صورة فى الجدار

'قصة من القاهرة

صورة فى الجدار

قصة محمود البدوى

دعتنى " سهير " لزيارة مرسمها فى قصر الفنانين بالغورية ، ولبيت الدعوة رغم حرارة الجو الشديدة فى ذلك النهار ، ورغم ازدحام شارع الأزهر ، وسوء حالة المواصلات فى هذا الحى التجارى الصاخب ..

ولم أفكر وأنا فى الطريق إليها ، فى كونى سأجد فى لوحاتها ما يهز المشاعر ، أو يحقق رغبة فنية بعيدة المنال .. لم أفكر فى هذا اطلاقا ، بل كنت فى واقع الحال أريد أن أقضى معها ساعات طويلة فى مكان هادىء بعيدا عن العيون ، ولم يكن هناك ما هو أنسب من هذا المكان . إذ كنت فى شوق شديد إليها بعد انقطاع طويل الأمد ، لم يكن لأحدنا سبب فيه ، فقد باعدت بيننا الظروف ، فانفصلنا بقسوة ، بعد عشرة هنية فى المعهد الإيطالى بحى عابدين استمرت فى صفاء ، بعيدا عن كل عواصف الحياة ، وكنا ندرس معا اللغة الإيطالية فى صف واحد ، وتوطدت بيننا فى ذلك الوقت مودة صادقة ، حسبها الزملاء فى المعهد حبا مسيطرا على القلب ..

وكنت قد زرت القصر قبل ذلك مرة واحدة ، ولاتزال فى ذهنى صورة عنه ، وأن كانت باهتة ..

وهو مكان هادىء جميل ، يطالعك منه السكون المطبق ، ولاشىء فيه حى ، غير أولئك الفنانين الذين يعملون فى داخل حجراتهم ..

وتستطيع أن ترسم فيه فى هدوء ، وأن تسترجع أو تستلهم العصر الفاطمى ، أو العصر الأيوبى ، أو العصر المملوكى ..

كما تستطيع أن تطالع ، وأن تكتب . كما تستطيع أن تصور فيلما .. وأن ترتكب جريمة قتل ، دون أن يحس بعملك أحد ممن فى داخل المبنى ..

والمكان شبه مهجور ، وتدرك ذلك لأول وهلة بمجرد ما تضع قدمك على بابه الكبير ، وإذا دخلت فيه أصبحت فى تواهة ، ويصعب عليك أن تهتدى لصاحب " المرسم " مهما تكن خبرتك السابقة بالمكان . ولهذا اتفقت على أن تنتظرنى " سهير " فى حوش المبنى ، وفى مواجهة الباب ، فى الساعة العاشرة تماما من صباح يوم الإثنين ..

ووجدتها وحدها فى الساحة ، وعلى وجهها اللوعة .. وكنت قد وصلت بعد الموعد المحدد بثلث الساعة .. لخطأ فى تقدير المسافة ، سيرا على الأقدام من شارع خيرت إلى حى الغورية ، لأنى لم أسلك الطريق الصحيح فى مثل هذه الحالة ..

ولو مشيت من شارع خيرت إلى الناصرية .. إلى عابدين .. إلى شارع حسن الأكبر .. إلى باب الخلق .. إلى باب المتولى .. ثم إلى الغورية لوصلت فى الميعاد ..

ولكننى اتخذت طريق شارع عبد العزيز والعتبة .. وكنت مخطئا .. وجاهلا بالتقويم المساحى للمدينة ..

ووجدتها واقفة فى قلق .. وقد فقدت الأمل فى وصولى .. لأنها تعرف عنى شدة الحرص على المواعيد ..

وكانت فى ثوب أرجوانى من قطعة واحدة .. مقصوصة الشعر .. عارية الساقين .. تلبس حذاء صيفيا خفيفا تطل منه أصابع قدميها .. وجعلها هذا شبه حافية ..

وقالت فى عذوبة وكل نبضات وجهها تنطق بالفتنة : ـ لماذا تأخرت ..؟ ـ الواقع أنه لاعذر لى .. فقد أخطأت فى تقدير المسافة .. ـ أجئت من عابدين ..؟ ـ لا .. من العتبة .. ـ اتخذت طريق " السوارس " منذ القدم .. لأنى غبى مثل البغل الذى كان يجرها ..

وضحكت " سهير " واهتزت شفتاها القرمزيتان .. وبرزت أسنانها فى صفاء اللؤؤ .. وظهر رضاب شفتيها .. واشتد سواد عينيها .. وبدا فيهما بريق خاطف امتد مع الضحك وتلألأ .. وقالت : ـ هيا ..

ومشيت وراءها فى المكان الموحش .. وأنا أتلفت يمينا ويسارا وبصرى على الأبواب المغلقة فى الساحة الواسعة .. عساى أجد فيها بابا مفتوحا .. أو انسانا يتنفس ، فيقلل من وحشة البناية .. ولكن لم أجد أحدا .. وحتى الغرفة التى على يسار الداخل من الباب لم يكن فيها الملاحظ ولا الفراش ..

وأحسست بالخوف عندما وصلنا إلى بداية السلم الحجرى .. فقد دخلنا فى ظلمة خفيفة .. ولكنها مخيفة .. ولكنى قاومت الخوف ..

وسمعتها تقول وهى تعتمد بذراعها على عضد الحائط : ـ إصعد .. ـ أصعد ..! وكيف أصعد أمامك .. هل أعرف الطريق ..؟ ـ إصعد وأنا أدلك ..

وظهر الخجل على وجهها واضحا ، وخفت الصوت .. وتضرجت الوجنتان .. وبدا أنها تعانى من خفر طبيعى آسر ..

وأدركت الموقف لغبائى بعد نصف دقيقة من التوقف .. وكان يمكن أن أدركه على التو .. لو كنت خبيرا بمثل هذه المواقف .. فهذه حركة طبيعية من أنثى ناضجة .. فإن طلوعها السلم أمامى ، سيكشف ساقيها وباطن فخذيها .. ولا حيلة لها فى تغطية هذه المفاتن مادمت وراءها ..

وصعدت أمامى بعد إصرارى على الجهل بالطريق .. وصعدت وراءها وأنا مغمض العينين ، ومفتوح العينين .. فإن الظلمة الخفيفة ، ودوران السلم جعلتا بصرى يحدق أكثر وأكثر .. وكانت تحدثنى بمكر لأنشغل بالحديث عن النظر ، ولكننى كنت أنظر وأجاوب فى اقتضاب وسهوم ، وأنا أحس برجفة فى قلبى بعد كل درجة أصعدها ..

وأخيرا وصلنا إلى باب مرسمها فى الطابق الثالث .. وفتحت الباب ودخلنا فى حجرة صغيرة ، ولكنها نظيفة ، وكل ما فيها كان مرتبا وموضوعا فى مكانه .. حشية طويلة عالية بجانب النافذة للراحة والاسترخاء .. ومنضدة وثلاثة كراسى من الخيرزان .. وطاولة فى جانب وأمامها لوحة منصوبة .. وفرش وألوان .. ثم لوحات تغطى جدران الغرفة إلى السقف .. وأبريق ماء .. ودورق كبير على يمينه كوب .. ووابور لصنع القهوة والشاى ..

وجلست على الحشية أتطلع لكل هذا ، وأنا مفتون بنظافة الحجرة وتنسيقها .. وسألتها : ـ ألا يوجد فنانون غيرك فى هذه البناية ..؟ ـ يوجد طبعا .. ولكنك لاتحس بوجودهم .. وأخذت تصنع القهوة ، وأنا أتأملها عن قرب .. وبعد أن شربنا القهوة .. بدأت ترينى رسومها ..

ولاحظت أنها تكرر رسما لوجه رجل واحد فى كثير من هذه اللوحات ، وأن ذلك قد يكون جاء عفوا ، وعن غير قصد ، دون أن تدرى ، وهى تحسبها وجوها مختلفة ..

وسألتها : ـ لمن هذا الوجه ..؟ ـ أنه ليس لأحد .. أنه من الذاكرة .. ـ ولكننى أتصور أننى التقيت به على ظهر باخرة .. ـ ولماذا على ظهر باخرة ..؟ ـ هذا ما أحس به فى داخلى .. وقد يكون ذلك لأنى كثير الأسفار .. ـ قد يكون تصورك صحيحا .. فما أكثر الوجوه المتشابهة ..

ثم شرعت ترينى باقى اللوحات التى فى الغرفة .. وكان معظمها عن حى الغورى ، وكانت طبيعية فى رسمها .. وتستعمل الزيت والفرشاة .. كما تستعمل الماء .. وتستعمل الفحم .. ولم أجد فى أى رسم منها الغموض الذى شاع فى الفنانين الجدد ، وإن كنت قد وجدت بعض الرمز ، ولم أجد فى هذا ما يستحق اللوم ..

وقالت فى دماثة : ـ بعد كل هذه الرسومات .. أريد أن أرسمك أنت يا شوقى .. ـ يسعدنى هذا .. ـ مادام الأمر يسعدك .. فمتى تحب أن تبدأ ..؟ ـ كما تشائين .. من الغد ..

ومرت ساعتان ونحن فى حديث متصل عن الماضى والحاضر .. ثم نظرت إلى ساعتها وقالت : ـ والآن نريد أن نتغدى .. فما الذى تحبه .. كباب وكفته .. أم نيفة ..؟ وأنت ضيفى .. ـ ضيفك .. قطعا لا.. فأنا رجل وأكبر سنا .. ولا أقبل هذا الوضع المقلوب .. ـ طفت وسحت بكل البلاد .. ولاتزال بعقلك القديم ..لم تتطور .. ـ أن التطور لايحدث فى هذا .. ـ المهم أن نأكل .. ولاداعى للنقاش .. وتصرف كما تحب وترغب ..

ونهضت لأخرج وأجىء بالطعام .. فقالت : ـ أبدا .. سأنزل أنا .. أنت لاتعرف السوق .. ـ ياستى .. لقد قضيت شبابى فى هذا الحى فكيف لاأعرفه .. ـ طيب .. خذ هذا الكيس النيلون .. وليكن الطعام لثلاثة .. فعندنا ضيف وسأنتظرك تحت .. ـ ولماذا تحت ..؟ ـ أخشى أن تضل الطريق وأنت صاعد .. ـ أبدا .. أنا أعرف الطريق إلى غرفتك أحسن منك ..

ومشت معى إلى بسطة السلم .. وأنا أشعر بفرحة لم أشعر بمثلها فى حياتى .. ولم أسألها عن الضيف الثالث من يكون .. مادام سيأتى وأراه على الغداء ..

ولما هبطت الدرجات ، وخرجت من البوابة ، وأصبحت فى الشارع ، واختلطت بالناس ، انتابنى الخوف .. خشيت أن أرجع ولاأجدها .. فعندما كانت غائبة عنى ذاب الشوق ، وذهب أباديد مع الأيام .. ولكن عندما وجدتها ، والتقيت بها ، عاد الشوق ملتهبا وحارا .. وكان ولعى بها فى كل الحالات متوهجا ، حتى ونحن فى المعهد الإيطالى ، وكان جسمها فى ذلك الوقت أكبر من سنها .. كان متكاملا ومثيرا .. وكانت ناضجة فى هذه السن المبكرة ومتفتحة للحياة ، وكنت كلما رافقتها فى جولة قصيرة إلى أن تركب الترام إلى بيتها .. أحس بعيون المارة تصوب نحونا كالسهام ، وكنا نتلافى هذه العيون مااستطعنا ، ونختار الأماكن المظلمة فى السير والتجوال ..

ولما رجعت بالطعام وجدتها أعدت المائدة بذوق وبراعة .. استعملت كل شىء يمكن استعماله كأداة من أدوات المائدة .. حتى أصبحت مائدة متكاملة ..

وجاء الضيف الثالث فى منتصف الساعة الثالثة بعد الظهر .. وكان شيخا محطما قد جاوز الثمانين ، يرتدى بدلة كحلية قديمة وقميصا غامقا .. وقد أطلق لحيته ، وترك شعر رأسه الأبيض يطول حتى يكون هالة لوجهه البيضاوى الأسمر ..

ورحبنا به وحدجنى بنظرة فاحصة ، إذ كانت عيناه هى كل ما بقى فيه من حياة .. وعرفتنى به " سهير " كأستاذها فى الرسم ، وأطرته وحمدت صفاته ، وبالغت فى فنه حتى شعرت بالغيرة منه .. وكان موضع العطف منها ، طوال ساعة الطعام ، تقدم له هذا وتؤخر ذاك ..

كانت تحنو عليه فى بنوة لم أشاهد مثلها فى بنت نحو أبيها .. وتذكرت الوجه الذى تكرر ملامحه فى رسمها ، ومعظم لوحاتها .. فأدركت أنه وجه هذا الرجل فى شبابه .. كان مستحوذا على قلبها تماما .. وكانت مأخوذة ومتيمة به فى شبابه ورجولته .. وأصبح فى شيخوخته موضع العطف والحنان ..

وعلمت من حديثها أنه يأتى فى غالب الأيام ليتغدى معها .. وأنه يعيش فى وحدة مرة .. فليس له من أهل فى القاهرة ، ولا فى سواها من المدن المصرية ..

وساءلت نفسى إذا كانت تغديه .. فمن الذى يعشيه ..؟ وشعرت بغصة .. كان رساما ، وانقطع عن الرسم لضعفه وشيخوخته وأصبح يعيش فى بطالة وفراغ وجوع ..

وقالت لى " سهير " أنه ينام فى حجرة مظلمة كئيبة فى حى " المغربلين " فى بيت متهدم كل ما فيه ينهار وينذر بالسقوط .. وكلما ذهبت إليه ، وصعدت السلالم شعرت بأنها ذاهبة ولن تعود ..

ولكن من عجائب القدر أنها تعود .. لتشقى مع شقاء هذا الفنان المسكين ..

وهو مع شقائه مكافح ، وعنده جلد على التغلب على الصعاب .. وقد تفرغ وهو مريض وجوعان لعمل لوحة عظيمة وضع فيها كل ما فى فنه وروحه .. من طاقة .. ولكن لم يتقدم لشرائها إنسان ..

وظلت مطمورة فى حجرته الكئيبة حتى طمسها التراب ..

وعصفت برأسى الخواطر .. الجوع موجود فى كل مكان فى العالم حيث لايوجد النظام ..

وتذكرت الصورة المشرقة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، عندما كان يعفر لحيته بالدخان ، وهو ينفخ فى النار تحت القدر الذى وضع فيه الطعام لأطفال جياع ..

هذه كانت دولة النظام والعدل فى أعلى مراحلهما .. أعلى ما يمكن أن يصل إليه حكم الإنسان ..

وأخذ الرسم البيانى فى الهبوط .. فهل يعود إلى الصعود ، ونحلم بالعصر الذهبى للإنسان .. فنقضى على الجوع ..

واستفقت من خواطرى على حركة من الشيخ .. فقد أبدى رغبته فى العودة إلى بيته ، ونهض فعلا ..

ونزلنا معه أنا " وسهير " لتوصيله إلى مسكنه .. وعلى باب البيت سلمت عليه ، ودخلت معه " سهير " حتى بسطة السلم .. وشاهدتها تضع فى جيبه ورقة مالية فى خفاء وهى تحسبنى لم أر ذلك .. وخرجت منشرحة الصدر .. وأخذنا الطريق إلى مرسمها لنستريح ..

وقالت سهير بعد أن دخلنا حجرتها : ـ أتشرب كوبا من الليمون ..؟ ـ لابأس منه .. ولكن أفضل عليه فنجانا من القهوة .. ـ قهوة مرة ثانية .. ألا تفكر فى النوم ولو ساعة ..؟ ـ القهوة لاتأثير لها على أعصابى .. أنام بعد شربها على التو .. ـ سأعد الليمون .. ثم القهوة .. ـ هذا شىء جميل ..

وبعد أن شربنا الليمون والقهوة ، واسترحنا قليلا أخذت تهىء لى الحشية .. وقالت : ـ استرح هنا .. وأنا سأتمدد هناك وأعمل لنفسى حشية أخرى ..

وتمدد كل منا فى مكانه .. اختارت لى مكانا بجوار النافذة لأشعر بطراوة الهواء .. أما هى فنامت هناك وراء الطاولة ، حيث تقوم لوحتها الكبيرة التى مازالت تعمل فيها ..

وأغلقت عينى ، كما أغلقت هى عينيها ، ولكنى كنت على يقين من أنها لم تنم .. ولاأدرى كيف سرحت بها أحلامها ..

وفتحت عينى فوجدتها نائمة بطولها على الحشية .. ورأسها المقصوص يعطيها وجه الصبى الناضر .. لم تكن قد ثنت فخذا ، ولا حركت قدما طوال هذه الرقدة منذ وضعت ظهرها على الحشية .. وعجبت لهذه المقدرة " اليوجية " أنه شىء لايقدر على مثله إلا من مارس لعبة " اليوجا " وبرع فيها ..

وفتحت عينيها فوجدتنى أنظر إليها .. ولعلها أدركت ذلك .. دون أن تكون فى حاجة للنظر .. وقالت : ـ ألم تنم ..؟ ـ أبدا .. ـ الغرفة حارة ..؟ ـ بالعكس انها جميلة الهواء .. ـ إذن نخرج ونتجول فى خان الخليلى .. ثم نطلع إلى الدراسة .. ـ هذه جولة جمياة .. تذكرنا بماضى أيامنا ..

وسرنا فى حى الغورية متجاورين على مهل ، من شدة الزحام .. وأحسست بنظرات المارة تصوب إلينا كالسهام .. كان جمالها مثيرا ، ويلفت الأنظار من أول وهلة .. وخشيت من هذه النظرات الوحشية .. ولعنت نفسى لأننى لاأحمل مسدسا .. فكيف أدافع عنها ، وأنا مجرد من السلاح ..

وعندما صعدنا إلى " الدراسة " شعرت بخوف مضاعف فماذا يحدث لو مرت بجوارنا سيارة .. وخطفوها .. كيف أدافع عنها وأنا أعزل .. كيف أدافع عنها فى هذا الظلام ، وهذا السكون أمام قوى الشر ..؟

إن الشر عندما يضع قدمه فى المكان الآمن يحوله إلى جحيم .. يحوله إلى أشد الأماكن خطورة ، ويقلب نوره الباهر إلى ظلام مطبق ..

كانت تشعر بقلقى ، ونحن فى الفضاء الواسع ، قريبا من المقابر .. والشمس قد غربت ، وأضيئت المصابيح البعيدة ..

وسألتها : ـ أين تسكنين ..؟ ـ فى العجوزة .. ـ سأوصلك .. ـ لاداعى لهذا التعب .. سآخذ " تاكسى " ..

وحاولنا إيقاف تاكسى بكل الوسائل .. وانقضت ساعة كاملة دون نتيجة .. وانطفأ النور فجأة ..

وسرنا على مهل ، ونحن فى حالة يأس من الركوب .. ولم تقبل ركوب الأتوبيس إطلاقا فى هذا الزحام الشديد وعلى الأخص بعد انطفاء النور ..

وعاد النور ففرحنا .. ولكن فوجئنا بانقطاعه مرة أخرى بعد عشر دقائق .. وأصبحنا فى ظلمة شديدة .. فسرنا ببطء شديد .. ثم توقفنا بعد أن أحسسنا بخطورة السير بجانب السيارات التى تسرع فى جنون فى هذا الظلام ..

وقالت " سهير " فى رقة وهى تدير عينيها من حولها : ـ ان أقرب مكان إلينا " المرسم " فلنذهب إليه حتى يعود النور ..

وكان حقا خير مكان يأوينا فى هذا الظلام ، ويقينا من شر الليل ، وشر الظلام ..

وابتعنا شمعة ، وابتهجت لما وجدت باب البناية لايزال مفتوحا ، ودخلنا على ضوء الشمعة .. وأمسكت " سهير " الشمعة بيد .. ويدى بيد .. وصعدنا ..

وكنت أشعر بفرح غامر .. فى هذه الظلمة .. وهذا السكون ، وشعرت بأننا وصلنا إلى العش الذى هيأه القدر لنا دون أن نبذل جهدا ..

أضاءت الشمعة الغرفة الصغيرة التى اتخذتها " سهير " مرسما بنور هادىء جميل .. نور أحببته وأحببت هدوءه ، وذكرنى بنور القمر الفضى فى القرية .. نور جميل ينساب فى رقة ، ولايؤذى البصر ، ولايثير الأعصاب .. نور مريح للقلب والنفس معا ..

جلسنا متجاورين على الحشية صامتين .. تسبح خواطرنا فيما يشبه الأحلام .. ونسينا أنفسنا .. ونسينا وجودنا كله .. ونسينا الظلام فى الخارج وانقطاع النور ..

وكنا نسبح معا فى ضوء الشمعة .. نسبح فى خواطر جميلة .. وصوبت إلىّ نظرة حالمة .. وقرأت فى عينيها الرغبة .. فأمسكت بيدها ..

وأمسكت بيدها ، وشعرت بالنعومة والعذوبة .. ولمست الحنان ، وهى تشد على يدى فى دلال .. وتتحول بجسمها وتكاد تضغط على صدرى .. وكدت أن أقبلها وأن أضمها .. ولكن لمحت باب المرسم لايزال مفتوحا .. فاتجهت نحوه لأغلقه ، وأنا أحس بضربات قلبى ..

وقبل أن أصل إلى الباب ، وأدير مقبضه لأغلقه ، لمحت صورة .. صورة لرجل فى منظار أسود معلقه فى اطار ذهبى .. فسألتها : ـ صورة من هذه ..؟ ـ انه زوجى .. ـ ولماذا المنظار الأسود ..؟ ـ لأنه أعمى ..

وأحسست بخنجر يمزق أحشائى .. أن العين العمياء تنظر إلىَّ فى سخرية قاتلة .. انطفأت الجذوة التى اشتعلت فى جسمى ، وحل محلها لوح من الثلج حط على عاتقى .. وأحسست بالبرودة الشديدة وبالرعشة .. وأنا راجع عن الباب دون أن أغلقه ..

تركته مفتوحا كما كان ..

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=====================

نشرت القصة بمجلة الثقافة بعددها رقم 50 فى نوفمبر 1977وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى تحمل نفس الاسم

=================================