هداية الحيارى

من معرفة المصادر

هداية الحيارى

للحافظ ابن القيم (رحمه الله)

خطبة الكتاب

الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً، وذخر لمن وافاه به ثوابا جزيلا وفوزاً عظيماً، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، والاعتصام بعراه وأسبابه. (ص 3)

فهو دينه الذي ارتضاه لنفسه ولأنبيائه ورسله وملائكة قدسه، فبه اهتدى المهتدون وإليه دعا الأنبياء والمرسلون (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون)، فلا يقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين، (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) شهد بأنه دينه قبل شهادة الأنام، وأشاد به ورفع ذكره وسمى به وما اشتملت عليه الأرحام، فقال تعالى:

(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند لله الإسلام)، وجعل أهله هم الشهداء على الناس يوم يقوم الأشهاد، لما فضلهم به من الإصابة في القول والعمل والهدى والنية والاعتقاد، إذ كانوا أحق بذلك وأهله في سابق التقدير، فقال:

(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير).

وحكم سبحانه بأنه أحسن الأديان، ولا أحسن من حكمه ولا أصدق منه قيلاً فقال: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا).

وكيف لا يميز من له أدنى عقل يرجع إليه بين دين قام أساسه وارتفع بناؤه على عباده الرحمن، والعمل بما يحبه ويرضاه مع الإخلاص في السر والإعلان، ومعاملة خلقه بما أمر به من العدل والإحسان، مع إيثار طاعته على طاعة الشيطان، وبين دين أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار بصاحبه في النار، أسس على عبادة النيران، وعقد الشركة بين الرحمن والشيطان، وبينه وبين الأوثان، أو دين أسس بنيانه على عبادة الصلبان والصور المدهونة في السقوف والحيطان، وأن رب العالمين نزل عن كرسي عظمته فالتحم ببطن أنثى، وأقام هناك مدة من الزمان، بين دم الطمث في ظلمات الأحشاء تحت ملتقى الأعكان، ثم خرج صبياً رضيعاً يشب شيئاً فشيئاً ويبكي ويأكل ويشرب، ويبول وينام، ويتقلب مع الصبيان.

ثم (ص 4) أودع في المكتب بين صبيان اليهود يتعلم ما ينبغي للإنسان، هذا وقد قطعت منه القلفة حين الختان، ثم جعل اليهود يطردونه ويشردونه من مكان إلى مكان.

ثم قبضوا عليه، وأحلوه أصناف الذل والهوان، فعقدوا على رأسه من الشوك تاجا من أقبح التيجان، وأركبوه قصبة ليس لها لجام ولا عنان، ثم ساقوه إلى خشبة الصلب مصفوعاً مبصوقاً في وجهه، وهم خلفه وأمامه وعن شمائله وعن الأيمان.

ثم أركبوه ذلك المركب الذي تقشعر منه القلوب مع الأبدان، ثم شدت بالحبال يداه مع الرجلان، ثم خالطهما تلك المسامير التي تكسر العظام وتمزق اللحمان، وهو يستغيث: يا قوم ارحموني! فلا يرحمه منهم إنسان.

هذا وهو مدبر العالم العلوي والسفلي الذي يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن.

ثم مات ودفن في التراب تحت صم الجنادل والصوان، ثم قام من القبر وصعد إلى عرشه وملكه بعد أن كان ما كان، فما ظنك بفروع هذا أصلها الذي قام عليه البنيان، أو دين أسس بنيانه على عبادة الإله المنحوت بالأيدي بعد نحت الأفكار من سائر أجناس الأرض، على اختلاف الأنواع والأصناف والألوان، والخضوع له والتذلل والخرور سجودا على الأذقان، لا يؤمن من يدين به بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه يوم يجزى المسيء بإساءته والمحسن بالإحسان.

أو دين اليهود... الذين... فارقوا أحكام التوراة ونبذوها وراء ظهورهم واشتروا بها من الأثمان، فترحل عنهم التوفيق وقارنهم الخذلان واستبدلوا بولاية الله وملائكته ورسله وأوليائه ولاية الشيطان.

أو دين أسس بنيانه على أن رب العالمين وجود مطلق في الأذهان، لا حقيقة له في الأعيان، ليس بداخل في العالم ولا خارج عنه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا محايث ولا مباين له، لا يسمع، ولا يرى، ولا يعلم شيئاً من الموجودات ولا يفعل ما يشاء، لا حياة له، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار، ولم يخلق السموات والأرض في ستة أيام؛ بل لم تزل السموات والأرض معه وجودها مقارن لوجوده، لم يحدثها بعد عدمها ولا له قدرة على إفنائها بعد وجودها، ما أنزل على بشر كتاباً، ولا أرسل إلى الناس رسولاً.

فلا شرع يتبع، ولا رسول يطاع، ولا دار بعد هذه الدار، ولا مبدأ للعالم ولا معاد، ولا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، إن هي إلا تسعة أفلاك وعشرة عقول، وأربعة أركان وأفلاك تدور، ونجوم تسير، وأرحام تدفع، وأرض تبلع، و (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون).

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا صاحبة له، (ص 5) ولا ولد له، ولا كفؤ له، تعالى عن إفك المبطلين، وخرص الكاذبين، وتقدس عن شرك المشركين، وأباطيل الملحدين.

كذب العادلون به سواه، وضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبيناً (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون. عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون).

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من خلقه وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، ابتعثه بخير ملة وأحسن شرعة، وأظهر دلالة وأوضح حجة، وأبين برهان إلى جميع العالمين أنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، حاضرهم وباديهم، الذي بشرت به الكتب السالفة، وأخبرت به الرسل الماضية، وجرى ذكره في الأعصار في القرى والأمصار والأمم الخالية، ضربت لنبوته البشائر من عهد آدم أبي البشر، إلى عهد المسيح ابن البشر.

كلما قام رسول أخذ عليه الميثاق بالإيمان به والبشارة بنبوته حتى انتهت النبوة إلى كليم الرحمن: موسى بن عمران، فأذن بنبوته على رؤوس الأشهاد بين بني إسرائيل معلنا بالأذان:

((جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)) إلى أن ظهر المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم فأذن بنبوته أذاناً لم يؤذنه أحد مثله قبله، فقام في بني إسرائيل مقام الصادق الناصح، وكانوا لا يحبون الناصحين فقال: (إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين).

تالله لقد أذن المسيح أذاناً أسمعه البادي والحاضر، فأجابه المؤمن المصدق وقامت حجة الله على الجاحد الكافر، الله أكبر الله أكبر عما يقول فيه المبطلون ويصفه به الكاذبون، وينسبه إليه المفترون والجاحدون، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند له، ولا كفؤ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

ثم رفع صوته بالشهادة لأخيه، وأولى الناس بأنه عبد الله ورسوله، وأنه أركون العالم، وأنه روح الحق لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول ما يقال له وأنه يخبر الناس بكل ما أعد الله لهم، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالغيوب، ويجيئهم بالتأويل، ويوبخ العالم على الخطيئة، ويخلصهم من يد الشيطان، وتستمر شريعته وسلطانه إلى آخر الدهر. وصرح في أذانه باسمه ونعته وسيرته حتى كأنهم ينظرون إليه عيانا.

ثم قال: حي على الصلاة خلف إمام المرسلين وسيد ولد آدم أجمعين، حي على الفلاح باتباع من السعادة في اتباعه، والفلاح في الدخول في زمرة أشياعه، فأذن، وأقام، وتولى، وقال: ((لست أدعكم كالأيتام، وسأعود وأصلي وراء هذا الإمام، هذا عهدي إليكم إن حفظتموه دام لكم الملك إلى آخر الأيام))، فصلى الله عليه من ناصح بشر برسالة أخيه (ص 6) عليهما أفضل الصلاة والسلام.

وصدق به أخوه ونزهه عما قال فيه وفي أمه أعداؤه المغضوب عليهم من الإفك والباطل وزور الكلام، كما نزه ربه وخالقه ومرسله عما قال فيه النصارى، ونسبوه إليه من النقض والعيب والذم.

فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتعالى جده ولا إله غيره جعل الإسلام عصمة لمن لجأ إليه، وجنة لمن استمسك به وعض بالنواجذ عليه، فهو حرمه الذي من دخله كان من الآمنين، وحصنه الذي من لجأ إليه كان من الفائزين ومن انقطع دونه كان من الهالكين، وأبى أن يقبل من أحد دينا سواه، ولو بذل في المسير إليه جهده واستفرغ قواه، فأظهره على الدين كله حتى طبق مشارق الأرض ومغاربها، وسار مسير الشمس في الأقطار، وبلغ إلى حيث انتهى الليل والنهار.

وعلت الدعوة الإسلامية، وارتفعت غاية الارتفاع والاعتلاء، بحيث صار أصلها ثابت وفرعها في السماء فتضاءلت لها جميع الأديان، وجرت تحتها الأمم منقادة بالخضوع والذل والإذعان، ونادى المنادي بشعارها في جو السماء بين الخافقين: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صارخا بالشهادتين، حتى بطلت دعوة الشيطان، وتلاشت عبادة الأوثان، واضمحلت عبادة النيران، وذل المثلثة عباد الصلبان.

وتقطعت اليهود... في الأرض كتقطع السراب في القيعان، وصارت كلمة الإسلام العليا، وصار له في القلوب الخلائق المثل الأعلى، وقامت براهينه وحججه على سائر الأمم في الآخرة والأولى، وبلغت منزلته في العلا والرفعة الغاية القصوى، وأقام لدولته ومصطفيه أعوانا وأنصارا نشروا ألويته وأعلامه، وحفظوا من التغيير والتبديل حدوده وأحكامه، وبلغوا إلى نظائرهم كما بلغ إليهم من قبلهم، حلاله وحرامه، فعظموا شعائره، وعلموا شرائعه، وجاهدوا أعدائه بالحجة والبيان حتى (استغلظ واستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار) وعلا بنيانه المؤسس على تقوى من الله ورضوان إذ كان بناء غير مؤسسا على شفا جرف هار.

فتبارك الذي رفع منزلته وأعلىملكته وفخم شأنه وأشاد بنيانه وأذل مخالفيه ومعانديه، وكبت من يبغضه ويعاديه، ووسمهم بأنهم شرالدواب، وأعد لهم إذا قدموا عليه أليم العقاب، وحكم لهم بأنهم أضل سبيلاً من الأنعام، إذ استبدلوا الشرك بالتوحيد، والضلال بالهدى، والكفر بالإسلام، وحكم سبحانه لعلماء الكفر وعباده حكما يشهد ذووا العقول بصحته، ويرونه شيئا حسنا، فقال تعالى:

(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا). (ص 7)

(الفصل الأول) تمهيد

أين يذهب من تولى عن توحيد ربه وطاعته، ولم يرفع رأسا بأمره ودعوته، وكذب رسوله وأعرض عن متابعته، وحاد عن شريعته، ورغب عن ملته، واتبع غير سنته، ولم يستمسك بعهده، ومكن الجهل من نفسه، والهوى والعناد من قلبه، والجحود والكفر من صدره، والعصيان والمخالفة من جوارحه، فقد قابل خبر الله بالتكذيب، وأمره بالعصيان، ونهيه بالارتكاب، يغضب الرب وهو راض، ويرضى وهو غضبان، يحب ما يبغض، ويبغض ما يحب، ويوالي من يعاديه، ويعادي من يواليه، يدعو إلى خلاف ما يرضى، وينهى عبدا إذا صلى قد (اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) فأصمه وأبكمه وأعماه، فهو ميت الدارين، فاقد السعادتين، قد رضي بخزي الدنيا وعذاب الآخرة، وباع التجارة الرابحة بالصفقة الخاسرة، فقلبه عن ربه مصدود، وسبيل الوصول إلى جنته ورضاه وقربه عنه مسدود، فهو ولي الشيطان وعدو الرحمن، وحليف الكفر والفسوق والعصيان.

رضي المسلمون بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، ورضي المخذول بالصليب والوثن إلها، وبالتثليث والكفر دينا، وبسبيل الضلال والغضب سبيلا، أعصى الناس للخالق الذي لا سعادة له إلا في طاعته، وأطوعهم للمخلوق الذي ذهاب دنياه وأخراه في طاعته، فإذا سئل في قبره:

((من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ قال: هاه هاه، لا أدري. فيقال: لا دريت، ولا تليت، وعلى ذلك حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرم على قبره نارا، ويضيق عليه كالزج في الرمح إلى قيام الساعة)).

وإذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور، وقام الناس لرب العالمين، ونادى المنادي (وامتازوا اليوم أيها المجرمون)، ثم رفع لكل عابد معبوده الذي كان يعبده ويهواه، وقال الرب تعالى وقد أنصت له الخلائق: ((أليس عدلا مني أن أولي كل إنسان منكم ما كان في الدنيا يتولاه))؟ .

فهناك يعلم المشرك حقيقة ما كان عليه، ويتبين له سوء منقلبه وما صار إليه، ويعلم الكفار أنهم لم يكونوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).

أهل الأرض قبل الإسلام

(فصل) أهل الأرض صنفين: ((اليهود))

ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان أهل الأرض صنفين:أهل الكتاب، (ص 8) وزنادقة لا كتاب لهم، وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين، وهم نوعان: مغضوب عليهم، وضالون.

فأمة اليهود هم: ((اليهود))... قتلة الأنبياء... لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة...

(فصل) ((المثلثة))

والصنف الثاني ((المثلثة)):... النصارى، الذين سبوا الله الخالق مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولم يقروا بأنه الواحد الأحد الفرد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء بل قالوا فيه ما: (تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً)، فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن، فدينها عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم:

يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا!

فدينهم شرب الخمور، وأكل الخنزير، وترك الختان، والتعبد بالنجاسات، واستباحة كل خبيث من الفيل إلى البعوضة، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجيهم من عذاب السعير.

(فصل) وصف حال من لا كتاب له

فهذا حال من له كتاب، وأما من لا كتاب له:

فهو بين عابد أوثان، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئ حيران يجمعهم الشرك، وتكذيب الرسل وتعطيل الشرائع، وإنكار المعاد وحشر الأجساد لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحدونه مع الموحدين.

((وأمة المجوس)) منهم تستفرش الأمهات والبنات والأخوات، دع العمات والخالات، دينهم الزمر، وطعامهم الميتة، وشرابهم الخمر(ص 9)، ومعبودهم النار، ووليهم الشيطان، فهم أخبث بني آدم نحلة، وأرداهم مذهبا، وأسوأهم اعتقادا.

وأما ((زنادقة الصابئة وملاحدة الفلاسفة)) فلا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم رب فعال بالاختيار لما يريد قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، آمر، ناه، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن، ومعاقب المسيء، وليس عند نظارهم إلا تسعة أفلاك، وعشرة عقول وأربعة أركان، وسلسلة ترتبت فيها الموجودات هي بسلسلة المجانين أشبه منها بمجوزات العقول.

و(بالجملة) فدين الحنفية الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها أخفى من السها تحت السحاب، وقد نظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، فاطلع الله شمس الرسالة في حنادس تلك الظلم سراجا منيرا، وأنعم بها على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا، وأشرقت الأرض بنورها أكمل الإشراق، وفاض ذلك النور حتى عم النواحي والآفاق، واتسق قمر الهدى أتم الاتساق، وقام دين الله الحنيف على ساق.

فلله الحمد الذي أنقذنا بمحمد صلى الله عليه وسلم من تلك الظلمات، وفتح لنا به باب الهدى فلا يغلق إلى يوم الميقات، وأرانا في نوره أهل الضلال وهم في ضلالهم يتخبطون، وفي سكرتهم يعمهون، وفي جهالتهم يتقلبون وفي ريبهم يترددون، يؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، يؤمنون ويعدلون، ولكن بربهم يعدلون، ويعلمون ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ويسجدون ولكن للصليب والوثن والشمس يسجدون، ويمكرون وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون: (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).

الحمد لله الذي أغنانا بشريعته التي تدعوا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، وتتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، فله المنة والفضل على ما أنعم به علينا وآثرنا به على سائر الأمم، وإليه الرغبة أن يوزعنا شكر هذه النعمة، وأن يفتح لنا أبواب التوبة والمغفرة والرحمة.

فأحب الوسائل إلى المحسن التوسل إليه بإحسانه، والاعتراف له بأن الأمر كله محض فضله وامتنانه، فله علينا النعمة السابغة، كما له علينا الحجة البالغة، نبوء له بنعمه علينا، ونبوء بذنوبنا وخطايانا وجهلنا وظلمنا وإسرافنا في (ص 10) أمرنا، فهذه بضاعتنا التي لدينا لم تبق لنا نعمة وحقوقها وذنوبنا حسنة نرجو بها الفوز بالثواب والتخلص من أليم العقاب، بل بعض ذلك يستنفد جميع حسناتنا، ويستوعب كل طاعتنا.

هذا لو خلصت من الشوائب، وكانت خالصة لوجهه واقعة على وفق أمره، وما هو والله إلا التعلق بأذيال عفوه وحسن الظن به، واللجأ منه إليه، والاستعاذة به منه والاستكانة والتذلل بين يديه، ومد يد الفاقة والمسكنة إليه بالسؤال والافتقار إليه في جميع الأحوال، فمن أصابته نفحة من نفحات رحمته، أو وقعت عليه نظرة من نظرات رأفته انتعش من بين الأموات، وأناخت بفنائه وفود الخيرات، وترحلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات:

وإذا نظرت إلي نظرة راحم * في الدهر يوما إنني لسعيد

من حقوق الله رد الطاعنين على الرسول

ومن بعض حقوق الله على عبده: رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان، وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه بداويه فسطا به ضرباً وقال:

هذا هو الجواب! فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب!فتفرقا، وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال، إن الكفار إنما يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقو أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم إقامة للحجة وإزاحة للعذر (ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة).

والسيف إنما جاء منفذا للحجة مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي شعر:

فما هو إلا الوحي أوحد مرهف * يقيم ضباه أخدعي كل مائل

فهذا شفاء الداء من كل عاقل * وهذا دواء الداء من كل جاهل

وإلى الله الرغبة في التوفيق، فإنه الفاتح من الخير أبوابه، والميسر له أسبابه.

الفصل الثاني (مسائل الكتاب)

(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) وقسمته قسمين:

(القسم الأول) في أجوبة المسائل.

(القسم الثاني) في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بجميع أنواع الدلائل.

فجاء بحمد الله ومنه وتوفيقه كتاباً ممتعا ومعجبا، لا يسأم قاريه، ولا يمل الناظر فيه، فهو كتاب يصلح للدنيا والآخرة، ولزيادة الإيمان، ولذة الإنسان، يعطيك ما شئت من أعلام النبوة وبراهين الرسالة، وبشارات الأنبياء بخاتمهم.

واستخراج اسمه الصريح من كتبهم، وذكر نعته وصفته وسيرته من كتبهم، والتمييز بين صحيح الأديان وفاسدها وكيفية فساده بعد استقامتها، وجملة من فضائح أهل الكتابين وما هم عليه، وأنهم أعظم الناس براءة من أنبيائهم، وأن نصوص أنبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نكت بديعة لا توجد في سواه، والله المستعان وعليه التكلان، فهو حسبنا ونعم الوكيل.

المسألة الأولى

فتقول: (أما المسألة الأولى) وهي قول السائل: ((قد اشتهر عندكم بأن أهل الكتابين ما منعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير)) فكلام جاهل بما عند المسلمين وبما عند الكفار، أما المسلمون فلم يقولوا إنه لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير.

وإن قال هذا بعض عوامهم فلا يلزم جماعتهم، والممتنعون من الدخول في الإسلام من أهل الكتابين وغيرهم، جزء يسير جداً بالإضافة إلى الداخلين فيه منهم، بل أكثر الأمم دخلوا في الإسلام طوعا ورغبة واختيارا، لا كرها ولا اضطرارا، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل الأرض وهم ((خمسة أصناف)) قد طبقوا الأرض: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئة، ومشركون.

وهذه الأصناف هي التي كانت قد استولت على الدنيا من مشارقها إلى مغاربها.

فأما ((اليهود)) فأكثر ما كانوا باليمن، وخيبر، والمدينة وما حولها، وكانوا بأطراف الشام مستذلين مع النصارى، وكان منهم بأرض فارس فرقة مستذلة مع المجوس، وكان منهم بأرض العرب فرقة، وأعز ما كانوا بالمدينة، وخيبر، وكان الله سبحانه قد قطعهم في الأرض أمما وسلبهم الملك والعز.

وأما ((النصارى)) فكانوا طبق الأرض: فكانت الشام كلها نصارى، وأرض المغرب كان الغالب عليهم النصارى، وكذلك أرض مصر، والحبشة، والنوبة، والجزيرة، والموصل، وأرض نجران، وغيرها من البلاد.

وأما ((المجوس)) فهم أهل مملكة فارس وما اتصل بها.

وأما ((الصابئة)) فأهل حران، وكثير من بلاد الروم.

وأما ((المشركون)) فجزيرة العرب جميعها وبلاد الهند وبلاد(ص 12) الترك وما جاورها، وأديان أهل الأرض لا تخرج عن هذه الأديان الخمسة، ودين الحنفاء لا يعرف فيهم البتة، وهذه الأديان الخمسة كلها للشيطان.

كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: الأديان ستة، واحد للرحمن، وخمسة للشيطان، وهذه الأديان الستة مذكورة في آية الفصل في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد).

فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استجاب له ولخلفائه بعده أكثر الأديان طوعا واختيارا، ولم يكره أحدا قط على الدين، وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله.

وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالا لأمر ربه سبحانه حيث يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

وهذا نفي في معنى النهي، أي: لا تكرهوا أحدا على الدين، نزلت هذه الآية في رجال من الصحابة كان لهم أولاد، قد تهودوا وتنصروا قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم الآباء، وأرادوا إكراه الأولاد على الدين، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك حتى يكونوا هم الذين يختارون الدخول في الإسلام.

والصحيح أن الآية على عمومها في حق كل كافر، وهذا ظاهر على قول من يجوز أخذ الجزية من جميع الكفار، فلا يكرهون على الدخول في الدين، بل إما أن يدخلوا في الدين وإما أن يعطوا الجزية.

كما يقوله أهل العراق وأهل المدينة، وإن استثنى هؤلاء بعض عبدة الأوثان، ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تبين له أنه لم يكره أحدا على دينه قط، وإنه إنما قاتل من قاتله.

وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ولما قدم المدينة صالح اليهود وأقرهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم، فمن على بعضهم، وأجلى بعضهم، وقتل بعضهم، وكذلك لما هادن قريشا عشر سنين لم يبدءهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله، ونقضوا عهده.

فعند ذلك عزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك كما قصدوه يوم أحد، ويوم الخندق، ويوم بدر أيضا، هم جاؤا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم.

و(المقصود) أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى، وأنه رسول الله حقا.

فهؤلاء أهل اليمن كانوا على دين اليهودية، أو أكثرهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)) وذكر الحديث.

ثم دخلوا في الإسلام من غير رغبة ولا رهبة، وكذلك من أسلم من يهود(ص 13) المدينة، وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام، مذكورون في كتب السير والمغازي، لم يسلموا رغبة في الدنيا، ولا رهبة من السيف؛ بل أسلموا في حال حاجة المسلمين، وكثرة أعدائهم، ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سوط ولا نوط، بل تحملوا معاداة أقربائهم، وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن، مع ضعف شوكة المسلمين، وقلة ذات أيديهم.

فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار من ضربهم وشتمهم، وصنوف أذاهم، ولا يصرفه ذلك عن دينه.

فإن كان كثير من الأحبار والرهبان والقسيسين، ومن ذكره هذا السائل قد اختاروا الكفر، فقد أسلم جمهور أهل الأرض من فرق الكفار، ولم يبق إلا الأقل بالنسبة إلى من أسلم.

فهؤلاء نصارى الشام كانوا ملء الشام، ثم صاروا مسلمين إلا النادر، فصاروا في المسلمين كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، وكذلك المجوس كانت أمة لا يحصي عددهم إلا الله فأطبقوا على الإسلام لم يتخلف منهم إلا النادر، وصارت بلادهم بلاد إسلام، وصار من لم يسلم منهم تحت الجزية والذلة. وكذلك اليهود، أسلم أكثرهم ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة مقطعة في البلاد، فقول هذا الجاهل: ((إن هاتين الأمتين لا يحصى عددهم إلا الله كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم)) كذب ظاهر وبهت مبين، حتى لو كانوا كلهم قد أجمعوا على اختيار الكفر، لكانوا في ذلك أسوة قوم نوح، وقد أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويريهم من الآيات ما يقيم حجة الله عليهم، وقد أطبقوا على الكفر إلا قليلا منهم، كما قال تعالى: (وما آمن معه إلا قليل) وهم كانوا أضعاف أضعاف هاتين الأمتين.

وعاد أطبقوا على الكفر، وهم أمة عظيمة عقلاء حتى استؤصلوا بالعذاب، وثمود أطبقوا جميعهم على الكفر بعد رؤية الآية العظيمة التي يؤمن على مثلها البشر، ومع هذا فاختاروا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى:

(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) وقال تعالى:

(وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين).

فهاتان أمتان عظيمتان من أكبر الأمم قد أطبقتا على الكفر مع البصيرة، فالأمتان إذ أطبقتا على الكفر فليس ذلك ببدع، وهؤلاء قوم فرعون مع كثرتهم قد أطبقوا على جحد نبوة موسى مع تظاهر الآيات الباهرة آية بعد آية فلم يؤمن منهم إلا رجل واحد كان يكتم إيمانه.

وأيضاً فيقال للنصارى: هؤلاء اليهود مع كثرتهم في زمن المسيح، حتى كانوا ملأ بلاد الشام، كما قال تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومضاربها التي باركنا فيها) وكانوا قد أطبقوا على(ص 14) تكذيب المسيح، وجحدوا نبوته، وفيهم الأحبار والعباد والعلماء، حتى آمن به الحواريون، فإذا جاز على اليهود وفيهم الأحبار والعباد والزهاد وغيرهم الإطباق على جحد نبوة المسيح، والكفر به، مع ظهور آيات صدقه كالشمس، جاز عليهم إنكار نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.

ومعلوم أن جواز ذلك على أمة الضلال الذين هم أضل من الأنعام وهم النصارى أولى وأحرى، فهذا السؤال الذي أورده هذا السائل وارد بعينه في حق كل نبي كذبته أمة من الأمم، فإن صوب هذا السائل رأى تلك الأمم كلها فقد كفر بجميع الرسل.

وإن قال إن الأنبياء كانوا على الحق، وكانت تلك الأمم مع كثرتها، ووفور عقولها على الباطل، فلأن يكون المكذبون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهم الأقلون الأذلون الأرذلون، من هذه الطوائف على الباطل أولى وأحرى.

وأي أمة من الأمم اعتبرتها وجدت المصدقين بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جمهورها وأقلها وأراذلها، هم الجاحدون لنبوته، فرقعة الإسلام قد اتسعت في مشارق الأرض ومغاربها غاية الاتساع، بدخول هذه الأمم في دينه، وتصديقهم برسالته.

وبقي من لم يدخل منهم في دينه وهم من كل أمة أقلها، وأين يقع النصارى المكذبون برسالته اليوم من أمة النصرانية الذين كانوا قبله؟!.

وكذلك اليهود، والمجوس، والصابئة، لا نسبة للمكذبين برسالته بعد بعثه إلى جملة تلك الأمة قبل بعثه، وقد أخبر تعالى عن الأمم التي أطبقت على تكذيب الرسل، ودمرها الله تعالى، فقال تعالى:

(ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) فأخبر عن هؤلاء الأمم أنهم تطابقوا على تكذيب رسلهم، وأنه عمهم بالإهلاك.

وقال تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون) ومعلوم قطعا أن الله تعالى لم يهلك هذه الأمم الكثيرة إلا بعد ما تبين لهم الهدى، فاختاروا عليه الكفر، ولو لم يتبين لهم الهدى لم يهلكهم.

كما قال تعالى: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون).

وقال تعالى: (فلو لا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)، أي: فلم يكن قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ومعلوم قطعا أنه لم يصدق نبي من الأنبياء من أولهم إلى آخرهم، ولم يتبعه من الأمم ما صدق محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والذين اتبعوه من الأمم أضعاف هاتين الأمتين المكذبتين مما لا يحصيهم إلا الله، ولا يستريب من له مسكة من عقل أن الضلال، والجهل، والغي، وفساد العقل إلى من خالفه، وجحد نبوته، أقرب منه إلى اتباعه ومن أقر بنبوته، وحينئذ فيقال:

كيف جاز على هؤلاء الأمم التي لا يحصيها (ص 15) إلا الله الذين قد بلغوا مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف طبائعهم، وأغراضهم، وتباين مقاصدهم، الإطباق على اتباع من يكذب على الله، وعلى رسله، وعلى العقل، ويحل ما حرم الله ورسله، ويحرم ما أحله الله ورسله.

ومعلوم أن الكاذب على الله في دعوى الرسالة، وهو شر خلق الله وأفجرهم، وأظلمهم، وأكذبهم.

ولا يشك من له أدنى عقل أن إطباق أكثر الأمم على متابعة هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وخروجهم عن ديارهم، وأموالهم، ومعاداتهم آباءهم وأبناءهم وعشائرهم في متابعته، وبذلهم نفوسهم بين يديه من أمحل المحال.

فتجويز اختيارهم الكفر بعد تبين الهدى على شرذمة قليلة حقيرة لها أغراض عديدة من هاتين الأمتين، أولى من تجويز ذلك على المسلمين الذين طبقوا مشارق الأرض ومغاربها، وهم أعقل الأمم وأكملها في جميع خصال الفضل.

وأين عقول اليهود والنصارى، الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم، ودلوهم على مبلغها، بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟ !

وإذا جاز اتفاق - أمة فيها من قد ذكره هذا السائل - على أن رب العالمين، وخالق السموات والأرضين نزل عن عرشه، وكرسي عظمته، ودخل في بطن امرأة في محل الحيض والطمث، عدة شهور، ثم خرج من فرجها طفلا يمص الثدي ويبكي، ويكبر شيئاً فشيئاً، ويأكل ويشرب ويبول، ويصح ويمرض، ويفرح ويحزن، ويلذ ويألم.

ثم دبر حيلة على عدوه إبليس، بأن مكن أعداءه اليهود من نفسه، فأمسكوه وساقوه إلى خشبتين يصلبونه عليهما، وهم يجرونه إلى الصلب، والأوباش الأراذل قدامه وخلفه، وعن يمينه وعن يساره، وهو يستغيث ويبكي، فقربوه من الخشبتين، ثم توجوه بتاج من الشوك، وأوجعوه صفعا، ثم حملوه على الصليب، وسمروا يديه ورجليه، وجعلوه بين لصين، وهو الذي اختار هذا كله لتتم له الحيلة على إبليس ليخلص آدم وسائر الأنبياء من سجنه، ففداهم بنفسه، حتى خلصوا من سجن إبليس، وإذا جاز اتفاق هذه الأمة، وفيهم: الأحبار، والرهبان، والقسيسون، والزهاد، والعباد، والفقهاء، ومن ذكرتم على هذا القول في معبودهم وإلههم، حتى قال قائل منهم - وهو من أكابرهم عندهم: اليد التي خلقت آدم هي التي باشرت المسامير، ونالت الصلب، فكيف لا يجوز عليهم الاتفاق على تكذيب من جاء بتكفيرهم، وتضليلهم، ونادى سرا وجهرا بكذبهم على الله، وشتمهم له أقبح شتم، وكذبهم على المسيح، وتبديلهم دينه، وعاداهم وقاتلهم، وبرأهم من المسيح وبرأه منهم، وأخبر أنهم وقود النار وحصب جهنم.

فهذا أحد الأسباب التي اختاروا لأجلها الكفر على الإيمان، وهو من أعظم الأسباب، فقولكم: ((أن المسلمين يقولون: أنهم لم يمنعهم من الدخول في الإسلام إلا الرياسة والمأكلة لا غير)) كذب على المسلمين، بل الرياسة والمأكلة من جملة الأسباب المانعة لهم من الدخول في(ص 16) الدين، وقد ناظرنا نحن وغيرنا جماعة منهم، فلما تبين لبعضهم فساد ما هم عليه، قالوا:

لو دخلنا في الإسلام لكنا من أقل المسلمين، لا يأبه لنا، ونحن متحكمون في أهل ملتنا، في أموالهم، ومناصبهم، ولنا بينهم أعظم الجاه، وهل منع فرعون وقومه من اتباع موسى إلا ذلك؟ !.

الأسباب المانعة من قبول الحق

والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جدا، فمنها:

(الجهل به)

وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئاً عاداه، وعادى أهله، فإن انضاف إلى هذا السبب بغض من أمره بالحق، ومعاداته له، وحسده، كان المانع من القبول أقوى، فإن انضاف إلى ذلك ألفه وعادته ومرباه على ما كان عليه آباؤه، ومن يحبه ويعظمه، قوي المانع، فإن انضاف إلى ذلك، توهمه أن الحق الذي دعي إليه يحول بينه وبين جاهه وعزه وشهواته وأغراضه، قوى المانع من القبول جدا، فإن انضاف إلى ذلك، خوفه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه.

كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ازداد المانع من قبول الحق قوة، فإن هرقل عرف الحق وهم بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام، بعد ما تبين له الهدى، كما سيأتي ذكر قصته إن شاء الله تعالى.

(الحسد)

ومن أعظم هذه الأسباب: (الحسد) فإنه داء كامن في النفس، ويرى الحاسد المحسود قد فضل عليه، وأوتي ما لم يؤت نظيره، فلا يدعه الحسد أن ينقاد له، ويكون من أتباعه، وهل منع إبليس من السجود لآدم إلا الحسد؟ ! فإنه لما رآه قد فضل عليه، ورفع فوقه، غص بريقه، واختار الكفر على الإيمان بعد إن كان بين الملائكة.

وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علما لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار، والعلماء، والزهاد، والقضاة، والأمراء.

هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة لم يأت بشريعة يخالفها ولم يقاتلهم، وإنما أتي بتحليل بعض ما حرم عليهم، تخفيفا ورحمة وإحساناً، وجاء مكملا لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان.

فكيف يكون حالهم مع نبي جاء بشريعة مستقلة، ناسخة لجميع الشرائع، مبكتا له بقبائحم، ومناديا على فضائحهم، ومخرجاً لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه، وهو في ذلك كله ينصر(ص 17) عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهو معه دائما في سفال، فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟ !

وأين يقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدي، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمأكل كما تقدم.

وقد قال المسور بن مخرمة - وهو ابن أخت أبي جهل - لأبي جهل: يا خالي هل كنتم تتهمون محمدا بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: يا ابن أختي، والله لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذبا قط. قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟ ! قال:يا ابن أختي، تنازعنا نحن وبنوا هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي فمتى ندرك مثل هذه!

وقال الأخنس بن شريق يوم بدر لأبي جهل: يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ها هنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا؟ فقال أبو جهل: ويحك!والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء، والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ !.

علماء اليهود يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم

وأما ((اليهود)) فقد كان علماؤهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة: هل تدري عما كان إسلام أسد، وثعلبة، ابني شعبة، وأسد بن عبيد، لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك؟

فقلت: لا، قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام من اليهود، يقال له: ابن الهيبان، فأقام عندنا، والله ما رأينا رجلا يصلى خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر، نقول:

يا ابن الهيبان اخرج فاستسق لنا: فيقول: لا والله حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة، فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر، أو مدين من شعير، فنخرجه، ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه نستسقي، فوالله ما يقوم من مجلسه حتى تمطر ويمر بالشعاب.

قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، فحضرته الوفاة واجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود! أترون ما أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم، قال: فإني إنما خرجت أتوقع خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلاد مهاجره، فاتبعوه ولا يسبقن إليه غيركم إذا خرج، يا معشر اليهود! فإنه يبعث بسفك الدماء، وسبي الذراري والنساء ممن يخالفه فلا يمنعكم ذلك منه ثم (ص 18) مات.

فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة، قال أولئك الثلاثة الفتية وكانوا شباناً أحداثا: يا معشر اليهود! والله إنه للذي ذكر لكم ابن الهيبان، فقالوا: ما هو به، قالوا: بلى والله إنه لصفته، ثم نزلوا، وأسلموا وخلوا أموالهم وأهليهم.

قال ابن إسحاق وكانت أموالهم في الحصن مع المشركين، فلما فتح ردت عليهم، وقال ابن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد، قال: كان بين أبياتنا يهودي، فخرج على نادي قومه بنى عبد الأشهل ذات غداة، فذكر البعث، والقيامة، والجنة، والنار، والحساب، والميزان، فقال ذلك لأصحاب وثن: لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، وذلك قبيل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ويحك يا فلان!

وهذا كائن أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون بأعمالهم؟ !

قال: نعم، والذي يحلف به لوددت أن حظي من تلك النار أن توقدوا أعظم تنور في داركم فتحمونه، ثم تقذفوني فيه، ثم تطبقون علي، وأنى أنجو من النار غدا، فقيل:يا فلان ما علامة ذلك؟ قال: نبي يُبعث من ناحية هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن.

قالوا: فمتى نراه؟ فرمى بطرفه فرآني وأنا مضطجع بفناء باب أهلي، وأنا أحدث القوم، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنه لحي بين أظهرنا، فآمنا به، وصدقناه، وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: يا فلان، ألست الذي قلت ما قلت وأخبرتنا به؟ ! قال: ليس به.

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حدثني أشياخ منا قالوا: لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود، وكانوا أهل كتاب، وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون، قالوا إن نبيا مبعوثا الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم.

فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، اتبعناه وكفروا به ففينا وفيهم أنزل الله عزوجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

وذكر الحاكم وغيره عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي، قال: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس.

وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فلما التقوا هُزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالت: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التفوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان.

فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) يعني: بك يا محمد (فلعنة الله على الكافرين) و(يستفتحون) أي: يستنصرون.

وذكر الحاكم وغيره: أن بني النضير لما أُجلوا من المدينة أقبل عمرو ابن(ص 19) سعد فأطاف بمنازلهم فرأى خرابها، ففكر، ثم رجع إلى بني قريظة فوجدهم في الكنيسة فنفخ في بوقهم، فاجتمعوا، فقال الزبير بن باطا: يا أبا سعيد، أين كنت منذ اليوم، فلم نرك، وكان لا يفارق الكنيسة، وكان يتأله في اليهودية، قال: رأيت اليوم عبرا اعتبرنا بها، رأيت إخواننا قد جلوا بعد ذلك العز والجلد والشرف الفاضل، والعقل البارع، بد تركوا أموالهم وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، ولا والتوراة، ما سلط هذا على قوم قط لله بهم حاجة.

وقد أوقع قبل ذلك بابن الأشرف في عزة بنيانه في بيته آمنا، وأوقع بابن سنينة سيدهم، وأوقع ببني قينقاع فأجلاهم وهم جل اليهود، وكانوا أهل عدة وسلاح ونجدة.

فحصرهم النبي عليه السلام، فلم يخرج إنسان منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم، فتركهم، على أن أجلاهم من يثرب، يا قوم، قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمداً، فوالله أنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به وبأمره ابن الهيبان، وأبو عمرو بن حواس، وهما أعلم اليهود، جاء من بيت المقدس، يتوكفان قدومه، وأمرانا باتباعه، وأمرانا أن نقرئه منهما السلام، ثم ماتا على دينهما ودفناهما بحرتنا.

فأسكت القوم فلم يتكلم منهم متكلم، فأعاد هذا الكلام ونحوه، وخوفهم بالحرب والسباء والجلاء.

فقال الزبير بن باطا: قد والتوراة قرأت صفته في كتاب التوراة التي أنزلت على موسى، ليس في المثاني التي أحدثنا، فقال له كعب بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت، قال: ولم فوالتوراة ما حلت بينك وبينه قط؟

قال الزبير: بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا، فأقبل عمرو بن سعد على كعب فذكر ما تقاولا في ذلك، إلى أن قال كعب: ما عندي في ذلك إلا ما قلت، ما تطيب نفسي أن أصير تابعا.

وهذا المانع هو الذي منع فرعون من اتباع موسى، فإنه لما تبين له الهدى، عزم على اتباع موسى عليه السلام، فقال له وزيره هامان: بينا أنت إله تعبد، تصبح تعبد ربا غيرك؟ ! قال:صدقت.

وذكر ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، قال: حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدوا عليه، ثم جاءا من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ ! قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت. فهذه أمة اليهود معروفة بعداوة الأنبياء قديما وأسلافهم وخيارهم، قد أخبرنا الله سبحانه عن أذاهم لموسى، ونهانا عن التشبه بهم في ذلك، فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها).

وأما خلفهم: فهم قتلة الأنبياء قتلوا زكريا، وابنه يحيى، وخلقاً كثيراً من الأنبياء، حتى قتلوا في يوم سبعين نبيا، وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئا، واجتمعوا على قتل المسيح وصلبه، فصانه الله من (ص 20) ذلك، وأكرمه أن يهينه على أيديهم، وألقى شبهه على غيره، فقتلوه، وصلبوه، وراموا قتل خاتم النبيين مرارا عديدة، والله يعصمه منهم.

ومن هذا شأنهم لا يكبر عليهم اختيار الكفر على الإيمان لسبب من الأسباب التي ذكرنا بعضها أو سببين أو أكثر.

لا غرابة في جحد النصارى رسالة محمد وقد سبوا الله

وقد ذكرنا اتفاق اليهود والنصارى، على مسبة رب العالمين، أقبح مسبة على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفي عليهم أن هذا مسبة لله، وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته.

فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات، الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم، فأمة أطبقت على أن الإله الحق سبحانه عما يقولون، صلب، وصفع، وسمر، ووضع الشوك على رأسه، ودفن في التراب.

ثم قام في اليوم الثالث، وصعد على وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها، ولعنها، ومحاربتها، وإبداء معايبها، والنداء على كفرها بالله ورسوله، والشهادة على براءة المسيح منها، ومعاداته لها، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها، وضرب عليها الجزية، وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة، لا يغفر الله لها، وأنها شر من الحمير، بل هي شر الدواب عند الله.

ألوان من سخافة النصارى في الصليب

وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها، ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة، إذ صلب عليه إلهها الذي يقولون تارة: أنه الله، وتارة يقولون:أنه ابنه وتارة يقولون:ثالث ثلاثة، فجحدت حق خالقها، وكفرت به أعظم كفر، وسبته أقبح مسبة، أن تجحد حق عبده ورسوله، وتكفر به.

وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات أنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه، فأراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته، لترفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته، فهبط بذاته من السماء والتحم في بطن مريم، فأخذ منها حجابا، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه (ص 21) كانت من قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت، وهو الإله التام، والإنسان التام.

ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه، وصلبوه، وصفعوه، وبصقوا في وجهه، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه، وغار دمه في أصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كلما كان على وجهها، فثبت في موضع صلبه النوار.

ولما لم يكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب، وسقوط منزلة العبد، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الإلهية، فصلب ابن الله الذي هو الله، في الساعة التاسعة من يوم الجمعة، هذه ألفاظهم في كتبهم!!

فأمة أطبقت على هذا في معبودها؟ !! كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله أنه ساحر، وكاذب، وملك مسلط، ونحو هذا؟ !!.

ولهذا قال بعض ملوك الهند: أما النصارى، فإن كان أعداؤهم من أهل الملل يجاهدونهم بالشرع فأنا أرى جهادهم بالعقل، وإن كنا لا نرى قتال أحد لكني أستثني هؤلاء القوم من جميع العالم؟

لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العدواة، وشذوا عن جميع مصالح العالم الشرعية والعقلية الواضحة، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا من ذلك شرعا لا يؤدي إلى صلاح نوع من أنواع العالم، ولكنه يصير العاقل إذا شرع به أخرق، والرشيد سفيها، والحسن قبيحا، والقبيح حسنا، لأن من كان في أصل عقيدته التي جرى نشؤه عليها الإساءة إلى الخلاق والنيل منه، وسبه أقبح مسبة، ووصفه بما يغير صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى مخلوق، وأن يصفه بما يغير صفاته الجميلة، فلو لم تجب مجاهدة هؤلاء القوم إلا لعموم أضرارهم التي لا تحصى وجوهه، كما يجب قتل الحيوان المؤذي بطبعه لكانوا أهلا لذلك.

والمقصود أن الذين اختاروا هذه المقالة في رب العالمين على تعظيمه وتنزيهه وإجلاله ووصفه بما يليق به، هم الذين اختاروا بعبده ورسوله، وجحد نبوته، والذين اختاروا عبادة صور خطوها بأيديهم في الحيطان، مزوقة بالأحمر والأصفر والأزرق، لو دنت منها الكلاب لبالت عليها، فأعطوها غاية الخضوع والذل والخشوع والبكاء، وسألوها المغفرة والرحمة والرزق والنصر، هم الذين اختاروا التكذيب بخاتم الرسل على الإيمان به، وتصديقه واتباعه، والذين نزهوا بطارقتهم وبتاركتهم عن الصاحبة والولد، ونحلوهما للفرد الصمد، هم الذين أنكروا نبوة عبده وخاتم رسله. (ص 22)

صلاة النصارى استهزاء بالمعبود

والذين اختاروا صلاة يقوم أعبدهم وأزهدهم إليها والبول على ساقه وأفخاذه فيستقبل الشرق، ثم يصلب على وجهه، ويعبد الإله المصلوب، ويستفتح الصلاة، بقوله:

يا أبانا أنت الذي في السموات، تقدس اسمك، وليأت ملكك، ولتكن إرادتك في السماء مثلها في الأرض، أعطنا خبزنا الملايم لنا، ثم يحدث من هو إلى جانبه، وربما سأل عن سعر الخمر والخنزير، وعما كسب في القمار، وعما طبخ في بيته وربما أحدث وهو في صلاته، ولو أراد لبال في موضعه إن أمكنه.

ثم يدعو تلك الصورة التي هي صنعتة يد الإنسان، فالذين اختاروا هذه الصلاة على صلاة من إذا قام إلى صلاته طهر أطرافه وثيابه وبدنه من النجاسة، واستقبل بيته الحرام، وكبر الله وحمده وسبحه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ناجاه بكلامه المتضمن لأفضل الثناء عليه، وتحميده وتمجيده وتوحيده، وإفراده بالعبادة والاستعانة، وسؤاله أجل مسئول، وهو الهداية إلى طريق رضاه التي خص بها من أنعم الله عليه دون طريق الأمتين:

المغضوب عليهم وهم: اليهود.

والضالين: وهم النصارى.

ثم أعطى كل جارحة من الجوارح حظها من الخشوع والخضوع والعبودية مع غاية الثناء والتمجيد لله رب العالمين، لا يلتفت عن معبوده بوجهه، ولا قلبه، ولا يكلم أحدا كلمة، بل قد فرغ قلبه لمعبوده، وأقبل عليه بقلبه ووجهه، ولا يحدث في صلاته، ولا يجعل بين عينيه صورة مصنوعةيدعوها ويتضرع إليها.

فالذين اختاروا تلك الصلاة التي هي في الحقيقة استهزاء بالمعبود، لا يرضاها المخلوق لنفسه، فضلا أن يرضى بها الخالق، على هذه الصلاة التي لو عرضت على من له أدنى مسكة من عقل لظهر له التفاوت بينهما: هم الذين اختاروا تكذيب رسوله وعبده على الإيمان به وتصديقه.

فالعاقل إذا وازن بين ما اختاروه ورغبوا فيه، وبين ما رغبوا عنه، تبين له أن القوم اختاروا الضلالة على الهدى، والغي على الرشاد، والقبيح على الحسن، والباطل على الحق، وأنهم اختاروا من العقائد أبطلها، ومن الأعمال أقبحها، وأطبق على ذلك أساقفتهم وبتاركتهم ورهبانهم، فضلا عن عوامهم وسقطهم.

أكثر النصارى مقلدون

(فصل) أسباب التقليد

ولم يقل أحد من المسلمين أن ما ذكرتم من صغير وكبير، وذكر وأنثى، وحر وعبد، وراهب وقسيس، كلهم تبين له الهدى، بل أكثرهم جهال بمنزلة الدواب السائمة، معرضون عن طلب الهدي، فضلا عن تبيينه لهم وهم مقلدون لرؤسائهم وكبرائهم (ص 23) علمائهم، وهم أقل القليل، وهم الذين اختاروا الكفر على الإيمان بعد تبين الهدى، وأي إشكال يقع للعقل في ذلك، فلم يزل في الناس من يختار الباطل، فمنهم من يختاره جهلا وتقليدا، لمن يحسن الظن به.

ومنهم من يختاره مع علمه ببطلانه كبرا وعلوا.

ومنهم من يختاره طمعا ورغبة في مأكل أو جاه أو رياسة.

ومنهم من يختاره حسدا وبغيا.

ومنهم من يختاره محبة في صورة وعشقا.

ومنهم من يختاره خشية.

ومنهم من يختاره راحة ودعة، فلم تنحصر أسباب اختبار الكفر في حب الرياسة والمأكلة.

المسألة الثانية

من آمن بالنبي من رؤساء النصارى - حديث النجاشي

وأما (المسألة الثانية) وهي قولكم:

هب أنهم اختاروا الكفر لذلك فهل لا اتبع الحق من لا رياسة له، ولا مأكلة، إما اختبارا وإما قهرا، فجوابه من وجوه:

(أحدها)

إنا قد بينا أن أكثر من ذكرتم قد آمن بالرسول وصدقه اختيارا لا، اضطرارا، وأكثرهم أولوا العقول والأحلام والعلوم ممن لا يحصيهم إلا الله، فرقعة الإسلام إنما انتشرت في الشرق والغرب بإسلام أكثر الطوائف، فدخلوا في دين الله أفواجاً، حتى صار الكفار معهم تحت الذلة والصغار.

وقد بينا أن الذين أسلموا من اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين، أكثر من الذين لم يسلموا، وأنه إنما بقي منهم أقل القليل، وقد دخل في دين الإسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير، وهذا (ملك النصارى على إقليم الحبشة) في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لما تبين له أنه رسول الله، آمن به، دخل في دينه، وآوى أصحابه، ومنعهم من أعدائهم.

وقصته أشهر من أن تذكر.

ولما مات أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالساعة التي توفي فيها وبينهما مسيرة شهر، ثم خرج بهم إلى المصلى، وصلى عليه، فروى الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:

لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا على أن يبعثوا إلى النجاشي هدايا، مما يستظرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وعمرو بن العاص، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما:

ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجنا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار، وعند خير جوار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته (ص 24) قبل أن يكلما النجاشي.

ثم قالا لكل بطريق: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا: نعم.

ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، من أن يسمع النجاشي كلامهم.

فقالت بطارقته: حوله صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما ليردوهم إلى بلادهم وقومهم، قالت: فغضب النجاشي، ثم قال: لا ها الله، إذن لا أسلمهم إليهما ولا أكاد أقوام جاوروني، نزلوا ببلادي واختاروني، على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وأن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا:

نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤه - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟

قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.

فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا (ص 25)، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، حرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت:فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم.

ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقوا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد.

قالت أم سلمة: فلما خرجنا من عنده، قال عمر بن العاص: والله لآتينه غدا أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم. قالت: فقال عبد الله بن أبي ربيعة، وكان أبقى الرجلين فينا، لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.

قالت: ثم غدا عليه من الغد، فقال له:أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فأرسل إليهم فسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم.

فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه، قالوا: نقول والله فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب:

نقول فيه الذي جاء به نبينا، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه، فضرب النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم، وإن نخرتم، والله اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبر ذهب وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة الجبل - ردوا عليهما هداياهما ولا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فأخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردودا عليهما ما جاؤا به.

وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.

قالت: فسار النجاشي وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم حتى يأتينا بالخبر، قالت:فقال الزبير: أنا وكان من أحدث القوم سنا، قالت: فنفخوا له قربة (ص 26) فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، فاستوسق له أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلما كان شهر ربيع الأول سنة سبع من الهجرة، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري، فلما قرئ عليه الكتاب، أسلم، وقال: لو قدرت على أن آتيه لأتيته.

وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، ففعل، وأصدق عنه، أربعمائة دينار، وكان الذي تولى التزويج خالد بن سعيد بن العاص بن أمية، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه، ويحملهم، ففعل، فقدموا المدينة، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فشخصوا إليه فوجدوه قد فتح خيبر، فكلم رسول الله صلى المسلمين أن يدخلوهم في سهامهم، ففعلوا.

فهذا ملك النصارى قد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن به واتبعه، وكم مثله ومن هو دونه ممن هداه الله من النصارى قد دخل في الدين، وهم أكثر بأضعاف مضاعفة ممن أقام على النصرانية.

قال ابن إسحاق:وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وعشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه وكلموه، وقبالتهم رجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة.

فلما فرغوا من مسئلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله، وتلا عليهم القرآن.

فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له، وآمنوا به، وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل ابن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب؟ ! بعثكم من ورائكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه بما قال؟ ! ما نعلم ركبا أحمق منكم، أو كما قالوا، فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل من أنفسنا خيرا.

ويقال: أن النفر من النصارى من أهل نجران. ويقال فيهم نزلت: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به أنه الحق من ربنا)- إلى قوله - (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين).

وقال الزهري: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه. (ص 27)

قال ابن إسحق: ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ((نصارى نجران)) بالمدينة، فحدثني محمداً بن جعفر بن الزبير، قال:

لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فحانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجده فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوهم)) فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم، وكانوا ستين راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلاً من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم:

((العاقب)) أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبد المسبح.

((والسيل)) عقالهم وصاحب رحلهم ومجمعهم.

((وأبو حارثة ابن علقمة)) أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.

فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة متوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.

فقال: ولم يا أخي؟ ! فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز: فما يمنعك من اتباعه، وأنت تعلم هذا؟ ! فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأصر عليها أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.

فهذا وأمثاله من الذين منعتهم الرياسة والمأكل من اختيار الهدى، وآثروا دين قومهم، وإذا كان هذا حال الرؤساء المتبوعين الذين هم علماؤهم وأحبارهم كان بقيتهم تبعا لهم، وليس بمستنكر أن تمنع الرياسة والمناصب والمآكل للرؤساء، ويمنع الاتباع تقليدهم، بل هذا هو الواقع والعقل لا يستشكله.

قصة عدي بن حاتم

وكان من رؤساء النصارى الذين دخلوا في الإسلام لما تبين أنه الحق الرئيس المطاع في قومه ((عدي بن حاتم الطائي))، ونحن نذكر قصته رواها الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم، وغيرهم.

قال عدي بن حاتم: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم. وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما رفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل(ص 28) ذلك: ((إني لا أرجو أن يجعل الله يده في يدي)) قال: فقام لي، فلقيته امرأة وصبي معها، فقالا: إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما، ثم أخذ بيدي حتى أتي بي داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

((ما يفرك أن تقول لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله)) قال: قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال: ((إنما يفرك أن يقال الله تعالى أكبر، وتعلم أن شيئا أكبر من الله))؟ ! قال:قلت:لا، قال: ((فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال)) قال: قلت: فإني حنيف مسلم، قال: فرأيت وجهه ينبسط فرحاً، قال: ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار، جعلت أغشاه آتيه طرفي النهار.

قال: فبينا أنا عنده عشبة إذ جاءه قوم في ثياب من الصوف من هذه النمار، قال: فصلى وقام فحث عليهم، ثم قال: ((ولو بصاع، ولو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقي أحدكم وجهه حر جهنم أو النار، ولو بتمرة، ولو بشق تمرة،

فإن أحدكم لاقى الله، وقائل له ما أقول لكم؛ ألم أجعل لك سمعاً وبصراً؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ ! فينظر قدامه وخلفه، وعن يمينه وعن شماله، ثم لا يجد شيئا يقي وجهه حر جهنم، ليق أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإني لا أخاف عليكم الفاقة، فإن الله ناصركم ومعطيكم، حتى لتسير الظعينة فيما بين يثرب والحيرة أكثر ما يخاف على مطيتها السرق)).

قال فجعلت أقول في نفسي: فأين لصوص طي؟ !. وكان عدي مطاعا في قومه بحيث يأخذ المرباع من غنائمهم.

وقال حماد بن زيد: عن أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: قال أبو عبيدة بن حذيفة: قال عدي بن حاتم: بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط، فخرجت حتى أتيت أقصى أرض العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول؛ فقلت: لو أتيته فسمعت منه، فأتيت المدينة فاستشرفني الناس، وقالوا: جاء عدي بن حاتم الطائي!جاء عدي بن حاتم الطائي!

فقال: ((يا عدي بن حاتم الطائي، أسلم تسلم)) فقلت: إني على دين، قال: ((أنا أعلم بدينك منك))، قلت: أنت أعلم بديني مني؟ ! قال: ((نعم)) قال هذا ثلاثا، قال: ((ألست لوسياً)) قلت: بلى، قال: ((ألست ترأس قومك)) قلت: بلى، قال: ((ألست تأخذ المرباع)) قلت: بلى، قال: ((فإن ذلك لا يحل لك في دينك)) قال: فوجدت بها على غضاضة.

ثم قال: ((لعله أن يمنعك أن تسلم أن ترى عندنا خصاصة، وترى الناس علينا ألبا واحدا، هل رأيت الحيرة؟)) قلت: لم أرها وقد علمت مكانها، قال: ((فإن الظعينة سترحل من الحيرة، تطوف بالبيت بغير جوار، وليفتحن الله علينا كنوز كسرى ابن هرمز)) قلت:

(ص 29) كسرى ابن هرمز! قال:((كنوز كسرى ابن هرمز، وليفيض المال حتى يهتم الرجل من يقبل منه صدقته)) قال: فقد رأيت الظعينة ترحل من الحيرة بغير جوار، وكنت في أول خيل أغارت على المدائن، ووالله لتكونن الثالثة، إنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قصة سلمان الفارسي

وقد كان ((سلمان الفارسي)) من أعلم النصارى بدينهم، وكان قد تيقن خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة قبل مبعثه، فلما رآه عرف أنه هو النبي الذي بشر به المسيح، فآمن به، واتبعه، ونحن نسوق قصته.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم، عن محمود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:حدثني سلمان الفارسي من فِيه قال:

كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان من قرية يقال لها: جي، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل حبه إياي حتى حبه إياي حبسني في بيت كما تحبس الجارية.

فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار التي نوقدها لا نتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يوما، فقال: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها، فاطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد.

ثم قال لي: ولا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي، وشغلتني عن كل شيء من أمري. فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت:

هذا والله خير من الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعته، فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته، قال: يا بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ .

قلت: يا أبت، مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت حتى غربت الشمس، قال: أي بني! ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا والله إنه لخير من ديننا، فخافني فجعل في رجلي قيدا، ثم حبسني في بيته، وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم.

فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة فجئته (ص 30)، فقلت له:

إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة، ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع.

ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة يرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا. فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، فلما رأوها، قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ورموه بالحجارة!!.

وجاؤا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا يصلى أرى أنه أفضل منه، ولا أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ولا نهاراً منه، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له:

يا فلان إني قد كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ فقال: أي بني، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه، ولقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه، إلا رجلا بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه.

فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل، فقلت له:يا فلان، إن فلان أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه.

فلما حضرته الوفاة قلت له:يا فلان، إن فلان قد أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟ قال:يا بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به، فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال:أقم عندي.

فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له:يا فلان، إن فلانا أوصي بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ فقال:يا بني، والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية، من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته.

فلما مات وغيّب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري، فقال:أقم عندي، فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، فاكتسبت حتى كانت لي بقيرات وغنيمة.

ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له:يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟ قال:يا بني، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا(ص 31) عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه؛ ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل، به علامات لا تخفى:

يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.

ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم:احملوني إلى أرض العرب، وأعطيكم بقيراتي هذه وغنيمتي هذه، قالوا:نعم، فأعطيتموها، فحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى، ظلموني فباعوني إلى رجل يهودي، فكنت عنده، فرأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي ولم يحق في نفسي.

فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق.

ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، فقال:يا فلان قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون معنا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.

فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه:ذلك ما تقول؟ فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة، ثم قال:مالك ولهذا؟ أقبل على عملك! فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال.

وقد كان عندي شيء جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقبا فدخلت عليه، فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:((كلوا)) وأمسك فلم يأكل، فقلت في نفسي:هذه واحدة، ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا.

وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به، فقلت:إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه فأكلوا معه

فقلت في نفسي:هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه، وعلي شملتان لي، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني صلى الله عليه وسلم استديرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((تحول)) فتحولت فجلست (ص 32) بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر واحد، قال سلمان:

ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كاتب يا سلمان)) فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير، وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعينوا أخاكم)) فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، يعينني الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي)) ففقرت، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي على المال.

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ((ما فعل الفارسي المكاتب؟)) فدعيت له، فقال ((خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان)) فقلت:وأين تقع يا رسول الله مما علي؟ !قال: ((خذها فإن الله سيؤدى بها)) فأخذتها فوزنت منها لهم والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، ثم لم يفتني معه مشهد.

قصة هرقل

(فصل) إسلام هرقل ملك الشام

وكان ملك الشام أحد أكابر علمائهم بالنصرانية (هرقل)قد عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، وعزم على الإسلام فأبى عليه النصارى، فخافهم على نفسه، وضل بملكه مع علمه بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.

ونحن نسوق قصته، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس أن أبا سفيان أخبره من فِيه إلى فِيه، قال:انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وقد كان دحية بن خليفة جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل:هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟

قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، فدعا بترجمانه، فقال:قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: وأيم الله، لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه

(ص 33) من ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاءهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا، بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له قال: قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟

قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها، قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا، قال لترجمانه: قل له أني سألتك عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها.

وسألتك هل كان في آبائه ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك، لقلت رجل يطلب ملك آبائه.

وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.

وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله عز وجل.

وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.

وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون؟ وكذلك الإيمان حتى يتم.

وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة.

وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد من قبله قلت: رجل إئتم بقول قيل قبله.

ثم قال: فبم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف، قال إن يكن ما تقول حقا إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لا حببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

فإني أدعوك بدعاية إذ أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك لعنة الأريسيين و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهد بأنا مسلمون) فلما قرأه، وفرغ من قراءة الكتاب، ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا.

ثم أذن هرقل عظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمرا بأبوابها فغلقت، ثم أطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن تثبت مملكتكم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد(ص 34) غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، فقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه.

فهذا ملك الروم، وكان من علمائهم أيضا، عرف وأقر أنه نبي، وأنه سيملك ما تحت قدميه، وأحب الدخول في الإسلام، فدعى قومه إليه فولوا عنه معرضين كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته، ومنع أشباه الحمير ما منع الأمم قبلهم.

ولما عرف ((النجاشي ملك الحبشة)) أن النصارى لا يخرجون عن عبادة الصليب إلى عبادة الله وحده أسلم سرا، وكان يكتم إسلامه بينهم هو وأهل بيته، ولا يمكنه مجاهرتهم.

ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، مكانه يدعوه إلى الإسلام،

فقال له عمرو: يا أصحمة!علي القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا وكانا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم.

وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخبر سالف، وأجر منتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله إنه للنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وإن العيان ليس بأشفى من الخبر.

قال الواقدي: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة: أسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، حملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده.

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله إليك، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت، ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى)).

فكتب إليه النجاشي: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:

فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا، إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قر بنا(ص 35) ابن عمك وأصحابه، فأشهد إنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين.

و((التفروق)): علامة تكون بين النواة والتمرة.

قصة المقوقس

(فصل) دعوة ملك مصر إلى الإسلام

وكذلك ((ملك دين النصرانية بمصر)) عرف أنه نبي صادق، ولكن منعه من اتباعه ملكه، وأن النصارى لا يتركون عبادة الصليب، ونحن نسوق حديثه وقصته.

قال الواقدي: كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

فإني أدعوك بداعية الإسلام أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط (يا أهل الكتب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون) وختم الكتاب.

فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال حاطب للمقوقس لما لقيه: إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى (فأخذه الله نكال الآخرة والأولى) فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر بك غيرك، قال: هات، قال:

إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي به الله فقد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به، فقال المقوقس: إني قد نظرت في أن هذا النبي، فرأيته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة من إخراج الخبء، والإخبار بالنجوى، ووصف لحاطب أشياء من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال القبط: لا يطاوعونني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضن بملكي أن أفارقه، وسيظهر على بلادي وينزل بساحتي هذه أصحابه من بعده، فارجع إلى صاحبك.

وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فجعله في حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب العربية، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد:

فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعوا إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة (ص 36)، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك، ولم يزد.

((والجاريتان)): مارية، وسيرين. و((البغلة)): دلدل، وبقيت إلى زمن معاوية، قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه)).

قصة ابني الجلندي

(فصل) دعوة ملكا عمان إلى الإسلام

وكذلك ((ابنا الجلندي ملكا عمان وما حولها)) من ملوك النصارى، أسلما طوعا واختيارا، ونحن نذكر قصتهما، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما، وهذا لفظه:

((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى حيفر وعبيد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

فإني أدعوكما بداعية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وأنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما مكانكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما)).

وختم الكتاب، وبعث به مع عمرو بن العاص قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها انتهيت إلى عبيد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إني رسول رسول الله إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم علي بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال لي: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال:

يا عمرو، إنك سيد قومك، فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قدوة؟ قلت: مات ولم يؤمن بمحمد، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وكنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألني: أين كان إسلامي؟ فقلت: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه، قال: والأساقفة والرهبان؟ قلت: نعم.

قال: انظر يا عمرو، ما تقول إنه ليس خصلة في رجل أفضح له من كذب، قلت: ما كذبت وما نستحله في ديننا، ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بلى، قال: بأي شيء علمت ذلك؟ قلت كان النجاشي يخرج له خراجا، فلما أسلم وصدق بمحمد، قال: لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له نياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خراجا ويدين دينا محدثا؟

قال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما أصنع به، والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو؟ قلت: والله لقد صدقتك، قال: عبد فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه؟ قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر، وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر، والوثن، والصليب، فقال: ما (ص 37) أحسن هذا الذي يدعوا إليه لو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد، ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه، ويصير دينا، قلت: إنه أن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم، قال: إن هذا لخلق حسن، وما الصدقة؟

فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو ويؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر، وترد المياه؟ فقلت: نعم، فقال: والله ما أرى قومي في بعد دارهم، وكثرة عددهم، يطيعون بهذا، قال: فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوما فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعي، فقال:

دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض خاتمه فقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، ثم قال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ فقلت: اتبعوه، إما راغب في الإسلام وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟

قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدا بقي غيرك في هذه الحرجة، وإن أنت لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، ويبيد خضرائك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال: دعني يومي هذا وارجع إلى غدا.

فرجعت إلى أخيه فقال:يا عمرو إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه فأخبرته إني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا يبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقا، قلت: وأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما قد ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه.

فأصبح، فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا على من خالفني.

صاحب اليمامة

(فصل) دعوة صاحب اليمامة إلى الإسلام

وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوادة بن علي الحنفي ((صاحب اليمامة)):بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، أجعل لك ما تحت يدك.

وكان عنده أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال:قد جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام فقال له: الأركون لم لا تجيبه؟ فقال:ضننت(ص 38)

بديني، وأنا ملك قومي إن اتبعته لم أملك، قال:بلى، والله لئن اتبعته ليملكنك وإن الخيرة لك في اتباعه، وإنه للنبي العربي بشر به عيسى ابن مريم والله إنه لمكتوب عندنا في الإنجيل.

قصة الحارث

(فصل) دعوة الحارث بن أبي شمر إلى الإسلام

وذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاع بن وهب إلى ((الحارث ابن أبي شمر)) وهو بغوطة دمشق، فكتب إليه مرجعه من الحديبية ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى الحرث ابن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك)).

وختم الكتاب، فخرج به شجاع بن وهب، قال:فانتهيت إلى حاجبه فأجده يومئذ وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيليا حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله عز وجل.

قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه فقال حاجبه:لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه: مرى، يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه؟ فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه.

فكنت أراه يخرج بالشام فأراه قد خرج بأرض العرب، فأنا أؤمن به وأصدقه وأنا أخاف من الحارث ابن أبي شمر أن يقتلني.

قال شجاع:فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي، ويخبرني عن الحارث باليأس منه ويقول: هو يخاف قيصر، قال: فخرج الحارث يوما وجلس فوضع التاج على رأسه فأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، وقال: من ينتزع مني ملكي؟ !أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته، عليّ بالناس، فلم يزل جالسا يعرض حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل.

ثم قال:أخبر صاحبك ما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبري فصادف قيصر بإيليا وعنده دحية الكلبي قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه أن لا تسر إليه وأنه عنه ووافني بإيليا.

قال:ورجع الكتاب وأنا مقيم، فدعاني، وقال:متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت:غدا، فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني مرى بنفقة وكسوة، وقال:أقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وأخبره أني متبع دينه.

قال:شجاع فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال:((باد ملكه)) وأقرأته من مرى السلام وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((صدق)). (ص 39)

ونحن إنما ذكرنا بعض ملوك الطوائف الذين آمنوا به، وأكابر علمائهم وعظمائهم، ولا يمكننا حصر من عداهم وهم جمهور أهل الأرض، ولم يتخلف عن متابعته إلا الأقلون، وهم إما مسالم له قد رضي بالذلة والجزية والهوان، وإما خائف منه فأهل الأرض معه ثلاثة أقسام:مسلمون له، ومسالمون له، وخائفون منه.

قصة عبد الله بن سلام

ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سيدهم على الإطلاق وابن سيدهم وعالمهم وابن عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم ((عبد الله بن سلام)) لكان في مقابلة كل يهودي على وجه الأرض فيكف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان من لا يحصى عددهم إلا الله، ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام.

فروى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك، قال:أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقالوا:

جاء نبي الله، فاستشرفوا ينظرون إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف لهم منه، فعجل أن يضع الذي يخترف لهم فيها فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله.

فلما خلا نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن سلام، فقال:أشهد أنك نبي الله حقا وأنك جئت بالحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ.

فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله صلى الله عليه وسلم:

((يا معشر اليهود ويلكم!اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا)) قالوا:ما نعلمه فأعادها عليهم ثلاثا وهم يجيبونه، كذلك قال:((أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟)) قالوا:ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال ((أفرأيتم إن أسلم)) قالوا:حاشا لله ما كان ليسلم، فقال:((يا ابن سلام اخرج عليهم)).

فخرج إليهم، فقال:يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله! فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، وأنه جاء بالحق، فقالوا: كذبت فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي صحيح البخاري أيضا من حديث حميد عن أنس، قال:

سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض له، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي:

ما أول أشراط الساعة؟

وما أول طعام أهل الجنة؟

وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟

قال: ((أخبرني بهن جبريل آنفا)) قال:جبريل؟ قال: ((نعم)) قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، قال:((ثم قرأ هذه الآية (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على (ص 40) قلبك بإذن الله) أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إلى أمه))

فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، فجاءت اليهود إليه، فقال:((أي رجل فيكم عبد الله بن سلام))؟ قالوا:خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: ((أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام)) قالوا:أعاذه الله من ذلك.

فخرج عبد الله فقال:أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، قالوا:شرنا وابن شرنا. وانتقصوه، قال:هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.

وقال ابن إسحق: حدثني عبد الله ابن أبي بكر، عن يحي بن عبد الله، عن رجل من آل عبد الله بن سلام، قال:كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم، وكان حبرا عالما، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت صفته واسمه وهيأته والذي كنا نتوكف له، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.

فلما قدم نزل معنا في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبرت.

فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري:لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، قال: قلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به، فقالت:يا ابن أخي أهو النبي الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال:قلت لها:نعم، قالت:فذاك إذا.

قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود.

ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم ثم تسألهم عني كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني، قال:فأدخلني بعض بيوته، فدخلوا عليه فكلموه وسألوه، فقال لهم:

((أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟)) قالوا:سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا، قال:فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم، فقلت لهم:يا معشر اليهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله، وأومن به وأصدقه وأعرفه.

قالوا:كذبت، ثم وقعوا فيّ، فقلت:يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟ قال:فأظهرت إسلامي وأسلم أهل بيتي وأسلمت(ص 41) عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها.

وفي مسند الإمام أحمد وغيره عنه قال:لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وانجفل الناس قبله، فقالوا:قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:فجئت في الناس لأنظر إلى وجهه، فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته منه أن قال:((يا أيها الناس أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)).

فعلماء القوم وأحبارهم كلهم كانوا كما قال الله عز وجل:(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)فمنهم من آثر الله ورسوله والدار الآخرة، ومنهم من آثر الدنيا وأطاع داعي الحسد والكبر.

وفي مغازي موسى بن عقبة عن الزهري، قال:كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان تعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها، وعمد أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطبوهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام.

فقال أبو ياسر:يا قوم أطيعوني فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه، فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك - وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير -

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه، وسمع منه فرجع إلى قومه وكان فيهم مطاعا، فقال:أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا، فقال له أخوه أبو ياسر:يا ابن أمي أطعني في هذا الأمر، ثم اعصني فيما شئت بعده لا تهلك، قال:لا والله لا أطيعك واستحوذ عليه الشيطان فاتبعه قومه على رأيه.

وذكر ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر عمن حدثه عن صفية بنت حيي، أنها قالت:لم يكن من ولد أبي وعمي أحد أحب إليهما مني لم ألقهما في ولد قط إلا أخذاني دونه.

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبا نزل في نبي عمرو بن عوف، فغدا إليه أبي وعمي أبو ياسر ابن أخطب مغلسين، فوالله ما جاءا إلا مع مغيب الشمس، فجاءا فاترين كسلين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلي واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي:أهو هو؟ قال:نعم والله، قال:تعرفه بنعته وصفته؟ قال:نعم والله، قال:فماذا في نفسك منه؟ قال:عداوته والله ما بقيت.

قال ابن إسحاق:وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال:لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسد بن شعبة وأسيد بن (ص 42)

عبيد، ومن أسلم من اليهود فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام، قال من كفر من اليهود:ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك:(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين.

((الوجه الأول)):

قوله تعالى في التوراة:((سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك اجعل كلامي في فِيه ويقول لهم ما آمره به والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم(ص 52) باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه)) فهذا النص مما لا يمكن أحد منهم جحده وإنكاره؛ ولكن لأهل الكتاب فيه أربعة طرق:

((أحدها)) حمله على المسيح وهذه طريقة النصارى. وأما اليهود فلهم فيه ثلاثة طرق:

((أحدها)) أنه على حذف أداة الاستفهام، والتقدير:أءقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم أي لا أفعل هذا، فهو استفهام إنكار حذفت منه أداة الاستفهام.

((الثاني)) أنه خبر ووعد، ولكن المراد به شمويل النبي، فإنه من بني إسرائيل، والبشارة إنما وقعت بنبي من إخوتهم، وإخوة القوم هم بنو أبيهم، وهم بنوا إسرائيل.

((الثالث)) أنه نبي يبعثه الله في آخر الزمان، يقيم به ملك اليهود ويعلو به شأنهم وهم ينتظرونه إلى الآن.

وقال المسلمون:البشارة صريحة في النبي صلى الله عليه وسلم العربي الأمي محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه لا يحتمل غيره؛فإنها إنما وقعت بنبي من إخوة بني إسرائيل لا من بني إسرائيل نفسهم، والمسيح من بني إسرائيل، فلو كان المراد بها هو المسيح لقال:أقيم لهم نبيا من أنفسهم، كما قال تعالى:

(لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) وإخوة بني إسرائيل هم بنوا إسماعيل، ولا يعقل في لغة أمة من الأمم أن بني إسرائيل هم أخوة بني إسرائيل، كما أن إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه.

وأيضا فإنه قال:((نبيا مثلك)) وهذا يدل على أنه صاحب شريعة عامة مثل موسى، وهذا يبطل حمله على شمويل من هذا الوجه أيضا، ويبطل حمله على يوشع من ثلاثة أوجه:

((أحدها)): أنه من بني إسرائيل لا من إخوتهم.

((الثاني)): أنه لم يكن مثل موسى الثاني، وفي التوراة لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى.

((الثالث)) أن يوشع نبي في زمن موسى، وهذا الوعد إنما هو بنبي يقيمه الله بعد موسى.

وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل حمله على هارون، مع أن هارون توفي قبل موسى، ونبأه الله مع موسى في حياته.

ويبطل ذلك من وجه ((رابع)) أيضا وهو أن في هذه البشارة أنه ينزل عليه كتابا يظهر للناس من فيه، وهذا لم يكن لأحد بعد موسى غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامات نبوته التي أخبرت بها الأنبياء المتقدمون، قال تعالى:

(وإنه لتنـزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الأولين، أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).

فالقرآن نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر للأمة من فِيه، ولا يصح حمل هذه البشارة على المسيح باتفاق النصارى لأنها إنما جاءت بواحد من إخوة بني إسرائيل، وبنو إسرائيل وإخوتهم كلهم عبيد ليس فيهم إله، والمسيح عندهم إله معبود، وهو أجل عندهم من أن يكون من إخوة العبيد، والبشارة وقعت بعبد مخلوق يقيمه الله من جملة عبيده وأخوتهم، وغايته أن يكون نبيا لا غاية له فوقها، وهذا ليس هو المسيح عند النصارى.

وأما قول(ص 53) المحرفين لكلام الله:أن ذلك على حذف ألف الاستفهام وهو استفهام إنكار، والمعنى:لا أقيم لبني إسرائيل نبيا.

فتلك عادة لهم معروفة في تحريف كلام الله عن مواضعه، والكذب على الله، وقولهم لما يبدلونه ويحرفونه هذا من عند الله، وحمل هذا الكلام على الاستفهام والإنكار غاية ما يكون من التحريف والتبديل، وهذا التحريف والتبديل من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها عن الله من تحريفهم وتبديلهم، فأظهر الله صدقه في ذلك لكل ذي لب وعقل، فازداد إيمانا إلى إيمانه، وازداد الكافرون رجسا إلى رجسهم.

((الوجه الثاني)):

قال في التوراة في السفر الخامس:((أقبل الله من سيناء، وتجلى من ساعير، وظهر من جبال فاران، ومعه ربوات الإظهار عن يمينه)) وهذه متضمنة للنبوات الثلاثة:نبوة موسى، ونبوة عيسى، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فمجيئه من ((سينا)):وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى، ونبأه عليه إخبار عن نبوته، وتجليه من ساعير هو مظهر المسيح من بيت المقدس، و((ساعير)):قرية معروفة هناك إلى اليوم، وهذه بشارة بنبوة المسيح.

((وفاران)):هي مكة، وشبه سبحانه نبوة موسى بمجيء الصبح، ونبوة المسيح بعدها بإشراقه وضيائه ونبوة خاتم الأنبياء باستعلات الشمس، وظهور ضوءها في الآفاق، ووقع الأمر كما أخبر به سواء.

فإن الله سبحانه صدع بنبوة موسى ليل الكفر فأضاء فجره بنبوته، وزاد الضياء والإشراق بنبوة المسيح، وكمل الضياء واستعلن وطبق الأرض بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذكر هذه النبوات الثلاثة التي اشتملت عليها هذه البشارة نظير ذكرها في أول سورة (التين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين).

فذكر أمكنة هؤلاء الأنبياء وأرضهم التي خرجوا منها (والتين والزيتون)والمراد بهما:منبتها، وأرضهما وهي الأرض المقدسة التي هي مظهر المسيح، (وطور سينين)الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فهو مظهر نبوته، (وهذا البلد الأمين) مكة حرم الله وأمنه التي هي مظهر نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم.

فهذه الثلاثة نظير تلك الثلاثة، سواء قالت اليهود:((فاران)):هي أرض الشاموليست أرض الحجاز، وليس هذا ببدع من بهتهم وتحريفهم، وعندهم في التوراة:أن إسماعيل لما فارق أباه سكن في برية فاران.

هكذا نطقت التوراة، ولفظها:((وأقام إسماعيل في برية فاران، وأنكحته أمه امرأة من جرهم)) ولا يشك علماء أهل الكتاب أن فاران مسكن لآل إسماعيل، فقد تضمنت التوراة نبوة تنزل بأرض فاران، وتضمنت نبوة تنزل على عظيم من ولد إسماعيل، وتضمنت انتشار أمته وأتباعه حتى يملؤا السهل والجبل كما (ص 54) سنذكره إن شاء الله تعالى، ولم يبق بعد هذا شبهة أصلا إن هذه هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم التي نزلت بفاران، على أشرف ولد إسماعيل حتى ملأت الأرض ضياء ونورا وملأ أتباعه السهل والجبل، ولا يكثر على الشعب الذي نطقت التوراة بأنهم عادموا الرأي والفطانة ينقسموا إلى جاهل بذلك، وجاحد مكابر معاند، ولفظ التوراة فيهم:

((إنهم لشعب عادم الرأي، وليس فيهم فطانة)) ويقال لهؤلاء المكابرين:أي نبوة خرجت من الشام فاستعلت استعلاء ضياء الشمس، وظهرت فوق ظهور النبوتين قبلها؟ !وهل هذا إلا بمنزلة مكابرة من يرى الشمس قد طلعت من الشرق فيغالط ويكابر، ويقول بل طلعت من المغرب!!.

((الوجه الثالث)):

قال في التوراة في السفر الأول:((إن الملك ظهر لهاجر أم إسماعيل، فقال:يا هاجر من أين أقبلت والى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال:ارجعي فأني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا أسميه إسماعيل لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحش للناس، وتكون يده على الكل، ويد الكل مبسوطة إليه بالخضوع)).

وهذه بشارة تضمنت أن يد ابنها على يد كل الخلائق، وأن كلمته العليا، وأن أيدي الخلق تحت يده، فمن هذا الذي ينطبق عليه هذا الوصف سوى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟ !.

وكذلك في السفر الأول من التوراة:أن الله قال:((لإبراهيم إني جاعل ابنك إسماعيل لأمة عظيمة إذ هو من زرعك)) وهذه بشارة بمن جعل من ولده لأمة عظيمة، وليس هو سوى محمد بن عبد الله الذي هو من صميم ولده، فإنه جعل لأمة عظيمة، ومن تدبر هذه البشارة جزم بأن المراد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن إسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق قط، وكانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع.

وكيف يكون ذلك وقد كانت النبوة والملك في إسرائيل والعيص وعما ابنا إسحاق فلما، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل ودانت له الأمم وخضعت له الملوك، وجعل خلافة الملك إلى أهل بيته إلى آخر الدهر، وصارت أيديهم فوق أيدي الجميع مبسوطة إليهم بالخضوع.

وكذلك في التوراة في السفر الأول:((إن الله تعالى قال لإبراهيم إن في هذا العام يولد لك ولد اسمه إسحاق، فقال إبراهيم:ليت إسماعيل هذا يحي بين يديك يمجدك، فقال الله تعالى:قد استجبت لك في إسماعيل وإني أباركه وأيمنه وأعظمه جدا جدا بما قد استجبت فيه، وإني أصيره إلى أمة كثرة وأعطيه شعبا جليلا))

والمراد بهذا كله الخارج من نسله، فإنه هو (ص 55) الذي عظمه الله جدا جدا وصيره إلى أمة كثيرة، وأعطاه شعبا جليلا، ولم يأت من صلب إسماعيل من بورك وعظم وانطبقت عليه هذه العلامات غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمته ملؤا الآفاق وأربوا في الكثرة على نسل إسحاق.

((الوجه الرابع)):

قال في التوراة في السفر الخامس:((قال موسى لبني إسرائيل:لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فسيقيم لكم الرب نبيا من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي)) ولا يجوز أن يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني إسرائيل لما تقدم أن أخوة القوم ليسوا أنفسهم، كما يقول:بكر وتغلب ابنا وائل، ثم يقول:تغلب أخوة بكر وبنو بكر أخوة بني تغلب، فلو قلت:أخوة بني بكر بنو بكر كان محالا، ولو قلت:لرجل أتيني برجل من أخوة بني بكر بن وائل، لكان الواجب أن يأتيك برجل من بني تغلب ابن وائل لا بواحد من بني بكر.

((الوجه الخامس)):

ما في الإنجيل:((إن المسيح قال للحواريين:إني ذاهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق، لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد علي وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس، وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به))

وفي إنجيل يوحنا:((الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، وإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه ولكنه مما يسمع به، ويكلمكم ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالحوادث والغيوب)).

وفي موضع آخر ((أن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلمكم كل شيء)).

وفي موضع آخر ((إني سائل له أن يبعث إليكم فارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد وهو يعلمكم كل شيء)).

وفي موضع آخر ((ابن البشر ذاهب والفارقليط من بعده يحبي لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل)).

قال أبو محمد بن قتيبية:وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة، وإنما اختلفت لأن من نقلها عن المسيح صلى الله عليه وسلم في الإنجيل من الحواريين عدة، ((والفارقليط)):بلغتهم لفظ من ألفاظ الحمد، أما أحمد، أو محمد، أو محمود، أو حامد، أو نحو ذلك، وهو في الإنجيل الحبشي ((ابن نعطيس)).

وفي موضع آخر ((إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد، ويتكلم بروح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه، ولست أدعكم أيتاما إني سآتيكم عن قريب)).

وفي موضع آخر ((ومن يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتحد المنزل، كلمتكم بهذا لأني لست عندكم مقيما، والفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء، وهو(ص 56) يذكركم كلما قلت لكم، استودعتكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع، فإني منطلق وعائد إليكم، لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمعنى الأب فإن ثبت كلامي فيكم كان لكم كلما تريدون)).

وفي موضع آخر ((إذا جاء الفراقليط الذي أبي أرسله روح الحق الذي من أبي يشهد لي، قلت لكم حتى إذا كان تؤمنوا ولا تشكوا فيه)).

وفي موضع آخر ((إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب)).

وقال يوحنا:قال المسيح:((إن أركون العالم سيأتي وليس لي شيء)).

وقال متى:قال المسيح:((ألم تروا أن الحجر الذي أخره البنّاؤن صار أسا للزاوية من عند الله، كان هذا وهو عجيب في أعيننا، ومن أجل ذلك أقول لكم إن ملكوت الله سيأخذ منكم ويدفع إلى أمة أخرى، تأكل ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر ينشدخ، وكل من سقط هو عليه يمحقه)).

وقد اختلف في ((الفارقليط)) في لغتهم فذكروا فيه أقوالا ترجع إلى ثلاث:

((أحدهما)):

إنه الحامد والحماد أو الحمد كما تقدم، ورجحت طائفة هذا القول، وقال الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم:أنه الحمد، والدليل عليه قول يوشع:((من عمل حسنة يكون له فارقليط جيد)) أي حمد جيد.

((والقول الثاني))

وعليه أكثر النصارى أنه المخلص والمسيح نفسه يسمونه المخلص، قالوا:وهذه كلمة سريانية ومعناها المخلص، قالوا:وهو بالسريانية فاروق، فجعل ((فارق)) قالوا:و((ليط)) كلمة تزاد، ومعناها:كمعنى قول العرب: رجل هو، وحجر هو، وفرس هو.

قالوا:فكذلك معنى ((ليط)) في السريانية.

وقالت طائفة أخرى من النصارى:معناه بالسريانية المعزّى قالوا:وكذلك هو في اللسان اليوناني.

ويعترض على هذين القولين بأن المسيح لم يكن لغته سريانية، ولا يونانية، بل عبرانية، وأجيب عن هذا بأنه يتكلم بالعبرانية والإنجيل إنما نزل باللغة العبرانية، وترجم عنه بلغة السريانية، والرومية، واليونانية، وغيرهما، وأكثر النصارى على أنه المخلص، والمسيح نفسه يسمونه المخلص، وفي الإنجيل الذي بأيديهم أنه قال:((إنما أتيت لأخلص العالم)).

والنصارى يقولون في صلاتهم:لقد ولدت لنا مخلصا ولما لم يمكن النصارى إنكار هذه النصوص حرفوها أنواعا من التحريف، فمنهم من قال:هو روح نزلت على الحواريين.

ومنهم من قال:هو ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا بها الآيات والعجائب.

ومنهم من يزعم:أنه المسيح نفسه لكونه جاء بعد الصلب بأربعين يوما وكونه قام من قبره.

ومنهم من(ص 57) قال: لا يعرف ما المراد بهذا الفارقليط، ولا يتحقق لنا معناه.

ومن تأمل ألفاظ الإنجيل وسياقها، علم أن تفسيره بالروح باطل، وأبطل منه تفسيره بالألسن النارية، وأبطل منهما تفسيره بالمسيح، فإن روح القدس ما زالت تنزل على الأنبياء والصالحين قبل المسيح وبعده، وليست موصوفة بهذه الصفات، وقد قال تعالى:(لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله، ولو كانو آباءهم، أو أبناءهم، أو إخوانهم، أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان ابن ثابت لما كان يهجو المشركين:((اللهم أيده بروح القدس)) وقال:((إن روح القدس معك ما زلت تنافح عن نبيه)).

وإذا كان كذلك ولم يسم أحد هذه الروح فارقليطا علم أن الفارقليط أمر غير هذا.

((وأيضا)) فمثل هذه الروح لا زالت يؤيد بها الأنبياء والصالحون وما بشر به المسيح، ووعد به أمر عظيم يأتي بعده أعظم من هذا، ((وأيضا)) فإنه وصف الفارقليط بصفات لا تناسب هذا الروح وإنما تناسب رجلا يأتي بعده نظيرا له، فإنه قال:((إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فارقليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد)).

فقوله ((فارقليطا آخر)) دل على أنه ثان لأول كان قبله، وأنه لم يكن معهم في حياة المسيح وإنما يكون بعد ذهابه، وتوليه عنهم، ((وأيضا)) فإنه قال:((يثبت معكم إلى الأبد)) وهذا إنما يكون لما يدوم ويبقى معهم إلى آخر الدهر، ومعلوم أنه لم يرد بقاء ذاته فعلم أنه بقاء شرعه وأمره.

والفارقليط الأول لم يثبت معهم شرعه ودينه إلى الأبد، وهذا يبين أن الثاني صاحب شرع لا ينسخ بل يبقى إلى الأبد بخلاف الأول، وهذا إنما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم.

((وأيضا)) فإنه أخبر أن هذا الفارقليط الذي أخبر به يشهد له ويعلمهم كل شيء، وأنه يذكر لهم كل ما قال المسيح، وأنه يوبخ العالم على خطيئته، فقال:

((والفارقليط الذي يرسلهأبي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كلما قلت لكم، وقال إذا جاء الفارقليط الذي أبي أرسله هو يشهد أني قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به، ولا تشكوا فيه، وقال إن خيرا لكم إن انطلق إلى أبي، إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط، فإن، انطلقت أرسلته إليكم فهو يوبخ العالم على الخطيئة فإن لي كلاما كثيرا أريد أن أقول لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عند نفسه بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب)).

فهذه الصفات والنعوت التي تلقوها عن المسيح لا تنطبق على أمر معنوي في قلب بعض الناس لا يراه أحد ولا يسمع كلامه، وإنما تنطبق على من يراه الناس ويسمعون كلامه، فيشهد للمسيح ويعلمهم كل شيء، (ص 58) ويذكرهم كلما قال لهم المسيح.

ويوبخ العالم على الخطيئة، ويرشد الناس إلى جميع الحق، ولا ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبرهم بكل ما يأتي، ويعرفهم جميع ما لرب العالمين، وهذا لا يكون ملكا لا يراه أحد، ولا يكون هدى وعلما في قلب بعض الناس، ولا يكون إلا إنسانا عظيم القدر يخاطب بما أخبر به المسيح.

وهذا لا يكون إلا بشرا رسولا، بل يكون أعظم من المسيح، فإن المسيح أخبر أنه يقدر على ما لا بقدر عليه المسيح، ويعلم ما لا يعلمه المسيح، ويخبر بكل ما يأتي وبما يستحقه الرب حيث قال:

((إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله، ولكنكم لا تستطيعون حمله، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرفكم جميع ما للأب)).

فلا يستريب عاقل أن هذه الصفات لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الأخبار عن الله بما هو متصف به من الصفات، وعن ملائكته، وعن ملكوته، وعما أعده في الجنة لأوليائه، وفي النار لأعدائه، أمر لا تحتمل عقول أكثر الناس معرفته على التفصيل.

قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله.

وقال ابن مسعود: ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.

وسأل رجل ابن عباس عن قوله تعالى: (الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنـزل الأمر بينهن) قال: ما يؤمنك أن لو أخبرتك بها لكفرت.

يعني: لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت بها، وكفرك بها تكذيب بها، فقال لهم المسيح: ((إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله)) وهو الصادق المصدوق وفي هذا، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالى، وصفات ملكوته، وصفات اليوم الآخر، إلا أمور مجملة.وكذلك التوراة ليس فيها من ذكر اليوم الآخر إلا أمور مجملة، مع أن موسى صلى الله عليه وسلم كان قد سهل الأمر للمسيح، ومع هذا فقد قال لهم المسيح: ((إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم ولكنكم لا تستطيعون حمله))، ثم قال: ((ولكن إذا جاء روح الحق فذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق، وأنه يخبركم بكل ما يأتي، وبجميع ما للرب)).

فدل هذا على أن ((الفارقليط)) هو الذي بفعل هذا دون المسيح، وكذلك كان، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى جميع الحق حتى أكمل الله به الدين وأتم به النعمة، ولهذا كان خاتم الأنبياء فإنه لم يبق نبي يأتي بعده غيره.

وأخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بكل ما يأتي من أشراط الساعة، والقيامة، والحساب، والصراط، ووزن الأعمال، والجنة وأنواع نعيمها، والنار وأنواع عذابها، ولهذا كان في القرآن تفصيل أمر الآخرة(ص 59) وذكر الجنة والنار وما يأتي أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل وذلك تصديق قول المسيح أنه يخبر بكل ما يأتي، وذلك يتضمن صدق المسيح وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله تعالى: (أنهم إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين).

أي: مجيئه تصديق للرسل قبله، فإنهم أخبروا بمجيئه فجاء كما أخبروا به، فتضمن مجيئه تصديقهم، ثم شهد هو بصدقهم فصدقهم بقوله ومجيئه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله بين يدي الساعة، كما قال: ((بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى)).

وكان إذا ذكر الساعة؛ علا صوته، واحمر وجهه، واشتد غضبه، وقال: ((أنا النذير العريان)).

فأخبر من الأمور التي تأتي في لمستقبل بما لم يأت به نبي من الأنبياء، كما نعته به المسيح حيث قال: ((إنه يخبركم بكل ما يأتي)). ولا يوجد مثل هذا أصلا عن أحد من الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أن يوجد عن شيء نزل عل قلب بعض الحواريين.

((وأيضا)) فإنه قال: ((ويعرفكم جميع ما للرب)) فبين أنه يعرف الناس جميع ما لله، وذلك يتناول ما لله من الأسماء والصفات، وما له من الحقوق، وما يجب من الإيمان به، وملائكته، وكتبه، ورسله، بحيث يكون يأتي به جامعا لما يستحقه الرب وهذا لم يأت به غير محمد صلى الله عليه وسلم فإنه تضمن ما جاء به من الكتاب والحكمة هذا كله.

((وأيضا)) فإن المسيح قال: ((إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أبي، فهو يشهد لي، قلت لكم هذا حتى إذا كان تؤمنوا به))، فأخبر أنه شهد له، وهذه صفة نبي بشر به المسح ويشهد للمسيح، كما قال تعالى:

(وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) وأخبر أنه يوبخ العالم على الخطيئة، وهذا يستحيل على معنى يقوم بقلب الحواريين، فإنهم آمنوا به، وشهدوا له قبل ذهابه، فكيف يقول: ((إذا جاء فإنه يشهد لي)) ويوصيهم بالإيمان به، أفترى الحواريين لم يكونوا مؤمنين بالمسيح فهذا من أعظم جهل النصارى وضلالهم؟ !.

((وأيضا)) فإنه لم يوجد أحد وبخ جميع العالم على الخطيئة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أنذر جميع العالم من أصناف الناس، ووبخهم على الخطيئة من الكفر والفسوق والعصيان، ولم يقتصر على مجرد النهي، بل وبخهم وفزعهم وتهددهم.

((وأيضا)) فإنه أخبر أنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع.

وهذا إخبار بأن كلما يتكلم به فهو وحي يسمعه ليس هو شيئا تعلمه من الناس، أو عرفه باستنباط، وهذه خاصة محمد صلى الله عليه وسلم.

وأما المسيح فكان علم بما جاء به موسى قبله (ص 60) ويشاركه به أهل الكتاب تلقاه عمن قبله، ثم جاءه وحي خاص من الله فوق ما كان عنده قال تعالى:

(ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)، فأخبر سبحانه أنه يعلمه التوارة التي تعلمها بنو إسرائيل، وزاده تعليم الإنجيل الذي اختص به، والكتاب الذي هو الكتابة، ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم قبل الوحي شيئاً البتة، كما قال تعالى:

(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان).

وقال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبل لمن الغافلين) فلم يكن صلى الله عليه وسلم ينطق من تلقاء نفسه، بل إنما كان ينطق بالوحي، كما قال تعالى:

(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) أي: ما نطقه إلا وحي يوحى وهذا مطابق لقول المسيح أنه لا يتكلم من تلقاء نفسه بل إنما يتكلم بما يوحى إليه، والله تعالى أمره أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له العصمة في تبليغ رسالاته.

فلهذا أرشد الناس إلى جميع الحق، وألقى للناس ما لم يمكن غيره من الأنبياء، ألقاه خوفا أن يقتله قومه، وقد أخبر المسيح بأنه لم يذكر لهم جميع ما عنده، وأنهم لا يطيقون حمله، وهم معترفون بأنه كان يخاف منهم إذا أخبرهم بحقائق الأمور، ومحمد صلى الله عليه وسلم أيده الله سبحانه تأييداً لم يؤيده لغيره:

فعصمه من الناس حتى لم يخف من شيء يقوله، وأعطاه من البيان والعلم ما لم يؤته غيره، وأيد أمته تأييدا أطاقت به حمل ما ألقاه إليهم، فلا يكونوا كأهل التوراة الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، ولا كأهل الإنجيل الذين قال لهم المسيح: ((إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكن لا تستطيعون حمله)).

ولا ريب أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل عقولاً، وأعظم إيماناً، وأتم تصديقاً وجهاداً، ولهذا كانت علومهم وأعمالهم القلبية وإيمانهم أعظم، وكانت العبادات البدنية لغيرهم أعظم.

((وأيضا)) فإنه أخبر عن الفارقليط أنه شهد له، وأنه يعلمهم كل شيء، وأنه يذكرهم كلما قال المسيح، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا شهد له بشهادة يسمعها الناس لا يكون هذا في قلب طائفة قليلة.

ولم يشهد أحد للمسيح شهادة سمعها عامة الناس إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه أظهر أمر المسيح، وشهد له بالحق، حتى سمع شهادته له عامة أهل الأرض، وعلموا أنه صدق المسيح، ونزهه عما افتراه عليه اليهود، وما غالت فيه النصارى، فهو الذي شهد له بالحق، ولهذا لما سمع النجاشي من الصحابة ما شهد به محمد صلى الله عليه وسلم للمسيح قال لهم:((بما زاد عيسى على ما قلتم هذا العود)).

وجعل الله أمة محمد صلى الله وسلم (شهداء على الناس) شهدوا عليهم بما علموا من الحق، إذ كانوا وسطاً عدولاً لا يشهدون بباطل، فإن الشاهد لا يكون إلا عدلا، بخلاف من جار في شهادته، فزاد على الحق، أو نقص منه، كشهادة اليهود للنصارى (ص 61) في المسيح.

((أيضا)) فإن معنى الفارقليط إن كان هو الحامد، أو الحماد، أو المحمود، أو الحمد، فهذا الوصف ظاهر في محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه وأمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل حال، وهو صاحب لواء الحمد، مفتاح خطبته ومفتاح صلاته، ولما كان حمادا سمى بمثل وصفه، فهو محمد وزن مكرم ومعظم ومقدس، وهو الذي يحمد أكثر مما يحمده غيره ويستحق ذلك، فلما كان حمادا لله كان محمدا، وفي شعر حسان:

أغر عليه للنبوة خاتم * من الله ميمون يلوح ويشهد

وضم الإله أسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد وأما ((أحمد)): فهو أفعل التفضيل، أي: هو أحمد من غيره أي أحق بأن يكون محموداً أكثر من غيره، يقال: هذا أحمد من هذا، أي: هذا أحق بأن يحمده من هذا، فيكون تفضيل على غيره في كونه محمودا.

فلفظ ((محمد)) يقتضي زيادة في الكمية، ولفظ أحمد يقتضي زيادة في الكيفية، ومن الناس من يقول: معناه أنه أكثر حمدا لله كان من غيره، وعلى هذا فيكون بمعنى الحامد والحماد، وعلى الأول بمعنى المحمود.

وأن الفارقليط بمعنى: الحمد، فهو تسمية بالمصدر مبالغة في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عدل ورضي ونظائر ذلك، وبهذا يظهر سر ما أخبر به القرآن عن المسيح من قوله: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، فإن هذا هو معنى الفارقليط كما تقدم، وفي التوراة ما ترجمته بالعربية:

((وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاك ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكبره بمأذ بمأذ))، هكذا هذه ((مأذ)) اللفظة ماذ على وزن عمر، وقد اختلف فيها علماء أهل الكتاب فطائفة يقولون معناها جداً جداً، أي:كثيراً كثيراً، فإن كان هذا معناها فهو بشارة بمن عظم من بنيه كثيراً كثيراً، ومعلوم أنه لم يعظم من بنيه أكثر مما عظم من محمد صلى الله عليه وسلم.

وقالت طائفة أخرى: بل هي صريح اسم محمد، قالوا: ويدل عليه أن ألفاظ العبرانية قريبة من ألفاظ العربية، فهي أقرب اللغات إلى العربية.

فإنهم يقولون لإسماعيل: شماعيل، وسمعتك: شمعتيني، وإياه: أو ثو، وقدسك: قدشيخا، وأنت: أنا، وإسرائيل: سيرائيل.

فتأمل قوله في التوراة ((قدس لي خل بخور خل ريخم بني سرائيل باذام ويبياميل)) معناه: قدس لي كل بكر كل أول مولود رحم في بني إسرائيل من إنسان إلى بهيمة لي.

وتأمل قوله: ((نابي أقيم لاهيم تقارب أخيهم كانوا أخا إيلاؤه شماعون)) فإن معناه نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به يؤمنون، وكذلك قوله ((أنتم عابر تم بعيولي أجيخيم بنوا عيصاه)) معناه: أنتم عابرون في تخم أخوتكم بني العيص.

ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر، فإذا أخذت لفظة ((مؤذ مؤذ)) وجدتها أقرب شيء إلى لفظة محمد، وإذا(ص 62) ردت تحقيق ذلك فطابق بين ألفاظ العبرانية والعربية، وكذلك يقولون: ((أصبوع أو لو هم هوم)) أي: أصبع الله كتب له بها التوراة، ويدل على ذلك أداة الباء في قوله:((بمأذ مأذ)) ولا يقال أعظمه بجداً جداً؛ بخلاف أعظمه بمحمد.

وكذلك فإنه هو عظم به وازداد به شرفا إلى شرفه؛ بل تعظيمه؛ بمحمد ابنه صلى الله عليه وسلم فوق تعظيم كل والد بولده العظيم القدر، فلله سبحانه كبره بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى التقديرين فالنص من أظهر البشارات به، أما على هذا التفسير فظاهر جدا، وأما على التفسير الأول فإنما كبر إسماعيل وعظم على إسحاق جداً جداً بابنه محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا طابقت بين معنى ((الفارقليط)) ومعنى ((موذ موذ)) ومعنى ((محمد، وأحمد)) ونظرت إلى خصال الحمد التي فيه، وتسمية أمته بالحمادين، وافتتاح كتابه بالحمد، وافتتاح الصلاة بالحمد، وختم الركعة بالحمد، وكثرة خصال الحمد التي فيه وفي أمته وفي دينه كتابه وعرفت ما خلص به العالم من أنواع الشرك والكفر والخطايا والبدع والقول على الله بلا علم، وما أعز الله به الحق وأهله، وقمع به الباطل وحزبه، تيقنت أنه الفارقليط بالاعتبارات كلها، فمن هذا الذي هو روح الحق الذي لا يتكلم إلا بما يوحى إليه؟ !

ومن هو العاقب للمسيح، والشاهد لما جاء به، والمصدق له بمجيئه، ومن الذي أخبرنا بالحوادث في الأزمنة المستقبلة، كخروج الدجال، وظهور الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول المسيح ابن مريم، وظهور النار التي تحشر الناس، وأضعاف أضعاف ذلك منالغيوب التي قبل يوم القيامة، والغيوب الواقعة من الصراط، والميزان، والحساب، وأخذ الكتب بالأيمان والشمايل.

وتفاصيل ما في الجنة والنار، ما لم يذكر في التوارة والإنجيل، غير محمد صلى الله عليه وسلم؟ ! ومن الذي وبخ العالم على الخطايا سواه؟ !

ومن الذي عرف الأمة ما ينبغي لله حق التعريف غيره؟ !

ومن الذي تكلم في هذا الباب بما لم يطق أكثر العالم أن يقبلوه غيره حتى عجزت عنه عقول كثير ممن صدقه وآمن به، فساموه أنواع التحريف والتأويل لعجز عقولهم عن حمله، كما قال أخوه المسيح صلوات الله عليهما وسلامه؟ !

ومن الذي أرسل إلى جميع الخلق بالحق قولاً وعملاً واعتقادا في معرفة الله، وأسمائه، وصفاته، وأحكامه، وأفعاله، وقضائه وقدره، غيره؟ !

ومن هو أركون العالم الذي أتى بعد المسيح غيره؟ !

((وأركون العالم)) هو عظيم العالم، وكبير العالم، وتأمل قول المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها، ((إن أركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء)) كيف هي شاهدة بنبوة المسيح ونبوة محمد معا، فإنه لما جاء صار الأمر له دون المسيح.

فوجب على العالم كلهم طاعته، والانقياد لأمره، وصار الأمر له حقيقة. ولم يبق بأيدي النصارى إلا دين باطله أضعاف أضعاف حقه، (ص 63) وحقه منسوخ بما بعث الله به محمد صلى الله عليه وسلم، فطابق قول المسيح قول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((ينـزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيحكم بكتاب ربكم)) وقوله في اللفظ الآخر: ((بأتيكم بكتاب ربكم)) فطابق قول الرسولين الكريمين، وبشر الأول بالثاني، وصدق الثاني بالأول.

وتأمل قوله في البشارة الأخرى: ((ألم ترى إلى الحجر الذي أخره البناؤن صار أسا للزاوية)) كيف تجده مطابقا لقول النبي صلى الله عليه:((ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأتمها إلا موضع لبنة منها، فجعل الناس يطوفون بها ويعجبون منها، ويقولون: هلا وضعت تلك اللبنة؟ !

فكنت أنا تلك اللبنة)) وتأمل قول المسيح في هذه البشارة: ((إن ذلك عجيب في أعييننا))، وتأمل قوله فيها: ((إن ملكوت الله سيأخذ منكم، ويدفع إلى أمة أخرى))، كيف تجده مطابقا لقوله تعالى (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) وقوله:

(وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون).

وتأمل قوله في الفارقليط المبشر به: ((يفشى لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل)) وكيف تجده مطابقا للواقع من كل وجه ولقوله تعالى: (وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء) ولقوله تعالى: (ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون).

وإذا تأملت التوراة والإنجيل والكتب، وتأملت القرآن وجدته كالتفصيل لمجملها والتأويل لأمثالها والشرح لرموزها، وهذا حقيقة قول المسيح:((أجيئكم بالأمثال ويجيئكم بالتأويل ويفسر لكم كل شيء)).

وإذا تأملت قوله:((وكل شيء عده الله لكم به)) وتفاصيل ما أخبر به من الجنة والنار والثواب والعقاب تيقنت صدق المرسولين الكريمين، ومطابقة الأخبار المفصلة من محمد صلى الله عليه وسلم للخبر المجمل من أخيه المسيح.

وتأمل قوله في الفارقليط ((وهو يشهد لي كما شهدت له)) كيف تجده منطبقا على محمد بن عبد الله، وكيف تجده شاهدا بصدق الرسولين، وكيف تجده صريحا في رجل يأتي بعد المسيح يشهد له بأنه عبد الله ورسوله كما شهد له المسيح؟ !

فلقد أذن المسيح بنبوة محمد صلوات الله وسلامه عليهما أذانا لم يؤذنه نبي قبله، وأعلن بتكبير ربه أن يكون له صاحبة أو ولد، ثم رفع صوته بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد،

ثم أعلن بشهادة أن محمدا عبده ورسوله الشاهد له بنبوته، المؤيد بروح الحق، الذي لا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بما(ص 64) يوحي إليه، ويعلمهم كل شيء، ويخبرهم ما أعد الله لهم، ثم رفع صوته بحي على الفلاح باتباعه، والإيمان به وتصديقه وأنه ليس له من الأمر معه شيء، وختم التأذين بأن ملكوت الله سيؤخذ ممن كذبه ويدفع إلى اتباعه والمؤمنين به، فهلك من هلك عن بينة، وعاش من عاش عن بينة، فاستجاب اتباع المسيح حقا لهذا التأذين، وأباه الكافرون والجاحدون، فقال تعالى:

(إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم فيه تختلفون).

وهذه بشارة بأن المسلمين لا يزالون فوق النصارى إلى يوم القيامة، فإن المسلمين هم أتباع المرسلين في الحقيقة، وأتباع جميع الأنبياء لا أعداؤه، وأعداؤه النصارى الذين رضوا أن يكون إلها مصفوعاً مصلوباً مقتولاً، ولم يرضوا أن يكون نبيا عبدا لله وجيها عنده مقربا لديه، فهؤلاء أعداؤه حقا والمسلمون أتباعه حقا، والمقصود أن بشارة المسيح بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق كل بشارة، لما كان أقرب الأنبياء إليه، وأولاهم به، وليس بينه وبينه نبي.

(فصل) سيادة دعوة النبي

وتأمل قول المسيح:((إن أركون العالم سيأتي)) وأركون العالم هو سيد العالم وعظيمه.

ومن الذي ساد العالم وأطاعه العالم بعد المسيح غير النبي صلى الله عليه وسلم؟ ! وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل ما أول أمرك قال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى)).

وطابق بين هذا وبين هذه البشارات التي ذكرها المسيح، فمن الذي ساد العالم باطنا وظاهرا وانقادت له القلوب والأجساد، وأطيع في السر والعلانية في محياه وبعد مماته في جميع الأعصار، وأفضل الأقاليم والأمصار، وسارت دعوته مسير الشمس، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وخرت لمجيئه الأمم على الأذقان، وبطلت به عبادة الأوثان، وقامت به دعوة الرحمن، واضمحلت به دعوة الشيطان، وأذل الكافرين والجاحدين، وأعز المؤمنين، وجاء بالحق وصدق المرسلين.

حتى أعلن بالتوحيد على رؤوس الأشهاد، وعبد الله وحده لا شريك له في كل حاضر وباد، وامتلأت به الأرض تحميدا وتكبيرا الله وتهليلا، وتسبيحا، واكتست به بعد الظلم والظلام عدلا ونورا.

(فصل) مطابقة قول المسيح لقول محمد صلى الله عليه وسلم

وطابق بين قول المسيح:((أن أركون العالم سيأتيكم)) وقول أخيه محمد صلى الله عليه وسلم:((أنا سيد ولد آدم ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي، وأنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا، ومبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي)). (ص 65)

الفصل الخامس: النصارى آمنوا بمسيح لا وجود له واليهود ينتظرون المسيح الدجال

وفي قول المسيح في هذه البشارة:((وليس لي من الأمر شيء)) إشارة إلى التوحيد وأن الأمر كله لله، فتضمنت هذه البشارة أصلي الدين: إثبات التوحيد، وإثبات النبوة، وهذا الذي قاله المسيح مطابق لما جاء به أخوه محمد بن عبد الله عن ربه من قوله له

(ليس لك من الأمر شيء) فمن تأمل حال الرسولين الكريمين ودعوتهما وجدهما متوافقين متطابقين حذو القذة بالقذة، وإنه لا يمكن التصديق بأحدهما مع التكذيب بالآخر البتة، وإن المكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم أشد تكذيبا للمسيح الذي هو المسيح ابن مريم، عبد الله ورسوله؛وإن آمن بمسيح لا حقيقة له ولا وجود وهو أبطل الباطل.

وقد قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين وهو يسمونه إقراكيس: (أحبابي إياكم أن تؤمنوا بكل روح، لكن ميزوا الأرواح التي من عند الله من غيرها، واعلموا أن كل روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانيا فهي من عند الله، وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانيا فليست من عند الله، بل من المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم)).

فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق، الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعى إلى عبادة نفسه وأمه وأنه ثالث ثلاثة وأنه الله وابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذاب لو كان له وجود، فإن المسيح الكذاب يزعم أنه الله.

والنصارى في الحقيقة أتباع هذا المسيح كما أن اليهود إنما ينتظرون خروجه، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبي الذي بشروا به، فعوضهم الشيطان بعد مجيئه من الإيمان به انتظارا للمسيح الدجال، وهكذا كل من أعرض عن الحق يعوض عنه بالباطل.

ما عوض به إبليس والنصارى وكل مستكبر عن حق

وأصل هذا أن إبليس لما أعرض عن السجود لآدم كبرا أن يخضع له تعوض بذلك ذل القيادة لكل فاسق ومجرم من بنيه، فلا بتلك النخوة ولا بهذه الحرفة، والنصارى لما أنفوا أن يكون المسيح عبدا لله تعوضوا من هذه الأنفة بأن رضوا بجعله مصفعة اليهود ومصلوبهم الذي يسخرون منه ويهزؤن به، ثم عقدوا له تاجا من الشوك بدل تاج الملك، وساقوه في حبل إلى خشبة الصلب، يصفقون حوله ويرقصون.

فلا بتلك الأنفة له من عبودية الله، ولا بهذه النسبة له إلى أعظم الذل والضيق والقهر، وكذلك أنفوا أن يكون للبترك والراهب زوجة أو ولد، وجعلوا لله رب العالمين الولد، وكذلك أنفوا أن (ص 66) يعبدوا الله وحده لا شريك له ويطيعوا عبده ورسوله.

ثم رضوا بعبادة الصليب والصور المصنوعة بالأيدي في الحيطان، وطاعة كل من يحرم عليهم ما شاء، ويحلل لهم ما شاء، ويشرع لهم من الدين ما شاء من تلقاء نفسه.

ونظير هذا التعويض أنفة الجهمية أن يكون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائنا من خلقه، حتى لا يكون محصورا بزعمهم في جهة معينة، ثم قالوا: هو في مكان بذاته.

فحصروه في الآبار والسجون والأنجاس والأخباث، وعوضوه بهذه الأمكنة عن عرشه المجيد.

فليتأمل العاقل لعب الشيطان بعقول هذا الخلق، وضحكه عليهم واستهزاءه بهم!!!

قول المسيح:((إذا انطلقت أرسلته إليكم)) معناه: أني أرسله بدعاء ربي وطلبي منه أن يرسله، كما يطلب الطالب من ولي الأمر أن يرسل رسولا أو أن يولي نائبا أو يعطي أحدا، فيقول: أنا أرسلت هذا ووليته وأعطيته. يعني أني كنت سببا في ذلك؛

فإن الله سبحانه إذا قضى أن يكون الشيء فإنه يقدر لهأسبابا يكون بها، ومن تلك الأسباب دعاء بعض عباده بأن يفعل ذلك، فيكون في ذلك من النعمة إجابة دعائه مضافا إلى نعمته بإيجاد ما قضى كونه، ومحمد صلى الله عليه وسلم قد دعا به الخليل أبوه، فقال:

(ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم).

مع أن الله سبحانه قد قضى بإرساله، وأعلن باسمه قبل ذلك، كما قيل له: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ فقال: ((وآدم بين الروح والجسد))، وقال: ((إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته)).

وهذا كما قضى الله سبحانه نصره يوم بدر، ومن أسباب ذلك استعانته بربه ودعاؤه وابتهاله بالنصر، وكذلك ما يقضيه من إنزال الغيث قد يجعله بسبب ابتهال عباده ودعائهم وتضرعهم إليه، وكذلك ما يقضيه من مغفرة ورحمة وهداية ونصر قد يسبب له أدعية يحصل بها ممن ينال ذلك، أو من غيره، فلا يمتنع أن يكون المسيح سأل ربه بعد صعوده أن يرسل أخاه محمداً إلى العالم، ويكون ذلك من أسباب الرسالة المضافة إلى دعوة أبيه إبراهيم، لكن إبراهيم سأل ربه أن يرسله في الدنيا فلذلك ذكره الله سبحانه، وأما المسيح فإنما سأله بعد رفعه وصعوده إلى السماء.

وتأمل قول المسيح: ((إني لست أدعكم أيتاماً لأني سآتيكم عن قريب)) كيف هو مطابق لقول أخيه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليهما، ((ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلا، وإماما مقسطا، فيقتل الخنـزير، ويكسر الصليب، ويضع (ص 67) الجزية)) وأوصى أمته بأن ((يقرئه السلام منه من لقيه منهم)) وفي حديث آخر:((كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها

(فصل) أدلة من التوراة على نبوة محمد

وقد تقدم نص التوراة: ((تجلى الله من طور سينا وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)) قال علماء الإسلام - وهذا لفظ أبي محمد بن قتيبية - ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض، لأن مجيء الله من طور سينا إنزاله التوراة على موسى من طور سينا، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا.

وكذلك يجب أن يكون ((إشراقه من ساعير)) إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبع: نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون ((استعلانه من جبال فاران)) إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي: جبال مكة.

قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادعوا أنها غير مكة فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم، قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ !

وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح؟ ! أوليس استعلن وعلن بمعنى واحد، وهما ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينا ظهر ظهور دين الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟ !

قال علماء الإسلام ((وساعير)) جبال بالشام منه ظهور نبوة المسيح، وإلى جانبه قرية بيت لحم، القرية التي ولد فيها المسيح، تسمى اليوم ((ساعير)) ولها جبال تسمى:ساعير، وفي التوراة أن نسل العيص كانوا سكانا بساعير، وأمر الله موسى أن لا يؤذيهم.

قال شيخ الإسلام: وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة ((حراء)) الذي ليس حول مكة أعلى منه، وفيه ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه، وحوله جبال كثيرة وذلك المكان يسمى: فاران إلى هذا اليوم.

والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران، ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على ترتيب الزمان، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه.

وقال في الأول: ((جاء وظهر)).

وفي الثاني: ((أشرق)).

وفي الثالث: ((استعلن)) فكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر، ونزول الإنجيل مثل:إشراق الشمس، ونزول القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء؛ ولهذا قال: ((واستعلن من جبال (ص 68) فارن)).

فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها، أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها، إذا استعلنت وتوسطت السماء؛ ولهذا سماه الله (سراجاً منيراً) وسمى الشمس:

(سراجاً وهاجاً) و الخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت، وفي كل مكان ليلا ونهارا سرا وعلانية.

وقد ذكر الله تعالى هذه الأماكن الثلاثة في قوله: (والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين)

فالتين والزيتون: هو في الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح، وأنزل عليه فيها الإنجيل.

(وطور سنين): وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى تكليما، وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة التي فيه، وأقسم بـ (البلد الأمين)وهو مكة التي أسكن إبراهيم وإسماعيل وأمه فيه، وهو فاران كما تقدم.

ولما كان ما في التوراة خبرا عن ذلك أخبر به على الترتيب الزماني، فقدم الأسبق، ثم الذي يليه، وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيما لشأنها، وإظهارا لقدرته، وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فبدأ بالعالي ثم انتقل إلى أعلا منه، ثم أعلا منهما فإن أشرف الكتب القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل، وكذلك الأنبياء.

(فصل) نطق التوراة صراحة بنبوة محمد

وهذا الذي ذكره ابن قتيبية وغيره من علماء المسلمين.

من تأمل التوراة وجدها ناطقة به، صريحة فيه، فإن فيها ((وعد إبراهيم فأخذ الغلام، وأخذ خبزا وسقاء من ماء، ودفعه إلى هاجر، وحمله عليها، وقال لها: اذهبي، فانطلقت هاجر، ونفذ الماء الذي كان معها، فطرحت الغلام تحت شجرة، وجلست مقابلته على مقدار رمية الحجر، لئلا تبصر الغلام حين يموت،

ورفعت صوتها بالبكاء، وسمع الله صوت الغلام حيث هو، فقال لها الملك: قومي فاحملي الغلام، وشدي يدك به، فإني جاعله لأمة عظيمة، وفتح الله عينيها فبصرت ببئر ماءً فسقت الغلام وملأت سقاها، وكان الله مع الغلام فتربى وسكن في برية فاران،

فهذا نص التوراة أن إسماعيل ربي وسكن في برية فاران بعد أن كان يموت من العطش، وأن الله سقاة من بئر ماء)).

وقد علم بالتواتر واتفاق الأمم أن إسماعيل إنما ربي بمكة، وهو وأبوه إبراهيم بنيا البيت، فعلم قطعا أن ((فاران)) هي أرض مكة.

(فصل) أمثلة من التوراة على صحة نبوة محمد

ومثل هذه البشارة من كلام شمعون فيما قبلوه ورضوا ترجمته ((جاء الله من جبال فاران، وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته)).

ولم يخرج أحد من جبال فاران التي امتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته سوى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن المسيح لم يكن بأرض فاران البتة وموسى، إنما كلم من الطور، والطور ليس من أرض(ص 69) فاران، وإن كانت البرية التي بين مكة الطور تسمى: برية فاران، فلم ينزل الله فيها التوراة، وبشارة التوارة قد تقدمت بجبل الطور، وبشارة الإنجيل بجبل ساعير.

(فصل) ما ذكر في نبوة حتقوق

ونظير هذا ما نقلوه ورضوا ترجمته في نبوة حتقوق:((جاء الله من التين، وظهر القدس على جبال فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وملك بيمينه رقاب الأمم، وأنارت الأرض لنوره، وحملت خيله في البحر)).

قال ابن قتيبية وزاد فيه بعض أهل الكتاب ((وستنزع في قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء)) وهذا إفصاح باسمه وصفاته، فإن ادعوا أنه غيره، فمن أحمد هذا الذي امتلأت من تحميده، الذي جاء من جبال فاران فملك رقاب الأمم؟ !!.

الوجه السادس

قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة: ((إن هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك، فقال:يا هاجر، من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال، قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسمه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع ذُلَّك وخضوعك، وولدك يكون وحش الناس، يده فوق يد الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع أخوته)).

قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق؛ بل كان في أيدي بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد.

ثم خرجوا منها لما بعث موسى وكانوا مع موسى من أعز أهل الأرض، ولم يكن لأحد عليهم يد؛ ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود، وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحدا مثله فلم يكن يد بني إسماعيل عليهم.

ثم بعث الله المسيح فكفروا به، وكذبوه، فدمر عليهم تكذيبهم إياه، وزال ملكهم، ولم يقم لهم بعده قائمة، وقطعهم الله في الأرض أمما، وكانوا تحت حكم الروم والفرس وقهرهم، ولم يكن يد ولد إسماعيل عليهم في هذا الحال، ولا كانت فوق يد الجميع.

إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم برسالته، وأكرمه الله بنبوته فصارت بمبعثه يد بني إسماعيل فوق يد الجميع، فلم يبق في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، بحيث قهروا سلطان فارس والروم والترك والديلم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعباد الأصنام، فظهر بذلك تأويل قوله في التوارة: ((ويكون يده فوق يد الجميع، ويد الكل)) وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.

قالت اليهود: نحن لا ننكر هذا؛ ولكن إن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره لا برسالته ونبوته.

قالت المسلمون: الملك ملكان: ملك ليس معه (ص 70) نبوة، بل ملك جبار متسلط، وملك نفسه نبوة؛ والبشارة لم تقع بالملك الأول؛ ولا سيما إن ادعى صاحبه النبوة والرسالة، وهو كاذب مفتر على الله فهو من شر الخلق وأفجرهم وأكفرهم، فهذا لا تقع البشارة بملكه وإنما يقع التحذير من فتنته كما وقع التحذير من فتنة الدجال، بل هذا شر من سنجاريب، وبخت نصر، والملوك الظلمة الفجرة الذين يكذبون على الله.

فالأخبار لا تكون بشارة، ولا تفرح به هاجر وإبراهيم، ولا بشر أحد بذلك، ولا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها وذلها، وأن الله قد سمع ذلك ويعظم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال:

أنك ستلدين جبارا ظالما طاغيا يقهر الناس بالباطل، ويقتل أولياء الله، ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، ويبدل أديان الأنبياء، ويكذب على الله، ونحو ذلك.

فمن حمل هذه البشارة على هذا فهو من أعظم الخلق بهتانا وفرية على الله؛ وليس هذا بمستنكر لأمة اليهود.

الوجه السابع

قول داود في الزبور:

((سبحوا الله تسبيحا جديدا، وليفرح إسرائيل بخالقه، وبيوت صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمته وأعطاه النصر، وسدد الصالحين بالكرامة يسبحون على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، ولينتقم بهم من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال)).

وهذه الصفات إنما تنطبق على سيدنا محمد وأمته، فهم الذين يكبرون الله بأصواتهم مرتفعة في أذانهم للصلوات الخمس، وعلى الأماكن العالية.

قال جابر:((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك)) وهم يكبرون الله بأصوات عالية مرتفعة في الأذان، وفي عيد الفطر، وعيد النحر، وفي عشر ذي الحجة، وعقيب الصلوات في أيام منى.

وذكر البخاري عن عمر بن الخطاب أنه كان يكبر بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره، فيسمعهم أهل الأسواق فيكبرون، حتى ترتج منى تكبيرا.

وكان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، ويكبرون أيضا على قرابينهم وضحاياهم، وعند رمي الجمار، وعلى الصفا والمروة، وعند محاذاة الحجر الأسود، وفي أدبار الصلوات الخمس؛وليس هذا لأحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا غيرهم سواهم؛فإن اليهود يجمعون الناس بالبوق، والنصارى بالناقوس.

وأما تكبير الله بأصوات مرتفعة فشعار محمد بن عبد الله وأمته وقوله:((بأيديهم سيوف ذات شفرتين)) فهي السيوف العربية التي فتح الصحابة بها البلاد، وهي إلى اليوم معروفة لهم، وقوله

(ص 71) ((يسبحون على مضاجعهم)) هو نعت للمؤمنين (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم).

ومعلوم قطعا أن هذه البشارة لا تنطبق على النصارى ولا تناسبهم؛فإنهم لا يكبرون الله بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين ينتقم الله بهم من الأمم، والنصارى تعيب من يقاتل الكفار بالسيف؛وفيهم من يجعل هذا من أسباب التنفير عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولجهلهم وضلالهم لا يعلمون أن موسى قاتل الكفار، وبعده يوشع بن نون، وبعده داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، وقبلهم إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الوجه الثامن

قول داود:((ومن أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد فتقلد أيها الجبار السيف، لأن البهاء لوجهك، والحمد الغالب عليك، أركب كلمة الحق، وسبحت التأله؛ فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، والأمم يخرون تحتك)) وليس متقلد السيف بعد داود من الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة:إما القبول، وإما الجزية، وإما السيف.

وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)) وقد أخبر داود أن له ناموسا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله؛بخلاف المستضعف المقهور، وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، بخلاف الأذلاء المقهورين المستكبرين، الذين يذلون لأعداء الله، ويتكبرون عن قبول الحق.

الوجه التاسع

قول داود في مزمور آخر:((أن الله سبحانه أظهر من صهيون أكليلا محمودا وضرب الأكليل مثلا للرياسة والإمامة، ومحمود:هو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في ((صفته)): ويحوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وأنه لتخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه ملوك الفرس وتسجد له، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، ويخلص المضطهد البائس، ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالمساكين والضعفاء، ويصلى عليه في كل وقت ويبارك)).

ولا شك عاقل تدبر أمور الممالك والنبوات وعرف سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة أمته من بعده أن هذه الأوصاف لا تنطبق إلا عليه، وعلى أمته، لا على المسيح ولا على نبي غيره، فإنه حاز من البحر الرومي إلى البحر الفارسي، ومن لدن الأنهار جيحون وسيحون والفرات إلى منقطع الأرض بالغرب، (ص 72)

وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم:((زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها)). وهو الذي يصلى عليه ويبارك في كل حين، وفي كل صلاة من الصلوات الخمس وغيرها، وهو الذي خرت أهل الجزائر بين يديه:

أهل جزيرة العرب، وأهل الجزيرة التي بين الفرات ودجلة، وأهل جزيرة الأندلس، وأهل جزيرة قبرص، وخضعت له ملوك الفرس فلم يبق فيهم إلا من أسلم أو أدى الجزية عن يد وهم صاغرون؛بخلاف ملوك الروم فإن فيهم من لم يسلم ولم يؤد الجزية؛ فلهذا ذكر في البشارة ملوك الفرس خاصة، ودانت له الأمم التي سمعت به وبأمته، فهم بين مؤمن به، ومسالم له، ومنافق معه، وخائف منه، وأنقذ الضعفاء من الجبارين.

وهذا بخلاف المسيح فإنه لم يتمكن هذا التمكن في حياته، ولا من اتبعه بعد رفعه إلى السماء، ولا حازوا ما ذكر، ولا يصلون عليه ويباركون في اليوم والليلة؛ فإن القوم يدعون إلاهيته سدس ويصلون له.

الوجه العاشر

قوله في مزمور آخر:((لترتاح البوادي وقراها ولتصير أرض قيذار مروجا، ولتسبح سكان الكهوف، ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجو)) فمن أهل البوادي من الأمم سوى أمة محمد، ومن ((قيذار)) غير ولدا إسماعيل أحد أجداده صلى الله عليه وسلم؟ ! ومن سكان الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟ ! ومن هذا الذي دام ذكره إلى الأبد غيره؟ !

الوجه الحادي عشر

قوله في مزمور آخر:((إن ربنا عظم محمودا)) وفي مكان آخر ((إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا)) فقد نص داود على اسم محمد وبلده وأن كلمته قد عمت الأرض.

الوجه الثاني عشر

قوله في الزبور لداود:((سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه بشر)) وهذه أخبار عن المسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم قبل ظهورهما بزمن طويل، يريد أبعث محمدا حتى يعلم الناس أن المسيح بشر ليس إلها، وأنه ابن البشر لا ابن خالق البشر، فبعث الله هادي الأمة، وكاشف الغمة، فبين للأمم حقيقة أمر المسيح وأنه عبد كريم ونبي مرسل؛لا كما ادعته فيه النصارى ولا كما رمته به اليهود.

الوجه الثالث عشر

قوله في نبوة شعيا:((قيل لي قم نظارا فانظر ما ترى تخبر به، قلت:أرى راكبين مقبلينأحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه:سقطت بابل وأصنامها للبحر)) وصاحب الحمار عندنا وعند النصارى هو المسيح، (ص 73) وراكب الجمل هو محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار، وبمحمد صلى الله عليه وسلم سقطت أصنام بابل لا بالمسيح، ولم يزل في إقليم بابل من يعبد الأوثان من عهد إبراهيم الخليل إلى أن سقطت بمحمد صلى الله عليه وسلم.

الوجه الرابع عشر

قوله في نبوة شعيا أنه قال عن مكة:((ارفعي إلى ما حولك بصرك، فستبهجين وتفرحين من أجل أن الله تعالى يُصيّر إليك ذخائر البحر، وتحج إليك عساكر الأمم، حتى تعم بك قطر الإبل المؤبلة، وتضيق أرضك عن المقطرات التي تجتمع إليك، وتساق إليك كباش مدين، ويأتيك أهل سبأ، وتسير إليك أغنام فاران، وتخدمك رجل نباوت)) يريد سدنة الكعبة وهم:أولاد نبت ابن إسماعيل، قالوا: فهذه الصفات كلها حصلت لمكة:فإنها حملت إليها ذخائر البحر، وحج إليها عساكر الأمم، وسيق إليها أغنام فاران هدايا وأضاحي وقرابين، وضاقت الأرض عن قطرات الإبل المؤبلة الحاملة للناس وأزوادهم، وأتاها أهل سبأ وهم أهل اليمن.

الوجه الخامس عشر

قول أشعيا في مكة أيضا:((وقد أقسمت بنفسي كقسمي أيام نوح أني أغرق الأرض بالطوفان أني لا أسخط عليك ولا أرفضك، وأن الجبال تزول وأن التلاع تنحط، ورحمتي عليك لا تزول.

ثم قال:يا مسكينة يا مضطهدة! ها أنا ذا بانٍ بالحسن حجارتك، ومزاينك بالجواهر، ومكلل باللؤلؤ سقفك، وبالزبرجد أبوابك، وتبعدين من الظلم فلا تخافي، ومن الضعف فلا تضعفي، وكل سلاح يصنعه صانع فلا يعمل فيك، وكل لسان ولغة تقوم معك بالخصومة تفلحين معها، ويسميك الله اسما جديدا -يريد أنه سماها المسجد الحرام -فقومي فأشرقي فإنه قد دنا نورك وقار الله عليك، انظري بعينيك حولك، فإنهم مجتمعون يأتونك بنوك وبناتك عدوا، فحينئذ تسرين وتزوهين، ويخاف عدوك، وليتسع قلبك، وكل غنم قيذار تجتمع إليك، وسادات نباوت يخدمونك)).

((ونباوت)) هم أولاد نبت بن إسماعيل.

((وقيذار)) جد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أخو نبت ابن إسماعيل.

ثم قال:((وتفتح أبوابك الليل والنهار لا تغلق، ويتخذونك قبلة، وتدعين بعد ذلك مدينة الرب)).

الوجه السادس عشر

قوله أيضا في مكة:((سري واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح، وافرحي ولم تحبلي، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي)) يعني بأهله بيت المقدس، ويعني بالعاقر مكة لأنها لم تلد قبل محمد النبي صلى الله عليه وسلم (ص 74) نبيا، ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت الأنبياء ومعدن الوحي، وقد ولد أنبياء كثيرا.

الوجه السابع عشر

قول أشعيا أيضا لمكة شرفها الله:((إني أعطي البادية كرامة لبنان وبهاء الكترمال)) وهما الشام وبيت المقدس؛ يريد: أجعل الكرامة التي كانت هناك بالوحي في ظهور الأنبياء للبادية بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالحج.

ثم قال: ((ويشق البادية مياه وسواق في الأرض الفلاة، ويكون بالفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياه، ويصير هناك محجة وطريق الحرم، لا يمر به أنجاس الأمم، والجاهل به لا يصل هناك، ولا يكون بها سباع ولا أسد، ويكون هناك ممر المخلصين.

الوجه الثامن عشر

قول أشعيا أيضا في كتابه عن الحرم:((إن الذئب والجمل فيه يرتعان معا)) إشارة إلى أمنه الذي خصه الله به دون بقاع الأرض، ولذلك سماه ((البلد الأمين)) وقال:(أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) وقال يعدد نعمة على أهله: (

لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

الوجه التاسع عشر

قول أشعيا أيضا باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد)) فهل بقي بعد ذلك لزايغ مقال أو لطاعن مجال؟ !وقوله: ((يا قدوس الرب)) معناه:يا من طهره الرب وخلصه واصطفاه، وقوله: ((اسمك موجود من الأبد)) مطابق لقول داود في مزمور له: ((اسمك موجود قبل الشمس)).

الوجه العشرون

قول أشعيا في ذكر الحجر الأسود قال:((الرب والسيد ها أنذا مؤسس بصهيون حجرا في زاوية ركن منه. فمن كان مؤمنا فلا يستعجلنا. وأجعل العدل مثل الشاقول، والصدق مثل الميزان، فيهلك الذين ولعوا بالكذب)) فصهيون:هي مكة عند أهل الكتاب، وهذا الحجر الأسود الذي يقبله الملوك فمن دونهم، وهو مما اختص به محمد وأمته.

الوجه الحادي والعشرون

قول شعيا في موضع آخر:((أنه ستملأ البادية والمدن قصورا إلى قيذار ومن رؤوس الجبال، وينادونهم الذين يجعلون لله الكرامة ويثنون بتسبيحه في البر والبحر)) وقال:((ارفع علما لجميع الأمم من بعيد، فيصفر بهم من أقصى الأرض فإذا هم سراع يأتون)).

وبنو قيذار: هم العرب لأن قيذار هو ابن(ص 75)إسماعيل بإجماع الناس، والعلم الذي يرفع هو النبوة، والصفير بهم دعائهم من أقاصي الأرض إلى الحج فإذا هم سراع يأتون، وهذا مطابق لقوله عز وجل:(وأذن في الناس بالحج يأتوك رِجالاً، وعلى كل ضَامِرٍ يأتين من كُلِّ فجٍ عميق).

الوجه الثاني والعشرون

قول أشعيا في موضع آخر:((سأبعث من الصبا قوما يأتون من المشرق مجيبين أفواجا كالصعيد كثرة، ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين)) ((والصبا)) يأتي من نحو مطلع الشمس، بعث الله سبحانه من هناك قوما من أهل المشرق مجيبين بالتلبية كالتراب كثرة.

وقوله:((ومثل الطيان الذي يدوس برجله الطين)) إما أن يراد به الهرولة بالطواف والسعي، وإما أن يراد به رجال قد كلت أرجلهم من المشي.

الوجه الثالث والعشرون

قول في كتاب أشعيا أيضا:((عبدي وخيرتي ورضا نفسي، أفيض عليه روحي)) أو قال:((أنزل عليه روحي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته، يفتح العيون العمي العور، ويسمع الآذان الصم، ويحي القلوب الغلف.

وما أعطيه لا أعطي غيره، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى اللهو، ولا يسمع في الأسواق صوته، ركن للمتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى ولا يخصم، حتى يثبت في الأرض حجتي، وينقطع به المعذرة)).

فمن وجد بهذا الوصف غير محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟ !

فلو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها -وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة -غيره لم يجدوا إلى ذلك سبيلا، فقوله: (عبدي) موافق لقوله في القرآن: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا).

وقوله: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا).

وقوله: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه).

وقوله: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا).

وقوله: (وخيرتي ورضا نفسي)) مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم)).

وقوله: ((لا يضحك)) مطابق لوصفه الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم قالت عائشة:

((ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى تبدو لهواته؛ إنما كان يتبسم تبسما)) وهذا لأن كثرة الضحك من خفة الروح ونقصان العقل؛بخلاف التبسم فإنه من حسن الخلق وكمال الإدراك.

وأما صفته صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب المتقدمة بأنه ((الضحوك القتال)) فالمراد به:أنه لا يمنعه ضحكه وحسن خلقه إذا كان حدا لله وحقا له، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه، فيعطي كل حال ما يليق بتلك الحال، فترك الضحك بالكلية من الكبر والتجبر وسوء الخلق، وكثرته من(ص 76) الخفة والطيش، والاعتدال بين ذلك.

وقوله:((أنزل عليه روحي)) مطابق لقوله تعالى:(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا).

وقوله: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون).

وقوله: (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) فسمي الوحي روحا لأن حياة القلوب والأرواح به، كما أن حياة الأبدان بالأرواح.

وقوله: ((فيظهر في الأمم عدلي)) مطابق قوله تعالى:(فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم).

وقوله عن أهل الكتاب: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط).

وقوله:((يوصي الأمم بالوصايا)) مطابق لقوله تعالى:(شرع لكم من الذين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقوله في سورة الأنعام:(قل تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) إلى قوله:(ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).

ثم قال: (ولا تقربوا ما اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) إلى قوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون)ثم قال:(وإن صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).

ووصاياه صلى الله عليه وسلم هي عهوده إلى الأمة بتقوى الله وعبادته وحده لا شريك له، والتمسك بما بعثه الله به من الهدى ودين الحق، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه.

وقوله:((ولا تسمع صوته)) يعني:ليس بصخاب له فديد كحال من ليس له حلم ولا وقار، وقوله:((يفتح العيون العمي والآذان الصم والقلوب الغلف)) إشارة إلى تكميل مراتب العلم والهدي الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع، فباينوا بذلك أحوال الصم البكم العمي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها.

فإن الهدي يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسل، ففتح الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الأعين العمى فأبصرت بالله، والآذان الصم فسمعت عن الله، والقلوب الغلف فعقلت عن الله، فانقادت لطاعته عقلا وقولا وعملا، وسلكت سبل مرضاته ذللا.

وقوله: ((وما أعطيه فلا أعطي غيره)) مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي)) ولقول الملائكة لما ضربوا له المثل: ((لقد أعطي هذا النبي ما لم يعط نبي قبله إن عينيه تنامان وقلبه يقظان)).

فمن ذلك أنه بعث إلى الخلق عامة، وختم به ديوان الأنبياء، وأنزل عليه القرآن الذي لم ينزلمن السماء كتاب يشبهه ولا يقاربه، وأنزل على قلبه محفوظا متلوا، وضمن له حفظه إلى أن يأتي (ص 77) الله بأمره وأوتي جوامع الكلم، ونصر بالرعب في قلوب أعدائه وبينهما مسيرة شهر، وجعلت صفوف أمته في الصلاة على مثال صفوف الملائكة في السماء.

وجعلت الأرض له ولأمته مسجدا وطهورا، وأسري به إلى أن جاوز السموات السبع، ورأى ما لم يره بشر قبله، ورفع على سائر النبيين، وجعل سيد ولد آدم، وانتشرت دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، واتبعه على دينه أتباع أكثر من أتباع سائر النبيين من عهد نوح إلى المسيح.

فأمته ثلثا أهل الجنة، وخصه بالوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، وبالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وبالشفاعة العظمى التي يتأخر عنها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأعز الله به الحق وأهله عزا لم يعزه بأحد قبله، وأذل به الباطل وحزبه ذلا لم يحصل بأحد قبله.

وآتاه من العلم والشجاعة والصبر والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والعبادات القلبية والمعارف الآلهية ما لم يؤته نبي قبله، وجعلت الحسنة منه ومن أمته بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وتجاوز له عن أمته الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وصلى عليه هو وجميع ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه، وأمر عباده المؤمنين كلهم أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر الله ذكر معه، كما في الخطبة والتشهد والأذان فلا يصح لأحد أذان ولا خطبة ولا صلاة، حتى يشهد أنه عبده ورسوله.

ولم يجعل لأحد معه أمرا يطاع لا ممن قبله ولا ممن هو كائن بعده إلى أن تطوى الدنيا ومن عليها، وأغلق أبواب الجنة إلا عمن سلك خلفه واقتدى به، وجعل لواء الحمد بيده فآدم وجميع الأنبياء تحت لوائه يوم القيامة، وجعله أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يقرع باب الجنة، وأول من يدخلها فلا يدخلها أحد من الأولين والآخرين إلا بشفاعته.

وأعطي من اليقين والإيمان والصبر والثبات والقوة في أمر الله، والعزيمة على تنفيذ أوامره، والرضا عنه، والشكر له، والقنوع في مرضاته، وطاعته ظاهرا وباطنا سرا وعلانية في نفسه، وفي الخلق ما لم يعطه نبي قبله، ومن عرف أحوال العالم وسير الأنبياء وأممهم تبين له أن الأمر فوق ذلك، فإذا كان يوم القيامة ظهر للخلائق من ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أنه يكون أبدا قوله:

((ولا يضعف ولا يغلب)) هكذا كان حاله صلوات الله وسلامه عليه ما ضعف في ذات الله قط، ولا في حال انفراده وقلة أتباعه وكثرة أعدائه، واجتماع أهل الأرض على حربه؛بل هو أقوى الخلق وأثبتهم جأشا وأشجعهم قلبا، حتى أنه يوم أحد قتل أصحابه وجرحوا وما ضعف ولا استكان؛بل خرج من الغد في طلب عدوه على شدة القرح حتى أرعب منه العدو وكر خاسئا على(ص 78) كثرة عددهم وعُددهم وضعف أصحابه.

وكذلك يوم حنين أفرد عن الناس في نفر يسير دون العشرة والعدو قد أحاطوا به، وهم ألوف مؤلفة، فجعل يثب في العدو، ويقول:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

ويتقدم إليهم، ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فولوا منهزمين.

ومن تأمل سيرته وحروبه علم أنه لم يطرق العالم أشجع منه ولا أثبت ولا أصبر، وكان أصحابه مع أنهم أشجع الأمم إذا حمى البأس واشتد الحرب اتقوا به وتترسوا به، فكان أقربهم إلى العدو، وأشجعهم هو الذي يكون قريبا منه.

وقوله: ((ولا يميل إلى اللهو)) هكذا كانت سيرته كان أبعد الناس من اللهو واللعب؛بل أمره كله جد وحزم وعزم، مجلسه مجلس حياء وكرم وعلم وإيمان ووقار وسكينة.

وقوله: ((ولا يسمع في الأسواق صوته)) أي ليس من الصاخبين في الأسواق في طلب الدنيا والحرص عليها كحال أهلها الطالبين لها.

وقوله: ((ركن للمتواضعين فإن من تأمل سيرته وجده أعظم الناس تواضعا للصغير والكبير والمسكين والأرملة والحر والعبد: يجلس معهم على التراب، ويجيب دعوتهم، ويسمع كلامهم، وينطلق مع أحدهم في حاجته، ويأخذ له حقه ممن لا يستطيع أن يطالبه به، ويخصف نعله، ويخيط ثوبه.

وقوله: ((وهو نور الله الذي لا يطفئ ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجته وينقطع به العذر)) وهذا مطابق لحاله وأمره، ولما شهد به القرآن في غير موضع كقوله تعالى:(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون).

وقوله: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا).

وقوله: (يا أيها الناس قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام).

وقوله: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا).

وقوله: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) ونظائره في القرآن كثيرة.

وقوله: ((حتى ينقطع به العذر وتثبت به الحجة)) مطابق لقوله تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل).

وقوله: (والمرسلات عرفا) إلى قوله (فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا) وقوله: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين).

وقوله: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين. أو تقولوا لو أنا أنزلنا علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة). (ص 79)

فالحجة إنما قامت على الخلق بالرسل، وبهم انقطعت المعذرة، فلا يمكن من بلغته دعوتهم وخالفها أن يعتذر إلى الله يوم القيامة إذ ليس له عذر يقبل منه.

وهذه البشارة مطابقة لما في صحيح البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو، أخبرنا ببعض صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: ((إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فافتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، بأن يقولوا لا إله إلا الله)).

وقوله: ((إن هذا في التوراة)) لا يريد به التوراة المعينة التي هي كتاب موسى؛ فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة تارة، ويراد به الجنس تارة.

فيعبر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضا.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((خفف على داود القرآن فكان ما بين أن تسرج دابته إلى أن يركبها يقرأ القرآن)) فالمراد به قرآنه: وهو الزبور.

وكذلك قوله في البشارة التي في التوراة: ((نبيا أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم، أنزل عليه توراة مثل توراة موسى)) وكذلك في صفة أمته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة، ((أناجيلهم في صدورهم))، فقوله: ((أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة)) إما أن يريد التوراة المعينة، أو جنس الكتب المتقدمة.

وعلى التقديرين فإجابة عبد الله بن عمرو بما هو في التوراة، أي: التي هي أعم من الكتاب المعين، فإن هذا الذي ذكره ليس في التوراة المعينة، بل هو في كتاب أشعيا كما حكيناه عنه.

وقد ترجموه أيضا بترجمة أخرى فيها بعض الزيادة: ((عبدي ورسولي الذي سرت به نفسي، أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، والآذان الصم، ويحي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطيه أحدا، يحمد الله حمدا جديدا، يأتي به من أقطار الأرض، وتفرح بالبرية وسكانها، يهللون الله على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية، لا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، مشفح، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوى الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفى، أثر سلطانه على كتفيه)).

وقوله ((مشفح)) بالشين المعجمة والفاء المشددة. بوزن مكرم، وهي لفظة عبرانية مطابقة لاسم محمد معنى ولفظا مقاربا(ص 80) كمطابقة موذ موذ بل أشد مطابقة، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانية فإنها بين الحاء والهاء، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة، ولا يستريب عالم من علمائهم منصف أنها مطابقة لاسم محمد.

قال أبو محمد ابن قتيبية:((مشفح)) محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون: شفحالاها إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد بغير شك، وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم:

((إن مئذ مئذ)) هو محمد، وهو بكسر الميم والهمزة، وبعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة، قال: ولا يشك العلماء منهم بأنه محمد وإن سكتنا عن إيراد ذلك وإذا ضربنا عن هذا صفحا فمن هذا الذي انطبقت عليه وعلى أمته هذه الصفات سواه؟ !

ومن هذا الذي أثر سلطانه وهو خاتم النبوة على كتفيه رآه الناس عيانا مثل زر الحجلة؟ !!

فماذا بعد الحق إلا الضلال، وبعد البصيرة إلا العمى (ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور) فصفات هذا النبي ومخرجه ومبعثه وعلاماته وصفات أمته في كتبهم، يقرؤنها في كنائسهم ويدرسونها في مجالسهم لا ينكرها منهم عالم ولا يأباها جاهل؛ ولكنهم يقولون لم يظهر بعد، وسيظهر ونتبعه.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد. عن عكرمة. وعن سعيد بن جبير. عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه.

فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال معاذ بن جبل، وبشر بن البراء معرور، وداود بن سلمة:

يا معشر، يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه نبي مبعوث، وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله عز وجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

وقال أبو العالية:كان اليهود إذا استنصروا بمحمد على مشركي العرب يقولون:

اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى يعذب المشركين ويقتلهم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن رجال من قومه، قالوا: ومما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا نسمع من رجال اليهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم (ص 81) بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدونا به، فبادرناهم إليه فآمنا به، وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات التي في البقرة:

(ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين).

الوجه الرابع والعشرون

قوله في كتاب شعيا أشكر:((حبيبي وابني أحمد فلهذا)) جاء ذكره في نبوة شعيا أكثر من غيرها من النبوات، وأعلن شعيا بذكره ووصفه ووصف أمته، ونادى بها في نبوته سرا وجهرا لمعرفته بقدره ومنزلته عند الله.

وقال شعيا أيضا:((إنا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد)) وهذا إفصاح باسمه صلى الله عليه وسلم، فليرنا أهل الكتاب نبيا نصت الأنبياء على اسمه وصفته ونعته وسيرته وصفة أمته وأحوالهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ !

الوجه الخامس والعشرون

قول حبقوق في كتابه:((إن الله جاء من اليمن، والقدوس من جبال فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده، وشاع منظره مثل النور، يحوط بلاده بعزة تسير المنايا أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام يمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة، وانخفضت الروابي، فتزعزعت أسوار مدين، ولقد حاز المساعي القديمة)).

ثم قال:((زجرك في الأنهار، واحتدام صوتك في البحار، ركبت الخيول، وعلوت مراكب الأتقياء، وستنزع قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء، ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شؤبوب السيل، وتغيرت المهاري تغييرا رفعت أيديها وجلا وخوفا، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك تدوخ الأرض وتدوس الأمم، لأنك ظهرت لخلاص أمتك، وإنقاذ تراث آبائك)).

فمن رام صرف هذه البشارة عن محمد فقد رام ستر الشمس بالنهار وتغطية البحار، وأنى يقدر على ذلك وقد وصفه بصفات عينت شخصه وأزالت عن الحيران لبسه؟ ! بل قد صرح باسمه مرتين حتى، انكشف الصبح لمن كان ذا عينين، وأخبر بقوة أمته وسير المنايا أمامهم، واتباع جوارح الطير آثارهم، وهذه النبوة لا تليق إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تصلح إلا له، ولا تنزل إلا عليه.

فمن حاول صرفها عنه فقد حاول صرف الأنهار العظيمة عن مجراها، وحبسها عن غايتها ومنتهاها، وهيهات ما يروم المبطلون والجاحدون، ويأبى الله إلا أن (ص 82) يتم نوره ولو كره الكافرون، فمن الذي امتلأت الأرض من حمده وحمد أمته لله في صلواتهم وخطبهم وأدبار صلواتهم، وعلى السراء والضراء، وجميع الأحوال سواء؟ !

حتى سماهم الله قبل ظهورهم الحمادين! ومن الذي كان وجهه كأن الشمس والقمر يجريان فيه في ضيائه ونوره؟ !

قد عود الطير عادت وثقن بها * شاهده في وجهه ينطق

لو لم يقل إني رسول أما * فهن يتعبنه في كل مرتحل

ومن الذي سارت المنايا أمامه، وصحبت سباع الطير جنوده، لعلمها بما يقرب من ذبح الكفار لله الواحد القهار؟ !

يتطايرون بقربه قربانهم * بدماء من علقوا من الكفار

ومن الذي تضعضعت له الجبال وانخفضت له الروابي، وداس الأمم، ودوخ العالم، انتفضت بنبوته الممالك، وخلص الأمة من الشرك والكفر والجهل والظلم سواه؟ !

الوجه السادس والعشرون

قوله في كتاب حزقيل يهدد اليهود، ويصف لهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم:((وأن الله مظهرهم عليكم، وباعث فيهم نبيا، ينزل عليه كتابا، ويملكهم رقابكم فيقهرونكم ويذلونكم بالحق، ويخرج رجال بني قيدار في جماعات الشعوب معهم ملائكة على خيل بيض متسلحين يوقعون بكم، وتكون عاقبتكم إلى النار)).

فمن الذي أظهره الله على اليهود حتى قهرهم وأذلهم وأوقع بهم وأنزل عليه كتابا؟ !

ومن هم بنو قيدار غير بني إسماعيل اللذين خرجوا معه ومعهم جماعات الشعوب؟ !

ومن الذي نزلت عليه الملائكة على خيل بيض يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، حتى عاينوها عيانا تقاتل بين يديه، وعن يمينه وعن شماله، حتى غلب ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا ليس معهم غير فرسين ألف رجل مقنعين في الحديد، معدودين من فرسان العرب، فأصبحوا بين قتيل وأسير ومنهزم !!!

الوجه السابع والعشرون

قول دانيال وذكره باسمه الصريح، من غير تعريض ولا تلويح، وقال:((سينزع في قسيك أعراقا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء)).

وقال دانيال النبي أيضا حين سأل بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها ثم أنسيها:((رأيت أيها الملك صنماً عظيماً قائماً بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من الخزف، فبينا أنت متعجب منه إذ أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم، فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا ثم نسفته الرياح وذهب، (ص 83) وتحول ذلك الحجر إنسانا عظيما ملأ الأرض فهذا ما رأيت أيها الملك))، فقال بخت نصر:

صدقت فما تأويلها؟ قال: أنت الرأس الذي رأيته من الذهب، ويقوم بعدك ولدك وهو الذي رأيته من الفضة وهو دونك، وتقوم بعده مملكة أخرى هي دونه وهي تشبه النحاس، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد.

وأما الرجلان اللذان رأيت من خزف فمملكة ضعيفة، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم ففتته فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ الأرض منه ومن أمته، ويدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا فهذا تعبير رؤياك أيها الملك.

ومعلوم أن هذا منطبق على محمد بن عبد الله حذو القذة بالقذة؛ لا على المسيح ولا على نبي سواه، فهو الذي بعث بشريعة قوية، ودق جميع ملوك الأرض وأممها حتى امتلأت الأرض من أمته، وسلطانه دائم إلى آخر الدهر، لا يقدر أحد أن يزيله كما أزال سلطان اليهود من الأرض، وأزال سلطان النصارى عن خيار الأرض ووسطها فصار في بعض أطرافها، وزال سلطان المجوس وعباد الأصنام وسلطان الصابئين.

الوجه الثامن والعشرون

قول دانيال أيضا:((سألت الله وتضرعت إليه أن يبين لي ما يكون من بني إسرائيل، وهل يتوب عليهم ويرد إليهم ملكهم ويبعث فيهم الأنبياء، أو يجعل ذلك في غيرهم، فظهر لي الملك في صورة شاب حسن الوجه، فقال:

السلام عليك يا دانيال، إن الله يقول: إن بني إسرائيل أغضبوني وتمردوا علي، وعبدوا من دوني آلهة أخرى، وصاروا من بعد العلم إلى الجهل، ومن بعد الصدق إلى الكذب، فسلطت عليهم بختنصر، فقتل رجالهم، وسبي ذراريهم، وهدم مسجدهم، وحرق كتبهم، وكذلك يفعل من بعده بهم.

وأنا غير راضٍ عنهم، ولا مقيلهم عثراتهم، فلا يزالون في سخطي حتى أبعث مسيحي ابن العذراء البتول فأختم عليهم عند ذلك باللعن والسخط، فلا يزالون ملعونين عليهم الذلة والمسكنة حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر، وأرسلت إليها ملاكي فبشرها.

فأوحى إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها.

أسري به إليّ، وأرقيه من سماء إلى السماء حتى يعلو فأدينه وأسلم عليه، وأوحى إليه وأرقيه، ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظا لما استودع، صادقا بما أمر، يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب بالسواق، رؤف بمن والاه، رحيم بمن آمن به، خشن على من عاداه، (ص 84) فيدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي، ويخبرهم بما رأى من آياتي، فيكذبونه ويؤذونه)).

ثم سرد دانيال قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أملاه عليه الملك حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا.

وهذه البشارة أيضا عند اليهود والنصارى يقرؤنها ويقرون بها، ويقولون: لم يظهر صاحبها بعد.

قال أبو العالية: لما فتح المسلمون تستر، وجدوا دانيال ميتاً، ووجدوا عنده مصحفا، قال أبو العالية: أنا قرأت ذلك المصحف وفيه صفتكم، وأخباركم، وسيرتكم، ولحون كلامكم، وكان أهل الناحية إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيسقون، فكتب أبو موسى الأشعري في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر: أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبرا وادفنه بالليل في واحد منها لئلا يفتتن الناس به.

الوجه التاسع والعشرون

قال كعب: وذكر صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، ويريد بها التوراة التي هي أعم من التوراة المعينة:((أحمد عبدي المختار، لافظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، يعفو ويغفر.

مولده بكاء، وهجرته طابا، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمدون الله على كل نجد، ويسبحونه في كل منزلة، ويوضؤن أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، وهم رعاة الشمس، ومؤذنهم في جو السماء، وصفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، رهبان بالليل، أسد بالنهار، ولهم دوي كدوي النحل، يصلون الصلاة حيث ما أدركتهم ولو على كناسة)).

الوجه الثلاثون

قال ابن أبي الزناد: حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمر بن حفص، وكان من خيار الناس، قال: كان عند أبي وجدي ورقة يتوارثونها قبل الإسلام فيها: ((اسم الله وقوله الحق، وقول الظالمين في تبار، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان يتزرون على أوساطهم، ويغسلون أطرافهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما هلكوا بالطوفان، وفي ثمود ما هلكوا بالصيحة)).

الوجه الحادي والثلاثون

قال شعيا وذكر قصة العرب فقال:((ويدوسون الأمم دياس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب، وينهزمون بين يدي سيوف مسلولة، وقسي مؤترة من شدة الملحمة)) وهذا إخبار عما حل بعبدة الأوثان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، ويوم حنين، وفي غيرهما من الوقائع.

الوجه الثاني والثلاثون

قوله في الإنجيل الذي بأيدي النصارى عن يوحنا:((أن المسيح قال للحواريين: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا إني صنعت لهم صنائع (ص 85) لم يصنعها أحد لم يكن لهم ذنب، ولكن من الآن بطروا فلا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس لأنهم أبغضوني مجافا.

فلو قد جاء المنجمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط فهو شهيد عليّ وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معي، هذا قولي لكم لكيلا تشكوا إذا جاء)).

((والمنجمنا)) بالسريانية، وتفسيره بالرومية: بالبارقليط، وهو بالعبرانية: الحماد والمحمود والحمد كما تقدم.

الوجه الثالث والثلاثون

قوله في الإنجيل أيضا:((إن المسيح قال لليهود: وتقولون كنا في أيام آبائنا لم نساعدهم على قتل الأنبياء، فأتموا كيل آبائكم يا ثعابين بني الأفاعي، كيف لكم النجاة من عذاب النار)).

((وسأبعث إليكم أنبياء وعلماء، تقتلون منهم، وتصلبون، وتجلدون، وتطلبونهم من مدينة إلى أخرى، لتتكامل عليكم دماء لمؤمنين المهرقة على الأرض من دم هابيل، والصالح إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه عند المذبح، إنه سيأتي جميع ما وصفت على هذه الأمة يا أورشليم التي تقتل الأنبياء وترجم من بعث إليك، قد أردت أن أجمع بنيك كجمع الدجاجة فراريخها تحت جناحها وكرهت أنت ذلك، سأقفر عليكم بيتكم، وأنا أقول لا تروني الآن حتى يأتي من يقولون له مبارك، يأتي على اسم الله)).

فأخبرهم المسيح أنهم لابد أن يستوفوا الصاع الذي قدر لهم، وأنه سيقفر عليهم بيتهم أي يخليه منهم، وأنه يذهب عنهم فلا يرونه حتى يأتي المبارك الذي يأتي على اسم الله، فهو الذي انتقم بعده لدماء المؤمنين.

وهذا نظير قوله في الموضع الآخر:((إن خيرا لكم أن أذهب عنكم حتى يأتيكم الفارقليط، فإنه لا يجيء ما لم أذهب)).

وقوله أيضا:((ابن البشر ذاهب، والفارقليط من بعده))

وفي موضع آخر:((أنا أذهب وسيأتيك الفارقليط)) والفارقليط والمبارك الذي جاء بعد المسيح هو محمد صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره.

الوجه الرابع والثلاثون

قوله في إنجيل متى:((أنه لما حبس يحيى بن زكريا بعث بتلاميذه إلى المسيح وقال لهم: قولوا له أنت أيل أم نتوقع غيرك؟ فقال: المسيح الحق اليقين أقول لكم: إنه لم تقم النساء عن أفضل من يحيى بن زكريا، وإن التوراة وكتب الأنبياء تتلو بعضها بالنبوة والوحي حتى جاء يحيى، وأما الآن فإن شئتم فأقبلوا، فإن أيل مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليستمع)).

وهذه بشارة بمجيء الله سبحانه الذي هو ((أيل)) بالعبرانية، ومجيئه هو مجيء رسوله وكتابه ودينه، (ص 86) كما في التوراة:((جاء الله من طور سيناء)).

قال بعض النصارى: إنما بشر بإلياس النبي؛ وهذا لا ينكر من جهل أمة الضلال، وعباد خشبة الصليب التي نحتتها أيدي اليهود؛ فإن إلياس قد تقدم إرساله على المسيح بدهور متطاولة.

الوجه الخامس والثلاثون

قوله في نبوة أرميا:((قبل أن أخلقك قد عظمتك من قبل أن أصورك في البطن، وأرسلتك وجعلتك نبيا للأجناس كلهم))، فهذه بشارة على لسان أرميا لمن بعده، وهو إما المسيح وأما محمد صلوات الله وسلامه عليهما، لا يعدوهما إلى غيرهما، ومحمد أولى بها، لأن المسيح إنما كان نبيا لبني إسرائيل، كما قال تعالى:(ورسولاً إلى بني إسرائيل) والنصارى تقر بهذا.

ولم يدع المسيح أنه رسول إلى جميع أجناس أهل الأرض؛ فإن الأنبياء من عهد موسى إلى المسيح إنما كانوا يبعثون إلى قومهم؛ بل عندهم في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين:

((لا تسلكوا إلى سبيل الأجناس، ولكن اختصروا على الغنم الرابضة من نسل إسرائيل))، وأما محمد بن عبد الله فهو الذي بعثه الله إلى جميع أجناس الأرض، وطوائف بني آدم، وهذه البشارة مطابقة لقوله تعالى:(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا).

ولقوله صلى الله عليه وسلم:((بعثت إلى الأسود والأحمر)).

وقوله صلى الله عليه وسلم:((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)).

وقد اعترف النصارى بهذه البشارة ولم ينكروها؛ لكن قال بعض زعمائهم إنها بشارة لموسى بن عمران وإلياس واليسع، وأنهم سيأتون في آخر الزمان، وهذا من أعظم البهت والجرأة على الله والافتراء عليه؛ فإنه لا يأتي من قد مات إلى يوم الميقات المعلوم.

الوجه السادس والثلاثون

قول المسيح في الإنجيل الذي بأيديهم وقد ضرب مثل الدنيا فقال:((كرجل اغترس كرما وسيج حوله، وجعل فيه معصرة، وشيد فيه قصرا، ووكل به أعوانا، وتغرب عنه، فلما دنى أوان قطافه بعث عبده إلى أعوانه الموكلين بالكرم))، ثم ضرب مثلا للأنبياء ولنفسه، ثم للنبي الموكل آخرا بالكرم، ثم أفصح عن أمته

فقال: ((وأقول لكم سيزاح عنكم ملك الله، وتعطاه الأمة المطيعة العاملة))، ثم ضرب لنبي هذه الأمة مثلا بصخرة وقال:((من سقط على هذه الصخرة سينكسر، ومن سقطت عليه ينهشم)).

وهذه صفة محمد ومن ناوأه وحاربه من الناس لا تنطبق على أحد بعد المسيح سواه.

الوجه السابع والثلاثون

قول شعيا في صحفة:((لتفرح أرض البادية العطشى ولتبتهج البراري والفلوات، لأنها ستعطي بأحمد محاسن لبنان ومثل حسن الدساكير)) (ص 87) وتالله ما بعد هذا إلا المكابرة، وجحد الحق بعد ما تبين.

الوجه الثامن والثلاثون

قول حزقيل في صحفه التي بأيديهم:((يقول الله عز وجل -بعد ما ذكر معاصي بني إسرائيل وشبههم بكرمة غذاها وقال لم -تلبث الكرمة أن قلعت بالسخطة، ورمي بها على الأرض، و أحرقت السمائم ثمارها، فعند ذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى، وخرجت من أغصانها الفاضلة نار أكلت تلك الكرمة، حتى لم يوجد فيها غصن قوي ولا قضيب)).

وهذا تصريح لا تلويح به صلى الله عليه وسلم، وببلده وهي مكة العطشى المهملة من النبوة قبله من عهد إسماعيل.

الوجه التاسع والثلاثون

ما في صحف دانيال وقد نعت الكشدانين الكذابين فقال:((لا تمتد دعوتهم ولا يتم قربانهم، وأقسم الرب بساعده أن لا يظهر الباطل ولا يقوم لمدع كاذب دعوة، أكثر من ثلاثين سنة))

وفي التوراة ما يشبه هذا.

وهذا تصريح بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الذين اتبعوه بعد موته أضعاف أضعاف الذين اتبعوه في حياته، وهذه دعوته قد مرت عليها القرون من السنين، وهي باقية مستمرة وكذلك إلى آخر الدهر، ولم يقع هذا لملك قط فضلا عن كذاب مفتر على الله وأنبيائه، مفسد للعالم، مغير لدعوة الرسل، ومن ظن هذا بالله فقد ظن به أسوأ الظن، وقدح في علمه، وقدرته وحكمته.

الفصل السادس: مناظرة المؤلف لأحد كبار اليهود

وقد جرت لي((مناظرة)) بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام: أنتم بتكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم قد شتمتم الله أعظم شتيمة.

فعجب من ذلك، وقال:مثلك يقول هذا الكلام! فقلت له:اسمع الآن تقريره، إذا قلتم: إن محمدا ملك ظالم قهر الناس بسيفه وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول:أمرني الله بكذا، ونهاني عن كذا، وأوحى إلى كذا؛ ولم يكن من ذلك شيء،

ويقول:أنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم، وغنيمة أموالهم، وقتل رجالهم؛ ولم يكن من ذلك شيء، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء، ومعاداة أممهم، ونسخ شرائعهم، فلا يخلو إما أن تقولوا أن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه، أو تقولوا أنه خفي عنه ولم يعلم به، فإن قلتم لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل، وكان من علم ذلك أعلم منه.

وإن قلتم بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه، فلا يخلو إما أن يكون قادرا على تغييره، والأخذ على يديه ومنعه من ذلك، أولا، فإن لم يكن قادرا فقد نسبتموه إلى (ص 88)

أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرا، وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ويعليه ويعلى كلمته، ويجيب دعاءه، ويمكنه من أعدائه، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له.

فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلا عن رب الأرض والسماء؛ فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه، وهذه عندكم شهادة زور وكذب، فلما سمع ذلك. قال:

معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد، قلت: فما لك لا تدخل في دينه؟ قال: إنما بعث إلى الأميين الذي لا كتاب لهم، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه.

قلت له:غلبت كل الغلب، فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر أنه رسول الله إلى جميع الخلق، وأن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به؛فأمسك ولم يحر جوابا.

وقريب من هذه المناظرة ما جرى لبعض علماء المسلمين مع بعض اليهود ببلاد المغرب قال له المسلم: في التوراة التي بأيديكم إلى اليوم أن الله قال لموسى: ((إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيا مثلك، أجعل كلامي على فِيه، فمن عصاه انتقمت منه)) قال له اليهودي: ذلك يوشع بن نون، فقال المسلم: هذا محال من وجوه:

(أحدها): أنه قال عندك في آخر التوراة:((أنه لا يقوم في بني إسرائيل نبي مثل موسى)).

(الثاني): أنه قال:((من إخوتهم)) وأخوة بني إسرائيل، إما العرب و إما الروم، فإن العرب بنو إسماعيل والروم بنو العيص وهؤلاء أخوة بني إسرائيل، فأما الروم فلم يقم منهم نبي سوى أيوب، وكان قبل موسى فلا يجوز أن يكون هو الذي بشرت به التوراة، فلم يبق إلا العرب وهم بنو إسماعيل وهم أخوة بني إسرائيل.

وقد قال الله في التوراة حين ذكر إسماعيل جد العرب ((أنه يضع فسطاطه في وسط بلاد أخوته)) وهم بنو إسرائيل، وهذه بشارة بنبوة ابنه محمد الذي نضب فسطاطه وملك أمته في وسط بلاد بني إسرائيل، وهي الشام التي هي مظهر ملكه كما تقدم من قوله: ((وملكه بالشام)) فقال له اليهودي: فعندكم في القرآن (وإلى مدين أخاهم شعيبا) (وإلى عاد أخاهم هودا) (وإلى ثمود أخاهم صالحا) والعرب تقول: يا أخا بني تميم للواحد منهم، فهكذا قوله: ((أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم)).

قال المسلم: الفرق بين الموضعين ظاهر؛فإنه من المحال أن يقال: إن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل، وبني تميم إخوة بني تميم، وبني هاشم إخوة بني هاشم، هذا ما لا يعقل في لغة أمة من الأمم، بخلاف قولك: زيد أخو بني تميم، وهو عاد، وصالح أخو ثمود، أي واحد منهم، فهو أخوهم في النسب.

ولو قيل عاد أخو عاد وثمود أخو(ص 89) ثمود، ومدين أخو مدين لكان نقصا، وكان نظير قولك: بنو إسرائيل إخوة بني إسرائيل، فاعتبار أحد الموضعين بالآخر خطأ صريح، قال اليهودي: فقد أخبر أنه سيقيم هذا النبي لبني إسرائيل، ومحمد إنما أقيم للعرب، ولم يقم لبني إسرائيل فهذا الاختصاص يشعر بأنه مبعوث إليهم لا إلى غيرهم.

قال المسلم: هذا من دلائل صدقه، فإنه ادعى أنه رسول الله إلى أهل الأرض كتابيهم وأميهم، ونص الله في التوراة على أنه يقيمه لهم، لئلا يظنوا أنه مرسل إلى العرب والأميين خاصة، والشيء يخص بالذكر لحاجة المخاطب إلى ذكره، لئلا يتوهم السامع أنه غير مراد باللفظ العام، ولا داخل فيه، وللتنبيه على أن ما عداه أولى بحكمه ولغير ذلك من المقاصد، فكان في تعيين بني إسرائيل بالذكر إزالة لوهم من توهم أنه مبعوث إلى العرب خاصة، وقد قال تعالى:

(لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) وهؤلاء قومه ولم ينف ذلك أن يكون نذيرا لغيرهم، فلو أمكنك أن تذكر عنه أنه ادعى أنه رسول إلى العرب خاصة، لكان ذلك حجة، فأما وقد نطق كتابه وعرف الخاص والعام بأنه ادعى أنه مرسل إلى بني إسرائيل وغيرهم فلا حجة لك.

قال اليهودي:إن أسلافنا من اليهود كلهم على أنه ادعى ذلك، ولكن العيسوية منا تزعم أنه نبي العرب خاصة، ولسنا نقول بقولهم، ثم التفت إلى يهودي معه، فقال: نحن قد جرى شأننا على اليهودية، وتالله ما أدري كيف التخلص من هذا العربي؛إلا أنه أقل ما يجب علينا أن نأخذ به أنفسنا النهي عن ذكره بسوء.

(فصل) صفات النبي المذكورة في كتبهم

وقال محمد بن سعد في((الطبقات)) حدثنا معن بن عيسى، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي فروة، عن ابن عباس أنه سأل كعب الأحبار: كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده ((محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره إلى طابة، ويكون ملكه بالشام، ليس بفحاش ولا صخاب بالأسواق، ولا يكافئ السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح)).

وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: حدثنا الحسن بن الربيع، حدثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن أبي صالح قال: قال: كعب نجد مكتوبا ((محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر.

وأمته الحمادون يكبرون الله على كل نجد، ويحمدونه في كل منزلة، يأتزرون على أنصافهم، ويتوضؤن على أطرافهم، مناديهم ينادي في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء، لهم دوي كدوي النحل، مولده بمكة، ومهاجره بطابة، وملكه بالشام)).(ص 90)

قال الدارمي: وأخبرنا زيد بن عوف، حدثنا أبو عوانه، عن عبد الملك بن عمير، عن ذكوان أبي صالح، عن كعب قال: في السطر الأول ((محمد رسول الله، عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام)).

وفي السطر الثاني ((محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في كل حال ومنزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة الشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، يأتزرون على أوساطهم، ويوضؤن أطرافهم، وأصواتهم بالليل في جو السماء كأصوات النحل)).

وقال عاصم بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة، عن أبيه قال: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويعلمون الولدان صفته واسمه ومهاجره، فلما ظهر حسدوا وبغوا وأنكروا.

وذكر أبو نعيم في ((دلائل النبوة)) من حديث سليمان بن سحيم، ورميح بن عبد الرحمن كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول:

أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمستهزئ به:ما صفته؟ فقال:رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، وهذا البلد مهاجره.

قال فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلا منا يقول: هذا وحده يقوله؟ ! كل يهود يثرب تقول هذا، قال أبي: فخرجت حتى جئت يهود بني قريظة، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي يطلع إلا بخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، هذه مهاجره، قال أبو سعيد:

فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخبره أبي هذا الخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لو أسلم الزبير وذووه من رؤساء يهود لأسلمت يهود كلها إنما هم لهم تبع)).

وقال النضر بن سلمة حدثنا يحيى بن إبراهيم، عن صالح بن محمد عن أبيه، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن محمد بن مسلمة قال: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له: يوشع، فسمعته يقول وإني لغلام: قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى نحو بيت الله الحرام، فمن أدركه فليصدقه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وهو بين أظهرنا، ولم يسلم حسدا وبغيا.

قال النضر: وحدثنا عبد الجبار بن سعيد، عن أبي بكر بن عبد الله العامري، عن سليم بن يسار، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما كان في الأوس والخزرج(ص 91) رجل أوصف لمحمد من أبي عامر الراهب، كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين، ويخبرونه بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه دار هجرته.

ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه بمثل ذلك.

ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى فأخبروه بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن مهاجره يثرب، فرجع أبو عامر، وهو يقول: أنا على دين الحنيفية، وأقام مترهبا ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم، وأنه ينتظر خروج النبي.

فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لم يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسده وبغى ونافق، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد: بم بعثت؟ قال: ((بالحنيفية)) قال: أنت تخلطها بغيرها؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتيت بها بيضاء، أين ما كان يخبرك الأحبار من اليهود والنصارى من صفتي))؟ فقال: لست الذي وصفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كذبت))

فقال: ما كذبت، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((الكاذب أماته الله وحيدا طريدا)) قال: آمين، ثم رجع إلى مكة، وكان مع قريش يتبع دينهم، وترك ما كان عليه، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا.

وقال الواقدي: حدثني محمد بن سعد الثقفي وعبد الرحمن بن عبد العزيز في جماعة كل حدثني بطائفة من الحديث، عن المغيرة بن شعبة، أنه دخل على المقوقس، وأنه قال له: إن محمدا نبي مرسل، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه، قال المغيرة: فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها، وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان أسقف من القبط، وهو رأس كنيسة أبي محنس كانوا يأتونه بمرضاهم فيداويهم ويدعو لهم، لم أر أحدا قط لا يصلي الخمس أشد اجتهادا منه، فقلت: أخبرني هل بقي أحد من الأنبياء؟ قال: نعم وهو آخرهم ليس بينه وبين عيسى أحد، وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه.

وهو النبي الأمي العربي اسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، وليس بالأبيض ولا بالأدم، يعفي شعره، ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزي بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه، ولا يبالي من لاقى، يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم، هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم.

يخرج من أرض القرظ، ومن حرم يأتي وإلى حرم يهاجر، إلى أرض مسبخة ونخل، يدين بدين إبراهيم، يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويخص بما لم يخص به الأنبياء قبله.

وكان النبي يبعث إلى قومه ويبعث إلى الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبلهم مشدد عليهم لا يصلّون إلا في الكنائس والبيع.

(ص 92) وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد، عن أبيه، عن جده سعيد بن زيد، أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل، فقال لزيد: من أين أقبلت؟ قال: من بيت إبراهيم، قال: وما تلتمس؟ قال: التمس الدين، قال: ارجع فإنه يوشك أن يظهر الذي تطلب في أرضك، فرجع وهو يقول: لبيك حقا حقا تعبدا ورقا.

وقال ابن قتيبة في كتاب ((الأعلام)): حدثني يزيد بن عمرو، حدثنا العلاء بن الفضل، حدثني أبي، عن أبيه عبد الملك ابن أبي سوية، عن أبي سوية، عن أبيه خليفة ابن عبدة المنقري، قال: سألت محمد بن عدي: كيف سماك أبوك عدي محمدا؟

قال: أما إني قد سألت أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم، أنا أحدهم، ومجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن جندب، نريد ابن جفنة الغساني.

فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير فيه شجرات، وقربه ديراني فأشرف علينا، وقال: إن هذه اللغة ما هي لأهل هذه البلد، قلنا: نعم نحن قوم من مضر، قال: من أي المضريين؟ قلنا: من خندف، قال: أما أنه سيبعث فيكم وشيكا نبي فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترشدوا، فإنه خاتم النبيين، واسمه محمد، فلما انصرفنا من عند ابن جفنة الغساني، وصرنا إلى أهلنا، ولد لكل رجل منا غلام فسماه محمدا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: ((دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكنيسة، فإذا هو بيهود، وإذا بيهودي يقرأ عليهم التوراة فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما لكم أمسكتم))؟

قال المريض: إنهم أتوا على صفة نبيفأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه صفتك وصفة أمتك: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: خذوا أخاكم)).

وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني سليمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، قال: لما قدم تبع المدينة، ونزل بقباء بعث إلى أحبار اليهود فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم بها يهودية ويرجع الأمر إلى العرب، فقال له شموال اليهودي وهو يومئذ أعلمهم:

أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكة، اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، وإن منزلك هذا الذي أنت به يكون به من القتل والجراح كثير في أصحابه وفي (ص 93) عدوهم، قال تبع: ومن يقاتله يومئذ وهو نبي كما تزعمون؟ قال: يسير إليه قومه فيقتتلون هاهنا، قال: فأين قبره؟ قال: بهذا البلد، قال: فإذا قوتل لمن تكون الدائرة؟

قال: تكون له مرة وعليه مرة، وبهذا المكان الذي أنت به تكون عليه ويقتل أصحابه قتلا لم تقتلوه في موطن، ثم تكون له العاقبة ويظهر فلا ينازعه هذا الأمر أحد، قال: وما صفته؟

قال: رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى من أخ أو ابن عم أو عم حتى يظهر أمره، قال تبع: ما إلى هذه البلدة من سبيل، وما يكون خرابها على يدي، فخرج تبع منصرفا إلى اليمين، قال يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه:لم يمت حتى صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم، لما كان يهود يثرب يخبرونه، وإن تبع مات مسلما.

وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: كان الزبير بن باطا وكان أعلم اليهود، يقول: إني وجدت سفرا، كان أبي يكتمه علي، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ، صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بعد أبيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث بعد، فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة، فعمد إلى ذلك السفر فمحاه وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقال: ليس به.

قال محمد بن عمر: وحدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس قال: كان يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قبل أن يبعث، وإن دار هجرته المدينة، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أحبار يهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع، فلما تنبأ قالوا: تنبأ أحمد، قد طلع الكوكب، كانوا يعرفون ذلك، ويقرون به، ويصفونه، فما منعهم إلا الحسد والبغي.

وقال محمد بن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن أبي عبيدة بن عبد الله، وعبد الله بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سكن يهودي بمكة يبيع بها تجارات، فلما كانت ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم من مولود هذه الليلة؟

قالوا: لا نعلمه، قال: انظروا يا معشر قريش وأحصوا ما أقول لكم، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة، أحمد، وبه شامة بين كتفيه فيها شعرات، فتصدع القوم من مجالسهم وهم يعجبون من حديثه، فلما صاروا في منازلهم ذكروه لأهاليهم.

فقيل لبعضهم: ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام وسماه محمداً، فأتوا اليهودي في منزله فقالوا: علمت أنه ولد فينا غلام، فقال: أبعد خبري أم قبله؟ فقالوا: قبله واسمه أحمد، قال: فاذهبوا بنا إليه، فخرجوا حتى أتوا أمه فأخرجته (ص 94) إليهم، فرأى الشامة في ظهره، فغشي على اليهودي ثم أفاق، فقالوا: مالك؟ ويلك! فقال: ذهبت النبوة من بني، إسرائيل وخرج الكتاب من أيديهم، فازت العرب بالنبوة، أفرحتم يا معشر قريش؟ ! أما والله ليسطون بكم سطوه يخرج نبؤها من المشرق إلى المغرب.

قال ابن سعد: وأخبرنا على بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة، قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس، فقال: أخرجوا إلى أعلمكم، فقالوا: عبد الله بن صوريا.

فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه، وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم من الغمام، أتعلم أني رسول الله؟ قال: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكن حسدوك، قال: فما يمنعك أنت؟ قال: أكره خلاف قومي، عسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم)).

وقال أبو الشيخ الأصبهاني: حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا علي بن مسهر، عن داود، عن الشعبي، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة التوراة للقرآن، وموافقة القرآن للتوراة،

فقالوا: يا عمر ما أحد أحب إلينا منك لأنك تغشانا، قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضا، فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا صاحبك،

فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من الكتاب، أتعلمون أنه رسول الله، فقال سيدهم: قد نشدكم الله فأخبروه، فقالوا: أنت سيدنا فأخبره، فقال: إنا نعلم أنه رسول الله، قلت: فإني أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله، لِم لم تتبعوه؟ ! قالوا: إن لنا عدوا من الملائكة، وسلما من الملائكة، عدونا جبريل، وهو ملك الفظاظة والغلظة، وسلمنا ميكائيل وهو ملك الرأفة واللين.

قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سلم ميكائيل، ولا لميكائيل أن يعادي سلم جبريل، ولا أن يسالم عدوه، ثم قمت، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أقرئك آيات نزلت علي قبل، فتلا (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) الآية فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأخبرك بقول اليهود)) قال عمر: فلقد رأيتني أشد في دين الله من حجر.

وذكر أبو نعيم من حديث عمرو بن عبسة قال: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية، وعرفت أنها على الباطل، يعبدون الحجارة وهي لا تضر ولا تنفع، فلقيت رجلا من أهل الكتاب، فسألته عن أفضل الدين؟

فقال: يخرج رجل من مكة، ويرغب عن آلهة قومه، يأتي بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتبعه، فلم يكن لي هم إلا مكة آتيها فأسأل: هل حدث فيها خبر؟ فيقولون: لا، فأنصرف إلى أهلي وأعترض الركبان، فأسألهم، فيقولون: لا فإني لقاعد إذ مر بي راكب، فقلت: من أين (ص 95) جئت؟ قال: من مكة، قلت: هل حدث حدث فيها؟

قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه، ودعا إلى غيرها، قلت: صاحبي الذي أريد، فشددت راحلتي، وجئت، فأسلمت.

وقال عبد الغني بن سعيد: حدثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس: أن ثمانية من أساقفة نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم ((العاقب)) و((السيد)) فأنزل الله تعالى:

(فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم) الآية، فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وهو النبي الذي يجده في التوراة والإنجيل، فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر، وألف حلة في رجب ودراهم.

وقال يونس بن بكير: عن قيس بن الربيع، عن يونس بن أبي سالم، عن عكرمة: أن ناسا من أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، فذلك قوله تعالى:(وأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).

حديث سهل مولى عثمة النصراني

وقال ابن سعد: حدثنا محمد بن سعد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن سهل مولى عثمة، أنه كان نصرانيا، وكان يتيما في حجر عمه، وكان يقرأ الإنجيل قال: فأخذت مصحفا لعمي فقرأته، حتى مرت بي ورقة أنكرت كثافتها، فإذا هي ملصقة ففتقتها، فوجدت فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم:

((أنه لا قصير ولا طويل، أبيض بين كتفيه خاتم النبوة، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصا مرقعا، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه: أحمد)): قال فجاء عمي فرأي الورقة فضربني، وقال: مالك وفتح هذه الورقة؟ فقلت: فيها نعت النبي أحمد، فقال: إنه لم يأت بعد.

وقال وهب:

((أوحى الله إلى شعيا أني مبتعث نبيا أفتح به آذانا صما وقلوبا غلفا، أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقولة، والوفاء والصدق طبيعته، والعفو والمغفرة والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى أمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأكثر به بعد القلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأولف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب)).

وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عثمان بن عبد الرحمن: أن رجلا من أهل الشام من النصارى قدم مكة، فأتى على نسوة قد اجتمعن في يوم عيد من أعيادهم(ص 96)، وقد غاب أزواجهن في بعض أمورهم فقال: يانساء تيماء: إنه سيكون فيكم نبي يقال له: أحمد، أيتما امرأة منكن استطاعت أن تكون له فراشا فلتفعل، فحفظت خديجة حديثه.

حديث وهب عن الزبور

وقال عبد المنعم بن إدريس: عن أبيه، عن وهب، قال في قصة داود، ومما أوحى الله إليه في الزبور: ((يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمد، صادقا سيدا لا أغضب عليه أبدا ولا يغضبني أبدا، قد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة.

أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض، التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لكل صلاة، كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم.

يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا أؤخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غيرعمد إذا استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبت به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة أفضل من ذلك، ولهم في المدخور عندي أضعافا مضاعفة أفضل من ذلك.

وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا واسترجعوا الصلاة والرحمة والهدى فإن دعوني استجبت لهم، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي صادقا بها، فهو معي في جنتي وكرامتي، ومن لقيني وقد كذب محمدا أو كذب بما جاء به، واستهزأ بكتابي صببت عليه في قبره العذاب صبا، وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار)).

خبر الحجر الذي وجد في قبر دانيال

وقال عفان: حدثنا همام، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن مطرف بن مالك، أنه قال: شهدت فتح تستر مع الأشعري فأصبنا قبر دانيال بالسوين، وكانوا إذا أجدبوا خرجوا فاستسقوا به فوجدوا معه رقعة فطلبها نصراني من الحيرة يسمى: نعيما، فقرأها وفي أسفلها (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) فأسلم منهم يومئذ اثنان وأربعون حبرا، وذلك في خلافة معاوية فأتحفهم معاوية وأعطاهم.

قال همام: فأخبرني بسطام بن مسلم أن معاوية بن قرة قال تذاكرنا الكتاب إلى ما (ص 97) صار، فمر علينا شهر بن حوشب فدعوناه، فقال: على الخبير سقطتم، إن الكتاب كان عند كعب، فلما احتضر قال ألا رجل ائتمنه على أمانة يؤديها؟ قال شهر: فقال ابن عم لي يكنى أبا لبيد: أنا، فدفع إليه الكتاب، فقال: إذا بلغت موضع كذا فاركب قرقورا، ثم أقذف به في البحر، ففعل، فانفرج الماء، فقذفه فيه ورجع إلى كعب فأخبره، فقال: صدقت إنه من التوراة التي أنزلها الله عز وجل.

ومن ذلك ((أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي)) ونحن نذكر بعضها:

قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب، عن مصعب بن عثمان، قال: كان أمية قد نظر في الكتب، وقرأها ولبس المسوح تعبدا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنفية، وحرم الخمر والأوثان، والتمس الدين، وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب فكان يرجو أن يكون هو.

فلما بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم، قيل له: هذا الذي كنت تبشر به وتقول فيه، فحسده عدو الله، وقال: أنا كنت أرجو أن أكون هو فأنزل الله عز وجل فيه: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)وهو الذي يقول:

كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنفية زور *

قال الزبير: وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، قال: كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين، ويطمع في النبوة، فخرج إلى الشام فمر بكنيسة، وكان معه جماعة من العرب من قريش وغيرهم، فقال أمية: إن لي حاجة في هذه الكنيسة، فانتظروني، فدخل الكنيسة

ثم خرج إليهم كاسفا متغيرا، فرمى بنفسه، فأقاموا عليه حتى سرى عنه، ثم مضوا فقضوا حوائجهم، ثم رجعوا فلما صاروا إلى الكنسية، قال لهم: انتظروني، ودخل الكنيسة فأبطأ، ثم خرج أسوأ من حاله الأول، فقال له أبو سفيان بن حرب: قد شققت على رفقتك، فقال: خلوني فإني أرتاد لنفسي، وأطلب لمعادي،

وإن ههنا راهبا عالما أخبرني أنه سيكون بعد عيسى ست رجفات، وقد مضت منها خمس، وبقيت واحدة، فخرجت وأنا أطمع أن أكون نبيا وأخاف أن يخطئني فأصابني ما رأيت، فلما رجعت أتيته فقال: قد كانت الرجفة، وقد بعث نبي من العرب، فأيست من النبوة فأصابني ما رأيت إذ فاتني ما كنت أطمع فيه.

قال: وقال الزهري: خرج أمية في سفر فنزلوا منزلا فأم أمية وجها، وصعد في كثيب، فرفعت له كنيسة فانتهى إليها، فإذا شيخ جالس، فقال لأمية حين رآه: إنك لمتبوع فمن أين يأتيك رئيك؟ قال: من شقي الأيسر، قال: فأي الثياب (ص 98) أحب إليه أن تلقاه فيها؟ قال السواد، قال: كدت تكون نبي العرب ولست به، هذا خاطر من الجن وليس بملك، وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه الملك من شقه الأيمن، وأحب الثياب إليه أن يلقه فيها البياض، قال الزهري: وأتى أمية أبا بكر فقال له: يا أبا بكر، عمي الخبر، فهل أحسست شيئا؟ قال: لا والله، قال: قد وجدته يخرج في هذا العام.

وقال عمر بن شبة: سمعت خالد بن يزيد يقول: إن أمية وأبا سفيان بن حرب صحباني في تجارة إلى الشام، فذكر نحو الحديث الأول، وزاد فيه، فخرج من عند الراهب وهو ثقيل، فقال له أبو سفيان: إن بك لشرا فما قضيتك؟ قال: خير، أخبرني عن عتبة ابن ربيعة: كم سنه؟ فذكر سنا، قال: أخبرني عن ماله؟ فذكر مالا، فقال له: وضعته، قال أبو سفيان: بل رفعته، فقال: إن صاحب هذا الأمر ليس بشيخ، ولا ذي مال، قال وكان الراهب: أيأسه وأخبره أن الأمر لرجل من قريش.

قال الزبير: وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، قال: حدثني رجل من أهل الكوفة، قال: كان أمية نائما، فجاءه طائران فوقع أحدهما على باب البيت، ودخل الآخر فشق عن قلبه، ثم رده الطائر، فقال له الطائر الآخر: أوعى؟ قال:نعم، قال: أزكى؟ قال: أبى.

وقال الزهري: دخل يوما أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهنأ أدمالها، فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت، قالت: فانشق جانب من السقف في البيت، وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره، ووقف الآخر مكانه، فشق الواقع صدره فأخرج قلبه فشقه، فقال الطائر الآخر للذي على صدره: أوعى؟ قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى؟ قال: فرد قلبه في موضعه.

ثم مضى فاتبعهما أمية طرفه، وقال: لبيكما لبيكما هاأنا ذا لديكما، لا بريء فاعتذر ولا ذو عشيرة فانتصر، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه حتى أخرج قلبه فشقه، فقال الطائر الأعلى للواقع: أوعى؟ قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، ونهض فاتبعهما أمية بصره فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا مال لي يغنيني، ولا عشيرة تحميني، فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه، ثم أخرج قلبه فشقه فقال الطائر الأعلى:

أوعى؟ قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، ونهض فاتبعه أمية بصره، فقال: لبيكما لبيكما هاأنا ذا لديكما، محفوف بالنعم محوط بالذنب، قال فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه فأخرج قلبه فشقه، فقال الأعلى: أوعى؟ قال: وعى، قال: أقبل؟ قال: أبى، قال ونهض فاتبعهما طرفه فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما:

إن تغفر أللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما

ثم انطبق السقف، وجلس أمية يمسح صدره، فقلت: يا أخي! هل تجد شيئا؟ قال: (ص 99) لا، ولكني أجد حرا في صدري، ثم أنشأ يقول:

ليتني كنت قبل ما قد بدالي * في قلال الجبال أرعى الوعولا

اجعل الموت نصب عينيك واحذر * غولة الدهر إن للدهر غولا

وقال مروان بن الحكم: عن معاوية بن أبي سفيان، عن أبي سفيان بن حرب، قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت تجارا إلى الشام، فكان كلما نزلنا منزلا أخرج منه سفرا يقرؤه، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى، فرأوه فعرفوه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح نفسه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما.

ثم قال: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه تناهي علم الكتب تسأله عما بدا لك؟ قلت: لا، فمضي هو وحده، وجاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه، ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح وأصبح كئيبا حزينا ما يكلمنا ولا نكلمه، فسرينا ليلتين على ما به من الهم، فقلت له:

ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك؟ قال: لمنقلبي، قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إي والله، لأموتن ولأحاسبن، قلت: فهل أنت قابل أماني؟ قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، فضحك وقال: بلى والله، لتبعثن ولتحاسبن، ولتدخلن فريق في الجنة وفريق في السعير، قلت: ففي أيهما أنت أأخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك في ولا في نفسه فكنا في ذلك ليلتنا يعجب منا ونضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق، فبعنا متاعنا، وأقمنا شهرين، ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى.

فلما رأوه جاؤوه وأهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاءنا مع نصف النهار فلبس ثوبيه الأسودين وذهب حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه، ثم رمي بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح مبثوثا حزينا لا يكلمنا ولا نكلمه، فرحلنا فسرنا ليالي.

ثم قال: يا صخر، حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: إي والله، قال: أو يصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: نعم، قال: فكريم الطرفين وسيط في العشيرة؟ قلت: نعم، قال: فهل تعلم قرشيا أشرف منه؟ قلت: لا والله، قال: أمحوج هو؟ قلت: لا، بل هو ذو مال كثير، قال: كم أتي له من السنين؟ قلت: هو ابن سبعين أو قد قاربها، قال: فالسن والشرف أزريا به، قلت: والله بل زاده خيرا، قال: هو ذاك.

ثم إن الذي رأيت بي إني جئت هذا العالم فسألته عن هذا الذي ينتظر، فقال:رجل من العرب من أهل بيت تحجه العرب فقلت: فينا بيت تحجه العرب قال هو من إخوتكم وجيرانكم من قريش فأصابني شيء ما(ص 100) أصابني مثله إذ خرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون أنا هو، فقلت: فصفه لي؟

فقال: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بدؤ أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو كريم الطرفين، متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة، قلت: وما آية ذلك؟ قال: رجفت الشام منذ هلك عيسى ابن مريم عدة رجفات كلها فيها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة، يخرج على أثرها، فقلت: هذا هو الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا.

قال أمية: والذي يحلف به إنه لهكذا، فخرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكبا من خلفنا، فإذا هو يقول: أصابت الشام من بعدكم رجفة دثر أهلها فيها فأصابتهم مصائب عظيمة، فقال أمية: كيف ترى يا أبا سفيان؟ فقلت: والله ما أظن صاحبك إلا صادقا.

وقدمنا مكة ثم انطلقت حتى أتيت أرض الحبشة تاجرا، وكنت فيها خمسة أشهر.

ثم قدمت مكة فجاءني الناس يسلمون علي، وفي آخرهم محمد وهند تلاعب صبيانها، فسلم علي ورحب بي، وسألني عن سفري ومقدمي.

ثم انطلق فقلت: والله إن هذا الفتى لعجب ما جاءني من قريش أحد له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلغت، والله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها، ثم ما سألني عنها، فقالت: أوما علمت بشأنه؟ فقلت: - وفزعت - وما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول الله، فذكرت قول النصراني، فوجمت.

ثم قدمت الطائف، فنزلت على أمية فقلت: هل تذكر حديث النصراني؟ قال: نعم، فقلت: قد كان، قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله، فتصبب عرقا، فقلت: قد كان من أمر الرجل ما كان فأين أنت منه، فقال: والله لا أومن بنبي من غير ثقيف أبداً.

فهذا حديث أبي سفيان عن أمية، وذلك حديثه عن هرقل وهو في صحيح البخاري، وكلاهما من أعلام النبوة المأخوذة عن علماء أهل الكتاب.

وذكر الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن غزوان، وهو ثقة: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه قال:

خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب حطوا عن رحالهم، فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى إذا جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين.

فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفيه مثل التفاحة.

ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به وكان هو في رعية (ص 101) الإبل قال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنى من القوم وجد هم قد سبقوه إلى في الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فينا هو قائم عليهم، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه.

وإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، وقال: ما جاء بكم؟ قالوا: بلغنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره فبعثنا إلى طريقك هذا

فقال: لعل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه فهل يستطيع أحد من الناس رده، قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم الله أيكم وليه، قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشدهم حتى رده، وقد روى محمد بن سعد هذه القصة مطولة.

قال ابن سعد: حدثنا محمد بن عمر بن واقد، حدثنا محمد بن صالح، وعبد الله بن جعفر الزبيري، قال محمد بن عمر: وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، قال: لما خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى، وهو ابن ثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة، يتوارثونها عن كتاب يدرسونه.

فلما نزلوا على بحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به ولا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلا قريبا من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما، ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من دونهم حتى نزلوا تحت الشجرة.

ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، فأخضلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك، نزل من صومعته، وأمر بذلك الطعام فأتي به، وأرسل إليهم وقال:

إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضوره كلكم، ولا تخلفوا أحدا منكم كبيرا ولا صغيرا حرا ولا عبدا فإن هذا شيء تكرموني به، فقال رجل: إن لك لشأنا يا بحيرا، ما كنت تصنع هذا، فما شأنك اليوم؟ !

قال: إني أحب أن أكرمكم، ولكم حق فاجتمع، القوم إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم تحت الشجرة.

فلما نظر بحيرا إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرفها ويجدها عنده وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ويراها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بحيرا يا معشر قريش، لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي، قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم.

فقال: ادعوه ليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم، فقال (ص 102) القوم: هو والله أوسطنا، نسبا وهو ابن أخي هذا الرجل - يعنون أبا طالب - وهو من ولد عبد المطلب، فقال الحارث بن عبد المطلب:

والله إن كان بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا، ثم قام إليه فاحتضنه، وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده في صفته، فلما تفرقوا عن الطعام قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما، قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه.

قال: سلني عما بدا لك، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده فقبل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدراً.

وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه، فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: هو ابني، قال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا؟ قال: فابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى به، قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا.

قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه اليهود، فوالله لئن عرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنتا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتابنا، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة.

فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بحيرا فذكروا له أمره فنهاهم أشد النهي، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم، قال: فما لكم إليه سبيل، فصدقوه وتركوه، ورجع أبو طالب، فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه.

خبر عن هرقل أيضا

وذكر الحاكم والبيهقي وغيرهما من حديث عبد الله بن إدريس، عن شرحبيل ابن مسلم عن أبي أمامة، عن هشام بن العاص، قال: ذهبت أنا ورجل آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا غوطة دمشق، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني.

فدخلنا عليه، فإذا هو على سرير له، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا: لا والله لا نكلم رسولا، إنا بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا، فقال: تكلموا، فكلمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام وإذا عليه ثياب سوداء، فقال له هشام:

وما هذه التي (ص 103) عليك؟ فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، قلنا: ومجلسك هذا فوالله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، أخبرنا بذلك نبينا،

فقال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار، ويفطرون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه فملأ وجهه سواداً، فقال: قوموا، وبعث معنا رسولا إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال، قلنا: والله لا ندخل إلا عليها.

فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون، فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة له فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح، فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر، وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه فضحك.

وقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ ! وإذا رجل فصيح بالعربية كثير الكلام، فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنا أن نحييك بها،

قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ فقلنا: السلام عليكم، قال: كيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها، قال: كيف يرد عليكم؟ قلنا: بها، قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر.

فلما تكلمنا بها - والله يعلم - لقد انتفضت الغرفة، حتى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، كلما قلتموها في بيوتكم تنتفض عليكم بيوتكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك، قال: وددت أنكم كلما قلتموها ينتفض كل شيء عليكم، وإني خرجت من نصف ملكي، قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه يكون أيسر لشأنها، وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حيل الناس، ثم سألنا عما أراد، فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا.

فقمنا فأمر لنا بمنزل حسن، ونزل كثير، فأقمنا ثلاثاً، فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتا وقفلا، واستخرج منه حريرة سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين، عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ظفيرتان، أحسن ما خلق الله.

قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرا.

ثم فتح باباً آخر، واستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر قطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين (ص 104)، طويل الخد، أبيض اللحية، كأنه يتبسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم عليه السلام.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج حريرة، فإذا صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله، وبكينا، قال: والله يعلم إنه قام قائماً، ثم جلس، فقال: والله إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو، كأنما ننظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سمحاء، وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر، عابس، متراكب الأسنان، مقلص الشفة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون من هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى بن عمران، وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس، عريض الجبين، في عينيه قبل، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة، كأنه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة بيضاء، فإذا فيها صورة رجل أبيض، مشرب حمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسحاق.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل تشبه إسحاق، إلا أنه على شفته السفلى خال، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب، ثم فتح باباً آخر فاستخرج حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نوره، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة كأنها صورة آدم، كأن وجهه الشمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يوسف.

ثم فتح باباً آخر فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل أحمر، خشن الساقين، أخفش العينين، ضخم البطن، ربعة، متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الأليتين، طويل الرجلين، راكب فرساً، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود.

ثم فتح باباً آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب، شديد سواد اللحية، لين الشعر، حسن الوجه، حسن العينين، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى، قلنا: من أين لك هذه الصور، لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء، لأنا رأينا صورة نبينا مثله، قال: أن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، وكانوا في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين فصارت (ص 105) إلى دانيال.

ثم قال: أما والله نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبداً لأشدكم ملكة حتى أموت.

ثم أجازنا، وأحسن جائزتنا، وسرّحنا، فلما أتينا أبا بكر الصديق فأخبرناه بما رأينا، وما قال لنا، وما أجازنا، فبكى أبو بكر، وقال: لو أراد الله به خيراً لفعل.

الفصل السابع: الطرق الأربعة الدالة على صحة البشارة به

فهذا في الإخبار بنبوته مما تلقاه المسلمون من أفواه علماء أهل الكتاب، والمؤمنين منهم، والأول فيما نقلوه من كتبهم، وعلمائهم يقرون أنه في كتبهم.

فالدليل بالوجه الأول يقام عليهم من كتبهم، وبهذا الوجه يقام بشهادة من لا يتهم عليهم، لأنه إما من عظمائهم، وإما ممن رغب عن رياسته، وماله، ووجاهته فيهم، وآثر الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، وهو في هذا مدع أن علماءهم يعرفون ذلك، ويقرون به، ولكن لا يطلعون جهالهم عليه.

فالأخبار والبشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة عرفت من عدة طرق:

(أحدها): ما ذكرناه، وهو قليل من كثير، وغيض من فيض. (الثاني): إخباره صلى الله عليه وسلم لهم، أنه مذكور عندهم وأنهم وعدوا به، وأن الأنبياء بشرّت به، واحتجاحه عليهم بذلك، ولو كان هذا الأمر لا وجود له البتة، لكان مغريا لهم بتكذيبه منفراً لاتباعه، محتجاً على دعواه بما يشهد ببطلانها.

(الثالث): أن هاتين الأمتين معترفتين: بأن الكتب القديمة بشرّت بنبي عظيم الشأن، يخرج في آخر الزمان، نعته كيت وكيت، وهذا مما اتفق عليه المسلمون، واليهود والنصارى.

فأما المسلمون: فلما جاءهم آمنوا به، وصدقوه، وعرفوا أنه الحق من ربهم.

وأما اليهود: فعلماؤهم عرفوه، وتيقنوا أنه محمد بن عبد الله، فمنهم من آمن به، ومنهم من جحد نبوته، وقالوا لأتباعه: إنه لم يخرج بعد.

وأما النصارى: فوضعوا بشارات التوراة والنبوات التي بعدها على المسيح، ولا ريب أن بعضها صريح فيه، وبعضها ممتنع حمله عليه، وبعضها محتمل، وأما بشارات المسيح فحملوها كلها على الحواريين، وإذا جاءهم ما يستحيل انطباقه عليهم حرفوه أو سكتوا عنه، وقالوا: لا ندري من المراد به.

(الرابع): اعتراف من أسلم منهم بذلك، وأنه صريح في كتبهم، وعن المسلمين الصادقين منهم تلقى المسلمون هذه البشارات، وتيقنوا صدقها، وصحتها بشهادة المسلمين منهم بها مع تباين إعصارهم، وأمصارهم، وكثرتهم، واتفاقهم على لفظها.

وهذا يفيد القطع بصحتها ولو لم يقر بها أهل الكتاب، فكيف وهم مقرون بها لا يجحدونها، وإنما يغالطون في تأويلها، والمراد بها؟ ! وكل واحدة من هذه ((الطرق الأربعة)) كاف في العلم بصحة هذه البشارات، وقد قدمنا أن إقدامه صلى الله عليه وسلم (ص 106) على إخبار أصحابه وأعدائه، بأنه مذكور في كتبهم بنعته وصفته، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وتكراره ذلك عليهم مرة بعد مرة في كل مجمع، وتعريفهم بذلك، وتوبيخهم، والنداء عليهم به، من أقوى الأدلة القطعية على وجوده من وجهين:

((أحدهما)): قيام الدليل القطعي على صدقه.

((الثاني)): دعوته لهم بذلك إلى تصديقه ولو لم يكن له وجود لكان ذلك من أعظم دواعي تكذيبه والتنفير عنه

وقوع التحريف في التوراة وفيتهم على الأنبياء

وهذه الطرق يسلكها من يساعدهم على أنهم لم يحرفوا ألفاظ التوراة والإنجيل، ولم يبدلوا شيئا منها، فيسلكها بعض نظّار المسلمين معهم من غير تعرض إلى التبديل والتحريف.

وطائفة أخرى تزعم: أنهم بدلوا وحرفوا كثيراً من ألفاظ الكتابين، مع أن الغرض الحامل لهم على ذلك دون الغرض الحامل لهم على تبديل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم بكثير، وإن البشارات لكثرتها لم يمكنهم إخفاؤها كلها، وتبديلها، ففضحهم ما عجزوا عن كتمانه أو تبديله.

وكيف ينكر من أمة اليهود قتلة الأنبياء الذين رموهم بالعظائم، أن يكتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد جحدوا نبوة المسيح، ورموه وأمه بالعظائم، ونعته والبشارة به موجود في كتبهم، ومع هذا أطبقوا على جحد نبوته، وإنكار بشارة الأنبياء به، ولم يفعل بهم ما فعله بهم محمد صلى الله عليه وسلم من القتل، والسبي، وغنيمة الأموال، وتخريب الديار وإجلائهم منها، فكيف لا تتواصى هذه الأمة بكتمان نعته وصفته وتبدله من كتبها؟ ! وقد عاب الله سبحانه عليهم ذلك في غير موضع من كتابه، ولعنهم عليه.

ومن العجب أنهم والنصارى يقرّون أن التوراة كانت طول مملكة نبي إسرائيل عند الكاهن الأكبر الهاروني وحده، واليهود تقرُّ أنّ السبعين كاهناً اجتمعوا على اتفاق من جميعهم على تبديل ثلاثة عشر حرفاً من التوراة، وذلك بعد المسيح في عهد القياصرة، الذين كانوا تحت قهرهم حيث زال الملك عنهم، ولم يبق لهم ملك يخافونه، ويأخذ على أيديهم.

ومن رضي بتبديل موضع واحد من كتاب الله فلا يؤمن منه تحريف غيره، واليهود تقرّ أيضاً أن السامرة حرّفوا مواضع من التوراة، وبدلوها تبديلاً ظاهراً، وزادوا، ونقصوا، والسامرة تدعي ذلك عليهم.

وأما ((الإنجيل)) فقد تقدّم أن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلفة من تأليف أربعة رجال: يوحنّا، ومتىّ، ومرقس، ولوقا، (ص 107) فكيف ينكر تطرق التبديل والتحريف إليها؛ وعلى ما فيها من ذلك، فقد صرفهم الله عن تبديل ما ذكرنا من البشارات بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وإزالته، وإن قدروا على كتمانه عن أتباعهم وجهّالهم.

وفي ((التوراة)) التي بأيديهم من التحريف والتبديل، وما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء ما لا يشك فيه ذو بصيرة، والتوراة التي أنزلها الله على موسى بريئة من ذلك.

ففيها: عن لوط رسول الله أنه خرج من المدينة، وسكن في كهف الجبل، ومعه ابنتاه، فقالت الصغرى للكبرى: قد شاخ أبونا فارقدي بنا معه لنأخذ منه نسلاً فرقدت معه الكبرى ثم الصغرى.

ثم فعلتا ذلك في الليلة الثانية، وحملتا منه بولدين: مواب وعمون، فهل يحسن أن يكون نبي رسول كريم على الله يوقعه الله سبحانه في مثل هذه الفاحشة العظيمة في آخر عمره، ثم يذيعها عنه، ويحكيها للأمم؟ !

وفيها: ((أن الله تجلى لموسى في طور سيناء، وقال له بعد كلام كثير: أدخل يدك في حجرك، وأخرجها مبروصة كالثلج)) وهذا من النمط الأول.

والله سبحانه لم يتجل لموسى، وإنما أمره أن يدخل يده في جيبه، وأخبره أنها تخرج بيضاء من غير سوء، أي من غير برص.

وفيها: أن هارون هو الذي صاغ لهم العجل، وهذا إن لم يكن من زياداتهم، وافترائهم، فهارون، اسم السامري الذي صاغه ليس هو بهرون أخي موسى.

وفيها: أن الله قال لإبراهيم:((اذبح ابنك بكرك إسحاق)) وهذا من بهتهم وزيادتهم في كلام الله، فقد جمعوا بين النقيضين؛ فإن بكره: هو إسماعيل، فإنه بكر أولاده، وإسحاق إنما بشر به على الكبر بعد قصة الذبح.

وفيها: ((ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض، فندم على خلقهم، وقال: سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض، و الخشاش، وطيور السماء، لأني نادم على خلقها جداً)) تعالى الله عن إفك المفترين، وعما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وفيها:((أن الله سبحانه وتعالى علواً كبيراً تصارع مع يعقوب، فضرب به يعقوب الأرض)).

وفيها: ((أن يهوذا بن يعقوب النبي زوّج ولده الأكبر من امرأة، يقال لها: تامار، فكانت يأتيها مستدبراً فغضب الله من فعله، فأماته فزوج يهوذا ولده الآخر بها، فكان إذا دخل بها أمنى على الأرض، علماً بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعواً باسم أخيه، ومنسوبا إلى أخيه، فكره الله ذلك من فعله، فأماته فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شيلا، ويتم عقله.

ثم ماتت زوجته يهوذا، وذهب إلى منزله ليجز غنمه، فلما أخبرت تامار لبست زي الزواني، وجلست على طريقه، فلما مر بها خالها زانية فراودها فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدي، ورمى عندها عصاه وخاتمه، فدخل بها فعلقت منه بولد، ومن هذا الولد كان داود النبي)).

فقد جعلوه ولد زنا كما جعلوا المسيح ولد زنا، (ص 108) ولم يكفهم ذلك حتى نسبوا ذلك إلى التوراة، وكما جعلوا ولدي لوط ولدي زنا، ثم نسبوا داود وغيره من أنبيائهم إلى ذينك الولدين.

وأما فريتهم على الله ورسله وأنبيائه، ورميهم لرب العالمين ورسله بالعظائم، فكثير جداً، كقولهم: إن الله استراح في اليوم السابع من خلق السموات والأرض، فأنزل الله عز وجل على رسوله تكذيبهم، بقوله:(ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسنا من لغوب).

وقولهم:(إن الله فقير ونحن أغنياء).

وقولهم: (يد الله مغلولة غلت أيديهم، ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان).

وقولهم: (إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار).

وقولهم: (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة).

وقولهم: ((إن الله تعالى بكي على الطوفان حتى رمدت عيناه، وعادته الملائكة)).

وقولهم الذي حكيناه آنفا: ((أن الله ندم على خلق بني آدم)) وأدخلوا هذه الفرية في التوراة.

وقولهم: عن لوط أنه وطئ ابنتيه، وأولدهما ولدين نسبوا إليهما جماعة من الأنبياء.

وقولهم في بعض دعاء صلواتهم: انتبه كم تنام يا رب استيقظ من رقدتك.

فتجرؤا على رب العالمين بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخي لهم ويحتمي، كأنهم يخبرونه أنه قد اختار الخمول لنفسه وأحبابه، فيهزونه بهذا الخطاب للنباهة واشتهار الصيت، قال بعض أكابرهم بعد إسلامه: فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات في الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك أن كلامه يقع عند الله بموقع عظيم، وأنه يؤثر في ربه، ويحركه، ويهزه، وينخيه.

وعندهم في توراتهم: ((أن موسى صعد الجبل مع مشايخ أمته، فأبصروا الله جهرة، وتحت رجليه كرسي منظره كمنظر البلور)).

وهذا من كذبهم وافترائهم على الله، وعلى التوراة، وعندهم في توراتهم:((أن الله سبحانه لما رأى فساد قوم نوح، وأن شرهم قد عظم، ندم على خلق البشر في الأرض وشق عليه)).

وعندهم في توراتهم أيضاً:((أن الله ندم على تمليكه شاؤل على إسرائيل)).

وعندهم فيها:((أن نوحاً لما خرج من السفينة بنى بيتاً مذبحاً، وقرب عليه قرابين، واستنشق الله رائحة القتار، فقال في ذاته: لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت)).

سبب تبديل التوراة

قال بعض علمائهم الراسخين في العلم ممن هداه الله إلى الإسلام: لسنا نرى إن هذه الكفريات كانت في التوراة المنزلة على موسى، ولا نقول أيضا أن اليهود قصدوا تغييرها وإفسادها؛ بل الحق أولى ما اتبع، قال: ونحن نذكر حقيقة سبب تبديل التوراة.

فإن علماء القوم وأحبارهم يعلمون أن هذه التوراة التي بأيديهم لا يعتقد أحد من علمائهم وأحبارهم أنها عين التوراة المنزلة على موسى بن عمران البتة، لأن موسى (ص 109) صان التوراة عن بني إسرائيل، ولم يبثها فيهم خوفا من اختلافهم من بعده في تأويل التوراة المؤدي إلى انقسامهم أحزابا، وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوي، قال: ودليل ذلك قول التوراة ما هذه ترجمته:

((وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى أئمة بني لاوي، وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين والبيت المقدس كانت فيهم، ولم يبد موسى لبني إسرائيل من التوراة إلا نصف سورة)).

وقال الله لموسى عن هذه السورة:((وتكون لي هذه السورة شاهدة على بني إسرائيل ولا تنسى هذه السورة من أفواه أولادهم)).

وأما بقية التوراة فدفعها إلى أولاد هارون وجعلها فيهم وصانها عمن سواهم، فالأئمة الهارونيون هم الذين كانوا يعرفون التوراة ويحفظون أكثرها فقتلهم بختنصر على دم واحد، وأحرق هيكلهم يوم استولى على بيت المقدس.

ولم تكن التوراة محفوظة على ألسنتهم، بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة فلما رأى عزير أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم، جمع من محفوظاته.

ومن الفصول التي يحفظها الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم، ولذلك بالغوا في تعظيم عزير غاية المبالغة، وقالوا فيه ما حكاه الله عنهم في كتابه، وزعموا أن النور على الأرض إلى الآن يظهر على قبره عند بطائح العراق، لأنه عمل لهم كتابا يحفظ دينهم.

فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة كتاب عزير وإن كان فيها أو أكثرها من التوراة التي أنزلها الله على موسى.

قال: وهذا يدل على أن الذي جمع هذه الفصول التي بأيديهم رجل جاهل بصفات الرب تعالى، وما ينبغي له وما لا يجوز عليه، فلذلك نسب إلى الرب تعالى ما يتقدس ويتنزه عنه، وهذا الرجل يعرف عند اليهود والنصارى: بعازر الوراق، ويظن بعض الناس أنه (الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال: أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه) ويقول:

أنه نبي ولا دليل على هاتين المقدمتين، ويجب التثبت في ذلك نفيا وإثباتا، فإن كان هذا نبيا، واسمه عزير فقد وافق صاحب التوراة في الاسم.

((وبالجملة)) فنحن وكل عاقل نقطع ببراءة التوراة التي أنزلها الله على كليمه موسى من هذه الأكاذيب، والمستحيلات، والترهات، كما نقطع ببراءة صلاة موسى، وبني إسرائيل معه من هذا الذي يقولونه في صلاتهم اليوم، فإنهم في العشر الأول من المحرم في كل سنة يقولون في صلاتهم ما ترجمته: ((يا أبانا، املك على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذي نسمة الله إله إسرائيل قد ملك ومملكته في الكل متسلطة)).

ويقولون فيها أيضا:((وسيكون لله الملك، وفي ذلك اليوم يكون الله واحدا واسمه واحد)) ويعنون بذلك: أنه لا يظهر كون الملك له، وكونه واحدا إلا إذا صارت الدولة لهم، فأما ما دامت الدولة (ص 110) لغيرهم فإنه تعالى خامل الذكر عند الأمم مشكوك في وحدانيته، مطعون في ملكه، ومعلوم قطعا أن موسى ورب موسى بريء من هذه الصلاة براءته من تلك الترهات.

اليهود كذبوا مسيح الهدى وينتظرون مسيح الضلال

(فصل) جحدهم بنبوة محمد نظير جحدهم نبوة المسيح

وجحدهم نبوة محمد من الكتب التي بأيديهم نظير ((جحدهم نبوة المسيح)) وقد صرحت باسمه، ففي نص التوراة:((لا يزول الملك من آل يهوذا، والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح)) وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذبوه، ورموه بالعظائم، وبهتوه وبهتوا أمه، فدمر الله عليهم وأزال ملكهم، وكذلك قوله: ((جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)) فأي نبوة أشرقت من ساعير غير نبوة المسيح، وهم لا ينكرون ذلك، ويزعمون أن قائما يقوم فيهم من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى إلا اليهود.

وهذا ((المنتظر)) بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به، قالوا: ومن علامة مجيئه أن الذئب والتيس يربضان معا، وأن البقرة والذئب يرعيان معا، وأن الأسد يأكل التبن كالبقر، فلما بعث الله المسيح كفروا به عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون متى يأكل الأسد التبن حتى تصح لهم علامة مبعث المسيح، ويعتقدون أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس، وتصير لهم الدولة، ويخلو العالم من غيرهم، ويحجم الموت عن جنابهم المنيع مدة طويلة.

وقد عوضوا من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجال، فإنه هو الذي ينتظرونه حقا، وهم عسكره وأتبع الناس له، ويكون لهم في زمانه شوكة ودولة، إلى أن ينزل مسيح الهدى ابن مريم، فيقتل منتظرهم، ويضع هو أصحابه فيهم السيوف حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقولان:

يا مسلم هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله، فإذا نظف الأرض منهم، ومن عباد الصليب، فحينئذ يرعى الذئب والكبش معا، ويربضان معا، وترعى البقرة والذئب معا، ويأكل الأسد التبن، ويلقي الأمن في الأرض.

هكذا أخبر به شعيا في نبوته، وطابق خبره ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: في خروج الدجال، وقتل المسيح ابن مريم له، وخروج يأجوج ومأجوج في أثره، ومحقهم من الأرض، وإرسال البركة والأمن في الأرض حتى ترعى الشاة والذئب، وحتى أن الحيات والسباع لا تضر الناس.

فصلوات الله وسلامه على من جاء بالهدى والنور، وتفصيل كل شيء وبيانه، فأهل الكتاب عندهم عن أنبيائهم حق كثير لا يعرفونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه، ولقد أكمل (ص 111) الله سبحانه بمحمد صلوات الله وسلامه عليه ما أنزله على الأنبياء عليهم السلام من الحق وبينه وأظهره لأمته، وفصل على لسانه ما أجمله لهم وشرح ما رمزوا إليه، فجاء بالحق، وصدق المرسلين، وتمت نعمة الله على عباده المؤمنين.

فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحا يجيء في آخر الزمان، فمسيح اليهود هو الدجال، ومسيح النصارى لا حقيقة له، فإنه عندهم إله وابن إله وخالق ومميت ومحي.

فمسيحهم الذي ينتظرونه هو المصلوب المسمر المكلل بالشوك بين اللصوص، والمصفوع الذي هو مصفعة اليهود، وهو عندهم رب العالمين وخالق السموات والأرضين.

ومسيح المسلمين الذي ينتظرونه هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول عيسى ابن مريم، أخو عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله، فيظهر دين الله وتوحيده، ويقتل أعداءه عباد الصليب الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وأعداءه اليهود الذين رموه وأمه بالعظائم فهذا هو الذي ينتظره المسلمون، وهو نازل على المنارة الشرقية بدمشق، واضعا يديه لى منكبي ملكين، يراه الناس عيانا بأبصارهم نازلا من السماء.

فيحكم بكتب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفذ ما أضاعه الظلمة والفجرة والخونة من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحي ما أماتوه، وتعود الملل كلها في زمانه ملة واحدة وهي ملته وملة أخيه محمد وملة أبيهما إبراهيم وملة سائر الأنبياء، وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

وقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدركه من أمته السلام، وأمره أن يقرئه إياه منه، فأخبر عن موضع نزوله بأي بلد وبأي مكان منه، وبحاله وقت نزوله، وملبسه الذي كان عليه.

وأنه ((ممصرتان)) أي: ثوبان وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصلا حتى كأن المسلمين يشاهدونه عياناً قبل أن يروه، وهذا من جملة الغيوب التي أخبر بها فوقعت مطابقة لخبره حذو القذة بالقذة، فهذا منتظر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم والضالين، ولا منتظر إخوانهم من الروافض المارقين.

وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين أنه ليس بابن يوسف النجار، ولا هو ولد زنية، ولا كان طبيبا حاذقا ماهرا في صناعته استولى على العقول بصناعته، ولا كان ساحرا ممخرقا، ولا مكنوا من صلبه وتسميره وصفعه وقتله؛ بل كانوا أهون على الله من ذلك.

ويعلم الضالون أنه ابن البشر، وأنه عبد الله ورسوله ليس بإله ولا ابن إله، وأنه بشر بنبوة محمد أخيه أولا، وحكم بشريعته ودينه آخرا، وأنه عدو المغضوب عليهم والضالين.

وولي رسول الله وأتباعه المؤمنين، وما كان أولياؤه الأرجاس الأنجاس عبدة الصلبان، والصور المدهونه في الحيطان، إن أولياءه (ص 112) إلا الموحدون عباد الرحمن أهل الإسلام والإيمان، الذين نزهوه وأمه عما رماهما به أعداؤهما اليهود، ونزهوا ربه، وخالقه، ومالكه، وسيده، عما رماه به أهل الشرك، والسب للواحد المعبود.

الفصل الثامن [التغيير في ألفاظ الكتب]

فلنرجع إلى الجواب على طريق من يقول:((إنهم غيروا ألفاظ الكتب وزادوا ونقصوا)) كما أجبنا على طريق من يقول:((إنما غيروا معانيها وتأولوها على غير تأويلها)).

قال هؤلاء: نحن لا ندعي ولا طائفة من المسلمين أن ألفاظ كل نسخة في العالم غيرت وبدلت؛ بل من المسلمين من يقول: أنه غير بعض ألفاظها قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرت بعض النسخ بعد مبعثه، ولا يقولون: أنه غيرت كل نسخة في العالم بعد المبعث؛ بل غير البعض وظهر عند كثير من الناس تلك النسخ المغيرة المبدلة دون التي لم تبدل، والنسخ التي لم تبدل موجودة في العالم.

ومعلوم أن هذا مما لا يمكن نفيه والجزم بعدم وقوعه؛ فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل نسخة في العالم على لفظ واحد بسائر الألسنة ومن الذي أحاط بذلك علما وعقلا؟ ! أهل الكتاب يعلمون أن أحدا لا يمكنه ذلك.

وأما من قال من المسلمين: أن التغيير وقع في أول الأمر فإنهم قالوا: أنه وقع أولا من عازر الوراق، في ((التوراة)) في بعض الأمور إما عمدا وإما خطأ، فإنه لم يقم دليل على عصمته، ولا أن تلك الفصول التي جمعها من التوراة بعد احتراقها هي عين التوراة التي أنزلت على موسى، وقد ذكرنا أن فيها ما لا يجوز نسبته إلى الله وأنه أنزله على رسوله وكليمه، وتركنا كثيرا لم نذكره.

المناقضات في الإنجيل

وأما ((الإنجيل)) فهي أربعة أناجيل أخذت عن أربعة نفر، اثنان منهم لم يريا المسيح أصلا، واثنان رأياه واجتمعا به، وهما: متى ويوحنا، وكل منهم يزيد وينقص، ويخالف إنجيله إنجيل أصحابه في أشياء، وفيها ذكر القول ونقيضه كما فيه أنه قال:((إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة؛ ولكن غيري يشهد لي)).

وقال في موضع آخر:((إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين جئت وإلى أين أذهب)).

وفيه أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال:((قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول؟ ! يا أبتاه، سلمني من هذا الوقت، وأنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما، وقال: يا إلهي!لم أسلمتني؟ !)).

فكيف يجتمع هذا مع قولكم: إنه هو الذي اختار إسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه، ويقتلوه، رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك (ص 113) آدم، ونوحا، وإبراهيم، وموسى، وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس؟ !!

وكيف يجزع إله العالم من ذلك، وكيف يسأل السلامة منه وهو الذي اختاره ورضيه؟ !

وكيف يشتد صياحه ويقول: ((يا إلهي لم أسلمتني)) وهو الذي أسلم نفسه؟ !

وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب، وأهله أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود؟ !

وفيه أيضا: ((أن اليهود سألته أن يظهر لهم برهانا أنه المسيح فقال: تهدمون هذا البيت - يعني بيت المقدس - وأبنيه لكم في ثلاثة أيام، فقالوا له: بيت مبني في خمس وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام)).

ثم ذكرتم في الإنجيل أيضا:((أنه لما ظفرت به اليهود، وحمل إلى بلاط عامل قيصر، واستدعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه، وقالا: سمعناه يقول: أنا قادر على بنيان بيت المقدس في ثلاثة أيام))

فيالله العجب كيف يدعي أن تلك المعجزة والقدرة له ويدعي أن الشاهدين عليه بها شاهدا زور؟ !!

وفيه أيضا للوقا: ((أن المسيح قال لرجلين من تلامذته: اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما، فإذا دخلتماه فستجدان فلوا مربوطا لم يركبه أحد، فحلاه وأقبلا به إلي)).

وقال في إنجيل متى في هذه القصة:((أنها كانت حمارة متبعة)).

وفيه أنه قال:((لا تحسبوا أني قدمت لا صلح بين أهل الأرض، لم آت لصلاحهم، لكن لألقي المحاربة بينهم؛ إنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه، والبنت وأمها، حتى يصير أعداء المرء أهل بيته)).

ثم فيه أيضا: ((إنما قدمت لتحيوا، وتزدادوا خيرا، وأصلح بين الناس)).

وأنه قال: ((من لطم خدك اليمين فانصب له الآخر)).

وفيه أيضا أنه قال: ((طوبا لك يا شمعون رأس الجماعة، وأنا أقول إنك ابن الحجر وعلى هذا الحجر تبني بيعتي، فكلما أحللته على الأرض يكون محللا في السماء، وما عقدته على الأرض يكون معقودا في السماء)).

ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له: ((اذهب يا شيطان، ولا تعارض فإنك جاهل)) فكيف يكون شيطان جاهل مطاع في السموات.

وفي الإنجيل نص:((أنه لم تلد النساء مثل يحيى)).

هذا في إنجيل متى، وفي إنجيل يوحنا؟ ! ((أن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره، فسألوه من هو، أهو المسيح؟ قال: لا، قالوا: نراك إلياس؟ قال: لا، قالوا: أنت نبي؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت؟ قال: أنا صوت مناد المفاوز)) ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فإنه يكون مخبرا بالكذب.

ومن العجب أن في إنجيل متى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف، فقال: عيسى بن يوسف بن فلان، ثم عد إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبا.

ثم نسبه لوقا أيضا في إنجيله إلى يوسف، وعد منه إلى إبراهيم نيفا وخمسين أبا، فبينا هو إله تام إذ صيروه ابن الإله، ثم جعلوه ابن يوسف النجار؟ ! (ص 114)

تواطؤ اليهود والنصارى على تغيير بعض النسخ غير ممتنع من مثالب النصارى

والمقصود أن هذا الاضطراب في ((الإنجيل)) يشهد بأن التغيير وقع فيه قطعا، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله؛ بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدل على أن ذلك الاختلاف من عند غير الله، وأنت إذا اعتبرت نسخه ونسخ التوراة التي بأيدي اليهود، والسامرة، والنصارى، رأيتها مختلفة اختلافا يقطع من وقف عليه بأنه من جهة التغيير والتبديل، وكذلك نسخ ((الزبور)) مختلفة جدا.

ومن المعلوم أن نسخ التوراة والإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود والنصارى، وليست عند عامتهم، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين للقرآن، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ، ولا سيما إذا كان بقيتهم لا يحفظونها، فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك، ثم إذا تواطؤا على أن لا يذكروا ذلك لعوامهم وأتباعهم أمكن ذلك.

وهذا واقع في العالم كثيرا، فهؤلاء اليهود تواطئوا وتواصوا بكتمان نبوة المسيح، وجحد البشارة به، وتحريفها، واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض مشارقها ومغاربها، وكذلك تواطئوا على أنه كان طبيبا ساحرا ممخرقا ابن زانية، وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي أرسل بها، وعلمهم أنه أبعد خلق الله مما رمي به، وشاع ما تواطئوا عليه، وملؤا به كتبهم شرقا وغربا.

وكذلك تواطئوا على أن لوطا نكح ابنتيه وأولدهما أولادا، وشاع ذلك فيهم جميعهم، وتواطئوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان وعض أنامله، وصارع يعقوب فصرعه يعقوب، وأنه راقد عنهم، وأنهم يسألونه أن ينتبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم.

وكذلك تواطئوا على فصول لفقوها بعد زاول مملكتهم يصلون بها لم تعرف عن موسى، ولا عن أحد من أتباعه، كقولهم في صلاتهم:((اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك، يا جامع تشتيت قوم إسرائيل)).

وقولهم فيها: ((أردد حكامنا منا كالأولين، وسيرتنا كالابتداء، وابن أورشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها، سبحانك، يا باني أورشليم)) ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئا من ذلك، وكذلك تواطؤهم على قولهم في صلاتهم أول العام ما حكيناه عنهم.

وكذلك تواطؤهم على شرع صوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا، وفرضهم ذلك، وصوم صلب هامان، وقد اعترفوا بأنهم زادوها لأسباب اقتضتها، وتواطؤا بذلك على مخالفة ما نصت عليه التوراة من قوله: ((لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا)) فتواطؤا على الزيادة والنقصان، وتبديل أحكام الله، كما تواطؤا على تعطيل فريضة الرجم على الزاني وهو في التوراة نصا.

وكذلك تواطؤهم على امتناع النسخ على الله فيما شرعه (ص 115) لعبادة تمسكا منهم باليهودية، وقد أكذبتهم التوراة وسائر النبوات.

ومن العجائب: حجرهم على الله أن ينسخ ما شرعه لئلا يلزم البداء، ثم يقولون: أنه ندم وبكي على الطوفان، وعاد في رأيه، وندم على خلق الإنسان، وهذه مضارعة لإخوانهم من النصارى الذين نزهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد، ثم نسبوهما إلى الفرد الصمد.

ومن ذلك تواطؤهم على أن الملك يعود إليهم، وترجع الملل كلها إلى ملة اليهودية، ويصيرون قاهرين لجميع أهل الملل.

ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها، وتركها في جل أمورهم إلا اليسير منها، وهم معترفون بذلك، وأنه أكبر أسباب زوال ملكهم وعزهم.

فكيف ينكر من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح، وجحد نبوته، وبهته وبهت أمه، والكذب الصريح على الله، وعلى أنبيائه، وتعطيل أحكام الله، والاستبدال بها، وعلى قتلهم أنبياء الله أن تتواطأ على تحريف بعض التوراة، وكتمان نعت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته فيها.

(فصل) إقامة الحجة على أهل الكتاب

وأما اليهود، وعباد الصليب والصور والمزوقة في الحيطان، وشاتموا خالقهم ورازقهم أقبح شتم، وجاعلوه مصفعة اليهود، وتواطؤهم على ذلك، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل.

فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مثل هذه الأمة ... وخلى بينهم وبين سبه وشتمه، وتكذيب عبده ورسوله، ومعاداة حزبه وأوليائه، وموالاة الشيطان، والتعوض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن الرحيم.

وعن قول "الله أكبر" بالتصليب على الوجه، وعن قراءة (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) بـ (اللهم أعطنا خبزنا الملائم لنا)، وعن السجود للواحد القهار، بالسجود للصور المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد.

هذا بعض شأن هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب، فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حس ولا خبر ولا عين ولا أثر.

قول السائل: هل أتى ابن سلام... بالنسخ الصحيحة؟

(فصل) الرد على من طالب بالنسخ الصحيحة

قال السائل: إن قلتم أن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ونحوهما، شهدوا لنا بذلك من كتبهم، فهلا أتى ابن سلام وأصحابه الذين أسلموا بالنسخ التي لهم كي تكون شاهدة علينا، والجواب من وجوه:

(أحدها)

أن شواهد النبوة وآياتها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، بل آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جدا، ونعته وصفته في الكتب المتقدمة فرد من أفرادها، وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن (ص 116) الشواهد والأخبار التي في كتبهم، وأكثرهم لا يعلمونها ولا سمعوا بها.

بل أسلموا للشواهد التي عاينوها، والآيات التي شاهدوها، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مقوية عاضدة من باب تقوية البينة، وقد تم النصاب بدونها.

فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهم على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد، وإن كان ذلك قد بلغ بعضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها، كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته، ومخرجه.

فلما عاينوه وأبصروه عرفوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه، فشرق أعداء الله بريقهم وغصوا بمائهم.

وقالوا: ليس هو الذي كنا نعدهم به، فالعلم بنبوة محمد، والمسيح، وموسى صلوات الله وسلامه عليهم، لا يتوقف على العلم بأن من قبلهم أخبر بهم، وبشر بنبوتهم، بل طرق العلم بها متعددة فإذا عرفت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بطريق من الطرق ثبتت نبوته، ووجب اتباعه، وإن لم يكن من قبله بشر به،

فإذا علمت نبوته بما قام عليها من البراهين: فإما أن يكون تبشير من قبله به لازما لنبوته، وإما أن لا يكون لازما، فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه، ولا يتوقف تصديق النبي عليه بل يجب تصديقه بدونه، وإن كان لازما علم قطعا أنه قد وقع، وعدم نقله إلينا لا يدل على عدم وقوعه إذ لا يلزم من وجود الشيء نقله العام، ولا الخاص.

وليس كلما أخبر به موسى والمسيح، وغيرهما من الأنبياء المتقدمين وصل إلينا وهذا مما يعلم، بالاضطرار فلو قدر أن البشارة بنبوته صلى الله عليه وسلم ليست في الكتب الموجودة بأيديكم لم يلزم أن لا يكون المسيح وغيره بشروا به، بل قد يبشرون ولا ينقل.

ويمكن أن يكون في كتب غير هذه المشهورة المتداولة بينكم، فلم يزل عند كل أمة كتب لا يطلع عليها إلا بعض خاصتهم فضلا عن جميع عامتهم، ويمكن أنه كان في بعضها فأزيل منه وبدل ونسخت النسخ من هذه التي قد غيرت، واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها، وأخفي أمر تلك النسخ الأولى.

وهذا كله ممكن، لا سيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيها وشريعته، هذه كله على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلا.

ونحن قد ذكرنا من البشارات به التي في كتبهم ما لا يمكن لمن له أدنى معرفة منهم جحده والمكابرة فيه، وإن أمكنهم المغالطة بالتأويل عند رعاعهم وجهالهم.

الوجه الثاني

أن عبد الله بن سلام قد قابل اليهود، وأوقفهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذكره، ونعته، وصفته في كتبهم، وأنهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهدوا بأنه أعلمهم، وابن أعلمهم، وخيرهم وابن خيرهم، فلم يضر قولهم بعد ذلك: أنه شرهم، وابن شرهم، وجاهلهم، وابن جاهلهم.

كما إذا شهد على رجل شاهد عند الحاكم، فسأله عنه فعدله، وقال: إنه مقبول الشهادة عدل، رضي لا يشهد إلا بالحق، وشهادته (ص 117) جائزة علي، فلما أدى الشهادة قال: إنه كاذب شاهد زور، ومعلوم أن هذا لا يقدح في شهادته.

وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به، وصرح بها بين أظهر المسلمين، واليهود، والنصارى، وأذن بها على رؤوس الملأ، وصدقه مسلموا أهل الكتاب عليها، وأقروه على ما أخبر به، وأنه كان أوسعهم علما بما في كتب الأنبياء.

وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله، ويزنونه بما يعرفون صحته، فيعلمون أصدقه، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب، أو من أصدقهم.

ونحن اليوم ننوب عن عبد الله بن سلام، وقد أوجدنا كم هذه البشارات في كتبكم، فهي شاهدة لنا عليكم، والكتب بأيديكم فأتوا بها فاتلوها إن كنتم صادقين، وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يواقفكم، ويقابلكم، ويحاققكم عليها، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله، وملائكته، وأنبيائه، ورسله، وعباده المؤمنون به، عليكم من الكفر والتكذيب، والجحد للحق، ومعاداة الله ورسوله.

(الوجه الثالث)

أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكل نسخة متضمنة لغاية البيان والصراحة، لكان في بهتكم، وعنادكم، وكذبكم، ما يدفع في وجوهها ويحرفها أنواع التحريف ما وجد إليه سبيلا، فإذا جاءكم بما لا قبل لكم به، قلتم: ليس هو، ولم يأت بعد، وقلتم: نحن لا نفارق حكم التوراة، ولا نتبع نبي الأميين.

وقد صرح أسلافكم الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاينوه، أنه رسول حقا، وأنه المبشر به، الموعود به، على ألسنة الأنبياء المتقدمين، وقال من قال منهم في وجهه: نشهد أنك نبي فقال: ((ما يمنعك من اتباعي))؟ قال: إنا نخاف أن يقتلنا يهود.

وقد قال تعالى: (إن الذي حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)، وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر، بحيث أن كل آية منها يصلح أن يؤمن على مثلها البشر، فما زادكم ذلك إلا نفورا، وتكذيبا، وإباء لقبول الحق، فلو نزل الله إليكم ملائكته، وكلمكم الموتى، وشهد له بالنبوة كل رطب ويابس، لغلبت عليكم الشقوة وصرتم إلى ما سبق لكم في أم الكتاب.

وقد رأى من كان أعقل منكم وأبعد من الحسد من آيات الأنبياء ما رأوا، وما زادهم ذلك إلا تكذيبا وعنادا، فأسلافكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم، لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك أوصى به الأول للآخر، واقتدى فيه الآخر بالأول قال تعالى:

(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون)، وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين به صفحا، أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت (ص 118) على يديه ما يشهد بصحة نبوته؟ !

وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفاً يقطع المعذرة، ويقيم الحجة والله المستعان.

(فصل) الرد على من قال بعدم كفر هاتين الأمتين

قال السائل:((إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور، فابن سلام وأصحابه أولى بذلك الغرض، لأنهم قليلون جداً، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد)) والجواب من وجوه:

(أحدها)

إنا قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به، وصدقه، وقد كانوا ملء الأرض وهذه الشام ومصر وما جاورهما، واتصل بهما من أعمالها، والجزيرة والموصل وأعمالهما، وأكثر بلاد المغرب، وكثير من بلاد المشرق، كانوا كلهم نصارى.

فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين، فالمتخلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام، إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة، وشوكة، وعددا، دخلوا في دينه، وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية.

الثاني)

إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة ولا رياسة فقط، وإن كان من جملة الأغراض؛ بل منهم من حمله ذلك.

ومنهم من حله الحسد.

ومنهم من حمله الكبر.

ومنهم من حمله الهوى.

ومنهم من حمله محبة الآباء، والأسلاف وحسن الظن بهم.

ومنهم من حمله ألفه للدين الذي نشأ عليه، وجبل بطبعه، فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه.

وأنت ترى هذه السبب كيف هو الغالب المستولي على أكثر بني آدم في إثارهم ما اعتادوه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمساكن، والديانات، على ما هو خير منه وأوفق بكثير.

منهم من حمله التقليد والجهل، وهم الأتباع الذين ليس لهم علم.

ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده.

(الثالث)

إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عددا، وأغزر عقولا منهم، وكلهم اختاروا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان بعد البصيرة، فلهاتين الأمتين سلف كثير وهم أكثر الخلق.

(الرابع)

أن عبد الله بن سلام، وذويه، إنما أسلموا في وقت شدة من الأمر، وقلة من المسلمين وضعف، وحاجة، وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم، واليهود والمشركين هم أهل الشوكة، والعدة، والحلقة، والسلاح، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبه، وخادمهما، فاستخفوا (ص 119) ثلاثا في غار تحت الأرض.

ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكة، والعدد، والعدة فيها لليهود والمشركين.

فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام، من الرياسة، والمال، والجاه بينهم، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رئيسهم، وخيرهم، وسيدهم، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة، فأحب أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:

أدخلني بعض بيوتك، وسلهم عني، ففعل، وسألهم عنه، فأخبروه أنه: سيدهم، ورئيسهم، وعالمهم، فخرج عليهم وذكرهم، وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله، وقابلهم بذلك، فسبوه، وقدحوا فيه، وأنكروا رياسته، وسيادته، وعلمه.

فلو كان عبد الله بن سلام ممن يؤثر عرض الدنيا، والرياسة، لفعل كما فعله اليهود، وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ، وأما المتخلفون فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته، وقال:

إن هؤلاء القوم قد عظمونا ورأسونا، ومولونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كله منا، وهذا قد رأيناه نحن في زماننا، وشاهدناه عيانا، ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليين: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟

فقال لي: إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه - فرشوا لنا الشقاق تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم، ونسائهم، ولم يعصموني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعه، ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا، ولا فقها، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟ !

فقلت: هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك، ويذلك، ويحوجك؟ !

ولو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق، والنجاة من النار، ومن سخط الله وغضبه، فيه أتم العوض عما فاتك! فقال: حتى يأذن الله، فقلت: القدر لا يحتج به، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح، وحجة للمشركين على تكذيب الرسل، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر، فكيف تحتج به؟ ! فقال: دعنا الآن من هذا وأمسك.

(الخامس)

أن جوابك في نفس سؤالك، فإنك اعترفت أن عبد الله بن سلام وذويه كانوا قليلين جدا، وأضدادهم لا يحصون كثرة، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة، وهم أولو القوة، والشوكة، أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلين المستضعفين والله الموفق(ص 120).

الفصل التاسع: المسلمون فوق كل الأمم في الأعمال والمعارف النافعة

فصل الرد على من طعن بالصحابة

قال السائل:((تدخل علينا الريبة من جهة عبد الله بن سلام وأصحابه، وهو أنكم قد بنيتم أكثر أساس شرائعكم في الحلال والحرام، والأمر والنهي، على أحاديث عوام من الصحابة، الذين ليس لهم بحث في علم، ولا دراسة، ولا كتابة، قبل مبعث نبيكم.

فابن سلام هو وأصحابه أولى أن يؤخذ بأحاديثهم، ورواياتهم، لأنهم كانوا أهل علم، وبحث، ودراسة، وكتابة، قبل مبعث نبيكم وبعده، ولا نراكم تروون عنهم من الحلال والحرام، والأمر والنهي، إلا شيئا يسيرا جدا، وهو ضعيف عندكم)) والجواب من وجوه:

(أحدها)

أن هذا بهت من قائله، فإنا لن نبن أساس شريعتنا في الحلال والحرام، والأمر والنهي، إلا على كتاب ربنا المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تحدى به الأمم كلها، على اختلاف علومها، وأجناسها، وطبائعها، وهو في غاية الضعف، وأعداؤه طبقوا الأرض أن يعارضوه بمثله، فيكونوا أولى بالحق منه، ويظهر كذبه وصدقهم.

فعجزوا عن ذلك، فتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، هذا وأعداؤه الأدنون إليه أفصح الخلق، وهم أهل البلاغة، والفصاحة، واللسن، والنظم، والنثر، والخطب، وأنواع الكلام، فما منهم من فاه في معارضته ببنت شفة، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، وأشدهم أذى له بالقول والفعل، والتنفير عنه بكل طريق، فما نقل عن أحدهم منهم سورة واحدة عارضة بها؛ إلا مسيلمة الكذاب بمثل قوله:

((ياضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، ومثل الطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، أهالة وسمنا)).

وأمثال هذه الألفاظ التي هي بألفاظ أهل الجنون، والمعتوهين، أشبه منها بألفاظ العقلاء، فالمسلمون إنما بنوا أساس دينهم، ومعالم حلالهم وحرامهم، على الكتاب الذي لم ينزل من السماء كتاب أعظم منه، فيه بيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، وهدى، ورحمة، وشفاء لما في الصدور، به هدى الله رسوله وأمته، فهو أساس دينهم.

(الثاني)

أن قولكم: ((إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة)) من أعظم البهت، وأفحش الكذب، فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكاهم، وعلمهم الكتاب والحكمة، وفضلهم في العلم، والعمل والهدى، والمعارف الإلهية، والعلوم النافعة المكملة للنفوس، على جميع الأمم.

فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم، وعلومهم، وأعمالهم، ومعارفهم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة، وعلم، وهدى، (ص 121) وبصيرة، إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما؛وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب، والهندسة، والكم المتصل، والكم المنفصل، والنبض، والقارورة، والبول، والقسطة، ووزن الأنهار، ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة، وصناعة الكيميا، وعلم الفلاحة، وعلم الهيئة، وتسير الكواكب، وعلم الموسيقا والألحان.

وغير ذلك من العلوم، التي هي بين علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة، وبين علم نفعه في العاجلة، وليس من زاد المعاد.

فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في هذه العلوم فنعم إذا ((وتلك شكاة ظاهر عنك عارها)).

وإن أردتم أنهم كانوا عواما في العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، ودينه، وشرعه، وتفاصيله، واليوم الآخر وتفاصيله، وتفاصيل ما بعد الموت، وعلم سعادة النفوس وشقاوتها، وعلم صلاح القلوب وأمراضها، فمن بهت نبيهم بما بهته به، وجحد نبوته ورسالته، التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار، لم ينكر له أن يبهت أصحابه، ويجحد فضلهم، ومعرفتهم، وينكر ما خصهم الله به، وميزهم على من قبلهم، ومن هو كائن بعدهم إلى يوم القيامة؟ !

وكيف يكونون عواما في ذلك، وهم أذكى الناس فطرة، وأزكاهم نفوسا، وهم يتلقونه غضا طريا ومحضا لم يشب عن نبيهم، وهم أحرص الناس وأشوقهم إليه، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل، والنهار، والحضر، والسفر،

وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين، وعلم ما كان من المبدأ والمعاد، وتخليق العالم، وأحوال الأمم الماضية، والأنبياء وسيرهم، وأحوالهم مع أممهم، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله، وعددهم وعدد المرسلين منهم، وذكر كتبهم، وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم، وما أكرم به أتباعهم، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم، وما وكلوا به، واستعملوا فيه، وذكر اليوم الآخر، وتفاصيل أحواله، وذكر الجنة، وتفاصيل نعيمها، والنار وتفاصيل عذابها، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه،

وذكر أشراط الساعة، والإخبار بها، مفصلا بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشرهم به فقال: ((وكل شيء أعده الله تعالى لكم يخبركم به)).

وفي موضع آخر منه:((ويخبركم بالحوادث، والغيوب)).

وفي موضع آخر: ((يعلمكم كل شيء)).

وفي موضع آخر منه: ((يحي لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وأجيئكم بالأمثال، وهو يجيئكم بالتأويل)).

وفي موضع آخر:((إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء روح الحق، ذلك يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل (ص 122) يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرّفكم جميع ما للأب)).

فمن هذا علمه بشهادة المسيح وأصحابه يتلقون ذلك جميعه عنه، وهم أذكى الخلق، وأحفظهم وأحرصهم، كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف؟ !

((ولقد صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبهم حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلّى، وصعد، فخطبهم حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلّى، وخطبهم حتى حضرت المغرب، فلم يدع شيئا إلى قيام الساعة إلا أخبرهم به، فكان أعلمهم، أحفظهم)).

وخطبهم مرة أخرى خطبة فذكر بدأ الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم.

وقال يهودي لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: أجل؟ ! فهذا اليهودي كان أعلم بنبينا من هذا السائل وطائفته!.

الصحابة أعلم الناس وأفضلهم، علماء الأمة تلاميذهم، من أعلام الصحابة والأئمة

وكيف يدّعى في أصحاب نبينا أنهم عوام، وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة على كثرتها، واتساعها، وتفنن ضروبها، إنما هي عنهم مأخوذة، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة.

وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم، وفتيانهم، وقد طبق الأرض علما، وبلغت فتاويه نحوا من ثلاثين سفرا، وكان بحرا لا ينزف، لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علما، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام، والفرائض، يقول القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في تفسير القرآن، ومعانيه، يقول السامع: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في السنة، والرواية، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول

القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في القصص، وأخبار الأمم، وسير الماضين، فكذلك، فإذا أخذ في أنساب العرب، وقبائلها، وأصولها، وفروعها، فكذلك، فإذا أخذ في الشعر والغريب فكذلك.

قال مجاهد: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال قتادة: في قوله تعالى:(ويرى الذي أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

ولما حضر معاذاً الموت قيل: أوصنا، قال: أجلسوني إن العلم والإيمان بمكانهما من اقتفاهما وجدّهما عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((إنه عاشر عشرة في الجنة)).

وقال أبو إسحاق السبيعي: قال عبد الله: علماء الأرض ثلاثة؛ فرجل بالشام، وآخر بالكوفة، وآخر بالمدينة، فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء.

وقيل لعلي ابن أبي طالب: حدثنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: عن أيهم؟ قالوا: (ص 123) عن عبد الله بن مسعود، قال: قرأ القرآن، وعلم السنة، ثم انتهى وكفى بذلك.

قالوا: فحدثنا عن حذيفة، قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين.

قالوا: فأبو ذر؟ قال:كنيف ملئ علما عجن فيه.

قالوا: فعمار؟ قال: مؤمن نسي، إذا ذكرته ذكر خلط الله بالإيمان بلحمه، ودمه، ليس للنار فيه نصيب.

قالوا: فأبو موسى؟ قال: صبغ في العلم صبغة.

قالوا: فسلمان؟ قال: علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينزح، هو منا أهل البيت.

قالوا: فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين؟ قال: إياها أردتم، كنت إذا سئلت أعطيت، وإذا سكت ابتديت.

وقال مسروق: شافهت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلى علي، وعبد الله، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبي بن كعب، ثم شافهت الستة، فوجدت علمهم ينتهي إلى علي، وعبد الله.

وقال مسروق: جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا كالأخاذ الأخاذ، يروي الراكب، والأخاذ يروي الراكبين، والأخاذ العشرة، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإن عبد الله من تلك الأخاذ.

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر، فقالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله، قال: ((العلم)).

وقال عبد الله: إني لأحسب أن عمر بن الخطاب، قد ذهب بتسعة أعشار العلم.

وقال عبد الله: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة، لرجح علم عمر.

وقال حذيفة بن اليمان: كأن علم الناس مع علم عمر، دس في حجر.

وقال الشعبي قضاة هذه الأمة أربعة: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى.

وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت رجلا قط، أعلم بالله، ولا أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه في دين الله، من عمر.

وقال علي: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأنا حديث السن، ليس لي علم بالقضاء، فقلت: إنك ترسلني إلى قوم يكون فيهم الأحداث، وليس لي علم بالقضاء، قال: فضرب في صدري، وقال:((إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك)) قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعده.

وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: كنت أرعى غنما لعقبة ابن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، فقال لي: ((يا غلام هل من لبن))؟ فقلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: ((فهل من شاة لم ينز عليها الفحل))؟ قال: فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: ((اقلص)) فقلص، قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: ((يرحمك الله إنك عليم معلّم)).

وقال عقبة بن عامر: ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد [صلى الله عليه وسلم] من عبد الله، فقال أبو موسى: (ص 124) إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل.

وقال مسروق: قال عبد الله: ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو إني أعلم أن رجلا أعلم بكتاب الله مني، تبلغه الإبل، والمطايا لأتيته.

وقال عبد الله بن بريدة في قوله عز وجل: (حتى إذا خرجوا من عندك، قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفا)قال: هو عبد الله بن مسعود.

وقيل لمسروق: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.

وقال أبو موسى: ما أشكل علينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.

وقال شهر بن حوشب: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا، وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له.

وقال علي بن أبي طالب: أبو ذر وعاء ملئ علما، ثم وكى عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قبض.

وقال مسروق: قدمت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم، ولما بلغ أبا الدرداء موت، عبد الله بن مسعود قال: أما إنه لم يخلف بعده مثله.

وقال أبو الدرداء: إن من الناس من أوتي علما، ولم يؤت حلما، وشداد بن أوس ممن أوتي علما وحلما.

ولما مات زيد بن ثابت، قام ابن عباس على قبره، وقال: هكذا يذهب العلم، وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس وقال:((اللهم علمه الحكمة، وتأويل الكتاب)).

وقال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: لقد مات رباني هذه الأمة.

وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة، ولا أجلد رأيا، ولا أثقب نظرا حين ينظر من ابن عباس.

وكان عمر بن الخطاب يقول له: قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها، ثم يقول عبيد الله، وعمر عمر في جده، وحسن نظره للمسلمين.

وقال عطاء بن أبي رباح: ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عباس: أكثر فقهاً، وأعظم جفنة، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر، يصدرهم كلهم في وادٍ واسع، وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيده الله علما، وفقها.

وقال عبد الله بن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا، ما عشره منا رجل: أي ما بلغ عشره.

وقال ابن عباس: ما سألني أحد عن مسألة إلا عرفت أنه فقيه أو غير فقيه، وقيل له: أنى أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وكان يسمى البحر من كثرة علمه.

وقال طاوس: أدركت نحو خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكر لهم ابن عباس شيئا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم.

وقال الأعمش: كان ابن عباس إذا رأيته، قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم، (ص 125) قلت: أفصح الناس، فإذا حدّث، قلت: أعلم الناس.

وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا فسر الشيء عليه النور.

وقال ابن سيرين: كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم، ما لا يعلمه الناس أجمعون. قال ابن عون: فكأنه رآني أنكرت ذلك، قال: فقال: أليس أبو بكر كان يعلم ما لا يعلم الناس، ثم كان عمر يعلم ما لا يعلم الناس؟ !

وقال عبد الله بن مسعود: لو وضع علم أحياء العرب في كفة، وعلم عمر في كفة، لرجح بهم علم عمر، قال الأعمش: فذكروا ذلك لإبراهيم، فقال: عبد الله إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم.

وقال سعيد بن المسيب: ما أعلم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من عمر بن الخطاب.

وقال الشعبي: قضاة الناس أربعة: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري.

وكانت عائشة رضي الله عنها مقدّمة في العلم بالفرائض، والسنن، والأحكام، والحلال والحرام، والتفسير.

قال عروة بن الزبير: ما جالست أحدا قط أعلم بقضاء، ولا بحديث الجاهلية، ولا أروى للشعر، ولا أعلم بفريضة، ولا طب من عائشة.

وقال عطاء: كانت عائشة أعلم الناس، وأفقه الناس.

وقال البخاري في ((تاريخه)): روى العلم عن أبي هريرة ثمانمائة رجل، ما بين صاحب وتابع.

وقال عبد الله ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه وبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلوا وزراءه.

وقال ابن عباس في قوله تعالى: (قل الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى) قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن مسعود: من كان منكم مستنا، فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لإقامة دينه، وصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

وقد أثنى الله سبحانه عليهم بما لم يثنه على أمة من الأمم سواهم.

فقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي عدولا خيارا: (لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا).

وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

وقال:(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل، كزرع أخرج شطأه، فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع، ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة، وأجرا عظيما).

وقال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا (ص 126) مع الصادقين) وهم محمد وأصحابه.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:((أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل)).

وقال تعالى:(والسابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).

وقال مالك عن نافع: كان ابن عباس، وابن عمر يجلسان للناس عند قدوم الحاج، وكنت أجلس إلى هذا يوما، وإلى هذا يوما، فكان ابن عباس يجيب، ويفتي في كل ما يسأل عنه، وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي. قال مالك: وسمعت ((أن معاذ بن جبل يكون إمام العلماء برتوة)) يعني: يكون إمامهم يوم القيامة برمية حجر.

وقال مالك: أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة، يفتي الناس في الموسم، وغير ذلك، وكان من أئمة الدين.

وقال عمر لجرير: يرحمك الله، إن كنت لسيداً في الجاهلية فقيها في الإسلام.

وقال محمد بن المنكدر: ما قدم البصرة أحد أفضل من عمران بن حصين.

وكان لجابر بن عبد الله حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤخذ عنه العلم.

والعلم إنما انتشر في الآفاق عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين فتحوا البلاد بالجهاد، والقلوب بالعلم والقرآن، فملؤا الدنيا خيرا وعلما، والناس اليوم في بقايا آثار علمهم.

قال الشافعي في ((رسالته)) وقد ذكر الصحابة فعظمهم وأثنى عليهم ثم قال: وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر، أستدرك به علم، وآراؤهم لنا، أحمد وأولى بنا من آرائنا، ومن أدركنا ممن نرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة، إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا، وكذلك نقول ولم نخرج من أقاويلهم كلهم.

وقال الشافعي: وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة، والإنجيل، والقرآن، وسبق لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم.

وقال أبو حنيفة: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم، ولم نخرج عنه.

وقال ابن القاسم: سمعت مالكا، يقول: لما دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب، فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطّعوا بالمناشير، وصلبوا على الخشب، بأشد اجتهادا من هؤلاء.

وقد شهد لهم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، بأنهم خير القرون على الإطلاق، كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى، بأنهم خير الأمم على الإطلاق وعلماؤهم وتلاميذهم هم الذين ملاؤا الأرض علما، فعلماء الإسلام كلهم تلاميذهم، وتلاميذ تلاميذهم، وهلم جرا.

وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم (ص 127) الأرض شرقا وغربا، هم تلاميذ تلاميذهم، وخيار ما عندهم ما كان عن الصحابة، وخيار الفقه ما كان عنهم، وأصح التفسير ما أخذ عنهم...

وأما كلامهم في باب معرفة الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وقضائه وقدره، ففي أعلى المراتب، فمن وقف عليه، وعرف ما قالته الأنبياء، عرف أنه مشتق منه، مترجم عنه، وكل علم نافع في الأمة فهو مستنبط من كلامهم، ومأخوذ عنهم، وهؤلاء تلاميذهم، وتلاميذ تلاميذهم، قد طبقت تصانيفهم وفتاويهم الأرض.

فهذا مالك جمعت فتاويه في عدة أسفار، وكذلك أبو حنيفة، وهذه تصانيف الشافعي تقارب المائة، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سفر، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سفرا، وغالب تصانيفه بل كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، والتابعين.

وهذا علّامتهم المتأخر ((شيخ الإسلام ابن تيمية)) جمع بعض أصحابه فتاواه في ثلاثين مجلدا، ورأيتها في الديار المصرية، وهذه تأليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله، وكلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم، والفضل، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم، كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم.

وفي ((الثقفيات)) حدثنا قتيبة بن سعيد، هن سعيد بن عبد الرحمن المعافري، عن أبيه، أن كعبا رأى حبر اليهود يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمر، فقال كعب: أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال: نعم، قال: أنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة،

فقال: رب إني أجد أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلون الأعور الدجال، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: فأنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب إني أجد أمة هم الحمادون، رعاة الشمس، المحكمون إذا أرادوا أمرا، قالوا: نفعله إن شاء الله، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

فقال كعب: فأنشدك الله أتجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله، وإذا هبط حمد الله؛ الصعيد طهورهم، والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء، حيث لا يجدون الماء، غراً محجلين من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: فأنشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب، إني أجد أمة مرحومة ضعفاء أورثتهم (ص 128) الكتاب، فاصطفيتهم لنفسك، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

قال كعب: أنشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال: يا رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلا من بريء من الحسنات مثل ما بريء الحجر من ورق الشجر، قال موسى: فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.

فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً وأمته، قال: ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن:

(يا موسى إني اصطفيتك على الناس) الآية.

(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). (وكتبنا له في الألواح) الآية.

قال: فرضي موسى كل الرضا...

وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم، وبعضها في نبوة شعيا، وبعضها في نبوة غيره ((والتوراة)) أعم من التوراة المعينة،

وقد كان الله سبحانه كتب لموسى في الألواح من كل شيء موعظة، وتفصيلا لكل شيء، فلما كسرها رفع منها الكثير، وبقي خير كثير، فلا يقدح في هذا النقل جهل أكثر أهل الكتاب به، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيء لا يعرفه إلا الآحاد من الناس، أو الواحد وهذه الأمة على قرب عهدها بنبيها في العلم الموروث عنه، ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدا من أمته، وسائر الناس منكر له وجاهل به.

وسمع كعب رجلا يقول: رأيت في المنام، كأن الناس جمعوا للحساب، فدعي الأنبياء، فجاء مع كل نبي أمته، ورأيت لكل نبي نورين، ولكل من اتبعه نورا يمشي بين يديه، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم.

فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما، فقال كعب: من حدّثك بهذا؟ قال: رؤيا رأيتها في منامي، قال: أنت رأيت هذا في منامك؟ قال: نعم، قال: والذي نفسي بيده إنها لصفة محمد وأمته، وصفة الأنبياء وأممهم، لكأنما قرأتها من كتاب الله.

وفي بعض الكتب القديمة أن عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، قيل له: يا روح الله! هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: نعم، قيل: وأية أمة؟ قال: أمة أحمد، قيل: يا روح الله! وما أمة أحمد؟ قال: علماء، حكماء، أبرار، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.

وقال كعب: علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، وفيه حديث مرفوع لا أعرف حاله. (ص 129)

هنيئا لليهود بعلومهم وبعلمائهم!

ثم نقول: وما يدريكم معاشر اليهود والنصارى بالفقه والعلم؟ ومسمي هذا الاسم حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل، وهل يميز بين العلماء والجهال، ويعرف مقادير العلماء، إلا من هو من جملتهم، ومعدود في زمرتهم؟ !!

فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل أسفارا، وطائفة علماؤها يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله، وتأخذ دينها عن كل كاذب، ومفتر على الله، وعلى أنبيائه، فمثلها مثل عريان يحارب شاكي السلاح، ومن سقف بيته زجاج، وهو يزاحم أصحاب القصور بالأحجار، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق أنهم عوام... فليهنأ اليهود علم ((المشنا، والتلمود)) وما فيهما من الكذب على الله، وعلى كليمه موسى.

وما يحدث لهم أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت، ولتهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه، وبكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، ودلتهم على أن يناجوا في صلاتهم، بقولهم:

يا إلهنا انتبه من رقدتك، كم تنام. ينخونه حتى يتنخى لهم، ويعيد دولتهم، ولتهن أمة اليهود علومهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء، وخالفوا بها المسيح خلافا تتحققه علماؤهم في كل أمره كما ستمر بك، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشق منه، والأرض تنفطر، والجبال تنهد، لولا أن أمسكها الحليم الصبور.

وعلومهم التي دلتهم على التثليث، وعبادة خشبة الصليب، والصور المدهونة بالسيرقون والزنجفر، ودلتهم على قول عالمهم: أفريم إن اليد التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوب، وأن الشبر الذي ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة، وقول عالمهم عرقودس: من لم يقل إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله!!!

الفصل العاشر: معاصي الأمم لا تقدح في الرسل ولا في رسالتهم

قال السائل: ((نرى في دينكم أكثر الفواحش، فيمن هو أعلم، وأفقه في دينكم، كالزنا، واللواط، والخيانة، والحسد، والبخل، والغدر، والتجبر، والتكبر، والخيلاء، وقلة الورع، واليقين، وقلة الرحمة، والمروءة، والحمية، وكثرة الهلع، والتكالب على الدنيا، والكسل في الخيرات، وهذا الحال يكذب لسان المقال)) والجواب من وجوه: (ص 130)

(أحدها)

أن يقال: ما ذا على الرسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم؟ !

وهل يقدح ذلك شيئا في نبوتهم أو يغير وجه رسالتهم؟ !

وهل سلم من الذنوب على اختلاف أنواعها، وأجناسها إلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؟ !

وهل يجوز رد رسالتهم وتكذيبهم بمعصية بعض أتباعهم لهم؟ !

وهل هذا إلا من أقبح التعنت؟ ! وهو بمنزلة رجل مريض دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غابة عافيته، فقال: لو كنت طبيبا لم يكن فلان وفلان وفلان مرضى! وهل يلزم الرسل أن يشفوا جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض؟ !

هل تعنت أحد من الناس للرسل بمثل هذا التعنت؟ !

ذنوب الموحدين من المسلمين في جنب عظائم اليهود والنصارى كتفلة في بحر!

(الوجه الثاني)

أن الذنوب والمعاصي أمر مشترك بين الأمم، لم تزل في العالم من طبقات بني آدم عالمهم، وجاهلهم، وزاهدهم في الدنيا، وراغبهم، وأميرهم، ومأمورهم، وليس ذلك أمرا اختصت به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيها.

(الوجه الثالث)

أن الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل، بل يجتمع في العبد الإسلام والإيمان والذنوب والمعاصي، فيكون فيه هذا وهذا. فالمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل وإن قدحت في كماله وتمامه.

(الوجه الرابع)

أن الذنوب تغفر بالتوبة النصوح، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء، وعدد الرمل والحصا، ثم تاب منها تاب الله عليه،

قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). فهذا في حق التائب؛ فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوحيد يكفر الذنوب.

كما في الحديث الصحيح الإلهي: ((ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لقيتك بقرابها مغفرة)) فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا عذبوا بذنوبهم.

وأما المشركون، والكفار فإن شركهم وكفرهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).

وقال تعالى في حق الكفار والمشركين: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبى الله أن يقبل من مشرك عملاً)) فالذنوب تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والمصائب (ص 131) المكفرة لها، وشفاعة الشافعين في الموحدين، وآخر ذلك إذا عذب بما يبقى عليه منها أخرجه توحيده من النار.

وأما الشرك بالله، والكفر بالرسول، فإنه يحبط جميع الحسنات بحيث لا تبقى معه حسنة.

من فضائح اليهود وقبائحهم المنكرة

(الوجه الخامس)

أن يقال لمورد هذا السؤال إن كان من أمة اليهود: ألا يستحي من إيراد هذا السؤال من آباؤه وأسلافه كانوا يشاهدون في كل يوم من الآيات ما لم يره غيرهم من الأمم؟ ! وقد فلق الله لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، وما جفت أقدامهم من ماء البحر، حتى قالوا لموسى:

(اجعل لنا إلها كما لهم ألهه، قال: إنكم قوما تجهلون) ولما ذهب لميقات ربه لم يمهلوه أن عبدوا بعد ذهابه العجل المصوغ، وغلب أخوه هرون معهم، ولم يقدر على الإنكار عليهم، وكانوا مع مشاهدتهم تلك الآيات، والعجائب، يهمون برجم موسى، وأخيه هرون في كثير من الأوقات، والوحي بين أظهرهم!!

ولما ندبهم إلى الجهاد قالوا:(اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، وآذوا موسى أنواع الأذى حتى قالوا: أنه آدر - أي منتفخ الخصية - ولهذا يغتسل وحده، فاغتسل يوما ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فعدا خلفه عريانا حتى نظر بنو إسرائيل إلى عورته، فرأوه أحسن خلق الله متجردا.

ولما مات أخوه هرون قالوا: إن موسى قتله وغيبه. فرفعت الملائكة لهم تابوت بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا، وآثروا العود إلى مصر وإلى العبودية ليشبعوا من أكل اللحم، والبصل، والقثاء، والعدس. هكذا عندهم.

والذي حكاه الله عنهم أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى؛ وإنهماكهم على الزنا وموسى بين أظهرهم، وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم، وهذا معروف عندهم.

وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون معروف، وتحيلهم على صيد الحيتان في يوم السبت لا تنسه، حتى مسخوا قردة خاسئين وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا في أول النهار، وأقاموا السوق آخره، كأنهم جزروا غنما وذلك أمر معروف.

وقتلهم يحيى بن زكريا ونشرهم إياه بالمنشار، وإصرارهم على العظائم واتفاقهم على تغيير الكثير من أحكام التوراة، ورميهم لوطا بأنه وطئ ابنتيه وأولدهما، ورميهم يوسف بأنه حل سراويله، وجلس من امرأة العزيز من القابلة حتى انشق له الحائط، وخرجت له كف يعقوب، وهو عاض على أنامله، فقام وهرب.

وهذا لو رآه أفسق الناس، وأفجرهم لقام ولم يقض غرضه، وطاعتهم للخارج على ولد سليمان بن (ص 132) داود لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتهما، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان، وقتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة.

أفلا يستحي عباد الكباش والبقر من تغيير الموحدين بذنوبهم؟ !

أولا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من تعيير المجاهدين لأعداء الله؟ !

فأين ذرية من سيوف آبائهم تقطر من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفهم من دماء الكفار والمشركين؟ !

أولا يستحي من يقول في صلاته لربه: انتبه كم تنام يا رب، استيقظ من رقدتك، ينخيه بذلك ويحميه، من تعيير من يقول في صلاته: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين) فلو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال والتراب والأنفاس، ما بلغت مبلغ قتل نبي واحد، ولا وصلت إلى اليهود (إن الله فقير ونحن أغنياء).

وقولهم: (عزير بن الله).

وقولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه).

وقولهم: (إن الله بكر على الطوفان حتى رمد من البكاء، وجعلت الملائكة تعوده، وقولهم: أنه عض أنامله على ذلك.

وقولهم: إنه ندم على خلق البشر، وشق عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم.

وأعظم من ذلك نسبة هذا كله إلى التوارة التي أنزلها على كليمه، فلو بلغت ذنوب المسلمين ما بلغت، لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر، ولا تنس((قصة أسلافهم مع شاؤل الخارج على داود)) فإن سوادهم الأعظم انضم إليه، وشدوا معه حرب داود.

ثم لما عادوا إلى طاعة داود، وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين، بحيث اختصموا في السبق إليه فنبغ منهم شخص، ونادى بأعلى صوته: لا نصيب لنا في داود.

ولا حظ في شاؤل، ليمض كل منهم إلى خبائة يا إسرائيلين، فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر بني إسرائيل إلى أخبيتهم بسبب كلمته، ولما قتل هذا الصائح، عادت العساكر جميعها إلى خدمة داود، فما كان القوم إلا مثل همج رعاع، يجمعهم طبل ويفرقهم عصى!!

افتراق اليهود، واختلاقهم كتاب علم الذباحة

(فصل) كتب اليهود

وهذه ((الأمة الغضيبة)) وإن كانوا متفرقين افتراقا كثيرا فيجمعهم فرقتان:

((القرابون والربانيون)) وكان لهم أسلاف فقهاء، وهم صنفوا لهم كتابين:

(أحدهما): يسمى: ((المشنا)) ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة. (والثاني): يسمى: ((التلمود)) ومبلغه قريب من نصف حمل بغل، ولم يكن المؤلفون له في عصر واحد، وإنما ألفوه في جيل بعد جيل.

فلما نظر متأخروهم إلى ذلك، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرا من أوله علموا أنهم إن لم يقفلوا باب الزيادة، وإلا أدى إلى الخلل الفاحش (ص 133) فقطعوا الزيادة، وحظروها على فقهائهم، وحرموا من يزيد عليه شيئا فوقف الكتاب على ذلك المقدار.

وكان فقهاؤهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة من كان على غير ملتهم، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح من لم يكن على دينهم، لأنهم علموا أن دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل، والعبودية، وقهر الأمم لهم، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم، وحرموا عليهم مناكحتهم، والأكل من ذبائحهم، ولم يمكنهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون فيها على الله.

فإن التوارة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله، وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا للأصنام، لأنه سمى عليها اسم الله.

فأما ما ذكر عليه اسم الله، وذبح لله، فلم تنطق التوارة بتحريمه البتة، بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى إنما نهاهم عن مناحكة عباد الأصنام، وأكل ما يذبحونه باسم الأصنام، قالوا: التوارة حرمت علينا أكل الطريفا، قيل لهم: الطريفا هي: الفريسة التي يفترسها الأسد، أو الذئب، أو غيرهما من السباع.

كما قال في التوارة:((ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا وللكلب ألقوه)) فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوارة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وصرحت التوارة بأن تحريم مؤاكلتهم، ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة، والمناكحة قد تستتبع الانتقال من دينهم إلى أديانهم، وموافقتهم في عبادة الأوثان، ووجدوا جميع هذا واضحا في التوارة، اختلقوا كتابا سموه: ((هلكث شحيطا)) وتفسيره!علم الذباحة.

ووضعوا في هذا الكتاب من الآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل، والصغار، والخزي فأمروهم فيه أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملونها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حرموه، وإن كانت بعض أطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه.

وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر، أو أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه، ولم يأكلوه، وسموه: ((طريفا)) ومعنى هذه اللفظة عندهم: أنه نجس حرام، وهذه التسمية عدوان منهم؛ فإن معناها في لغتهم هي: الفريسة التي يفترسها السبع، ليس لها معنى في لغتهم سواه.

ولذلك عندهم في التوارة: أن إخوة يوسف لما جاؤا بقميصه ملطخا بالدم قال يعقوب في جملة كلام: ((طاروف طوارف يوسف)) تفسيره: وحش ردي أكله افتراسا افترس يوسف، وفي التوارة: ((ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا)) فهذا الذي حرمته التوارة من الطريفا، وهذا نزل عليهم وهم في التيه، وقد اشتد قرمهم إلى اللحم، فمنعوا من أكل الفريسة والميتة.

ثم (ص 134) اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من هذه الشروط فهو ((دخيا)) وتفسيره: طاهر.

وما كان خارجا عن ذلك فهو ((طريفا)) وتفسيره: نجس حرام،

ثم قالوا: معنى قوله في التوارة: ((ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلب ألقوه)) يعني: إذا ذبحتم ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم، قالوا: ومعنى قوله: ((للكلب ألقوه)) أي: لمن ليس على ملتكم فهو الكلب فأطعموه إياه بالثمن.

فتأمل هذا التحريف، والكذب على الله، وعلى التوراة، وعلى موسى، ولذلك كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك،

فقال في السورة المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب: (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) الآية.

وقال في سورة الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم.

وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة.

وقال في سورة النحل، وهي بعد هذه السورة نزولا: (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) فهذا المحرم عليهم بنص التوارة ونص القرآن.

فلما نظر ((القرابون)) منهم وهم أصحاب عايان، وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة، والافتراء الفاحش، والكذب البارد على الله، وعلى التوارة، وعلى موسى، وأن أصحاب ((التلمود والمشنا))كذابون على الله، وعلى التوارة، وعلى موسى، وأنهم أصحاب حماقات ورقاعات، وأن أتباعهم ومشايخهم يزعمون أن الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه ((الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان)) ويسمون هذا الصوت ((بث قول)).

فلما نظر ((القرابون)) إلى هذا الكذب المحال قالوا: قد فسق هؤلاء، ولا يجوز قبول خبر فاسق، ولا فتواه، فخالفوهم في سائر ما أصلوه من الأمور التي لم ينطق بها نص التوارة.

وأما تلك الترهات التي ألفها فقهاؤهم الذين يسمونهم ((الحخاميم)) في علم الذباحة، ورتبوها، ونسبوها إلى الله فأطرحها القرابون كلها وألغوها، وصاروا لا يحرمون شيئا من الذبائح التي يتولون ذبحها البتة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف، إلا أنهم يبلغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة، والأولون أصحاب استنباط وقياسات. (ص 135)

(فصل) الربانيون

والفرقة الثانية يقال لهم: ((الربانيون)) وهم أكثر عددا، وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أن الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه ((بث قول)).

وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، فإن الحخاميم أو هموهم بأن الذبائح لا يحل منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها، فإن سائر الأمم لا تعرف هذا، وأنه شيء خصوا به وميزوا بهم عمن سواهم، وأن الله شرفهم به كرامة لهم، فصار الواحد منهم ينظر إلى من ليس على نحلته كما ينظر إلى الدابة، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة.

وأما ((القرابون)) فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام ونفعهم تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها إلى أن لم يبق منهم إلا القليل، لأنهم أقرب استعدادا لقبول الإسلام لأمرين:

(أحدهما): إساءة ظنهم بالفقهاء الكذابين المفترين على الله، وطعنهم عليهم.

(الثاني): تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها، وإبطال معانيها.

وأما أولئك ((الربانيون)) فإن فقهاءهم وحخاميمهم حصروا في مثل سم الخياط بما وضعوا لهم من التشديدات والآصار والأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبة لهم، وكان لهم في ذلك مقاصد... (منها) أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم، حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى موافقتهم والخروج من السبت واليهودية.

(القصد الثاني) أن اليهود مبدون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها، كما قال تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما).

حيل حخاميمهم الدنيئة وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في الاحتياط، فإن كان فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهمهم قلة دينهم وعلمهم، وكلما شدد عليهم قالوا:

هذا هو العالم، فأعلمهم أعظمهم تشديدا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذباح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون:

هذا عالم غريب قدم علينا، فلا يزال ينكر عليهم الحلال، ويشدد عليهم الآصار والأغلال، ويفتح لهم أبواب المكر، والاحتيال، وكلما فعل هذا، قالوا: هذا العالم الرباني، والحخيم الفاضل، فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقبل بينهم مقاله، وزن نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به، وطعن عليه لم يقبل منه، فإن الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا (ص 136) يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدد عليهم وضيّق.

وكلما كان الرجل أعظم تضييقا وتشديدا، كان أفقه عندهم، فينصرف عن هذا الرأي، فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول: لقد عظم ثواب فلان إذ قوّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، وشيّد أساسه، وأحكم سياج الشرع، فيبلغ القادم قوله، فيقول: ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول: زين إليه بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة!!!

وإن كان القادم عليهم حبرا من أحبارهم، فهناك ترى العجب العجيب من الناموس التي تراه يعتمده، والسنن التي يحدثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مسلمين له، وهو يحتلب درّهم، ويجتلب درهمهم.

وإذا بلغه عن يهودي طعن عليه، صبر عليه حتى يرى منه جلوسا على قارعة الطريق يوم السبت، أو يبلغه أنه اشترى من مسلم لبنا، أو خمرا، أو خرج عن بعض أحكام ((المشنا والتلمود))، فحرمه بين ملأ اليهود، وأباحهم عرضه، ونسبه إلى الخروج عن اليهودية، فيضيق به البلد على هذه الحال، فلا يسعه إلا أن يصلح ما بينه وبين الحبر بما يقتضيه الحال، فيقول لليهود: إن فلانا قد أبصر رشده، وراجع الحق، وأقلع عما كان فيه، وهو اليوم يهودي على الوضع، فيعودون له بالتعظيم والإكرام!!!

من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار!!

وأذكر لك مسألة من مسائل شرعهم المبدل، أو المنسوخ، تعرف بمسألة ((البياما والجالوس)) وهي أن عندهم في التوارة:

إذا أقام أخوان في موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل حموها ينكحها، وأول ولد يولدها ينسب إلى أخيه الدارج.

فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية إلى مشيخة قومه، قائلة: قد أبى حموي أن يستبقي اسماً لأخيه في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، فيحضره ويكلفه أن يقف، ويقول: ما أردت نكاحها، فتتناول المرأة نعله فتخرجه من رجله، وتمسكه بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه: كذا فيلصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.

ويدعى فيما بعد: بالمخلوع النعل، وينتبز بنوه بهذا اللقب، وفي هذا كالتلجئة له إلى نكاحها، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك، فربما استحيا، وخجل من شيل نعله من رجله، والبصق في وجهه، ونبزه باللقب المستكره الذي يبقى عليه وعلى أولاده عاره، ولم يجد بداً من نكاحها.

فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها، بحيث يرى أن هذا كله أسهل عليه من أن يبتلى بها، وهان عليه هذا كله، في التخلص منها لم يكره على نكاحها، هذا عندهم في التوارة.

ونشأ لهم من ذلك، فرع مرتب عليه وهو: أن يكون مريدا للمرأة، محبا لها، وهي في غاية الكراهة له، فأحدثوا لهذا الفرع حكما في غاية الظلم والفضيحة، فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها، ولقنوها أن تقول: إن (ص 137) حموي لا يقيم لأخيه اسما في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، وهو عاشق لها - فيلزمونها بالكذب عليه، وأنها أرادته فامتنع - فإذا قالت ذلك، ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها - ونكاحها غاية سؤله، وأمنيته، فيأمرونه بالكذب عليها - فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مَسْكٌ هنا، ولا ضَرْب، بل يبصق في وجهه، وينادى عليه: هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه.

فلم يكفهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي، وألزموه بالكذب، والبصاق في وجهه، والعتاب على ذنب جره غيره، كما قيل:

وجرم جره سفهاء قوم * وحل بغير جارمه العذاب

أفلا يستحي من تعيير المسلمين من هذا شرعه ودينه؟ !

ما لاقاه اليهود...من الإذلال والصغار من مختلف الأمم والدول، وكان سبب طمس معالم دينهم وآثارهم

(فصل) انقراض أمة اليهود بسبب كفرها وضلالها

ولا يستبعد اصطلاح أمة اليهود على المحال، واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال.

فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها، ودرست معالم دينها، وآثارها، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولوها وأسلافها؛ لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات، وخراب البلاد، وإحراقها، وجلاء أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها، إلى أن تستحيل رسوم دياناتها، وتضمحل أصول شرعها، وتتلاشى قواعد دينها.

وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار، كان حظها من اندراس دينها أوفر، وهذه أمة اليهود أوفر الأمم حظا من ذلك، فإنها أقدم الأمم عهدا، واستولت عليها سائر الأمم من الكندانيين، والكلدانيين، والبابليين، والفرس، واليونان، والنصارى، وما من هذه الأمم أمة إلا وقصدت استئصالهم، وإحراق كتبهم، وتخريب بلادهم، حتى لم يبق لهم مدينة، ولا جيش، ولا حصن، إلا بأرض الحجاز وخيبر، فأعز ما كانوا هناك.

فلما قام الإسلام، واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى، وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة، فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل، والسبي، وتخريب الديار، ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم.

وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء، فكتب الله عليهم الجلاء، وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين، ولا آمن، فإن الذي نالهم من النصارى، والفرس، وعباد الأصنام، لم ينلهم من المسلمين مثله.

وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في (ص 138) طلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها، وتركوا لها أحكام التوراة، وشرع موسى أزمنة طويلة، وأعصارا متصلة.

فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنهم قتلوا المسيح، وصلبوه، وصفعوه، وبصقوا في وجهه، ووضعوا الشوك على رأسه، وكالفرس، والكلدانيين وغيرهم.

صلاتهم دعاء على الأمم.. وإفك على الله تعالى وتقدس

وكثيرا ما منعهم ملوك الفرس من الختان، وجعلوهم قلفا، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار، وعلى بلادهم بالخراب، إلا أرض كنعان، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا، منعوهم من الصلاة.

فرأت اليهود أن الفرس قد جدّوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم، سموها ((الخزانة)) وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون على تلحينها، وتلاوتها، والفرق بين الخزانة والصلاة، أن الصلاة بغير لحن، ويكون المصلي فيها وحده، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه.

فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم، قالت اليهود: نحن نغني، وننوح على أنفسنا، فيخلون بينهم وبين ذلك، فجاءت دولة الإسلام، فأمنوا فيها غاية الأمن، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرت الخزانة سنّة فيهم في الأعياد، والمواسم، والأفراح، وتعوضوا بها عن الصلاة.

والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم، وتفرّق شملهم، وعلمهم بالغضب الممدود المستمر عليهم، ومسخ أسلافهم قردة، لقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت، وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة، وتعطيلهم لأحكامها، يقولون في كل يوم في صلاتهم:

((محبة الدهر)) أحبنا، يا إلهنا! يا أبانا! أنت أبونا منقذنا!ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء، مات جميع الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود.

وهو بزعمهم المسيح الذي وعدوا به، وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم، وينخونه، ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا. وضلال هذه أمة اليهود، وكذبها، وافتراؤها، على الله، ودينه، وأنبيائه، لا مزيد عليه.

وأما أكلهم الربا، والسحت، والرشا، واستبدادهم دون العالم بالخبث، والمكر، والبهت، وشدة الحرص على الدنيا، وقسوة القلوب، والذل و الصغار، والخزي، والتحيل على (ص 139) الأغراض الفاسدة، ورمي البرآء بالعيوب، والطعن على الأنبياء: فأرخص شيء عندهم، وما عيروا به المسلمين مما ذكروه، ومما لم يذكروه، فهو في بعضهم، وليس في جميعهم، ونبيهم، وكتابه، ودينه، وشرعه بريء منه، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم، فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.

أساس دين النصارى قائم على شتم الله، والشرك به، خرافة الفداء

(فصل) تعيير المسلمين بدين قائم على الخرافات

وإن كان المعير للمسلمين من اليهود والنصارى، فيقال له:

ألا يستحي من أصل دينه الذي يدين به، اعتقاده أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه، ودخل في فرج امرأة تأكل، وتشرب، وتبول، وتتغوط، وتحيض، فالتحم ببطنها، وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو، وبول، ودم طمث، ثم خرج إلى القماط، والسرير، كلما بكى ألقمته أمه ثديها.

ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه، وصفعهم قفاه، وبصقهم في وجهه، ووضعهم تاجا من الشوك على رأسه، والقصبة في يده؛ استخفافا به، وانتهاكا لحرمته.

ثم قرّبوه من مركب خصّ بالبلاء راكبه، فشدوه عليه، وربطوه بالحبال، وسمّروا يديه ورجليه، وهو يصيح، ويبكي، ويستغيث من حر الحديد، وألم الصلب؛ هذا وهو الذي خلق السموات والأرض، وقسم الأرزاق والآجال.

ولكن اقتضت حكمته ورحمته، أن يمكن أعداءه من نفسه، لينالوا منه ما نالوا، فيستحقوا بذلك العذاب، والسجن في الجحيم، ويفدي أنبياءه ورسله، وأولياءه بنفسه، فيخرجهم من سجن إبليس؛ فإن روح آدم، وإبراهيم، ونوح، وسائر النبيين عندهم، كانت في سجن إبليس في الناس، حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه!!!

مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها

أما قولهم في ((مريم))فإنهم يقولون: إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة، ووالدته في الحقيقة، لا أم لابن الله إلا هي؛ ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، لا ولد له سواه، وأن الله اختارها لنفسه، ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء.

ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا والد له سواه، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه.

والنصارى يدعونها (ص 140) ويسألونها سعة الرزق، وصحة البدن، وطول العمر، ومغفرة الذنوب، وأن تكون لهم عند ابنها ووالده - الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم - سوراً، وسنداً، وذخراً، وشفيعاً، وركنا، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله، اشفعي لنا!

وهم يعظمونها، ويرفعونها على الملائكة، وعلى جميع النبيين والمرسلين، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية، والرزق، والمغفرة، حتى أن ((اليعقوبية)) يقولون في مناجاتهم لها: يا مريم، يا والدة الإله، كوني لنا سورا، وسندا، وذخرا، وركنا.

((والنسطورية)) يقولون: يا والدة المسيح، كوني لنا كذلك!

ويقولون لليعقوبية: لا تقولوا يا والدة الإله، وقولوا: يا والدة المسيح، فقالت لهم اليعقوبية: المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة، فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين، ومقاربتهم في التوحيد.

هذا والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة، تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه، ولولده، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة.

قال النّظام بعد أن حكى ذلك عنهم، وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به.

وقد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في ((المعونة)) وقال: إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون: من لم يكن والدا يكون عقيما، والعقم آفة وعيب، وهذا قول جميعهم، وإلى المباضعة يشيرون، ومن خالط القوم، وطاولهم، وباطنهم عرف ذلك منهم، فهذا كفرهم، وشركهم برب العالمين، ومسبتهم له، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين: أهينوهم، ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال: ((شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)).

فلو أتى الموحدون بكل ذنب، وفعلوا كل قبيح، وارتكبوا كل معصية، ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين، ومسبته هذا السب، وقول العظائم فيه.

فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ويسأل المسيح على رؤس الأشهاد وهم يسمعون (يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فيقول المسيح مكذبا لهم، ومتبرئا منهم:

(سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليه شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد)؟ !!(ص 141).

الفصل الحادي عشر: النصارى مخالفون للمسيح في كل فروع دينهم أيضا: في الطهارة والصلاة والصوم وأكل الخنـزير وتعليق الصليب.

(فصل) فروع وشرائع دين النصارى

فهذا أصل دينهم، وأساسه الذي قام عليه، وأما فروعه وشرائعه فهم مخالفون للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم، وإقرارهم ولكن يحيلون على البتاركة والأساقفة؛ فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة، ويغتسل من الجنابة، ويوجب غسل الحائض.

وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب، وإن الإنسان يقوم من على بطن المرأة، ويبول، ويتغوط، ولا يمس ماء، ولا يستجمر، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه، ويصلي كذلك، وصلاته صحيحة تامة، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره فضلا عن أن يفسو أو يضرط، ويقولون: إن الصلاة بالجنابة، والبول، والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين، واليهود، وأقرب إلى مخالفة الأمتين.

ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين؛ فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته، أو صلاة أحد من الحواريين، والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرؤنه في صلاتهم من التوراة والزبور؛ وطوائف النصارى إنما يقرؤن في صلاتهم كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم، يجري مجرى النوح والأغاني.

فيقولون: هذا قداس فلان، وهذا قداس وفلان. ينسبونه إلى الذين وضعوه، وهم يصلون إلى الشرق. وما صلى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلة داود والأنبياء قبله، وقبلة بني إسرائيل.

والمسيح اختتن، وأوجب الختان، كما أوجبه موسى، وهارون، والأنبياء قبل المسيح.

والمسيح حرم الخنزير، ولعن آكله، وبالغ في ذمه؛ - والنصارى تقر بذلك - ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة؛ والنصارى تتقرب إليه بأكله.

والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط، ولا صامه في عمره مرة واحدة، ولا أحد من أصحابه، ولا صام صوم العذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرم فيه ما يحرمونه، ولا عطل السبت يوما واحداً حتى لقي الله، ولا اتخذ الأحد عيدا قط، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجد الإنسية، فأخرج منها سبع شياطين، وأن الشياطين قالت له: أين نأوي؟ فقال لها: اسلكي هذه الدابة النجسة، يعني الخنزير.

فهذه حكاية النصارى عنه وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها، والمسيح سار في الذبائح، والمناكح، والطلاق، والمواريث، والحدود، سيرة الأنبياء قبله. (ص 142)

الراهب والقسيس يغفر ذنوبهم!! ويطيب لهم نسائهم!!!

وليس عند النصارى على من زنا أو لاط، أو سكر، حد في الدنيا أبدا، ولا عذاب في الآخرة؛ لأن القس والراهب يغفره لهم، فكلما أذنب أحدهم ذنبا أهدى للقس هدية، أو أعطاه درهما، أو غيره، ليغفر له به!!

وإذا زنت امرأة أحدهم بيّتها عند القس ليطيبها له فإذا انصرفت من عنده، وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به!!!

المسيح لم يفوض الأساقفة والبتاركة في التشريع، مناقضة النصارى ولليهود

وهم يقرون أن المسيح قال: ((إنما جئتكم لأعمل بالتوراة، وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا، بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى، ومن نقض شيئا من ذلك يدعى ناقضاً في ملكوت السماء))، وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا، وقال لأصحابه:

((اعملوا بما رأيتموني أعمل، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به، ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنت معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم)) وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة.

ثم أخذ القوم في التغيير، والتبديل، والتقرب إلى الناس، بما يهوون، ومكايدة اليهود، ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح، والانسلاخ منه جملة، فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح: أنه ساحر، مجنون، ممخرق، ولد زنية، فقالوا:هو إله تام وهو ابن الله!!

ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان!!

ورأوهم يبالغون في الطهارة، فتركوها جملة!!

ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض، وملامستها، ومخالطتها جملة، فجامعوها!!

ورأوهم يحرمون الخنزير، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم!!

ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان، فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة، وقالوا: كل ماشئت، ودع ما شئت، لا حرج!!

ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة، فاستقبلوا هم الشرق!!

ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها، فجوزا هم لأساقفتهم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاؤا، ويحللوا ما شاؤا، ويحرموا ما شاؤا!!

ورأوهم يحرمون السبت، ويحفظونه، فحرموا هم الأحد، وأحلوا السبت، مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه!!

ورأوهم ينفرون من الصليب، فإن في التوراة ((ملعون من تعلق بالصليب)) والنصارى تقر بهذا، فعبدوا هم الصليب، كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا، فتعبدوا هم بأكله، وفيها الأمر (ص 143) بالختان، فتعبدوا هم بتركه، مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لأصحابه:

((إنما جئتكم لأعمل بالتوراة، ووصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضاً بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى))، فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود، ومغايظتهم، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم ((بافر كسيس)):

أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس، وأتوا أنطاكية، وغيرها من الشام، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح، فدعوهم إلى العلم بالتوراة، وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان، وإقامة السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه.

فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه.

فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم، والترخيص لهم، والاختلاط بهم، وأكل ذبائحم، والانحطاط في أهوائهم، والتخلق بأخلاقهم، وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشأوا في ذلك كتابا، فهذا أحد مجامعهم الكبار.

وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء، اجتمعوا مجمعا، وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية، وفي زمنه بدل دين المسيح، وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع، وقام به وقعد.

وكان عدتهم زهاء ألفي رجل، فقرروا تقريرا، ثم رفضوه ولم يرتضوه، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم - والنصارى يسمونهم: الآباء - فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به، ويسمونه: ((سنهودس)) وهي ((الأمانة))!!

أمانة المثلثة أكبر خيانة

ولفظها: ((نؤمن بالله الأب الواحد، خالق ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد اليسوع المسيح ابن الله بكر أبيه، وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول، وحبلت به مريم البتول وولدته، وأخذ وصلب، وقتل أيام فيلاطس الرومي.

ومات، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بالرب الواحد، روح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين)).

فصرحوا فيها بأن المسيح رب، وأنه ابن الله (ص 144) وأنه بكره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع: أي ليس بعبد مخلوق، بل هو رب خالق، وإنه إله حق، استل وولد ومن إله حق، وأنه مساو لأبيه في الجوهر، وأنه بيده أتقنت العوالم، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم وهي التي ذاقت حر المسامير، كما صرحوا به في كتبهم، وهذه ألفاظهم:

قالوا: ((وقد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى))!

قالوا: وقد وصفوا صنيع اليهود به، وهذه ألفاظهم: ((وأنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه))!

قالوا: ((وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء، وتلده، ويؤخذ، ويصلب، ويقتل))!

قالوا: وأما ((سنهودس)) دون الأمم، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهو القدوة وفيه: ((أن مريم حبلت بالإله، وولدته، وأرضعته، وسقته، وأطعمته))

قالوا: ((وعندنا أن المسيح ابن آدم، وهو ربه، وخالقه، ورازقه، وابن ولده إبراهيم، وربه، وخالقه، ورازقه، وابن إسرائيل، وربه، وخالقه، ورازقه، وابن مريم وربها، وخلقها، ورازقها)).

قالوا: وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا: اليسوع في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم، وعاينه الناس، وكان بينهم هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، هذه ألفاظهم، قالوا:

((فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض، هو الذي عاينه الناس بأبصارهم، ولمسوه بأيديهم، وهو الذي حبلت به مريم، وخاطب الناس من بطنها، حيث قال للأعمى: أنت مؤمن بالله قال الأعمى: ومن هو حتى أومن به؟ قال: هو المخاطب لك ابن مريم، فقال: آمنت بك وخر ساجدا)).

قالوا: ((فالذي حبلت به مريم هو الله، وابن الله، وكلمة الله)).

وقالوا: ((وهو الذي ولد، ورضع، وفطم، وأخذ، وصلب، وصفع، وكتفت يداه، وسمر، وبصق في وجهه، ومات، ودفن، وذاق ألم الصلب والتسمير، والقتل، لأجل خلاص النصارى من خطاياهم)).

قالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء و، خالقهم، وباعثهم، ومرسلهم، وناصرهم، ومؤيدهم، ورب الملائكة. قالوا: وليس مع أمه بمعنى الخلق، والتدبير، واللطف، والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث، ولا الحيوانات.ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه؛ فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات، وفارق ابنها جميع الخلق، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء، وحبلت به مريم، وولدته إلها واحدا، وربا واحدا، وخالقا واحدا، لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، لا في حبل، ولا في ولادة، ولا في حال نوم، ولا مرض، ولا صلب، ولا موت، ولا دفن.

بل هو متحد به في حال الحبل، فهو في تلك الحال مسيح واحد، وخالق واحد، وإله واحد، ورب واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال (ص 145) الصلب والموت كذلك.

قالوا: فمنا من يطلق في لفظه، وعبارته حقيقة هذا المعنى، فيقول: مريم حبلت بالإله، وولدت الإله، ومات الإله، ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها، ويعطي معناها وحقيقتها،

ويقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة، والمسيح إله في الحقيقة، ورب في الحقيقة، وابن الله في الحقيقة، وكلمة الله في الحقيقة، لا ابن لله في الحقيقة سواه، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو.

قالوا: فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال: حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، وصلب الإله، ومات ودفن، وإن منعوا اللفظ والعبارة.

قالوا: وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا: حبلت بالإله، وولدت الإله، وألم الإله، ومات الإله، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول: حل هذا كله، ونزل بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط.

قالوا: فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباء والقدوة قد قالوه قبلنا، وسنوه لنا، ومهدوه، وهم أعلم بالمسيح منا.

ولا تختلف النصارى من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي، ولا عبد صالح، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وإنه إله تام من إله تام، وأنه خالق السموات والأرضين، والأولين والآخرين ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وباعثهم من القبور وحاشرهم، ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم، والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه فهو الذي يخلق، ويرزق، ويميت، ويحي، ويدبر أمر السموات والأرض، ألا تراهم يقولون:

((في أمانتهم ابن الله وبكر أبيه وليس بمصنوع - إلى قولهم - بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء - إلى قولهم - وهو مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء)).

ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم: ((أنت أيها المسيح اليسوع تحيينا، وترزقنا، وتخلق أولادنا، وتقيم أجسادنا، وتبعثنا، وتجازينا))!!

المسيح يكذب دعوى ربوبيته وإلهيته، ويصرح بأنه نبي بشر

وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح، وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه، فإن المسيح قال لهم: إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم)) فشهد على نفسه أنه عبد لله، مربوب مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية، والحاجة، والفاقة إلى الله، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله.

ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه: ((إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد (ص 146) الحق، وأنك أرسلت اليسوع المسيح)).

وهذا حقيقة شهادة المسلمين أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وقال لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله)).

فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله، ولم يقل، وأنا إله ولا ابن الإله على معنى التوالد، وقال: ((إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي، ولكن بمشيئة من أرسلني)).

وقال: ((إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء، نفسي ولكن من الذي أرسلني، والويل لي أن قلت شيئا من تلقاء نفسي، ولكن بمشيئة، هو من أرسلني)). وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول: ((ما جئت لأُخدم إنما جئت لأَخدم)) فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي منزلة الخدام، وقال:

((لست أدين العباد بأعمالهم، ولا أحاسبهم بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم)).

كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى... وفيه أن المسيح قال: ((يا رب قد علموا إنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك)) فأخبر أن الله ربه، وإنه عبده ورسوله.

وفيه: ((أن الله الواحد رب كل شيء. أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق)).

وفيه أنه قال: ((إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم)).

وفيه: ((ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئاً من قبل نفسي، ولكن أتكلم، وأجيب، بما علمني ربي)).

وقال: ((إن الله مسحني، وأرسلني، وأنا عبد الله، وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص))....

وقال: ((إن الله عز وجل ما أكل، ولا يأكل، وما شرب، ولا يشرب، ولم ينم، ولا ينام، ولا ولد له، ولا يلد، ولا يولد، ولا رآه أحد، ولا يراه أحد، إلا مات)).

وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) تذكيراً للنصارى بما قال لهم المسيح.

وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحي الميت: ((أنا أشكرك وأحمدك، لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت، وفي كل وقت، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي)).

وفي الإنجيل أن المسيح حين خرج من السامرية، ولحق بجلجال، قال: ((لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه)) فلم يزد على دعوى النبوة.

وفي إنجيل لوقا: ((لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه، فيكف تقتلونني)).

وفي إنجيل: ((مرقس أن رجلا أقبل إلى المسيح، وقال: أيها المعلم الصالح، أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة؟ فقال له المسيح: لم قلت صالحا؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفت الشروط، لا تسرق، ولا تزن، ولا تشهد بالزور، ولا تخن، وأكرم أباك وأمك)).

وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادوا قبضه رفع بصره إلى السماء وقال: ((قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك، واجعل لي سبيلا أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة، (ص 147) وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا، وبالمسيح الذي بعثت، وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت الذي أمرتني به فشرفني)) فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث.

وفي إنجيل متى: ((لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده، ولا تدعوا معلمين، فإنما معلمكم المسيح وحده)).

والأب في لغتهم: الرب المربي، أي لا تقولوا إلهكم، وربكم في الأرض، ولكنه في السماء.

ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه، وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض، وإلههم هو الذي في السماء.

وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا: ((إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته)).

وفي إنجيل يوحنا إن المسيح أعلن صوته في البيت، وقال لليهود: ((قد عرفتموني وموضعي، ولم آت من ذاتي، ولكن بعثني الحق، وأنتم تجهلونه، فإن قلت: إني أجهله، كنت كاذبا مثلكم، وأنا أعلم وأنتم تجهلونه، إني منه وهو بعثني)) فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء، فأمسكت المثلثة قوله: ((إني منه)) وقالوا: إله حق من إله حق.

وفي القرآن: (رسول من الله).

وقال هود: (ولكني رسول من رب العالمين)

وكذلك قال صالح! ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه، ويردون المحكم.

وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود. وقد قالوا له: (نحن أبناء الله) فقال لهم: ((لو كان الله أباكم لأطعتموني، لأني رسول منه، خرجت مقبلا، ولم أقبل من ذاتي، ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي، وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان، وتريدون إتمام شهواته)).

وفي الإنجيل: ((أن اليهود أحاطت به، وقالت له: إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فأعلمنا بذلك)) ولم تقل إن كنت الله، أو ابن الله، فإنه لم يدع ذلك و لا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه.

وفي الإنجيل أيضا: ((أن اليهود أرادوا القبض عليه، فبعثوا لذلك أعوان، وإن الأعوان رجعوا إلى قوادهم، فقالوا لهم: لِم لم تأخذوه؟ فقالوا: ما سمعنا آدميا أنصف منه، فقالت اليهود: وأنتم أيضا مخدوعون، أترون أنه آمن به أحد من القواد، أو من رؤساء أهل الكتب؟

فقال لهم بعض أكابرهم: أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه؟ فقالوا له:اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبي)).

فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه أنه نبي، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له، وأنكرته عليه، وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته؛ لأن كذبه كان يعلم بالحس، والعقل، والفطرة، واتفاق الأنبياء.

ولقد كان يجب لله سبحانه - لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه - أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول، والنجو، (ص 148) والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك، لا يخرج صبيا صغيرا، يرضع، ويبكي، وإذ قد فعل ذلك لا يأكل مع الناس، ويشرب معهم، وينام، وإذ قد فعل ذلك فلا يبول، ولا يتغوط، ويمتنع من الخرأة، إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذه الدار، لنقصه، وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سمواته، ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج امرأة.

تعالى الله رب العالمين... وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وينام.

ما يراد بلفظ ((الأب))و((الرب))و((الإله))و((السيد))في كتبهم التي اشتبهت عليهم

أسئلة على إلهية المسيح تنتظر الجواب من النصارى!

فيا معشر النصارى: أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض، حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدّت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوا من إلهها، وفاطرها، وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟ !!!

أم تقولون: استخلف على تدبيرها غيره، وهبط عن عرشه، لربط نفسه على خشبة الصليب، وليذوق حر المسامير، وليوجب اللعنة على نفسه، حيث قال في التوراة: ((ملعون من تعلق بالصليب)) أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟ !

أم تقولون - وهو حقيقة قولكم - لا ندري، ولكن هذا في الكتب، وقد قاله الآباء، وهم القدوة.

والجواب عليهم: فنقول لكم، وللآباء معاشر النصارى: ما الذي دلّكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه، وسوقه إلى خشبة الصليب، وعلى رأسه تاج من الشوك، وهم يبصقون في وجهه، ويصفعونه.

ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال، وضربوا فيها المسامير، وهو يستغيث، وتعلق.

ثم فاضت نفسه، وأودع ضريحه؛ فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام!!

وإن قلتم: إنما استدللنا على كونه إلها، بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا، فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه، لأنه لا أم له، ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا، لأنها لا أم لها، وهي أعجب من خلق المسيح؟ !!

والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبينه، إظهارا لقدرته، وإنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر، ولا من أنثى، وخلق زوجه حوى من ذكر، لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى.

وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها، بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله.

فاجعلوا موسى إلها (ص 149) آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء، لم يأت المسيح بنظيره، ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا.

فإن قلتم: هذا غير إحياء الموتى.

فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى، وهم يقرون بذلك.

وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله.

وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه.

وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين، فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟ !!

وإن قلتم: جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها، فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق، وما في قارورتها من الدهن سبع سنين!!

وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس، فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى!!

وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا، حتى شبعوا، وملؤا أوعيتهم، وسقاهم كلهم من ماء يسير، لا يملأ اليد حتى ملؤا كل سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر؟ !!

وإن قلتم: جعلناه إلها، لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق اثني عشر طريقا، وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة!!

وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص، فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك!!

وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك، فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار، وأنه مربوب، مصنوع، مخلوق، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن، ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى:

(ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم) وكل من ادعى الإلهية من دون الله، فهو من أعظم أعداء الله كفرعون، ونمرود، وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله، ونبوته، ورسالته، وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال!!

ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم، فيقتله، ويطهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا، ولو كان إلها لم يقتل، فضلا عن أن يصلب، ويسمر، ويبصق في وجهه!!

وإن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد، ونبي، ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها، ودل عليه العقل، والفطرة، وشهدتم أنتم له بالإلهية - وهذا هو الواقع - فلِم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته، وأنه مربوب، (ص 150) مخلوق، وأنه ابن البشر، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله، وصدقتم من كذب على الله وعليه!!

وإن قلتم: إنما جعلناه إلها، لا لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور، فكذلك عامة الأنبياء، وكثير من الناس يخبر عن حوادث في المستقبل جزئية، ويكون ذلك كما أخبر به، ويقع من ذلك كثير للكهان والمنجمين والسحرة!!

وإن قلتم: إنما جعلناه إلها، لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل كقوله:

((إني ذاهب إلى أبي)) ((وإني سائل أبي)) ونحو ذلك، وابن الإله إله، قيل: فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة، في غير موضع إنه سماه ((أباه، وأباهم)).

كقوله: ((اذهب إلى أبي وأبيكم)).

وفيه: ((ولا تسبوا أباكم على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده)) وهذا كثير في الإنجيل، وهو يدل على أن الأب عندهم الرب!!

وإن جعلتموه إلها، لأن تلاميذه ادعوا ذلك له، وهم أعلم الناس به، كذبتم أناجيلكم التي بأيديكم، فكلها صريحة أظهر صراحة، بأنهم ما ادعوا له إلا ما ادعاه لنفسه من أنه عبد.

فهذا متى يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجا بنبوة شعيا في المسيح عن الله عز وجل: ((هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له)).

وفي الفصل الثامن من إنجيله: ((إني أشكرك يا رب)) ((ويا رب السموات والأرض)).

وهذا لوقا يقول في آخر إنجيله: ((أن المسيح عرض له، ولآخر من تلاميذه في الطريق ملك، وهما محزونان فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك غريب في بيت المقدس، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر الناصري، فإنه كان رجلا نبيا، قويا، تقيا، في قوله، وفعله عند الله، وعند الأمة، أخذوه، واقتلوه)).

وهذا كثير جدا في الإنجيل!!

وإن قلتم: إنما جعلناه إلها لأنه صعد إلى السماء، فهذا أخنوخ، وإلياس قد صعدا إلى السماء، وهما حيان مكرمان، لم تشكهما شوكة، ولا طمع فيهما طامع، والمسلمون مجمعون على أن محمد صلى الله عليه وسلم صعد إلى السماء، وهو عبد محض، وهذه الملائكة تصعد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان، ولا تخرج بذلك عن العبودية، وهل كان الصعود إلى السماء مخرج عن العبودية بوجه من الوجوه؟ !!

وإن جعلتموه إلها لأن الأنبياء سمته إلها، وربا، وسيدا، ونحو ذلك، فلم يزل كثير من أسماء إله عز وجل تقع على غيره عند جميع الأمم، وفي سائر الكتب، وما زالت الروم، والفرس، والهند، والسريانيون، والعبرانيون، والقبط، وغيرهم، يسمون ملوكهم آلهة وأربابا.

وفي السفر الأول من التوراة: ((أن نبي الله دخلوا على بنات إلياس، ورأوهن بارعات الجمال، فتزوجوا منهن)).

وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر: ((إني جعلتك إلها لفرعون)).(ص 151)

وفي المزمور الثاني والثمانين لداود ((قام الله لجميع الآلهة)) هكذا في العبرانية، وأما من نقله إلى السريانية فإنه حرفه، فقال:((قام الله في جماعة الملائكة)).

وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قوماً بالروح: ((لقد ظننت أنكم آلهة، وأنكم أبناء الله كلكم)).

وقد سمى الله سبحانه عبده بالملك، كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالرؤوف الرحيم، كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالعزيز، وسمى نفسه بذلك.

واسم الرب واقع على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد، كما يقال: هذا رب المنزل، ورب الإبل، ورب هذا المتاع.

وقد قال شعيا: ((عرف الثور من اقتناه، والحمار مربط ربه، ولم يعرف بنو إسرائيل)).

وإن جعلتموه إلهاً لأنه صنع من الطين صورة طائر، ثم نفخ فيها، فصارت لحماً، ودماً، وطائراً حقيقة، ولا يفعل هذا إلا الله، قيل: فاجعلوا موسى بن عمران إله الآلهة، فإنه ألقى عصا فصارت ثعباناً عظيماً، ثم أمسكها بيده، فصارت عصا كما كانت!!

وإن قلتم: جعلناه إلهاً لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك، قال عزرا حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين سنة:((يأتي المسيح ويخلّص الشعوب والأمم)).

وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح، ومن يطيق تخليص الأمم غير الإله التام، قيل لكم: فاجعلوا جميع الرسل إلهة، فإنهم خلّصوا الأمم من الكفر والشرك، وأخلصوهم من النار بإذن الله وحده، ولا شك أن المسيح خلّص من آمن به واتبعه من ذل الدنيا وعذاب الآخرة.

كما خلّص موسى بني إسرائيل من فرعون وقومه، وخلّصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر من عذاب الآخرة، وخلّص الله سبحانه بمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عبده، ورسوله من الأمم والشعوب ما لم يخلّصه نبي سواه، فإن وجبت بذلك الإلهية لعيسى، فموسى، ومحمد أحق بها منه.

وإن قلتم: أوجبنا له بذلك الإلهية، لقول أرمياء النبي عن ولادته: ((وفي ذلك الزمان يقوم لداود ابن، وهو ضوء النور، يملك الملك، ويقيم الحق، والعدل في الأرض، ويخلص من آمن به من اليهود، ومن بني إسرائيل، ومن غيرهم، ويبقى بيت المقدس من غير مقاتل، ويسمى الإله)).

فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها، قد أطلق على غيره، وهو بمنزلة الرب، والسيد، والأب، ولو كان عيسى هو الله، لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله، وكان يقول: وهو الله، فإن الله سبحانه لا يعرف بمثل هذا، وفي هذا الدليل الذي جعلتموه به إلهاً أعظم الأدلة على أنه عبد، وأنه ابن البشر، فإنه

قال: ((يقوم لداود ابن)) فهذا الذي قام لداود هو الذي سمى بالإله، فعلم أن هذا الاسم لمخلوق مصنوع، مولود، لا لرب العالمين، وخالق السموات والأرضين.

وإن قلتم: إنما جعلناه إلهاً من جهة، قول شعيا النبي: قل لصهيون يفرح ويتهلل فإن الله يأتي، ويخلّص الشعوب، ويخلّص من آمن به، ويخلّص مدينة بيت المقدس، ويظهر الله ذراعه (ص 152) الطاهر فيها لجميع الأمم المتبددين، ويجعلهم أمة واحدة، ويصرّ جميع أهل الأرض خلاص الله، لأنه يمشي معهم، وبين أيديهم، ويجمعهم إله إسرائيل)).

قيل لهم: هذا يحتاج:

(أولاً): إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة أشعيا بهذا اللفظ، بغير تحريف للفظه، ولا غلط في الترجمة، وهذا غير معلوم، وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إله تام، وأنه غير مصنوع، ولا مخلوق، فإنه نظير ما في التوراة: ((جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران)) وليس في هذا ما يدل على أن موسى ومحمداً إلهان، والمراد بهذا مجيء دينه، وكتابه، وشرعه، وهداه، ونوره.

وأما قوله: ((ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين)) ففي التوارة مثل هذا، وأبلغ منه في غير موضع، وأما قوله: ((ويصرّ جميع أهل الأرض خلاص الله، لأنه يمشي معهم، ومن بين أيديهم)).

فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل: ((لا تهابوهم، ولا تخافوهم، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم، وهو محارب عنكم)) وفي موضع آخر قال موسى: ((إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك، فقال: إن لم تمض أنت أمامنا، وإلا فلا تصعدنا من ههنا، فكيف أعلم أنا؟ وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا)).

وفي السفر الرابع:((إني أصعدت هؤلاء بقدرتك، فيقولان لأهل هذه الأرض: الذي سمعوا منك الله، فيما بين هؤلاء القوم يرونه عيناً بعين، وغمامك تغيم عليهم، ويعود عماماً يسير بين أيديهم نهاراً، ويعود ناراً ليلاً.

وفي التوراة أيضاً: ((يقول الله لموسى: إني آتٍ إليك في غلظ الغمام، لكي يسمع القوم مخاطبتي لك)). وفي الكتب الإلهية، وكلام الأنبياء من هذا كثير.

وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)).

وإن قلتم: جعلناه إلهاً، لقول زكريا في نبوته لصهيون: ((لأني آتيك وأحل فيك، واترائي، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعباً واحداً، ويحل هو فيهم، ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا، ويملك عليهم إلى الأبد))...

قيل لكم: إن أوجبتم له الإلهية بهذا، فلتجب لإبراهيم، وغيره من الأنبياء؛ فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم ((أن الله تجلى لإبراهيم، واستعلن له، وترائى له)).

وأما قوله: ((وأحل فيك)) لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته، التي لا تسعها السموات والأرض في بيت المقدس، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهوراً مغلوباً، مع شرار الخلق؟ !! كيف، وقد قال:((ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك)). (ص 153) افترى، عرفوا قوته بالقبض عليه، وشد يديه بالحبال، وربطه على خشبة الصليب، ودق المسامير في يديه ورجليه، ووضع تاج الشوك على رأسه، وهو يستغيث ولا يغاث، وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور، مستخف في غالب أحواله.

ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع، وصحت ترجمتها كما ذكروه، لكان معناها: أن معرفة الله، والإيمان به، وذكره، ودينه، وشرعه، حل في تلك البقعة، وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد دفعه، حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته، ما لم يكن قبل ذلك.

(وجماع الأمر): أن النبوات المتقدمة، والكتب الإلهية، لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلهاً تاماً: إله حق من إله حق، وأنه غير مصنوع، ولا مربوب، بل بِمَ يخصه إلا بما خص به أخوه، وأولى الناس به محمد بن عبد الله، في قوله: ((أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه)).

وكتب الأنبياء المتقدمة، وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك كله يصدّق بعضه بعضاً، وجميع ما تستدل به النصارى على إلهية المسيح من ألفاظ، وكلمات في الكتب، فإنها مشتركة بين المسيح وغيره، كتسميته أبا وكلمة، وروح حق، وإلهاً، وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه، وظهور الرب فيه، أو في مكانه.

وباء حلولهم أصاب بعض مبتدعه الصوفية، وعباد الجهمية

وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم، طوائف من المنتسبين إلى الإسلام، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به، ومعرفته، ونوره، وهداه، فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب.

وقد قال تعالى: (المثل الأعلى).

وقال:(وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)، وهو ما في قلوب ملائكته، وأنبيائه، وعباده المؤمنين من الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وإجلاله، وتعظيمه.

وهو نظير قوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، فقد اهتدوا).

وقوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون).

وقوله:(وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم). فأولياء الله يعرفونه، ويحبونه، ويجلّونه.

ويقال: هو في قلوبهم، والمراد: محبته، ومعرفته، والمثل الأعلى في قلوبهم، لا نفس ذاته، وهذا أمر يعتاده الناس في مخاطباتهم، ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، ولا زلت في عيني، كما قال القائل:

ومن عجب أني أحن إليهم * وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها * ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

وقال آخر:

خيالك في عيني وذكرك في فمي * ومثواك في قلبي فأين تغيب (ص 154)

وقال آخر:

ساكن في القلب يعمره * لست أنساه فأذكره

وقال آخر:

إن قلت غبت فقلبي لا يصدقني * إذ أنت فيه لم تغب

أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب * فقد تحيرت بين الصدق والكذب

وقال الآخر:

أحن إليه وهو في القلب ساكن * فيا عجبا لمن يحن لقلبه

ومن غلظ طبعه، وكشف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب، أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية، وتتحد بها، وتمتزج بها (تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً).

وإن قلتم أوجبنا له الإلهية من قول شعيا: ((من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر)).

قيل لكم: هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن شعيا، وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة، وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة، فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع، وأنه ابن البشر، مولود منه؛ لا من الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؟ !

وإن قلتم: جعلناه إلهاً، من قول متى في إنجيله: ((أن ابن الإنسان يرسل ملائكته، ويجمعون كل الملوك، فيلقونهم في أتون النار))...

قيل: هذا كالذي قبله سواء، ولم يرد أن المسيح هو رب الأرباب، ولا أنه خالق الملائكة، وحاش لله أن يطلق عليه أنه رب الملائكة، بل هذا من أقبح الكذب والافتراء؛ بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح، وتأييده، ونصره، بشهادة لوقا النبي القائل عندهم: ((أن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك)).

ثم بشهادة لوقا: ((أن الله أرسل له ملكاً من السماء ليقويه)) هذا الذي نطقت به الكتب، فحرف الكذّابون على الله، وعلى مسيحه ذلك، ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا: هو رب الملائكة.

وإذا شهد الإنجيل، واتفاق الأنبياء والرسل، أن الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه، علم أن الملائكة، والمسيح عبيد الله، منفذون لأمره ليسوا أرباباً، ولا آلهة، وقال المسيح لتلامذته: ((من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني)).

وقال المسيح لتلامذته أيضاً: ((من أنكرني قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله)).

وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة: ((أغمد سيفك، ولا تظن أني أستطيع أن أدعو الله الأب فيقيم لي أكثر من اثني عشر من الملائكة)) فهل يقول هذا من هو رب الملائكة، وإلههم، وخالقهم؟ !

و إن أوجبتم له الإلهية، بما نقلتموه عن شعيا: ((تخرج عصا من بيت نبي، وينبت (ص 155) منها نور، ويحلّ فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله، وبه يؤمنون، وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين))...

قيل لكم: هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن شعيا، وصحة الترجمة له باللسان العربي، وأنه لم يحرفه المترجم، هو حجة على لا لهم؛ فإنه لا يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض؛ بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن، وأن المسيح أيد بروح القدس؛ فإنه قال:

((ويحل فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله)) ولم يقل تحل فيه حياة الله، فضلاً عن أن يحلّ الله فيه، ويتحد به، ويتخذ حجاباً من ناسوته، وهذه روح تكون مع الأنبياء والصديقين.

وعندهم في التوراة:((أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان، حلّت فيهم روح الحكمة)) وروح الفهم والعلم هي ما يحصل به الهدى، والنصر، والتأييد، وقوله: ((هي روح الله)) لا تدل على أنها صفة فضلاً عن أن يكون هو الله!! وجبريل يسمى روح الله، والمسيح اسمه روح الله.

(والمضاف) إذا كان ذاتاً قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله؛ ليس المراد به: بيت يسكنه، ولا ناقة يركبها، ولا روح قائمة به، وقد قال تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه).

وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) فهذه الروح أيّد بها عباده المؤمنين.

أما قوله: ((وبه يؤمنون وعليه يتوكلون)) فهو عائد إلى الله لا إلى العصا التي تبت من بيت النبوة، وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في قوله:(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) وقال موسى لقومه:(يا قوم إن كنتم آمنتم بالله، فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين).

وهو كثير في القرآن، وقد أخبر أنه أيده بروح العلم، وخوف الله، فجمع بين العلم والخشية، وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما، في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية)) وهذا شأن العبد المحض.

وأما الإله الحق، ورب العالمين، فلا يلحقه خوف، ولا خشية، ولا يعبد غيره، والمسيح كان قائما بأوراد العبادات لله أتم القيام!!......

وإن أوجبتم له الإلهية بقول شعيا: ((أن غلاماً ولد لنا، وإننا أعطيناه كذا وكذا، ورياسته على عاتقيه، وبين منكبيه، ويدعي اسمه ملكاً عظيماً عجيباً إلهاً قوياً مسلّطاً رئيساً، قوي السلامة، في كل الدهور وسلطانه، كامل ليس له فناء))...

قيل لكم: ليس في هذه البشارة ما يدل على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه، ولو كان المراد بها(ص 156) المسيح، لم يدل على مطلوبهم...

أما ((المقام الأول)): فدلالتها على محمد بن عبد الله، ظهر من دلالتها على المسيح، فإنه هو الذي رياسته على عاتقيه، وبين منكبيه، من جهتين:

من جهة أن خاتم النبوة علا نغض كتفيه، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء، وعلامة ختم ديوانهم، ولذلك كان في ظهوره.

ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه، ويرفعه إذا ضرب به على عاتقه، ويدل عليه قوله: ((رئيس مسلط، قوي السلامة))، وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم، المؤيد المنصور، رئيس السلامة، فإن دينه الإسلام، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا، ومن عذاب الآخرة، ومن استيلاء عدوه عليه، والمسيح لم يسلط على أعدائه كما سلط محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل كان أعداؤه مسلطين عليه، قاهرين له، حتى عملوا به ما عملوا عند النصارى، فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه؟ ! وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من كل وجه، وهو الذي سلطانه كامل ليس له فناء إلى آخر الدهور.

فإن قيل: إنكم لا تدعون محمد إلها، بل هو عندكم عبد محض؟ قيل: نعم، والله إنه لكذلك عبد محض لله، والعبودية أجَلُّ مراتبه، واسم ((الإله)) من جهة التراجم جاء، والمراد به السيد المطاع، لا الإله المعبود، الخالق الرازق...

وإن أوجبتم له الإلهية من قول شعيا فيما زعمتم: ((ها هي العذراء، تحبل وتلد ابنا يدعى اسمه: عمانويل)) وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية: (إلهنا معنا)، فقد شهد له النبي أنه إله... قيل لكم: بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره، لا يدل على أن العذراء ولدت رب العالمين، وخالق السموات والأرضين؛ فإنه قال: تلد ابنا، وهذا دليل على أنه ابن من جملة البنين، ليس هو رب العالمين.

وقوله: ((ويدعى اسمه عمانويل)) فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الاسم، كما يسمي الناس أبناءهم بأنواع من الصفات، والأسماء، والأفعال، والجمل المركبة من اسمين، أو اسم وفعل.

وكثير من أهل الكتاب يسمون أولادهم عمانويل، ومن علمائكم من يقول: المراد بالعذراء ههنا، غير مريم، ويذكر في ذلك قصة، ويدل على هذا أن المسيح لا يعرف اسمه ((عمانويل)) وإن كان ذلك اسمه فكونه يسمى إلهنا معنا، أو بالله حسبي، أو الله وحده، ونحو ذلك.

وقد حرّف بعض النصارى هذه الكلمة وقال: معناها: ((الله معنا))، وردّ عليهم بعض من أنصف من علمائهم، وحكم رشده على هواه، وهداه الله للحق، وبصره من عماه، وقال: أهذا هو القائل ((أنا الرب، ولا إله غيري، وأنا أحيي وأميت، وأخلق، وأرزق،؟ !))

أم هو القائل لله: ((إنك أنت الإله الحق وحدك، الذي أرسلت اليسوع المسيح؟ !)) قال:

(والأول): باطل قطعا.

(والثاني): هو الذي شهد به الإنجيل.

ويجب (ص 157) تصديق الإنجيل، وتكذيب من زعم أن المسيح إله معبود.

قال: وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم، فإن ((عمانويل)) اسم تسمي به النصارى، واليهود أولادهما، قال: وهذا موجود في عصرنا هذا، ومعنى هذه التسمية بينهم: شريف القدر.

قال: وكذلك السريان يسمون أولادهم ((عمانويل)) والمسلمون، وغيرهم، يقولون للرجل: الله معك فإذا سمي الرجل بقوله: الله معك، كان هذا تبركا، بمعنى هذا الاسم!!

وإن أوجبتم له الإلهية بقول حنقوق فيما حكيتموه عن: ((أن الله في الأرض يترائى، ويختلط مع الناس، ويمشي معهم)).

ويقول أرميا أيضا: ((بعد هذا، الله يظهر في الأرض، وينقلب مع البشر))... قيل لكم: هذا بعد احتياجه إلى ثبوت نبوة هذين الشخصين أولا، وإلى ثبوت هذا النقل عنهما، وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف - وهذه ((ثلاث مقامات)) يعز عليكم إثباتها - لا يدل على أن المسيح هو خالق السموات والأرض، وأنه إله حق ليس بمخلوق، ولا مصنوع، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وأبلغ، ولم يدل ذلك على أن موسى إله، ولا أنه خارج عن جملة العبيد!!

وقوله: ((يترائى)) مثل: تجلّى، وظهر، واستعلن، ونحو ذلك من ألفاظ التوراة، وغيرها من الكتب الإلهية.

وقد ذكر في التوراة: ((أن الله تجلّى، وترائى لإبراهيم وغيره من الأنبياء)) ولم يدل ذلك على الإلهية لأحد منه، ولم يزل في عرف الناس، ومخاطبتهم أن يقولوا: فلان معنا، وهو بين أظهرنا، ولم يمت إذا كان عمله، وسنته، وسيرته بينهم، ووصاياه يعمل بها بينهم.

وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلف مثلك، وأنا والدك، وإذا رأوا تلميذا لعالم تعلم علمه، قالوا: هذا فلان باسم أستاذه. كما كان يقال عن عكرمة: هذا ابن عباس، وعن أبي حامد: هذا الشافعي.

وإذا بعث الملك نائبا يقوم مقامه في بلد، يقول الناس: جاء الملك، وحكم الملك، ورسم الملك.

وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله عز وجل يوم القيامة: ((عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ !

قال: أما إن عبدي فلانا مرض، فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده. عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين!!

قال: أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي استسقيتك فلم تسقني، فيقول: رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ !

فيقول: أما أن عبدي فلانا عطش فاستسقاك فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي)).

وأبلغ من هذا قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم).

ومن هذا قوله تعالى:(من يطع الرسول، فقد أطاع الله) فلو استحل المسلمون ما استحللتم، لكان استدلالهم بذلك على أن محمدا إله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما!!

(ص 158) وإن أوجبتم له الإلهية بقوله في السفر الثالث من أسفار الملوك: ((والآن يا رب إله إسرائيل، يتحقق كلامك لداود، لأنه حق، إن يكون أنه سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلكم، ولتنصت الأرض، وكل من فيها، فيكون الرب عليها شاهدا، ويخرج من موضعه، وينزل ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب)).

قيل لكم: هذا السفر يحتاج أولا إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي، وأن هذا لفظه، وأن الترجمة مطابقة له، وليس ذلك بمعلوم، وبعد ذلك فالقول في هذا الكلام كالقول في نظائره مما ذكرتموه، وما لم تذكروه، وليس في هذا الكلام ما يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض، وأنه إله حق غير مصنوع، ولا مخلوق، فإن قوله:

((إن الله سيسكن مع الناس في الأرض)) هو مثل كونه معهم، وإذا صار في الأرض نوره، وهداه، ودينه، ونبيه، كانت هذه سكناه، لا أنه بذاته المقدسة نزل عن عرشه، وسكن مع أهل الأرض، ولو قدر تقدير المحالات أن ذلك واقع، لم يلزم أن يكون هو المسيح، فقد سكن الرسل والأنبياء قبله وبعده، فما الموجب لأن يكون المسيح هو الإله دون إخوانه من المرسلين؟ !

أترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له، وهو في الأرض، وقد قلتم: أنه قبض عليه، وفعل به ما فعل، من غاية الإهانة، والإذلال، والقهر، فهذا ثمرة سكناه في الأرض مع خلقه.

فإن قلتم: سكناه، وفي الأرض هو ظهوره في ناسوت المسيح. قيل لكم: أما الظهور الممكن المعقول، وهو ظهور محبته، ومعرفته، ودينه، وكلامه، فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح وناسوت سائر الأنبياء والمرسلين، وليس في اللفظ على هذا التقدير ما يدل على اختصاصه بناسوت المسيح.

وأما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول، والفطر، والشرائع، وجميع النبوات، وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوق من مخلوقاته، واتحاده به، وامتزاجه، واختلاطه، فهذا محال عقلا وشرعا، فلا يمكن أن تنطق به نبوة أصلا؛ بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول.

المثلثة خالفت أصول الأنبياء في تقديس الله ووصفه بصفات الكمال

((أحدها)): أن الله سبحانه وتعالى قديم واحد، لا شريك له في ملكه، ولا ند، ولا ضد، ولا وزير، ولا مشير، ولا ظهير، ولا شافع، إلا من بعد إذنه.

((الثاني)): أنه لا والد له، ولا ولد، ولا كفؤ، ولا نسيب بوجه من الوجوه، ولا زوجة.

((الثالث)): أنه غني بذاته، فلا يأكل، ولا يشرب، ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.

((الرابع)): أنه لا يتغير، ولا تعرض له الآفات من الهرم، والمرض، والسنة، والنوم، والنسيان، والندم، والخوف، والهم، والحزن، ونحو ذلك.

((الخامس)): أنه لا يماثل شيئا من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

((السادس)): أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته، ولا يحل(ص 159) في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.

((السابع)): أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كل شيء، وليس فوقه شيء البتة.

((الثامن)): أنه قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعال لما يريد.

((التاسع)): أنه عالم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، (وما تسقط من ورقة إلا بعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض، ولارطب ولا يابس) ولا متحرك، إلا وهو يعلمه على حقيقته.

((العاشر)): أنه سميع، بصير، يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريات، وعمت رحمته جميع المخلوقات، ووسع كرسيه الأرض والسموات.

((الحادي عشر)): أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدا على تدبير ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده، أو يعاونه عليها أو يستعطفه عليهم، ويسترحمه لهم.

((الثاني عشر)): أنه الأبدي، الباقي، الذي لا يضمحل، ولا يتلاشى، ولا يعدم، ولا يموت.

((الثالث عشر)): أنه المتكلم، الآمر، الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل، ومرسل الرسل، ومنزل الكتب، والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

((الرابع عشر)): أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلا، وإلا أصدق منه حديثا، وهو لا يخلف الميعاد.

((الخامس عشر)): أنه تعالى صمد بجميع الصمدية، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته.

((السادس عشر)): أنه قدوس، سلام، فهو المبرأ من كل عيب، وآفة، ونقص.

((السابع عشر)): أنه الكامل، الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.

((الثامن عشر)): أنه العدل، الذي لا يجور، ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلما.

فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب، والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر نبي بخلافه أصلا، فترك النصارى هذه كله، وتمسكوا بالمتشابه من المعاني، والمجمل من الألفاظ، وأقوال من ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين، تخالف هذا كله أشد المخالفة، وتباينه أعظم المباينة.

الفصل الثاني عشر: لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت نبوة سائر الأنبياء، بنو إسرائيل قبل موسى وبعده

(فصل) لو لم يظهر محمد بن عبد الله لبطلت نبوة سائر الأنبياء

في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لبطلت بنوة سائر (ص 160) الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه، في قوله:(جاء بالحق وصدق المرسلين) فإن المرسلين بشروا به، وأخبروا بمجيئه؛ فمجيئه هو نفس صدق خبرهم.

فكأن مجيئه تصديقا لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا، وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم، وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله: ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله.

ومثل هذا قول المسيح:(ومصدقا لما بين يديه من التوارة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فإن التوراة لما بشرت به، وبنبوته، كان نفس ظهوره تصديقا لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له، كما كان ظهوره تصديقا للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق.

فلو لم يظهر محمد بن عبد الله، ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله، والله سبحانه لا يخلف وعده، ولا يكذب خبره، وقد كان بشر إبراهيم وهاجر بشارات بينات، ولم نرها تمت، ولا ظهرت، إلا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين، غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أن مريم بشرت به مرة واحدة، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبشر به إبراهيم مرارا، ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاتها، كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء، ففي التوراة:((أن الله تعالى قال لإبراهيم: قد أجبت دعائك في إسماعيل، وباركت عليه، وكبرته، وعظمته)) هكذا في ترجمة بعض المترجمين.

وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول:((وسيلد اثني عشر أمة من الأمم)).

وفيها:((لما هربت هاجر من سارة ترائى لها ملك الله، وقال: يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت وإلى أين تذهبين؟ ! قالت: هربت من سيدتي، فقال لها الملك: ارجعي إلى سيدتك، واخضعي لها، فإني سأكثر ذريتك، وزرعك، حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين، وتلدين ابنا تسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس، ويكون يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته)).

وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران.

وفيها:((فقال لها الملك: يا هاجر ليفرح روعك، فقد سمع الله تعالى صوت الصبي، قومي فاحمليه، وتمسكي به، فإن الله جاعله لأمة عظيمة، وإن الله فتح عليها، فإذا ببئر ماء، فذهبت وملأت المزادة منه، وسقت الصبي منه(ص 161)، وكان الله معها، ومع الصبي حتى تربّى، وكان مسكنه في برية فاران)).

فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل: نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر.

وفي التوراة أيضا بشارات أخرى بإسماعيل وولده، وأنهم أمة عظيمة جدا، وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.

فإن ((بني إسحاق)) كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين، خولا للفراعنة والقبط، حتى أنقذهم الله بنبيه، وكليمه موسى بن عمران، وأورثهم أرض الشام، فكانت كرسي مملكتهم ثم سلبهم ذلك، وقطعهم في الأرض أمما، مسلوبا عزهم وملكهم: قد أخذتهم سيوف السودان، وعلتهم إعلاج الحمران.

حتى إذا ظهر النبي صلى الله عليه وسلم تمت تلك النبوات، وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم، فهشموهم هشما، وطحنوهم طحنا، وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع، وعلوهم علو الثريا، فيما بين الهند، والحبشة، والسوس الأقصى، وبلاد الترك، والصقالبة، والخزر.

وملكوا ما بين الخافقين، وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم، فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ولا امرأة، ولا حر، ولا عبد، ولا ذكر، ولا أنثى، إلا وهو يعرف إبراهيم، وآل ابراهيم.

وأما ((النصرانية)) وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة، فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر، ولا عز قاهر البتة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع، ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع.

وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القطعي، بأن المراد بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأمته، فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه وسلم لبطلت تلك النبوات؛ ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين، إلا بالإيمان بالنبي الذي بشروا به، قالوا:

نحن في انتظاره، ولم يجئ بعد.

ولما علم بعض الغلاة في كفره، وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل، أنكروا أن يكون لإبراهيم ولد اسمه إسماعيل، وأن هذا لم يخلقه الله.

ولا يكثر على اليهود مثل ذلك، كما لم يكثر على النصارى الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا، وينتقصوا نبينا صلى الله عليه وسلم.

ونحن نبين أنهم لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة، ولا نبوة، ولا آية، ولا معجزة، إلا بإقرارهم أن محمدا رسول الله؛ وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيء من ذلك البتة.... (ص 162)

لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة إذا كفروا بمحمد، اليهود أساتذة النصارى في قصة الصلب وأخبار المسيح

فنقول: إذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة، أو معجزة، ومن نقل إليكم عنه آية، أو معجزة؟ !

فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين، أخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه، وكان الأولى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم لأنه لا يقبل قول اليهود فيه، ولا سيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم.

فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف، وأنتم مختلفون معهم في أمره، فاليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يوما، و قالوا ما كان لك أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه، إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم، لأنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم.

وفي الأناجيل التي بأيديكم ((أنه أخذ صبح يوم الجمعة، وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه)) فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره، واليهود مجمعون أنه لم يظهر له معجزة، ولا بدت منه لهم آية، غير أنه طار يوما، وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم، فعلاه في طيرانه، فسقط إلى الأرض بزعمهم.

وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له، ولا آية!!

فمن ذلك أن فيه منصوصا ((أن اليهود قالوا له يوما: ماذا تفعل حتى تنتهي به إلى أمر الله تعالى؟ فقال: أمر الله إن تؤمنوا بمن بعثه، فقالوا له: وما آيتك التي ترينا، ونؤمن بك، وأنت تعلم أن آبائنا قد أكلوا المن والسلوى بالمفاوز؟ قال: إن كان أطعمكم موسى خبزا، فأنا أطعمكم خبزا سماويا)) يريد نعيم الآخرة، فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك...

وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: ((ما آيتك التي نصدقك بها؟)) قال: ((اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام)). فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا، ولو كان قد أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ...

وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضا ((أنهم جاؤا يسألونه آية فقذفهم، وقال: إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية، فلا تعطى ذلك))...

وفيه أيضا ((أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم إن كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك، يطلبون بذلك آية، فلم يفعل)).

فإذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن، لم يتحقق لعيسى بن مريم (ص 163) آية، ولا فضيلة؛ فإن أخباركم عنه، وأخبار اليهود، لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف، وعدم تيقنكم لجميع أمره.

وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئا من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدعي، فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو أن أحبارهم، وعلماءهم، لما مضى وبقي ذكره، خافوا أن تصير عامتهم إليه، إذ كان على سنن تقبله قلوب الذي لا غرض لهم، فشنعوا عليه أمورا كثيرة، ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيدا للناس في أمره.

أخبار اليهود والنصارى عن عيسى ونسبه لا يوثق بها...

ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره: فمنهم من يقول: أنه كان رجلا منهم، ويعرفون أباه وأمه، وينسبونه لزانية، وحاشاه، وحاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول، التي لم يقرعها فحل قط، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويسمون أباه الزاني البنديرا الرومي، وأمه مريم الماشطة.

ويزعمون أن زوجها يوسف بن يهودا، وجد البنديرا عند على فراشها، وشعر بذلك فهجرها، وأنكر ابنها، ومن اليهود من رغب عن هذا القول، وقال: إنما أبوه يوسف بن يهودا، الذي كان زوجا لمريم.

ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه أنه: بينا هو يوما مع معلمه بهشوع بن برخيا، وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا فجاءت امرأة من أهله، وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال بهشوع: ما أحسن هذه المرأة؟ ! يريد أفعالها، فقال عيسى بزعمهم: لولا عور في عينها، فصاح بهشوع وقال له: يا ممزار - ترجمته: يا زنيم - أتزني بالنظر، وغضب غضبا شديدا، وعاد إلى بيت المقدس، وحرم اسمه، ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم، وداخله بصناعة الطب، فقوي بذلك على اليهود، وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش، وجعل يخالف حكم التوراة، ويستدرك عليها، ويعرض عن بعضها، إلى أن كان من أمره ما كان.

وطوائف من اليهود يقولون غير هذا: أنه كان يلاعب الصبيان بالكرة، فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود، فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ، فقوي عيسى، وتخطى رقابهم، وأخذها، فقالوا له: ما نظنك إلا زنيما.

ومن اختلاف اليهود في أمره أنهم يسمون أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار.

وبعضهم يقول: إنما هو يوسف الحداد.

والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل، وإن زوجها يوسف بن يعقوب.

وبعضهم يقول: يوسف بن آل.

وهم (ص 164) يختلفون أيضا في آبائه، وعددهم إلى إبراهيم، فمن مقل، ومن مكثر.

فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصلب، وأمره، وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى، وإنما حضره اليهود، وقالوا:

قتلناه وصلبناه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإن صدقتموهم في الصلب، فصدقوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذبتم فيما نقلوه عنه، فما الموجب لتصديقهم في الصلب، وتكذيبهم أصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه، أنهم ما قتلوه وما صلبوه؛ بل صانه الله، وحماه، وحفظه، وكان أكرم على الله، وأوجه عنده، من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود.

النصارى أشد الأمم افتراقا في دينهم، ما اتفقت عليه فرقهم المشهورة

وأما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافا في معبودها، ونبيها، ودينها منكم، فلو سألت الرجل، وامرأته، وابنته، وأمه، وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر.

ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب، وأن المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح، ولا نبي، ولا رسول، وأنه إله في الحقيقة، وأنه هو خالق السموات، والأرض، والملائكة، والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل، وأظهر على أيديهم المعجزات، والآيات.

وأن للعالم إلها هو أب والد لم يزل، وأن ابنه نزل من السماء، وتجسم من روح القدس، ومن مريم، وصار هو وابنها الناسوتي إلها واحدا، ومسيحا واحدا، وخالقا واحدا، ورازقا واحدا، وحبلت به مريم وولدته، وأخذ وصلب، وألم ومات، ودفن، وقام بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه،

قالوا: والذي ولدته مريم، وعاينه الناس، وكان بينهم، هو الله، وهو ابن الله، وهو كلمة الله، فالقديم الأزلي، خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم، وأقام هناك تسعة أشهر، وهو الذي ولد، ورضع، وفطم، وأكل، وشرب، وتغوط، وأخذ، وصلب، وشد بالحبال، وسمّرت يداه.

اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح

ثم اختلفوا:

فقالت ((اليعقوبية)) - أتباع يعقوب البرادعي ولقب بذلك لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب، يرقع بعضها ببعض، ويلبسها - إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين:

((أحداهما)): طبيعة الناسوت.

((والأخرى)): طبيعة (ص 165) اللاهوت.

وإن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانا واحدا، وجوهر واحدا، وشخصا واحدا، فهذه الطبيعة الواحدة، والشخص الواحد: هو المسيح، وهو إله كله، وإنسان كله، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين.

وقالوا: إن مريم ولدت الله، وإن الله سبحانه قبض عليه، وصلب، وسمر، ومات، ودفن، ثم عاش بعد ذلك.

وقالت ((الملكية)) - وهم الروم نسبة إلى دين الملك، لا إلى رجل يدعى ملكانيا، هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك - إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة، تجسدت من مريم تجسدا كاملا، كسائر أجساد الناس، وركبت في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل، والمعرفة، والعلم، كسائر أنفس الناس.

وأنه صار إنسانا بالجسد، والنفس الذين هما من جوهر الناس إلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل: إبراهيم، وموسى، وداود، وهو شخص واحد، لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت، كما لم يزل، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم، وداود.

وقالوا: إن مريم ولدت ((المسيح)) وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، وقالوا: إن الذي مات، هو الذي ولدته مريم، وهو الذي وقع عليه الصلب، والتسمير، والصفع، والربط بالحبال، واللاهوت لم يمت، ولم يألم، ولم يدفن.

قالوا: وهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله المشيئتان:

مشيئة اللاهوت.

ومشيئة الناسوت.

فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله، إلا أنهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت.

وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية، مع تنازعهم، وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظا ومعنى...

وأما ((النسطورية)) فذهبوا إلى القول بأن المسيح شخصان، وطبيعتان، لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت، لما وجدت بالناسوت، صار لهما إرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة، ولا نقصان، ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بذلك إلها وإنسانا، فهو الإله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان.

وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط.

وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبد الله، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبودية الله، وهو لم يرغب عنها؛ بل (ص 166)

أعلى منازل العبودية، عبودية الله، ومحمد وإبراهيم خير منه، وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية، فالله رضيه أن يكون له عبدا، فلم ترض المثلثة بذلك.

وقالت ((الأريوسية)) منهم وهم أتباع أريوس: أن المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مربوب، مخلوق، مصنوع)) وكان النجاشي على هذا المذهب.

وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة، وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح، وشتمه أعظم سب.

والكل من تلك الفرق الثلاث، عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها؛ بل يقولون: إن الله تخطى مريم، كما يتخطى الرجل المرأة، وأحبلها، فولدت له ابنا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم.

فهم يقولون الذي تدندنون حوله، نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يصرحون بأن مريم والدة الإله، والله أبوه، وهو الابن.

فهذا الزوج، والزوجة، والولد (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، إن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيمة فردا).

محمد برأ المسيح وأمه من افتراء أعدائهما وأنزله المنزلة العالية

ونزه الله عن افتراء المثلثة عليه

فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود، والغالين فيه من النصارى، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وبما أزال الشبهة في أمره، وكشف الغمة، وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم، وكذبهم عليهما، ونزه رب العالمين، وخالق المسيح وأمه، مما افتراه عليه النصارى الذين سبوه أعظم السب.

فأنزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي أشرف منازله، فآمن به، وصدقه، وشهد له بأنه عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، العذراء، البتول، الطاهرة، الصديقة، سيدة نساء العالمين، في زمانها، وقرر معجزات المسيح، وآياته، وأخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار، وأن ربه تعالى أكرم عبده ورسوله، ونزهه وصانه أن ينال النصارى منه ما زعمته النصارى، أنهم نالوه منه.

بل رفعه إليه مؤيدا منصورا، لم يشكه أعداؤه بشوكة، ولا نالته أيديهم بأذى، فرفعه إليه، وأسكنه سماءه، وسيعيده إلى الأرض، ينتقم به من مسيح الضلال، وأتباعه، ثم يكسر به الصليب، ويقتل به الخنزير، ويعلي به الإسلام، وينصر به ملة أخيه، وأولى الناس به محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام.

فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة، وقول النصارى (ص 167)، تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل، ما بينهما من التفاوت، وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه، وبين قول اليهود فيه، وبالله التوفيق...

فلولا محمد صلى الله عليه وسلم، لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله، وعبده، وكلمته، وروحه موجود أصلا؛ فإنّ هذا المسيح الذي أثبته اليهود، من شرار خلق الله، ليس بمسيح الهدى، والمسيح الذي أثبته النصارى، من أبطل الباطل، لا يمكن وجوده في عقل، ولا فطرة، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة.

ولو صح وجوده، لبطلت أدلة العقول، ولم يبق لأحد ثقة، بمعقول أصلا؛ فإن استحالة وجوده، فوق استحالة جميع المحالات، ولو صح ما يقول لبطل العالم، واضمحلت السموات والأرض، وعدمت الملائكة، والعرش، والكرسي، ولم يكن بعث ولا نشور، ولا جنة، ولا نار.

ولا يستعجب من إطباق أمة الضلال، الذين شهد الله أنهم أضل من الأنعام على ذلك، فكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فإنها مطبقة عليه، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة، التي لا يحصيها إلا الله، على الكفر والضلال، معاينة الآيات البينات، فللنصارى أسوة بإخوانهم من أهل الشرك، والضلال!

النصارى تلقوا أصول دينهم عن أصحاب المجامع.

(10) مجامع لعلماء النصارى يكفر فيها ببعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، قصة المسيح قبل بعثه وبعده إلى أن رفع وما لاقى أتباعه من اليهود والقياصرة

(فصل) استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع

في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب ((المجامع)) الذين كفر بعضهم بعضا، وتلقيهم أصول دينهم عنهم، ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ، وتوسط، وانتهى، حتى كأنك تراه عيانا.

كان الله سبحانه قد بشر بالمسيح على ألسنة أنبيائه من لدن موسى إلى زمن داود، ومن بعده من الأنبياء، وأكثر الأنبياء تبشيرا به داود، وكانت اليهود تنتظره، وتصدق به قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به بغيا، وحسدا، وشردوه في البلاد، وطردوه، وحبسوه، وهموا بقتله مرارا إلى أن أجمعوا على القبض عليه، وعلى قتله، فصانه الله، وأنقذه من أيديهم، ولم يهنه بأيديهم، وشبه لهم بأنهم صلبوه، ولم يصلبوه، كما قال تعالى:

(وبكفرهم، وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله، وما قتلوه، وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم، إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه (ص 168)، وكان الله عزيزا حكيما).

وقد اختلف في معنى قوله:(ولكن شبه لهم) فقيل: المعنى، ولكن شبه للذين صلبوه، بأن ألقى شبهه على غيره، فصلبوا الشبه، وقيل: المعنى: ولكن شبه النصارى، أي حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم، بأنه ما قتل، وما صلب.

ولكن لما قال أعداؤه: أنهم قتلوه، وصلبوه، واتفق رفعه من الأرض، وقعت الشبهة في أمره، وصدقهم النصارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم، وكيف ما كان فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه، لم يقتل، ولم يصلب يقينا لا شك فيه.

ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه، ومنهاجه يدعون الأمم إلى توحيد الله، ودينه، والإيمان بعبده ورسوله، ومسيحه، فدخل كثير من الناس في دينه، ما بين ظاهر مشهور، ومختف مستور، وأعداء الله اليهود في غاية الشدة والأذى لأصحابه وأتباعه، ولقي تلاميذ المسيح، وأتباعه من اليهود، ومن الروم شدة شديدة من قتل، وعذاب، وتشريد، وحبس، وغير ذلك.

وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم، وكانوا ملوكا عليهم، وكتب نائب الملك ببيت المقدس إلى الملك يعلمه بأمر المسيح، وتلاميذه، وما يفعل من العجائب الكثيرة، من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الموتى، فهمّ إن يؤمن به، ويتبع دينه، فلم يتابعه أصحابه، ثم هلك وولى بعده ملك آخر، فكان شديدا على تلامذة المسيح.

ثم مات وولي بعده آخر، وفي زمنه كتب ((مرقس)) إنجيله بالعبرانية، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية، فدعا إلى الإيمان بالمسيح، وهو أول شخص جعل بتركا على الإسكندرية، وصير معه اثني عشر قسيسا على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى، وأمرهم إذا مات البترك أن يختاروا من الاثني عشر واحدا يجعلونه مكانه، ويضع الاثني عشر أيديهم على رأسه، ويبركونه.

ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا يصيرونه تمام العدة، ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين.

ثم انقطع هذا الرسم، واصطلحوا على أن ينصبوا البترك من أي بلد كان من أولئك القسيسين، أو من غيرهم، ثم سموه ((بابا)) ومعناه: أبو الآباء، وخرج ((مرقس)) إلى برقة يدعو الناس إلى دين المسيح.

ثم ملك آخر، فأهاج على أتباع المسيح الشر والبلاء، وأخذهم بأنواع العذاب، وفي عصره كتب ((بطرس)) رئيس الحواريين إنجيل مرقس عنه بالرومية، ونسبه إلى ((مرقس)).

وفي عصره كتب ((لوقا)) إنجيله بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم، وكتب له الأبركسيس الذي فيه أخبار التلاميذ.

وفي زمنه صلب ((بطرس)) وزعموا أن (ص 169) بطرس قال له: إن أردت أن تصلبني، فاصلبني منكسا، لئلا أكون مثل سيدي المسيح، فإنه صلب قائما، وضرب عنق ((بولس)) بالسيف، وأقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة.

وأقام ((مرقس)) بالإسكندرية، وبرقة سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح.

ثم قتل بالإسكندرية، وأحرق جسده بالنار، ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن ملك مصر قيصر يسمى ((طيطس)) فخرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها، وأصاب أهلها جوع عظيم، وقتل من كان بها من ذكر وأنثى، حتى كانوا يشقون بطون الحبالى، ويضربون بأطفالهن الصخور، وخرب المدينة، وأضرم فيها النار، وأحصى القتلى على يده، فبلغوا ثلاثة آلاف ألف.

ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جدا، فبلغوه أن النصارى يقولون: أن المسيح ملكهم، وأن ملكه يدوم إلى آخر الدهر، فاشتد غضبه، وأمر بقتل النصارى، وأن لا يبقى في ملكه نصراني، وكان ((يوحنا)) صاحب الإنجيل هناك، فهرب، ثم أمر الملك بإكرامهم، وترك الاعتراض عليهم.

ثم ملك بعده آخر، فأثار على النصارى بلاء عظيما، وقتل بترك أنطاكية برومية، وقتل أسقف بيت المقدس، وصلبه، وله يومئذ مائة وعشرون سنة، وأمر باستعباد النصارى، فاشتد عليهم البلاء إلى أن رحمتهم الروم، وقال له وزراؤه:

أن لهم دينا وشريعة، وأنه لا يحل استعبادهم، فكف عنهم، وفي عصره كتب ((يوحنا)) إنجيله بالرومية، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس، فلما كثروا، وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكا، فبلغ الخبر قيصر، فوجه إليهم جيشا، فقتل منهم من لا يحصى.

ثم ملك بعده آخر، وأخذ الناس بعبادة الأصنام، وقتل من النصارى خلقا كثيرا، ثم ملك بعده ابنه، وفي زمانه قتل اليهود ببيت المقدس قتلا ذريعا، وخرب بيت المقدس، وهرب اليهود إلى مصر، وإلى الشام، والجبال، والأغوار، وتقطّعوا في الأرض.

وأمر الملك أن لا يسكن بالمدينة يهودي، وأن يقتل اليهود ويستأصلوا، وأن يكن المدينة اليونانيون، وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين، والنصارى ذمة تحت أيديهم، فرأوهم يأتون إلى مزبله هناك فيصلون فيها، فمنعوهم من ذلك، وبنوا على المزبلة هيكلا باسم ((الزهرة)) فلم يمكن النصارى بعد ذلك قربان ذلك الموضع.

ثم هلك هذا الملك، وقام بعده آخر، فنصب يهودا أسقفا على بيت المقدس، قال ابن البطريق: فمن يعقوب أسقف بيت المقدس الأول إلى يهودا أسقفه، هكذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين.

ثم ولي بعده آخر، وأثار على النصارى بلاء شديدا، وحربا طويلا، ووقع في أيامه قحط شديد، كاد الناس أن يهلكوا، فسألوا النصارى (ص 170) أن يبتهلوا إلى إلههم فدعوا، وابتهلوا إلى الله، فمطروا، وارتفع عنهم القحط، والوباء.

قال ابن البطريق: وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس، وبترك أنطاكية، وبترك رومية، في كتاب فصح النصارى وصومهم، وكيف يستخرج من فصح اليهود، فوضعوا فيها كتبا على ما هي اليوم، قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما، ويفطرون كما فعل المسيح، لأنه لما اعتمد بالأردن، خرج إلى البرية.

فأقام بها أربعين يوما، وكان النصارى إذا أفصح اليهود، عيدوا هم الفصح، فوضع هؤلاء البتاركة حسابا للفصح، ليكون فطرهم يوم الفصح، وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم، واستمر على ذلك أصحابه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم، فلم يصوموا عقيب الغطاس، بل نقلوا الصوم إلى وقت لا يكون عيدهم مع اليهود.

ثم مات ذلك الملك، وقام بعده آخر، وفي زمنه كان ((جالينوس)) وفي زمنه ظهرت الفرس، وغلبت على بابل، وآمد، وفارس.

وتملك أزدشير بن بابك في أصطخر، وهو أول ملك، ملك على فارس في المدة الثانية.

ثم مات قيصر، وقام بعده آخر ثم آخر، وكان شديدا على النصارى، عذّبهم عذابا عظيما، وقتل خلقا كثيرا منهم، وقتل كل عالم فيهم، ثم قتل من كان بمصر، والإسكندرية من النصارى، وهدم الكنائس، وبنى بالإسكندرية هيكلا، وسماه هيكل ((الآلهة)).

ثم قام بعده قيصر آخر، ثم آخر، وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة، وكانت أمة تحب النصارى.

ثم قام بعده آخر، فأثار على النصارى بلاء عظيما، وقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ الناس بعبادة الأصنام، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا، وقتل بترك أنطاكية، فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب، وترك الكرسي.

ثم هلك، وقام بعده آخر ثم آخر.

وفي أيام هذا ظهر ((ماني)) الكذاب، وزعم أنه نبي، وكان كثير الحيل والمخاريق، فأخذه بهرام ملك الفرس، فشقه نصفين، وأخذ من أتباعه مائتي رجل، فغرس رؤوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا.

ثم قام من بعده ((فيلبس)) فآمن بالمسيح، فوثب عليه بعض قواده، فقتله.

ثم قام بعده ((دانقيوس)) ويسمى: دقيانوس، فلقي النصارى منه بلاء عظيما، وقتل منهم ما لا يحصى، وقتل بترك رومية، وبنى هيكلا عظيما، وجعل فيه الأصنام، وأمر أن يسجد لها، ويذبح لها، ومن لم يفعل قتل، فقتل خلقا كثيرا من النصارى، وصلبوا على الهيكل، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان، فجعلهم خاصته، وقدّمهم على جميع من عنده، وكانوا لا يسجدون للأصنام، فأعلم الملك بخبرهم(ص 171)، فحبسهم.

ثم أطلقهم، وخرج إلى مخرج له، فأخذ الفتية كل مالهم، فتصدقوا به، ثم خرجوا إلى جبل فيه كهف كبير، فاختفوا فيه، وصب الله عليهم النعاس، فناموا كالأموات، وأمر الملك أن يبنى عليهم باب الكهف ليموتوا، فأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس، فكتب فيها أسماءهم، وقصتهم مع دقيانوس، وصيّرها في صندوف من نحاس، ودفنه داخل الكهف وسده. ثم مات الملك.

بولس أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح

ثم قام بعده قيصر آخر، وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركا مسمى ((بولس الشمشاطي)) وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت، وكانت النصارى قبله كلمتهم واحدة، أنه عبد، رسول، مخلوق، مصنوع، مربوب، لا يختلف فيه اثنان منهم، فقال بولس هذا - وهو أول من أفسد دين النصارى -:

أن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وأنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر، الإنسي صحبته النعمة الإلهية، فحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمى ابن الله، وقال: أن الله جوهر واحد، وأقنوم واحد.

المجمع الأول

قال سعيد بن البطريق: وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة أنطاكية، ونظروا في مقالة ((بولس)) فأوجبوا عليه اللعن، فلعنوه، ولعنوا من يقول بقوله، وانصرفوا.

ثم قام قيصر آخر، فكانت النصارى في زمنه يصلون في المطامير، والبيوت، فزعا من الروم، ولم يكن بترك الإسكندرية يظهر خوفا أن يقتل، فقام بارون بتركا، فلم يزل يداري الورم، حتى بنى بالإسكندرية كنيسة.

ثم قام قياصرة أخر، منهم اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة، فأثارا على النصارى بلاء عظيما، وعذابا أليما، وشدة تجل عن الوصف من القتل، والعذاب، واستباحة الحريم، والأموال، وقتل ألوف مؤلفة من النصارى، وعذبوا ((مارجرجس)) أصناف العذاب، ثم قتلوه، وفي زمنهما ضربت عنق ((بطرس)) بترك الإسكندرية، وكان له تلميذان.

وكان في زمنه ((أريوس)) يقول: إن الأب وحده، الله، الفرد، الصمد، والابن مخلوق، مصنوع، وقد كان الأب إذ لم يكن الابن)) فقال ((بطرس)) لتلميذيه: إن المسيح لعن ((أريوس)) فاحذرا أن تقبلا قوله؛ فإني رأيت المسيح في النوم، مشقوق الثوب، فقلت: يا سيدي!من شق ثوبك؟

فقال لي: ((أريوس)) فاحذروا أن تقبلوه، أو يدخل معكم الكنيسة، وبعد قتل ((بطرس)) بخمس سنين، صير أحد تلميذيه بتركا على الإسكندرية، فأقام ستة أشهر، ومات، ولما جرى على أريوس ما جرى أظهر أنه قد رجع عن مقالته، فقبله هذا البترك، وأدخله الكنيسة، وجعله(ص 172) قسيسا.

ثم قام قيصر آخر، فجعل يتطلب النصارى، ويقتلهم حتى صب الله عليه النقمة فهلك شر هلكة.

ثم قام بعده قيصران:

(أحدهما): ملك الشام، وأرض الروم، وبعض الشرق.

(والآخر): رومية، وما جاورها، وكانا كالسباع الضارية على النصارى، فعلا بهم من القتل، والسبي، والجلاء، ما لم يفعله بهم ملك قبله.

وملك معهما ((قسطنطين)) أبو قسطنطين، وكان دينا يبغض الأصنام، محبا للنصارى، فخرج إلى ناحية الجزيرة، والرها، فنزل في قرية من قرى الرها، فرأى امرأة جميلة، يقال لها: ((هيلانة)) وكانت قد تنصرت على يدي أسقف الرها، وتعلمت قراءة الكتب، فخطبها قسطنطين من أبيها، فزوجه إياها، فحبلت منه، وولدت قسطنطين، فتربى بالرها، وتعلم حكمة اليونان، وكان جميل الوجه، قليل الشر، محبا للحكمة.

وكان ((عليانوس)) ملك الروم حينئذ، رجلا فاجرا، شديد البأس، مبغضا للنصارى جدا، كثير القتل فيهم، محبا للنساء، لم يترك للنصارى بنتا جميلة، إلا أفسدها، وكذلك أصحابه.

وكان النصارى في جهد جهيد معه، فبلغه خبر قسطنطين، وأنه غلام هاد، قليل الشر، كثير العلم، وأخبره المنجمون، والكهنة، أنه سيملك ملكا عظيما، فهمّ بقتله، فهرب قسطنطين من الرها، ووصل إلى أبيه، فسلم إليه الملك.

ثم مات أبوه، وصب الله على ((عليانوس)) أنواعا من البلاء، حتى تعجب الناس مما ناله، ورحمه أعداؤه مما حلّ به، فرجع إلى نفسه، وقال: لعل هذا بسبب ظلم النصارى، فكتب إلى جميع عماله، أن يطلقوا النصارى من الحبوس، وأن يكرموهم، ويسألوهم أن يدعوا له في صلواتهم.

فوهب الله له العافية، ورجع إلى أفضل ما كان عليه من الصحة، والقوة، فلما صح وقوي، رجع إلى شر مما كان عليه، وكتب إلى عماله أن يقتلوا النصارى، ولا يدعوا في مملكته نصرانيا، ولا يسكنوا له مدينة، ولا قرية، فكان القتلى يحملون على العجل، ويرمى بهم في البحر، والصحارى.

وأما ((قيصر الأخر)) الذي كان معه، فكان شديدا على النصارى، واستعبد من كان برومية من النصارى، ونهب أموالهم، وقتل رجالهم، ونساءهم، وصبيانهم.

أول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين

فلما سمع أهل رومية بقسطنطين، وأنه مبغض للشر، محب للخير، وأن أهل مملكته معه في هدو، وسلامة، كتب رؤساءهم إليه يسئلونه أن يخلصهم من عبودية ملكهم، فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا، وبقي متحيرا لا يدري كيف يصنع.

قال سعيد بن البطريق: فظهر له على ما يزعم النصارى، نصف النهار في السماء ((صليب)) من كوكب مكتوبا (ص 173) حوله: ((بهذا تغلب)) فقال لأصحابه: رأيتم ما رأيت؟ قالوا: نعم، فآمن حينئذ بالنصرانية، فتجهز لمحاربة قيصر المذكور، وصنع صليبا كبيرا من ذهب، وصيّره على رأس البند، وخرج بأصحابه، فأعطي النصر على قيصر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.

وهرب الملك ومن بقي من أصحابه، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالأكليل الذهب، وبكل أنواع اللهو، واللعب، فتلقوه، وفرحوا به فرحا عظيما، فلما دخل المدينة أكرم النصارى، وردهم إلى بلادهم بعد النفي، والتشريد، وأقام أهل رومية سبعة أيام، يعيّدون للملك، وللصليب.

فلما سمع عليانوس جمع جموعه، وتجهز للقتال مع قسطنطين، فلما وقعت العين في العين، انهزموا، وأخذتهم السيوف، وأفلت عليانوس، فلم يزل من قرية إلى قرية، حتى وصل إلى بلده، فجمع السحرة، والكهنة، والعرافين الذين كان يحبهم، ويقبل منهم، فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين، وأمر ببناء الكنائس.

وأقام في كل بلد من بيت المال الخراج فيما تعمل به أبنية الكنائس، وقام بدين النصرانية، حتى ضرب بجرانه في زمانه، فلما تم له خمس عشر سنة من ملكه، حاج النصارى في أمر المسيح، واضطربوا.

فأمر بالمجمع في مدينة نيقية، وهي التي رتبت فيها ((الأمانة)) بعد هذا المجمع، كما سيأتي، فأراد أريوس أن يدخل معهم، فمنعه بترك الإسكندرية، وقال: على أن بطرسا، قال لهم: أن الله لعن أريوس فلا تقبلوه، ولا تدخلوه الكنيسة، وكان على مدينة أسيوط، من عمل مصر أسقف يقول: بقول أريوس، فلعنه أيضا، وكان بالإسكندرية هيكل عظيم، على اسم زحل، وكان فيه صنم من نحاس: يسمى ميكائيل.

وكان أهل مصر، والإسكندرية، في اثني عشر يوما من شهر هتور، وهو تشرين الثاني، يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما، ويذبحون له الذبائح الكثيرة، فلما ظهرت النصرانية بالإسكندرية، أراد بتركها أن يكسر الصنم، ويبطل الذبائح له، فامتنع عليه أهلها، فاحتال عليهم بحيلة وقال: لو جعلتم هذا العيد لميكائيل، ملك الله، لكان أولى، فإن هذا الصنم، لا ينفع، ولا يضر)) فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم، وجعل منه صليبا،

وسمى الهيكل: كنيسة ميكائيل، فلما منع بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة، ولعنه خرج أريوس مستعديا عليه، ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين، وقال أريوس: أنه تعدى علي، وأخرجني من الكنيسة ظلما، وسئل الملك أن يشخص بترك الإسكندرية، يناظره قدام الملك، فوجه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية، فأشخص البترك، وجمع بينه وبين أريوس ليناظره.

فقال قسطنطين لأريوس: اشرح ((مقالتك)) قال أريوس: أقول أن الأب كان إذا لم يكن الابن، ثم إنه أحدث الابن فكان كلمة له، إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة، فكان هو خالق السموات، (ص 174) والأرض، وما بينهما، كما قال في إنجيله أن يقول:

((وهب لي سلطانا على السماء، والأرض)) فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك، ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء، ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا، فالمسيح الآن معنيان: كلمة، وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.

فأجابه: عند ذلك بترك الإسكندرية، وقال: تخبرنا الآن، أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟ قال أريوس: بل عبادة من خلقنا، فقال له البترك: فإن كان خالقنا الابن كما وصفت، وكان الابن مخلوقا، فعادة الابن المخلوق، أوجب من عبادة الأب، الذي ليس بخالق بل تصير عبادة الأب، الذي خلق الابن كفرا، وعبادة الابن المخلوق إيمانا، وذلك من أقبح الأقاويل

فاستحسن الملك، وكل من حضر مقالة البترك، وشنع عندهم مقالة أريوس، ودارت بينهما أيضاً مسائل كثيرة، فأمر قسطنطين البترك أن يكفر أريوس، وكل من قال بمقالته، فقال له: بل يوجه الملك بشخص للبتاركة، والأساقفة، حتى يكون لنا مجمع، ونصنع فيه قضية، ويكفر أريوس ويشرح الدين، ويوضحه للناس.

المجمع الثاني: وفيه وضعوا الأمانة

فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان، فجمع البتاركة، والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية، بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا.

فكانوا مختلفي الآراء، مختلفي الأديان:

فمنهم من يقول: المسيح، ومريم إلهان من دون الله، وهم ((المريمانية)).

ومنهم من يقول: المسيح من الأب، بمنزلة شعلة نار، تعلقت من شعلة نار، فلم ينقص الأولى، لإيقاد الثانية منها.

ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر، وإنما مر نور في بطن مريم، كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن كلمة الله دخلت من أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهذه ((مقالة الباد وأشياعه)).

ومنهم من كان يقول: أن المسيح إنسان خلق من اللاهوت، كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجواهر إلا نسية، صحبته النعمة الإلهية، فحلت منه بالمحبة، والمشيئة.

فلذلك سمى ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس، وهذه ((مقالة بولس وأشياعه)).

ومنهم من كان يقول: ثلاثة آلهة، لم تزل صالح، وطالح، وعدل، بينهما هذه ((مقالة مرقيون وأشياعه)).

ومنهم من كان يقول: ربنا هو المسيح، وهي مقالة ((ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا)).

قال ابن البطريق: ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم، عجب من ذلك، وأخلى لهم دارا، وتقدم لهم بالإكرام، والضيافة، وأمرهم(ص 175) أن يتناظروا فيما بينهم، لينظر من معه الحق، فيتبعه، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد، ورأى واحد، وناظروا بقية الأساقفة المختلفين، ففلجوا عليهم في المناظرة، وكان باقي الأساقفة مختلفي الآراء، والأديان، فصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا عظيما، وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه، وسيفه، وقضيبه.

فدفع ذلك إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم اليوم على المملكة، فاصنعوا ما بدا لكم، وما ينبغي لكم، أن تضيعوا ما فيه قوام الدين، وصلاح الأمة، فباركوا على الملك، وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية، وذب عنه، ووضعوا له أربعين كتابا، فيها السنن، والشرائع، وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة، وما يصلح للملك، أن يعمل بما فيها، وكان رئيس القوم، والمجمع، والمقدم فيه بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وأسقف بيت المقدس، ووجه بترك رومية من عنده رجلين، فاتفق الكل على لعن أريوس وأصحابه، ولعنوه، وكل من قال بمقالته.

ووضعوا ((الأمانة)) وقالوا: إن الابن مولود من الأب، قبل كون الخلائق، وأن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق واتفقوا على أن يكون فصح النصارى يوم الأحد، ليكون بعد فصح اليهود، وأن لا يكون فصح اليهود مع فصحهم، في يوم واحد، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة.

وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء؛ لأنهم كانوا إذا صيروا واحدا أسقفا، وكانت له زوجة ثبتت معه، ولم تتنح عنه ما خلا البتاركة، فإنهم لم يكن لهم نساء، ولا كانوا أيضاً يصيرون أحدا له زوجة بتركا، قال: وانصرفوا مكرمين، محظوظين، وذلك في سبعة عشر سنة من ملك قسطنطين الملك، ومكث بعد ذلك ثلاث سنين.

((أحداها)): كسر الأصنام، وقتل من يعبدها.

((والثانية)): أمر أن لا يثبت في الديوان، إلا أولاد النصارى، ويكونون هم الأمراء، والقواد.

((والثالثة)): أن يقيم للناس جمعة الفصح، والجمعة التي بعدها، لا يعملون فيها عملا، ولا يكون فيها حرب، وتقدم قسطنطين إلى أسقف بيت المقدس، أن يطلب موضع المقبرة، والصليب ويبني الكنائس، ويبدأ ببناء القيامة، فقالت هيلانة أمه: إنيّ نذرت أن أسير إلى بيت المقدس، وأطلب المواضع المقدسة، وأبنيها، فدفع إليها الملك أموالا جزيلة، وسارت مع أسقف بيت المقدس، فبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب، وكنيسة قسطنطين.

ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعا عظيما ببيت المقدس، وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية، وجماعة معه، ليسألوا بترك الإسكندرية، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك، أظهر أنه مخالف لأريوس، وكان يرى رأيه، ويقول بمقالته، فقام الرجل، وقال:

إن ((أريوس))لم يقل إن المسيح خلق الإنسان، ولكن قال به خلقت الأشياء، لأنه كلمة الله التي بها(ص 176) خلقت السموات، والأرض، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته، ولم تخلق الأشياء كلمته، كما قال المسيح في الإنجيل: ((كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء)).

وقال: ((به كانت الحياة، والحياة نور البشر)) وقال: ((العالم به يكون))فأخبر أن الأشياء به تكونت.

قال ابن البطريق: فهذه كانت مقالة أريوس، ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، تعدوا عليه، وحرفوه ظلما، وعدوانا، فرد عليه بترك الإسكندرية، وقال: أما أريوس، فلم تكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، ولا ظلموه، لأنه إنما قال: الابن خالق الأشياء دون الأب، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن، دون أن يكون الأب لها خالقا، فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئا.

وفي ذلك تكذيب قوله: ((الأب يخلق، وأنا أخلق)).

وقال: ((إن أنا لم أعمل عمل أبي، فلا تصدقوني)).

وقال: ((كما أن الأب يحيي من يشاء، ويميته، كذلك الابن يحيي من يشاء، ويميته)).

قالوا: فدل على أنه يحيي، ويخلق، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق، وإنما خلقت الأشياء به، دون أن يكون خالقا.

وأما قولك: إن الأشياء كونت به، فإنا لما قلنا: لا شك أن المسيح حي، فعال، وكان قد دل بقوله: ((إني أفعل الخلق، والحياة))كان قولك: به كوّنت الأشياء، إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها، وكانت به مكونة، ولو لم يكن ذلك لتناقض القولان.

قال: وأما قول من قال من أصحاب أريوس: أن الأب يريد الشيء فيكونه الابن، والإرادة للأب، والتكوين للابن، فإن ذلك يفسد أيضاّ، إذا كان الابن عنده مخلوقا، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه، وذلك أن هذا أراد، وفعل، وذلك أراد، ولم يفعل، فهذا أوفر حظا في فعله من ذلك، ولابد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك، بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه، ويكون حكمه كحكمه في الخير والاختيار، فإن كان مجبورا فلا شيء له في الفعل، وإن كان مختارا، فجائز أن يطاع، وجائز أن يعصى، وجائز أن يثاب، وجائز أن يعاقب.

وهذا أشنع في القول، ورد عليه أيضاّ وقال: إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق، والمخلوق غير الخالق بلا شك، فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره، والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به، إذ كان لا يتم له الفعل إلّا به، والمحتاج إلى غيره منقوص، والخالق متعال عن هذا كله.

قال: فلما دحض بترك الإسكندرية، حجج أولئك المخالفين، وظهر لمن حضر بطلان قولهم، وتحيروا، وخجلوا، فوثبوا على بترك الإسكندرية، فضربوه حتى كاد يموت، فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين، وهرب بترك الإسكندرية، وصار إلى بيت المقدس، من غير حضور أحد من الأساقفة ثم أصلح دهن(ص 177)الميرون، وقدس الكنائس، ومسحها بدهن الميرون، وسار إلى الملك، فأعلمه الخبر، فصرفه إلى الإسكندرية.

قال ابن البطريق: وأمر الملك أن لا يسكن يهودي ببيت المقدس، ولا يجوز بها، ومن لم يتنصر قتل، فظهر دين النصرانية، وتنصر من اليهود خلق، فقيل للملك: إن اليهود يتنصرون من خوف القتل، وهم على دينهم، فقال: كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ فقال له بولس البترك:

إن الخنزير في التوراة حرام، واليهود لا يأكلون لحم الخنزير، فأمر أن تذبح الخنازير، ويطبخ لحومها، ويطعم منها، فمن لم يأكل منه، علم أنه مقيم على دين اليهودية، فقال الملك: إذا كان الخنزير في التوراة حراما، فكيف يحل لنا أن نأكله، ونطعمه الناس؟ فقال له بولس: إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة، وجاء بنواميس أخر، وبتوراة جديدة، وهو الإنجيل، وفي إنجيله: أن كل ما يدخل البطن فليس بحرام، ولا نجس، وإنما ينجس الإنسان ما يخرج من فيه.

وقال يونس: أن بطرس رئيس الحواريين، بينما هو يصلي في ست ساعات من النهار، وقع عليه سبات، فنظر إلى السماء قد تفتحت، وإذا زاد قد نزل من السماء، حتى بلغ الأرض، وفيه كل ذي أربع قوائم على الأرض، من السباع، والدواب، وغير ذلك من طير السماء، وسمع صوتا يقول له: يا بطرس قم، فاذبح، وكل، فقال بطرس: يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط، ولا دنسا قط، فجاء صوت ثان، كل ما طهره الله فليس بنجس.

وفي نسخة أخرى: ما طهره الله فلا تنجسه أنت، ثم جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات، ثم إن الزاد ارتفع إلى السماء، فتعجب بطرس، وتحير فيما بينه وبين نفسه، فأمر الملك أن تذبح الخنازير، وتطبخ لحومها، وتقطع صغارا، وتصير على أبواب الكنائس، في كل مملكته يوم أحد الفصح، وكل من خرج من الكنيسة، يلقم لقمة من لحم الخنازير، فمن لم يأكل منه، يقتل فقتل لأجل ذلك خلق كثير، ثم هلك قسطنطين.

وقام بعده أكبر أولاده، واسمه قسطنطين، وفي أيامه اجتمع أصحاب أريوس، ومن قال بمقالته إليه، فحسنوا لهم دينهم، ومقالتهم، وقالوا: إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، الذين كانوا اجتمعوا بنيقية، قد أخطأوا، وحادوا عن الحق، في قولهم: إن الابن متفق مع الأب في الجوهر.

فأمر أن لا يقال هذا: فإنه خطأ، فعزم الملك على فعله، فكتب إليه أسقف بيت المقدس: أن لا يقبل قول أصحاب أريوس، فإنهم حائدون عن الحق، وكفار، وقد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، ولعنوا كل من يقول بمقالتهم، فقبل قوله.

قال ابن البطريق: وفي ذلك الوقت، أعلنت مقالة أريوس على قسطنطينية، وأنطاكية، والإسكندرية، وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا، صار على أنطاكية بترك أريوسي، ثم بعده آخر مثله، قال:

وأما(ص 178) أهل مصر، والإسكندرية، وكان أكثرهم أريوسيين، ومانيين، فغلبوا على كنائس مصر، فأخذوها، ووثبوا على بترك الإسكندرية، ليقتلوه، فهرب منهم، واستخفى، ثم ذكر جماعة من البتاركة، والأساقفة من طوائف النصارى، وما جرى لهم مع بعضهم بعضا، وما تعصبت به كل طائقة لبتركها، حتى قتل بعضهم بعضا.

واختلف النصارى أشد الاختلاف، وكثرت مقالاتهم، واجتمعوا عدة مجامع، كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضا، ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين.

المجمع الثالث

فكان لهم مجمع ثالث، بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول بنيقية، فاجتمع الوزراء، والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلبت عليهم مقالة أريوس، ومقدونيس، فاكتب إلى جميع الأساقفة، والبتاركة، أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أسقفا، فنظروا، وبحثوا في مقالة أريوس، فوجدوها أن روح القدس مخلوق، ومصنوع، ليس بإله، فقال بترك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا، غير روح الله، وليس روح الله غير حياته.

فإذا قلنا: أن روح الله مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا: أن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حي، وذلك كفر به. فلعنوا جميعهم من يقول بهذه المقالة، ولعنوا جماعة من أساقفتهم، وبتاركتهم، كانوا يقولون بمقالات أخر لم يرتضوها، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق، من إله حق، من طبيعة الأب والابن ((ونؤمن بروح القدس، الرب، المحيي، الذي من الأب منبثق، الذي مع الأب، والابن وهو مسجود، وممجد))

وكان في تلك الأمانة، ((وبروح القدس)) فقط، وبينوا أن الابن والأب، وروح القدس، ثلاثة أقانيم، وثلاث وجوه، وثلاث خواص، وأنها وحدة في تثليث، وتثليث في وحدة، وبينوا أن جسد المسيح بنفس ناطقة عقلية، فأنفض هذا الجمع، وقد لعنوا فيه كثيرا من أساقفتهم، وأشياعهم...

المجمع الرابع

ثم بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع، كان لهم مجمع رابع على نسطورس، وكان رأيه: أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولذلك كان اثنان:

أحدهما: الإله، الذي هو موجود من الأب. والآخر: إنسان، وهو الموجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول أنه المسيح، متوحد مع الابن الإله، ويقال: له إله، وابن الإله ليس(ص 179) على الحقيقة، ولكن موهبة، واتفاق الاسمين على طريق الكرامة.

فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات، واتفقوا على تخطئته.

واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسيس، وأرسلوا إليه للمناظرة، فامتنع ثلاثا مرات، فأجمعوا على لعنه فلعنوه، ونفوه، وبينوا أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، من إله حق، وهو إنسان، وله طبيعتان، فلما لعنوا نسطورس، تعصب له بترك أنطاكية، فجمع الأساقفة، فلم يزل الملك حتى الذين قدموا معه، وناظرهم، وقطعهم، فتقاتلوا، وتلاعنوا، وجرى بينهم شر، فتفاقم أمرهم.

ثم أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة أن مريم القديسة، ولدت إلها، وهو ربنا يسوع المسيح، الذي هو مع الله في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت، وأقروا بطبيعتين، وبوجه واحد، وأقنوم واحد، وأنفذوا لعن نسطورس، فلما لعنوه ونفى، سار إلى مصر،

وأقام في أخميم سبع سنين، ومات ودفن بها، وماتت مقالته إلى أن أحياها ابن صرما، مطران نصيبين، وبثها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى المشرق، والعراق، ونسطورية، فانفض ذلك المجمع الرابع أيضاً، وقد أطبقوا على لعن نسطوري، وأشياعه، ومن قال بمقالته.

المجمع الخامس

ثم كان لهم بعد هذا المجمع مجمع خامس، وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب، يقال له: أوطيسوس، يقول: إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة، وأن المسيح قبل التجسد، من طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة، وهو أول من أحدث هذه المقالة، وهي مقالة ((اليعقوبية)).

فرحل إليه بعض الأساقفة، فناظره، وقطعه، ودحض حجته، ثم صار إلى قسطنطينية، فأخبر بتركها بالمناظرة، وبانقطاعه، فأرسل بترك القسطنطينية إليه فاستحضره، وجمع جمعا عظيماً، وناظره،

فقال أوطيسوس: إن قلنا أن المسيح طبيعتين، فقد قلنا: بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، فلما قبل التجسد زالت عنه، وصار طبيعة وأقنوما واحدا، فقال له بترك القسطنطينية:

إن كان المسيح طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة، هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم هو المحدث، فالذي لم يزل، هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد، والحار هو البارد، فأبي أن يرجع عن مقالته، فلعنوه، فاستعدي إلى الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة، للمناظرة، فاستحضر الملك البتاركة، والأساقفة من سائر البلاد، إلى مدينة أفسيس.

فثبت بترك الإسكندرية (ص 180) مقالة أوطيسوس، وقطع بتارك القسطنطينية، وأنطاكية، وبيت المقدس، وسائر البتاركة والأساقفة، وكتب إلى بترك رومية، وإلى جماعة الكهنة، فحرمهم ومنعهم من القربان، إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدت الأمانة، وصارت مقالة أوطيسوس خاصة بمصر، والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية، فافترق هذا المجمع الخامس، وكل فريق يلعن الآخر، ويحرمه، ويبرأ من مقالته...

المجمع السادس

فصل ثم كان لهم بعد هذا ((مجمع سادس))، في مدينة حلقدون، فإنه لما مات الملك، ولي بعده مرقيون، فاجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد، فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس، وأفسدت دين النصرانية.

فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة، والمطارنة، والأساقفة، إلى مدينة حلقدون، فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون أسقفاً، فنظروا في مقالة أوطيسوس، وبترك الإسكندرية، الذي قطع جميع البتاركة، فأفسد الجميع مقالتهما، ولعنوهما، وأثبتوا: أن المسيح إله، وإنسان في المكان مع الله، باللاهوت، وفي المكان معنا بالناسوت، يعرف بطبيعتين، تام باللاهوت، وتام بالناسوت، ومسيح واحد، وثبتوا أقوال الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم، بأن الابن مع الله في المكان نور، من نور إله حق، من إله حق، ولعنوا أريوس، وقالوا:

إن روح القدس إله، وأن الأب والابن وروح القدس واحد، بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة، وثبتوا قول المجمع الثالث في مدينة أفسيس، أعني المائتي أسقف على نسطورس، وقالوا:

إن مريم العذراء ولدت إلها، ربنا اليسوع المسيح، الذي هو مع الله بالطبيعة، ومع الناسوت بالطبيعة، وشهدوا أن للمسيح طبيعتين، وأقنوما واحدا، ولعنوا نسطورس، وبترك الإسكندرية، ولعنوا المجمع الثاني، الذي كان بأفسيس، ثم المجمع الثالث، المائتي أسقف بمدينة أفسيس أول مرة.

ولعنوا نسطورس، وبين نسطورس إلى مجمع حلقدون أحد وعشرون سنة، فانفض هذا المجمع، وقد لعنوا من مقدميهم، وأساقفتهم، من ذكرنا، وكفروهم، وتبرؤا منهم، ومن قال مقالاتهم..

المجمع السابع

ثم كان لهم بعد هذا المجمع، ((مجمع سابع))في أيام أنسطاس الملك، وذلك أن سورس القسطنطيني، كان على رأى أوطيسوس، فجاء إلى الملك فقال: إن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين، قد أخطأوا في لعن أوطسيوس، وبترك الإسكندرية، والدين الصحيح ما قالاه، فلا يقبل دين من سواهما، ولكن اكتب إلى جميع عمالك، أن يلعنوا الستمائة وثلاثين، ويأخذوا الناس بطبيعة واحدة، وأقنوم واحد، فأجابه (ص 181) الملك إلى ذلك.

فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس، جمع الرهبان، ولعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما، فبلغ ذلك أنسطاس، ونفاه إلى أيلة، وبعث يوحنا، بتركا على بيت المقدس، لأن يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين.

فلما قدم إلى بيت المقدس، اجتمع بالرهبان، وقالوا: إياك أن تقبل من سورس، ولكن قاتل عن المجمع الحلقدوني، ونحن معك، فضمن لهم ذلك، وخالف أمر الملك، فبلغ ذلك الملك، فأرسل قائدا، وأمره أن يأخذ يوحنا بطرح المجمع الحلقدوني، فإن يفعل ينفيه عن الكرسي.

فقدم القائد، وطرح يوحنا في الحبس، فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليقر بلعنة من لعنة الرهبان، ففعل ذلك، واجتمع الرهبان، وكانوا عشرة آلاف راهب، ومعهم مدرس، وسابا، ورؤساء الديرات، فلعنوا أوطسيوس، وسورس، ومن لا يقبل المجمع الحلقدوني.

وفزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك، فهم بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان، والأساقفة، فكتبوا إلى أنسطاس الملك، أنهم لا يقبلون مقالة سورس، ولا أحد من المخالفين، ولو أهريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم، وكتب بترك رومية إلى الملك، يقبح فعله، ويلعنه، فانفض هذا المجمع أيضاً، وقد تلاعنت فيه هذه الجموع، على ما وصفنا!!

وكان لسورس تلميذ، يقال له: يعقوب، يقول بمقالة سورس، وكان يسمى البرادعي، وإليه تنسب ((اليعاقبة)) فأفسد أمانة النصارى

ثم مات أنسطاس، وولي قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس الملك إلى موضعه، واجتمع الرهبان، وأظهروا كتاب الملك، وعيدوا عيدا حسنا، بزعمهم، وأثبتوا المجمع الحلقدوني بالستمائة وثلاثين أسقفاً، ثم ولي ملك آخر، وكانت اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم، يقال له بولس، كان ملكيا، فأرسل القائد ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البترك، وتقدم، وقدس، فرموه بالحجارة، حتى كادوا يقتلونه، فانصرف.

ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام، أنه قد أتاه كتاب الملك، وضرب الجرس، ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة، فلم يبق أحد بالإسكندرية، حتى حضر لسماع كتاب الملك، وقد جعل بينه وبين جنده علامة، إذا رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لن تأمنوا أن يرسل إليكم الملك من يسفك دمائكم.

فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يقتل، فأظهر العلامة، فوضعوا السيف على كل من في الكنيسة، فقتل داخلها وخارجها أمم لا تحصى كثرة، حتى خاض الجند في الدماء،. وهرب منهم خلق كثير، وظهرت ((مقالة الملكية)).(ص 182)

المجمع الثامن

ثم كان لهم بعد ذلك ((مجمع ثامن)) بعد المجمع الحلقدوني، الذي لعن فيه اليعقوبية بمائة سنة وثلاث سنين، وذلك أن أسقف منبج، وهي بلدة شرقي حلب، بالقرب منها، وهي- مخسوفة- الآن، كان يقول: بالتناسخ، وأن ليس قيامة، وكان أسقف الرها، وأسقف المصيصة، وأسقف آخر، يقولون:إن جسد المسيح خيال غير حقيقة، فحشرهم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم: بتركها إن كان جسده خيالا، فيجب أن يكون فعله خيالا، وقوله: خيالا، وكل جسد يعاين لأحد الناس، أو فعل، أو قول، فهو كذلك، وقال لأسقف منبج: إن المسيح قد قام من الموت، وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس من الموت، يوم الدينونة.

وقال في ((إنجيله)): لن تأتي الساعة حتى إن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله، يجيبوا، فكيف تقولون ليس قيامة؟ !

فأوجب عليهم الخزي، واللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع، يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع في هذا المجمع مائة وأربعة وستون أسقف، فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وثبتوا على قول أسقف الرها:

أن جسد المسيح حقيقة، لا خيال، وإنه إله تام، وإنسان تام، معروف بطبيعتين، ومشيئتين، وفعلين، وأقنوم واحد، وثبتوا المجامع الأربعة، التي قبلهم بعد المجمع الحلقدوني، وإن الدنيا زائلة، وإن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات، كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر..

المجمع التاسع

فصل ثم كان لهم ((مجمع تاسع)) في أيام معاوية ابن أبي سفيان، تلاعنوا فيه، وذلك أنه كان برومية، راهب قديس يقال له مقسلمس، وله تلميذان، فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه، وشناعة كفره، فأمر به قسطا، فقطعت يداه، ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين مثله، وضرب آخر بالسياط، ونفاه فبلغ ذلك ملك قسطنطينية.

فأرسل إليه يوجه إليه من أفاضل الأساقفة، ليعلم وجه هذه الحجة، ومن الذي كان ابتدأها، لكيما يطرح جميع الآباء القديسين، كل من استحق اللعنة، فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا، وثلاث شمامسة، فلما وصلوا إلى قسطنطينية، جمع الملك مائة وثمانية وستين أسقفا، فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة في البر طحة.

وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية، وبترك أنطاكية، ولم يكن لبيت المقدس، والإسكندرية، بترك فلعنوا من تقدم من القديسين، الذين خالفوهم، وسموهم واحداً واحداً، وهم جماعة، ولعنو أصحاب المشيئة الواحدة، ولما لعنوا هؤلاء، جلسوا فلخصوا الأمانة المستقيمة، بزعمهم(ص 183) فقالوا:

((نؤمن بأن الواحد من اللاهوت، الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية، الدائم المستوي، مع الأب الإله في الجوهر، الذي هو ربنا اليسوع، المسيح، بطبيعتين تامتين، وفعلين، ومشيئتين، في أقنوم واحد، ووجه واحد، يعرف تاما بلاهوته، تاما بناسوته،

وشهدت كما شهد مجمع الحلقدونية، على ما سبق أن الإله الابن، في آخر الأيام اتحدا مع العذراء، السيدة مريم القديسة، جسدا إنسانا بنفسين، وذلك برحمة الله تعالى، محب البشر، ولم يلحقه اختلاط، ولا فساد، ولا فرقة، ولا فصل، ولكن هو واحد، يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمل في طبيعته، الذي هو الابن الوحيد، والكلمة الأزلية، المتجسدة إلى أن صارت في الحقيقة لحما.

كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن تنتقل عن محلها الأزلي، وليست يمتغيرة، لكنها بفعلين، ومشيئتين، وطبيعتين، إلهي وأنسي، الذي بهما يكون القول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين، تعمل مع شركة صاحبتها، مشيئتين غير متضادتين، ولا متضارعتين، ولكن مع المشيئة الأنسية، في المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء)).

هذه شهادتهم، وأمانة المجمع السادس من المجمع الحلقدوني، وثبتوا ما ثبته الخمس مجامع التي كانت قبلهم، ولعنوا من لعنوه، وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة.

المجمع العاشر

فصل ثم كان لهم((مجمع عاشر))، لما مات الملك، وولي بعده ابنه، واجتمع فريق المجمع السادس، وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا، فثبتوا قول المجمع السادس، ولعنوا من لعنهم، وخالفهم، وثبتوا قول المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنوا، وانصرفوا، فانقرضت هذه المجامع، والحشود، وهم علماء النصارى، وقدماؤهم، وناقلوا الدين إلى المتأخرين، وإليهم يستند من بعدهم.

وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة، على زهاء أربعة عشر ألفا من الأساقفة، والبتاركة، والرهبان، كلهم يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضاً، فدينهم إنما قام على اللعنة، بشهادة بعضهم على بعض، وكل منهم لاعن ملعون.

((لو عرض دين النصرانية، على قوم لم يعرفوا لهم إلها، لا متنعوا من قبوله))

فإذا كانت هذه حال المتقدمين، مع قرب زمنهم، من أيام المسيح، وبقاء أخيارهم فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة لهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واحتفالهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى، ثم هم مع ذلك تائهون، حائرون بين لاعن، وملعون، لا يثبت لهم قدم، ولا يتحصل لهم قول في معرفة معبودهم.

بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه (ص 184) وباح باللعن، والبراءة ممن اتبع سواه، فما الظن بحثالة الماضين، ونفاية الغابرين، وزبالة الحائرين، وذرية الضالين، وقد طال عليهم الأمد، وبعد العهد، وصار دينهم ما يتلقونه عن الرهبان، وقوم إذا كشفت عنهم، وجدتهم أشبه شيء بالأنعام، وإن كانوا في صور الأنام.

بل هم كما قال تعالى: (ومن أصدق من الله قيلا إن هم الا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).

و هؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) ومن أمة الضلال، بشهادة الله ورسوله عليهم، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم، بلعن بعضهم بعضا، وقد لعنهم الله سبحانه على لسان رسوله، في قوله صلى الله عليه وسلم:

((لعن الله اليهود، والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه))هذا والكتاب واحد، والرب واحد، والنبي واحد، والدعوى واحدة، وكلهم يتمسك بالمسيح، وإنجيله، وتلاميذه، ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين.

فمنهم من يقول: أنه إله.

ومنهم من يقول: ابن الله.

ومنهم من يقول: ثالث ثلاثة

ومنهم من يقول: إنه عبد.

ومنهم من يقول: إنه أقنوم، وطبيعة.

ومنهم من يقول: أقنومان، وطبيعتان، إلى غير ذلك، من المقالات التي حكوها عن أسلافهم، وكل منهم يكفر صاحبه، فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها، ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا، لتوقفوا عنه، وامتنعوا من قبوله.

فوازن بين هذا، وبين ما جاء به خاتم الأنبياء، والرسل، صلوات الله عليه وسلامه، تعلم علما يضارع المحسوسات، أو يزيد عليها: إن الدين عند الله الإسلام.

الفصل الثالث عشر: (يستحيل الإيمان بنبي من الأنبياء مع جحد نبوة محمد)، (معجزات محمد أعظم وأدل)

(فصل) لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء، أصلا مع جحود نبوة محمد

في أنه: لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء، أصلا مع جحود نبوة محمد، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من جحد نبوته، فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحدا، وهذا يتبين بوجوه:

(أحدها)

أن الأنبياء المتقدمين، بشروا بنبوته، وأمروا أممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته، فقد كذب الأنبياء قبله، فيما أخبروا به، وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به، من الإيمان به، والتصديق به، لازم من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم، انتفى ملزومه قطعا، وبيان الملازمة، ما تقدم من الوجوه الكثيرة، التي تفيد بمجموعها القطع، على أنه صلى الله عليه وسلم، قد ذكر في الكتب الإلهية، على ألسن الأنبياء، وإذا ثبت الملازمة، فانتفاء اللازم، موجب لانتفاء ملزومه(ص 185)

(الوجه الثاني)

أن دعوة محمد بن عبد الله، صلوات الله، وسلامه عليه، هي دعوة جميع المرسلين قبله، من أولهم إلى آخرهم، فالمكذب بدعوته، مكذب بدعوة إخوانه كلهم، فإن جميع الرسل جاؤوا بما جاء به، فإذا كذبه المكذب، فقد زعم أن ما جاء به باطل،

وفي ذلك تكذيب كل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله، ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق، وأنه كاذب، مفتر على الله، وهذا في غاية الوضوح، وهذا بمنزلة شهود، شهدوا بحق فصدقهم الخصم، وقال: هؤلاء كلهم شهود عدول، صادقون.

ثم شهد آخر على شهادتهم سواء، فقال الخصم: هذه الشهادة باطلة، وكذب، لا أصل لها، وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا، ولا ينجيه من تكذيبهم، اعترافه بصحة شهادتهم، صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوات الأنبياء قبله، فكذلك إن لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الأنبياء قبله.

(الوجه الثالث)

إن الآيات والبراهين، التي دلت على صحة نبوته، وصدقه، أضعاف أضعاف آيات من قبله، من الرسل فليس لنبي من الأنبياء، آية توجب الإيمان به، إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها، أو ما هو في الدلالة مثلها، وان لم يكن من جنسها،

فآيات نبوته أعظم، وأكبر، وأبهر، وأدل، والعلم بنقلها قطعي، لقرب العهد، وكثرة النقلة، واختلاف أمصارهم، وأعصارهم، واستحالة تواطئهم على الكذب، فالعلم بآيات نبوته، كالعلم بنفس وجوده، وظهوره، وبلده، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك، والمكابر فيه في غاية الوقاحة، والبهت، كالمكابرة في وجود ما يشاهده الناس، ولم يشاهده هو من البلاد، والأقاليم، والجبال، والأنهار.

فإن جاز القدح في ذلك كله، فالقدح في وجود عيسى، وموسى، وآيات نبوتهما، أجوز وأجوز، وإن امتنع القدح فيهما، وفي آيات نبوتهما، فامتناعه في محمد صلى اله عليه وسلم وآيات نبوته أشد، ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن ا لإيمان بموسى، لا يتم مع التكذيب بمحمد، أبدا كفر بالجميع، وقال: (ما أنزل الله على بشر من شيء).

كما قال تعالى:(ما قدروا الله حق قدره، إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء قل: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، تجعلونه قراطيس تبدونها، وتخفون كثيرا، وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).

قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود، يقال له: مالك بن الصيف، يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنشدك بالذي أنزل التوارة على موسى، أما تجد في التوراة، أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ !))، وكان حبرا سمينا، (ص 186) فغضب عدو الله، وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى، فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء.

فأنزل الله عز وجل (وما قدروا الله حق قدره) الآية وهذا قول عكرمة.

قال محمد بن كعب: جاء ناس من اليهود، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محتّب، فقالوا: يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى، ألواحا يحملها من عند الله عز وجل؟ فأنزل الله عز وجل (يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) الآية.

وجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك، ولا على موسى، ولا على عيسى، ولا على أحد شيئاً، ما أنزل الله على بشر من شيء، فحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته، وجعل يقول: ((ولا على أحد؟ !!)).

وذهب جماعة منهم مجاهد، إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة، وكذبوا بالرسل، وأما أهل الكتاب، فلم يجحدوا نبوة موسى، وعيسى، وهذا اختيار ابن جرير قال: وهو أولى الأقاويل بالصواب، لأن ذلك في سياق الخبر عنهم، فهو أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود، ولم يجر لهم ذكر، يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر، عن من أخبر الله عنه من هذه الآية، من إنكاره، أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود.

بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم، وموسى، وزبور داود، والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع، خبر عن المشركين من عبدة الأوثان، وقوله: (وما قدروا الله حق قدره) موصول به، غير مفصول عنه، قلت: ويقوى قوله أن السورة مكية، فهي خبر عن زنادقة العرب، المنكرين لأصل النبوة، ولكن بقي أن يقال: فيكف يحسن الرد عليهم، بما لا يقرون به، من إنزال الكتاب، الذي جاء به موسى؟

وكيف يقال لهم تجعلونه قراطيس تبدونها، وتخفون كثيرا، ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب؟

وهل ذلك صالح لغير اليهود؟

فإنهم كانوا يخفون من الكتاب مالا يوافق أهواءهم، وأغراضهم، ويبدون منه ما سواه، فاحتج عليهم بما يقرون به من كتاب موسى، ثم وبخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه، فأخفوا بعضه، وأظهروا بعضه.

وهذا استطراد من ذكر جحدهم النبوة بالكلية، وذلك إخفاء لها وكتمان، إلى جحد ما أقروا به كتابهم، بإخفائه، وكتمانه، فتلك سجية لهم معروفة، لا تنكر إذ من أخفى بعض كتابه، الذي يقر بأنه من عند الله، كيف لا يجحد أصل النبوة؟

ثم احتج عليهم بأنهم قد علموا بالوحي، ما لم يكونوا يعلمونه، هم ولا آباؤهم، ولولا الوحي الذي أنزله على أنبيائه، ورسله، لم يصلوا إليه.

ثم أمر رسوله أن(ص 187) يجيب عن هذا السؤال وهو قوله: (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)؟ (فقال: قل الله)أي:الله الذي أنزله؟ أي أن كفروا به، وجحدوه، فصدق به أنت، وأقربه(ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)؟ جواب هذا السؤال أن يقال: أن الله سبحانه احتج عليهم، بما يقر به أهل الكتابين، وهم أولوا العلم، دون الأمم التي لا كتاب لها، أي إن جحدتم أصل النبوة، وأن يكون الله أنزل على بشر شيئاً.

فهذا كتاب موسى، تقر به أهل الكتاب، وهم أعلم منكم، فاسألوهم عنه، ونظائر هذا في القرآن كثيرة، يستشهد سبحانه بأهل الكتاب، على منكري النبوات، والتوحيد، والمعنى: أنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً، فمن أنزل كتاب موسى؟ فإن لم تعلموا ذلك، فاسألوا أهل الكتاب.

وأما قوله تعالى: (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا) فمن قرأها بالياء، فهو إخبار عن اليهود، بلفظ الغيبة، ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب، فهو خطاب لهذا الجنس، الذي فعلوا ذلك، أي: تجعلونه يا من أنزل عليه، كذلك، وهذا من أعلام نبوته، أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم، وأنهم جعلوه قراطيس، وأبدوا بعضه، وأخفوا كثيرا منه، وهذا لا يعلم من غير جهتهم، إلا بوحي من الله، ولا يلزم أن يكون قوله: (تجعلونه قراطيس) خطاباً لمن حكى عنهم، أنهم قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) بل هذا استطراد من الشيء، إلى نظيره، وشبهه، ولازمه، وله نظائر في القرآن كثيرة، كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة)إلى آخر الآية.

فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين، وهو آدم إلى النوع المخلوق، من النطفة، وهم أولاده، وأوقع الضمير على الجميع، بلفظ واحد.

ومثله قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صلحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) إلى آخر الآيات.ويشبه هذا قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات، والأرض، ليقولن: خلقهن العزيز العليم، الذي جعل لكم الأرض مهدا، وجعل لكم فيها سبلا، لعلكم تهتدون، والذي نزل من السماء ماء بقدر، فأنشرنا به بلدة ميتا، كذلك تخرجون، والذي خلق الأزواج كلها)إلى آخر الآيات.

وعلى التقديرين، فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومكابرتهم، إلا بهذا الجحد، والتكذيب العام، ورأوا أنهم إن أقروا ببعض النبوات، وجحدوا نبوته، ظهر تناقضهم، وتفريقهم بين المتماثلين، وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي، وجحد نبوة من نبوته أظهر، وآياتها أكثر، وأعظم ممن أقروا به، وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، لم يقدره حق قدره، وأنه(ص 188) نسبة إلى ما لا يليق به، بل يتعالى ويتنزه عنه.

فإن في ذلك إنكار دينه، وإلهيّته، وملكه، وحكمته، ورحمته، والظن السيء به، أنه خلق خلقه عبثا باطلا، وأنه خلاهم سدا مهملا، وهذا ينافي كماله المقدس، وهو متعال عن كل ما ينافي كماله، فمن أنكر كلامه، وتكليمه، وإرساله الرسل إلى خلقه، فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق عظمته، كما أن من عبد معه إلها غيره، لم يقدره حق قدره، معطل جاحد، لصفات كماله، ونعوت جلاله، وإرسال رسله وإنزال كتبه، ولا عظمه حق عظمته.

إنكار النبوات معناه جحد الخالق جهل بالحقائق،

ما وقع للفلاسفة والمجوس والنصارى واليهود من ذلك

ولذلك كان جحد نبوة خاتم أنبيائه، ورسله، وإنزال كتبه، وتكذيبه، إنكارا للرب تعالى في الحقيقة، وجحودا له، فلا يمكن الإقرار بربوبيته، وإلهيّته، وملكه، بل ولا بوجوده، مع تكذيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدمت، فلا يجامع الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم الإقرار بالرب تعالى، وصفاته أصلا، كما لا يجامع الكفر بالمعاد، واليوم الآخر، الإقرار بوجود الصانع أصلا، وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه:

في سورة الرعد في قوله: (وإن تعجب فعجب قولهم: أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد، أولئك الذين كفروا بربهم).

والثاني: في سورة الكهف في قوله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه، قال: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا، قال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي، ولا أشرك بربي أحدا).

فالرسول صلوات الله وسلامه عليه، إنما جاء بتعريف الرب تعالى بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، والتعريف بحقوقه على عباده، فمن أنكر رسالاته، فقد أنكر الرب الذي دعا إليه، وحقوقه التي أمر بها؛ بل نقول لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله، وهذا ظاهر جداً لمن تأمل مقالات أهل الأرض، وأديانهم.

فإن ((الفلاسفة)) لم يمكنهم الاعتراف بالملائكة، والجن، والمبدأ، والمعاد، وتفاصيل صفات الرب تعالى، وأفعاله مع إنكار النبوات؛ بل والحقائق المشاهدة، التي لا يمكن إنكارها، لم يثبتوها على ما هي عليه، ولا أثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة، وهذا ثمرة إنكارهم النبوات، فسلبهم الله إدراك الحقائق التي زعموا أن عقولهم كافية في إدراكها، فلم يدركوا منها شيئاً على ما هو عليه، حتى ولا الماء، ولا الهواء، ولا الشمس، ولاغيرها.

فمن تأمل مذاهبهم فيها علم أنهم لم يدركوها، وإن عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم.

(ص 189) وأما ((المجوس)) فأضل، وأضل.

وأما ((عباد الأصنام)) فلا عرفوا الخالق، ولا عرفوا حقيقة المخلوقات، ولا ميزوا بين الشياطين، والملائكة، وبين الأرواح الطيبة، والخبيثة، وبين أحسن الحسن، وأقبح القبيح، ولا عرفوا كمال النفس، وما تسعد به، ونقصها، وما تشقى به.

وأما ((النصارى)) فقد عرفت ما الذي أدركوه من معبودهم، وما وصفوه به، وما الذي قالوه في نبيهم، وكيف لم يدركوا حقيقته البتة، ووصفوا الله بما هو من أعظم العيوب، والنقائص، ووصفوا عبده ورسوله، بما ليس له بوجه من الوجوه.

وما عرفوا الله، ولا رسوله، والمعاد الذي أقروا به لم يدركوا حقيقته، ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته، إذ لا أكل عندهم في الجنة، ولا شرب، ولا زوجة هناك، ولا حور عين، يلذ بهن الرجال، كلذاتهم في الدنيا، ولا عرفوا حقيقة أنفسهم، وما تسعد به، وتشقى، ومن لم يعرف ذلك، فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة، فلا لأنفسهم عرفوا، ولا لفاطرهم، وبارئها، ولا لمن جعله إليه سببا في فلاحها، وسعادتها، ولا للموجودات، وأنها جميعها فقيرة، مربوبة، مصنوعة، ناطقها، وصامتها، آدميها، وجنيها، وملكها، فكل من في السموات عبده، وملكه، وهو مخلوق، مصنوع، مربوب، فقير، من كل وجه، ومن لم يعرف هذا، لم يعرف شيئا.

غباوة اليهود ونقضهم للعهود وتحريفهم وحسدهم هو الغاية... اليهود قتلة الأنبياء وأكلة الربا والمنفردون بغاية الخبث والبهت...

وأما ((اليهود)) فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم، وغباوتهم، وضلالهم، ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل، التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل، الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان، وأقله فطانة، الذي يضرب المثل به، في قلة الفهم.

فانظر إلى هذه الجهالة، والغباوة، المتجاوزة للحد، كيف عبدوا مع الله إلها آخر، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد، وعظمة الرب، وجلاله، ما يشاهده سواهم؟ !!

وإذا قد عزموا على اتخاذ إله دون الله، فاتخذوه، ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته!

وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الملائكة المقربين و لا من الأحياء الناطقين بل اتخذوه من الجمادات!

وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس، والقمر، والنجوم، بل من الجواهر الأرضية!

وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر، التي خلقت فوق الأرض عالية عليها كالجبال، ونحوها، بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض، و الصخور، والأحجار، عالية عليها!

وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر، يستغني عن الصنعة، وإدخال النار، وتقليبه وجوها مختلفة، وضربه بالحديد، وسبكه بل من جوهر يحتاج(ص 190)

إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة، وإدخاله النار، وإحراقه، واستخراج خبثه!

وإذ قد فعلوا، فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم، ولا نبي مرسل، ولا على تمثال جوهر علوي، لا تناله الأيدي، بل على تمثال حيوان أرضي!

وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات، وأقواها، وأشدها، امتناعا من الضيم، كالأسد، والفيل، ونحوهما، بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان، وأقبله للضيم، والذل، بحيث يحرث عليه الأرض، ويسقى عليه بالسواقي، والدواليب، ولا له قوة يمتنع بها، من كبير ولا صغير.

فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم، ونبيهم، وحقائق الموجودات؟ !!!

وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها، فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات، أن لا يعرف حقيقة الإله، ولا أسماءه، وصفاته، ونعوته، ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق، وحاجته، وفقره.

ولو عرف هؤلاء معبودهم، ورسولهم، لما قالوا لنبيهم:(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولا قالوا له:(اذهب أنت وربك فقاتلا) ولا قتلوا نفسا، وطرحوا المقتول على أبواب البرآء من قتله، ونبيهم حي بين أظهرهم، وخبر السماء، والوحي يأتيه صباحا ومساء، فكأنهم جووزا أن يخفى هذا على الله، كما يخفى على الناس؟ !

ولو عرفوا معبودهم، لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: ((يا أبانا انتبه من رقدتك، كم تنام)).

ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه، وقتلهم، وحبسهم، ونفيهم، ولما تحيلوا على تحليل محارمه، وإسقاط فرائضه، بأنواع الحيل. ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم، وأنهم من الأغبياء، ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة، أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة، ثم يزيل الأمر به في وقت آخر، لحصول المصلحة، وتبدله بما هو خير منه، وينهي عنه، ثم يبيحه في وقت آخر، لاختلاف الأوقات، والأحوال في المصالح والمفاسد.

كما هو مشاهد في أحكامه القدرية الكونية، التي لا يتم نظام العالم، ولا مصلحته إلا بتبديلها، واختلافها، بحسب الأحوال، والأوقات، والأماكن، فلو اعتمد طبيب أن لا يغير الأدوية، والأغذية، بحسب اختلاف الزمان، والأماكن، والأحوال، لأهلك الحرث، والنسل، وعد من الجهال، فكيف يحجر على طبيب القلوب، والأديان أن تتبدل أحكامه، بحسب اختلاف المصالح؟ !

وهل ذلك إلا قدح في حكمته، ورحمته، وقدرته، وملكه التام، وتدبيره لخلقه؟ !!

ومن جهلهم بمعبودهم، ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا، ويقولوا: حطة فيدخلوا متواضعين لله، سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم، فدخلوا يزحفون على أستاههم، بدل السجود لله، ويقولون:((هنطا سقمانا)) أي حنطة سمراء، فذلك سجودهم، وخشوعهم، وهذا استغفارهم، واستقالتهم، من ذنوبهم.

(ص 191) ومن ((جهلهم وغباوتهم)) أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته، وعظيم سلطانه، وصدق رسوله، ما لا مزيد عليه، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه، وعهد إليهم فيه عهده، وأمرهم أن يأخذوه بقوة، فيعبدوه بما فيه، كما خلصهم من عبودية فرعون، والقبط، فأبوا أن يقبلوا ذلك، وامتنعوا منه، فنتق الجبل العظيم فوق رؤوسهم على قدرهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوا، أطبقته عليكم، فقبلوه من تحت الجبل.

قال ابن عباس: رفع الله الجبل فوق رؤوسهم، وبعث نارا من قبل وجوههم، وأتاهم البحر من تحتهم، ونودوا: إ ن لم تقبلوا أرضختكم بهذا، وأحرقتكم بهذا، وأغرقتكم بهذا، فقبلوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا، ولولا الجبل، ما أطعناك، ولما آمنوا بعد ذلك، قالوا: (سمعنا وعصينا).

ومن جهلهم، أنهم شاهدوا الآيات، ورأوا العجائب، التي يؤمن على بعضها البشر، ثم قالوا بعد ذلك: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم، سبعين رجلا لميقاته، فاختارهم موسى، وذهب بهم إلى الجبل، فلما دنى موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام، حتى تغشى الجبل، وقال للقوم: ادنوا ودنى القوم، حتى إذا دخلوا في الحجاب، وقعوا سجدا، فسمعوا الرب تعالى، وهو يكلم موسى، ويأمره، وينهاه، ويعهد إليه، فلما انكشف الغمام، قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).

ومن جهلهم أن هارون لما مات، ودفنه موسى، قالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته، حسدته على خلقه، ولينه، ومحبة بني إسرائيل له، قال: فاختاروا سبعين رجلا، فوقفوا على قبر هارون، فقال موسى: يا هارون: أقتلت أم مت؟ قال: بل مت، وما قتلني أحد.

فحسبك من جهالة أمة، وجفائهم، أنهم اتهموا نبيهم، ونسبوه إلى قتل أخيه، فقال موسى: ما قتلته فلم يصدقوه، حتى أسمعهم كلامه، وبراءة أخيه مما رموه به.

ومن جهلهم أن الله سبحانه شبههم في حملهم التوراة، وعدم الفقه فيها، والعمل بها، بالحمار يحمل أسفارا، وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة:

منها: أن الحمار من أبلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة.

و منها: أنه لو حمل غير الأسفار من طعام، أو علف، أو ماء، لكان له به شعور بخلاف الأسفار.

ومنها: أنهم حملوها، لا أنهم حيث حملوها طوعا، واختيارا، بل كانوا كالمكلفين لما حملوه، لم يرفعوا به رأسا.

ومنها: أنهم حيث حملوها تكليفا، وقهرا، لم يرضوا بها، ولم يحملوها رضا، واختيارا، وقد علموا أنهم لا بد لهم منها، وأنهم إن حملوها اختيارا، كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.

ومنها: أنها مشتملة على مصالح معاشهم، ومعادهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم، وفلاحهم إلى ضده من غاية الجهل، والغباوة، وعدم الفطانة.

ومن جهلهم، وقلة معرفتهم، أنهم طلبوا عوض المن والسلوى، اللذين هما أطيب الأطعمة وأنفعها (ص 192)، وأوقفها للغذاء الصالح، البقل، والقثّاء، والثوم، والعدس والبصل، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضا عن المن والسلوى، لم يكثر عليه أن يستبدل الكفر بإلايمان، والضلالة بالهدى، والغضب بالرضى، والعقوبة بالرحمة، وهذه حال من لم يعرف ربه، ولا كتابه، ولا رسوله، ولا نفسه.

وأما نقضهم ميثاقهم، وتبديلهم أحكام التوراة، وتحريفهم الكلم عن مواضعه، وأكلهم الربا، وقد نهوا عنه، وأكلهم الرشا، واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتكذيبهم عيسى ابن مريم رسول الله، ورميهم له ولأمه بالعظائم، وحرصهم على قتله، وتفردهم دون الأمم بالخبث، والبهت، وشدة تكالبهم على الدنيا، وحرصهم عليها، وقسوة قلوبهم، وحسدهم، وكثرة سخرهم: فإليه النهاية.

وهذا وأضعافه من الجهل، وفساد العقل، قليل على من كذب رسل الله، وجاهر بمعاداته، ومعادة ملائكته، وأنبيائه، وأهل ولايته، فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله؟ !

وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة؟ !

وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله، والعمل بمرضاته، ومعرفة الطريق الموصلة إليه، ومآله بعد الوصول إليه؟ !!

إشراق الأرض بالنبوة وظلمتها بفقدها، المعرض عنها يتقلب في ظلمات والمؤمن في أنوار

فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغي، إلا من أشرق عليه نور النبوة، كما في المسند، وغيره، من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل))

فلذلك أقول: جف القلم على علم الله، ولذلك بعث الله رسله، ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء، والنور، والضياء، ومن لم يجبهم بقي في الضيق، والظلمة، التي خلق فيها، وهي: ظلمة الطبع،وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة الغفلة عن نفسه، وكمالها، وما تسعد به في معاشها ومعادها.

فهذه جملتها، ظلمات خلق فيها العبد، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى العلم، والمعرفة، والإيمان، والهدى، الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة.

فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه، وكماله، وسعادته، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض، فمدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، وقوله ظلمة، وعمله ظلمة، وقصده ظلمة، وهو متخبظ في ظلمات طبعه، وهواه، وجهله، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم؛ لأنه يبقى على الظلمة الأصلية، ولا يناسبه من الأقوال، والأعمال، والإرادات، والعقائد، إلا ظلماتها، فلو أشرق له شيء من نور النبوة، لكان بمنزلة إشراق (ص 192) الشمس على بصائر الخفاش.

بصائر أغشاها النهار بضوئه * ولائمها قطع من الليل مظلم *

يكاد نور النبوة يعمي تلك البصائر، ويخطفها لشدته، وضعفها، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها، وملائمتها إياها، والمؤمن عمله نور، وقوله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وقصده نور، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله.

قال الله تعالى:(الله نور السموات والأرض، مثل نوره، كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري، يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضئ، ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم).

ثم ذكر حال الكفار وأعمالهم، وتقلبهم في الظلمات فقال:(والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، والله سريع الحساب، أو كظلمات في بحر لجي، يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا، فماله من نور)

والحمد لله أولا، وآخر، وباطناً، وظاهراً، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.