِ الأَحْوَصِ ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ نَهَى النَّبِيُّ r عَنْ قَتْلِ الشَّيْخِ الَّذِي لاَ حَرَاكَ بِهِ. وَذَكَرُوا ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ t ، أَنَّهُ قَالَ لأََمِيرٍ لَهُ : لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً , وَلاَ صَبِيًّا , وَلاَ كَبِيرًا هَرِمًا , إنَّك سَتَمُرُّ عَلَى قَوْمٍ قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ زَعَمُوا لِلَّهِ فَدَعْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ , وَسَتَمُرُّ عَلَى قَوْمٍ قَدْ فَحَصُوا مِنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ وَتَرَكُوا فِيهَا مِنْ شُعُورِهِمْ أَمْثَالَ الْعَصَائِبِ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ. وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : كَانُوا لاَ يَقْتُلُونَ تُجَّارَ الْمُشْرِكِينَ وَقَالُوا : إنَّمَا نَقْتُلُ مَنْ قَاتَلَ وَهَؤُلاَءِ لاَ يُقَاتِلُونَ. هَذَا كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ , وَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ. أَمَّا حَدِيثُ الْمُرَقَّعِ فَالْمُرَقَّعُ مَجْهُولٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَنْ شَيْخٍ مَدَنِيٍّ لَمْ يُسَمِّ , وَقَدْ سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ بْنَ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالْخَبَرَانِ الآخَرَانِ , مُرْسَلاَنِ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ رَاشِدٍ مُرْسَلٌ ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَعَنْ خَالِدِ بْن الْفَرْزِ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَحَدِيثُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ شَيْخٍ بِمِنًى ، عَنْ أَبِيهِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا
وأعجب مِنْهُ أَنْ يُتْرَكَ لَهُ الْقُرْآنُ
وَأَمَّا حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ فَلَيْسَ قَيْسٌ بِالْقَوِيِّ , وَلاَ عُمَرُ مَوْلَى عَنْبَسَةَ مَعْرُوفًا , وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ جَدِّهِ رضي الله عنهم , فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَمِنْ عَجَائِبِهِمْ هَذَا الْخَبَرُ نَفْسُهُ : عَنْ أَبِي بَكْرٍ t فِيهِ جَاءَ نَهْيُ أَبِي بَكْرٍ t ، عَنْ عَقْرِ شَيْءٍ مِنْ الإِبِلِ , أَوْ الشَّاةِ إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ. وَفِيهِ جَاءَ : أَنْ لاَ يُقْطَعَ الشَّجَرُ ، وَلاَ يُغَرَّقُ النَّحْلُ فَخَالَفُوهُ كَمَا اشْتَهَوْا حَيْثُ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ ; لأََنَّ السُّنَّةَ مَعَهُ , وَحَيْثُ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ. ثُمَّ احْتَجُّوا بِهِ حَيْثُ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ
وَأَمَّا قَوْلُ جَابِرٍ لَمْ يَكُونُوا يَقْتُلُونَ تُجَّارَ الْمُشْرِكِينَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لأََنَّهُ لَمْ يَقُلْ : إنَّ تَرْكَهُمْ قَتْلَهُمْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ ، عَنْ جُمْلَةِ أَمْرِهِمْ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ مُبَيِّنًا عَنْهُ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ ; لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ ، عَنْ قَتْلِهِمْ , وَإِنَّمَا فِيهِ اخْتِيَارُهُمْ لِتَرْكِهِمْ فَقَطْ.
وَرُوِّينَا ، عَنِ الْحَسَنِ , وَمُجَاهِدٍ , وَالضَّحَّاكِ النَّهْيَ ، عَنْ قَتْلِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ ، وَلاَ يَصِحُّ ، عَنْ مُجَاهِدٍ , وَالضَّحَّاكِ ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ , وَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ
وَكَذَلِكَ أَيْضًا هَذَا الْخَبَرُ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ لاَ يَصِحُّ ; لأََنَّهُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ , وَعَطَاءٍ , وَثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ , وَكُلُّهُمْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي بَكْرٍ t بِدَهْرٍ. وَمِنْ طَرِيقٍ فِيهَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُوَ هَالِكٌ وَلَوْ شِئْنَا أَنْ نَحْتَجَّ بِخَبَرِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ r وَبِخَبَرِ الْحَجَّاجِ مُسْنَدًا اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ لَكُنَّا أَدْخَلَ مِنْهُمْ فِي الإِيهَامِ ; وَلَكِنْ يُعِيذُنَا اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ ، مِنْ أَنْ نَحْتَجَّ بِمَا لاَ نَرَاهُ صَحِيحًا , وَفِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَنِ كِفَايَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّمَا نُقْتَلُ مَنْ قَاتَلَ , فَبَاطِلٌ ; بَلْ نَقْتُلُ كُلَّ مَنْ يُدْعَى إلَى الإِسْلاَمِ مِنْهُمْ حَتَّى يُؤْمِنَ أَوْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ إنْ كَانَ كِتَابِيًّا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ لاَ كَمَا أَمَرَ أَبُو حَنِيفَةَ إذْ يَقُولُ : إنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ لَمْ تُقْتَلْ , فَإِنْ قَتَلَتْ قُتِلَتْ , وَإِنْ سَبَّ الْمُشْرِكُونَ أَهْلُ الذِّمَّةِ النَّبِيَّ r تُرِكُوا , وَسَبَّهُمْ لَهُ حَتَّى يُشْفُوا صُدُورَهُمْ وَيَخْزَى الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ. تَبًّا لِهَذَا الْقَوْلِ وَقَائِلِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ نَا سُفْيَانُ نَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ الْقُرَظِيّ نَا عَطِيَّةُ الْقُرَظِيّ قَالَ : عُرِضْتُ يَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ , وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ , فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ. فَهَذَا عُمُومٌ مِنْ النَّبِيِّ r لَمْ يَسْتَبْقِ مِنْهُمْ عَسِيفًا , وَلاَ تَاجِرًا , وَلاَ فَلَّاحًا , وَلاَ شَيْخًا كَبِيرًا , وَهَذَا إجْمَاعٌ صَحِيحٌ مِنْهُمْ رضي الله عنهم مُتَيَقَّنٌ ; لأََنَّهُمْ فِي عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ : أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ , وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كِلاَهُمَا ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ : أَنْ لاَ يَجْلِبُوا إلَيْنَا مِنْ الْعُلُوجِ أَحَدًا , اُقْتُلُوهُمْ , وَلاَ تَقْتُلُوا مِنْ جَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُوَاسِي ، وَلاَ تَقْتُلُوا صَبِيًّا , وَلاَ امْرَأَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ إلَى الأَجْنَادِ : لاَ تَقْتُلُوا امْرَأَةً , وَلاَ صَبِيًّا , وَأَنْ يَقْتُلُوا كُلَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوَاسِي. فَهَذَا عُمَرُ t لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْخًا , وَلاَ رَاهِبًا , وَلاَ عَسِيفًا , وَلاَ أَحَدًا إِلاَّ النِّسَاءَ , وَالصِّبْيَانَ فَقَطْ ; ، وَلاَ يَصِحُّ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ وَقَدْ قُتِلَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ وَهُوَ شَيْخٌ هَرِمٌ قَدْ اهْتَزَّ عَقْلُهُ فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ r فَقَالُوا : لأََنَّهُ كَانَ ذَا رَأْيٍ .
.
فَقُلْنَا لَهُمْ : وَمَنْ ذَا الَّذِي قَسَّمَ لَكُمْ ذَا الرَّأْيَ مِنْ غَيْرِهِ , فَلاَ سَمْعًا لَهُ ، وَلاَ طَاعَةً وَمِثْلُ هَذِهِ التَّقَاسِيمِ لاَ تُؤْخَذُ إِلاَّ مِنْ الْقُرْآنِ , أَوْ ، عَنِ النَّبِيِّ r وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
929 - مَسْأَلَةٌ : وَيُغْزَى أَهْلُ الْكُفْرِ مَعَ كُلِّ فَاسِقٍ مِنْ الأُُمَرَاءِ , وَغَيْرِ فَاسِقٍ , وَمَعَ الْمُتَغَلِّبِ وَالْمُحَارِبِ , كَمَا يُغْزَى مَعَ الإِمَامِ , وَيَغْزُوهُمْ الْمَرْءُ وَحْدَهُ إنْ قَدَرَ أَيْضًا , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ,
وَقَدْ ذَكَرْنَا ، عَنِ النَّبِيِّ r فِي أَوَّلِ بَابٍ مِنْ كِتَابِ الْجِهَادِ هَاهُنَا : السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ وَقَالَ تَعَالَى انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً , وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فُسَّاقٌ فَلَمْ يَخُصَّهُمْ مِنْ غَيْرِهِمْ , وَكُلُّ مَنْ دَعَا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ فِي الصَّلاَةِ الْمُؤَدَّاةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى , وَالصَّدَقَةِ الْمَوْضُوعَةِ مَوَاضِعَهَا , وَالْمَأْخُوذَةِ فِي حَقِّهَا , وَالصِّيَامِ كَذَلِكَ , وَالْحَجِّ كَذَلِكَ , وَالْجِهَادِ كَذَلِكَ , وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا ; فَفَرْضٌ إجَابَتُهُ لِلنُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ. وَكُلُّ مَنْ دَعَا مِنْ إمَامٍ حَقٍّ , أَوْ غَيْرِهِ , إلَى مَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ , وَلاَ طَاعَةَ , كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ , وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ
وَقَالَ عليه السلام : لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، هُوَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ r بِلاَلاً فَنَادَى فِي النَّاسِ : إنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ , وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.
930 - مَسْأَلَةٌ : فَمَنْ غَزَا مَعَ فَاسِقٍ فَلْيَقْتُلْ الْكُفَّارَ وَلِيُفْسِدْ زُرُوعَهُمْ وَدُورَهُمْ وَثِمَارَهُمْ , وَلْيَجْلِبْ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ، وَلاَ بُدَّ , فَإِنَّ إخْرَاجَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ إلَى نُورِ الإِسْلاَمِ فَرْضٌ يَعْصِي اللَّهَ مَنْ تَرَكَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ , وَإِثْمُهُمْ عَلَى مَنْ غَلَّهُمْ , وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ فَهِيَ أَقَلُّ مِنْ تَرْكِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَعَوْنِهِمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهِ , وَلاَ إثْمَ بَعْدَ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ نَهَى ، عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَأَمَرَ بِإِسْلاَمِ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ ] مِنْ أَجْلِ فِسْقِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ لاَ يُحَاسَبُ غَيْرُهُ بِفِسْقِهِ
931 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَمْلِكُ أَهْلُ الْكُفْرِ الْحَرْبِيُّونَ مَالَ مُسْلِمٍ , وَلاَ مَالَ ذِمِّيٍّ أَبَدًا إِلاَّ بِالأَبْتِيَاعِ الصَّحِيحِ , أَوْ الْهِبَةِ الصَّحِيحَةِ , أَوْ بِمِيرَاثٍ مِنْ ذِمِّيٍّ كَافِرٍ , أَوْ بِمُعَامَلَةٍ صَحِيحَةٍ فِي دِينِ الإِسْلاَمِ , فَكُلُّ مَا غَنِمُوهُ مِنْ مَالِ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ , أَوْ آبِقٍ إلَيْهِمْ , فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ , فَمَتَى قُدِرَ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا , دَخَلُوا بِهِ أَرْضَ الْحَرْبِ , أَوْ لَمْ يَدْخُلُوا ، وَلاَ يُكَلَّفُ مَالِكُهُ عِوَضًا ، وَلاَ ثَمَنًا , لَكِنْ يُعَوِّضُ الأَمِيرُ مَنْ كَانَ صَارَ فِي سَهْمِهِ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَلاَ يَنْفُذُ فِيهِ عِتْقُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ , وَلاَ صَدَقَتِهِ , وَلاَ هِبَتِهِ , وَلاَ بَيْعِهِ , وَلاَ تَكُونُ لَهُ الأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ , وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّيْءِ الَّذِي يَغْصِبُهُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِ , وَلاَ فَرْقَ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَلِمَنْ سَلَفَ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ سِوَى هَذَا. أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يُرَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهِ لاَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , وَلاَ بَعْدَهَا , لاَ بِثَمَنٍ , وَلاَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ , وَهُوَ لِمَنْ صَارَ فِي سَهْمِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَالِهِمْ. وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقْضِي بِذَلِكَ. وَعَنْ قَتَادَةَ : أَنَّ مُكَاتَبًا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَ بَكْرُ بْنُ قِرْوَاشَ عَنْهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ , فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنْ افْتَكَّهُ سَيِّدُهُ فَهُوَ عَلَى كِتَابَتِهِ , وَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْتَكَّهُ فَهُوَ لِلَّذِي اشْتَرَاهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ خِلاَسٍ ، عَنْ عَلِيٍّ : مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ. وَعَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ : هُوَ فَيْءُ الْمُسْلِمِينَ لاَ يُرَدُّ. وَعَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ : مَا أَحْرَزَهُ الْمُشْرِكُونَ ثُمَّ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ لَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ حُرًّا أَوْ مُعَاهَدًا. وَعَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ هَذَا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ إنْ أُدْرِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ , فَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ حَتَّى قُسِمَ فَهُوَ لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ لاَ يُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ لاَ بِثَمَنٍ , وَلاَ بِغَيْرِهِ. هَكَذَا رُوِّينَاهُ ، عَنْ عُمَرَ نَصًّا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةُ ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : مَا أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَالَهُ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ السِّهَامُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ , وَإِنْ كَانَ قُسِمَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ ، عَنْ ثَوْرٍ ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ ، عَنْ زُهْرَةَ بْنِ يَزِيدَ الْمُرَادِيِّ أَنَّ أَمَةً لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَبَقَتْ إلَى الْعَدُوِّ فَغَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ فَعَرَفَهَا أَهْلُهَا فَكَتَبَ فِيهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إلَى عُمَرَ , فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : إنْ كَانَتْ لَمْ تُخَمَّسْ وَلَمْ تُقْسَمْ فَهِيَ رَدٌّ عَلَى أَهْلِهَا , وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خُمِّسَتْ وَقُسِمَتْ فَأَمْضِهَا لِسَبِيلِهَا.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ أَيْضًا ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ فِيمَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ , قَالَ : صَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يُقْسَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ , وَيُونُسَ قَالَ الْمُغِيرَةُ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ , وَقَالَ يُونُسُ ، عَنِ الْحَسَنِ , قَالاَ جَمِيعًا : مَا غَنِمَهُ الْعَدُوُّ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ , فَإِنْ قُسِمَ فَقَدْ مَضَى. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ هَذَا الْقَوْلَ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ , وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ , وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ , وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ , وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ , وَسُلَيْمَان بْنِ يَسَارٍ فِي مَشْيَخَةٍ مِنْ نُظَرَائِهِمْ , وَقَالُوا : مَا غَنِمَ الْعَدُوُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ السُّهْمَانُ فَإِذَا قُسِمَ فَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا , وَأَخْبَرَ عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأْيٌ مِنْهُ.
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ أُدْرِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ , وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ إِلاَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِقِيمَتِهِ : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنْ مَكْحُولٍ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ شُرَيْحٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ. فَالْقَوْلُ الأَوَّلُ لاَ يُرَدُّ مَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْوَالِنَا إلَى أَرْبَابِهَا , لاَ قَبْلَ أَنْ تُقْسَمَ ، وَلاَ بَعْدَ أَنْ تُقْسَمَ , لاَ بِثَمَنٍ ، وَلاَ بِغَيْرِهِ , رُوِيَ ، عَنْ عَلِيٍّ , وَصَحَّ ، عَنِ الْحَسَنِ , وَالزُّهْرِيِّ , وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. وَلَمْ يَصِحَّ ، عَنْ عَلِيٍّ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ , وَقَتَادَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ وَلَمْ يُدْرِكَاهُ , وَرِوَايَةُ خِلاَسٍ ، عَنْ عَلِيٍّ صَحِيحَةٌ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ بَيَانَ فِيهَا إنَّمَا هِيَ مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلاَ نَدْرِي مَا مَعْنَى : فَهُوَ جَائِزٌ , وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ جَائِزٌ لأََصْحَابِهِ إذَا ظُفِرَ بِهِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , وَلاَ يُرَدُّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ , رُوِيَ ، عَنْ عُمَرَ , وَأَبِي عُبَيْدَةَ , وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ; ، وَلاَ يَصِحُّ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ , لأََنَّهُ ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ وَلَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ ,
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوْنٍ , أَوْ ابْنِ عَوْنٍ , وَلَمْ يُدْرِكَا أَبَا عُبَيْدَةَ , وَلاَ عُمَرَ , وَلاَ نَدْرِي مَنْ رَوَاهُ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَرُوِيَ ، عَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ , وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُمْ , لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ هُوَ ضَعِيفٌ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ , وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ ] وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إنْ أُدْرِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ , وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ إِلاَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِقِيمَتِهِ رُوِيَ ، عَنْ عُمَرَ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ , لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ , وَلَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ , وَمُجَاهِدٍ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَالأَوْزَاعِيِّ. وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ : إنَّ الآبِقَ وَالْمَغْنُومَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ , وَإِنَّ الْمُدَبَّرَ , وَالْمُكَاتَبَ , وَأُمَّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ , إِلاَّ أَنَّ سَيِّدَ أُمِّ الْوَلَدِ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَفُكَّهَا.
وَهَا هُنَا قَوْلٌ خَامِسٌ لاَ يُعْرَفُ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ,
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلاَ يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ , وَهُوَ أَنَّ مَا أَبَقَ إلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبْدٍ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , وَبَعْدَهَا بِلاَ ثَمَنٍ ,
وَكَذَلِكَ مَا غَنِمُوهُ مِنْ مُدَبَّرٍ , وَمُكَاتَبٍ , وَأُمِّ وَلَدٍ , وَلاَ فَرْقَ. وَوَافَقَهُ فِي هَذَا سُفْيَانُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
وَأَمَّا مَا غَنِمُوهُ مِنْ الإِمَاءِ , وَالْعَبِيدِ , وَالْحَيَوَانِ , وَالْمَتَاعِ , فَإِنْ أُدْرِكَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ غَنِمْنَاهُ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِلاَ ثَمَنٍ. وَإِنْ دَخَلُوا بِهِ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ غَنِمْنَاهُ رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ
وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ ; وَإِلَّا فَلاَ يُرَدُّ إلَيْهِ.
قال أبو محمد :
وَهَذَا قَوْلٌ فِي غَايَةِ التَّخْلِيطِ وَالْفَسَادِ فِي التَّقْسِيمِ , لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ تَقْسِيمِهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ , وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ , وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ , وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ , وَلاَ تَابِعٍ , وَلاَ قِيَاسٍ , وَلاَ رَأْيٍ سَدِيدٍ.
وقال بعضهم : إنَّمَا يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا مَا يَمْلِكهُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ.
قال أبو محمد : وَصَدَقَ هَذَا الْقَائِلُ ، وَلاَ يَمْلِكُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ مَالاً بِالْبَاطِلِ , وَلاَ بِالْغَصْبِ أَصْلاً , وَلاَ بَاطِلَ , وَلاَ غَصْبَ أَحْرَمُ ، وَلاَ أَبْطَلُ مِنْ أَخْذِ حَرْبِيٍّ مَالَ مُسْلِمٍ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ جُمْلَةً ثُمَّ نَظَرْنَا فِي سَائِرِ الأَقْوَالِ.
فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَوَجَدْنَاهُمْ إنْ تَعَلَّقُوا بِمَا رُوِيَ ، عَنْ عُمَرَ ; فَقَدْ عَارَضَتْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، عَنْ عُمَرَ هِيَ عَنْهُ أَمْثَلُ مِنْ الَّتِي تَعَلَّقُوا بِهَا وَأُخْرَى ، عَنْ عَلِيٍّ هِيَ مِثْلُ الَّتِي تَعَلَّقُوا بِهَا , فَمَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَحَقَّ مِنْ بَعْضٍ
وقال بعضهم : مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ فِي الرِّوَايَةِ الأُُخْرَى : فَلاَ شَيْءَ لَهُ وَأَمْضِهَا لِسَبِيلِهَا أَيْ إِلاَّ بِالثَّمَنِ. .
فَقُلْنَا : مَا يَعْجِزُ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ ، عَنِ الْكَذِبِ ; وَيُقَالُ لَكُمْ : مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ إنَّهُ أَحَقُّ بِهَا بِالْقِيمَةِ أَيْ إنْ تَرَاضَيَا جَمِيعًا عَلَى ذَلِكَ , وَإِلَّا فَلاَ ; فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ كَذِبٍ وَكَذِبٍ ثُمَّ وَجَدْنَاهُمْ يَحْتَجُّونَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طُرْفَةَ : أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَرَى بَعِيرًا مِنْ الْعَدُوِّ فَعَرَفَهُ صَاحِبُهُ فَخَاصَمَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : إنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَهُ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ وَهُوَ لَكَ , وَإِلَّا فَهُوَ لَهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لاَ حُجَّةَ فِيهِ , وَسِمَاكٌ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ , شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ شُعْبَةُ , وَغَيْرُهُ وَأَسْنَدَهُ يَاسِينُ الزَّيَّاتُ ، عَنْ سِمَاكٍ ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ طُرْفَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَيَاسِينُ لاَ تَحِلُّ الرِّوَايَةُ عَنْهُ , وَسِمَاكٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَرَوَاهُ بَعْضُ النَّاسِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمَذَانِيِّ أَوْ الأَنْبَارِيِّ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مُسْنَدًا ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَنْبَارِيُّ أَوْ الْهَمَذَانِيُّ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُوَ فِي الْخَلْقِ وَأَسْنَدَهُ أَيْضًا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ كِلاَهُمَا : عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ طَاوُوس ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ فِي بَعِيرٍ أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ , ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ بِغَيْرِ شَيْءٍ , وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ إنْ شِئْتَ وَالْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ هَالِكٌ , وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ : ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ ,
وقال أحمد : عَنْ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ , ثُمَّ اتَّفَقَ يَحْيَى وَإِسْحَاقُ ، عَنْ مِسْعَرٍ ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ ; وَهَذَا مُنْقَطِعٌ غَيْرُ مُسْنَدٍ , عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ إلَى عَلِيٍّ وَأَحْمَدَ تَالِفَةٌ , وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا الْخَبَرُ فِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ الصَّحِيحِ عَنْهُ أَصْلاً , فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا : الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ , وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ حُجَّةٌ.
قلنا : لاَ عَلَيْكُمْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أُسَيْدَ بْنُ ظُهَيْرٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ وَالِيَ الْيَمَامَةِ أَيَّامَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ r قَضَى فِي السَّرِقَةِ : إنْ كَانَ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنْ الَّذِي سَرَقَهَا غَيْرَ مُتَّهَمٍ يُخَيَّرُ سَيِّدُهَا إنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ ثُمَّ قَضَى بِذَلِكَ بَعْدَهُ : أَبُو بَكْرٍ , وَعُمَرُ , وَعُثْمَانُ وَقَضَى بِهِ أُسَيْدَ بْنُ ظُهَيْرٍ.
قال أبو محمد : وَقَدْ قَضَى بِهِ أَيْضًا : عُمَيْرَةُ بْنُ يَثْرَى قَاضِي الْبَصْرَةِ لِعُمَرَ .
وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ. فَهَذَا خَبَرٌ أَحْسَنُ مِنْ خَبَرِكُمْ وَأَقُومُ , وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ فَخُذُوا بِهِ وَإِلَّا فَأَنْتُمْ مُتَلاَعِبُونَ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَتَرَكْنَاهُ , لأََنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ , وَعَلَى كُلِّ حَالٍ , فَهُوَ وَاَللَّهِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ مِنْ يَاسِينَ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ , وَمَا هُوَ بِدُونِ سِمَاكٍ أَصْلاً. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّ أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رَدُّوا حَدِيثَ " مَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ مُفْلِسٍ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْغُرَمَاءِ " وَهَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ.
فَإِنْ قَالُوا : هَذَا خِلاَفُ الأُُصُولِ ، وَلاَ يَخْلُو الْمُفْلِسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَانَ ] قَدْ مَلَكَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَلَكَهَا ; فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهَا فَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِهَذَا ; وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهَا فَلاَ حَقَّ لِبَائِعِهَا فِيمَا قَدْ مَلَكَهُ مِنْهُ الْمُشْتَرِي بِاخْتِيَارِهِ وَتَرَكُوا هَذَا الأَعْتِرَاضَ بِعَيْنِهِ هُنَا وَأَخَذُوا بِخَبَرٍ مَكْذُوبٍ مُخَالِفٍ لِلأُُصُولِ وَلِلْقُرْآنِ وَلِلسُّنَنِ لأََنَّهُ لاَ يَخْلُو الْحَرْبِيُّونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مَلَكُوا مَا أَخَذُوا مِنَّا أَوْ لَمْ يَمْلِكُوهُ , فَإِنْ كَانُوا لَمْ يَمْلِكُوهُ فَهَذَا قَوْلُنَا وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ , وَالْوَاجِبُ أَنْ يُرَدَّ إلَى مَالِكِهِ بِكُلِّ حَالٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِلاَ ثَمَنٍ يُكَلَّفُهُ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ مَلَكُوهُ فَلاَ سَبِيلَ لِلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ عَلَيْهِ لاَ بِثَمَنٍ ، وَلاَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ لاَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَلاَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ , لأََنَّهُ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ ، وَلاَ فَرْقَ ; فَأَيُّ عَجَبٍ أُعْجِبُ مِنْ هَذَا
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَلَكَهُ أَوْ لَمْ يَمْلِكْهُ , فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهُ فَهُوَ قَوْلُنَا وَالْوَاجِبُ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ.
وَإِنْ قَالُوا : بَلْ مَلَكَهُ.
قلنا : فَمَا يَحِلُّ إخْرَاجُ مِلْكِهِ ، عَنْ يَدِهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ لاَ بِثَمَنٍ ، وَلاَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ ; فَهَلْ سُمِعَ بِأَبْيَنَ فَسَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّنَاقُضِ الْفَاحِشِ وَالتَّحَكُّمِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لاَ خَفَاءَ بِهِ فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ جُمْلَةً ; إذْ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ أَثَرٌ ، وَلاَ صَحَّحَهُ نَظَرٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُرَدُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَلاَ يُرَدُّ بَعْدَهَا. فَقَوْلٌ أَيْضًا لاَ يَقُومُ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ أَصْلاً , لاَ مِنْ نَصٍّ ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ , وَلاَ مِنْ نَظَرٍ , وَلاَ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : لاَ يُرَدُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَلاَ بَعْدَهَا فَهُوَ أَقَلُّهَا تَنَاقُضًا ; وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ قَدْ مَلَكُوا مَا أَخَذُوا مِنَّا ; وَلَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الأَصْلُ لَكَانَ قَوْلُهُمْ هُوَ الْحَقَّ , لَكِنْ نَقُولُ لَهُمْ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ,
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ,
وَقَالَ عليه السلام لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ,
وَقَالَ عليه السلام : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ. فَأَخْبِرُونَا عَمَّا أَخَذَهُ مِنَّا أَهْلُ الْحَرْبِ أَبِحَقٍّ أَخَذُوهُ أَمْ بِبَاطِلٍ وَهَلْ أَمْوَالُنَا مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَوْ مِمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ وَهَلْ هُمْ ظَالِمُونَ فِي ذَلِكَ أَوْ غَيْرُ ظَالِمِينَ وَهَلْ عَمِلُوا مِنْ ذَلِكَ عَمَلاً مُوَافِقًا لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ نَبِيِّهِ عليه السلام , أَوْ عَمَلاً مُخَالِفًا لأََمْرِهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ r وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ دِينُ الإِسْلاَمِ وَيَخْلُدُونَ فِي النَّارِ لِخِلاَفِهِمْ لَهُ أَمْ لاَ ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهَا. فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِحَقٍّ أَنَّهُ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ ظَالِمِينَ فِي ذَلِكَ , وَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِذَلِكَ عَمَلاً مُخَالِفًا لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ عليه السلام , وَأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمْ دِينُ الإِسْلاَمِ : كُفْرٌ صُرَاحٌ بَرَاحٌ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ , فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ , وَإِذْ قَدْ سَقَطَ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الآخَرُ , وَهُوَ الْحَقُّ الْيَقِينُ مِنْ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِالْبَاطِلِ وَأَخَذُوا حَرَامًا عَلَيْهِمْ , وَهُمْ فِي ذَلِكَ أُظْلَمُ الظَّالِمِينَ , وَأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِذَلِكَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرُ رَسُولِهِ r وَأَنَّ الْتِزَامَ دِينِ الإِسْلاَمِ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ. فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَأَخْذُهُمْ لِمَا أَخَذُوا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ , وَظُلْمٌ مَفْسُوخٌ ، وَلاَ حَقَّ لَهُمْ ، وَلاَ لأََحَدٍ يُشْبِهُهُمْ فِيهِ ; فَهُوَ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ أَبَدًا. وَهَذَا أَمْرٌ مَا نَدْرِي كَيْفَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ , وَقَدْ أَجْمَعَ الْحَاضِرُونَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ أَحْرَارَنَا أَصْلاً , وَأَنَّهُمْ مُسَرَّحُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِلاَ تَكْلِيفِ ثَمَنٍ , فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَمَلُّكِ الْحُرِّ , وَبَيْنَ تَمَلُّكِ الْمَالِ بِالظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ لَوْ أَنْصَفُوا أَنْفُسَهُمْ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَمْلِكُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْغَصْبِ , فَكَيْف وَقَعَتْ لَهُمْ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِالْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ مَعَ عَظِيمِ تَنَاقُضِهِمْ فِي أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا لاَ يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ عَظِيمَةً دَلَّتْ عَلَى فَسَادِ دِينِهِ , وَهُوَ ، أَنَّهُ قَالَ : هُوَ جَوْرٌ يَنْفُذُ , وَنَظَرُهُ بِمُفَضِّلِ بَعْضِ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ فَحَصَلَ هَذَا الْجَاهِلُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَهُوَ أَنَّهُ نَسَبَ إلَى النَّبِيِّ r أَنَّهُ أَنْفَذَ تَفْضِيلَ بَشِيرٍ لِبَعْضِ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ ; بَلْ أَمَرَهُ عليه السلام بِرَدِّهِ نَصًّا. ثُمَّ نَسَبَ إلَى النَّبِيِّ r أَنَّهُ أَنْفَذَ الْجَوْرَ وَأَمْضَاهُ , وَهَذَا كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
قال أبو محمد : فَسَقَطَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ كُلُّهَا. وَقَدْ
قلنا : إنَّهُ لَيْسَ مِنْهَا قَوْلٌ يَصِحُّ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا صَحَّتْ ، عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ فَقَطْ , وَالْخَطَأُ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ r . فَإِذْ سَقَطَتْ كُلُّهَا , فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ قَوْلُنَا وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ بِمَا ذَكَرنَا آنِفًا مِنْ أَنَّهُمْ لاَ يَحِلُّ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِنَا إِلاَّ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يَشَاءُ مِنْ بَعْضِنَا لِبَعْضٍ قَالَ تَعَالَى وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ثُمَّ هُوَ الثَّابِتُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r .
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا صَالِحُ بْنُ سُهَيْلٍ نَا يَحْيَى يَعْنِي ابْنَ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : إنَّ غُلاَمًا أَبَقَ إلَى الْعَدُوِّ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ r إلَى ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُقْسَمْ.
قال أبو محمد : مَنْعُ النَّبِيِّ r مِنْ قِسْمَتِهِ بُرْهَانٌ بِأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ قِسْمَتُهُ وَأَنَّهُ لاَ حَقَّ فِيهِ لِلْغَانِمَيْنِ , وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ لَقَسَمَهُ عليه السلام فِيهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ يَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ذَهَبَ الْعَدُوُّ بِفَرَسِهِ فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ وَجَدَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَرَسَهُ فَرَدَّهُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : أَبَقَ لِي غُلاَمٌ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ , ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَدُّوهُ إلَيَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا شَرِيكٌ ، عَنِ الرُّكَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ قَالَ : حُبِسَ لِي فَرَسٌ فَأَخَذَهُ الْعَدُوُّ فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدْته فِي مَرْبِطِ سَعْدٍ فَقُلْت : فَرَسِي. فَقَالَ : بَيِّنَتُك , فَقُلْت : أَنَا أَدْعُوهُ فَيُحَمْحِمُ. فَقَالَ سَعْدٌ : إنْ أَجَابَك فَإِنَّا لاَ نُرِيدُ مِنْك بَيِّنَةً فَهَذَا لَيْسَ إِلاَّ بَعْدَ الْقِسْمَةِ , فَهَذَا فِعْلُ الْمُسْلِمِينَ , وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ , وَابْنِ عُمَرَ : لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ حَالِ الْقِسْمَةِ وَمَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
وَرُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
. 932 - مَسْأَلَةٌ : وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ عِنْدَك تُجَّارًا بِأَمَانٍ , أَوْ رُسُلاً , أَوْ مُسْتَأْمِنِينَ مُسْتَجِيرِينَ , أَوْ مُلْتَزِمِينَ لاََنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا فَوَجَدْنَا بِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمِينَ , أَوْ أَهْلَ ذِمَّةٍ , أَوْ عَبِيدًا , أَوْ إمَاءً لِلْمُسْلِمِينَ , أَوْ مَالاً لِمُسْلِمٍ , أَوْ لِذِمِّيٍّ : فَإِنَّهُ يُنْتَزَعُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِلاَ عِوَضٍ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا. وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى أَصْحَابِهِ , وَلاَ يَحِلُّ لَنَا الْوَفَاءُ بِكُلِّ عَهْدٍ أُعْطُوهُ عَلَى خِلاَفِ هَذَا ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ r : كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا مَا يَقُولُ لَوْ عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى أَنْ لاَ نُصَلِّيَ , أَوْ لاَ نَصُومَ
وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمُوا , أَوْ تَذَمَّمُوا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ كُلُّ مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ حُرٍّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ لِمُسْلِمٍ , أَوْ لِذِمِّيٍّ , وَيُرَدُّ إلَى أَصْحَابِهِ بِلاَ عِوَضٍ ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيمَا اسْتَهْلَكُوا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ حَرْبِيِّينَ. وَلَوْ أَنَّ تَاجِرًا ; أَوْ رَسُولاً دَخَلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَافْتَدَى أَسِيرًا , أَوْ أَعْطَوْهُ إيَّاهُ , أَوْ ابْتَاعَ مَتَاعًا لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ وَهَبُوهُ لَهُ , فَخَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ : اُنْتُزِعَ مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ , وَرُدَّ إلَى صَاحِبِهِ , وَهُوَ مِنْ خَسَارَةِ الْمُشْتَرِي , وَأُطْلِقَ الأَسِيرُ بِلاَ غَرَامَةٍ لِمَا ذَكَرنَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ , وَأَظْلَمَ الظُّلْمِ : أَخْذُ الْمُشْرِكِ لِلْمُسْلِمِ , أَوْ لِمَالِهِ , أَوْ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمَالِهِ , وَالظُّلْمُ لاَ يَجُوزُ إمْضَاؤُهُ بَلْ يُرَدُّ وَيُفْسَخُ. فَلَوْ أَنَّ الأَسِيرَ قَالَ لِمُسْلِمٍ , أَوْ لِذِمِّيٍّ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ : افْدِنِي مِنْهُمْ , وَمَا تُعْطِيهِمْ دَيْنٌ لَك عَلَيَّ , فَهُوَ كَمَا قَالَ , وَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ , لأََنَّهُ اسْتَقْرَضَهُ فَأَقْرَضَهُ , وَهَذَا حَقٌّ.
وقال مالك , وَابْنُ الْقَاسِمِ : لَوْ نَزَلَ حَرْبِيُّونَ بِأَمَانٍ وَعِنْدَهُمْ مُسْلِمَاتٌ مَأْسُورَاتٌ : لَمْ يُنْتَزَعْنَ مِنْهُمْ , وَلاَ يُمْنَعُونَ مِنْ الْوَطْءِ لَهُنَّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَوْ تَذَمَّمَ حَرْبِيُّونَ وَبِأَيْدِيهِمْ أَسْرَى مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ : فَهُمْ بَاقُونَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الذِّمَّةِ عَبِيدٌ لَهُمْ كَمَا كَانُوا. وَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ لاَ نَعْلَمُ قَوْلاً أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْهُمَا , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا , وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْقَوْلُ لَوْ كَانَ بِأَيْدِيهِمْ شُيُوخٌ مُسْلِمُونَ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ فِعْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَيُتْرَكُونَ وَذَلِكَ أَوْ لَوْ أَنَّ بِأَيْدِيهِمْ مَصَاحِفَ أَيُتْرَكُونَ يَمْسَحُونَ بِهَا الْعَذِرَ ، عَنْ أَسْتَاهِهِمْ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَتَمَّ الْبَرَاءَةِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
933 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ ذَكَرُوا حَدِيثَ أَبِي جَنْدَلٍ , وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَدَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ.
أَوَّلُهَا أَنَّهُ عليه السلام رَدَّهُ وَلَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ تَمَّ بَيْنَهُمْ , وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى أَجَارَهُ لَهُ مُكَرَّزُ بْنُ حَفْصٍ مِنْ أَنْ يُؤْذَى. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ أَبِي جَنْدَلٍ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الآيَةِ عَهْدَهُمْ فِي رَدِّ النِّسَاءِ , ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( بَرَاءَةٌ ) بَعْدَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الْعَهْدَ كُلَّهُ وَنَسَخَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ( بَرَاءَةٌ ) أَيْضًا : كَيْف يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الآيَةَ فَأَبْطَلَ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ لِلْمُشْرِكِينَ حَاشَا الَّذِينَ عَاهَدُوا عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ,
وَقَالَ تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ ، وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ، عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ , فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ عَهْدٍ وَلَمْ يُقِرَّهُ , وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمُشْرِكِينَ إِلاَّ الْقَتْلَ , أَوْ الإِسْلاَمَ , وَلأََهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَأَمَّنَ الْمُسْتَجِيرَ وَالرَّسُولَ حَتَّى يُؤَدِّيَ رِسَالَتَهُ وَيَسْمَعَ الْمُسْتَجِيرُ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى بِلاَدِهِمَا ، وَلاَ مَزِيدَ , فَكُلُّ عَهْدٍ غَيْرِ هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ ; لأََنَّهُ خِلاَفُ شَرْطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِلاَفُ أَمْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَغَيْرِهِ فَذَكَرَ حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ , وَفِيهِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ : هَذَا أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ r : إنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ , قَالَ : فَوَاَللَّهِ إذًا لاَ أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا , فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r : فَأَجِزْهُ لِي قَالَ : مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ : بَلَى فَافْعَلْ. قَالَ : مَا أَنَا بِفَاعِلٍ , قَالَ مُكَرَّزٌ ، هُوَ ابْنُ حَفْصِ بْنِ الأَحْنَفِ : بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ فَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ كُلِّهِمْ وَحَدِيثُ أَبِي جَنْدَلٍ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَمَا أَوْرَدْنَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَفَّانُ ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ نَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحُوا النَّبِيَّ r فَاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبِيِّ r : أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ وَمَنْ جَاءَ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَكْتُبُ هَذَا قَالَ : نَعَمْ , إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ , وَمِنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرْجًا وَمَخْرَجًا وَهَذَا خَبَرٌ مِنْهُ عليه السلام مَقْطُوعٌ بِصِدْقِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ نَا اللَّيْثُ ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ , وَآخَرَ : يُخْبِرَانِ ، عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ r فَذَكَرَا حَدِيثَ الْحُدَيْبِيَةِ , وَفِيهِ : فَرَدَّ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو , وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ إِلاَّ رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا , وَجَاءَتْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ , وَجَاءَتْ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ r يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ r أَنْ يُرْجِعَهَا إلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِنَّ : إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ الآيَةَ
. 934 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ كَانَ أَسِيرًا عِنْدَ الْكُفَّارِ فَعَاهَدُوهُ عَلَى الْفِدَاءِ وَأَطْلَقُوهُ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِمْ , وَلاَ أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا , وَلاَ يَحِلُّ لِلإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا , فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَنْطِلاَقِ إِلاَّ بِالْفِدَاءِ فَفَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْدُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَفِي بِفِدَائِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَإِسَارُ الْمُسْلِمِ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ , وَأَخْذُ الْكَافِرِ أَوْ الظَّالِمِ مَالَهُ فِدَاءً مِنْ أَبْطَلْ الْبَاطِلِ , فَلاَ يَحِلُّ إعْطَاءُ الْبَاطِلِ , وَلاَ الْعَوْنُ عَلَيْهِ , وَتِلْكَ الْعُهُودُ وَالأَيْمَانُ الَّتِي أَعْطَاهُمْ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا , لأََنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَيْهَا , إذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى الْخَلاَصِ إِلاَّ بِهَا , وَلاَ يَحِلُّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي أَرْضِ الْكُفْرِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ , وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : رُفِعَ ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ وَهَكَذَا كُلُّ عَهْدٍ أَعْطَيْنَاهُمْ , حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ أَيْدِيهمْ , فَإِنْ عَجَزْنَا ، عَنْ اسْتِنْقَاذِهِ إِلاَّ بِالْفِدَاءِ فَفَرْضٌ عَلَيْنَا فِدَاؤُهُ لِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ r الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَالشَّافِعِيِّ
. 935 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ فِدَاءُ الأَسِيرِ الْمُسْلِمِ إِلاَّ إمَّا بِمَالٍ ,
وَأَمَّا بِأَسِيرٍ كَافِرٍ ,
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُرَدَّ صَغِيرٌ سُبِيَ مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ إلَيْهِمْ لاَ بِفِدَاءٍ ، وَلاَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ ; لأََنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ حُكْم الإِسْلاَمِ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ , فَهُوَ وَأَوْلاَدُ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ ، وَلاَ فَرْقَ
وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيّ.
936 - مَسْأَلَةٌ : وَمَا وَهَبَ أَهْلُ الْحَرْبِ لِلْمُسْلِمِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ , أَوْ التَّاجِرِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ حَلاَلٌ , وَهِبَةٌ صَحِيحَةٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَالَ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ ,
وَكَذَلِكَ مَا ابْتَاعَهُ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ فَهُوَ ابْتِيَاعٌ صَحِيحٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَالاً لِمُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ ; لأََنَّهُمْ مَالِكُونَ لأََمْوَالِهِمْ مَا لَمْ يَنْتَزِعْهَا الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ إلَى أَنْ أَوْرَثَنَا إيَّاهَا , وَالتَّوْرِيثُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ , وَإِلَّا فَلَمْ يُورَثْ بَعْدَمَا لَمْ تَقْدِرْ أَيْدِينَا عَلَيْهِ , وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ لِلْغَانِمِ لَهَا , لاَ لِكُلِّ مَنْ لَمْ يَغْنَمْهَا.
937 - مَسْأَلَةٌ : وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ فَسَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ , أَوْ لَمْ يَخْرُجَ , أَوْ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ ثُمَّ أَسْلَمَ , كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَجَمِيعُ مَالِهِ الَّذِي مَعَهُ فِي أَرْضِ الإِسْلاَمِ ; أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ الَّذِي تَرَكَ وَرَاءَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ عَقَارٍ , أَوْ دَارٍ , أَوْ أَرْضٍ , أَوْ حَيَوَانٍ , أَوْ نَاضٍّ ; أَوْ مَتَاعٍ فِي مَنْزِلِهِ , أَوْ مُودَعًا , أَوْ كَانَ دَيْنًا : هُوَ كُلُّهُ لَهُ , لاَ حَقَّ لأََحَدٍ فِيهِ , وَلاَ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ غَنِمُوهُ أَوْ افْتَتَحُوا تِلْكَ الأَرْضَ. وَمَنْ غَصَبَهُ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ حَرْبِيٍّ , أَوْ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ : رُدَّ إلَى صَاحِبِهِ وَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ إنْ مَاتَ , وَأَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ
وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي بَطْنِ امْرَأَتِهِ.
وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ الْكِبَارُ فَفَيْءٌ إنْ سُبُوا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى نِكَاحِهِ مَعَهَا , وَهِيَ رَقِيقٌ لِمَنْ وَقَعَتْ لَهُ سَهْمَهُ. بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فَهُوَ بِلاَ شَكٍّ , وَبِلاَ خِلاَفٍ , وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : مُسْلِمٌ ; وَإِذْ هُوَ مُسْلِمٌ , فَهُوَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ.فَصَحَّ أَنَّ دَمَهُ , وَبَشَرَتَهُ , وَعِرْضَهُ , وَمَالَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ سِوَاهُ , وَنِكَاحُ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ , لأََنَّ النَّبِيَّ r أَقَرَّهُمْ عَلَى نِكَاحِهِمْ , وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا أَقَرَّهُ , وَمِنْهُ خُلِقَ عليه السلام , وَلَمْ يُخْلَقْ إِلاَّ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ , فَهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا لاَ يَفْسُدُ شَيْءٌ , وَلاَ غَيْرُهُ إِلاَّ مَا جَاءَ فِيهِ النَّصُّ بِفَسَادِهِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاضِرِينَ مِنْ الْمُخَالِفِينَ لاَ يُنَازِعُونَنَا فِي أَنَّ دَمَهُ , وَعِرْضَهُ , وَبَشَرَتَهُ , حَرَامٌ ثُمَّ يَضْطَرِبُونَ فِي أَمْرِ مَالِهِ , وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا وَقَوْلُنَا هَذَا كُلُّهُ هُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة : إنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ هُنَاكَ حَتَّى تَغَلَّبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ حُرٌّ , وَأَمْوَالُهُ كُلُّهَا لَهُ , لاَ يُغْنَمُ مِنْهَا شَيْئًا , وَلاَ مِمَّا كَانَ لَهُ وَدِيعَةً عِنْدَ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ , وَأَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ مُسْلِمُونَ أَحْرَارٌ , حَاشَا أَرْضَهُ وَحَمْلَ امْرَأَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ غَنِيمَةٌ وَفَيْءٌ وَيَكُونُ الْجَنِينُ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمًا.
وَأَمَّا امْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ الْكِبَارُ فَفَيْءٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : وَأَرْضُهُ لَهُ أَيْضًا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ فَأَوْلاَدُهُ الصِّغَارُ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لاَ يُغْنَمُونَ , وَكُلُّ مَا أَوْدَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَهُ , وَلاَ يُغْنَمُ
وَأَمَّا سَائِرُ مَا تَرَكَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ أَرْضٍ , أَوْ عَقَارٍ , أَوْ أَثَاثٍ , أَوْ حَيَوَانٍ فَفَيْءٌ مَغْنُومٌ
وَكَذَلِكَ حَمْلُ امْرَأَتِهِ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ. فَإِنْ خَرَجَ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ كَافِرًا , ثُمَّ أَسْلَمَ فِيهَا فَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ
وَأَمَّا كُلُّ مَا تَرَكَ مِنْ أَرْضٍ , أَوْ عَقَارٍ , أَوْ مَتَاعٍ , أَوْ حَيَوَانٍ , أَوْ أَوْلاَدِهِ الصِّغَارِ فَفَيْءٌ مَغْنُومٌ , وَلاَ يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلاَمِهِ.
قال أبو محمد : لَوْ قِيلَ لأَِنْسَانٍ أَسْخِفْ وَاجْتَهِدْ مَا قَدَرَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذَا , وَلاَ تُعْرَفُ هَذِهِ التَّقَاسِيمُ لأََحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ , وَمَا تَعَلُّقَ فِيهَا لاَ بِقُرْآنٍ , وَلاَ بِسُنَّةٍ , وَلاَ بِرِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ , وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ , وَلاَ تَابِعٍ , وَلاَ بِقِيَاسٍ , وَلاَ بِرَأْيٍ يُعْقَلُ , وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ ; بَلْ هُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ , وَالسُّنَنِ : فِي إبَاحَتِهِ مَالَ الْمُسْلِمِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ لِلْغَنِيمَةِ بِالْبَاطِلِ , وَخِلاَفُ الْمَعْقُولِ , إذْ صَارَ عِنْدَهُ فِرَارُهُ إلَى أَرْضِ الإِسْلاَمِ بِنَفْسِهِ وَإِسْلاَمُهُ فِيهَا : ذَنْبًا عَظِيمًا يَسْتَحِقُّ بِهِ مِنْهُ إبَاحَةَ صِغَارِ أَوْلاَدِهِ لِلإِسَارِ وَالْكُفْرِ , وَإِبَاحَةَ جَمِيعِ مَالِهِ لِلْغَنِيمَةِ , هَذَا جَزَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَجَعَلَ بَقَاءَهُ فِي دَارِ الْكُفْرِ خُصْلَةً حَرَّمَ بِهَا أَمْوَالَهُ كُلَّهَا حَاشَا أَرْضَهُ , وَحَرَّمَ بِهَا صِغَارَ أَوْلاَدِهِ حَاشَا الْجَنِينِ , هَذَا مَعَ إبَاحَتِهِ لِلْكُفَّارِ وَالْحَرْبِيِّينَ : تَمَلُّكَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدَّمْنَا قَبْلُ , وَتَحْرِيمِهِ ضَرْبَهُمْ وَقَتْلَهُمْ إنْ أَعْلَنُوا بِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ r بِأَقْزَعِ السَّبِّ , وَتَكْذِيبِهِ فِي الأَسْوَاقِ , فَإِنْ قَتَلَ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ قَتِيلاً قُتِلَ بِهِ فَكَيْفَ تَرَوْنَ وَهُوَ أَيْضًا خِلاَفُ الإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ ; لأََنَّهُ لاَ يَشُكُّ مُؤْمِنٌ , وَلاَ كَافِرٌ , وَلاَ جَاهِلٌ , وَلاَ عَالَمٌ فِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ r كَانُوا أَطْوَارًا. فَطَائِفَةٌ أَسْلَمُوا بِمَكَّةَ , ثُمَّ فَرُّوا عَنْهَا بِأَدْيَانِهِمْ : كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ , وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم. وَطَائِفَةٌ خَرَجُوا كُفَّارًا , ثُمَّ أَسْلَمُوا : كَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَسْلَمَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ , وَأَبِي سُفْيَانَ أَسْلَمَ فِي عَسْكَرِ النَّبِيِّ r . وَطَائِفَةٌ أَسْلَمُوا وَبَقُوا بِمَكَّةَ كَجَمِيعِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ النِّسَاءِ , وَغَيْرِهِمْ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ إلَى قَوْلِهِ : وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَكُلُّ هَؤُلاَءِ إذْ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ r مَكَّةَ رَجَعَ الْخَارِجُ إلَى دَارِهِ , وَعَقَارِهِ وَضِيَاعِهِمْ بِالطَّائِفِ وَغَيْرِهَا , وَبَقِيَ الْمُسْتَضْعَفُ فِي دَارِهِ وَعَقَارِهِ وَأَثَاثِهِ كَذَلِكَ , فَأَيْنَ يَذْهَبُ بِهَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لَوْ نَصَحُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَتَى بَعْضُهُمْ هَاهُنَا بِآبِدَةٍ هِيَ ، أَنَّهُ قَالَ :
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَكَر
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الْمِصْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَهُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَهُ سَهْمٌ فِي الإِسْلاَمِ , وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ , أَوْ الْهَزِيمَةِ فَمَالُهُ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ , لأََنَّهُمْ قَدْ أَحْرَزُوهُ قَبْلَ إسْلاَمِهِ , قَالَ : فَسَمَّاهُمْ تَعَالَى فُقَرَاءَ.فَصَحَّ أَنَّ أَمْوَالَهُمْ قَدْ مَلَكَهَا الْكُفَّارُ عَلَيْهِمْ
قال أبو محمد : لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرْدَعَهُ الْحَيَاءُ عَنْ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ الْقَبِيحَةِ وَأَيُّ إشَارَةٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ إلَى مَا قَالَ بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ ; لأََنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ فِي مِلْكِهِمْ , بِأَنْ نَسَبَهَا إلَيْهِمْ , وَجَعَلَهَا لَهُمْ , وَعَظَّمَ بِالإِنْكَارِ إخْرَاجَهُمْ ظُلْمًا مِنْهَا وَنَعَمْ , هُمْ فُقَرَاءُ بِلاَ شَكٍّ ; إذْ لاَ يَجِدُونَ غِنًى. وَهُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ , أَوْ الْمَشْرِقِ لَوْ حَجَّ فَفَرَغَ مَا فِي يَدِهِ بِمَكَّةَ أَوْ بِالْمَدِينَةِ , وَلَهُ فِي بِلاَدِهِ ضِيَاعٌ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ , وَأَثَاثٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ ; وَهُوَ حَيْثُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى قَرْضٍ , وَلاَ عَلَى ابْتِيَاعٍ , وَلاَ بَيْعٍ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ , وَمَالُهُ فِي بِلاَدِهِ مُنْطَلِقَةٌ عَلَيْهِ يَدُهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ فِتْنَةٌ , أَوْ غَصْبٌ , وَلاَ فَرْقَ , وَلَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَةُ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُغْتَرِّينَ بِهِمْ مِنْهُمْ وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا هَدَانَا لَهُ مِنْ الْحَقِّ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ ، عَنْ عُمَرَ t فَسَاقِطَةٌ ; لأََنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ لَمْ يُولَدْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ t بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَفِيهَا : ابْنُ لَهِيعَةَ , وَهُوَ لاَ شَيْءَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا مُتَعَلَّقٌ ; بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا وَخِلاَفٌ لِقَوْلِهِمْ لأََنَّ نَصَّهَا , مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَهُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ.
فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ مَالَهُ كُلَّهُ حَيْثُ كَانَ لَهُ كَمَا كَانَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ; ثُمَّ فِيهَا إنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْقِتَالِ , أَوْ الْهَزِيمَةِ فَمَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ , لأََنَّهُ قَدْ أَحْرَزَهُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ إسْلاَمِهِ فَهَذَا قَوْلُنَا ; لأََنَّهُ قَدْ صَارَ مَالُهُ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ; فَاعْجَبُوا لِتَمْوِيهِهِمْ وَتَدْلِيسِهِمْ بِمَا هُوَ عَلَيْهِمْ لِيُضِلُّوا بِهِ مِنْ اغْتَرَّ بِهِمْ
938 - مَسْأَلَةٌ : فَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدُ فَامْرَأَتُهُ حُرَّةٌ لاَ تُسْتَرَقُّ ; لأََنَّ الْجَنِينَ حِينَئِذٍ بَعْضُهَا , وَلاَ يُسْتَرَقُّ , لأََنَّهُ جَنِينٌ مُسْلِمٌ. وَمَنْ كَانَ بَعْضُهَا حُرًّا فَهِيَ كُلُّهَا حُرَّةٌ لِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلاَفِ حُكْمِهَا إذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ قَبْلَ إسْلاَمِ أَبِيهِ لأََنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُهَا , وَهُوَ رُبَّمَا كَانَ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
939 - مَسْأَلَةٌ : وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ وَلَهَا زَوْجٌ كَافِرٌ ذِمِّيٌّ , أَوْ حَرْبِيٌّ فَحِينَ إسْلاَمِهَا انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ سَوَاءٌ أَسْلَمَ بَعْدَهَا بِطَرْفَةِ عَيْنٍ , أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ. لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا وَإِلَّا فَلاَ. فَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , فَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَهَا , فَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا أَسْلَمَتْ هِيَ , أَمْ لَمْ تُسْلِمْ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ فَسَاعَةَ إسْلاَمِهِ قَدْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا مِنْهُ , أَسْلَمَتْ بَعْدَهُ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَأَكْثَرَ. لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا إنْ أَسْلَمَتْ , وَإِلَّا فَلاَ , سَوَاءٌ حَرْبِيَّيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ كَانَا.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ , وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم .
وَبِهِ يَقُولُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ , وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ , وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَعَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ , وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ , وَقَتَادَةُ , وَالشَّعْبِيُّ , وَغَيْرُهُمْ.
وقال أبو حنيفة : أَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ الآخَرِ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ الإِسْلاَمَ عَلَى الَّذِي لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمَا ; فَإِنْ أَسْلَمَ بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , وَإِنْ أَبَى فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ , وَلاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ : فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبَ فَخَرَجَتْ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَسَاعَةَ حُصُولِهَا فِي دَارِ الإِسْلاَمِ يَقَعُ الْفَسْخُ بَيْنَهُمَا لاَ قَبْلَ ذَلِكَ ; فَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ حَاضَتْ ثَلاَثَ حِيَضٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ هُوَ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ وَعَلَيْهَا أَنْ تَبْتَدِئَ ثَلاَثَ حِيَضٍ أُخَرَ عِدَّةً مِنْهُ , وَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى نِكَاحِهِ مَعَهَا. قَالَ : فَلَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ مِنْ وَقْتِهِ.
وقال مالك : إنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا , فَإِنْ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. قَالَ : فَلَوْ أَسْلَمَ هُوَ , وَهِيَ غَيْرُ كِتَابِيَّةٍ عُرِضَ الإِسْلاَمُ عَلَيْهَا , فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , وَإِنْ أَبَتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ سَاعَةَ إبَائِهَا , فَلَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا انْفَسَخَ النِّكَاحُ سَاعَتَئِذٍ. وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ عَكْسَ قَوْلِ مَالِكٍ إنْ أَسْلَمَ هُوَ وَهِيَ وَثَنِيَّةٌ , فَإِنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ تَمَامِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ , وَإِلَّا فَبِتَمَامِهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ , وَإِنْ أَسْلَمَتْ هِيَ وَقْتَ الْفُرْقَةِ فِي الْحِينِ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ , وَاللَّيْثُ , وَالشَّافِعِيُّ : وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ , وَتُرَاعَى الْعِدَّةُ , فَإِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ مِنْهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى تَمَّتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ
وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ , وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ , وَإِسْحَاقَ , وَأَحَدُ قَوْلِيِّ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
قال أبو محمد : أُمًّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ , لأََنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ , لاَ مِنْ قُرْآنٍ , وَلاَ سُنَّةٍ , وَلاَ إجْمَاعٍ , وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يُحَدُّوا وَقْتَ عَرْضِ الإِسْلاَمِ ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ , وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ مِثْلُ تَقْسِيمِهِ لأََحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ سَوَاءٌ سَوَاءٌ , وَقَدْ مَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ السُّكُوتُ أَوْلَى بِهِ لَوْ نَصَحَ نَفْسَهُ , مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَرُوِّينَا ] مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : إذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الْيَهُودِيِّ , أَوْ النَّصْرَانِيِّ : كَانَ أَحَقَّ بِبُضْعِهَا , لأََنَّ لَهُ عَهْدًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ هَانِئَ بْنَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَّيْبَانِيُّ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَسْلَمْنَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فَأَقَرَّهُنَّ عُمَرُ عِنْدَهُ قَالَ شُعْبَةُ : قُلْت لِلْحُكْمِ : عَمَّنْ هَذَا قَالَ : هَذَا شَيْءٌ مَعْرُوفٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ , وَابْنِ جَعْفَرٍ غُنْدَرَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ : عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ , وَالْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ وَقَالَ غُنْدَرُ : نَا شُعْبَةُ نَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ , ثُمَّ اتَّفَقَ الْمُغِيرَةُ , وَمَنْصُورٌ , وَحَمَّادٌ , كُلُّهُمْ : عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : فِي ذِمِّيَّةٍ أَسْلَمَتْ تَحْتَ ذِمِّيٍّ , قَالَ : تُقَرُّ عِنْدَهُ وَبِهِ أَفْتَى حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ إِلاَّ ، أَنَّهُ قَالَ : يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا فَهَذَا قَوْلٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ آخَرُ : صَحَّ عَنْهُ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ , وَقَتَادَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ : أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَخَيَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ , وَإِنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ ثَالِثٌ : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ دَاوُد الطَّائِيِّ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ بِشْرٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مِنْ ابْن أَخٍ لَهُ نَصْرَانِيٍّ فَرَكِبَ عَوْفُ بْنُ الْقَعْقَاعِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ; فَكَتَبَ عُمَرُ فِي ذَلِكَ : إنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ; وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ; فَلَمْ يُسْلِمْ , فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا , فَتَزَوَّجَهَا عَوْفُ بْنُ الْقَعْقَاعِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا , لأََنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ أَلْبَتَّةَ ابْتِدَاءَ عَقْدِ نِكَاحِ مُسْلِمَةٍ مِنْ كَافِرٍ أَسْلَمَ إثْرَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ. وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا قَوْلٌ رَابِعٌ لاَ يَصِحُّ عَنْهُ : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ : أَنْبَأَنِي ابْنُ الْمَرْأَةِ الَّتِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُمَرُ , عُرِضَ عَلَيْهِ الإِسْلاَمُ فَأَبَى.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيَّ كَانَ نَاكِحًا بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَأَسْلَمَتْ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إمَّا أَنْ تُسْلِمَ
وَأَمَّا أَنْ نَنْتَزِعَهَا مِنْك فَأَبَى , فَنَزَعَهَا عُمَرُ مِنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ ، عَنِ السَّفَّاحِ بْنِ مُضَرَ التَّغْلِبِيَّ ، عَنْ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ التَّمِيمِيَّةُ , وَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ , فَفَرَّقَ عُمَرُ بَيْنَهُمَا. أَبُو إِسْحَاقَ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ وَالسَّفَّاحُ , وَدَاوُد بْنُ كُرْدُوسٍ مَجْهُولاَنِ.
وَكَذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَلْقَمَةَ , وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَوْلٌ آخَرُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرِينَ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا : هُوَ أَمْلَكُ بِبُضْعِهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ هِجْرَتِهَا. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ : هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِصْرِهَا. وَقَوْلٌ آخَرُ : رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ : إنْ أَسْلَمَتْ وَلَمْ يُسْلِمْ زَوْجُهَا , فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا إِلاَّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا سُلْطَانٌ.
وَأَمَّا مِنْ رَاعَى عَرْضَ الإِسْلاَمِ فَكَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : إذَا أَسْلَمَتْ وَأَبِي أَنْ يُسْلِمَ فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْهُ بِوَاحِدَةٍ وَقَالَهُ عِكْرِمَةُ.
قال أبو محمد : لَيْسَ فِي هَذَا بَيَانُ إبَايَتِهِ بَعْدَ إسْلاَمِهَا وَقَدْ يُرِيدُ أَنْ يُسْلِمَ مَعَهَا.
وَأَمَّا مَنْ رَاعَى الْعِدَّةَ فَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ , وَمُجَاهِدٍ , وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فَمَرْوِيٌّ ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَلْقَمَةَ أَنَّ جَدَّهُ وَجَدَّتَهُ كَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ فَأَسْلَمَتْ جَدَّتُهُ ; فَفَرَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَهُمَا.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْيَهُودِيَّةِ , أَوْ النَّصْرَانِيَّةِ تُسْلِمُ تَحْتَ الْيَهُودِيِّ , أَوْ النَّصْرَانِيِّ. قَالَ : يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا , الإِسْلاَمُ يَعْلُو ، وَلاَ يُعْلَى عَلَيْهِ وَبِهِ يُفْتِي حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : نِسَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ لَنَا حِلٌّ , وَنِسَاؤُنَا عَلَيْهِمْ حَرَامٌ. وَصَحَّ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِيَّيْنِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمَا , قَالَ : قَدْ انْقَطَعَ مَا بَيْنَهُمَا وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي نَصْرَانِيَّةٍ أَسْلَمَتْ تَحْتَ نَصْرَانِيٍّ قَالَ : قَدْ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ , وطَاوُوس , وَمُجَاهِدٍ , وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي كَافِرَةٍ تُسْلِمُ تَحْتَ كَافِرٍ. قَالُوا : قَدْ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَعَدِيِّ بْنِ عَدِيِّ : هَذَا بِعَيْنِهِ أَيْضًا. وَعَنِ الْحَسَنِ , ثَابِتٌ أَيْضًا : أَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَرَّقَ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا.
وَرُوِيَ أَيْضًا ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.
قال أبو محمد : أَمَّا جَمِيعُ هَذِهِ الأَقْوَالِ الَّتِي قَدَّمْنَا فَمَا نَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا تُقَرُّ عِنْدَهُ وَيُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا ; فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا : نِكَاحُ الْكُفْرِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُ نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِغَيْرِ يَقِينٍ وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِ
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ قَالَ : نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الرَّازِيّ , وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْحُلْوَانِيُّ قَالَ النُّفَيْلِيُّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ , وَقَالَ الرَّازِيّ : نَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ , وَقَالَ الْحُلْوَانِيُّ : نَا يَزِيدُ ، هُوَ ابْنُ زُرَيْعٍ أَوْ ابْنُ هَارُونَ أَحَدُهُمَا بِلاَ شَكٍّ , ثُمَّ اتَّفَقَ سَلَمَةُ , وَابْنُ سَلَمَةَ , وَيَزِيدُ , كُلُّهُمْ : عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الأَوَّلِ. زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ : لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. وَزَادَ سَلَمَةُ : بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. وَزَادَ يَزِيدُ : بَعْدَ سَنَتَيْنِ. وَقَالُوا : قَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ r جَمِيعَ كُفَّارِ الْعَرَبِ عَلَى نِسَائِهِمْ , وَفِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ , وَفِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا.
قال أبو محمد : لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرُ مَا ذَكَرنَا ,
فأما قَوْلُهُمْ : إنَّ نِكَاحَ أَهْلِ الْكُفْرِ صَحِيحٌ فَلاَ يَجُوزُ فَسْخُهُ بِغَيْرِ يَقِينٍ فَصَدَقُوا , وَالْيَقِينُ قَدْ جَاءَ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ فَصَحِيحٌ يَعْنِي حَدِيثَ زَيْنَبَ مَعَ أَبِي الْعَاصِ رضي الله عنهما ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ; لأََنَّ إسْلاَمَ أَبِي الْعَاصِ كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ , وَلَمْ يَكُنْ نَزَلَ بَعْدُ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْمُشْرِكِ ,
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِإِسْلاَمِ الْعَرَبِ فَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى خَبَرٍ صَحِيحٍ بِأَنَّ إسْلاَمَ رَجُلٍ تَقَدَّمَ إسْلاَمَ امْرَأَتِهِ , أَوْ تَقَدَّمَ إسْلاَمُهَا فَأَقَرَّهُمَا عليه السلام عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ ; فَإِذْ لاَ سَبِيلَ إلَى هَذَا فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r لأََنَّهُ إطْلاَقُ الْكَذِبِ , وَالْقَوْلُ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
فإن قيل : قَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ هِنْدَ , وَامْرَأَةَ صَفْوَانَ أَسْلَمَتْ قَبْلَ صَفْوَانَ
قلنا : وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُمَا بَقِيَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَمْ يُجَدِّدَا عَقْدًا وَهَلْ جَاءَ ذَلِكَ قَطُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلٍ إلَى النَّبِيِّ r أَنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
قال أبو محمد : وَهُنَا شَغَبَ الْمَالِكِيُّونَ , وَالشَّافِعِيُّونَ :
فأما الشَّافِعِيُّونَ فَاحْتَجُّوا بِهَذَا كُلِّهِ وَبِحَدِيثِ أَبِي الْعَاصِ وَجَعَلُوا الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْعِدَّةَ. فَيُقَالُ لَهُمْ : هَبْكُمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ كُلُّ مَا ذَكَرنَا مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي أَمْرِ أَبِي الْعَاصِ , وَأَمْرِ هِنْدَ , وَامْرَأَةِ صَفْوَانَ , وَسَائِرِ مَنْ أَسْلَمَ : إنَّمَا هُوَ الْعِدَّةُ وَمَنْ أَخْبَرَكُمْ بِهَذَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ كُلِّهَا ذِكْرُ عِدَّةٍ ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا أَصْلاً , وَلاَ عِدَّةَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ مِنْ طَلاَقٍ , أَوْ وَفَاةٍ , وَالْمُعْتَقَةُ تَخْتَارُ نَفْسَهَا , وَلَيْسَتْ الْمُسْلِمَةُ تَحْتَ كَافِرٍ , وَلاَ الْبَاقِيَةُ عَلَى الْكُفْرِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ , وَلاَ الْمُرْتَدَّةُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ , فَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمُونَا بِهَذِهِ الْعِدَّةِ ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ أَبَدًا إِلاَّ بِالدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ ; فَكَيْفَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ زَيْنَبُ فِي أَوَّلِ بَعْثِ أَبِيهَا عليه السلام لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ , ثُمَّ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ وَكَانَ بَيْنَ إسْلاَمِهَا وَإِسْلاَمِهِ أَزْيَدُ مِنْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً وَقَدْ وَلَدَتْ فِي خِلاَلِ هَذَا ابْنَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي الْعَاصِ فَأَيْنَ الْعِدَّةُ لَوْ عَقَلْتُمْ
وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَإِنْ مَوَّهُوا بِامْرَأَةِ صَفْوَانَ. عُورِضُوا بِهَذَا , وَأَبِي سُفْيَانَ , وَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ذُكِّرُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ , فَظُهْر فَسَادُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد : بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ الآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ , فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى رُجُوعَ الْمُؤْمِنَةِ إلَى الْكَافِرِ. وَصَحَّ ، عَنِ النَّبِيِّ r ، أَنَّهُ قَالَ : الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَكُلُّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ هَجَرَ الْكُفْرَ الَّذِي قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ مُهَاجِرٌ. وَنَصَّ تَعَالَى عَلَى أَنَّ نِكَاحَهَا مُبَاحٌ لَنَا.
فَصَحَّ انْقِطَاعُ الْعِصْمَةِ بِإِسْلاَمِهَا. وَصَحَّ أَنَّ الَّذِي يُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لاَ يُمْسِكَ عِصْمَةً كَافِرَةً.فَصَحَّ أَنَّ سَاعَةَ يَقَعُ الإِسْلاَمُ , أَوْ الرِّدَّةُ , فَقَدْ انْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْكَافِرِ , وَعِصْمَةُ الْكَافِرَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَكَانَا كَافِرَيْنِ , أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ تَخْلِيطٌ , وَقَوْلٌ فِي الدِّينِ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
940 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مِمَّا سِوَى الْيَهُودِ , وَالنَّصَارَى , أَوْ الْمَجُوسِ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , أَوْ قَالَ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ , كَانَ بِذَلِكَ مُسْلِمًا تَلْزَمُهُ شَرَائِعُ الإِسْلاَمِ , فَإِنْ أَبَى الإِسْلاَمَ قُتِلَ.
وَأَمَّا مِنْ الْيَهُودِ , وَالنَّصَارَى , وَالْمَجُوسِ , فَلاَ يَكُونُ مُسْلِمًا بِقَوْلِ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ , إِلاَّ حَتَّى يَقُولَ : وَأَنَا مُسْلِمٌ , أَوْ قَدْ أَسْلَمْتُ , أَوْ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ حَاشَا الإِسْلاَمَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ نَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى نَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : يَا عَمُّ قُلْ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ نَا هُشَيْمٌ نَا حُصَيْنٌ ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَخْبَرَنَا أَبُو ظَبْيَانَ سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدِّثُ قَالَ : بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ r فِي سَرِيَّةٍ فَصَبَّحْنَا الْحُرُقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ فَهَزَمْنَاهُمْ وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ , وَطَعَنْتُهُ فَقَتَلْتُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ r فَقَالَ لِي : يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا فَقَالَ : أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
قال أبو محمد : فَهَذَا فِي آخِرِ الإِسْلاَمِ , وَحَدِيثُ أَبِي طَالِبٍ فِي مُعْظَمِ الإِسْلاَمِ بَعْدَ أَعْوَامٍ مِنْهُ , وَقَدْ كَفَّ الأَنْصَارِيُّ كَمَا تَرَى ، عَنْ قَتْلِهِ إذْ قَالَ : لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يَلْزَمْ أُسَامَةَ قَوَدٌ لأََنَّهُ قَتَلَهُ وَهُوَ يَظُنُّهُ كَافِرًا فَلَيْسَ قَاتِلَ عَمْدٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ الْحُلْوَانِيُّ نَا أَبُو تَوْبَةَ هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ نَا مُعَاوِيَةُ يَعْنِي ابْنَ سَلاَمٍ ، عَنْ زَيْدٍ يَعْنِي أَخَاهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاَمٍ قَالَ : نَا أَبُو أَسْمَاءَ الرَّحَبِيُّ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ r حَدَّثَهُ قَالَ : كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ r فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ; فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا , فَقَالَ : لِمَ تَدْفَعُنِي قُلْتُ : أَلاَ تَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : إنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r إنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي ثُمَّ ذَكَر الْحَدِيثَ , وَفِي آخِرِهِ إنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ : لَقَدْ صَدَقْت وَإِنَّك لَنَبِيٌّ , ثُمَّ انْصَرَفَ.
فَفِي هَذَا الْخَبَرِ ضَرَبَ ثَوْبَانُ t الْيَهُودِيَّ إذْ لَمْ يَقُلْ : رَسُولَ اللَّهِ , وَلَمْ يُنْكِرْ رَسُولُ اللَّهِ r فَصَحَّ أَنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ , إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ لاََنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَفِيهِ أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لَهُ : إنَّك لَنَبِيٌّ , وَلَمْ يُلْزِمْهُ النَّبِيُّ r بِذَلِكَ تَرْكَ دِينِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ نَا أَبُو رَوْحٍ حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ نَا شُعْبَةُ ، عَنْ وَاقِدٍ ، هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ " سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ , وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ , فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
941 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يُقْبَلُ مِنْ يَهُودِيٍّ , وَلاَ نَصْرَانِيٍّ , وَلاَ مَجُوسِيٍّ : جِزْيَةٌ , إِلاَّ بِأَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَيْنَا , وَأَنْ لاَ يَطْعَنُوا فِيهِ , وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ ; لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , قَالَ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ : مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ : إنَّمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ إلَيْكُمْ لاَ إلَيْنَا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ , قَالَ : فَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قُتِلَ.
942 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ قَالَ : إنَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الإِسْلاَمِ بَاطِنًا غَيْرَ الظَّاهِرِ الَّذِي يَعْرِفهُ الأَسْوَدُ وَالأَحْمَرُ , فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ ، وَلاَ بُدَّ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ
وَقَالَ تَعَالَى لِتُبَيِّنَّ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ فَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَقَدْ كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ.
943 - مَسْأَلَةٌ : وَكُلُّ عَبْدٍ , أَوْ أَمَةٍ كَانَا لِكَافِرَيْنِ , أَوْ أَحَدِهِمَا أَسْلَمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ فِي غَيْرِ دَارِ الْحَرْبِ : فَهُمَا حُرَّانِ , فَلَوْ كَانَا كَذَلِكَ لِذِمِّيٍّ فَأَسْلَمَا : فَهُمَا حُرَّانِ سَاعَةَ إسْلاَمِهِمَا ,
وَكَذَلِكَ مُدَبَّرُ الذِّمِّيِّ , أَوْ الْحَرْبِيِّ , أَوْ مُكَاتَبُهُمَا , أَوْ أُمُّ وَلَدِهِمَا , أَيُّهُمْ أَسْلَمَ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ إسْلاَمِهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ , أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهَا , وَلاَ يَرْجِعُ الَّذِي أَسْلَمَ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَعْطَى مِنْهَا قَبْلَ إسْلاَمِهِ , وَيَرْجِعُ بِمَا أَعْطَى مِنْهَا بَعْدَ إسْلاَمِهِ فَيَأْخُذُهُ لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً وَإِنَّمَا عَنَى تَعَالَى بِهَذَا أَحْكَامَ الدِّينِ بِلاَ شَكٍّ ,
وَأَمَّا تَسَلُّطُ الدُّنْيَا بِالظُّلْمِ فَلاَ , وَالرِّقُّ أَعْظَمُ السَّبِيلِ , وَقَدْ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِسْلاَمِ , وَنَسْأَلُ مَنْ بَاعَهُمَا عَلَيْهِ : لِمَ تَبِيعُهُمَا أَهُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ أَمْ غَيْرُ مَمْلُوكَيْنِ ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ قَالَ : لَيْسَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ صَدَقَ
وَهُوَ قَوْلُنَا وَإِذْ لَمْ يَكُونَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَهُمَا حُرَّانِ , وَإِنْ قَالَ : هُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ.
قلنا : فَلِمَ تُبْطِلُ مِلْكَهُ الَّذِي أَنْتَ تُصَحِّحُهُ بِلاَ نَصٍّ ، وَلاَ إجْمَاعٍ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ إقْرَارِك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ سَاعَةً , أَوْ سَاعَتَيْنِ , أَوْ يَوْمًا , أَوْ يَوْمَيْنِ , أَوْ جُمُعَةً , أَوْ جُمُعَتَيْنِ , أَوْ شَهْرًا , أَوْ شَهْرَيْنِ , أَوْ عَامًا , أَوْ عَامَيْنِ , أَوْ بَاقِيَ عُمُرِهَا , أَوْ عُمُرِهِ , وَكَيْفَ صَحَّ إقْرَارُك لَهُمَا فِي مِلْكِهِ مُدَّةَ تَعْرِيضِهِمَا لِلْبَيْعِ وَلَمْ يَصِحَّ , وَلَمْ يَصِحَّ إبْقَاؤُهُمَا فِي مِلْكِهِ أَكْثَرَ , وَلَعَلَّهُمَا لاَ يَسْتَبِيعَانِ فِي شَهْرٍ ; أَوْ أَكْثَرَ , وَهَلَّا أَقْرَرْتُمُوهُمَا فِي مِلْكِهِ وَحُلْتُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلْتُمْ فِي الْمُدَبَّرِ , وَأُمِّ الْوَلَدِ , وَالْمُكَاتَبِ إذَا أَسْلَمُوا وَلَئِنْ كَانَ يَجُوزُ إبْقَاؤُهُمْ فِي مِلْكِهِ إنَّ ذَلِكَ لَجَائِزٌ فِي الْعَبْدِ , وَلَئِنْ حَرُمَ إبْقَاءُ الْعَبْدِ فِي مِلْكِهِ لَيَحْرُمُ ذَلِكَ فِي أُمِّ الْوَلَدِ , وَالْمُدَبَّرِ , وَالْمُكَاتَبِ ، وَلاَ فَرْقَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ , وَقَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ مِرْيَةَ فِيهِ , وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا ، عَنْ كَافِرٍ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا , أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً , فَمِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّهُمْ يَفْسَخُونَ ذَلِكَ الشِّرَاءَ. فَنَقُولُ لَهُمْ : وَلِمَ فَسَخْتُمُوهُ وَهَلَّا بِعْتُمُوهُمَا عَلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُونَ إذَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِهِ وَمَا الْفَرْقُ
فَإِنْ قَالُوا : لأََنَّ هَذَا ابْتِدَاءُ تَمَلُّكٍ.
قلنا : نَعَمْ , فَكَانَ مَاذَا ، وَلاَ يَخْلُو ابْتِيَاعُهُ لَهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ تَمَلُّكٍ لِمَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ , وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ.
فَإِنْ قَالُوا : بَلْ لِمَا لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ.
قلنا : صَدَقْتُمْ , فَكَيْفَ أَحْلَلْتُمْ تَمَلُّكَهُ لَهُمَا مُدَّةَ تَعْرِيضِكُمْ إيَّاهُمَا لِلْبَيْعِ إذَا أَسْلَمَا فِي مِلْكِهِ
وَإِنْ قَالُوا : بَلْ لِمَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ.
قلنا : فَلِمَ فَسَخْتُمْ ابْتِيَاعَهُ لِمَا يَحِلُّ لَهُ تَمَلُّكُهُ بَلْ لِمَ تَبِيعُونَ عَلَيْهِ مَا يَحِلُّ لَهُ تَمَلُّكُهُ
فَإِنْ قَالُوا : إنَّهُمَا كَانَا فِي مِلْكِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَا فَلِمَ يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِإِسْلاَمِهِمَا.
قلنا : نَعَمْ , فَلِمَ بِعْتُمُوهُمَا عَلَيْهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ , وَقَوْلٌ بَاطِلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ , وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى , وَعَلَى رَسُولِهِ r فَيَقُولُونَ فِي تَزَوُّجِهِ عليه السلام صَفِيَّةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صَدَاقَهَا : لاَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ عِتْقِهَا , أَوْ بَعْدَ عِتْقِهَا , فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ عِتْقِهَا فَزَوَاجٌ الرَّجُلِ أَمَتَهُ لاَ يَحِلُّ , وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ عِتْقِهَا , فَقَدْ مَضَى عِتْقُهَا فَأَيْنَ الصَّدَاقُ وَقَالُوا مِثْلَ هَذَا فِي الْعِتْقِ بِالْقُرْعَةِ , وَفِي وُجُودِ الْمَرْءِ سِلْعَتَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ ; وَكُلُّ هَذَا لاَ يَدْخُلُ فِيهِ مَا أَدْخَلُوهُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الأَعْتِرَاضَاتِ الْفَاسِدَةِ , ثُمَّ لاَ يُنْكِرُونَ هَذَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ مَوْضِعُ الإِنْكَارِ حَقًّا , لأََنَّهُمْ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ وَيَقْضُونَ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ , وَهُوَ عليه السلام إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيَقْضِي ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
فَإِنْ قَالُوا : نَبِيعُهُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا تَبِيعُونَ أَنْتُمْ عَبْدَ الْمُسْلِمِ وَأَمَتَهُ إذْ شَكَوْا الضَّرَرَ , وَفِي التَّفْلِيسِ.
قلنا لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : لاَ نَبِيعُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ ، وَلاَ أَمَتَهُ أَصْلاً إِلاَّ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لاَزِمٍ لاَ يُمْكِنُنَا التَّوَصُّلُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ إِلاَّ بِبَيْعِهِمَا وَإِلَّا فَلاَ , أَوَّلُ ذَلِكَ : أَنَّنَا لاَ نَبِيعُهُمَا عَلَيْهِ إِلاَّ فِي دَيْنٍ لَزِمَهُ , أَوْ فِي نَفَقَةٍ لَزِمَتْهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةِ , أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ , أَوْ لِضَرَرٍ ثَابِتٍ ;
فأما الْحَقُّ الْوَاجِبُ فَمَا دُمْنَا نَجِدُ لَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ نَبِعْهُمَا عَلَيْهِ , فَإِنْ لَمْ نَجِدْ لَهُ غَيْرَهُمَا وَلَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى أَدَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلاَّ بِبَيْعِهِمَا فَهُمَا مَالٌ مِنْ مَالِهِ يُبَاعُ عِنْدَ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَمِنْ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ : إعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ , وَصَوَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هَذَا الْقَوْلَ , إذْ قَالَهُ سَلْمَانُ لأََبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنهما.
وَأَمَّا الضَّرَرُ الثَّابِتُ فَإِنْ أَمْكَنَنَا مَنْعُ الضَّرَرِ بِأَنْ نَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَمَةِ , وَالْعَبْدِ , بِأَنْ يُؤَاجَرَا , أَوْ يُجْعَلاَ عِنْدَ ثِقَةٍ يَمْنَعُ مِنْ الإِضْرَارِ بِهِمَا لَمْ نَبِعْهُمَا , فَإِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ بِعْنَاهُمَا , لأََنَّنَا لاَ نَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالإِثْمِ إِلاَّ بِذَلِكَ ,
وَقَالَ تَعَالَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
فَإِنْ قَالُوا : كَذَلِكَ تَحَكُّمُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ عَبِيدِهِمْ ضَرَرٌ.
قلنا : فَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الأَمَةِ وَالْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِمَا الْكَافِرِ , أَوْ سَيِّدَتِهِمَا الْكَافِرَةِ ; بَلْ هُمَا مُعْتَرِفَانِ بِالإِحْسَانِ وَالرِّفْقِ جُمْلَةً , أَلَيْسَ قَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُكُمْ بِالضَّرَرِ هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ.
فَإِنْ قَالُوا : نَخَافُ أَنْ يُفْسِدَا دِينَهُمَا بِطُولِ الصُّحْبَةِ.
قلنا : فَفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ابْنَيْهِمَا إذَا أَسْلَمَ خَوْفَ أَنْ يَفْسُدَ دِينُهُ , وَبِيعُوا عَبْدَ الْمُسْلِمِ الْفَاسِقِ وَأَمَتَهُ بِهَذَا الأَعْتِلاَلِ , لأََنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْهُ تَدْرِيبُهُمَا عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ , وَإِضَاعَةِ الصَّلاَةِ وَالظُّلْمِ , وَلاَ فَرْقَ , وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ أَصْلاً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَقَوْله تَعَالَى إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا ، وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي وُجُوبِ عِتْقِ أَمَةِ الذِّمِّيِّ , أَوْ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ لأََنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ أَنْ لاَ نَرْجِعَهَا إلَى الْكُفَّارِ وَأَنَّهُنَّ لاَ يَحْلِلْنَ لَهُمْ وَأَبَاحَ لَنَا نِكَاحَهُنَّ , وَهَذَا عُمُومٌ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ ضَرُورَةً.
فإن قيل : قوله تعالى فِي هَذِهِ الآيَةِ : وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ الزَّوْجَاتِ.
قلنا : الآيَةُ كُلُّهَا عَامَّةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنَةٍ هَاجَرَتْ بِالإِيمَانِ لِتَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَهَذَا الْحُكْمُ فِي إيتَاءِ مَا أَنْفَقُوا خَاصٌّ فِي الزَّوْجَاتِ , وَلاَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ سَائِرُ عُمُومِ الآيَةِ خُصُوصًا , إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لُغَةٌ ، وَلاَ شَرِيعَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ r مُسْلِمًا فَعَتَقَ.
فَإِنْ قَالُوا : هَذَا حُكْمُ مَنْ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الإِسْلاَمِ.
قلنا : مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَنْ قَالَ : بَلْ هَذَا حُكْمُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّائِفِ خَاصَّةً وَهَلْ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فَرْقٌ
ثم نقول لَهُمْ : وَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى هَذَا وَإِنَّمَا جَاءَ مُسْلِمًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ عَبْدٌ لِكَافِرٍ فَأَعْتَقَهُ , وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام : إنِّي إنَّمَا أَعْتَقْته , لأََنَّهُ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ , فَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ , وَقَالَ عَلَيْهِ بِلاَ بُرْهَانٍ , وَأَنْتُمْ تَقِيسُونَ الْجِصَّ عَلَى التَّمْرِ , السَّقَمُونْيَا عَلَى الْبُرِّ , وَالْكَمُّونَ عَلَيْهِمَا بِلاَ بُرْهَانٍ , وَفَرْجَ الْمُسْلِمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ عَلَى يَدِ السَّارِقِ , ثُمَّ تُفَرِّقُونَ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَعَبْدٍ مُسْلِمٍ كِلاَهُمَا أَسْلَمَ فِي مِلْكِ كَافِرٍ , إنَّ هَذَا لَعِوَجٌ مَا شِئْتُمْ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَمْرَ بِلاَلٍ , وَسَلْمَانَ , رضي الله عنهما أَنَّ كِلَيْهِمَا أَسْلَمَ وَهُمَا مَمْلُوكَانِ لِوَثَنِيٍّ وَيَهُودِيٍّ ; فَابْتَاعَ بِلاَلاً أَبُو بَكْرٍ , وَكَاتَبَ سَلْمَانَ سَيِّدُهُ , فَلَوْ كَانَا حُرَّيْنِ بِنَفْسِ إسْلاَمِهِمَا لَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَالِكَ وَلاَءِ بِلاَلٍ , وَلاَ صَحِيحَ الْعِتْقِ فِيهِ
قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ : أَمَّا أَمْرُ بِلاَلٍ فَكَانَ فِي أَوَّلِ الإِسْلاَمِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ , وَقَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا بِبِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً , لأََنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ فِي " سُورَةِ النِّسَاءِ " وَلَمْ تَكُنْ الصَّلاَةُ يَوْمَئِذٍ لاَزِمَةً , وَلاَ الزَّكَاةُ , وَلاَ الصِّيَامُ , وَلاَ الْحَجُّ , وَلاَ الْمَوَارِيثُ , وَلاَ كَانَ حَرَامًا نِكَاحُ الْوَثَنِيِّ الْمُسْلِمَةَ , وَلاَ نِكَاحُ الْمُسْلِمِ الْوَثَنِيَّةَ , وَلاَ مِلْكُ الْوَثَنِيِّ لِلْمُسْلِمِ , فَلاَ حُجَّةَ فِي أَمْرِ بِلاَلٍ.
وَأَمَّا أَمْرُ سَلْمَانَ فَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ , وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ لاَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ r بَلْ هُمْ فِي حُصُونِهِمْ مَالِكُونَ لأََنْفُسِهِمْ , وَكَانَ إسْلاَمُ سَلْمَانَ t بِلاَ خِلاَفٍ قَبْلَ الْخَنْدَقِ , وَهُوَ أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ , وَهَلاَكُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَتْلُهُمْ , وَحِصَارُهُمْ , بَعْدَ الْخَنْدَقِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ. وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّ مِلْكَ سَيِّدِهِ لَهُ بَطَلَ عَنْهُ بِإِسْلاَمِهِ أَنَّهُ كَانَ مُكَاتَبًا لَهُ بِلاَ شَكٍّ وَمَا انْتَمَى قَطُّ إلَى وَلاَءِ ذَلِكَ لْقُرَظِيِّ بَلْ انْتَمَى مَوْلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ , وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ مِنْ الْمُؤَالَفِ , وَالْمُخَالِفِ , وَالصَّالِحِ وَالطَّالِحِ ; فَلَوْ كَانَ مِلْكُهُ لَهُ صَحِيحًا وَكِتَابَتُهُ لَهُ صَحِيحَةً بِحَقِّ الْمِلْكِ لَكَانَ وَلاَؤُهُ لَهُ , وَلَوْ كَانَ وَلاَؤُهُ لَهُ لَمَا تَرَكَهُ النَّبِيُّ r يَنْتَفِي ، عَنْ وَلاَئِهِ وَفِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ وَكِفَايَةٌ , وَكَيْف وَلَوْ لَمْ يَقُمْ هَذَا الْبُرْهَانُ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لأََنَّهُمْ لاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمَرَهُ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ شَعْبَانَ عَنْهُمْ أَنَّ عَبْدَ الذِّمِّيِّ سَاعَةَ يُسْلِمْ فَهُوَ حُرٌّ. وَقَالَ أَشْهَبُ : سَاعَةَ يُسْلِمُ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فَهُوَ حُرٌّ , خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ.
وقال مالك : إذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ الذِّمِّيِّ فَهِيَ حُرَّةٌ.
وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ : إنْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ , فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ مِنْ مُسْلِمٍ , أَوْ كَافِرٍ , أَوْ لِمُسْلِمٍ , أَوْ كَافِرٍ فَهُوَ حُرٌّ سَاعَةَ بَيْعِهِ أَوْ هِبَتِهِ , وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ. قَالَ : فَإِنْ اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ , فَإِذَا حَمَلَهُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَسَاعَةَ دُخُولِهِ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ فَهَلْ سُمِعَ بِأَوْحَشَ أَوْ أَفْحَشَ مِنْ هَذَا التَّخْلِيطِ وَهِيَ أَقْوَالٌ لاَ يُعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ.
وَأَمَّا مَالِكٌ : فَإِذَا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ بِإِسْلاَمِهَا , وَهِيَ أَمَةٌ لَهُ فَقَدْ نَاقَضَ , إذْ لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدَ وَالأَمَةَ بِإِسْلاَمِهِمَا , وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ : لاَ يَسْتَرِقُّ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا ; لأََنَّهُ أَبْطَلَ اسْتِرْقَاقَهُ إيَّاهُ جُمْلَةً. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَسُئِلَ ابْنُ شِهَابٍ ، عَنْ أُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ أَسْلَمَتْ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يُفَرِّقُ الإِسْلاَمُ بَيْنَهُمَا وَتَعْتِقُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : لاَ تَعْتِقُ حَتَّى يُدْعَى هُوَ إلَى الإِسْلاَمِ , فَإِنْ أَبَى عَتَقَتْ.
قال أبو محمد : كِلاَهُمَا قَدْ أَوْجَبَ عِتْقَهَا , وَلاَ مَعْنَى لِتَأَنِّي عَرْضِ الإِسْلاَمِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ نَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ لاَ يَسْتَرِقَّ كَافِرٌ مُسْلِمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ رَقِيقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُبَاعُوا ، وَلاَ يُتْرَكُونَ يَسْتَرِقُّونَهُمْ , وَيُدْفَعُ أَثْمَانُهُمْ إلَيْهِمْ , فَمَنْ قَدَرْت عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَدُّمِك إلَيْهِ اسْتَرَقَّ شَيْئًا مِنْ سَبْيِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ قَدْ أَسْلَمَ وَصَلَّى فَأَعْتِقْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ أَرْضِنَا أَنَّ نَصْرَانِيًّا أَعْتَقَ مُسْلِمًا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَعْطُوهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ , وَوَلاَؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ.
قال أبو محمد : قَدْ رَأَى عِتْقَهُ لَهُ غَيْرَ نَافِذٍ وَرَأَى وَلاَءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا ,
وَأَمَّا إعْطَاؤُهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلاَ نَقُولُ بِهَذَا : فَإِنَّهُ لاَ حَقِّ لِلْكُفَّارِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
944 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ سُبِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الرِّجَالِ وَلَهُ زَوْجَةٌ , أَوْ مِنْ النِّسَاءِ وَلَهَا زَوْجٌ فَسَوَاءٌ سُبِيَ مَعَهَا , أَوْ لَمْ يُسْبَ مَعَهَا , وَلاَ سُبِيَتْ مَعَهُ فَهُمَا عَلَى زَوْجِيَّتِهِمَا فَإِنْ أَسْلَمَتْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا حِينَ تُسْلِمْ لِمَا قَدَّمْنَا
وَأَمَّا بَقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ فَلأََنَّ نِكَاحَ أَهْلِ الشِّرْكَ صَحِيحٌ قَدْ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r عَلَيْهِ , وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنَّ سِبَاءَهُمَا , أَوْ سَبَاءَ أَحَدِهِمَا يَفْسَخُ نِكَاحَهُمَا.
فإن قيل : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
قلنا : نَعَمْ , إذَا أَسْلَمَتْ حَلَّتْ لِسَيِّدِهَا الْمُسْلِمِ , وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا لَكَانَ مَنْ لَهُ أَمَةٌ نَاكِحٌ تَحِلُّ لَهُ ; لأََنَّهَا مِلْكُ يَمِينِهِ , وَهَذَا مَا لاَ يَقُولُهُ الْحَاضِرُونَ مِنْ خُصُومِنَا. وَقَدْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : مَنْ ابْتَاعَ أَمَةً ذَاتَ زَوْجٍ فَبَيْعُهَا طَلاَقُهَا ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا , لِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
. 945 - مَسْأَلَةٌ : وَأَيُّ الأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ أَسْلَمَ فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ أَوْلاَدِهِمَا مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا الأُُمُّ أَسْلَمَتْ أَوْ الأَبُ
وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ , وَالأَوْزَاعِيِّ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ , وَأَبِي حَنِيفَةَ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَصْحَابِهِمْ كُلِّهِمْ.
وقال مالك , وَأَبُو سُلَيْمَانَ : لاَ يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ إِلاَّ بِإِسْلاَمِ الأَبِ , لاَ بِإِسْلاَمِ الأُُمِّ. وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ : لاَ يَكُونُونَ مُسْلِمِينَ إِلاَّ بِإِسْلاَمِ الأُُمِّ ,
وَأَمَّا بِإِسْلاَمِ الأَبِ فَلاَ ; لأََنَّهُمْ تَبَعٌ لِلأُُمِّ فِي الْحُرِّيَّةِ , وَالرِّقِّ لاَ لِلأَبِ.
قال أبو محمد : مَا نَعْلَمُ لِمَنْ جَعَلَهُمْ بِإِسْلاَمِ الأَبِ خَاصَّةً مُسْلِمِينَ حُجَّةً أَصْلاً , وَنَسْأَلُهُمْ ، عَنْ قَوْلِهِمْ فِي ابْنِ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زِنَا اسْتِكْرَاهٍ فَمِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِهَا وَهَذَا تَرْكٌ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِمْ , وَوَافَقُونَا أَنَّهُ إنْ أَسْلَمَ الأَبَوَانِ , أَوْ أَحَدُهُمَا , وَلَهُمَا بَنُونَ وَبَنَاتٌ قَدْ بَلَغُوا مَبْلَغَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ لاَ يُجْبَرُونَ عَلَى الإِسْلاَمِ وَبِهِ نَقُولُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَالْبَالِغُ مُخَاطَبٌ قَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْكُفْرِ أَوْ الذِّمَّةِ , وَلَيْسَ غَيْرُ الْبَالِغِ مُخَاطَبًا كَمَا قَدَّمْنَا قَالَ مَالِكٌ : نَعَمْ , وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ حَزَوَّرًا قَدْ قَارَبَ الْبُلُوغَ وَلَمْ يَبْلُغْ فَهُوَ عَلَى دِينِهِ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ ; لأََنَّهُ لَيْسَ بَالِغًا , وَمَا لَمْ يَكُنْ بَالِغًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغُ لاَ مَنْ بَلَغَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ قَاسَ الدِّينَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ تَبْدِيلُ دِينِ الإِسْلاَمِ لأََحَدٍ ، وَلاَ يُتْرَكُ أَحَدٌ يُبَدِّلُهُ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَرْكِهِ عَلَى تَبْدِيلِهِ فَقَطْ ,
وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ , فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْبَلَ فِي الدُّنْيَا ، وَلاَ فِي الآخِرَةِ دِينٌ مِنْ أَحَدٍ غَيْرَ دِينِ الإِسْلاَمِ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَيُقَرَّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ حَتَّى يُبِينَ عَنْهُ لِسَانُهُ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ أَحَدٌ إِلاَّ عَلَى الإِسْلاَمِ حَتَّى يُعَبِّرَ ، عَنْ نَفْسِهِ ; فَمَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إقْرَارِهِ عَلَى مُفَارَقَةِ الإِسْلاَمِ الَّذِي وُلِدَ عَلَيْهِ أَقْرَرْنَاهُ , وَمَنْ لاَ لَمْ نُقِرَّهُ عَلَى غَيْرِ الإِسْلاَمِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ.
قال أبو محمد : فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يُتْرَكُ أَحَدٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الإِسْلاَمِ إِلاَّ مَنْ اتَّفَقَ أَبَوَاهُ عَلَى تَهْوِيدِهِ , أَوْ تَنْصِيرِهِ , أَوْ تَمْجِيسِهِ فَقَطْ , فَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُمَجِّسْهُ أَبَوَاهُ , وَلاَ نَصَّرَاهُ , وَلاَ هَوَّدَاهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا وُلِدَ عَلَيْهِ مِنْ الإِسْلاَمِ ، وَلاَ بُدَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ وَهَلَ قَوْمٌ فِي هَذِهِ الآيَةِ وَهَذِهِ الأَخْبَارِ وَهِيَ بَيِّنَةٌ وَهِيَ الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْفُسِ حِينَ خَلَقَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا ، عَنْ هَذَا غَافِلِينَ وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ عَطَاءٍ فِي هَذَا. فَمَرَّةً قَالَ كَقَوْلِنَا : إنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ أَيِّ أَبَوَيْهِ أَسْلَمَ. وَمَرَّةً قَالَ : هُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلاَمِ أُمِّهِمْ لاَ بِإِسْلاَمِ أَبِيهِمْ. وَمَرَّةً قَالَ : أَيُّهُمَا أَسْلَمَ وَرِثَا جَمِيعًا مَنْ مَاتَ مِنْ صِغَارِ وَلَدِهِمَا وَوَرِثَهُمَا صِغَارُ وَلَدِهِمَا.
رُوِّينَا هَذِهِ الأَقْوَالَ كُلَّهَا ، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ
رُوِّينَا ، عَنْ شُعْبَةَ ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا قَالاَ جَمِيعًا فِي الصَّغِيرِ يَكُونُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مُسْلِمًا فَيَمُوتُ : إنَّهُ يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ، عَنْ عَمْرٍو وَالْمُغِيرَةِ قَالَ عَمْرٌو : عَنِ الْحَسَنِ , وَقَالَ الْمُغِيرَةُ : عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالاَ جَمِيعًا فِي نَصْرَانِيَّيْنِ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ صِغَارٌ فَأَسْلَمَ أَحَدُهُمَا : إنَّ أَوْلاَهُمَا بِهِمْ الْمُسْلِمُ يَرِثُهُمْ وَيَرِثُونَهُ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ : إنْ أَسْلَمَ جَدُّ الصَّغِيرِ , أَوْ عَمُّهُ فَهُوَ مُسْلِمٌ بِإِسْلاَمِ أَيِّهِمَا أَسْلَمَ , وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى : الأَمْرُ فِيمَا مَضَى فِي أَوَّلِينَا الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ ، وَلاَ يُشَكُّ فِيهِ وَنَحْنُ عَلَيْهِ الآنَ أَنَّ النَّصْرَانِيِّينَ بَيْنَهَا وَلَدٌ صِغَارٌ فَأَسْلَمَتْ الأُُمُّ وَرِثَتْهُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا بَقِيَ فَلِلْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ نَصْرَانِيَّيْنِ وَهُوَ صَغِيرٌ وَلَهُ أَخٌ مِنْ أُمٍّ مُسْلِمٍ , أَوْ أُخْتٌ مُسْلِمَةٌ وَرِثَهُ أَخُوهُ , أَوْ أُخْتُهُ كِتَابَ اللَّهِ , ثُمَّ كَانَ مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ.
رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى يَقُولُ هَذَا لِعَطَاءٍ , وَسُلَيْمَانُ فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ أَدْرَكَ التَّابِعِينَ الأَكَابِرَ. وَلَسْنَا نَرَاهُ مُسْلِمًا بِإِسْلاَمِ جَدٍّ , وَلاَ عَمٍّ , وَلاَ أَخٍ , وَلاَ أُخْتٍ , إذَا اجْتَمَعَ أَبَوَاهُ عَلَى تَهْوِيدِهِ , أَوْ تَنْصِيرِهِ , أَوْ تَمْجِيسِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r
. 946 - مَسْأَلَةٌ : وَوَلَدُ الْكَافِرَةِ الذِّمِّيَّةِ , أَوْ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ زِنًا , أَوْ إكْرَاهٍ مُسْلِمٌ , وَلاَ بُدَّ ; لأََنَّهُ وُلِدَ عَلَى مِلَّةِ الإِسْلاَمِ كَمَا ذَكَرنَا ، وَلاَ أَبَوَيْنِ لَهُ يُخْرِجَانِهِ مِنْ الإِسْلاَمِ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقِ.
947 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ سُبِيَ مِنْ صِغَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَسَوَاءٌ سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا , أَوْ دُونَهُمَا هُوَ مُسْلِمٌ , وَلاَ بُدَّ ; لأََنَّ حُكْمَ أَبَوَيْهِ قَدْ زَالَ ، عَنِ النَّظَرِ لَهُ , وَصَارَ سَيِّدُهُ أَمْلَكَ بِهِ , فَبَطَلَ إخْرَاجُهُمَا لَهُ ، عَنِ الإِسْلاَمِ الَّذِي وُلِدَ عَلَيْهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا خَلَّادٌ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لاَ يَدْعُ يَهُودِيًّا , وَلاَ نَصْرَانِيًّا يُهَوِّدُ وَلَدَهُ , وَلاَ يُنَصِّرُهُ فِي مِلْكِ الْعَرَبِ وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا , وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَالأَوْزَاعِيِّ , وَالْمُزَنِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
948 - مَسْأَلَةٌ : وَمَنْ وَجَدَ كَنْزًا مِنْ دَفْنِ كَافِرٍ غَيْرِ ذِمِّيٍّ جَاهِلِيًّا كَانَ الدَّافِنُ , أَوْ غَيْرَ جَاهِلِيٍّ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ حَلاَلٌ , وَيَقْسِمُ الْخُمُسَ حَيْثُ يُقْسَمُ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ , وَلاَ يُعْطِي لِلسُّلْطَانِ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ شَيْئًا إِلاَّ إنْ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ فَيُعْطِيه الْخُمُسَ فَقَطْ , وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي فَلاَةٍ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ , أَوْ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ , أَوْ أَرْضِ عَنْوَةٍ , أَوْ أَرْضِ صُلْحٍ ; أَوْ فِي دَارِهِ , أَوْ فِي دَارِ مُسْلِمٍ , أَوْ فِي دَارِ ذِمِّيٍّ , أَوْ حَيْثُ مَا وَجَدَهُ حُكْمُهُ سَوَاءٌ كَمَا ذَكَرنَا , وَسَوَاءٌ وَجَدَهُ حُرٌّ , أَوْ عَبْدٌ , أَوْ امْرَأَةٌ ,
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآيَةَ ,
وَقَالَ تَعَالَى فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا , وَمَالُ الْكَافِرِ غَيْرِ الذِّمِّيِّ غَنِيمَةٌ لِمَنْ وَجَدَهُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ وَمِنْ حَدِيثٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ نَا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ، رضي الله عنها ، " أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهَا : أَصَبْت كَنْزًا فَرَفَعْته إلَى السُّلْطَانِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بِفِيك الْكَثْكَثُ " الْكَثْكَثُ التُّرَابُ وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ , وَلاَ يَكُونُ وُجُودُهُ فِي أَرْضٍ مُمْتَلَكَةٍ لِمُسْلِمٍ , أَوْ ذِمِّيٍّ مُوجِبًا لِمِلْكِ صَاحِبِ الأَرْضِ لَهُ لأََنَّهُ غَيْرُ الأَرْضِ , فَلاَ يَكُونُ مِلْكُ الأَرْضِ مِلْكًا لِمَا فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ صَيْدٍ , أَوْ لُقَطَةٍ , أَوْ دَفِينَةٍ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وقال الشافعي كَقَوْلِنَا , إِلاَّ ، أَنَّهُ قَالَ : إنْ ادَّعَى صَاحِبُ الأَرْضِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَهُ ثُمَّ أَقَرَّهُ فَهُوَ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لأََنَّهَا دَعْوَى لاَ بَيِّنَةَ لَهُ عَلَيْهَا فَهُوَ لِمَنْ وَجَدَهُ ; لأََنَّهُ فِي يَدِهِ وَهُوَ غَانِمُهُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ أَثَرُ اسْتِخْرَاجِهِ , ثُمَّ رَدِّهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُ صَاحِبِ الأَرْضِ حَقًّا ,
وَأَمَّا إذَا وُجِدَ كَمَا وُضِعَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَكَذِبُ مُدَّعِيه ظَاهِرٌ بِلاَ شَكٍّ.
وقال مالك : لاَ يَكُونُ لِوَاجِدِهِ إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ فِي صَحَارَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَهُوَ لَهُ بَعْدَ الْخُمُسِ , فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ عَنْوَةٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِبَقَايَا مُفْتَتِحِي تِلْكَ الْبِلاَدِ , وَفِيهِ الْخُمُسُ ; فَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ صُلْحٍ فَهُوَ كُلُّهُ لأََهْلِ الصُّلْحِ , وَلاَ خُمُسَ فِيهِ. وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَوَّلُهَا أَنَّهُ أَسْقَطَ الْخُمُسَ عَمَّا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْضِ صُلْحٍ , وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ r : وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ أَرْضَ صُلْحٍ مِنْ غَيْرِهَا. وَثَانِيهَا أَنَّهُمْ إنَّمَا صَالَحُوا عَلَى مَا يَمْلِكُونَهُ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ لاَ عَلَى مَا لاَ يَمْلِكُونَهُ ، وَلاَ هُوَ بِأَيْدِيهِمْ ، وَلاَ يَعْرِفُونَهُ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا كُلَّ رِكَازٍ فِي الأَرْضِ الَّتِي صَالَحُوا عَلَيْهَا لَوَجَبَ أَنْ تَمْلِكَهُ أَيْضًا الْعَرَبُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ فَيَكُونُ مَا وُجِدَ فِيهَا مِنْ رِكَازٍ لِلَّذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى تِلْكَ الأَرْضِ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فِيمَا وُجِدَ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ أَنَّهُ لِوَرَثَةِ الْمُفْتَتِحِينَ. فَخَطَأٌ لأََنَّ الْمُفْتَتِحِينَ لِلأَرْضِ إنَّمَا يَمْلِكُونَ مَا غَنِمُوا , لاَ مَا لَمْ يَغْنَمُوا , وَالرِّكَازُ مِمَّا لَمْ يَغْنَمُوا , وَلاَ حَصَلُوا عَلَيْهِ , وَلاَ أَخَذُوهُ ; فَلاَ حَقَّ لَهُمْ فِيهِ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّهُمْ لاَ يَجْعَلُونَ الأَرْضَ حَقًّا لِلْمُفْتَتِحَيْنِ أَرْضَ الْعَنْوَةِ وَهُمْ غَنِمُوهَا ثُمَّ يَجْعَلُونَ الرِّكَازَ الَّذِي فِيهَا حَقًّا لَهُمْ وَهُمْ لَمْ يَغْنَمُوهُ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ : هُوَ لِوَاجِدِهِ وَعَلَيْهِ فِيهِ الْخُمُسُ , وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُمُسَ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلاَّ أَنْ يَجِدَهُ فِي دَارٍ اخْتَطَّهَا مُسْلِمٌ , أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَإِنَّهُ إنْ وَجَدَهُ فِي دَارٍ اخْتَطَّهَا مُسْلِمٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْخُطَّةِ وَفِيهِ الْخُمُسُ ; وَإِنْ وَجَدَهُ فِي دَارِ حَرْبِيٍّ وَقَدْ دَخَلَهَا بِأَمَانٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِلْحَرْبِيِّ , وَإِنْ وَجَدَهُ فِي صَحْرَاءَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كُلُّهُ لِوَاجِدِهِ ، وَلاَ خُمُسَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , وَخِلاَفٌ لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ r بِأَنَّ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسَ فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ ; ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا التَّقْسِيمُ ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ , وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ , وَفِيهِ ، عَنِ السَّلَفِ آثَارٌ. مِنْهَا : مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ : أَنَّ عَلِيًّا أَتَاهُ رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَدَهَا فِي خَرِبَةٍ بِالسَّوَادِ ,
فَقَالَ عَلِيٌّ : إنْ كُنْت وَجَدَتْهَا فِي قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ تَحْمِلُ خَرَاجَهَا قَرْيَةٌ عَامِرَةٌ فَهِيَ لَهُمْ , وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَحْمِلُ خَرَاجَهَا فَلَكَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ وَلَنَا خُمُسُهُ , وَسَأُطَيِّبُهُ لَك جَمِيعًا. وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ الْحَنَفِيِّينَ , وَالْمَالِكِيِّينَ , لأََنَّ السَّوَادَ أُخِذَ عَنْوَةً لاَ صُلْحًا , وَكَانَ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ دَارَ إسْلاَمٍ , وَقَبْلَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ , وَشَيْءٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ : أَنَّ أَبَا مُوسَى وَجَدَ دَانْيَالَ بِالسُّوسِ إذْ فَتَحَهَا وَمَعَهُ مَالٌ إلَى جَنْبِهِ , كَانُوا يَسْتَقْرِضُونَ مِنْهُ مَا احْتَاجُوا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى , فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الأَجَلُ وَلَمْ يَرُدَّهُ الْمُسْتَقْرِضُ بَرِصَ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بِذَلِكَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : كَفِّنْهُ , وَحَنِّطْهُ , وَصَلِّ عَلَيْهِ , وَادْفِنْهُ كَمَا دُفِنَتْ الأَنْبِيَاءُ وَاجْعَلْ الْمَالَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ,
وَهَذَا صَحِيحٌ , لأََنَّهُ لَمْ يَكُنْ رِكَازًا , إنَّمَا كَانَ مَعْلُومًا ظَاهِرًا , وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ فَيُخَمَّسَ وَيُغْنَمَ ; بَلْ كَانَ مَالَ نَبِيٍّ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي مَصَالِحِهِمْ. وَمِنْهَا : خَبَرٌ ، عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ رِيَاحٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُمْ أَصَابُوا قَبْرًا بِالْمَدَائِنِ , وَفِيهِ مَيِّتٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ مَنْسُوجَةٌ بِالذَّهَبِ , وَمَعَهُ مَالٌ فَكَتَبَ فِيهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَعْطِهِمْ إيَّاهُ ، وَلاَ تَنْزِعْهُ مِنْهُمْ وَهَذَا قَوْلُنَا لاَ قَوْلُهُمْ , إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ خُمُسٍ ; ، وَلاَ بُدَّ مِنْ الْخُمُسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ. وَخَبَرٌ مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ ، عَنْ مُجَالِدٍ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ : أَنَّ رَجُلاً وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجَ الْمَدِينَةِ , فَأَتَى بِهَا عُمَرَ , فَأَخَذَ خُمُسَهَا مِائَتَيْ دِينَارٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ الْبَاقِيَ ; ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى أَنْ فَضَلَ مِنْهَا فَضْلَةٌ فَدَفَعَهَا إلَى وَاجِدِهَا وَهَذَا قَوْلُنَا , إِلاَّ فِي صِفَةِ قِسْمَتِهِ الْخُمُسَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ : أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدًا وَجَدَ رِكْزَةً عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَأَعْتَقَهُ مِنْهَا , وَأَعْطَاهُ مِنْهَا , وَجَعَلَ سَائِرَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا , وَسَوَاءٌ عِنْدَنَا وَجَدَ الرِّكَازَ حُرٌّ , أَوْ عَبْدٌ , الْحُكْمُ عِنْدَنَا ] وَاحِدٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا.
وَرُوِّينَا خَبَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الزَّمْعِيِّ ، عَنْ عَمَّتِهِ قُرَيْبَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ أُمِّهَا كَرِيمَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ ، عَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ : أَنَّ الْمِقْدَادَ خَرَجَ إلَى حَاجَتِهِ بِبَقِيعِ الْخَبْخَبَةِ فَإِذَا جُرَذٌ يُخْرِجُ مِنْ جُحْرٍ دِينَارًا بَعْدَ دِينَارٍ , ثُمَّ أَخْرَجَ خِرْقَةً حَمْرَاءَ فَكَانَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَأَخَذَهَا وَحَمَلَهَا إلَى النَّبِيِّ r فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : هَلْ أَهْوَيْتَ الْجُحْرَ قَالَ : لاَ , قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا وَهَذَا خَبَرٌ لَيْسَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرنَا وَإِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ , الزَّمْعِيُّ ، عَنْ عَمَّتِهِ قَرِيبَةَ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ ; وَلَعَلَّ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ مِنْ دَفْنِ مُسْلِمٍ مَجْهُولٍ مَيْئُوسٍ ، عَنْ مَعْرِفَتِهِ فَهِيَ لِمَنْ وَجَدَهَا عِنْدَنَا كُلَّهَا. وَخَبَرٌ آخَرُ : مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي خُرُوجِهِ إلَى الطَّائِفِ فَمَرُّوا بِقَبْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ , فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ , وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ إنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ وَجَدْتُمُوهُ , فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَوَجَدُوا الْغُصْنَ وَهَذَا لاَ يَصِحُّ , لأََنَّهُ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ ; ثُمَّ لاَ حُجَّةَ فِيهِ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرنَا ; وَإِنَّمَا فِيهِ نَبْشُ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
949 - مَسْأَلَةٌ : وَيُقْسَمُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَخُمُسُ الْغَنِيمَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ : فَسَهْمٌ يَضَعُهُ الإِمَامُ حَيْثُ يَرَى مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ صَلاَحٌ وَبِرٌّ لِلْمُسْلِمِينَ. وَسَهْمٌ ثَانٍ لِبَنِي هَاشِمٍ , وَالْمُطَّلِبِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ , غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ , وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ , وَصَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ , وَصَالِحُهُمْ وَطَالِحُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلاَ حَظَّ فِيهِ لِمَوَالِيهِمْ , وَلاَ لِحُلَفَائِهِمْ , وَلاَ لِبَنِي بَنَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ ] ، وَلاَ لأََحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى سِوَاهُمْ , وَلاَ لِكَافِرٍ مِنْهُمْ. وَسَهْمٌ ثَالِثٌ لِلْيَتَامَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ أَيْضًا. وَسَهْمٌ رَابِعٌ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَسَهْمٌ خَامِسٌ لأَبْنِ السَّبِيلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ فَسَّرْنَا الْمَسَاكِينَ , وَابْنَ السَّبِيلِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فَأَغْنَى ، عَنْ إعَادَةِ ذَلِكَ وَالْيَتَامَى هُمْ الَّذِينَ قَدْ مَاتَ آبَاؤُهُمْ فَقَطْ ; فَإِذَا بَلَغُوا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ اسْمُ الْيُتْمِ وَخَرَجُوا مِنْ السَّهْمِ. بُرْهَانُ ذَلِكَ قوله تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ , وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ , فَلاَ يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجُ ، عَنْ قِسْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا :
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا هُشَيْمٌ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ r سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ , وَبَنِي الْمُطَّلِبِ , وَتَرَكَ : بَنِي نَوْفَلٍ , وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ , قَالَ : فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ r بَنُو هَاشِمٍ لاَ نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ , فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا , وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لاَ نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ ، وَلاَ إسْلاَمٍ , وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ جَلِيٌّ وَإِسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَرَجٍ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ الْعَبْقَسِيُّ الْمَكِّيُّ نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ النَّيْسَابُورِيُّ نَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ نَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ نَا أَبِي قَالَ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يَقُولُ : حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام مِثْلَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرنَا , وَفِيهِ " قَالَ : فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ r بَيْنَهُمْ خُمُسَ الْخُمُسِ مِنْ الْقَمْحِ وَالتَّمْرِ وَالنَّوَى. وَهَذَا أَيْضًا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ , وَهُوَ يُبَيِّنُ أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ تَعَالَى , وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ , وَهُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ. نَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ نَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جَبْرُونَ نَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ نَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ نَا أَبِي نَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ نَا عَلِيُّ بْنُ سُوَيْد بْنِ مَنْجُوفٍ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r بَعَثَ عَلِيًّا إلَى خَالِدٍ لِيَقْسِمَ الْخُمُسَ فَاصْطَفَى عَلِيٌّ مِنْهَا سَبِيَّةً فَأَصْبَحَ يَقْطُرُ رَأْسَهُ , فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ : أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَ هَذَا الرَّجُلُ قَالَ بُرَيْدَةَ : وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا , فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ r فَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ , قَالَ : أَتُبْغِضُ عَلِيًّا قُلْتُ : نَعَمْ , قَالَ : فَأَحِبَّهُ , فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ , وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ امْرِئٍ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَحْدُودٌ مَعْرُوفُ الْقَدْرِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ نَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ( قَالَ ) أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ جَاءَ هُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكَلِّمَانِ رَسُولَ اللَّهِ r فِيمَا قَسَمَ مِنْ الْخُمُسِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ , وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَسَمْتَ لأَِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ تُعْطِنَا شَيْئًا , وَقَرَابَتُنَا وَقَرَابَتُهُمْ مِنْكَ وَاحِدَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ r : إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ , قَالَ جُبَيْرٌ : وَلَمْ يَقْسِمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ , وَلاَ لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ ذَلِكَ الْخُمُسِ كَمَا قَسَمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ , قَالَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقْسِمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ r غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ r مَا كَانَ النَّبِيُّ r يُعْطِيهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعْطِيهِمْ مِنْهُ , وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ ". فَهَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالْبَيَانِ , وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ r يُعْطِيهِمْ , فَهُوَ مَا كَانَ عليه السلام يَعُودُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِ , وَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُسْلِمِينَ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ أَشَدَّ ,
وَأَمَّا أَنْ يَمْنَعَهُمْ الْحَقَّ الْمَفْرُوضَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ r لَهُمْ فَيُعِيذُ اللَّهُ تَعَالَى أَبَا بَكْرٍ t مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ نَا يَحْيَى أَبِي بُكَيْرٍ نَا أَبُو جَعْفَرٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ قَاضِي الرَّيِّ ، عَنْ مُطَرِّفٍ ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : " سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ : وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ r خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ r وَحَيَاةَ أَبِي بَكْرٍ وَحَيَاةَ عُمَرَ , فَأَتَى بِمَالٍ فَدَعَانِي فَقَالَ : خُذْهُ فَقُلْتُ : لاَ أُرِيدُهُ , قَالَ : خُذْهُ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ , قُلْتُ : قَدْ اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ , فَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ ثِقَةٌ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى نَجْدَةَ : وَكَتَبْت تَسْأَلُنِي ، عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَنْ هُمْ ; وَإِنَّا زَعَمْنَا أَنَّا هُمْ , فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. فَهَذِهِ الأَخْبَارُ الصِّحَاحُ الْبَيِّنَةُ ، وَلاَ يُعَارِضُهَا مَا لاَ يَصِحُّ , أَوْ مَا مَوَّهَ بِهِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ ,
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَقَدْ رُوِيَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نَا أَبُو نُعَيْمٍ ، عَنْ زُهَيْرٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُرِّ نَا الْحَكَمُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خُمُسُ الْخُمُسِ سَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى , وَسَهْمُ رَسُولِهِ r
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَيْضًا أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ، عَنْ هُشَيْمٍ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ , قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى , وَخُمُسُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ r وَاحِدٌ , وَيُقْسَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ ، عَنْ سَعِيدٍ ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ , فَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا , ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي عَلَى خَمْسَةِ أَخْمَاسٍ , فَخُمُسٌ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ , وَخُمُسٌ لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ r وَخُمُسٌ لِلْيَتَامَى , وَخُمُسٌ لأَبْنِ السَّبِيلِ , وَخُمُسٌ لِلْمَسَاكِينِ.
قال أبو محمد :
وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ , وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي ثَوْرٍ , وَإِسْحَاقَ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ , وَالنَّسَائِيُّ , وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ , وَآخِرُ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ. إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : لِلذَّكَرِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَيْ مِثْلُ حَظِّ الأُُنْثَيَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَصٌّ أَصْلاً وَلَيْسَ مِيرَاثًا فَيُقْسَمُ كَذَلِكَ , وَإِنَّمَا هِيَ عَطِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى , فَهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ.
وقال مالك : يُجْعَلُ الْخُمُسُ كُلُّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ , وَيُعْطَى أَقْرِبَاءُ رَسُولِ اللَّهِ r عَلَى مَا يَرَى الإِمَامُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مَحْدُودٌ. قَالَ أَصْبَغُ بْنُ فَرَجٍ : أَقْرِبَاؤُهُ عليه السلام هُمْ جَمِيعُ قُرَيْشٍ.
وقال أبو حنيفة : يُقْسَمُ الْخُمُسُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَسْهُمٍ : الْفُقَرَاءِ , وَالْمَسَاكِينِ , وَابْنِ السَّبِيلِ.
قَالَ عَلِيٌّ : هَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ , لأََنَّهَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ نَصًّا , وَخِلاَفُ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ , وَلاَ يُعْرَفُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ قَبْلَهُ ,
وَقَدْ تَقَصَّيْنَا كُلَّ مَا شَغَبُوا بِهِ فِي كِتَابِ الإِيصَالِ , وَجِمَاعُ كُلِّ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ تَأَمَّلَهُ أَنَّهُمْ إنَّمَا احْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِيِّ , وَنُظَرَائِهِ , أَوْ مُرْسَلَةٍ , أَوْ صِحَاحٍ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ادَّعَوْهُ أَصْلاً , أَوْ قَوْلٍ ، عَنْ صَاحِبٍ قَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْهُمْ ، وَلاَ مَزِيدَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
950 - مَسْأَلَةٌ : وَتُقْسَمُ الأَرْبَعَةُ الأَخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَ الْخُمُسِ عَلَى مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ , أَوْ الْغَنِيمَةَ , لِصَاحِبِ الْفَرَسِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ : لَهُ سَهْمٌ , وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ , وَلِلرَّاجِلِ , وَرَاكِبِ الْبَغْلِ , وَالْحِمَارِ , وَالْجَمَلِ : سَهْمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ.
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ , وَالشَّافِعِيِّ , وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ : لَهُ سَهْمٌ , وَلِفَرَسِهِ سَهْمٌ , وَلِسَائِرِ مَنْ ذَكَرنَا سَهْمٌ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ.
وقال أحمد : لِلْفَارِسِ ثَلاَثَةُ أَسْهُمٍ , وَلِرَاكِبِ الْبَعِيرِ سَهْمَانِ , وَلِغَيْرِهِمَا سَهْمٌ.
قال أبو محمد : أَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا لَهُ بِآثَارٍ ضَعِيفَةٍ. مِنْهَا : مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ بْن جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الأَنْصَارِيِّ وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أَعْطَى لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ , وَالرَّاجِلِ سَهْمًا. مُجَمِّعٌ مَجْهُولٌ وَأَبُوهُ كَذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ , وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الَّذِي يَرْوِي ، عَنْ نَافِعٍ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. وَعَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ، عَنْ مَكْحُولٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ فَضِيحَةٌ مَجْهُولٌ , وَمُرْسَلٌ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ : لاَ أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ ; فَيُقَالُ لَهُ : وَتُسَاوِي بَيْنَهُمَا إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ ; فَإِذَا جَازَتْ الْمُسَاوَاةُ فَمَا مَنَعَ التَّفْضِيلَ ثُمَّ هُوَ يُسْهِمُ لِلْفَرَسِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتَلْ عَلَيْهِ , وَلاَ يُسْهِمُ لِلْمُسْلِمِ التَّاجِرِ , وَلاَ الأَجِيرِ إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلاَ ; فَقَدْ فَضَّلَ بَهِيمَةً عَلَى إنْسَانٍ , ثُمَّ هُوَ يَقُولُ فِي إنْسَانٍ قَتَلَ كَلْبًا لِمُسْلِمٍ , وَعَبْدًا مُسْلِمًا فَاضِلاً , وَخِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ : قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ , فَإِنَّهُ يُؤَدِّي فِي الْكَلْبِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ , وَفِي الْخِنْزِيرِ ذَلِكَ , وَلاَ يُعْطِي فِي الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ , فَاعْجَبُوا لِهَذَا الرَّأْيِ السَّاقِطِ وَاحْمَدُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى السَّلاَمَةِ , فَقَدْ فَضَّلَ الْبَهِيمَةَ عَلَى الإِنْسَانِ. قَالُوا : قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى السَّهْمَيْنِ .
.
فَقُلْنَا لَهُمْ : إنْ كُنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِمَا صَحَّ ، عَنِ النَّبِيِّ r كَلَّمْنَاكُمْ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ وَدَعَوَاكُمْ الإِجْمَاعَ هَاهُنَا كَذِبٌ وَمَا نَدْرِي لَعَلَّ فِيمَنْ أَخْطَأَ كَخَطَئِكُمْ , ثُمَّ مَنْ يَقُولُ : لاَ يُفَضَّلُ فَارِسٌ عَلَى رَاجِلٍ , كَمَا لاَ يُفَضَّلُ رَاكِبُ الْبَغْلِ عَلَى الرَّاجِلِ , وَكَمَا لاَ يُفَضَّلُ الشُّجَاعُ الْبَطَلُ الْمُبْلِي , عَلَى الْجَبَانِ الضَّعِيفِ الْمَرِيضِ. ثُمَّ لَوْ طَرَدْتُمْ أَصْلَكُمْ هَذَا لَوَجَبَ أَنْ تُسْقِطُوا الزَّكَاةَ ، عَنْ كُلِّ مَا أَوْجَبْتُمُوهَا فِيهِ مِنْ الْعَسَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَلَبَطَلَ قَوْلُكُمْ فِي دِيَةِ الْكَافِرِ لأََنَّهُ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا يَهْدِمُ عَلَيْكُمْ أَكْثَرَ مَذَاهِبِكُمْ. وَرَوَوْا : أَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ , مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ ، عَنِ الْحَكَمِ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ , وَهُمْ يَرَوْنَ حُكْمَ عُمَرَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ سُنَّةً , فَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلُوهُ سُنَّةً أَيْضًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عُبَيْدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ r لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ , وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ نَا زَائِدَةُ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ r لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا يَوْمَ خَيْبَرَ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ لِصِحَّتِهِ , وَلأََنَّهُ لَوْ صَحَّتْ تِلْكَ الأَخْبَارُ لَكَانَ هَذَا زَائِدًا عَلَيْهَا , وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لاَ يَجُوزُ رَدُّهَا.
وَهُوَ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ , وَالْحَسَنِ , وَابْنِ سِيرِينَ , ذُكِرَ ذَلِكَ ، عَنِ الصَّحَابَةِ .
وَبِهِ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ ].


[[تصنيف:محلى ابن حزم]]

مراجعة 03:43، 28 ديسمبر 2006