قصة الحضارة - ول ديورانت - م 8 ك 2 ف 11

مراجعة 02:50، 15 أبريل 2016 بواسطة Shafei (نقاش | مساهمات) (←‏2- المسرحية في فترة عودة الملكية)

(فرق) → مراجعة أقدم | مراجعة معتمدة (فرق) | النسخة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

صفحة رقم : 10951

قصة الحضارة -> عصر لويس الرابع عشر -> إنجلترا -> من دريدن إلى سويفت -> صحافة حرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفصل الحادي عشر: من دريدن إلى سويفت 1660 - 1714

1- صحافة حرة

ترى ماذا حد برجل فرنسي أن يكتب في 1712 بزت "إنجلترا فرنسا في الإنتاج الأدبي كما وكيفما وأن مركز الحياة العقلية والفكرية.. انتقل أكثر فأكثر إلى الشمال حتى قام الإنجليز حوالي عام 1700 "بأكبر دور خلاق(1)" إن رجلاً إنجليزياً نعم بمآثر فرنسا يرد التحية فيقول: إن جزءاً من هذا الحافز جاء عن طريق آداب السلوك والعادات التي جلبها شار الثاني والمهاجرون العائدون، وأن جزءاً آخر نبع من ديكارت وباسكال وكورنيل وراسين وموليير وبوالو ومدموازي دي سكودري ومدام دي لافايت، ومن الفرنسيين المقيمين في إنجلترا مثل سانت أفرموند وجرامونت. وأنا لنرى التأثير الفرنسي في الملهيات الشهوانية الجنسية والمآسي البطولية التي ظهرت على المسرح في عودة الملكية، وفي الانتقال من غزارة النثر في عهد إليزابيث وتلافيف فترات ملتون إلى النثر المهذب المصقول المنطقي الذي دبجه دريدن وهو يكتب المقدسات وإلى الشعر الذي نظمه بوب: ومضى الآن قرن من الزمان (1670-1770) كان الأدب الإنجليزي فيه نثراً، حتى ولو كان موزوناً مقفى، ولكنه نثراً فخماً واضحاً ممتازاً من الطراز الأول.

ومهما يكن من أمر فأن الأثر الفرنسي كان مجرد استحثاث، ولكن جذور المسألة كانت في وسع إنجلترا نفسها: في عودة الملكية المقرونة بالبهجة والفرح والتحرر، وفي التوسع الاستعماري، وفي إثراء الفكر بفضل التجارة، وفي الانتصارات البحرية على الهولنديين، وفي قهرها (1713) لفرنسا التي كانت قد انتصرت على إسبانيا. ومن ثم انفتح الطريق إلى الإمبراطورية شمالاً، وكما أجرى لويس الرابع عشر الرواتب على المؤلفين بوصفها رضيخة أو رشوة تمنح للأنصار، فان الحكومة الإنجليزية، بطريقة شبيهة بهذه، كافأت الشعراء أو الثائرين المحبين لوطنهم أو المشايعين للحكومة - دريدن كونجريف، جاي، بربر، أديسون، سويفت - بالرواتب تخصص لهم، ويتناول الطعام على موائد الأرستقراطية، وبحصة على المبيعات من المطبوعات، أو بالوظائف ذوات الدخل الكبير والجهد اليسير في الإدارة، من ذلك أن أحدهم صار وزيراً، ونظرا فولتير في شيء من السد إلى هذه الوظائف السياسية(2). ورعى شارل الثاني العلم والجمال لا الأدب والفن. ولم يكترث وليم الثالث والملكة آن بالأدب. ولكن وزراءهم - حين وجدوا أن الكتاب نافعون في عصر الصحافة والنشرات والمقاهي والدعاية - أغدقوا المال على الأقلام التي يمكن أن تخدم التاج أو الحزب أو الحرب. وأصبح الكتاب سياسيين ثانويين، وبعضهم مثل برير Prior، صار من رجال السلك الدبلوماسي، وبعضهم مثل سويف وأديسون برع في التعيين في الوظائف وفي المحسوبية وفي التدخل في شئون السلطة. وأهدى المؤلفون أعمالهم إلى اللوردات وسيدات المجتمع، تقديراً كريماً لما ينتظر أن يحظوا به من خيرات وفضل وعطف ووصال، في عبارات إهداء ملؤها المديح والإطراء والتحيات والتمنيات، ممل جعل هؤلاء السيدات وأولئك اللوردات أسمى من أبوللو أو فينوس في جمال الجسم والقوام، ومن شكسبير وسافو في كمال العقل والذهن.

وساعدت الحرية الذهب على إطلاق العنا لفيضان المداد وجريان القلم وكانت قصيدة ملتون "أريوباجيتيكا" قد أخفقت في القضاء على "قانون الرقابة" التي تحكمت به الرقابة في الصحافة في عهد ملوك أسرتي التيودور وستيوارت، واستمر القانون نافذ المفعول في عهد كرومول غير المستقر، وبعده في عودة الملكية لآل ستيوارت، ولكن حين بدأت حكومة جيمس الثاني في إزعاج الأمة، شرع عدد أكبر فأكبر من كتاب الكراسات والنشرات يتحدون القانون ويدخلون السرور على قلوب الشعب. وعندما اعتلى وليم الثالث العرش، كان هو وأنصاره "الأحرار" مدينين بأكبر الفضل للصحافة إلى حد أنهم عارضوا تجديد قانون الرقابة، فانتهى العمل به 1694، ولم يجدد، وتدعمت حرية الصحافة تلقائياً. وربما ظل الوزراء الملكيون يعتقلون الكتاب بسبب هجماتهم العنيفة المتطرفة على الحكومة وظل "قانون التجديف" (1697) يفرض عقوبات صارمة على التشكك في أساسيات الدين المسيحي، ولكن إنجلترا نعمت منذ ذلك الوقت فصاعداً بحرية الأدب التي أسهمت، على الرغم من سوء استخدامها غالباً، إسهاماً كبيراً في نمو الفكر الإنجليزي.

وتضاعفت عدد الدوريات، وانتظم صدور الصحف الأسبوعية منذ 1622، وعطلها كرومول جميعاً ما عدا اثنتين، ورخص شار الثاني في صدور ثلاث منها تحت إشراف رسمي، أصبحت واحدة منها هي "أكسفورد" وفيما بعد لندن جازيث "الناطقة باسم الحكومة" وكانت تصدر نصف شهرية أو نصف أسبوعية منذ 1665. وفور إلغاء قانون الرقابة صدرت عدة صحف أسبوعية. وفي 1695 أسس المحافظون أول جريدة يومية إنجليزية "ساعي البريد Poat Boy" والتي لم تصدر إلا أربعة أيام فقط، حيث عاكسها "الأحرار" في الحال بصحيفة "البريد الطائر Flying Poat". وأخيراً في 1702 أصبحت The English Gourant هي الصحيفة اليومية المنتظمة في إنجلترا - فرخ صغير من الورق مطبوع على وجه واحد فقط، تقص الأنباء ولا تدون آراء، ومن هذه الهبات المتقطعة نشأت عمالقة الإعلان التي نراها اليوم بين أيدينا.

وأتى ديفو بمستوى جديد في صحيفة "ريفيو" (1704-1713) وكانت أسبوعية تقدم التعليقات كما تقدم الأنباء. وهي التي بدأت القصة المسلسلة وتبعه ستيل في "تاتلر" (1709-1711). وسما هو وأديسون بهذا التطور إلى ذروته التاريخية في "سبكتاتور" (1711-1712) وروع حكومة المحافظين التوزيع الإجمالي التوزيع الإجمالي وتأثير الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية، ففرضت عليها ضريبة تمغة تتراوح بين نصف بنس وبنس واحد. مما جعل البقاء مستحيلاً بالنسبة لمعظم الدوريات. وكانت "سبكتاتور" إحدى الدوريات التي احتجبت. وقال سويفت لبطلته وصديقته ستللا: "لقد دمروا شارع Grub بأسره(3) (الشارع الذي يقطنه محررو الصحف). وأصدر بولنجبروك في 1710 "أجزامنر Examiner" الأسبوعية ليدافع بها عن سياسة وزارة المحافظين. ووجد في جوناثان سويفت رجلاً واسع الاطلاع لاذع القدح والطعن، متوقد الذكاء. لقد وقع المال على أداة جديدة، وطغى سلطان الصحافة الدورية شيئاً فشيئاً على تأثير المنابر في تشكيل الرأي العام، وإعداده للأهداف الخاصة، ودخلت التاريخ قوة جديدة تنزع عن الناس الصبغة الدينية وتنزع بهم إلى التعلق بالأمور الدنيوية.


2- المسرح في فترة عودة الملكية

فيما بين عامي 1660 و 1700 كان ثمة أداة أرى شكلت أو شوهت أو عبرت مجرد تعبير عن روح لندن المجردة من الحيوية والنشاط. وحيث استطاب شارل الثاني المسرحية الباريسية فإنه أجاز فتح مسرحين: الأول للملك وجماعته في "دروري لين" والثاني لدوق يورك وجماعته في "لنكولن ان فيلدز" وفي 1705 افتتح مسرح الملكة في هابماركت، ولكنها نادراً ما شهدت التمثيل فيه. وفي أيام شار الثاني كان مسرحان اثنان يفيان بالحاجة عادة. وظل البيوريتانيون يقاطعون المسرحية، أما الجمهور بصفة عامة على أية حال، فلم يكن يرخص له بدخول المسارح بين 1660 و 1700(4) ولم يقصد إليها في معظم الأحوال إلا كل عربيد ماجن من رجال الحاشية، وحثالة الطبقة الأرستقراطية والمتصلين بها، والأثرياء المتعطلين الذين يقضون أوقاتهم في المسارح والنوادي وسباق الخيل وغيرها. ويقول دكتور جونسون الوقور: "أن المحامي الوقور ليحط من قدره ويمتهن كرامته، وأن المحامي الناشئ ليسيء إلى سمعته، إذا غشى بيوت الإباحية المنحلة هذه(5) "وشكل النساء قسماً صغيراً من النظارة على أنهن إذا ذهبن إلى المسرح كن يخفين شخصياتهم وراء الأقنعة(6). وكانت العروض تبدأ في الساعة الثالثة بعد الظهر، حتى إذا تحسنت الإضاءة في الشوارع (حوالي 1690) أجلت إلى السادسة. وكان أجر الدخول أربعة شلنات للمقصورات وللمقاعد الخلفية شلنين ونصف وللشرفات شلناً واحداً. وكانت أجهزة التأثير المسرحي وتغيير المناظر أكثر إتقاناً بكثير عما كانت عليه في أيام إليزابيث. ولو أن حجرة نوم واحدة وملحقاتها ربما كانت تكفي لمعظم ملهيات عصر عودة الملكية، وحلت الممثلات محل الغلمان في تأدية أدوار النساء، وكن كذلك عشيقات، من ذلك أن مرجريت هيوز التي مثلت ديدمونا لأول مرة ظهرت فيها امرأة على المسرح الإنجليزي (8 ديسمبر 1660) كانت عشيقة الأمير روبرت(7). وفي عرض لمسرحية دريدن "الحب الإستبدادي" تعلق قلب شار الثاني لأول مرة بخليلته نل جوين التي كانت تمثل دور فاليريا(8). إن طبيعة جمهور المشاهدين، ورد الفعل ضد البيوريتارية، وأخلاق البلاط، وذكريات روايات عصري اليزابيث وجيمس الأول (وبخاصة روايات بن جونسون) وأحياء هذه الروايات واستعادة تلك الذكريات من جديد، وتأثير المسرح الفرنسي والملكيين المهاجرين، كانت كلها عوامل تجمعت لتشكل المسرحية أيام عودة الملكية.

وكان الأسم اللامع في "مسرحية المأساة" في عودة الملكية هو درايدن لنتركه مؤقتاً، لنتحدث عن مسرحية توماس أوتواي "الحفاظ على فينيسيا" التي عمرت بعد كل روايات دريدن وظلت تمثل حتى 1904. إنها قصة حب مطعمة بمؤامرة أصدقاء كونت دي أوزونا لقلب سناتو فينيسا في 1616. ويرجع ما صادفته من نجاح في البداية من ناحية، إلى الصورة الساخرة التي رسمتها لإرل شافتسبري الأول (عدو شارل الثاني وصديق لوك) في شخصية أنطونيو الذي يحب أن تضربه عشيقته البغي، ومن ناحية أخرى إلى التشابه بين هذه المؤامرة وبين المؤامرة البابوية "الحديثة" ومن ناحية ثالثة إلى تمثيل توماس بترتون ومسز اليزابيث باري، ولكن الرواية تقف اليوم على قدميها إن مناظرها الهزلية سخيفة مؤذية، خاتمتها تنشر الموت في إجماع أقرب شبهاً بالمسرحية الموسيقية (الأوبرا)، ولكن حبكة الرواية متقنة دقيقة، وشخوصها مصورة تصويراً مميزاً، والحركة مسرحية إلى أبعد حد، والشعر المرسل فيها ينافس مثيله في المسرحية في عصر اليزابيث، باستثناء مارلو وشكسبير. ووقع أوتواي في غرام مسز باري، ولكنها آثرت عليه معاشرة إرل روشستير، وبعد كتابه عدة مسرحيات أخرى ناجحة أخرج الشعر سلسلة من الروايات لم يكتب لها النجاح، وانحدر إلى مهاوي الفقر والعوز وفي رواية أنه مات جوعاً(9).

إن ذكرى المسرحية في فترة عودة الملكية حية من أجل ملهياتها فإن ما كان في هذه الملهيات من مرح وسخرية، ومحاورات داعرة، ومغامرات في المخدع، بالإضافة إلى قيمتها في أنها مرآة تعكس حياة طبقة واحدة في جيل واحد. كل أولئك أكسبها شعبية جزئية، إن لم تكن مختلسة لا تكاد تستحقها. فإن مجالها ضيق إذا قيست بملهيات عصر اليزابيث أو موليير، وأنها لا تصور الحياة بل تصف عادات المتعطلين المتسكعين في المدن والحاشية الخليعة المتهتكة، وتتجاهل الريف إلا إذا أخذوه هدفاً للاستهزاء والسخرية، أو "سيبيريا" ينفى إليها الأزواج زوجاتهم المتطفلات. إن بعض المسرحيين الإنجليز شاهدوا موليير يمثل أو تمثل رواياته، واستعار بعضهم شخوصه أو حبكات مسرحياته، ولكن أحداً منهم لم يبلغ نزعته في مناقشة الأفكار الأساسية، فالفكرة الأساسية الوحيدة في هذه الملهيات هي أن الزنى هو الهدف الرئيسي لأعظم عمل بطولي في الحياة. وكان المثل الأعلى للرجل فيها هو ما وصفه دريدن في "المنجم الهزاة" على أنه "سيد ماجد، رجل ثري عاطل يغشى النوادي والمقاهي والمسارح والمواخير، يرتدي أفخر الثياب، يأكل ويشرب ويفسق ويعاشر البغايا إلى أقصى حد ممكن". وفي رواية فاركو "خداع العاشقين" جاء على لسان أحد الشخصيات، وكأنما يقول سيد مهذب لآخر: "إني أحب جواداً جميلاً ولكني أتركه لرجل آخر ليتولى العناية بأمره، وإني كذلك بالمثل أحب سيدة جميلة"(10) وهذا لا يعني أنه لا يشتهي زوجة جارة ولا يمد عينيه إليها، بل أنه يريد أن يستمتع بكل مفاتنها وأطايبها، على حين ترك لزوجها أن يرعى شئونها وينفق عليها. وفي رواية كونجريف "طريق الحياة الدنيا" يقول ميرابل المعشوق موضع الإعجاب لزوجة صديقه "يجب أن تشعري بالاشمئزاز والنفور والكراهية لزوجك مما يجعلك تستمتعين بحبيبك أو عشيقك(11)". ويندر أن ترى الحب في هذه الروايات يرتفع فوق الشهوة الجسدية التي تلتهف بين جوانح الطرفين، يريدان إطفاءها. وإنا لنتلهف عند قراءتها أن تقع العين على ظل لمعاني النبل والشرف، ولكنا لا نرى فيها إلا أخلاقيات المواخير وبيوت الدعارة.

إن وليم وتشرلي هو الذي استهل هذا التقليد، وكان أبوه ملكياً من أسرة عريقة تملك ضيعة كبيرة، وأرسل ولده إلى فرنسا لتلقي العلم، عندما تولى البيوريتانيون مقاليد الحكم في إنجلترا، إصراراً منه على ألا ينشأ الولد بيوريتانياً. ولم يعتنق وليم قط هذا المذهب، ولكن الأسرة صعقت حين اصبح كاثوليكياً. وسرعان ما عاد إلى البروتستانتية لدى عودته إلى إنجلترا، وهناك درس في أكسفورد وتركها دون الحصول على درجة جامعية. وانصرف إلى كتابة الروايات. وجمع ثروة من رواية "حب في الغابة" (1671) التي أهداها إلى ليدي كاسلمين. واستقبله في البلاط الملك الودود اللطيف الذي لم يشك ولم يتذمر حين وجد آن وتشرلي وتشرشل كليهما، يشاركانه غرام عشيقته كاسلمين(12).

واشترك وليم في الحرب الهولندية 1762، ببسالة متوقعة من سيد ماجد، وعاد إلى إنجلترا ولم يمسسه سوء، وأحرز نجاحاً آخر في "الزوجة الريفية" (1672). ودعا النظارة في المقدمة - إذا لم تعجبهم الرواية - إلى دخول غرفة ملابس الممثلين في ختامها، وهناك:

"فإننا عن طيب خاطر.. نتخلى لكم يا شعراءنا، عن العذارى، لا بل عن عشيقاتنا كذلك".

وخلاصة الموضوع أن مستر بنشويف اصطحب زوجته معه لقضاء أسبوع في لندن، وأحكم حراستها إلى حد أنها أوقعت في شرك الغواية تحت سمعه وبصره، ذلك أن من يدعى مستر هورنر - العائد من فرنسا لتوه، والمتلهف على الوصول إلى الزوجات دون عائق - أذاع بين الناس أنه خصي، ومن هنا يستنتج بنشويف أنه لا حرج في أن يفتح بيته لمثل هذا العنين العاجز، ولكنه سرعان ما يكتشف أن زوجته تكتب رسالة غرامية إلى هذا الزير المتودد إليها الذي أدعى العنة، فيرغمها على كتابة رسالة أخرى تكيل له فيها أقذع السباب والشتائم، وما أن أدار الزوج ظهره حتى أسرعت هي فوضعت رسالتها الغرامية الأولى مكان الرسالة الثانية التي تنم عن الغضب والاستياء. وسلم الزوج المزهو المفاخر بالسيطرة على الموقف الرسالة الأصلية إلى هورنر. وبعد فترة اتجه ظن الزوج إلى أن هورنر اقدر مما تردده عنه الشائعات، ففكر في أن يشغله، ووافق على أن يأخذ إليه أخته أليثيا. وتتنكر الزوجة حتى تبدو وكأنها أليثيا، ويحملها زوجها إلى عشيقها. وتختتم الرواية "برقصة الديوث"، وهورنر هو المنتصر في النهاية، ثم تلقى إحدى الممثلات إحدى الممثلات شعراً توجه فيه اللوم والتقريع إلى الرجال الحاضرين، لأنهم لا يتحلون بقدر كاف من الرجولة. "وقد يظل الناس على اعتقادهم بأنكم ممتلئون قوة ورجولة، ولكنا نحن النساء لا سبيل إلى خداعنا".

واقتبس وتشرلي كثيراً من "الزوجة الريفية" من رواية موليير "مدرسة الأزواج ومدرسة الزوجات" وفي روايته التالية "التاجر الشريف" حول وتشرلي شخصية "ألست" في رواية موليير "مبغض البشر" إلى شخصية كابتن مانلي الذي لم تتعد فكرته عن التعامل الشريف، مجرد تناول كل الناس والأشياء بلغة بذيئة مقذعة. والغريب المدهش الأمر أن سكان لندن، بل حتى سكان بعض الضواحي، أحبوا وصف الحياة على أنها سعى متصل وراء شهوة الجسد، يلطف منه بعض التجديف في الحديث. وفي إحدى المكتبات في "تنبريدج ولز" سمع وتشرلي إحدى السيدات تسأل عن كتابه المنشور حديثاً "التاجر الشريف" فغمرته نشوة الفرح، ولم تكن هذه إلا كونتس دور جيدا، الأرملة الثرية فطلب يدها وتزوجها. ووجد أنها كانت تضعه تحت مراقبة أشد وأكثر مثابرة مما كان يفعل بنشويف، ولكنها ماتت فجأة فظن أن أموالها لا بد أن تؤول الآن إليه، ولكن القضايا القانونية التي تشابكت فيها التركة حالت دون ذلك، فلم يستفد منها شيئاً. وعجز عن تسديد الديون التي كان قد اقترضها ثقة منه بأيلولة التركة إليه، فأرسل إلى السجن حيث قضى سبع سنين وهنت فيها عزيمته وذبل نشاطه، حتى جاء جيمس الثاني، وسدد - قبل إرتداد وتشرلي إلى الكاثوليكية ثانية أو بعده - ديونه وأجرى عليه راتباً. وبلغ وتشرلي أرذل العمر في شقاء ومعاناة. وظل مع عجزه يلاحق النساء، ويكتب نظماً، حاول صديقه الشاب بوب أن يحوله إلى شعر. وفي سن الخامسة والسبعين تزوج الفاجر العجوز امرأة شابة، ولم يعمر بعد الزواج إلا عشرة أيام، ووافته المنية في أول يناير 1716.

وكان السير جون فانبرة وألطف من كتب عن الزنى والزناة. وكان "جون بول" (الرجل الإنجليزي النموذجي) يتجسد فيه تماماً، فهو خشن مرح طلق المحيا، يحب طعام إنجلترا وشرابها، ولو أن جده لوالده هو جلليس فان برو، وهو فلمنكي من مدينة غنت قدم إلى بريطانيا في عهد جيمس الأول. وكان جون يبشر بحسن المستقبل إلى حد أنه أرسل إلى باريس في سن التاسعة عشرة ليدرس الفن. فلما عاد في الحادية والعشرين التحق بالجيش، وقبض عليه في كاليه بتهمة أنه جاسوس بريطاني، وقضى مدة في الباستيل، وهناك كتب المسودة الأولى "للزوجة المغيظة" حتى إذا ما خرج من السجن عكف على كتابة الروايات. وفي ستة أسابيع - كما يروى لنا هو - فكر وتصور، ثم كتب ومثل رواية "النكسة" (1696)، بما فيها من هجا مرح للمتأنقين في لندن، مثل لورد فوبنجتون وملاك الأرض في الريف مثل سيرتنبلي كلمزي، ومس هويدن الشهوانية. وكان سيرتنبلي يضعها تحت الرقابة والحراسة منذ بلغت الحلم، وفرح وانتهج لبراءتها وطهرها. "يا للبنت المسكينة: أنها ستفزع وتنزعج في ليلة عرسها، لأنها، والحق أقول، لا تميز الرجل من المرأة إلا بلحيته وبنطلونه القصير"(14). ولكن مس هويدن نفسها على نحو آخر: "من حسن حظي، هناك عريس قادم، وإلا تزوجت الخباز، سأفعل ذلك. فما من أحد يستطيع أن يقرع الباب، ولكن حالياً يجب علي أن أختبئ، وهنا يكن الكلبة السلوقية الصغيرة تحوم حول البيت طوال اليوم، أنها تستطيع ذلك". وعندما يأتي توم فاشون ليطلب يدها، ويمهله أبوها أسبوعاً، تحتج الفتاة وتقول "أسبوع: ولماذا؟ إني أكون عند ذاك امرأة عجوزاً"(15).

ونجحت مسرحية "النكسة" نجاحاً كبيراً إلى حد أن فانبرو تعجل إكمال "الزوجة المغيظة" (1697) وكانت هذه من أنجح أعمال ذاك العصر. وظل دافيد جارك طيلة نصف القرن التالي يتحف لندن ويمتعها بتمثيله المستهتر لشخصية سيرجون بروت، وهي أعظم شخصية مشهورة مذكورة بين كل شخوص المسرحيات في فترة عودة الملكية. وسيرجون هذا وسيم هزلي ساخر يمثل المظاهر الأقرب شبهاً بالخنزير في ملاك الأرض الإنجليز - يشرب الخمر، ويتباهى، ويهدد ويتوعد، ويستأسد، ويعلن ويشكو من "عصر الإلحاد اللعين هذا". ويفتح المسرحية برأيه في الزواج حيث يقول:

"أي لحم متخم هو الحب، إذا كان متبلاً بالزواج، إن عامين قضيتهما متزوجاً قد أفسدا على حواسي الخمس. فكل شيء أراه، وكل شيء أسمعه، وكل شيء أحس به، وكل شيء أشمه، وكل شيء أتذوقه، أظن أن فيه زوجة. فما ضجر ولد بمؤدبه، ولا بنت ولا رجل بعمل الكفارة، ولا عذراء عجوز بطهرها وعفتها، قدر ضجري بزواجي وسأمي إياه. ومذ عرفت زوجته آراءه، فإنها تفكر في ترويضه بأن تجعل منه ديوثاً.

ليدي بروث: إنه أساء معاملتي أبلغ إساءة مؤخراً. حتى كاد يستقر عزمي على أن ألعب دور الزوجة بكل ما في الكلمة من معنى، وأجعل منه ديوثاً وأخونه..

بليندا: ولكنك تعلمين أنه ينبغي علينا أن نقابل الإساءة بالإحسان.
ليدي بروث: ربما كان هذا خطأ في الترجمة(16)".

وهنا تأتي جارتها ليدي فانسيفل التي تميل إلى ما تميل إليه ليدي بروث، وتناقش شكوكها ومخاوفها مع وصيفتها الفرنسية التي تجيب بالفرنسية وهي هنا مترجمة:

  • ليدي ف: سمعتي ياآنسة: سمعتي.
  • الوصيفة: سيدتي، إذا فقد المرء سمعته يوماً، فلن تعود بعد ذلك تزعجه.
  • ليدي ف: تباً لك يا آنسة، تباً لك، أن السمعة جوهرة.
  • الوصيفة: وقيمتها غالية جداً يا سيدتي.
  • ليدي ف: لماذا إذن، يقيناً أنك لن تضحي بشرفك من أجل متعتك؟
  • الوصيفة: إني فيلسوفة.
  • ليدي ف: إنه لا يتفق مع الشرف (لقاء العاشقين).
  • الوصيفة: ولكنه المتعة....
  • ليدي ف: ولكن إذا كان العقل يصلح من شأن الطبيعة.
  • الوصيفة: عندئذ يكون العقل وقحاً، لان الطبيعة أخته الكبرى.
  • ليدي ف: إذن أنت تؤثرين طبيعتك على عقلك؟
  • الوصيفة: نعم، بكل تأكيد.
  • ليدي ف: ولماذا؟
  • الوصيفة: لأن طبيعتي تغمرني بالبهجة والسرور، أما عقلي فيورثني الجنون(17).

وربما كانت هذه الرواية هي التي أثارت غضب جرمي كوليير إلى حد أنه في العام الذي تلا ظهورها، نشر هجوماً عنيفاً على المسرحية في فترة عودة الملكية، وعلى فانبرو بصفة خاصة. وكان كوليير كاهناً إنجليكانياً على درجة من العلم، ومن الشجاعة والتشدد في عقيدته. وحيث كان قد أقسم يمين الولاء لجيمس الثاني 1685،فإنه أبى أن يقسم يمين الولاء لوليم وماري 1689. واستنكر "الثورة الجليلة"، حتى إلى حد التحريض على التمرد والعصيان. وقبض عليه، ووجد أصدقاؤه مشقة كبيرة في إقناعه بأن يسعوا لإطلاق سراحه بكفالتهم.ومنح الغفران المطلق لرجلين كانا على وشك أن يشنقا بتهمة التآمر على ما اعتبر كوليير أنها حكومة اغتصبت الحكم. فأنكر أسقفه عليه تصرفه وأدانه النائب العام، ولكنه رفض المثول أمام أية محكمة. وعاش طريد العدالة محروماً من الكنيسة حتى وافته المنية. ولكن الحكومة قدرت نزاهته، ولم تلاحقه بعد ذلك. وعبر وليم الثالث عن تقديره الكبير للعصفة التاريخية التي قام بها كوليير.

وكان الكتاب الذي نشره كوليير يحمل عنوان "لمحة قصيرة عن الانحلال والدنس في المسرح الإنجليزي". وكان يحوي، كما حوت معظم الكتب، هراءً كثيراً. واستنكر الراعي الغاضب في المسرحية الإنجليزية أخطاء كثيرة قد تبدو لنا الآن تافهة، أو أنها ليست أخطاء إطلاقاً، واعترض على أية إشارة غير كريمة لرجل الدين، ونشر في سخاء شديد، مظلة العصمة من الخطأ فوق زعماء الوثنية والكهنة الكاثوليك والقساوسة المنشقين. أدان كثيراً من كتاب المسرح، من أشبللس إلى شكسبير إلى كونجريف ودريدن، حتى ليشعر كل المتهمين ببراءتهم لمجرد حشرهم في زمرة هؤلاء العظماء. ولكن كوليير أضعف قضيته في مجادلته في أن للمسرح العام يجب إلا يتناول الجريمة أو الانحلال الخلقي مطلقاً. ولكنه وجه بعض ضربات ناجحة لأن الأهداف البراقة واجهته في كل مكان. فنعي على كثير من كتاب المسرح في فترة عودة الملكية ما أبدوا من إعجاب بالإسفاف في الزنى والفسق، وأثر ذلك على جمهور المشاهدين. وظل الكتاب حديث لندن طيلة عام كامل. ودافع الروائيون عن أنفسهم بأساليب متنوعة، وتحول فانبرو عن المسرحية إلى هندسة العمارة، وانهمك لأكثر من عشر سنوات في بناء قصر بلنهيم، شاد قصر هوارد على طراز عمارة بللاديو الروماني الجميل (1714). واعترف دريدن بخطاياه، وأظهر ندمه على ما فعل وأنكر كونجريف جريمته، ولكنه أصلح من فنه.

وبلغ وليم كونجريف بمسرحية عصر عودة الملكية ذروتها ونهايتها معاً. ولد بالقرب من ليدز في 1670، في أسرة كانت عراقتها موضع فخره واعتزازه وسط كل ما أحرز من فوز ونجاح. وكان والدة قائد حامية إنجليزية في أيرلندة، ولذلك درس وليم في مدرسة كلكني، وجلس على نفس المقعد الذي جلس عليه جوناثان سويفت، ثم في ترنتي كولدج في دبلن، ثم قي مدل تمبل في لندن. وسرى في دمه جرثومة الطموح الأدبي من بيئة كان في فيها الأذواق أنفسهم يؤلفون الكتب. وفي أول سنة كان يدرس فيها القانون كتب "المستخفية" (1692) التي امتدحها إدموند جروس "لمرحها ودعابتها الخفيفة" ولأنها أقدم قصة طويلة (عن العادات وآداب السلوك؟) في الإنجليزية(18)"، ولكن صمويل جونسون قال عنها "خير لي أن أمتدحها من أن أقرأها(19)"، وحظي كونجريف بالشهرة من قفزة بملهاته الأولى "الأعزب العجوز" 1693، التي أقسم دريدن - وهو عميد الأدب المعترف به في إنجلترا في هاتيك الأيام - بأنه لم ير قط خيرا منها، باكورة للعمل في مجال الرواية ومذ كان كونجريف غير واثق من أن الرجل الماجد ينبغي أن يكتب للمسرح، فأنه اعتذر بأنه إنما كتبها "لمجرد التسلية في فترة إبلال بطئ من علة ألمت به"، ومن هنا قال كوليير "ليس لي أن أتساءل ماذا كانت علته، ولكن لابد أنها كانت خطيرة جداً، وأسوأ من العلاج(20)". أما هاليفاكس فإنه اتفق بالرأي مع دريدن، حتى أنه عين كونجريف في منصبين يدران عليه دخلاً كافياً يستطيع بفضله أن يحتفظ بمكانته، سيداً كريماً، وأن يعمل في عالم المسرح.

ولم تلق روايته الثانية "التاجر المخادع" (1694) ترحيباً كبيراً، ولكن إطراء دريدن، الذي وضع كونجرف مع شكسبير في مرتبة سواء، شد من أزر المؤلف الناشئ، وفي 1695، في سن الخامسة والعشرين، عاد إلى خشبة المسرح برواية "الحب للحب" التي فاق نجاحها كل ما عرف من نجاح. ولكن كوليير شجب الرواية واتهمها بأنها تؤيد الفسق والفجور وتشجعهما، وبلغ رد كونجريف عليه من التفاهة حداً انقطع معه عن المسرح طيلة ثلاثة أعوام، وعندما عاد إليه برواية "طريق الدنيا" (1700) كان قد أفاد من النقد القاسي، وأوضح أن الموهبة لا تعتمد على قلب الوصايا العشر رأساً على عقب. وكان في هذه الرواية التي قال عنها سوينبرن المغالي أنها "التحفة التي لا نظير لها والتي لا تدانيها رواية أخرى في روائع الملهاة الإنجليزية(21)، نقول كان فيها بعض أخطاء المسرحية في عصر عودة الملكية، ولكن ليس فيها شيء من رذائلها، وقد ترهقنا عند قراءتها بظرفها المازح الساخر، وتذكرنا بالتلاعب السخيف بالألفاظ في أعمال شكسبير الأولى، ولكن إذا مثلت (ونطق بها بترتون ومسز بريسجيردل كما حدث في أول عرض لها)، فلربما كانت أمتعتنا بما فيها من حيوية وتألق يقول وتوود "أعرف سيدة تحب الكلام بلا انقطاع، ولا تترك أثراً حسناً(22)" وحبكة الرواية بالغة التعقيد، وقد تتذمر من طول الوقت المطلوب لفهم شجارات ومشروعات الشخوص التافهة الطائشة، وحل العقدة لا يعدو أن يكون سخفاً لا حد له. ولكن في الرواية بعض تهذيب في اللغة وفي الدعابة، وتفكير لطيف (ولو أنه غير عميق أبداً)، مما يمكن أن يدخل السرور على الذهن غير المتعجل، وليس فيها سخرية لاذعة، كما هو الحال في مسرحيات فانبرو، بل فيها تهكم مهذب رقيق، تسرب من قصر فرساي إلى قصر هويتهول وإلى البلاط في فترة عودة الملكية. وفي الرواية خلق الشخصيات الروائية وتصوير لخصائصها. فالبطل، ميرابل شخص غير جذاب، ولكنه نابض بالحياة، صياد التركات والثروات. وجدير بالذكر أنه يسعى للزواج من ميللامانت، بدلاً من إغرائها. ولكن لديها ثروة تساوي أثنى عشر زانياً، وهي أجمل ما أبدع كونجريف، ماجنة عابئة تريد ألف عاشق، وتود الهيام بها لمدى الحياة، من أجل مفاتن أو جمال لن يدوم إلا لسنوات عشر، وترضى الزواج ولكن بشرط:

  • ميللامانت:... لاشك ياميرابل أني سأبقى في الفراش في الصباح كيفما أشاء.
  • ميرابل: هل من شروط أخرى تفرضينها؟
  • ميللامانت: توافه: - أكون حرة في تناول طعامي متى أشاء، وأتناوله وحدي في حجرة ملابسي، إذا كنت معكرة المزاج، دون إبداء الأسباب. وألا يقتحم علي أحد خلوتي. وأن أجلس "إمبراطورة" وحدي إلى مائدة الشاي التي لا يجوز لك أن تفكر في الاقتراب منها قبل أن تستأذني أولاً وأخيراً حيثما كنت ينبغي عليك أن تطرق الباب قبل الدخول. تلك هي شروطي، حتى إذا استطعت أن احتملك لمدة أطول، فقد أتضاءل شيئاً فشيئاً حتى أصبح زوجة.
  • ميرابل: ألست حراً أن أعرض شروطي؟
  • ميللامانت: هات أقصى ما عندك...
  • ميرابل: أشترط عليك أن تستمري تحبين وجهك وتعجبين به طالما أحببته أنا أو أعجبت به، حتى إذا الفته أنا، فلا تحاولي قط تشكيله من جديد.. اشترط ثانيا، أنك إذا حملت.
  • ميللامانت: آه: لا تذكر شيئاً من هذا.
  • ميرابل: وهذا هو المفروض، وليبارك الله في محاولتنا.
  • ميللامانت: هذه محاولة كريهة قبيحة.
  • ميرابل: إني أعترض وأمنعك من ارتداء الملابس المحبوكة التي تشد جسمك لتحتفظي بقوامك حتى لا تشوهي ولدي ويخرج وكأن رأسه قمع سكر(23)..

وهكذا، وتلك سفسطة سارة، وهجاء معقول، يمر بخفة وسرعة، في أمان، على مظاهر الحياة.

وضرب كونجريف نفسه مثلاً لمظاهر كثيرة، مؤثراً التركيب على المادة، والتنوع على الوحدة. ولم يتزوج قط|، ولكنه اختلف إلى سلسلة من العشيقات، ولم نسمع عن ذرية أشقته أو أسعدته. وكان رفيقاً لطيفاً في المقاهي والنوادي. وكان أكرم العائلات تستقبله ببالغ الترحيب. وكان أكولا، وكان يدهن قدميه ويعالجهما بانتظام من داء النقرس. وعندما زاره فولتير 1726 استنكر كونجريف إطراء الشاعر الفرنسي لرواياته، وأبدى عدم اكتراثه لها، على أنها توافه لا تستحق الذكر، وطلب إلى فولتير أن يعتبره مجرد رجل مهذب. عندئذ أجاب فولتير (طبقاً لروايته) "لو كان الأمر كذلك، وأنك مجرد رجل مهذب، لما جئت لأراك(24)".

وفي 1728، في رحلة للاستشفاء بالمياه المعدنية في باث، انقلبت عربة كونجريف، وظل يعاني من بعض إصابات باطنية حتى وافته المنية في 19 يناير 1729. ودفن في كنيسة وستمنستر. وفي وصيته ترك مائتي جنيه لمسز بريسجيردل التي كانت تقاسي الفقر في شيخوختها، أما معظم الضيعة، أي نحو عشرة آلاف جنيه، فقد أوصى له لدوقة مالبرو الثانية البالغة الثراء، ومضيفته الأثيرة لديه، فحولت المال إلى عقد من اللآلئ. وكانت تضع على الدوام، في المكان الذي اعتاد الشاعر أن يجلس فيه إلى مائدتها، تمثالاً من العاج والشمع تدهن قدميه وتعالجهما بانتظام من النقرس(25).

وقبل موت كونجريف بزمن طويل، كان المسرح الإنجليزي قد شرع يطهر نفسه، حيث أمر وليم الثالث مدير الملاهي والمسارح أن يمارس بشكل أشد صرامة، سلطته في رقابة الروايات أو منع عرضها. وعززت موجة من الاستياء في الرأي العام هذه الرقابة. وحرم قانون أصدرته الملكة آن ارتداء السيدات للأقنعة في المسرح، وقاطعت النساء اللائي حرمن هذا التستر، الروايات المجردة من الاحتشام والوقار على وجه اليقين(26).

واتفق سويفت مع الأساقفة على أن مسرح لندن وصمة في جبين الخلق الإنجليزي. وعرض ستيل روايته (العشاق الشاعرون بالإثم) (722) على أنها مسرحية أخلاقية. ونافس أديسون وقار المأساة الفرنسية وجلالها في مسرحيته "كاتو" (1713). وثمة علامة أقدم من هذا، على التغير الذي حدث في المسرح، ظهرت في أسلوب رد دريدن على كوليير، حيث أحس دريدن أن الكاهن غالباً ما حمل على كتاب المسرح دون وجه حق، وأنه "في كثير من المواضع... فسر كلماتي بأنها تجديف وفجور، وهي بريئة من هذا كله"، ولكنه أضاف:

لن أتحدث كثيراً عن مستر كوليير لأنه اتهمني في أشياء كثيرة، وله في هذا كل الحق. واعترفت بذنبي في كل الأفكار والتعبيرات التي أوردتها والتي يمكن أن توصم بحق بالفحش والدنس أو مجافاة الأخلاق الكريمة، ولا بد من سحبها. فإذا كان يناصبني العداء، فقد كتب له الانتصار علي. أما إذا كان صديقاً، حيث أني لم أهيئ له فرصة خاصة ليكون غير ذلك، (لم أسيء إليه إساءة شخصية)، فإنه سيسر بأني ندمت(27).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

3- جون دريدن 1631-1700

كان أبوه من صغار ملاك الأرض، يمتلك ضيعة متواضعة في نورثمبتونشير وأرسل إلى مدرسة وستمنستر التي علمه فيها، هو ورفيق دراسته جون لوك، الأستاذ الضليع ريتشارد بزبي Buzby كثيراً من اللاتينية والنظام والانضباط. وهناك حصل على منحة دراسية مكنته من الذهاب إلى ترنتي كولدج في كمبردج. وفي العام الذي حصل فيه على الدرجة الجامعية مات أبوه (1654) وورث جون، بصفته أكبر الأبناء البالغ عددهم أربعة عشر، الضيعة التي كانت تدر ستين جنيهاً في العام. وانتقل إلى لندن وحاول عن طريق الشعر أن يضيف شيئاً إلى دخله، احتيالاً على العيش. وفي 1659 نشر "مقطوعات شعرية بطولية" تخليداً لذكر كومول - وهو شعر تافه غير ذي قيمة بشكل ملحوظ من شاعر في التاسعة والعشرين من عمره. والحق أن دريدن نضج في بطئ، وكأنه رجل يتخطى في جهد جهيد مائة عقبة ليرقى مدارج الثراء في نجاح. وبعد ذلك بعام واحد هلل الشاعر لعودة الملكية في قصيدته "عودة النجم" التي قارن فيها نجمة شارل الثاني بنجمة بيت لحم، وما كاد أحد يتجرأ على اتهام دريدن بالتقلب، لأن كل الشعراء تقريباً - عدا ملتون - ولوا ظهورهم إلى البيوريتانية وولوها شطر الملكية مع تغيير بارع لأساليبهم.

ولكن دريدن كان أشد اهتماماً بالمسرح منه بمجرد نظم الشعر، حيث أثرى الكتاب المسرحيون على حين حالف البؤس والشقاء الشعراء الجدد. إن دريدن لم يكن به ميل إلى المسرحية، ولكنه كان يتطلع إلى الحصول على لقمة العيش بانتظام. وحاول كتابة الملهاة فأخرج "زير النساء الطائش" (1663) التي وصمها بيبز بأنها "أحقر شيء رأيته في حياتي تقريباً(28)". وفي أول ديسمبر 1663 تزوج دريدن من ليدي اليزابيث هوارد ابنة إرل بيركشير، وأشرأبت الأعناق دهشاً من سيدة ذات مكانة وثراء تتزوج من شاعر، ولكنها كانت في سن الخامسة والعشرين، وفي خطر من فوات الأوان، كما كان أخوها سير روبرت هوارد المتلهف على التأليف والكتابة، قد ضمن تعاون دريدن معه في رواية "الملكية الهندية" التي أخرجاها 1664، في مشاهد بالغة البذخ، مع نجاح عظيم.

وحددت هذه المسرحية "المأساة" طوراً في تاريخ الأدب، حيث تخلت عن الشعر المرسل الذي كان سائداً في عصر اليزابيث، واستخدمت المقاطع المقفاة ذات البيتين اللذين يتكون كل منهما من خمس تفاعيل، أسلوباً منتظماً لها. وكان لورد أوريري قد تأثر بحلاوة واتساق القافية في المأساة، وأدخل هذا الأسلوب في رواياته. وعاد دريدن إلى الشعر المرسل بعد 1675، معترفاً بأن القافية تفضي إلى تعويق سيل الكلام والتفكير. ولو أنه لقى عناء أكثر في نظم الشعر لأصبح شاعراً أعظم مما كان.

وواصل نجاحه التعاوني بعمل مستقل، وهو "الإمبراطور الهندي" (1665)، وكان مونزوما بطل الرواية. وما كاد يجد لمسرحيته مكاناً على المسرح الإنجليزي حتى داهم الطاعون لندن فأغلقت المسارح أبوابها لمدة عام. ولما زال كابوس الطاعون والحريق احتفل دريدن بخروج إنجلترا من هذه المحنة المثلثة - الطاعون والحريق ثم الحرب - بقصيدة "سنة العجائب" (1666) وهي مكونة من 304 مقاطع رباعية الأبيات، تتأرجح بين الوصف الرائع (المقاطع 212-282) والتفاهة الصبيانية (مثل المقطع 29) ولما فتحت المسارح أبوابها من جديد في 1666 عجل دريدن بالعودة إلى المسرحية. ولم ينتج حتى 1681 غير الروايات. وتميل مأسياته إلى أن تكون كلاماً منمقاً رناناً طناناً، ولكنه بدت لأعين معاصريه أسمى منزلة من مأسيات شكسبير(29) - ولما انضم دريدن إلى دافنانت في إعادة صياغة "العاصفة" كانت النتيجة بإجماع المشتركين فيها أن الصياغة الجديدة تنطوي على تحسين كبير للأصل. وربما اتفقت معهم "شركة الملكية" في هذا الرأي لأنها كلفت دريدن بتزويدها بثلاث روايات في السنة مقابل حصة في الأرباح التي بلغت 350 جنيهاً في العام. أما ملهيات دريدن، على الرغم من أنها داعرة فاحشة مثل غيرها، فإنها لاقت نجاحاً أقل من نجاح مأسياته السبع والعشرين، لأنه هذه الأخيرة استطاع أن يثير اهتمام الرأي العام في الدنيا الجديد والهجميين البدائيين المدهشين فيها، وهكذا يقول المنصور في "فتح غرناطة".

"أنا حر طليق مثلما خلقت الطبيعة الإنسان لأول مرة، قبل أن يظهر قانون الاسترقاق الحقير، حين هام النبلاء المتوحشون على وجوههم في الغابات".

وربما كان نجاح هذه الرواية بالإضافة إلى ما تضمنته رواية "سنة العجائب" من مديح منمق لشارل الثاني، هو الذي كسب لدريدن منصبي مؤرخ الملك وشاعر التاج (1670).وبلغ دخله السنوي آنذاك ألف جنيه في المتوسط. وفي خاتمة القسم الثاني من "فتح غرناطة" زعم دريدن تفوق مسرحية فترة عودة الملكية على المسرحية في عصر اليزابيث. وذهب منافسوه، على حين قدروا له هذه التحية والمجاملة، إلى القول بأن في هذا إطراء مغالياً لمسرحياته. ولم يشارك المفكرون في المدينة جمهور المسرح إعجابه وتذوقه للغة الطنانة الرنانة المسرفة في مأسيات دريدن، وأصدر دوق بكنجهام بالاشتراك مع آخرين في 1671 هجاء صرحاً تحت عنوان "التجربة" سخر كثيراً من المستحيلات والحماقات واللغة الطنانة المنمقة في المأسيات المعاصرة، وبخاصة ما كتبها دريدن. وأحس الشاعر بأنها لطمة له، ولكنه كظم غيظه لمدة عشرة أعوام. وبعدها شهر بالدوق بكنهجام أيما تشهير في شخصية "زمري" في أقوى أبيات رواية "أبشالوم وآخيتوفل".

وفي الوقت نفسه عملت دراسته لشكسبير على تحسين فنه. وفي أروع مأسياته (كله من أجل الحب) (1678) تحول عن راسين والقافية إلى شكسبير والشعر المرسل. وأفرغ كل جهده وبراعته في أن يبارى ما كان منه في عصر اليزابيث، بصفة عامة، وعرض في ثوب جديد قصة أنطونيو وكليوبترة التي فقدت الدنيا من أجل قصة غرام قصيرة. ولو أن الرواية القديمة لم توجد لحظيت رواية دريدن بثناء وإعجاب أكبر، ففي مواضع كثيرة منها ترتفع من الكلام الشديد البساطة إلى الشعور النبيل المكظوم، كما يتمثل في قدوم أوكتافيا إلى أنطونيو لتعرض عليه صفح أوغسطي عنه(30). ورواية دريدن محكمة في إيجاز، بقصد مراعاة الوحدات، ولكنه بتضييق الحدث في أزمة واحدة في مكان واحد ثلاثة أيام، اختزل الفكرة الرئيسية البطولية إلى قصة غرام، وضيع المشهد الكبير الذي رأى في "أنطونيو وكليوبترة" (لشكسبير) أن هذه القصة الغرامية ليست إلا جزءاً من الأحداث التي هزت عالم البحر المتوسط وشكلته.

واكثر الجوانب إمتاعاً وتشويقاً اليوم في مسرحيات دريدن هي المقدمات التي قدمها بها مطبوعة، والأبحاث التي شرح فيها وجهات نظره في الفن المسرحي. وكان كورني قد ضرب له المثل، ولكن دريدن جعل منه مجالاً لنثر رائع. وإنا إذ نمر مرور الكرام بهذه الأبحاث الموجزة وهذه الحوادث القوية، لنلمح أن عصر الخلق والإبداع في الأدب الإنجليزي كان يعبر إلى عصر النقد الذي قد يبلغ ذروته في بوب. ولكن إجلالنا لتفكير دريدن وعقيلته يزداد إذ نراه يسير في رشاقة ورفق غور أسلوب المسرحية ومعالجة تفاصيلها، وفن الشعر، ويقارن في مقدرة فائقة على التمييز والمقارنة، بين المسرحين الفرنسي والإنجليزي. وأنك لترى في هذه المقالات والبحوث أن الالتواء المثير في النثر في عصر اليزابيث، والجمل الطنانة المتراكمة عند ملتون، كل أولئك يفسح الطريق لأسلوب أبسط وأسلس واكثر تنظيماً ومنهجية، أسلوب خلا من التراكيب، اللاتينية، وزاده صقلاً التعرف على الأدب الفرنسي، لم يجار الأناقة الفرنسية كل المجاراة قط، ولكنه أخرج إلى القرن الثامن عشر - قرن النثر - نماذج من كلام يتميز بالصفاء والروعة والسلاسة وسحر البيان، وعدم التكلف والقوة. وهناك اتخذت المقالة الإنجليزية شكلها، وبدأ العصر الكلاسيكي (النموذجي الممتاز) للأدب الإنجليزي.

ولكن إذا كانت مقالات دريدن تبدو الآن أعلى مكانة من الروايات التي كانت سبباً في كتابة المقالات، فإنه في الهجاء ساد عصره وأرهبه. وربما وقع حادث أطلق لسانه اللاذع.ذلك أنه في 1769 وزع جون شفيلد إرل ملجريف نشرة مخطوطة بعنوان "مقال في الهجاء" لا تحمل اسم كاتبها، هاجمت إرل روشستر، ودوقة بورتسموث (لويزدي كيرووال) بلاط شارل الثاني بصفة عامة.واتجه الظن خطأ إلى أن كاتب المقال هو دريدن الذي كان آنذاك يحصل على معظم دخله من الملك. وفي ليلة 18 ديسمبر في "زقاق روز - كوفنت جاردن" هجم على دريدن نفر من السوقة وأوسعوه ضرباً بالهراوات، والمفروض أن روشستر استأجرهم لهذا الغرض، ولو أن هذا لم يثبت على سبيل اليقين.وكان دريدن رجلاً ودوداً كريماً مستعداً لمد يد المعونة وكيل المديح. ولكن نجاحه وغروره وإفراطه في التحدث عن نفسه وتوكيداته الخلافية، كل أولئك جلب عليه عداوات كثيرة. واحتمل دريدن لبعض الوقت حملاتهم عليه، دون رد علني منه، بل أن "كمين زقاق روز" لم يلق استجابة سريعة من قلمه. ولكن في 1681 جمع عديداً من أعدائه في مرجل واحد وسلقهم بالسنة حداد، في ألذع هجاء عرف في اللغة الإنجليزية.

وتلك هي السنة التي حاول فيها شافستبري أن يقوم بثورة ليخلف ابن شارل الثاني غير الشرعي أباه على العرش وعندما ظهر القسم الأول من قصيدة "أبشالوم وأخيتوفل" وكان شافتسبري على وشك أن يقدم للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى. وانحاز هجاء دريدن إلى جانب الملك، وربما كان بإيعاز منه(31). وهزأ الشاعر من شافتسبري في شخص أخيتوفل الذي يحرض أبشالوم (وهو دوق مونموث) على الثورة ضد أبيه داود (شارل الثاني). ولما كان داود وشارل كلاهما قد أحبا عدداً من النساء، فأن القصيدة تبدأ ببحث في قيمة تعدد الزوجات:

"في عهد التقى والورع، قبل ظهور الكهنة وأساليبهم، وقبل أن يصموا تعدد الزوجات بأنه خطيئة، وحين تكاثر الإنسان بتعدد زوجاته وقبل أن يقتصر الواحد على واحدة بشكل بغيض. وحين استحثت الطبيعة - ولم يمنع أي قانون - على معاشرة الخليلات والزوجات دون تمييز، وحين عاش ملك بني إسرائيل، برضا السماء، على الزوجات والإماء من مختلف الأنحاء، في قوة وحيوية، ونشر صورة خالقه على أوسع نطاق على الأرض، بأمره".

ويبتهج داود بجمال ابنه أبشالوم. وكان مونموث، حتى قيام الثورة، قرة عين أبيه الملك السعيد (شارل الثاني)، أما بنو إسرائيل فهم الإنجليز (في القصيدة):

جنس عنيد متقلب متذمر، أرهق النعمة الإلهية إلى آخر مداها، شعب الله المدلل الذي انغمس في الملذات والشهوات، والذي لم يستطع أن يحكمه ملك أو يرضيه إله(32).

وأستروفل هو رئيس شياطين الخيانة، وتتحقق لندن لفورها أنه شافتسبري:

وكان على رأس هؤلاء جميعاً أخيتوفل الكاذب، وهو اسم ملعون كريه على مر العصور، أهل لكل التدابير الخفية والمشورات الملتوية، ذكي جرئ مضطرب الحواس، قلق، لا يثبت على مبدأ ولا يستقر في مكان غير راضٍ إذا تملك وتسلط، ضائق صدره إذا تجرد من سلطانه، يحمل بين جنبيه نفساً محمومة مضطرمة أنهكت وأبلت جسم القزم وهي تشق طريقها. ضاق بها جسده الهزيل. قائد جسور لأخطر الأعمال اليائسة، يطرب للأخطار حين ترتفع الأمواج. أن يلتمس الأعاصير والزوابع، لأنه لا يحب الهدوء يدني سفينته من الرمال بفطنته وذكائه. يقيناً أن ذوي المواهب العظيمة قريبون من الجنون ولا يفصله عنهم إلا حواجز رقيقة. وإلا لماذا - وهو ذو الثراء العريض والمناصب الرفيعة - يضن على شيخوخته بما تحتاج من راحة ودعة؟.. لا يقيم على ود ولا يخلص في صداقة، عنيد حقود في عدائه وبغضه، مصمم على أن يدمر الدولة أو يحكمها هو(33).

ثم يجيء دور الانتقام من دوق بكنجهام و "التجربة":

ويقف على رأس هؤلاء (العصاة الثائرين) زمري، وهو رجل متعدد الجوانب، حتى انك لا تحسبه واحدا، بل صورة مصغرة لكل بني البشر، جامد الرأي، يجافي الصواب دائماً. كان يندفع في كل أعماله، ولكنه لا يثبت على حال. وخلال قمر منير واحد، كان الكيميائي والعازف، ورجل الدولة والمهرج. ثم ينصرف بكليته إلى النساء والتصوير، والشعر والشراب، فضلاً عن عشرة آلاف نزوة تموت في المهد.. وكان تبديد المال فناً خاصاً برع فيه. أغدق على كل الناس إلا من يستحقون المكافأة، أفقره الحمقى المهرجون الذين اكتشفهم بعد فوات الأوان. وحظي هو بالمرح، وحصلوا هم على ماله وضيعته(34).

ولم تر إنجلترا قط من قبل مثل هذا الهجاء اللاذع الذي لا يرحم، الذي يركز كل التشويه والتجريح في سطر واحد، ويترك جثة ممزقة مهشمة فوق كل صفحة. وبيعت القصيدة بالمئات خارج نفس المحكمة التي كان يحاكم فيها شافتسبري، مخاطراً بحياته. وقضت المحكمة ببراءته فصك أشياعه الأحرار (الهويج) "ميدالية" تمجيداً له. وانبرى عدد من الشعراء والكتاب يتزعمهم توماس شادويل لإصدار ردود ظافرة على الرجل الذي أيقنوا أنه باع عقله، ولسانه السليط وبيانه الكاوي إلى الملك. وعاود دريدن الكرة بهجاء آخر، "الميدالية" (مارس 1682) سلق فيه شادويل، بصفة خاصة، في قصيدة "ماكفلكنو" (أكتوبر). وهنا كان الذم والقدح أنكى وأمر، فانحط أحياناً إلى شتائم لفظية صريحة، لم تتميز، مثل الهجاء السابق، بمقاطع فاصلة تنشر السم في دقة دون إسراف أو إسفاف.

إنا لا نستسيع اليوم هذا اللون من "الذبح" الأدبي ولم نعد نتذوقه إلا قليلاً، وإنا لنرتاب بعد قرون من الجدل والمناقشة، في أن هناك بعض الصدق في كل عاطفة أو هوى، وأن في كل خصم أو عدو شيئاً محبباً. وما السياسة حتى في أيامنا هذه إلا حرب بوسائل أخرى، أكثر بكثير مما كانت حين كان عرش أسرة ستيوارت يترنح على حافة الثورة، وكان الظهور إلى جانب الفريق الخاسر المنهزم قد يعني الموت المحقق. وعلى أية حال، فإن دريدن بذلك الهمة، مما أكسبه امتنان الملك ودوق يورك، ولم ينازعه أحد آنذاك التربع على عرش مملكة الشعر. وكانوا يحجزون له - إذا قصد إلى "حانة ول Will" مقعداً إلى جانب المدفأة في الشتاء. وفي الشرفة صيفاً، وهناك رأى بيبر وسمع "أحاديث طريقة ذكية(35)" وصورة سير والتر سكوت، في خيال مبدع، وهو يدخل إلى هذه الحانة، "رجل عجوز بدين قليلاً، ذو شعر أشيب، يرتدي حلة سوداء بالغة الأناقة، محبوكة الأطراف وكأنها قفاز، تشرق في وجهه أرق ابتسامة رأيتها في حياتي(36)" وكان الإنحناء تحية لشاعر التاج والاستماع إلى رأيه في آخر مأساة أخرجها راسين... يعتبر ميزة، كما كانت القبضة من علبة سعوطه شرفاً كفيلاً بأن يريك المتحمس الناشئ. وكان كل العطف بعينه بالنسبة لأصدقائه، ولكن ما كان أسرعه في كيل السباب لمنافسيه وخصومه(37) (وما كان لأحد أن يبزه في إطراء شعره). إن تملقه للملك وليدي كاسلمين ولكل أولئك الذي يجزلون له العطاء مقابل الإهداء إليهم، جاوز الحد المألوف من الاستسلام الذليل في مهنته في عصره(38). ومع ذلك فإن كونجريف بادله التشجيع بمثله حين وصفه بأنه "بالغ الإنسانية والرحمة، مستعد أن يغتفر الإساءة، أهل للتراضي بإخلاص مع من أساء إليه(39)".

والآن، وقد آذن جسمه بالضعف والانحلال، بدأ الشاعر يفكر في الدين بشكل أكثر انعطافاً وميلاً، مما كان عليه في سني القوة والفتوة والزهو والغرور. لقد اندفعت مسرحياته وقصائد هجائه اندفاعاً طارئاً بين هذا وذاك من مختلف المذاهب الدينية، أما الآن، وقد ربط الشاعر مصيره بالمحافظين (الملكيين - التوري)، فإنه تحول إلى الكنيسة الأنجليكانية بوصفها ركيزة للاستقرار في إنجلترا، مستنكراً عدوان العقل المتغطرس على هذا الحرم المقدس، ألا وهو الإيمان والعقيدة. وفي نوفمبر 1682 أدهش أصدقاؤه الدنيويين بنشره قصيدة "الدين والدنيا" دفاعاً عن الكنيسة الرسمية. وبدا له أن الكتاب المقدس المنزل، بل وكنيسة معصومة من الخطأ تفسره وتكمله، دعامتان لا غنى عنهما للمجتمع ولسلامة العقل. وكان على علم بالخلافات وبالجدل بين الربوبين، وكان رده عليهم أن شكوكهم إنما تعكر صفو النظام الاجتماعي المعقد الذي لا يمكن أن يدعمه إلا قانون أخلاقي تقره عقيدة دينية.

لأنه لا قيمة ولا فائدة في تعلم النقاط الغامضة، أما السلام العام فهو كل ما يهم العالم.

وتلك حجة كان يمكن أن تخدم قضية الكنيسة الكاثوليكية أيضاً، وتابعها دريدن إلى غايتها بتحوله إلى الكاثوليكية 1686. ولسنا ندري إذا كان لاعتلاء ملك كاثوليكي العرض في السنة السابقة، ولتلهف الشاعر على الاستمرار في الحصول على رواتبه - نقول لسنا إذا كان لهذا الأمر أو ذاك دخل في هذا التحول(40). على أن دريدن على أية حالـ، صب كل فنه - الشعري ليشرح وجهة النظر الكاثوليكية في قصيدة "الأيلة والنمرة" The Bind and the Panther (1667) وفيها "أيلة ناصعة البياض" تدافع عن المذهب الكاثوليكي، ضد نمرة "هي أجمل النوع المرقط" التي تمثل المذهب الإنجليكاني. وكانت صورة حيوانين من ذوات الأربع يناقشان موضوع الوجود الحقيقي في القربان المقدس مدعاة للسخرية(42) والتسخيف سرعان ما أثارهما ماتيو برير Prior ولورد هاليفاكس في محاكاة تهكمية تحت عنوان "الأيلة والنمرة تنقل إلى قصة فأرة القربة وفأرة المدينة" (1687).

وفي 1688 فر جيمس الثاني إلى فرنسا. ووجد دريدن أنه يعيش من جديد في ظل ملك بروتستانتي، فلزم مذهبه الجديد، وكان أولاده الثلاثة يعملون في روما تحت إمرة البابا. كما أن الردة إلى مذهب آخر أمر غير مقبول، فاحتمل في شجاعة وجلد فقدانه لمنصب شاعر التاج ولراتبه ولوظيفته "مؤرخ الملك"، على أن التاريخ، زاد من أحزانه، لأنه أضفى كل هذه المناسب والشرف على شادويل الذي توجه دريدن ملكاً على الهراء، وصوره نموذجاً للغباء. وعاد في شيخوخته يكسب بقلمه قوت يومه. فكتب مزيداً من الروايات، وترجم مختارات من تيو كريتس وهوارس وأوفيد وبرسيوس، وأخرج الأنياذة في شعر بطولي في أداء غير محكم، ولكنه سلس، ونقل بأوزانه الشعرية الخاصة بعض أساطير هوميروس وأوفيد وبوكاشيو، وتشوسر. وفي 1697 وهو في السابعة والستين نظم قصيدته المشهورة "وليمة الاسكندر Alexaders Feast، التي حظيت بأعظم الثناء والإطراء.

ووافته المنية في أول مايو 1700، وشهدت جنازته اضطراباً شديداً، وتنازعت الشيع المتنافسة جثمانه، وأخيراً ووري التراب إلى جانب تشوسر في كنيسة وستمنستر.

ومن الصعب أن تحب هذا الشاعر، فكل الظواهر تقول بأنه كان انتهازياً نفعياً متقلباً، امتدح كرومول في فترة الحماية، وكان المديح لشارل الثاني وخليلاته، وأثنى على البروتستانتية في عهد ملك بروتستانتي، وأطرى الكاثوليكية في ظل ملك كاثوليكي، وألتمس موارد كسب المال بكل الطرق، وجلب على نفسه عداوة كثير من الناس، مما لا بد معه أن يكون ثمة شيء يكرهه الناس فيه. وجارى كل منافسيه في إباحية رواياته وتحررها من كل القيود، وفي تورعه في شعره. وبلغت قوته في الهجاء مبلغاً يستدر العطف على ضحاياه، مثل العطف على الشهداء وهم يحترقون على الخازوق. ولكن لا جدال في أنه كان أعظم الشعراء الإنجليز في جيله. وكتب معظم شعره لا جدال في أنه كان أعظم الشعراء الإنجليز في جيله. وكتب معظم شعره في المناسبات، وقلما حفظ الزمن شعراً نظم للمناسبات. ولكن هجاءه لا يزال حياً، لأن أحداً غيره لم يستطع أن يأتي بمثل هذا الهجاء الذي صور الشخصيات في ازدراء قارص وسخرية لاذعة. وطور المقطع الشعري ذا البيتين إلى درجة من الإيجاز المحكم والمرونة، سيطرت على الشعر الإنجليزي طيلة قرن من الزمان وكان أثره على النثر أقوى، حيث نقاه من التراكيب المزعجة والمصطلحات الغريبة، وضبطه على درجة ممتازة من الصفاء والسهولة. وكان معاصروه على حق حين كانوا يرهبونه أكثر مما يحبونه. ولكنهم أدركوا في فنه في صناعة الأدب والكتابة، وملكاً على عرش القوافي، فكان بن جونسون الروائي، ودكتور صمويل جونسون الكاتب، في وقت معاً، في عصره.


4- في ثبت واحد

والآن نجمع في قائمة غير نابضة بالحياة بعض الشخصيات الأصغر شأناً الذي أمدوا هذه الفترة بالحياة وبالأدب، ولكنا لن نستطيع أن نمكث معهم طويلاً لنتتبع جرى حياتهم.

وأعظم قصيدة في الجانب الوثني من فترة عودة الملكية كانت ملحمة بيوريتانية، ولكن أشهره هي ملحمة هجاء ساخر ضد البيوريتارية: " هو دبراس" (1663-1678). ذلك أن الشاب الفاجر، صمويل بتلر، قضى عدة سنوات مضنية في خدمة سير صمويل لوك، وهو مشيخي (برسبتيربان) متحمس غيور، ضابط برتبة زعيم في جيش كرومول، كان مقره في "كوبل هو"، وهي قلعة بيوريتانية للسياسة والعبادة. وعندما عادت الملكية ثأر بتلر لنفسه بنشر هجاء مرح، يصور فيه كيف أن سير هو دبراس الفارس المغوار يقود سيده صاحب الأرض "رالفو" إلى حرب صليبية ضد الخطيئة والإثم. وتستطيع أن تحكم منذ بداية القصيدة عليها.

"حين اشتدت ثورة الغضب والحقد بين الناس لأول مرة وتشاجروا لأنهم لم يدركوا السبب، وحين أشعلت الكلمات النابية والأحقاد والمخاوف نار الحرب بين الجماعات وجعلتهم يقتتلون كالمجانين أو المخمورين، من أجل "السيدة: الديانة" وكأنما يقتتلون من أجل عاهرة فاجرة... وحين أعلن نافخ البوق الإنجيلي يحيط به الرعاع ذوو الآذان الطويلة، النفير من أجل الحرب، ودقت طبول المنبر والكنيسة بجماع الأيدي بدلاً من العصي. عندئذ غادر السيد الفارس مسكنه وامتطى صهوة جواده متزعماً الركب... وكان كثيرون من الناس يرون، أنه كما اشتكى مونتاني من أن قطته حسبته، وهو يداعبها، حماراً، فلابد أن القطة تحسب هو دبراس حماراً أو أكثر من حمار، وإنا لنسلم بأنه على الرغم مما أوتى من ذكاء شديد، فإنه يخجل من استخدامه، وكأنما يكره أن يستنفذه ويبليه، ولذلك لم يظهره أو لم يلبسه إلا في أيام العطلة أو ما يشابهها، كما يرتدي الناس أحسن ملابسهم... وكان من الملائم، من أجل عقيده، أن يوفق بين علمه وذكائه، وكان مذهبه مشيخياً صادقاً متشدداً، لأنه كان من بين العصبة العنيدة من القديسين الضالين الذي يقر الناس جميعاً بأنهم المناضلون الصادقون عن الكنيسة المجاهدة التي يبنون عقيدتهم على الرمح والمدفع، ويحسمون كل الخلافات بمدفعية لا تخطئ المرمى، ويثبتون صحة نظريتهم بالضربات واللكمات الرسولية... فرقة تتمثل أعظم تقواهم في كراهياتهم الحمقاء الضالة، الشاذة فرقة تحرص على الخطأ في يوم العطلة أكثر من حرص سائر الناس على الصواب، مجمعة على الخطايا التي فطرت عليها، تلعن أولئك الذي لا يفكرون فيها(43).

وهكذا مما آلم البيوريتانيين أيما إيلام وسر الملك كل السرور. ومنح شارل المؤلف جائزة قدرها ثلاثمائة جنيه. وامتدح كل الملكيين القصيدة فيما عدا بيبز الذي لم يستطع "أن يتبين موضع العبقرية فيها"، على الرغم من أنها تعتبر الآن من أحدث طراز من الهزل والسخرية(44)، وبادر بتلر إلى الاستزادة من الكتابة (1664-1678)، ولكن لم يعد في جعبته سهام، ولم تسعفه القوافي. وحل النزاع بين البروتستانت والكاثوليك محل النزاع بين الملكيين والبيوريتانيين. ونسي القوم بتلر، وقضى نحبه مغموراً معدماً (1680). وبعد أربعين عاماً أقيمت له لوحة تذكارية في كنيسة وستمنستر، تحمل هذه العبارة "طلب الخبز فمنح حجراً(45)".

وخير من هذا الشعر الهزلي المعتل الوزن الذي يتصيد القوافي، نثر كلارندون الفخم في كتابه "تاريخ الثورة" الذي ظهر في 1702 على الرغم من أنه كتب في 1646 - 1764 - وشهد الناس في عهد الملكة آن مقدار العناية التي بذلت في تأليف هذه المجلدات الثمانية، وروعة أسلوبها، وكيف كان تصوير الشخصيات أخاذاً، وكيف كانت روح قاضي القضاة الذي ضرب قديماً، عالية. وبالمثل لعب جلبرت بيرنت دوراً ليس بهزيل في كتابه "تاريخ زمانه" الذي لم ينشر، بأمر منه، إلا بعد وفاته 1724. أما كتابه "تاريخ إصلاح كنيسة إنجلترا" (1679، 1681، 1715) فكان عملاً أضخم، وكان ثمرة بحث طويل، وظهر في وقت كانت فيه إنجلترا البروتستانتية تخشى إحياء الكاثوليكية. وقدم له مجلسا البرلمان كلاهما الشكر عليه. ووجد فيه الأعداء والمحررون ألفاً من الأخطاء. ولكنه لا يزال يحظى بمن يشايعه وينتصر له، وفي بعض الأحيان يكون موضع ذم وطعن. ولكنه يظل أعظم مرجع في موضوعه، وحاول بيرنت أن يوسع دائرة التسامح الديني، فكسب عداء السوق.

وسعى ثلاثة رجال آخرين إلى تكبير الحاضر بأن يضيفوا إليه صوراً من الماضي. وطاف توماس فولر Faller بأرجاء الأرض الحبيبة متنقلاً من بلد إلى بلد، حيث جمع كتابه "تاريخ مشاهير الرجال في إنجلترا (1662)، وأحيا أبطاله الأموات بما روي عنهم من فذلكات وحكايات ودعاية وذكاء، وبما كتب على شواهد قبورهم. وقص أنتوني وود تاريخ أكسفورد، وجمع ثبتاً حوى سير حياة خريجيها، والمؤلفات القيمة التي اقتبس منها كثير من المؤلفين خلسة. وجمع جون أوبري شذرات ممتعة عن نحو 426 من مشاهير الإنجليز، على أمل أن ينسق هذه المادة المجموعة في تاريخ كامل، ولكن الخمول والمنية حالتا دون طبع "سير الحياة" قبل 1813(46). وقد شجعتنا ذخائره على المضي في طريقنا. وهناك الكولونيل (الزعيم) جون هشتشون، وهو بيوريتاني أيد إعدام شارل الأول، وزج به شارل الثاني في السجن، وما أن أخلى سبيله حق عاجلته المنية، وخلدت أرملته لوسي ذكراه في كتاب "حياة كولونيل هتشنسون" وهو كتاب لطيف رفع من مكانة صاحب السيرة. ولكن لوسي كان يعيبها الوقفات الطويلة فكانت عباراتها أحياناً تمتد إلى صحيفة كاملة. أما جون آريوتنوت، الطبيب البارع، والصديق المخلص لسويفت وبوب والملكة آن ولكثيرين غيرهم، فإنه انضم إلى حملة المحافظين لوقف الحرب مع فرنسا، بأن أصدر في 1712 سلسلة من النشرات يهجو فيها الأحرار، ويصف شخصية خيالية هي "جون بول" الذي أصبح منذ ذاك رمزاً على إنجلترا. ويقول جون آريوتنوت عن جون بول:

"أنه شخص أمين شريف صريح في التعامل مع الناس، سريع الغضب، جرئ، متقلب المزاج.. إذا تملقته ولاطفته كان سلس القياد، إن مزاج جون يعتمد كثيراً على الهواء، فيرق مزاجه أو يتكدر تبعاً لحالة الجو. وكان جون ذكياً. يدرك مهمته تمام الإدراك، ولكن ليس على قيد الحياة إنسان أشد منه إهمالاً في إمعان النظر في حساباته، ولا أكثر انخداعاً بشركائه أو غلمانه أو خدمه. ذلك لأنه رقيق مرح، مولع بالخمر واللهو والتسلية. والحق أنه لا يوجد إنسان أشد عناية ببيته ولا أكثر سخاء في الإنفاق من جون(47)".

وماذا عسى أن يقول سير وليم تمبل إذا وجد أنه اختزل في فقرة من فصل بلغ الذروة بسكرتيره؟ ربما قال- إذا سمحت له آدابه الرفيعة - إن المؤرخين أهملوه لأنه لم يحتفظ بامرأتين تطمعان في الزواج، حتى قضت إحداهما نحبها، وأنهكت الأخرى، أو لأنه لم يبع قلمه لوزراء المحافظين استياء من الأحرار، أو لأنه لم يغمس هذا القلم في ذم البشر، ولكن خدم وطنه في هدوء بدبلوماسية ناجحة، وفي عصر ساده الفساد والفجور، ضرب لإنجلترا مثلاً صادقاً غير مصطنع لحياة أسرية تزينها الحشمة والوقار. وظل لمدة سبع سنين يتودد إلى دوروثي أوزيورن التي أصبحت رسائلها الرقيقة إليه قطعاً من الأدب الإنجليزي(48) وارتضته زوجاً لها رغم معارضة أسرتيهما. وتزوجها بعد أن شوه الجدري جمالها. ودخل تمبل معترك الحياة السياسية، ولكنه آثر الأعمال التي نأت به عن حمى لندن، وتجنب "العبودية المضنية التي تثير البغض والحسد، والتي تحصى فيها الحركات والسكنات، والتي يطلقون عليها من قبيل السخرية والاستهزاء، والسلطة والنفوذ(49). وكان من أوائل، من حذروا من أطماع لويس الرابع عشر التوسعية، وكان المخطط الرئيسي للحلف الثلاثي الذي وقف في طريق الملك الفرنسي 1668، وعرضت عليه الوزارة في 1674 و 1677 ولكنه آثر منصبه الدبلوماسي في لاهي. وأدت مفاوضاته الموسومة بالحصافة والنظر الثاقب إلى زواج ماري ابنة جيمس الثاني من وليم الثالث الذي أصبح ملكاً فيما بعد. وهو الزواج الذي مهد الطريق "للثورة الجليلة". وفي 1681 اعتزل السياسة وانصرف إلى الدراسة والتأليف في "موربارك" ضيعته في "سري" وحسبه سويفت جامداً متحفظاً، على أنه ملاك الرحمة والكياسة واللطف. وأهم أبحاثه "المعرفة قديمها وحديثها" (1690)، الذي رفع فيه من ذكر الأقدمين وانتقص من قدر العلم الحديث والفلسفة الحديثة، في شخص نيوتن وهويز وسبينوزا وليبنتز ولوك. وتصيد بنتلي الكاتب خطأً جسيماً. فآوى سير وليم إلى حديقته، وتسلى بأبيقور ولسوف نلتقي به ثانية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

5- إڤلين وپپيس

اتفق جون إيفلين مع تمبل في أنه إذا دخلت الأحزاب في الدولة وتعمقت جذورها فيها، فمن الحمق عندئذ أن يتدخل أفاضل الرجال في الشئون العامة(50) " ولما بدأت الحرب الأهلية رأى أنه قد آن الأوان للرحيل. وغادر إنجلترا في يوليه 1641. ولكن وخز الضمير أعاده إليها في أكتوبر، وانضم إلى جيش الملك في برنتفورد ليشترك في الإنسحاب في نفس الوقت الذي وصل فيه. وبعد شهر من الخدمة في الجيش آوى إلى ضيعة أبويه في ووتون في سري. وفي 11 نوفمبر 1643 عبر البحر ثانية إلى القارة. وطاف على مهل بأرجاء فرنسا وإيطاليا وسويسرا وهولندا، ثم قفل راجعاً إلى فرنسا. وفي باريس تزوج من فتاة إنجليزية. وتنقل لبعض الوقت بين فرنسا وإنجلترا، حتى وضعت الحرب الأهلية أوزارها، حيث عاد إلى الوطن (6 فبراير 1652). ورشا حكومة كرومول لتتركه وشأنه. وتبادل الرسائل مع شارل الثاني في منفاه، وفي 1659 بذلك جهداً جباراً للتعجيل بعودة الملكية. وبعد ارتقاء شارل الثاني عرش إنجلترا أصبح إيفلين شخصية مرموقة في البلاطـ، ولو أنه دمغه بالانحلال والفساد، وشغل بعض المناصب الحكومة الصغيرة، ولكنه في معظم الأحوال آثر أن يغرس الأشجار ويؤلف ثلاثين كتاباً في بيته الريفي. ودون كل شيء من لوكريشس إلى سبتاي زيفي. وعجز كتابه "المبخرة" عن تنقية هواء لندن، ولكن في كتابه "أشجار الغابات" دعا دعوة حارة إلى إعادة تشجير إنجلترا، وحث الحكومة على غرس الأشجار في مختلف أنحاء لندن، التي تعد أشجارها اليوم من أعظم مفاخرها ومباهجها. أما كتابه "حياة مسز جودولفين"، فهو مثل أعلى في فضائل النساء وسط عربدة عودة الملكية وصخبها.

ومن 1641 إلى 3 فبراير 1706، قبل وفاته بأربعة وعشرين يوماً دون أيفلين في مذكراته كل ما رأى وسمع في إنجلترا أو في القارة. وبوصفه رجلاً من ذوي المكانة لم يكن في مقدوره أن يسجل من الخطايا أو الآراء الشخصية جداً، مثل تلك التي تغرينا بقراءة "مذكرات" بيبر المسهبة، ولكن وصفه لمدن أوربا ساعدنا كثيراً على اكتناه ماهية العصر. ففي مذكرات إيفلين صفحات رائعة عن "ممر سمبلون(51)" وكان في بعض الأحيان يفصح عن مكنون صدره في قطع تفيض بالحب والحنان والرقة، مثلما كتب عن وفاه ابنه وهو في سن الخامسة. ولم تنشر مذكرات إيفلين إلا في 1818. إن إشارات إيفلين إلى پپيس في مذكراته أدت إلى فحص المجلدات الستة المكتوبة بطريقة الاختزال، والتي كان پپيس قد أوصى بها لكلية مجدلن في كمبردج. وحلت رموز المذكرات التي بلغ عدد صفحاتها 3012 بعد ثلاث سنوات من جهد شاق، ونشرت في 1825، بعد اختصارها وتنقيتها. وهي الآن ولو أنها لم تستكمل، تملأ أربعة مجلدات ضخمة. على أنها جعلت من بيبر شخصية من أكبر الشخصيات المعروفة في التاريخ بالصراحة وعدم الصحة. أما من حيث الصراحة، فمن الواضح أنه قصد أن تنشر المذكرات إذا قدر لها أن تنشر - بعد وفاته، لا قبلها - ولهذا حوت تفاصيل كان ينبغي كتمانها في حياته، ولا يزال بعضها "غير قابل للنشر". أما عدم صحتها، فيرجع إلى أنها تتناول حقبة تقل عن عشر سنوات (1 يناير 1660 - 31 مايو 1669) من حياة پپيس، ولم تورد سرداً وافياً لعمله في أركان حرب القوات البحرية الإنجليزية، حيث تدرج في أعمال ازدادت أهمية من 1660 إلى 1689، وبعد وفاته بزمن طويل تذكروه وكرموه على أنه رجل إدارة قدير نشيط مجد.

وكان أبوه خياطاً (ترزياً) في لندن، وكان أبناً صغيراً لأحد الملاك اتجه إلى العمل والتجارة لأن الابن الأكبر ورث الضيعة طبقاً للقانون. ودخل صمويل كمبردج على منحة، وحصل على درجتي الليسانس والأستاذية، ولم تسجل له أية عقوبة، إلا تأنيب علني "لأنه شوهد يوماً يحتسى الخمر بشكل مخز"، ومرة أخرى لأنه كتب قصة "الحب خداع" التي أعدمها فيما بعد. وفي سن الثانية والعشرين (1655) تزوج من اليزابيث سان ميشيل ابنة أحد الهيجونوت. وفي 1658 أجريت له عملية "الحصاة في الكلى" ونجحت العملية وظل يحتفل بذكرى نجاحها سنوياً بعد ذلك، تعبيراً عن الحمد والشكر، كما يظهر من السنوات المسجلة في مذكراته.

وكانت هناك صلة قرابة بعيدة تربطه بسير أدوارد مونتاجو، فعين پپيس سكرتيراً له، (1660) ورافقه صمويل في الأسطول الذي قاده لإحضار شارل الثاني من المنفى. وقبل أن ينصرم هذا العام عين پپيس كاتباً للعمليات في إدارة البحرية. فثابر على دراسة الشئون البحرية بالقدر الذي سمح له به مطاردته للنساء. ومذ كان رؤساؤه منكبين أيضاً على هذه الرياضة القديمة، فأنه سرعان ما أصبح أكثر دراية بتفاصيل البحرية من أميري البحر كليهما (مونتاجو ودوق يورك) إلى حد أنهما اعتمدا على معلوماته. وفي أثناء الحرب مع هولندا (1665-1667) نجح نجاحاً مشهوداً في تموين الأسطول، وعند تفشي الطاعون لزم عمله في الوقت الذي فر فيه معظم موظفي الحكومة. وفي 1668 حين حمل البرلمان على إدارة الأسطول، وكل إلى پپيس أمر الدفاع عنها، وبفضل خطابه الذي استمر ثلاث ساعات في مجلس العموم برأت إدارة الأسطول تبرئة لا تستحقها. وبعد ذلك كتب پپيس لدوق يورك ثلاث مذكرات عرض فيها وجوه النقص والخلل في هيئة البحرية، وقد لعبت هذه المذكرات الثلاث دوراً في إصلاح الأسطول. وبذل پپيس جهداً جباراً، وكان يصحو من نومه عادة في الرابعة صباحاً(52). ولكنه وجد أنه كان يستعين على راتبه الذي يبلغ 350 جنيهاً في العام، بالهدايا والعمولات والمنح التي يمكن أن يسمى بعضها رشوة، ولكنها كانت في هاتيك الأيام اللطيفة تعتبر زيادات إضافية مشروعة. وكان رئيسه لورد مونتاجو نفسه قد أوضح له "أنه ليس مرتب أية وظيفة هو الذي يجعل شاغلها غنياً، ولكن فرصة الحصول على الأموال وهو يشغلها(53).

وكل ما ارتكب پپيس من أخطاء مدون بصراحة خالصة تامة نسبياً. وليس واضحاً أمام أعيننا السبب الذي من أجله احتفظ بها بمثل هذه الأمانة إنه أخفاها في حذر وعناية طوال حياته، ودونها بطريقة الاختزال الخاصة به، مستخدماً 314 حرفاً مختلفاً، ولم يضع ترتيباً خاصاً لنشرها بعد وفاته. وواضح أنه وجد لذة ومتعة فأستعرض أنشطته اليومية والاضطرابات في أعضاء جسمه وشجاراته الزوجية، ومغازلاته وعبثه، وعلاقاته النسائية الشائنة. إنه - إذا أعاد قراءة هذا السجل - بينه وبين نفسه - لابد أن يشعر بما نشعر به نحن من رضا خفي إذا نظرنا لأنفسنا في المرآة. وهو يروى لنا كيف أنه جعل زوجته تحلق له شعره "فوجدت في رأسي وجسمي نحو عشرين قملة" وهذا في اعتقادي، أكثر مما وجدت في هذه السنوات العشرين(54). وتعلم أن يحب زوجته، ولكن بعد مشاجرات كثيرة، تميز في بعضها غيظاً، وكثيراً، على حد قوله، ما أساء معاملتها، وفي إحدى المرات "جذبها من أنفها(55)". وفي مرة أخرى "لطمتها على عينها اليسرى لطمة جعلت البائسة المسكينة تصرخ من شدة الألم، ولكنها اهتاجت وحاولت أن تعضني وتخدشني بأظافرها، ولكني تظاهرت بالخجل مما فعلت حتى أمسكت هي عن العويل(56)" ووضع على عينها ضمادة، وانصرف للقاء إحدى خليلاته. وعاد إلى البيت لتناول العشاء، ثم غادره، حيث لقي "زوجة باجول، فصحبتها إلى إحدى حانات الجعة، وهناك لاطفتها كثيراً، ثم افترقت عنها إلى امرأة أخرى حاولت أن أعانقها وأقبلها، ولكنها لم ترغب في شيء من هذا، مما ضايقني كثيراً". وقد يبعث على العجب والدهشة أن يكون للرجل مثل هذه الطاقة الحيوية، فاستبدل العشيقة كل بضعة شهور، وطارد النساء حتى صددنه عنهن بالدبابيس(57). واعترف بأنه "وقع في أسر الجمال إلى حد غريب(58)". وقال "كنت استمع في كنيسة وستمنستر إلى عظة، وقضيت الوقت (سامحني الله) محدقاً النظر في مسز بتلر(59)" وكان يتطلع في شغف خاص ولهف جارف مما يكاد يكون خيانة عظمى - إلى ليدي كاسلمين (عشيقة الملك)، ومذ وقع نظر عليها في قصر هويتهول "استغرق في النظر إليها(60)". ولكنه قنع بثيابها المرصوصة في صف واحد، وفي هذا يقول "وكان من الخير لي أن أتطلع إلى هذه الثياب(61)"، فلما "عدت إلى البيت وتناولت العشاء وآويت إلى الفراش، تخيلت أني أغازل مسز ستيوارت (ليدي كاسلمين وأعبث معها. في نشوة غامرة من السرور(62)". ولكن نفسه لم تهف إلى فاتنات البلاط فحسب. فقد مرت ببابه يوماً مسز ديانا، إحدى جاراته، فجذبها "إلى البيت وصعدت بها الطابق الأعلى، وبقيت ألهو وأعبث معها فترة طويلة(63)". وأخذ مسز لين إلى لامبث (أحد أقسام لندن) "وبعد أن سئمت رفقتها "صممت" على إلا أعود لمثل هذا ما حييت(64)" وضبطته زوجته ذات مرة يعانق فتاة، فهددت بالانفصال عنه، فهدأ من روعها بالوعود والإيمان. وانطلق إلى آخر عشيقاته. ذلك أنه أغوى وصيفة زوجته - ديبورا ويللت - وكان يحب أن تمشط ديبورا له شعره، ولكن زوجته انقضت عليها أثناء مغامراته مع ديبورا. فعاد يقسم ويعد يتعهد من جديد، وطردت الوصيفة، وأخذ پپيس يتردد عليها وكأن زيارتها جزء من عمله اليومي.

وظلت رغبته الجنسية على حدتها حتى حين ضعف بصرة. إن عادة القراءة والكتابة في ضوء الشمعة بدأت تضعف بصره في 1664. ولكن في سنوات العسرة التي تلت ذلك، بذل في العمل جهداً شاقاً بصفة خاصة، على الرغم من تفاقم علته. وفي 31 مايو دون آخر ما سجل في مذكراته:

"وهكذا ينتهي ما أشك في قدرتي على المضي فيه إطلاقاً بنور عيني، ألا وهو تدوير مذكراتي. ومهما تكن النتيجة فليس لي ألا أن أتجلد وأحتمل. ومن ثم اعتزمت أن يدونه من حولي بطريقتهم في الكتابة العادية، ولذلك ينبغي أن أقنع بألا يسجل إلا ما هو صالح لأن يعرفوه ويعرفه العالم أجمع. وإذا كان هناك شيء - وهو ليس بالكثير، بعد أن ولت كل خليلاتي مع ديبورا، وقعد بي ضعف بصري عن الاستمتاع بأية ملذات أو مسرات - فلا بد أن أحاول أن احتفظ في كتابي بهامش، أضيف فيه، هنا وهناك، بعض الملاحظات بخط يدي، بطريقة الاختزال. وهكذا أروض نفسي على هذه الطريقة التي لا تقل مرارة عن أن أراني محمولاً إلى القبر الذي يتولى الله العلي العظيم إعدادي له، ولكل المتاعب والمشاق التي لا بد أن تنتابني عندما أفقد نور عيني. صمويل پپيس".

وتبقى له من عمره يعد ذلك أربعة وثلاثون عاماً. وظل يتعهد في عناية بالغة ما بقى له من نور عينيه، ولم يعم بصره تماماً قط ومنحه الدوق والملك إجازة طويلة انقطع فيها عن العمل، عاد بعدها إليه. وفي 1673 عين سكرتيراً لإمارة البحر، وفي نفس الوقت تحولت زوجته إلى الكاثوليكية. ولما وقعت مؤامرة البابا على إنجلترا اعتقل پپيس وأودع سجن لندن (22 مايو 1679) للاشتباه في أن له ضلعاً في مقتل جودفري. ثم دحض الاتهام وأخلى سبيله بعد تسعة أشهر قضاها بين جدران المعتقل. وبقي بعيداً عن الوظيفة حتى 1684، حيث أعيد سكرتيراً لإمارة البحر كما كان، واستأنف العمل على إصلاح البحرية. ولما أصبح رئيسه (دوق يورك) ملكاً على إنجلترا - جيمس الثاني - كان پپيس في واقع الأمر على رأس إدارة القوات البحرية، ولكن عندما هرب الملك جيمس إلى فرنسا، أعيد پپيس إلى السجن ثم أفرج عنه وعاش أعوامه الأربعة عشر الأخيرة من عمره متقاعداً عن العمل وكأنه "مرشد البحرية العجوز". ووافته المنية في 26 مايو 1703، وقد بلغ السبعين، مكللاً بالإجلال والاحترام، مطهراً من الذنوب والآثام.

وكم كان في هذا الرجل من خلال محمودة. لقد عرفنا حبه للموسيقى كما أنه تابع الحركة العلمية، وكان ضليعاً في الفيزياء. وأصبح عضواً في "الجمعية الملكية" وانتخب رئيساً لها في 1684 وكان مزهواً برجولته، وكان يقبل الرشوة، وضرب خادمه حتى جرح ذراعه(65) وقسا في معاملة زوجته، وكان فاسقاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولكن كم كان له في الملوك والأدواق من أسوة أخزى وأقبح في مجال الدعارة والفجور، ومن منا يمكن أن يتمتع بسمعة طيبة لا تشوبها شائبة إذا ترك مثل هذه المذكرات الأمينة؟.

6- دانيال ديفو 1659 - 1731

هناك امرأة أفلتت من يد بيبز، تستحق منا هنا انحناءة احترام في شيء من الحذر، بوصفها "أم القصة الطويلة" في فترة عودة الملكية، وأول امرأة إنجليزية تعيش على قلمها. إن افرا بن Aphra Behn جديرة بالذكر من عدة نواح: ولدت في إنجلترا، وترعرعت في أمريكا الجنوبية.وعادت إلى إنجلترا في سن الثامنة عشرة (1658، وتزوجت تاجراً لندنياً من أصل هولندي. وتركت انطباعاً قوياً في نفس شارل لدهائها وذكائها. وأوفدت في مهمة سرية إلى الأراضي الوطيئة، فقامت بها خير قيام، ولكنها تلقت أجراً زهيداً إلى حد أنها انصرفت إلى الكتابة، وسيلة لكسب العيش. وكتبت مسرحيات هزلية فاجرة لاقت نجاحاً ملحوظاً. وفي 1678 نشرت "أورونوكو" وهي قصة "رقيق ملكي" زنجي، وحبيبته امواندا. وكان مزيجاً أصيلاً من الواقعية والرومانسية أو الخيال. وكان الطريق ممهداً أمام قصة روبنسن كروزو، وللقصة الرومانسية.

كذلك عاش ديفو على قلمه. وكان من أكثر الأقلام تعدداً للجوانب والبراعات: وكان أبوه جيمس ديفو قصاباً في لندن، شديد التمسك بمذهب البرسبيتريان. وكان من المتوقع أن يكون دانيال واعظاً، ولكنه آثر الزواج والعمل والسياسة. وأنجب سبعة أطفال، وأصبح تاجر جوارب بالجملة. والتحق بجيش دوق مونموت في الثورة (1685)، ثم انضم إلى جيش وليم في الإطاحة بعرش جيمس الثاني وفي 1692 أفلس وبلغت ديونه 17 ألفاً من الجنيهات، ثم دفع لدائنيه استحقاقاتهم كاملة تقريباً فيما بعد، وفيما هو يكسب ويخسر، أصدر كتيبات في طائفة من الموضوعات زاخرة بكنز مدهش من الأفكار الأصيلة. ففي مؤلفه "بحث في المشروعات" عرض مقترحات عملية متقدمة كثيراً عن زمانه، في المصارف، والتأمين، والطرق ومستشفيات الأمراض العقلية، والكليات الحربية، والتعليم العالي للبنات. وانتقل إلى Tilbary حيث أصبح سكرتيراً لمصنع للقرميد ثم مديراً، وفي النهاية مالكاً له. ولما قدموه إلى وليم الثالث عينه في وظيفة حكومية صغيرة، وأيد سياسة الملك تأييداً كبيراً إلى حد اتهامه بأنه هولندي أكثر منه إنجليزي، فدافع عن نفسه في قصيدة رائعة، عنوانها "الإنجليزي الصميم الأصيل" (1701) ذكر فيها الإنجليز بأن الأمة كلها مختلطة الدماء والأعراق، ولما كان هو نفسه من المنشقين فإنه في 1702 نشر كراسة غفلاً من اسم المؤلف، تحت عنوان "أقصر طريق مع المنشقين" استبق فيها أسلوب سويفت في التسفيه والتسخيف عن طريق المبالغة، وهاجم فيها اضطهاد الإنجليكانيين للمنشقين، باستحسانه إعدام كل منشق يقوم بالوعظ، وطرد المنشقين الذي يستمعون إليه من إنجلترا. وقبض عليه في فبراير 1703، وحكم عليه بالغرامة والسجن وعذب في المشهر. وأفرج عنه في نوفمبر، ولكن في نفس الوقت كان مصنع القرميد قد تخرب وتوقف العمل فيه.

وكان الرجل الذي ساعد في الإفراج عنه هو الوزير روبرت هارلي الذي تحقق من مقدرة ديفو الصحفية، ومن الواضح أنه عقد معه اتفاقاً لاستغلال قلمه، ومن ثم التحق ديفو بخدمة الحكومة طيلة بقية حكم الملكة آن. وبدأ فور إطلاق سراحه في إصدار صحيفة ذات أربع صفحات ثلاث مرات في الأسبوع. اسمها "ريفيو" التي ظلت تظهر حتى 1713، وكان معظمها بقلم ديفو.

وفي عام 1704slash1705 طاف ديفو بأرجاء إنجلترا على ظهر جواد، يدعو للمستر هارلي في الانتخابات. وفي تلك الأثناء جمع مادة كتابه "جولة في إنجلترا وويلز". وفي 1706-1707 عمل لحساب هارلي وجودولفين جاسوساً في إسكتلندة، وحظيت كراساته القوية بكثير من القراء كما جلبت إليه الكثير من الأعداء. واعتقل ثانية في 1713 وفي 1715، ومرة أخرى أطلق سراحه بناء على وعد بتسخير قلمه في خدمة الحكومة.

وكان له قدرة على ابتكار كثير من الموضوعات الأدبية. وفي 1715 نشر بعض مقتطفات يفترض أن كاتبها من الكويكرز. وفي نفس السنة نشر "حروب شارل الثاني عشر" كما يرويها "اسكتلندي في خدمة السويد". وأصدر في 1717 رسائل يظن أن كاتبها تركي، يندد بالتعصب المسيحي. وأسهم في تحرير مجلة اسمها بحق الضباب "Mist"، بتوقيع مراسلين وهميين. وقلما وقع ديفو كتاباته باسمه. وكان إلى جانب هذه البراعة في تمثيل شخصيات مختلفة، جمع ديفو سعة الإطلاع في الجغرافيا، وبخاصة جغرافية أفريقية والأمريكيتين. وظاهر أنه أفتتن بكتاب وليم دامبيير "رحلة جديدة حول العالم" 01697)، وفي إحدى رحلات دامبيير ألقت سفينته المسماة "الثغور الخمسة" مراسيها في جزر جوان فرنانديز على بعد نحو أربعمائة ميل إلى الغرب من شيلي. وكان أحد البحارة الاسكتلنديين يدعى إسكندر سلكيرك قد تشاجر مع القبطان، فطلب إليه أن يتركه في إحدى الجزر الثالث، على أن يزوده ببعض الحاجيات الضرورية. وبقى البحار هناك وحيداً لمدة أربعة أعوام، حيث أعيد إلى إنجلترا، وهناك قص قصته على ريتشارد ستيل الذي كتبها في عدد "الرجل الإنجليزي The Englishman" الصادر في 3 ديسمبر 1713، كما رواها كذلك لديفو، وزعم أنه أعطاه بياناً مكتوباً عن مغامراته في الغربة والوحدة(66). وحول ديفو هذه الخلاصة إلى قطعة من الأدب. وفي 1719 نشر أشهر قصة في القصص الإنجليزي.

وألهبت "حياة روبنسن كروزو ومغامراته العجيبة الدهشة" خيال إنجلترا. وظهرت منها أربع طبعات في أربع شهور. وهنا كان مفهوم جديد للمغامرة والصراع - لا صراع الإنسان ضد الإنسان، ولا صراع الإنسان التحضر ضد الإنسان المتوحش. بل كفاح الإنسان ضد الطبيعة، صراع رجل وحيد، يتملكه خوف حقيقي، لا يجد أي عون أو مساعدة، حتى جاء "التابع المخلص الأمين"، وبنى حياة من المواد الخام في الطبيعة. وتلك كانت تاريخ حضارة رجل واحد في مجلد واحد. واعتبرها كثير من القراء تاريخياً، حيث لم ترو قط في الأدب من قبل قصة جمعت بين مثل هذه الأشياء التي تحتمل الصدق والكذب في مثل هذه التفاصيل التي أخذ بعضها بخناق بعض بشكل عارض. إن تمرس ديفو في الخداع الأدبي رفعه من الصحافة إلى الفن.

وعاش ديفو في شيء من بحبوحة العيش في لندن، ولكنه لم يتخل عن إنتاجه الذي لا يبارى. فبينما ظل يصدر الكراسات، أخرج كتباً في الحجم الطبيعي، تضم قصص صغيرة، فنشر في 1720 "تأملات جادة في حياة روبنسن كروزو ومغامراته المدهشة"، "حياة ومغامرات مسز دنكان كامبل" (وهي ساحرة مشعوذة صماء بكماء). وبعد ذلك بشهر واحد "مذكرات فارس" "وبن تروفاتو" وقد حسبه بت الأكبر تاريخاً وبعد شهر آخر أخرج "حياة القبطان المشهور سنجلتون ومغامراته وقرصناته" وهو كتاب حوى توقعات مدهشة عن كشوف في أفريقية. وفي 1722 أصدر "هناء وشقاء مول فلاندرز" و "صحيفة عام الطاعون"، و "تاريخا كولونيل جاك"، و "الغزل الديني"، و "التاريخ النزيه لبيتر الكسوفتش "قيصر المسكوف الحالي" - وهذه هي المرة الثانية التي يستبق فيها فولتير في كتابه سير الحياة. وقصد بهذه المجلدات الضخمة أن توفر سبل العيش لأسرته، ولكنها بفضل قوة خيال الكاتب وأسلوبه الفياض، أصبحت أدباً. وفي "مول فلاندرز" اندس ديفو إلى عقل بغي وقلبها، حتى أفضت إليه بقصتها بشكل يتضح معه صراحتها وإخلاصها ويدعو إلى تصديقها ولو ظاهرياً، حتى تركها في النهاية راضية "آمنة ومطمئنة في خير عافية" وهي في السبعين(67). أما "صحيفة عام الطاعون" فكانت مدعمة بأدق الوقائع والحقائق والإحصاءات، حتى اعتبرها المؤرخون تاريخاً.

أما عام 1724 فلا يثير دهشة كبيرة: ذلك أن ديفو نشر إحدى أمهات قصصه "السيدة السعيدة الحظ" المعروفة باسم "روكسانا" وهي المجلد الأول من مجلدين يتناولان جولاته في ربوع جزيرة بريطانيا العظمى، و "حياة جون شبرد" وهو يوهم بأنه مخطوطة سلمها شبرد إلى صديق له قبل إعدامه. وكانت هذه إحدى السير القصيرة العديدة التي كتبها ديفو عن حياة المجرمين، ومهدت إحدى سير الحياة واسمها "وغد المرتفعات" (1724) الطريق لكتاب سكوت "روب روى" كما مهدت سيرة أخرى، هي "حياة جوناثان ويلد" الطريق أمام فيلدنج. والحق أن أي موضوع شعبي أسال قلم ديفو، وأفاض عليه الجنيهات من خزائن ناشري كتبه، من ذلك "التاريخ السياسي الشيطان" (1726)، و "خفايا السحر" (1720)، و "الكشف عن أسرار الدنيا الخفية"، أو تاريخ حقيقة الأشباح (1727-1728) أضف إلى هذا كله قصيدة في اثني عشر جزءاً "العدل الإلهي" يدافع فيها عن الحقوق الطبيعية لكل إنسان في الحياة وفي الحرية وفي التماس السعادة ووسط هبوط ديفو كثيراً إلى كمستوى ذوق الشعب وأخيلته، ترى أنه أسهم إسهاماً مخلصاً في أفكار جادة: مثل "التاجر الإنجليزي الكامل" (1725-1727)، و "خطة التجارة الإنجليزية" (1728)، والكتاب الذي لم ينته منه "الرجل الإنجليزي الكامل" فأنه في هذه الكتب جميعها قدم معلومات مفيدة ونصائح عملية، لم تتلاءم في كل الأحوال مع أخلاقيات الإنجيل.

وقد لا نحبذ أخلاقيات ديفو أو سلوكه الأدبي، ولكنا نملك الإعجاب بمثابرته وجده، وربما لم يشهد التاريخ قط منذ إنجاب رمسيس الثاني 150 ولداً مثل وفرة ديفو في الإنتاج. والشيء الوحيد الذي يكاد لا يصدق في ديفو هو أنه الذي كتب كل ما كتب، لأننا كذلك يتولانا العجب كل العجب من نوعية عقل ديفو الذي سخرت فيه قوة الخيال وقوة الذاكرة لهذا العمل الشاق أو الجهد الجهيد، والذي أخرج هذه الأشياء الوهمية المقبولة شكلاً إلى أبعد حد في الأدب. وأننا لنعترف بعبقرية وشجاعة رجل استطاع مع ضخامة العمل والعجلة في إنجازه، أن يحتفظ بهذا المستوى الرفيع في المادة والأسلوب. في المائتين والعشرة مجلدات التي أخرجها (إذا صدقنا ما قيل) لا يكاد المرء يقع على صحيفة واحدة مملة باهتة، وإذا اتفق أن كان ديفو أحياناً بليداً غبياً فإنه كان يفعل ذلك عن عمد ليضيف إلى حكايته شيئاً من احتمال الصدق والكذب. ولم يبزه أحد في بساطة السرد ووضوحه، وفي كونه طبيعياً بعيداً عن التكليف إلى حد الإقناع. وهناك كانت عجلته ضرباً من ضروب الحظ السعيد له، حيث لم يكن لديه فسحة من الوقت للتنميق والزخرف. وأرغمه تدريبه الصحفي ونزعته الصحفية على الإيجاز والوضوح. وكان أكبر صحفي في زمانه بكل معاني الكلمة، ولو أن هذا الوصف ينطبق على ستيل وأديسون وسويفت. فإن صحيفته "ريفيو" مهدت الأرض التي أنبتت فيها صحيفة "سبكتاتور" بذوراً منتقاة بشكل أفضل. والحق أن هذا شرف أي شرف. ولكن أضيف إليه الشهرة العالمية الباقية على مر الدهور لقصة روبنسن كروزو، وأثرها على قصص المغامرات، حتى على قصة تختلف اتجاهاتها كل الاختلاف مثل "رحلات جلليفر" وإذا استثنينا مؤلف ذلك الاتهام الذكي للبني الإنسان (سويفت في رحلات جلليفر)، فإن ديفو كان أعظم عبقرية في رجال الأدب الإنجليزي في عصر زخر بهم.


7- ستيل وأديسون

يحدد ريتشارد ستيل أكثر من أي إنسان غيره بداية عصر الانتقال في الأدب، من عودة الملكية الى حكم الملكة آن. واتصف في شبابه بكل صفات العربدة والصخب والفجور التي سادت فترة عودة الملكية. ولد في دبلن، وكان أبوه موثوقاً عاماً (كاتب عدل)، وتعلم في مدرسة تشارتر هاوس وأكسفورد وكان حساساً سريع الاهتياج كريماً، وبدلاً من الحصول على درجته الجامعية انضم الى جيش الحكومة في إيرلندة، وكان يسف في شرب الخمر اسفافا، ويبارز حتى يقارب أن يصرع خصمه. وأكسبته التجربة رصانة عابرة، فبدأ يحمل على المبارزة، وكتب مقالا عن "البطل المسيحي" (1701) جادل في امكان أن يكون المرء سيدا ماجدا مهذبا "جنتلمان" مع بقائه مسيحيا. ووصف الفساد الذي ساد العصر، وعاد بذاكرة قرائه الى الكتاب المقدس بوصفه منبع الإيمان الصادق والخلق القويم، وناشد الرجال أن يحترموا جمال النساء وعفتهن.

وكان في التاسعة والعشرين، حين وجد أنه حتى الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها، تتبرم به على أنه واعظ ممل، فعقد العزم على النهوض برسالته عن طريق الروايات، وامتدح تنديد جرمى كوليير بالخلاعة والفحش في المسرح، فانبرى في سلسلة من الملهيات يدافع عن الفضيلة يشن حملات صادقة على الأوغاد. ولكن هذا الإنتاج لم يلق نجاحا. فالحق أن المسرحيات حوت مشاهد حية ودلت على ذكاء وموهبة، ولكن جمهور النظارة تشككوا في حل عقدة الروية أو في نتيجتها، وطالبوا باللهو والتسلية على حساب الوصايا العشر مهما كان الثمن غاليا، على حين أن اللندنيين الحصفاء الذين قد يتعاطفون مع مشاعره، قلما كانوا يظهرون في المسرح. كيف الوصول إلى هؤلاء الناس ؟

وقرر ستيل أن يجرب وسيلة يواجههم بها في المقاهي. وفي 12 أبريل 1709 أخذ ورقة من صحيفة ديفو "ريفيو" وأصدر العدد الأول من صحيفة تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، أطلق عليها ((The Tatler)) وحررها وكتب معظم مادتها تحت اسم مستعار "ايزاك بيكرستاف". ووجها إلى المقاهي، حيث أعلن:

"كل ضروب البسالة والكياسة، والمسرات والتسلية، تلتقون بها في "مقهى هوايت للكاكاو" والشعر في "مقهى ول Will" والعلم والمعرفة تحت عنوان "جريشيان". والأنباء الخارجية والداخلية من "مقهى سان جيمس". أما سائر الموضوعات التي سأقدمها فمن عندي أنا.

وكام مشروعاً بارعاً، أثار اهتمام رواد المقاهي، واستقى الأنباء والموضوعات من مناقشاتهم هناك، وأتاح لريتشارد ستيل أن يعبر عن آرائه دون مقاطعة أو نزاع، وفي العدد 25 الصادر بتاريخ 7 يونيه 1709 ذكر أنه تلقى رسالة من "سيدة شابة ... ترثى فيها لسوء حظ .. حبيبها الذي أصيب مؤخرا بجرح أثناء المبارزة" واستطرد ستيل ليبين سخف عادة تحتم أن يدعو الشخص الذي أوذي الشخص المسىء ليضيف ضغثاً إلى ابالة أو القتل إلى الإساءة فماذا تعني المبارزة أو التحدي إلا هذا!!

سيدي، أن سلوكك الشاذ في الليلة الماضية، وتطاولك علي في جرأة وحرية طابت لهما نفسك، كل هذا يدفعني إلى أن أوجه إليك هذا الإنذار، لأنك مغرور أحمق غير مهذب .. سألتقي بك في هايدبارك في ظرف ساعة، حاملا مسدسا، وحاول أن تصوبه الى رأسي، حتى ألقنك درسا في آداب السلوك".

وهنا كان صوت الطبقة الوسطى يسخر من الأرستقراطية. والحق أن الطبقة الوسطى أساسا هي التي زحمت المقاهي. وفي مقالات خرى سخر ستيل من بذخ الأرستقراطية ولغوها ومظاهرها الكاذبة وزينتها وملابسها، وتوسل إلى النساء أن يرتدين الثياب البسيطة، ويمتنعن عن الحلي والمجوهرات. فإن عقد اللؤلؤ فوق الصدر لا يضيف شيئاً لى الصدر العاجي الجميل الذي يحمله(68)".

إن رقته مع النساء كانت تتبارى مع ولعه بالخمر. وألح على القول بأنهن بحق يتمتعن بالذكاء وسلامة البنية. ولكنه امتدح الكثير من تواضعن وطهرهن - وتلك صفات لم تعترف بها ملهاة فترة عودة الملكية. وقال عن إحدى النسوة "إن حبك لها يعني أنك تتسم بالتحرر في تعليمك" واعتبر كري "أن هذه العبارة ربما كانت أرق تحية قدمت لامرأة)69)". ووصف ستيل، في إحساس عميق، مباهج الحياة الأسرية، والوقع الجميل لأقدام الأطفال، وإقرار الزوج بفضل زوجته المسنة وعرفانه لجميلها:

"إنها في كل يوم تدخل على قلبي سروراً أكثر بكثير مما عرفت فيها أيام كنت أستمتع بجمالها وأنا في نضارة الشباب، إن كل لحظة في حياتها تقدم لي أمثلة جديدة على تجاوبها مع ميولي ورغباتي، وحسن تدبيرها بالنسبة لمواردي في أوقات اليسر والعسر. إن وجهها أجمل بكثير مما رأيته لأول مرة وليس استطعت أن ألحظه منذ اللحظة التي حدث فيها نتيجة اهتمام شديد قلق بمصالحي ربما يعود علي بالخير .. إن حب الزوجة أسمى بكثير من ذلك الهوى التافه الذي يسمونه عادة بهذا الاسم (الحب)، بقدر هبوط مستوى ضحكات المهرجين العالية الماجنة عن مستوى المرح الهادئ الرشيق عند الأماجد المهذبين(70)".

وكان ستيل قد تزوج مرتين عندما كتب هذا، وإن رسائله الى زوجته لهي نماذج للاخلاص والحب، ولو أنها سرعان ما تشتمل على اعتذارات عن عدم الحضور لتناول الطعام في البيت. إنه أخفق في أن يكون الرجل البرجوازي الفاضل الذي كان في نظره نموذجا للحياة، فإنه سكر كثيراً وأنفق كثيراً واستدان كثيراً، واجتاز الشوارع الجانبية ليتحاشى لقاء أصدقائه الذين أقرضوه المال. واختفى عن الأنظار تملصا من دائنيه ومراوغة لهم، ولكنه في نهاية الأمر أودع السجن بسبب الدين، وقارن قارئو صحيفته ((Tatler)) بين عظاته وتصرفاته. وأصدر جون دنيس نقدا لاذعا لآراء ستيل، وتناقص عدد المشتركين في الصحيفة واحتجبت عن الظهور في 2 يناير 1711، ولكنها تحتفظ بمكانتها في تاريخ الأدب الإنجليزي، لان بين جنباتها بدأت الأخلاقية الجديدة تعبر عن نفسها، وبدأت القصة القصيرة تأخذ شكلها الحديث، كما طور أديسون المقالة الحديثة حيث بلغ بها حدا الاتقان والكمال في صحيفة "سبكتاتور".

وولد أديسون وستيل كلاهما في 1672، وكانا صديقين منذ كانا يدرسان معا في مدرسة تشارتر هاوس. وكان والد جوزيف أديسون قسيساً أنجليكانياً، أشرب ابنه من التقوى والورع ما قاوم به كل مساوئ ومفاسد فترة عودة الملكية. وكسبت له براعته في اللاتينية منحه دراسيه. وفي سن الثانية والعشرين أعجب إرل هاليفاكس بمواهبه، إلى حد أنه أقنع رئيس كليه ماجدلن بتحويل الشاب من سلك الكهنة الى خدمة الحكومة. وقال هاليفاكس "يقولون عني أني عدو للكنيسة، ولكني لن أعود للإساءة إليها قط، بعد أن أحتفظ بمستر أديسون بعيدا عنها(71)" ولما كانت المقدرة في اللاتينية غير مقرونة بمعرفة اللغة الفرنسية، وكانت الحاجة إلى معرفة اللغة الفرنسية أساسية عند الدبلوماسيين فإن هليفاكس خصص لأديسون ثلاثمائة جنيه سنويا لينعق منها أثناء إقامته في القارة. ولمدة عامين تجول أديسون على مهل في أرجاء فرنسا وإيطاليا وسويسرا.

وبينما هو في جنيف ارتقت الملكة آن عرش إنجلترا فأبعد أصدقاؤه عن مناصبهم، وانقطع عنه راتبه. ولما لم يبق له إلا دخله الضئيل، فإنه اشتغل معلما ومرشدا خاصاً لسائح إنجليزي شاب، وطاف معه بأنحاء سويسرا وألمانيا والمقاطعات المتحدة. ولما انتهت هذه المهمة عاد إلى لندن 1703، وعاش لبعض الوقت في فقر يستره التعفف وحسن المظهر. ولكنه كان "مغناطيسياً" يجذب الثراء والحظ السعيد. ذلك أنه عندما انتصر دوق مالبورو في معركة بلنهيم في 13 أغسطس 1704 فتش جودولفين وزير الخزانة عن شخص يخلد ذكر هذا النصر شعرا. وأوصى هاليفاكس بأديسون للقيام بهذا العمل، واستجاب الشاب الموهوب بقصيدة رنانة "الحملة" ونشرت في نفس اليوم الذي دخل فيه مالبورو العاصمة دخول المنتصر الظافر، وساعد نجاح القصيدة على أن توطن انجلترا نفسها على مواصلة القتال. إن جورج وشنطن آثر الشعر المحلق عاليا الذي كتبه أديسون على سائر القصائد. وإليك أبياتا مشهورة منها:

"إيه يا ربة القريض، أي شعر ترين أن أنشده القوات التي اشتعلت في نفوسها نيران الغضب، المتراصة في ميدان المعركة! إني ليخيل إلي أني أسمع دقات الطبول الصاخبة وصيحات النصر وأنات الموتى يختلط بعضها ببعض وطلقات المدافع المرعبة تشق أجواء الفضاء، وصيحات الحب تدوي مثل الرعد. وهنا أثبت مالبورو العظيم بروحه العالية أنه راسخ كالطود، لا يهتز لإلتحامات الجيوش المهاجمة، وفي غمرة لضجة والفزع واليأس، يشهد كل مناظر الحرب المروعة، ويشرف على ساحة الموت ثابت الجنان، يفكر في هدوء. ويرسل المدد في الوقت المناسب للفرق المتخاذلة، وينفخ في المحاربين المترددين من روحه فيدفعهم إلى الالتحام مع العدو، ويحدد للمعركة المتأرجحة أين تشتد وتحتدم. كما لو أن ملكا من السماء، بأمر من عند الله زلزل أرض الأعداء بريح عاتية (كما حدث مؤخرا لبريطانيا الواهنة). وفي هدوء ورصانة يسوق مالبورو العاصفة العاتية، ويطيب نفسا بتنفيذ أمر الله سبحانه وتعالى، فيمتطي صهوة جواده وسط الرياح الهوجاء ويقود العاصفة ويوجهها كيف يشاء".

وحقق البيت الأخير والتشبيه الملائكي لأديسون العودة سالما إلى وظيفة حكومية تدر عليه راتبا، بقي قيها طيلة السنوات العشر التالية. وفي 1705 عين عضوا في لجنة الاستئناف، خلفا لجون لوك. وفي 1706 وكيلا للوزارة. وفي 1707 ألحق ببعثة هاليفاكس إلى هانوفر، التي هيأت لأسرة هانوفر السبيل لارتقاء عرش انجلترا. وفي 1708 اتخذ مقعده في البرلمان، وبفضل خدماته الجليلة احتفظ به حتى الممات. وفي 1709 أصبح السكرتير الأول لنائب الملكة في إيرلندة. وفي 1711 أثرى إلى حد استطاع معه أن يشتري ضيعة في رگبي بعشرة آلاف جنيه.

إن أديسون في أيام الرخاء لم ينس ستيل. فأنبه على أخطائه ولكنه هيأ له منصبا حكوميا، وأقضه مبالغ كبيرة من المال، وطالبه مرة واحدة أن يسددها(72). وعندما صدرت صحيفة ((The Tatler)) غفلا من الاسم، لاحظ إشارة إلى فرجيل كان قد لمح بها إلى ستيل، وفي "إيزاك بيكرستاف" عرف ثانية صديقه المترف المفلس وسرعان ما اشترك في الصحيفة. وفي 1710 سقطت حكومة الأحرار، وفقد ستيل وظيفته الحكومية، وفقد أديسون كل مناصبه باستثناء عضوية لجنة الاستئناف. واحتفلت صحيفة تاتلر بهذا العام بالاحتجاب عن الظهور. وشارك أديسون وستيل الواحد منهما الآخر آلامه وآماله، وفي أول مارس 1711 أخرجا أول عدد من أشهر الدوريات في تاريخ الأدب الإنجليزي.

وظهرت صحيفة "سبكتايور" يومية - ماعدا يوم الأحد، في فرخ مطوي ذي أربع أو ست صفحات. وبدلا من تحديد المقالات من مراكز مختلفة. ابتدع المحرر المجهول الاسم نادياً وهمياً يمثل أعضاؤه قطاعات مختلفة من دنيا الانجليز: سير روجردي كوفرلي سيد من الريف، سير أندرو فريبورت يمثل طبقة التجار، ويتحدث الكابتن سنتري باسم الجيش، أما ول هنيكوم فهو الرجل العصري المتألق، أما المحامي في دار العدل فيمثل العلم والمعرفة" ويجمع مستر "سبكتاتور" نفسه بين وجهات نظرهم في إطار من المرح اللطيف والكياسة والذكاء، مما نفذت معه الصحيفة إلى بيوت الانجليز وقلوبهم جميعاً. وفي العدد الأول وصف مستر سبكتاتور نفسه، حتى جعل النوادي والمقاهي تحاول الكشف عن شخصيته بالحدس والتخمين:

"قضيت سنواتي الأخيرة في هذه المدينة حيث يراني الناس كثيراً في معظم الأماكن العامة، ولو أن عدد الصفوة المختارة من الأصدقاء الذين يعرفونني لا يجاوز الستة، وسأتحدث عنهم في العدد القادم بشكل أدق. ولا يكاد يوجد مكان يأوي إليه الناس بصفة عامة إلا وظهرت فيه، فأحيانا يرونني أدس أنفي في حلقة من رجال السياسة في "مقهى ول"، مصغيا بأكبر اهتمام إلى ما يدور في هذه الاجتماعات الدورية. وأحيانا أدخن غليوني، وعلى حين غير منصت لشيء إلا ساعي البريد، فإني أسترق السمع إلى النقاش الذي يدور على كل مائدة من الغرفة. وفي أمسيات الأحد أقصد إلى مقهى سان جيمس، وانضم أحيانا إلى جماعة السياسيين الصغيرة في الحجرة الداخلية، بوصفي رجلا يذهب إلى هناك ليسمع ويستفيد. ووجهي كذلك معروف تمام المعرفة في "جريفان" وفي مقهى "شجرة الكاكاو" "وفي مسارح "دروري لين" و "هاي ماركت" على حد سواء. وكانوا يحسبونني تاجرا في "البورصة" طيلة هذه السنوات العشر أو أكثر. وأحيانا حسبوا أني يهودي من جماعة السماسرة الذين لا يوثق بهم في "جوناتان" وجملة المقول إني لا أرى حشدا من الناس إلا حشرت نفس في زمرتهم، ولو أني لا أنبس ببنت شفة إلا في النادي الخاص بي.

وهكذا أعيش في هذه الدنيا متفرجاً، لا واحداً من الجنس البشري، وبهذه الطريقة جعلت من نفسي رجل دولة يطيل التأمل والتفكير، وجندياً وتاجراً، وصانعاً ماهراً، دون أن أمارس العمل في أي قطاع من قطاعات الحياة. كما أني على دراية تامة بشؤون الزواج والأبوة، وأستطيع تبين وجوه الخطأ في الاقتصاد وفي الأعمال وفي الانحراف، أفضل بكثير ممن يتولون هذه الأمور بأنفسهم، لأن المتفرجين يكتشفون أخطاء يمكن ألا تقع عليها أعين المشتركين في اللعبة. إني لم أناصر قط حزبا في اندفاع أو عنف. وإني عاقد العزم على أن أقف موقف الحياد الدقيق بين الأحرار والمحافظين، إلا إذا اضطررت إلى إعلان الانحياز إلى أي من الفريقين بسبب تصرفات غير وديعة من الفريق الآخر. وصفوة القول إني كنت طوال حياتي "متفرجاً" وتلك هي الشخصية التي أقصد ألا أحيد عنها في هذه الصحيفة".

وبتقدم المشروع، جمعت "سيكتاتور" بين الموضوعات الاجتماعية ودراسات العادات والسلوك والأخلاق والنقد الأدبي واستعراض أحوال المسرح. وكتب أديسون سلسلة من المقالات عن ملتون أدهش بها انجلترا حين سما بقصيدة "الفردوس المفقود" فوق مرتبة "إلياذة" هوميروس، و "إنيادة" فرجيل. وتجنبت المناقشات الخوض في السياسة التي تثير العداوات والتقلبات، ولكن ألحت - واشترك في هذا أديسون عن طيب خاطر - على دعوة ستيل إلى الإصلاح الاجتماعي. وظهر من جديد شيء من الروح البيوريتانية هذبته المحنة، كرد فعل للنكسة التي اجتاحت فترة عودة الملكية، ولكنها لم تعد الآن انهماكاً لاهوتياً كئيباً مفزعاً في التخويف من الشيطان ومن الخطيئة المهلكة، بل دعوة إلى الاعتدال والاحتشام موسومة بالتفاؤل مغلفة بالدهاء والظرف. وعلى هذا النسق بدأ عدد 10 نوفمبر:

"إنه لمما يبعث عن الرضا والارتياح أن أرى المدينة العظيمة تلح يوما بعد يوم على طلب صحيفتي هذه. وتستقبل مقالاتي الصباحية في جدية واهتمام مناسبين. ويقول الناشر أن ثلاثة آلاف نسخة منها توزع يومياً بالفعل. فإذا حسبت أن النسخة الواحدة يتداولها عشرون قارئا، وهو تقدير متواضع، لأحصيت من المريدين ستين ألفا في لندن ووستمنستر، آمل أن يلحظوا الفرق بينهم وبين القطيع الطائش من أخوانهم الجهلة الغافلين، ومذ حظيت بمثل هذا العدد الكبير من القراء فإني لن أدخر وسعا في أن يكون ما أزودهم به من علم ومعرفة مقبولا، ومن تسلية نافعاً مفيداً. ولهذا أحاول أن أحيي الأخلاق بالدعابة وألطف الدعابة بالفضيلة، لعل قرائي يشقون إذا أمكن، عن هذا السبيل أو ذاك، طريقهم إلى التأمل فيما يجري حولهم كل يوم، رغبة مني في ألا يكون حظهم من الفضيلة قليلا عابرا، أو مجرد ومضات متقطعة من التفكير، صح عزمي على أن أنعش ذاكرتهم وعقولهم بين الحين الحين، حتى أخرجهم من ظلمات اليأس والرذيلة والحماقة التي تردى في هذا العصر. فإن العقل الذي يخلد إلى الدعة والراحة ولو يوماً واحداً، يشب على الحماقات والسخافات التي لا يمكن اقتلاعها إلا بالمداومة على تثقيفه تثقيفاً جاداً مثابراً. ولقد قالوا عن سقراط أنه أنزل الفلسفة من السماء لتسكن بين الناس على الأرض، وكم تهفو نفسي أن يقال عني أني أتيت بالفلسفة من المخابئ والمكتبات والمدارس والجامعات، لتستقر في النوادي والجمعيات، وعلى موائد الشاي، وفي المقاهي. من أجل ذلك أوصي، بالنسبة لتأملاتي هذه، وبصفة خاصة، الأسرات التي ترعى النظام والدقة في حياتها، ن تخصص في كل صباح ساعة محددة لتناول الشاي والخبز والزبد، وأنصحها جديا، ولخيرها هي، أن تثابر على ثراء هذه الصحيفة، وتعتبرها جزءاً من تجهيزات الشاي".

واتجهت صحيفة "سبكتاتور" إلى النساء والرجال سواء بسواء، فعرضت أن تعالج موضوع الحب والجنس، وتصور "الحب الزائف أقبح وأشد قتاماً من ... الخيانة في الصداقة أو النذالة والخسة في التجارة وسائر الأعمال(73). وكتب أديسون يقول: "سيكون من أعظم مفاخر هذه المهمة التي أنهض بها أن تهيئ هذه الصحيفة بعض الموضوعات التي يخوض فيها بعض السيدات العاقلات المفكرات على موائد الشاي(74)". وشجعت الرسائل وطبعت، وكتب ستيل نفسه سلسلة من الرسائل التي تشكو الحرمان من الحب والأحباب، كان بعضها موجها إلى خليلاته، وبعضها دبجه المحررون في أسلوب حديث جداً. وجمعت الصحيفة بين الدين والحب. وزودت باللاهوت المعتدل جيلاً بدأ يتساءل عن أثر تخلخل إيمان الطبقات العليا عن الأخلاق. وأهابت بالعلم أن يتابع طريقه، ويدع الكنيسة وحدها حارساً حكيماً محنكاً على الأخلاق، فأن حقوق الوجدان ومتطلبات النظام تدل على إدراك الفرد وعقله، فهو دوما في دور المراهقة. وخير للأخلاق ولسعادة الإنسان تقبل العقيدة القديمة في خشوع، وحضور صلواتها وخدماتها والالتزام بعطلاتها، والمساعدة على خلق الجو المناسب ليوم العبادة الهادئة في كل أبرشية.

"إني لأجد السرور كل السرور في يوم الأحد في الريف، وكم أتمنى لو أن تقديس اليوم السابع والتعطيل فيه كان مجرد نظام إنساني، إذن لأصبح أفضل وسيلة فكر فيها الإنسان لتهذيب الجنس البشري وصقله وتمدينه، ومن المؤكد أن أهل الريف سيخطون سريعا إلى نوع من المتوحشين والمتبربرين إذا لم يعودوا دوماً إلى زمن محدد تجتمع فيه القرية كلها بوجوه باسمة في أبهى حلة ليتدارس أهلها فيما بينهم مختلف الموضوعات، وليوضح لهم ما ينبغي عليهم أداؤه من واجبات، وليجتمعوا معا لعبادة الله "الكائن الأسمى".

إن يوم الأحد صدأ الأسبوع كله، لا لأنه يحي الأفكار الدينية في العقول. بل لأنه يجمع بين الرجال والنساء. والكل يبدو في أحسن صورة(75)".

أما الأدب الذي كان مطية الإباحية والخلاعة طوال الأربعين عاماً الماضية، فقد انحاز الآن إلى جانب الأخلاق والإيمان. وأسهمت صحيفة سيكتاتور في انقلاب السلوك والأسلوب الذي استبق في عهد الملكة آن، بقرن من الزمان، روح أواسط العصر الفكتوري، التي قضت بألا يحترم إلا من هم حقا جديرون بالإحترام، وغيرت مفهوم الانجليز عن السيد الماجد "جنتلمان" من الرجل ذي اللقب الذي يحسن مغازلة النساء، إلى المواطن المهذب الكريم النشأة. وفي "سبكتاتور" وجدت فضائل الطبقة الوسطى من يدافع عنها دفاعا مهذبا مصقولا. وكان التعقل وحسن التدبير وعدم التبذير أجدى على المجتمع وثمن لديه من أناقة الثياب وسرعة الخاطر وكان التجار سفراء الحضارة إلى الشعوب المختلفة. وكانت عائدات التجارة والصناعة عصب الحياة للدولة.

وأحرزت صحيفة سبكتاتور نجاحاً ومنزلة رفيعة ليس لهما مثيل في الصحافة الانجليزية وكان توزيعها ضئيلا، لا يكاد يجاوز أربعة آلاف، ولكن تأثيرهاً كان عظيماً إلى حد بعيد. وكان يباع من مجموعاتها المجلدة نحو تسعة آلاف نسخة سنويا(76)، وكأنما أدركت انجلترا فعلا أنها لون من الأدب. ولكن بمرور الزمن بليت جدثها وخبا بريقها، وبدأت شخصيات النادي تكرر نفسها، وفترت حيوية الكتاب المنهوكين ونشاطهم، وصبحت عظاتهم تبعث السأم في نفوس القراء. وهبط توزيع الصحيفة، وزادت المصروفات على الايرادات نتيجة ضريبة التمغة التي فرضت 1712. وفي 16 ديسمبر 1712 احتجبت الصحيفة عن الظهور. وواصل ستيل الكفاح في صحيفة "جارديان". وأحيا أديسون صحيفة سبكتاتور 1714. ولم يطل عمر الصحيفتين كلتيهما، لأن أديسون كان قد أصبح آنذاك كاتبا مسرحيا ناجحا، وأعيدت إليه وظائفه ورواتبه الحكومية.

وفي 14 أبريل 1713 أخرج مسرح "دروري لين" مسرحية "كاتو" لأديسون كتب لها صديقه بوب مقدمة زاخرة بالحكم والأفكار التي عرفت عنه، مثقلة بالوطنية الثائرة المتفائلة معا، وأخذ ستيل على عاتقه أن يحشد لمشاهدة المسرحية كل "الأحرار" الغيورين المتحمسين، فلم يوفق في ذلك كل التوفيق، ولكن "المحافظين" انضموا إلى الأحرار في استحسان وقفة "كاتو" الأخيرة دفاعا عن "الحرية الرومانية" (46 ق. م.) وتبارت صحيفة المحافظين "اجزامنر" مع صحيفة ستيل "جارديان" في نشوة الابتهاج والاستحسان. واستمر العرض لمدة شهر كامل مع تزايد عدد المترددين على المسرح لمشاهدتها، حتى قال بوب "لم يكن كاتو محل إعجاب ودهشة روما في زمانه قدر ما هو موضع إعجاب ودهشة بريطانيا في أيامنا هذه"(77). واعتبرت كاتو في القارة أجمل مسرحية "تراجيدية" في اللغة الإنجليزية. وأعجب فولتير بالتزامها بالوحدات، وعجب كيف أن إنجلترا تطيق صبراً على شكسبير بعد مشاهدة رواية أديسون(78). ويهزأ النقاد اليوم بها على أنها خطابة تافهة مضجرة ولكن أحد القراء وجد أن انتباهه مشدود حتى النهاية بفضل الحبكة المحكمة البناء وقصة الحب المدمجة بشكل بارع في الصراع الأكبر.


وازدادت الآن شعبية أديسون إلى حد قال معه سويفت "أعتقد أنه لو فكر في أن يختار للجلوس على العرض لكان من العسير أن يأبى عليه أحد هذه الرغبة(79)". ولكن أديسون الذي كان دوماً نموذجاً للاعتدال قنع بتعيينه وزيراً في الحكومة، لشئون إيرلندة آنذاك، ثم كبير مفوضي التجارة. وكان شخصية محبوبة جداً في النوادي، لأن إدمانه على الشرب منعه من أن يكون "الرجل الشاذ البشع غاية الباعة والشذوذ الذي لا يحبه الناس أبداً". ورغبة منه في تتويج مجده وعظمته، تزوج (1716) من كونتيسة، ولم يكن سعيداً في حياته مع السيدة المتعجرفة في "هولندهاوس" في لدن. وفي 1717 عين ثانية وزيراً، ولكن مقدرته كانت محل نزاع وشك. وسرعان ما استقال بمعاش قدره 1500 جنيه في العام. وعلى الرغم من تجلده وأدبه الجم انزلق في عراك مع أصدقاءه - ومنهم ستيل وبوب - الذي هجاه بأنه متزمت اعتاد "أن يلعن الناس بالإطراء الباهت الحقير، فهو:

مثل كاتو يقدم للسناتو الهزيل القوانين، ثم يتخذ مقعده لينصت إلى ما يكال له من مديح(80). وكانت خاتمة حياة ستيل أقل عظمة وجلالاً من أديسون. أنه انتخب للبرلمان في 1713، ولكن الغالبية التي تنتمي إلى حزب المحافظين أخرجته بتهمة أن لغته محرضة مثيرة للفتنة. وفاز حزب الأحرار في السنة التالية، فحظي ستيل بعدة مناصب إدارية تدر عليه مالاً، وتعادلت لفترة من الزمن موارده مع نفقاته، ولكن ديونه طغت، وطارده دائنون، وآوى إلى ضيعة زوجته في ويلز، وهناك وافته المنية في أول سبتمبر 1729، بعد شريكه بعشر سنين. أنهما معاً: ستيل بأصالته وحيويته ونشاطه، وأديسون بذوقه الفني المصقول ارتفعا بالقصة القصيرة والمقال إلى آفاق جديدة من الجودة والإتقان، وأسهما في إبتعاث الأخلاق من جديد في ذاك العصر، وحددا طابع الأدب الإنجليزي وشكله لمدة قرن من الزمان باستثناء العبقرية البالغة القوة والعنف في هذا العصر.


8- جوناثان سويفت 1667 - 1745

كان سويفت يكبر ستيل وأديسون بخمس سنين. ولكنه عمر بعد أحدهما ست عشرة سنة، وبعد الآخر ستاً وعشرين. وكان بمثابة شعلة متأججة سرت من قرن إلى قرن، من دريدن إلى بوب. ولم يستطع قط أن يغتفر مولده في دبلن الذي كان عائقاً مثيراً للغضب في إنجلترا. وكم كان قاسياً عليه أن يقضي أبوه نحبه قبل ولادته، وكان الوالد قهرمان قصر الملك في دبلن. وعهد بالطفل إلى مرضعة حملته منها إلى انجلترا، ولم تعد به إلى أمه إلا عندما بلغ الثالثة من العمر، وربما ولدت هذه المغامرات والمخاطر في نفس الصبي شيئاً من قلق اليتيم. ولابد أن هذا الشعور ازداد عمقاً في نفسه، بانتقاله إلى عم له. سرعان ما تخلص منه، وهو في السادسة بإلحاقه بمدرسة داخلية في كلكني. وفي سن الخامسة عشرة التحق بترنتي كولدج في دبلن، حيث ظل بها سبع سنين. وشق طريقه في الكلية بصعوبة لأنه كان مهملاً في اللاهوت بصفة خاصة. وكثيراً ما قصر وعوقب، وذاق مرارة الفقر والحرمان عندما تعثر حظ عمه الذي تولى الإنفاق عليه، وأصيب بانهيار عصبي (1688). وعند موت عمه 1689، وفي غمرة ثورة إيرلندة لنصرة جيمس الثاني، هرب جوناثان إلى إنجلترا، وإلى أمه التي كانت تعيش في ليستر على عشرين جنيهاً في العام. وعلى الرغم من طول الفراق بينهما، انسجما معاً إلى حد معقول، وتعلم كيف يحبها، وزارها من حين إلى حين، حتى وفاتها (1710).

وفي أواخر عام 1689 وجد سويفت عملاً براتب قدره عشرون جنيهاً في العام مع الإقامة والطعام، سكرتيراً لسير وليم تمبل في موربارك. وكان تمبل حينذاك في أوج عظمته، صديقاً ومستشاراً للملوك. ويجدر بنا ألا نقسو في لومه لإخفاقه في التعرف على العبقرية في الشاب ذي الاثنين والعشرين ربيعاً الذي جاءه ببعض اللاتينية واليونانية، وببعض اللهجة الإيرلندية مع جهل ماكر باستخدام الشوكة والملعقة وعلاقة الواحدة منهما بالأخرى على المائدة(81) وكان سويفت يجلس مع كبار العاملين في خدمة تمبل، إلى مائدة سيدهم(82)، الذي لحظ دوماً الفرق بينه وبينهم. ولكن تمبل كان فأرسل سويفت 1692 إلى أكسفورد ليحصل على درجة الأستاذية. وأوصى به عطوفاً، وليم الثالث خيراً، ولكن دون جدوى.

وفي نفس الوقت كان سويفت يكتب مقطوعات شعرية من ذات البيتين. عرض بعضها على دريدن الذي قال له "ياسويفت، يابن العم، إنك لن تكون شاعراً أبداً"- وهي نبوءة كانت دقتها تجل عن إدراك الشاب وتقديره. وفي 1694 ترك سويفت خدمة تمبل، مع توصية منه. فعاد إلى إيرلندة، ورسم قسيساً أنجليكانياً (1665) وعين في وظيفة كنيسة صغيرة صغيرة ذات راتب في كلروت بالقرب من بلفاست. وهناك وقع في غرام جين دارنج التي سماها "فارنيا"، وعرض عليها الزواج، ولكنها أمهلته حتى تتحسن صحتها ويزداد دخله. ولما لم يطق صبراً على هذه العزلة القاتلة في أبرشية ريفية، هرب من كلروت 1669 وعاد أدراجه إلى تمبل وظل في خدمته حتى مات هذا الأخير.

وكان سويفت في عامه الأول في موربارك، قد التقى بأستر جونسون التي قدر لها أن تصبح "Stella". وتناثرت بعض الشائعات بأنها نتاج شيء من طيش سير وليم تمبل، الذي كان نادراً. والأرجح أنها ابنة تاجر من لندن. التحقت أرملته بخدمة ليدي تمبل . وعندما رآها سويفت لأول مرة كانت في سن الثامنة، تبعث على السرور والابتهاج مثل سائر البنات في هذه السن، ولكنها كانت أصغر من أن تثير فيه لواعج الغرام والهيام. أما الآن وهي في الخامسة عشرة، فقد اكتشف سويف، معلمها الذي ناهز التاسعة والعشرين، أن مفاتنها تثير المشاعر البدائية لدى الكاهن المحروم، لها عينان سوداوتان براقتان، وشعر أسحم، وصدر منتفخ، "رشيقة رشاقة غير معهودة في البشر. في كل حركة وفي كل كلمة وفي كل عمل" (هكذا وصفها سويفت فيما بعد)، "ركبت كل تقاطيع وجهها في أحسن صورة(83)" كيف لا تفتتن إلواز هذه معلمها أبيلار.

وعندما توفي تمبل 1699 ترك لأستر ألف جنيه ولسويفت مثلها. وبعد آمال خائبة في الالتحاق بوظائف الحكومة، قبل سويفت الدعوة ليكون قسيساً وسكرتيراً لدى إرل بركلي الذي كان قد عين لفوره قاضي القضاة في إيرلندة. وعمل سكرتيراً للرحلة إلى دبلن، ولكنه هناك فصل عن عمله. فطلب أن يعين رئيساً لكنيسة "درف" وهو منصب كان على وشك أن يشغر. ولكن السكرتير الجديد، لقاء رشوة قدرها ألف جنيه، خص بالوظيفة مرشحاً آخر. واتهم سويفت إرل بيركلي والسكرتير كليهما، وجهاً لوجه، بأنهما "وغدان حقيران". فعملا على تهيئته بتعيينه قسيساً في "لاكور"، وهي قرية على بعد نحو عشرين ميلاً من دبلن، لا يزيد شعبها على خمسة عشر شخصاً. والآن في 1700 بلغ دخل سويفت 230 جنيهاً، وهو دخل حسبته جين وارنج كافياً لإتمام الزواج. ومهما يكن من أمر، فقد مضت أربع سنوات على مفاتحته لها في أمر الزواج، وفي نفس الوقت كانت قد وقعت عينه على استر. فكتب على جين يقول أنها إذا تزودت بقسط من التعليم يؤهلها لتكون شريكة صالحة لحياته، وتعد بأن ترضى عن كل ما يحب ويكره، وتخفف من متاعبه ودراسته، فإنه يتزوجها دون نظر إلى وسامتها وجمالها أو إلى دخلها(84).

ومذ كان سويفت وحيداً في لاراكور، فإنه كثيراً ما تردد على دبلن. وهناك في 1701 حصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت، وبعد ذلك في نفس العام، دعا أستر جونسون وصديقتها مسز روبرت دنجلي ليحضرا ويقيما معه في لاراكور، فقدمتا واتخذتا مسكناً بالقرب منه. وفي أثناء تغيبه في إنجلترا شغلتا مسكنه الذي كان قد استأجره في دبلن وكانت أستر "ستيللا" تتوقع منه أن يتزوجها، ولكنه تركها تنتظر طيلة خمسة عشر عاماً، واحتملت هي هذا الموقف الذي وضعها فيه على مضض، وانتابها الاضطراب والكآبة. ولكن قوة شخصيته وحدة تفكيره، أخمدتا جذوتها وكأنما وقعت تحت تأثير تنويمه المغناطيس حتى النهاية.

وتألفت حدة ذهنه بشكل مباغت حين نشر في 1074 في مجلد واحد "معركة الكتب" و "حكاية حوض الاستحمام". والأول إسهام موجز لا يستحق الذكر في الجدل حول المزايا النسبية للأدب قديمة وحديثة. أما الثاني فهو عرض هام لفلسفة سويفت الدينية أو غير الدينية. وقال سويفت عندما أعاد قراءة كتابه هذا في أخريات أيامه: "يا إلهي: أية عبقرية أملت على هذا الكتاب؟(85). وأحبه كثيراً إلى حد أنه في الطبعات التالية أتحفه بخمسين صحيفة أخرى من الهراء، على شكل مقدمات واعتذارات. وكان يفاخر ويزهو بأن الكتاب ينم عن أصالة بالغة. ومع أن الكنيسة كانت منذ أمد بعيد قد أكدت أن المسيحية هي "رداء المسيح السليم الذي شبه فيه" ولكن الإصلاح البروتستانتي مزقه إرباً فأن أحداً- خصوصاً كارليل Sartor Resortus- لم يطعن في القوة التي لم يسبق لها مثيل التي رد فيها سويفت كل الفلسفات والديانات إلى مجرد أردية تستخدم لستر جهلنا المرتجف أو إخفاء رغباتنا الجامحة المفضوحة:

"هل الإنسان نفسه إلا رداء بالغ الصغر أو على الأصح مجموعة كاملة من الملابس بكل زخارفها وزركشاتها ؟ أليست الديانة عباءة، والأمانة حذاء بلى بالوحل، وحب الذات معطفاً ضيقاً غاية الضيق، والغرور قميصاً، أليس الضمير إلا سروالاً (بنطلوناً) يستر الخلاعة والقذارة، ولكن من السهل نزعه لخدمة الخلاعة والقذارة كلتيهما ؟ فإذا وضعت بعض قطع الفراء الرخيص أو الثمين في موقع معين من الرداء فإننا بذلك نصنع قاضياً وحكماً ومن ثم فإن بعض الشاش والأطلس الأسود بعضهما إلى بعض بشكل مناسب يصنع لنا أسقفاً(86)".

وجرت إستعارة الرداء هنا بدقة ورقة. أن بيتر (الكاثولوكية)، ومارتن (اللوثرية والأنجليكانية) وجاك (الكلفنية) تسلموا، ثلاثتهم، من أبيهم وهو يحتضر، ثلاثة أردية جديدة متماثلة (كتباً مقدسة) إلى جانب وصية توجههم كيف يلبسونها، وتحرم عليهم إبدالها، أو إضافة خيط واحد إليها أو إنتقاص خيط واحد منها ووقع الأبناء الثلاثة في غرام سيدات ثلاث: "دوقة المال"، أي الثراء، و"آنسة الألقاب الفخمة" أي الطمع، و"كونتيسة الكبرياء" أي الغرور، ولكن الأخوة الثلاث، رغبة منهم في إرضاء هؤلاء السيدات، يعمدون إلى إحداث بعض التغيير في أرديتهم الموروثة. ولما بدا لهم أن التغييرات تتعارض مع وصية أبيهم، أعادوا تفسير الوصية بتأويلات صادرة عن علماء ومثقفين. أما بيتر فقد أراد أن يضيف حواشي وأهداباً من الفضة (البذخ البابوي). وسرعان ما أتضح للعلماء الثقاة أن لفظة "الهدب أو الحاشية" في الوصية تعني عصا المكنسة الطويلة. وهكذا إختار بيتر الحواشي الفضية، ولكنه حرم على نفسه عصا المكنسة الطويلة "السحر") وفرح البروتستانت (المحتجون) حين وجدوا أقسى الهجاء والنقد يوجه إلى بيتر: إلى شرائه قارة كبيرة (المطهر- مكان تطهر فيه نفوس الأبرار بعد الموت بعذاب محدود الأجل) ثم بيعه (أي المطهر) في أجزاء متفاوتة (صكوك الغفران) المرة بعد الأخرى، والى علاجاته الناجحة الخالية من الآلام عادة (القفازات) للديدان (أي وخزات الضمير)- وعلى سبيل المثال: "اإمتناع عن أكل شيء بعد العشاء لمدة ثلاث ليال، وألا تخرج على الإطلاق ريحاً من الجانبين دون سبب واضح(87)"، وكذلك وجه النقد إلى بيتر لإبتداع "وظيفة الهمس" (أي الإعتراف) "لخير وراحة المصابين بوسواس المرض أو الذين أرهقهم المغص" و"ووظيفة التأمين" (أي مزيد من الغفران)، "المخلل البالي المشهور (الكاثوليكي) ويعني به "الماء المقدس"، على أنه من الضعف والإنحلال. وحيث تزود بيتر بهذه الوسائل والحيل الحكيمة فإنه ينصب نفسه ممثلاً للرب، ويصف فوق رأسه قبعات ذات تاج عال. ويمسك في يده بعصا يختال بها، وإا رغب الناس في مصافحته، قدم لهم "كأن كلب مدرب تدريباً جيداً" قدمه(88). ويدعو بيتر إخوته إلى الغداء، ولا يقدم لهم غير الخبز، ويؤكد لهم أنه ليس خبزاً بل لحماً، ويدحض إعتراضاتهم ويقول "لإقناعكما بأنكما لستما إلا شخصين أحمقين جاهلين عنيدين أعميين حقاً"، لن أستخدم إلا حجةً واحدةً: والله إنه لحم ضأن طيب طبيعي مثل أي لحم ضأن في "ليندهول ماركت"، صب الله عليكما اللعنة الأبدية إذا صدقتما غير ما أقول(89)".ويثور الإخوان، ويستخرجان "نسخاً حقيقية" من الوصية (ترجمة الكتاب المقدس باللغة الوطنية)، ويشجبان بيتر على أنه محتال دجال. وبناء على هذا طرد بيتر أخويه من داره، ولم يستظلا بسقفه منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا(90)". وسرعان ما دب النزاع بعد ذلك بين الإخوة: إلى أي حد ينبذون أو يغيرون من أثوابهم الموروثة. ويعتزم مارتن، بعد ثورة غضبه الأولى، أن يلتزم جادة الإعتدال. ويتذكر أن بيتر أخوه. أما بيتر، فإنه على أية حال يمزق ثوبه إرباً (شيع كلفنية). ويصاب بمسات من الجنون والغيرة. ويستطرد سويفت ليصف عمليات الريح (ويقصد بها الوحي والإلهام) عند العولسيين)- نسبة إلى عولس إله الريح "ويعني بهم" الوعاظ الكلفنيين. ويسخر كثيراً- سخرية لا يجوز نقلها هنا- من ألفاظهم الأنفية الحادة ومن نظرياتهم في القضاء والقدر، وتقديسهم الأعمى للنصوص المقدسة(91).

والى هنا، لم يصب مذهب الكاتب- المذهب الأنجليكاني إلا اليسير من الجراح، ولكن سويفت يسترسل في القصة، ويغير الأثواب إلى رياح، ومن الواضح أنه ينتهي إلى أن كل الديانات والفلسفات- لا لاهوتيات المنشقين فحسب- ليست إلا أضاليل وأوهاماً كاذبةً سريعة الزوال.

"إذا إستعرضنا الإنجازات العظيمة التي تمت في العالم ... مثل تكوين الإمبراطوريات الجديدة عن طريق الغزو والفتح، وإبتداع ونمو مذاهب جديدة في الفلسفة، وإستنباط أديان جديدة ونشرها، فلسوف نجد أن الذين قاموا بهذا كله، ليسوا إلا أشخاصاً هيأت لهم عقولهم الطبيعية أن يقوموا بإنقلابات كبيرة، بفضل غذائهم وتعليمهم، ومزاج معين سائد، بالإضافة إلى تأثير خاص للهواء والمناخ ... لأن عقل الإنسان المستقر في مخه، لابد أن ترهقه وتغمره أبخرة ورياح صاعدة من القوى والوظائف الجسدية الدنيا لتسقي المخترعات وتجعلها مثمرة(92).

ويسترسل سويفت في تفصيل فسيولوجي لا يمكن ذكره، لما بدا له أنه مثال رائع لإفرازات داخلية تولد أفكاراً قوية، ومن ذلك "المشروع الكبير" لهنري الرابع: ذلك أن ملك فرنسا لم يوح إليه بشن الحرب ضد آل هيسبرج ويستحثه عليها إلا تفكيره في الإستحواذ في طريقه على امرأة (هي شارلوت مونمورنس) التي حرك جمالها في الملك عصارت مختلفة "صعدت إلى مخه(93)" وهذا هو بالمثل ما حدث بكبار الفلاسفة الذين حكم عليهم معاصروهم بحق بأنهم "فقدوا عقولهم": "ومن هذا الطراز كان أبيقور، ديوجين، أبوللونيوس، لوكريشس، ياراسلسوس، ديكارت، وغيرهم، ممن كانوا على قيد الحياة الآن، ...لتعرضوا في هذا العصر المتميز بالفهم، لخطر واضح، خطر فصد الدم، والسياط، والأغلال، والحجرات المظلمة والقش (في السجون) أما الآن فقد يسرني أن أعرف كيف أنه من الميسور أن نعلل لهذه التصورات والأفكار، .. دون إشارة إلى الأبخرة التي تتصاعد من القوى والوظائف الجسدية الدنيا، حيث تلقي ظلالاً معتمةً على المخ، فتقطر أو تتساقط مفاهيم لم تضع لها لغتنا الضيقة بعد أسماء غير الجنون أو الخبل(94).

ولمثل "هذا الخلل أو التحول في المخ بفعل الأبخرة المتصاعدة والقوى والوظائف الجسدية الدنيا" يعزو سويفت كل الانقلابات أو الثورات التي حدثت في الآمبراطورية والفلسفة والدين(95) ويخلص إلى أن كل مذاهب الفكر عبارة عن رياح من الألفاظ، وأن الزجل العاقل لا ينبغي له أن ينفذ إلى الحقيقة الباطنة للأشياء، بل يقنع نفسه بالسطح أي بظواهر الأشياء، وبناء على هذا يستخدم أحد التشبيهات اللطيفة التي ينعطف إليها دائماً: "رأيت في الإسبوع الماضي امرأة سلخ جلدها، ولن تصدق أنت بسهولة إلى أي حد تغير شكلها إلى أسوأ مما كانت(96)".

إن هذا الكتاب الصغير المخزي الذي وقع في 130 صفحة، جعل من سويفت في الحال "سيد الهجاء"- أو كما سماه فولتير: رابليه آخر في صورة متقنة. إن القصص الرمزي أو المجازات إتسقت إتساقاً حرفياً مع معتقده الأنجليكاني التقليدي. ولكن كثيراً من القراء أحسوا بأن الكاتب متشكك، إن لم يكن ملحداً. أما رئيس الأساقفة شارب فإنه أبلغ الملكة آن أن سويفت لم يفضل الكافر بشيء كثير(97). وكان من رأي دوقة مالبورو الصديقة الحميمة للملكة، أن سويفت: "حول، منذ زمن طويل، كل الديانة إلى "قصة حوض الإستحمام" على أنها وباعها دعابة. ولكنه كان قد إستاء من أن "الأحرار" لم يكافئوه بالترقية في الكنيسة على ما أظهره من غيرة شديدة على الدين بهزله الدنس، ولذلك سخر إلحاده ومزاحه ومرحه في خدمة أعدائهم(98)".

كذلك نعته ستيل بأنه كافر، ووصفه نوتنجهام في مجلس العموم بأنه عالم لاهوتي "من العسير أن يشك في أنه مسيحي(99). وكان سويفت قد قرأ هوبز، وهي تجربة ليس من اليسير نسيانها. ذلك أن هوبز كان قد بدأ بالخوف، انتقل إلى المذهب المادي، وانتهى بأن يكون (محافظاً) يناصر الكنيسة الرسمية.

وكان لرجال الدين قليل من العزاء في أن سويفت أخرج مؤلفاً في الفلسفة:

"إن مختلف الآراء الفلسفية انتشرت في أنحاء العالم، وكأنها أمراض طاعون أصابت العقل، كما انتشر صندوق بندورا الأوبئة التي تصيب الجسم، مع فارق واحد، هو أن الطاعون لم يترك شيئاً من الأمل في القاع إن الحقيقة خافية على الناس، قدر خفاء منابع النيل، ولا يمكن وجودها إلا في "بوتوبيا" (المدينة المثالية)(100).

ومن الجائز أن سويفت، لأنه أحس بأن الحقيقة لم تقصد للبشر، نبذ في إصرار شديد كل الفرق الدينية التي ادعت أن مذهبها "هو المذهب الصحيح". وازدرى الرجال الذين زعموا- مثل بانيان وبعض الكويكرز- أنهم رأوا الله أو كلموه. وانتهى، مع هوبز، إلى أنه ضرب من الانتحار الاجتماعي أن نترك لكل إنسان الحرية في أن يصنع عقيدته أو مذهبه بنفسه، حيث لن تكون نتيجة ذلك إلا عاصفة هوجاء من السخافات يصبح معها "بيمارستانا" أو مستشفى للأمراض العقلية. ومن ثم عارض سويفت حرية الفكر، على أساس أن "جمهور البشر مؤهل للطيران قدر ما هو مؤهل للتفكير(101)". واستنكر التسامح الديني، وظل لآخر حياته يؤيد "قانون الاختبار" الذي قضى بإقصاء غير أتباع الكنيسة الرسمية عن كل الوظائف السياسية والعسكرية(102). واتفق مع الحكام الكاثوليك واللوثريين على أنه يجب أن يكون للأمة عقيدة دينية واحدة. وحيث أنه ولد في إنجلترا، ومذهبها الرسمي هو الأنجليكاني، فإنه رأى أن الإتفاق العام الكامل على اعتناق هذا المذهب أمر لا غنى له عنه لعملية تمدين الإنجليز ونشر سويفت في 1708 بعض القطع: "أحاسيس رجل يتبع كنيسة إنجلترا"، "والدليل على أن إلغاء المسيحية في إنجلترا قد يستتبع بعض المتاعب والمشاكل والمزعجات "وكان آنذاك في طريقه من الأحرار إلى المحافظين".

وكان أول ارتباط سياسي له- بعد ترك ثمبل- مع الأحرار، حيث بدا له أنهم أكثر تقدمية، ومن الأرجح أن يجدوا عملاً لرجل أكبر عقلاً وأقل ثراءً. وفي 1701 نشر كتيباً يناصر فيه حزب الأحرار وكله أمل في الظفر بشيء. ورحب هاليفاكس وسندر لند وغيرهما من زعماء الأحرار، بانضمامه إلى حزبهم، ووعدوه خيراً إذا تولوا الحكم. ولكنهم لم ينجزوا ما وعدوا، ويحتمل أنهم خشوا من أن سويفت رجل لا يسهل قياده، وأن قلمه سلاح ذو حدين، وفي رحلة موسعة من أيرلنده إلى لندن في 1705 كسب سويفت صداقة كونجريف وأديسون وستيل. وأهداه أديسون نسخة من "رحلات إلى إيطاليا" وكتب في عبارة الإهداء "إلى جوناتان سويفت، أحسن رفيق وخير صديق، أعظم عبقرية في زمانه يقدم خادمه الذليل، المؤلف، هذا الكتاب(103)"، ولكن هذه الصداقة، مثل صداقة جوناثان مع ستيل وبوب، لم تدم، وأتت عليها نيران سويفت المتقدة أو ثورته المتصاعدة.

وفي زيارة أخرى لدينة لندن، تسلى سويفت بتدمير منجم دعي. ذلك أن جون بار تريدج، الإسكافي، أخرج كل عام تقويماً زاخر بالنبوءات المؤسسة على حركات النجوم. وفي 1708 نشر سويفت تحت اسم مستعار "إيزاك بيكرستاف" تقويماً تنافسياً. وكان من بين تنبؤات إيزاك، انه في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 29 مارس سيقضي بارتريدج نحبه. وفي 30 مارس نشر بيكرستاف في نشوة الانتصار رسالة أعلن فيها أن بارتريدج مات في ظرف بضع ساعات من الموعد المحدد في النبوءة، وذكر في تفصيل مقنع ترتيبات الجنازة. وأكد بارتريدج لمدينة لندن بأسرها أنه لا يزال حياً يرزق. ولكن إيزاك رد بأن هذا محض افتراء. وأدرك ظرفاء المدينة الخدعة. ورفع مكتب التسجيلات اسم بارتريدج من سجلاته أما ستيل فإنه اختار إيزاك اسماً لمحرر وهمي في صحيفة "تاتلر" عند افتتاحها في السنة التالية.

وفي 1710 غادر سويفت لارا كور مرة أخرى، موفداً عن الأساقفة الأيرلنديين ليطلب إلى الملكة آن أن تمد يد معونتها إلى رجال الدين الانجليكانيين في أيرلنده: ورفض جودلفين وسومرز، وهما عضوان من حزب الاحرار في مجلس المكلة، الموافقة على هذا إلا إذا وافق رجال الدين هؤلاء، على التخفيف من حدة "قانون الاختبار" والإرخاء من قبضته. وعارض سويفت بشدة التخفيف المطلوب. واكتشف الأحرار أنه كان "محافظاً" بالنسبة للعقيدة الدينية. وأعترف سويفت عملياً بأنه "محافظ" بالنسبة للسياسة أيضاً، حين كتب: "إني كنت أمقت دوماً هذا النهج السياسي ... ألا وهو وضع مصالح ذوي المال في مواجهة مصالح مالكي الأرض(104)". ولجأ إلى زعيمي المحافظين، هارلي وبولنجبروك ولقى ترحيباً حاراً، وأصبح بين عشية وضحاها "محافظاً" راسخاً. وعين محرراً لصحيفة المحافظين "إجزامنر". وأبرز أسلوبه بوضوح عندما وصف نائب حاكم أيرلنده- وهو من حزب الأحرار، وكان أديسون صديق سويفت سكرتيراً له:

"إن توماس إرل وارتون ... بحكم دستور غريب، قضى بضعة أعوام من سني اليأس التي تقدم بها عمره، دون آثار بارزة للشيخوخة في جسمه أو عقله. وعلى الرغم من مقارفته المستمرة لكل الموبقات التي تعتصر الجسم والعقل كليهما ... فإنه يذهب دوماً إلى الصلاة. ويتحدث حديث الفسق والفجور والتجديف على باب الكنيسة، فهو مشيخي في السياسة ملحد في العقيدة. ولكنه يؤثر الآن أن يفجر مع البابوية(105)".

وسر الوزراء "المحافظون" بها الهجاء اللاذع الذي يشبه القتل، فعهدوا إلى سويفت بكتابة فذلكة "سلوك الحلفاء" (نوفمبر 1711)، كجزء من حملتهم لإسقاط مالبورو وإنهاء حرب الوراثة الإسبانية، واحتج سويفت بأن الضرائب الاستثنائية التي فرضت لتمويل الحروب الطويلة ضد لويس الرابع عشر يمكن خفضها بقصر إسهام إنجلترا في الحروب على البحر، وأوضح بأجلى بيان شكوى مالكي الأرض من أن عبء نفقات الحرب وقع على عاتقهم أكثر مما على عاتق التجار وأصحاب المصانع الذين كانوا يستفيدون من الحرب. أما بالنسبة لدوق مالبورو فقد قال سويفت "هل كان من حسن الرأي شن الحرب، أو لم يكن ؟ ...وأوضح بأن الدافع إلى الحرب، هو الرفع من شأن أسرة بعينها، وبعبارة موجزة أنها حرب لحساب القائد ووزارة الأحرار، وليست حرباً لحساب الملك والشعب(106) وقدر الكاتب رواتب مالبورو وتعويضاته بنحو 540 ألف جنيه "وهذا الرقم دقيق(107)". وبعد شهر واحد سقط مالبورو وصورت الدوقة زوجته الجريئة الصريحة وهي الوحيدة في إنجلترا التي كان لسانها حاداً لاذعاً، مثل لسان سويفت- صورت في مذكراتها المسألة من وجهة نظر الأحرار، فقالت:

"أن السيدين المحترمين مستر سويفت ومستر بريور أسرعا فعرضا نفسيهما للبيع ... وكلاهما من الموهوبين القادرين، وهما مستعدان لتسخير كل ما لديهما لخدمة أية فرية مخزية طالما كانت المكافأة مجزية. لأن كليهما لا يبالي بحمرة الخجل ولا بالسقوط أو الانزلاق من أجل مصلحة سادتهم الجدد(108).

وكافأ المحافظون تابعيهما الجديدين: فعينوا ماتيو بريور في منصب دبلوماسي في فرنسا حيث أبلى بلاءً حسناً. ولم يحصل سويفت على أي منصب ولكنه كان صديقاً حميماً وثيق الصلة بوزراء المحافظين، فاستطاع بذلك أن يحصل لكثير من أصدقائه على وظائف تدر مالاً وفيراً ولا تقتضي عملاً كثيراً. وكان مثال الكرم والعطف على من لم يعارضوه أو يهاجموه. وزعم فيما بعد أنه أهدى لخمسين شخصاً أكثر خمسين مرة مما أهداه أليه سير وليم ثمبل(109). وأقنع بولنجبروك بمساعدة الشاعر جاي Gay وألح على وجوب استمرار الوزارة في دفع الراتب الذي كان الأحرار يدفعونه لكونجريف. ولما طلب بوب جمع بعض التبرعات لمعاونته على ترجمة هوميروس، أمر سويفت كل أصدقائه وكل طلاب الوظائف بالتبرع، وأقسم "أن المؤلف لن يشرع في الطبع قبل أن يجمع له ألف جنيه(110)" وغطت شخصيته على مكانة أديسون في الأندية، وكان في كل ليلة تقريباً يتناول العشاء مع العظماء. ولم يكن يطيق من أحدهم أية سمة من سمات التعالي عليه. وكتب يوماً إلى ستيللا "إنني مزهو متكبر إلى حد أني أجعل اللوردات يأتون إلي ... كان مفروضاً أن أتناول العشاء في قصر أشبيرنهام، ولكن هذه السيدة المنحطة القذرة لم تعرج علينا لنصحبها في عربتها، ولكنها أرسلت في طلبنا فحسب، ولذلك أرسلت إليها إعتذاراً(111)".

وفي السنوات الثلاث (1710-1713) في إنجلترا كتب سويفت الرسائل العجيبة التي نشرت فيما بين 1766-1768 تح عنوان "يوميات إلى ستيللا". إنه كان في حاجة إلى صديقة حميمة إلى جانبه في العشاء لدى الأدواق والدوقات، وفي انتصاراته السياسية. أضف إلى ذلك أنه أحب المرأة الصابرة، التي ناهزت الثلاثين آنذاك, ولكنها ظلت تنتظره حتى يحزم أمره. ولابد أنه أغرم بها، لأنه كتب لها أحياناً مرتين في اليوم الواحد، وأظهر اهتمامه وتعلقه بكل ما يعنيها، اللهم إلا الزواج. وما كان ينبغي لنا أن نتوقع من مثل هذا الرجل المستبد المتغطرس، هذا المزاج الرقيق، وهذه الألقاب والكنيات الغريبة، والنكات والتوريات، والحديث الصبياني، مما صبه سويفت في رسائله التي لم يتوقع نشرها. إنها وسائل زاخرة بالملاطفة والتدليل، ولكنها خلو من أي عرض أو اقتراح، اللهم إلا إذا كانت ستيللا قد قرأت وعداً بالزواج في رسالته المؤرخة 23 مايو 1711: "لن أطيل الحديث، ولكني أتوسل إليك أن تهدئي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأن تثقي بأن سعادتك هي غاية ما أصبو وأسعى إليه في كل ما أعمل(112)" ومع ذلك فإنه في هذه الرسالة يطلق عليها "الطفلة المزعجة، الساذجة، الفتاة المغناج، البغي، المرأة القذرة، الكلبة المحبوبة، وغير ذلك من ألقاب التدليل والملاطفة. وإنا لنلمس روح الرجل حين يقول لها:

هل يجب أن تغتصب المرأة لأنها بغي(113)"؟.

وقد تعيننا علل سويفت الجسيمة على فهم السر في رداءة طبعه وسرعة غضبه، أنه منذ 1694، وهو في السابعة والعشرين من العمر، بدأ يعاني من دوار في الأذن الداخلية ومن حين لآخر، وبشكل لا يمكن التنبؤ به، أصابته نوبات من الدوار وتشويش الذهن والصمم. ونصح طبيب مشهور هو دكتور رادكليف بأن يوضع سائل مركب داخل كيس في لمة (الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن) سويفت، واشتدت به العلة على مر السنين، وكان من الجائر أن تسبب له الجنون. ويحتمل انه في 1717 قال للشاعر أدوار بنج، مشيراً إلى شجرة ذابلة "إني سأموت مثل هذه الشجرة سأموت في القمة(114)." وكان هذا وحده كافيا ليتشكك في قيمة الحياة، وليرتاب قطعاً في وجه الحكمة في الزواج. ومن الجائز أنه كان عنيناً، ولكنا لا نستطيع الجزم بهذا. وأعتاد على كثرة المشي اتقاء لهزال جسمه، فمشى مرة من فارنام الى لندن: 38 ميلاً.

وزاد من شدة مرضه حدة حواسه حدة مؤلمة، وهي عادة تلازم حدة الذهن وفرط الذكاء. وكان بشكل خاص شديد الحساسية للروائح في شوارع المدن وفي الناس. فاستطاع بمجرد الشم، عن صحة من يقابل من الرجال والنساء، وخلص من هذا إلى أن الجنس البشري أصابه النتن(115). ولذلك كان مفهوم المرأة الجديرة بالحب والإعجاب عنده ينحصر إلى حد ما في: "أنها لا يخرج من جسمها النقي هبات كريهة الرائحة تثير الاشمئزاز، لا من خلف ولا من قدام، ولا من فوق، ولا من تحت، ولا يتصبب منها العرق البغيض(116)".

أنه يصف "غادة جميلة في طريقها إلى الفراش"، ونفس المرأة حين تفيق.

"إن من يرى كورينا في الصباح يتقيأ، ومن يشم رائحتها يصاب بالتسمم".

إن مفهومه عن المرأة الشابة الجميلة مرتبط بحاسة الشم:

"إن أعز رفيقاتها لم يرينها يوماً تجلس القرفصاء لتتبول، ولك أن تقسم بأن هذه المخلوقة الملائكية لم تحس يوماً بضرورات الطبيعة، فإذا مشت في شوارع المدينة في الصيف لم يلوث أبطاها ثوبها. وفي حلبة الرقص في القرية أيام القيظ لن يستطيع أنف أن يشم رائحة أصابع قدميها(117)".

وكان سويفت نفسه نظيفاً إلى حد التزمت. ومع ذلك فإن كتابات هذا الكاهن الأنجليكاني تعد من أفحش ما كتب في الأدب الإنجليزي. أن تبرمه بالحياة جعله يقذف بأخطائه في وجه زمانه. ولم يبذل أي جهد في إرضاء الناس، ولكنه بذل كل الجهد في أن يسيطر ويتحكم، لأن السيطرة خففت من شعوره الخفي بعدم الثقة في نفسه. وقال أنه يكره (أو يرهب) كل من لا يستطيع أن يأمره(118)، على أن هذا لم يصدق على حبه لهارلي، وكان غضوباً عند الشدة، متغطرساً فظاً وقت الرخاء والنجاح. وأحب السلطة أكثر مما أحب المال. وعندما أرسل إليه هارلي بخمسين جنيهاً أجراً لمقالاته، رد الحوالة وطالب بالاعتذار، وكان له ما أراد، فكتب إلى ستيللا "لقد استرضيت مستر هارلي ثانية(119)". وكان يكره الرسميات ويحتقر النفاق. وبدا له أن الدنيا تميل إلى قهره، وقابل هو العداء بمثله صراحة، وكتب إلى الشاعر بوب:

"إن غاية ما أصبو في كل أعمالي أن أزعج العالم وأضايقه، لا أن أسليه، فإذا استطعت أن أحقق هذا الغرض دون أن الحق الأذى بشخصي أو بثروتي، لكنت أعظم كاتب لا يكل ولا يمل رأيته أنت في حياتك.. إذا فكرت في الدنيا فأرجوك أن تجلدها بالسوط بناء على طلبي. لقد كنت أبداً أكره الأمم والوظائف والمجتمعات. وكان كل حبي للأفراد، إني أكره طائفة رجال القانون، ولكني أحب مستشاراً بعينه أو قاضياً بعينه، وهكذا الحال مع الأطباء. (ولن أتحدث عن صناعتي)، والجنود، والإنجليز والاسكتلنديين والفرنسيين، ولكني أساساً أكره وأمقت هذا الحيوان الذي يسمى إنساناً، ولو أني من كل قلبي أحب جون وبيتر وتوماس وهكذا(120)".

عند هذا الحد يبدو أن سويفت أقل الرجال جدارة بالحب، ولو أن امرأتين أحبتاه إلى أن فارقتا الحياة. وأقام في هذه السنوات في لندن قريباً من أرملة غنية تدعى فانهو مراي، وكان لها ابنان وابنتان، فإذا لم تتيسر له الدعوة إلى موائد العظماء، كان يتناول العشاء مع "آل فان". ووقعت الابنة الكبرى "هستر" في حبه وكانت آنذاك في الرابعة والعشرين (1711)، وهو في الثالثة والأربعين، وأفصحت له عن حبها. فحاول أن يصرف النظر عن هذا باعتباره مرحاً أو مزاجاً عابراً، وأوضح لها أنه قد كبرت سنه بحيث لم يعد يصلح لها. فأجابت، يحدوها كل الأمل، بأنها تعلمت منه في كتبه أن تحب عظماء الرجال قرأت "مونتاني في المرحاض"، فلماذا لا تحب رجلاً عظيماً إذا وجدته ماثلاً أمامها؟ فرّق قلبه ولانت قناته بعض الشيء فنظم قصيدة من أجل عينيها فقط "كادينوس وفانيسا" قصيدة بين المرح والمأساة. وكان "فانيسا" اسمه هو عندها، أما "كادينوس" فكان تصحيفاً للفظة "ديكانوس" أي الكاهن الكبير.

ذلك انه أبريل 1713 عينته الملكة كارهة رئيساً لكاتدرائية سان باتريك في دبلن. وسافر إلى هناك في يونيه ليتسلم العمل، ورأى ستيللا وكتب إلى نانيسا بأنه كاد يموت كآبة وكمداً واستياء(121) وفي أكتوبر 1713 عاد إلى لندن وشارك في كارثة حزب المحافظين المفاجئة 1714، ومذ فقد السلطان السياسي بعودة الأحرار الذين كان قد هاجمهم، إلى الحكم في ظل الملك جورج الأول، فإنه قفل راجعاً إلى إيرلندة الكريهة، وإلى كاتدرائيته. ولم يكن محبوباً في دبلن لأن الأحرار الذين تولوا الآن الحكم كرهوه لنقده الساخر العنيف وخطبه اللاذعة، كما كرهه المنشقون لإصراره على استبعادهم من الوظائف العامة. وانطلقت من الناس أصوات الاستهجان والازدراء به في الشوارع، ورجموه بقاذورات البالوعات(122) ووصف أحد رجال الدين الأنجليكانيين منظر ردائه في قصيدة ثبتها بالمسامير على باب الكاتدرائية: "يستقبل هذا المعبد اليوم رئيساً ذا مذاهب وشهرة غير عادية استخدمها جميعاً في الصلاة وفي الدنس، خدمة للرب والشيطان كليهما.. وهو مكان حصل عليه بالدهاء والقصيد وبوسائل أخرى من أعجب الوسائل. وربما أصبح بمرور الزمن أسقفاً، لو أنه آمن بالله(123)":

وصمد سويفت للمحنة في شجاعة واستمر يناصر المحافظين، وعرض أن يشارك هارلي سجنه في برج لندن. وقام بواجباته الدينية، وألقى المواعظ بانتظام. ومنح الأسرار المقدسة، وعاش عيشة بسيطة، وتصدق بثلث دخله. وفي أيام الأحد فتح أبواب مسكنه للقاصدين، وجاءت ستيللا لخدمة الضيوف، وسرعان ما خفقت كراهية الناس له، وبدأوا يقبلون عليه. وفي 1724 نشر تحت اسم مستعار "م.ب.درابيية" ست رسائل يندد فيها بمحاولة وليم وود جمع أرباح طائلة من إمداد أيرلندة بعملة نحاسية. وأستنكر الأيرلنديون هذه المحاولة. وعندما اكتشفوا أن درابيية لم يكن إلا سويفت، كاد الكاهن المكتئب أن يصبح شعبياً محبوباً تماماً.

وربما استطاع سويفت أن يحظى بلحظات من السعادة لو انه كان في مقدوره لأن يحتفظ بالبحر الأيرلندي بين السيدتين اللتين أحبتاه. ولكن في 1714 ماتت مسز فانهو مراي، وانتقلت ابنتها فانيسا إلى أيرلندة لتستغل بعض الممتلكات التي تركها لها والدها في سلبردج، على بعد أحد عشر ميلاً إلى الغرب من العاصمة. ولتكون بالقرب من رئيس الكاتدرائية، استأجرت مسكناً في زقاق تيرنستيل في دبلن، على مسافة قصيرة من مسكن ستيللا، وكتبت الى سويفت ترجوه أن يزورها، وإلا ماتت كمداً. ولم يستطع أن يقاوم توسلاتها، وفيما بين 1714-1723 تردد عليها خفية مراراً وتكراراً. ولما خفت زياراته لها أصبحت رسائلها إليه أشد حرارة والتهاباً. وقالت له في إحداها أنها ولدت بهذه "العواطف الجارفة" التي تنتهي كلها إلى شيء واحد: هو حبي لك الذي لا يمكن وصفه أو التعبير عنه". وأبلغته أنه قد يكون من العبث أن يحاول تحويل حبها إلى حب الله، "فلو أني غيورة متحمسة فستظل أنت المعبود الذي يجب لأن أعبده"(124). وربما فكر سويفت في الزواج للخروج من هذا المأزق الذي تورط فيه بين المرأتين اللتين أحبتاه، وربما طالبت ستيللا، وهي تعلم أن لها منافسة، بالزواج على أنه عدالة مطلقة وأبلغ دليل على ذلك أنه تزوجها فعلاً في 1716(125) وواضح أنه يطلب إليها كتمان أمر زواجه. واستمرت تقيم بعيداً عنه. ويحتمل أنه لم يباشرها قط. واستأنف سويفت زياراته لفانيسا، لا مغازلاً، ولا وحشاً بهيمياً، بل المفهوم أن قلبه لم يطاوعه على أن يتركها يائسة بلا أمل، أو أنه خشي أن تقدم على الانتحار. وأكدت رسائله لفانيسا أنه احبها وقدرها فوق كل شيء، وأنه سيكن لها هذا الحب والتقدير حتى آخر لحظة من حياته. وسارت الأمور على هذا المنوال حتى 1723، حين كتبت فانيسا إلى ستيللا تسألها في صراحة تامة عن العلاقة بينها وبين رئيس الكاتدرائية. فأخذت ستيللا الخطاب إلى سويفت الذي ركب لفوره إلى فانيسا ورمى على مائدتها. وروعها بنظراته الغاضبة. وتركها إلى غير رجعة دون أن ينبس ببنت شفة.

وعندما أفاقت فانيسا من غشيتها، تحققت آخر الأمر من أنه كان يخدعها، واجتمعت خيبة الرجاء إلى نزعة جامحة في إفناء ما بقى لها من أسباب الصحة والحياة، وقضت نحبها في بحر شهرين من هذا اللقاء الأخير (2 يونية 1923) وهي في الرابعة والثلاثين. وثارت لنفسها في وصيتها. فألغت وثيقة قديمة كانت قد جعلت فيها سويفت وريثاً لها، ثم أوصت بكل متاعها لروبرت مارشال والفيلسوف جورج بيركلي، وأمرتهما أن ينشرا دون تعليق رسائل سويفت إليها، وقصيدة "كادينوس وفانيسا". وهرب سويفت في "رحلة إلى الجنوب"، في إيرلندة، ولم يظهر في الكاتدرائية إلا بعد مضي أربعة شهور على وفاة فانيسا.

وعند عودته انصرف إلى كتابة أشهر وأقسى هجاء وجهه إلى الجنس البشري. وكتب إلى شارلي فورد أنه مشغول بوضع كتاب "يمزق العالم ويهزه هزاً عنيفاً بشكل عجيب(126)". وانتهى سويفت منه بعد سنة، وحمل المخطوط بنفسه إلى لندن، ورتب أمر نشره تحت اسم مستعار، ورضى بمائتي جنيه ثمناً له، ثم قصد إلى دار الشاعر بوب في توبنكهام ليستمتع بالعاصفة المرتقبة. وهكذا استقبلت إنجلترا في أكتوبر 1726 "رحلات إلى عدة شعوب بعيدة في العالم" بقلم لوميل جلليفر. وكان أول رد فعل عام هو الابتهاج بالواقعية المفصلة في سرد الأحداث. واعتبره كثير من القراء تاريخاً، ولو أن أسقفاً أيرلندياً (كما يقول سويفت) ذهب إلى أنه مملوء بأشياء بعيدة الاحتمال: أما معظم القراء فإنهم لم يذهبوا إلى أبعد من الرحلات إلى أرض الأقزام Lilliput وأرض العمالقة Brobdinqnaq وهذا سرد جميل يوضح بطريقة مفيدة النسبية في الحكم على الأشياء أو التمييز بينها، ولم يزد طول الأقزام عن ست بوصات، ولذلك نفخوا في جلليفر روحاً متزايدة من التسامي. وكان الذي يميز بين الأحزاب السياسية لديهم هو الكعوب العالية أو المنخفضة لأحذيتهم. أما الفرق الدينية فهي فريق الذين يؤمنون بكسر البيضة من طرفها الصغير. وكان طول العمالقة ستين قدماً، وقد هيأوا لجلليفر مشهداً آخر جديداً من مشاهد البشرية. وحسبه ملكهم حشرة، واعتبر أوربا بيتاً للنمل. ومن وصف جلليفر لأساليب الحياة، خلص الملك إلى أن "كل مواطنيكم أخبث جنس من الحشرات الطفيلية الصغيرة البغيضة التي تركتها الطبيعة تزحف على سطح الأرض(127)". وكانت صدور غادات العمالقة، وهي صدور ضخمة، تنفر جلليفر (ويشير الكاتب هنا إلى النسبية في الجمال).

وتضعف القصة في رحلة جلليفر الثالثة. أنه يشد بالسلاسل والأغلال في دلو إلى "لابوتا" وهي جزيرة سابحة في الهواء يقطنها ويحكمها رجال العلم والمثقفون والمخترعون والأساتذة والفلاسفة، فان التفاصيل التي جاءت في أماكن أخرى لتزود القصة باحتمالات كثيرة، كانت هنا (في المرحلة الثالثة) سخيفة بعض الشيء، من ذلك أكياس الهواء الصغيرة التي يسد بها الخدم آذان وأفواه المفكرين العميقي التفكير ليفيقوا من شرود الذهن الخطير أثناء تأملاتهم. وأكاديمية لاجادو، بمخترعاتها وقراراتها الوهمية، ليست إلا نقداً هزيلاً لقصة بيكون "قارة الأطلنطس الجديدة"، وللجمعية الملكية في لندن. ولم يكن سويفت يثق في جدوى إصلاح الدولة أو حكمها بواسطة رجال العلم، وكان يزخر من نظرياتهم، وفنائها السريع لها. وتنبأ بسقوط كوزمولوجيا نيوتن (آرائه في الكون) "إن الأنظمة الجديدة ليس في الطبيعة ليست إلا أزياء أو أنماطاً جديدة قد تختلف من عصر إلى عصر، وحتى هؤلاء الذين يدعون أنهم يوضحونها على أسس رياضية (تعريضاً بكتاب المبادئ الرياضية 1687) لن يكتب لهم النجاح إلا لفترة قصيرة من الزمن(128)". ثم ينتقل جلليفر إلى أرض "اللجناجيين Luggnaggians" الذين لا يحكمون على أكابر مجرميهم بالموت بل بالخلو. "فاذا بلغ هؤلاء المجرمون سن الثمانين وهي السن المعتبرة نهاية الحياة في بلدهم، لا تكون فيهم كل الحماقات والسقام والعلل التي في سائر المسنين فحسب، بل أكثر منها بكثير، مما نشأ من توقعاتهم الرهيبة بأنهم لن يموتوا قط، ولم يكونوا عنيدين شكسين طامعين فيما في أيدي غيرهم، مكتئبين عابثين ثرثاريين فحسب، بل كانوا كذلك غير أهل للصداقة، لا يستجيبون لأية عاطفة أو حب طبيعي، لم يهبط قط عن حضرتهم. وكان الحسد والرغبات عاجزة هي الشعور السائد بينهم... وإذا رأوا جنازة ولولوا وتذمروا من أن الآخرين ذاهبون إلى دار الراحة حتى لا يأمنون هم أنفسهم في الوصول إليها... أبداً وكان هذا أفظع منظر مخز مميت للشهوات رايته في حياتي. وكانت النساء اشد إزعاجاً من الرجال... ومن هذا الذي سمعت ورأيت، خفّت كثيراً شهوتي الحادة في البقاء على قيد الحياة(129)".

وفي القسم الرابع نبذ سويفت الهزل والمزاح إلى شجب قوي ساخر للإنسانية. فان أرض "الهويمن" يحكمها جياد نظيفة وسيمة بهيجة، تنطق بالحكمة وتتحلى بكل مظاهر المدنية، على حين أن الخدم الحقراء فيها، وهم "الياهو المتوحشون"، هم رجال أقذار كريهو الرائحة، جشعون مخمورون، غير متعقلين مشوهون. ومن بين هؤلاء المنحنين المنحطين (هكذا كتب سويفت في أيام جورج الأول):

"كان هناك رجل حاكم من "الياهو" (ملك)"، أبشع شكلاً وأكثر نزوعاً إلى الشر والأذى من الآخرين... وكان لهذا الزعيم عادة شخص مثله محسوب عليه أثير لديه، عمله الوحيد هو أن يلعق قدمي سيده... ويأتي بنساء الياهو إلى حظيرته، ومن اجل هذا كان يكافأ من حين إلى حين بقطعة من لحم الحمار (علامة على النبالة؟)... وكان يبقى عادة في عمله هذا، حتى يمكن العثور على من هو أسوأ منه(130)".

وبالمقارنة فإن "الهويمين"، لأنهم متعقلون، كانوا سعداء فضلاء، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أطباء أو محامين أو رجال دين أو قواد جيوش، وصعقت تلك الجياد المهذبة "الماجنة" ببيان جلليفر عن الحروب في أوربا. كما ذهلت أكثر فأكثر لسماعها بالخلافات التي أدت إلى الحروب- "هل يكون الجسد خبزاً أو يكون الخبر جسداً في القربان المقدس، وهل يكون عصير ثمار معينة دماً أم نبيذاً(131)، وكانوا يقاطعون جلليفر حين يفاخر بالعدد الكبير عن البشر الذي يمكن نسفه بالآلات العجيبة التي اخترعها قومه.

وعندما يعود جليفر أدراجه إلى أوربا، نراه لا يكاد يضيق برائحة الشوارع والناي الذين يبدو في نظره الآن أنه من "الياهو".

"استقبلتني زوجتي وأسرتي من الدهشة لأنهم كانوا قد قدروا مماتي. ولكن ينبغي عليّ أن اعترف بصراحة أن منظرهم ملأني بالبغضاء والاستياء والازدراء... وما أن دخلت البيت حتى احتضنتني زوجتي بين ذراعيها وقبلتني، من أجل ذلك رحت في إغماءة لما يقرب من ساعة، لولا إني معتاد على لمس هذا الحيوان البغيض (الإنسان) لأعوام طويلة. وطيلة السنة الأولى لم أكن أطيق وجود زوجتي وأطفالي معي، حيث كانت رائحتهم لا تحتمل... وأول مال أنفقته في شراء جوادين صغيرين احتفظت بهما في أسطبل مناسب. وكان السائس أعز ما عندي بعدهما، لأن الرائحة التي تنبعث منه في الأسطبل كانت ترد إليّ روحي(132)".

وفاق نجاح "جلليفر" كل توقعات المؤلف وأحلامه وربما خفف من بغضه للجنس البشري بسبب حاسة الشم. واستمتع القراء باللغة الإنجليزية الواضحة في غير إطناب، وبالتفاصيل العريضة، وبالفحش المرح. وتنبأ آربوثنوب للكتّاب "رواجاً عظيماً مثل كتاب جون بانيان- يقصد كتاب "تقدم الحجيج"". ولا ريب أن سويفت يدين ببعض الفضل لهذا الكتاب، وبفضل أكبر لكتّاب "روبنصن كروزو"، وربما بشيء من الفضل لكتّاب سيرانودي برجراك "التاريخ الهزلي لدول إمبراطورية القمر". أما الشيء الجديد حقاً فهو "الكلبية" أو السخرية الرهيبة في الأجزاء المتأخرة من الكتاب. وحتى هذه وجدت من يعجب بها، فأن دوقة مالبورو، وقد بلغت آنذاك أرذل العمر، غفرت لسويفت هجماته على زوجها، إلى جانب حملاته على الجنس البشري بأسره. وصرحت بأن سويفت أتى "بأدق وصف يمكن أن يكتب للملوك والوزراء والأساقفة والمحاكم". وروى جاي أنها "في نشوة غامرة من الابتهاج بالكتاب ولا يمكن أن تحلم بشيء آخر"(133).

وتكدر انتصار سويفت بنسر قصيدة كادينوس وفانيسا، فإن منفذي وصية هستر فانهو مراي أذعنوا لأمرها بنشرها، ولم يطلبوا من الكاتب ترخيصاً بذلك، وظهرت في طبعات مستقلة في لندن ودبلن وإدنبرة، وكانت ضربة قاسية للزوجة ستيللا لأنها رأت أن عبارات الحب والهيام التي كانت قد وجهت يوماً إليها، تكررت لفانيسا، ولم يمض كبير زمن على افتضاح هذا الأمر حتى مرضت وقصد سويفت الى إيرلندة لعيادتها والتخفيف عنها، وتحسنت صحتها، وعاد هو إلى إنجلترا (1727)، وسرعان ما ترامت إليه الأنباء بأنها تحتضر، فأرسل تعليمات عاجلة إلى مساعديه في الكاتدرائية بأن ستيللا يجب ألا تلفظ أنفاسها الأخيرة في مقر رئاسة الكاتدرائية(134)، وعاد أدراجه إلى دبلن، ومرة أخرى أبلت ستيللا بعض الشيء، ولكنها فارقت الحياة في 28 يناير 1728، وهي في السابعة بعد الأربعين وانهارت قوى سويفت، واشتد عليه المرض فلم يستطع تشييع الجنازة.

وبعدها أقام في دبلن "مثل فأر مسموم في جحر(135)" (كما كتب إلى بولنجبروك). وكان يقوم بأعمال البر والصدقات، وأجرى راتباً على مسز دنجلي، ومد يد العون إلى ريتشارد شريدان في محنة شبابه، وكان في ظاهره رجلاً قاسياً، ولكنه تأثر تأثراً بالغاً لفقر الشعب الأيرلندي، وصعق لكثرة عدد المتسولين من الأطفال في شوارع دبلن، وفي 1729 أصدر أشد مقالاته التهكمية الساخرة ضراوة ولذعاً تحت عنوان "اقتراح متواضع لمنع أطفال الفقراء من أن يكونوا عالة على آبائهم وعلى بلدهم":

"لقد تأكد لديّ كل التأكيد... أن الطفل الصغير الصحيح الجسم الذي بلغ من العمر سنة، يصلح لأن يكون طعاماً شهياً مغذياً صحياً، إلى أبعد حد، مطهواً بالغلي البطيء أو مشوياً أو محمصاً أو مسلوقاً، كما يصلح بالمثل لأن يكون "مفروماً محمراً، أو يخنة كثيرة التوابل". ومن ثم فأني بكل تواضع، أعرض على الرأي العام، أنه من بين المائة والعشرين ألف طفل الموجودين الآن، يمكن الاحتفاظ بعشرين ألفاً فقط لتربيتهم وتنشئتهم على أن يكون ربعهم من الذكور، أما المائة ألف طفل الباقون فيمكن عرضهم للبيع إلى ذوي المكانة والثراء في طول المملكة وعرضها، مع نصيحتي دوماً إلى الأمهات بالإكثار من إرضاعهم في الشهر الأخير، حتى تمتلئ أجسامهم ويكونوا سماناً تزدان بهم الموائد الفخمة، إن الطفل الواحد يمكن أن يكون طعام يقدم للأصدقاء، أما إذا كانت الأسرة تتناول غذاءها وحدها فإن الربع الأمامي أو الخلفي من الذبيحة يكون طبقاً كافياً، وإذا تبل ببعض الفلفل أو الملح لكان طيب المذاق...

أما الذين هم أكثر تدبيراً واقتصاداً فيمكنهم أن يسلخوا الجثة، ويعالجوا جلدها بطريقة خاصة ليصنعوا قفازات لطيفة للسيدات، وأحذية صيفية للرجال الأنيقين...

إن بعض الذين جزعوا لهذه الظاهرة اهتموا اهتماماً كبيراً بهذا العدد الضخم من المسنين أو المرضى أو المقعدين والمشوهين، ورغبوا إلى أن أعمل التفكير في الوسائل التي يمكن أن تتخذ لتخليص الأمة من هذا العبء الثقيل المحزن، ولكني لا أتألم كثيراً لهذه المسألة لأنه المعروف جيداً أنهم يموتون وتبلى أجسامهم في كل يوم من البرد والجوع والقذارة والهوان، بالسرعة المتوقعة بداهةً.

وأظن أن مزايا الاقتراح الذي عرفته واضحة متعددة...


وأولى المزايا، أن هذا يخلصنا إلى حد كبير من عدد البابويين (اليسوعيين) الذين يجتاحوننا كل عام، لأنهم المربون الأساسيون للأمة، قدر ما هم ألد أعدائنا وأخطرهم... وثالثها أنه من حيث أن تربية مائة ألف طفل من سن الثانية فما فوق، لا يمكن أن يتكلف الواحد أقل من عشر شلنات في العام، فبهذا الاقتراح سيتوفر للأمة خمسون ألف جنيه سنوياً، هذا بالإضافة إلى فائدة اللون الجديد من الطعام الذي يقدم إلى موائد ذوي الثراء والوجاهة... الذين يتحلون بالذوق الرفيع".

إن نتاج يراع سويفت، ذلك النتاج الغريب، والثائر أحياناً، وبخاصة بعد وفاة ستيللا، يوحي بأنه قد أصابه مس من الجنون، "إن شخصاً منذ ذوي المكانة في إيرلندة (كان يسره أن ينحني كثيراً ليدق النظر في عقلي) اعتاد أن يقول لي أن عقلي مثل روح مسحورة، قد يؤذي ويسيء إذا لم أشغله بشيء(136)".

وتساءل أحد الأصدقاء: إن مبغض البشرية الكئيب هذا، والذي تركته الأخطاء الصارخة في بيت من زجاج، بينما هو يسلق البشرية بألسنة حداد من الهجاء، ألا يغني فساد الناس ومساوئهم جسدك ويستنزف روحك؟"، "إن غضبه على العالم كان امتداداً لغضبه على نفسه، فقد أدرك أنه على الرغم من عبقريته، معتل الجسم مريض النفس، ولم يكن يغتفر للحياة حرمانه من الصحة والأعضاء السليمة وهدوء البال، والتقدم الذي يتناسب مع قوة عقله.

وكان آخر مظهر لقسوة الحياة على سويفت، هو اختلال قواه العقلية يوماً بعد يوم. وازداد بخله وجشعه، حتى وسط أصدقائه وقيامه بأعمال البر. فكان يضن بالطعام على ضيوفه، وبالنبيذ على أصدقائه(137). وازدادت نوبات الدوار عنده سوءاً، فما كان يدري في أية لحظة منحوسة ينتابه هذا الدوار ليجعله يترنح ويتلوى من الألم في هيكله أو في الشارع.

وكان قد رفض أن يضع النظارات على عينيه فضعف بصره وترمك القراءة. ومات بعض أصدقائه، ونأى بعضهم بنفسه عنه، اجتناباً لحدة طبعه واكتئابه، وكتب إلى بولنجبروك: "كثيراً ما فكرت في الموت، ولكنه الآن لا يغيب عن ذهني أبداً(139)" وبدأ يتلهف عليه. واحتفل بيوم ميلاده يوم حداد وحزن. وقال "ليس هناك رجل عاقل يرغب في استعادة شبابه(140)". وفي أعوامه الأخيرة كان يودع زائريه دوماً بقوله "سعدتم مساء، أرجو ألا أراكم ثانيةً(141)".

وظهرت أعراض الجنون التام عليه في 1738. وفي 1741 عين بعض الأوصياء ليتولوا شؤونه، ويراقبوه حتى لا يلحق بنفسه أي أذى في نوبة من نوبات العنف والجنون التي تصيبه. وفي 1742 عانى ألماً شديداً من التهاب في عينيه اليسرى التي تورمت حتى صارت في حجم البيضة. وأحاط به خمسة من الأتباع ليحولوا بينه وبين فقء عينه بيده. وقض عاماً لا ينطق ببنت شفة. وآذنت محنته بالانتهاء في 19 أكتوبر 1745، وقد بلغ الثامنة بعد السبعين. وأوصى بكل ثروته البالغة أثنى عشر ألف جنيه لبناء مستشفى للأمراض العقلية. ووري التراب في كاتدرائيته، ونقش على ضريحه عبارة اختارها بنفسه:


"حيث لا يعود السخط المرير يمزق قلبه".