الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ (الجزء الثاني - الباب الثالث)

مراجعة 21:26، 10 سبتمبر 2010 بواسطة Heshamdiab16 (نقاش | مساهمات) (←‏نص الحكم في قضية السيارة الجيب)

(فرق) → مراجعة أقدم | مراجعة معتمدة (فرق) | النسخة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الباب الثالث: المؤامرة تتحطم علي صخرة صلدة من نزاهة القضاء المصري

الفصل الأول: مكانة القضاء في الأمم وموضعه في الإسلام

القضاء الصالح النزيه هو في حياة الأمم قلبها النابض ومركز الإحساس فيها ، الذي يتوقف بقاء حياتها عليه ... وإذا تطرق الفساد إلي مؤسسات دولة من الدول ، وبقي قضاؤها سليما نظيفا كان هذا القضاء حصنا لها دون الموت والفناء .. إذ أن قضاءها النظيف قادر أن يبعث الحياة والنظافة والنقاء في أعصاب بقية المؤسسات .. ذلك أنه هو صمام الأمان فلا تنفجر الدولة من داخلها مهما اختلت أجهزتها مادام صمام الأمان صالحا وعاملاً ..

وعند فساد أجهزة الدولة يكون أفراد الأمة هم ضحية هذا الفساد . فإذا وجد هؤلاء الأفراد من يلجئون إليه من ظلمهم ، فإن إنصاف القضاء إياهم يكون بمثابة انذار لمغتصبي الحقوق بأن فوقهم سلطة تلزم كل فرد – مهما عظم شأنه – حدوده ، وترده إلي حجمه ، وتخضعه راغماً لطائلة الحق والقانون ... فلا يجد هؤلاء غطرستهم . ويفيئوا إلي الحق والصواب .. ومن هنا تجد العدالة طريقها إلي كل أجهزة الدولة . والمقصود بصلاح القضاء صلاح رجاله ، فإن القانون وحده لا يردع ما لم يقم علي إعماله نسان . فإذا كان هذا الإنسان صالحا أخرج للناس من القانون أداة فعالة وخلقا سويا . وإذا كان غير ذلك أخرج من القانون مسخًا من منفرًا وخلقاً مشوهاً ، وصار القانون في نظر الناس أضحوكة يتندرون عليها ، وألعوبة يشكلونها حسب أهوائهم ، ووفق شهواتهم . والقوانين المتحضرة – مهما اختلفت تفاصيل – كلها تتوحي تحقيق العدالة بين الناس ، وكلها تعتبر المتهم بريئًا حتى تثبت إدانته . وكلها – تعطي المتهم الفرص الكاملة للدفاع عن نفسه ولكنها ترفض الإغراء والإكراه وسيلة للحصول علي اعتراف المتهم ، وكلها تعتبر المواطنين جميعًا سواء أمام القانون . وهكذا فأصول القوانين واحدة .. ولكن القوانين علي كل حال أجساد هامدة حتى ينفخ القاضي فيها روح الحياة فتنبض وتعمل وتؤثر وتوجه .. ولذا كان اهتمام المصلحين ومنشئ الدول منصبًا جله علي شخصية القاضي وتفكيره وخلقه وأسلوبه ومسلكه .

وأعظم دليل علي ما لشخصية القاضي من مكانة في الحياة هو أن الله سبحانه وتعالي جعل القاضي خليفة له في الأرض فقال جل شأنه معقبا علي حكم أصدره داود عبد السلام في قضية عرضت عليه (        ••          •            ) .. ولم يكن هذا التعقيب الإلهي والتحذير الشديد إلا لأن داود ترك لعواطفه – وإن كانت عواطف نبيلة – أن تتدخل فيصياغة الحكم .. فما بالك إذا كانت العواطف التي ينبعث حكم القاضي منها غير نبيلة ؟! .. إنها تكون البلاء والدمار والخراب .. أليس القاضي يحكم في دماء الناس وأعراضهم وأموالهم . وإذا عرف القاضي مكانته هذه في المجتمع فإن عليه إذا جلس مجلس القضاء أن يتجرد من نوازع نفسه ، ومن أهوائه وعواطفه التي كان عليها قبل أن يجلس هذا المجلس .. وعليه أن يري نفسه في هذا المكان أعلي مكانة وأرفع قدرًا من كل إنسان في المجتمع ؛ لأنه صار خليفة الله في هذا المجتمع .

ولقد بلغ تقديس القضاء في الدولة الإسلامية مبلغا لم يبلغه في دولة أخري علي مدي التاريخ ، فلم يكن في هذه الدولة المترامية الأطراف إنسان يري نفسه أكبر من أن يمثل بين يدي القاضي ولو كان هذا الإنسان هو أمير المؤمنين ... روي الإمام الشعبي أنه كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب خصومة . فتقاضيا إلي زيد بن ثابت . فلما دخل عليه أشار لعمر إلي وسادته ليجلس عليها) فقال عمر : هذا أول جورك .. اجلسني وإياه مجلسًا واحدًا . فجلسا بين يديه . وكما اشتد الإسلام في كتابه الكريم وحديث رسوله العظيم في تحذير القضاة من الميل مع الهو ، فقد عني أيضًا بالخصوم فوجه إليهم تحذيرًا عنيفا ، حتى تكتمل بذلك العدالة ، التي هي هدف الإسلام وغايته الكبرى . فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليَّ . ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له بنحو ما أسمع . فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع قطعة من النار " .

واللحن بالحجة لا ينتهي مدلوله عند حد البراعة في الإلقاء ، والافتتان في تزويق الكلام والبلاغة في الأسلوب – كما قد يتبادر إلي الخاطر – بل إنه يذهب إلي أبعد من ذلك بكثير . فقد يكون اللحن بالحجة تعبيراً عن خصمين أحدهما حاكم والآخر محكوم ، ولدي الحاكم من وسائل القهر وأساليب التخزيف والإغراء ما يلجم به لسان المحكوم فلا يجرؤ علي بسط مظلمته والكشف عما يلقاه من قهر خصمه ، رهبة منه وتوجسًا وخوفًا ... ورسول الله صلي الله عليه وسلم حين يتحدث في الشئون العامة لا يكون هدفه من الحديث مقتصرًا علي ما يعالج من مشكلة بذاتها في أيامه ، وإنما هو يصوغ الحديث يتسع لما قد يجد في الأمة الإسلامية علي مر الزمن . قال الإمام ابن العربي – فيما أورده القرطبي – في معني قوله تعالي (•   ) التي ختمت بها الآية (•            •   ) قال : يعني غلبني في شرح الحجة ، واختلف في سبب الغلبة فقيل معناه غلبني ببيانه ، وقيل غلبني بسلطانه ؛ لأنه لما سأله لم يستطع خلافه . ومن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنة حكام المسلمين من بعده أنهم كانوا لا يختارون للقضاء بين الناس إلا أعظم العلماء ممن اشتهروا بالذكاء ، واتصفوا بالورع ، وتنزهوا عن الشبهات . ولذا فإن أحكامهم كانت مضرب الأمثال .. قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : لا يستقضي(أي لا يختلا قاضيًا) إلا من كلن عالمًا بآثار من مضي ، مستثيرًا لذوي الرأي ، حليما نزيها ورعا – وقال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما : ينبغي للقضاة مشاورة العلماء ، وينبغي أن يكون القاضي متيقظا كثير التحذر من الحيل – وقال الإمام القرطبي في تفسيره : دل هذا علي بيان وجوب الحكم بالحق ، وألا يميل إلي أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع أو سبب يقتضي الليل من صحبة أو صداقة أو غيرهما .

روي الإمام الليث قال : تقدم إلي عمر بن الخطاب خصمان . فأقامهما (صرفهما) ثم عادا فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهما . فقيل له في ذلك فقال : تقدما إلي فوجدت فلأحدهماما لم أجد لصاحبه ، فكرهت أن أفصل بينهما علي ذلك ، ثم عادا فوجدت بعضذلك ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما . وكان أمير المؤمنين نفسه لا يري لنفسه الحق في الجلوس مجلس القاضي ليحكم في قضية يعلم هو علم اليقين من هو صاحب الحق فيها ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه " لو رأيت رجلا علي حد من حدود الله ما أخذته حتى يشهد علي ذلك غيري – وروي أن امرأة جاءت إلي عمر رضي الله عنه فقالت له : احكم لي علي فلان بكذا فأنت تعلم ما لي عنده فقال لها : إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا . وكان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أعظم من أوتي مواهب القضاء . وشهد له بذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم حيث قال : " أقضاكم علي " . وكانت أحكامه التي يصدرها فيما يعرض عليه من قضايا يحار ذوو العقول الكبيرة في فهمها حتى يشرحها لهم ، ويبين لهم كيف استنبط حكمها من كتاب الله وسنة رسوله .. وهي أحكام رائعة لولا ضيق المقام لأثبتنا هنا طرفا منها ، ولكننا هنا نكتفي – مناسبة للمقام – بنقل فقرات من كتاب له رضي الله عنه في كيفية اختيار القضاة وكيفية معاملتهم . •من كتاب علي رضي الله عنه إلي مالك بن الحارث الأشتر :

وهذا الكتاب هو الذي عهد فيه إلي مالك بن الحارث الأشتر بالولاية علي مصر – وبعد هذا الكتاب إحدى الوثائق التاريخية ، بل إحدى الذخائر النادرة ، التي لم يجد الدهر بمثلها ، ولا تفتقت أذهان علماء الإدارة المتخصصين حتى اليوم عن شيء يقارنها أو يدانيها . فكتابه – كرم الله وجهه – هذا جمع فيه طرائق الحكم ، وأساليب الإدارة .. هو دستور كامل جامع مفصل ، فيه كل ما يحتاج حاكم ليرسي دعائم حكم صالح ، يسعد الناس في كل نواحي حياتهم .. ويقع هذا الكتاب في اثنتي عشرة صفحة . وجدير بكل حاكم من حكام المسلمين اليوم أن يطلب هذا الكتاب ويرجع إليه ويطالعه بنظره وعقله وقلبه ، ويتخذه دستورا لحكمه ليسعد ويسعد ، ويسير في حكمه علي هدي ونور – وهاك فقرة من هذا الكتاب مما يتصل بكيفية اختيار الحاكم للقضاة وكيف يعاملهم .

" واردد إلي الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ، ويشتبه عليك من الأمور ، فقد قال الله تعالي القوم أحب إرشادهم : (                   ....) فالرد إلي الله بالأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلي الرسول الأخذ بمحكم كتابه ، والرد إلي الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة . ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضييق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى ف الزلة ، ولا يصر من الفئ إلي الحق إذا عرفه (لا يضيق صدره من الرجوع إلي الحق) ولا تشرف نفسه علي طمع ، ولا يكتفي بأدني فهم دون أقصاه .. أوقفهم في الشبهات ، وأخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم علي كشف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم . ممن لا يزدهيه اطراء ، ولا يستميله اغراء .. وأولئك قليل .. ثم أكثر من تعاهد قضائه . وأفسح له في البذل ما يزيل علته ، وتقل معه حاجته إلي الناس . وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليمن بذلك اغتيال الرجال له عندك . فانظر في ذلك نظرا بليغا فإن هذا الدين قد كان أسيرًا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى ويطلب به الدنيا " .

•القضاء المصري :

لا يستطيع أحد أن ينكر أن الفساد كان مستشريا في جميع مرافق البلاد . وأن جهازا واحدا من أجهزة الدولة لم يكن يخلو من فساد ، حتى السلطة التشريعية الممثلة في مجلس النواب والشيوخ كشفت بعض الظروف أنها لم تكن أقل فسادًا . أما الجهاز الذي يحق لمصر أن تفخر به وتعتز ، والذي لم يستطع أن يتطرق إليه الفساد مع أنه ينحدر من أعل رأس في الدولة – فهو جهاز القضاء ... هذا الجهاز قد صان نفسه مع تقلب العهود عن أن يكون مطية لعهد ، أو حليفا لحكومة ، أو مشايعا لنظام ، أو مجاملاً لكبير .. بل كان يري نفسه أكبر من كل عهد ، وأعظم من كل حكومة ، وأرفع شآنًا ومقامًا من كل كبير . وينبغي أن يكون مفهومًا أن التزام القضاء لحدود مهمته ، وترفعه عن مستوي من حوله ، ليس معناه أن يسلخ نفسه من الوطنية التي ينتمي إليها ، أو أن يتعامي عما يدور في بلاده من أحداث ... فالفرق شاسع بين الوطنية عامة وبين الحزبية ، كما أن الفرق الشاسع بين من يرتكب جريمة دفاعًا عن النفس وبين من يرتكبها اعتداء علي الآمنين .. ويقاس علي ذلك من يرتكبون جريمة للتخلص من مستعمر غاصب وبين من يرتكبون الجريمة ضد المسالمين الشرفاء من أبناء وطنه .. إن مراعاة القضاء لأهداف الجريمة وللدوافع إليها لا يقدح في عدالة القضاء ، ولا ينال من حياده ، ولا يغص من ترفعه .

ولم يكن القضاء المصري في يوم من الأيام متعاميًا عن هذه المعاني الإنسانية والوطنية العامة ، بل كان بصيرًا مرهف الحس – لا نحو الأشخاص – ولكن نحو المعاني السامية .. فكانت أحكامه دائماً مثلجة لصدور الوطنيين المعتدي عليهم من الظلمة الطغاة والمستعمرين .. لم يساووا في أحكامهم بين الدوافع الوطنية النبيلة وبين الدوافع الشخصية الوضيعة .. كان القضاة المصريون دائما مكملين لنقص القانون ، سادين لثغراته .- وإذا لم يكن القاضي كذلك فلا خير فيه ؛ لأنه يكون عديم الشخصية ، وإذا كان القاضي مجرد لسان ينطق بنص قانوني علي أنه الحكم أو القرار . فإنه يكون بلاء علي نفسه وعلي الناس .. وكيف لا والمتقاضون ينتظرون أن يكون حكم القاضي نتيجة تفاعل بين القانون وظروف القضية وعقل القاضي ؟ .. وقد يتصل بهذا المجال ما قضي به عمر بن الخطاب حين جاءه الرجل بأجير عنده سرق ، فلما أحاط عمر بظروف القضية ، وعلم أن الرجل يظلم أجيره ويقتر عليه في الأجر تقتيرًا لا يجد معه الأخير ما يسعد حاجاته الضرورية .. لم يقضي عمر بالنص القانوني الذي يقضي بقطع يد السارق ، بل كان قضاؤه أن أعفي السارق من العقوبة ووجه إنذارًا إلي صاحب العمل بأن يزيد من أجر أجيره ، وإلا فإذا عاد الأجير إلي السرقة مدفوعًا إليها بالحاجة فإنه سيقطع يد صاحب العمل .

والأمثلة كثيرة للقضاة الذين تجاوزوا النص أمام ظروف القضايا .. جاء في تفسير الإمام القرطبي لقوله تعالي : (    ) قوله : قال القاضي أبو بكر بن العربي " فأما علم القضاءفلعمر الهك إنه لنوع من العلم المجرد ، وفصل منه مؤكد ، غير معرفة الأحكام ، والبصر بالحلال والحرام ، ففي الحديث يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : " أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " ، وقد يكون الرجل بصيرًا بأحكام الأفعال ، عارفاً بالحلال والحرام ، ولا يقوم بفصل القضاء " . وعلي هذا سار القضاء المصري الذي استمد أصالته من تاريخه الإسلامي الحافل ، ومن الذكاء المصري الفطري ، وإذا شذ عن هذا الإجماع قاض أو عدد قليل من القضاة ، فإن ذلك لا النية فيمن شدوا ملتزمين بحرفية النصوص فإن هذا مبلغ علمهم ، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، وفي درجات التقاضي متسع لتدارك أخطاء هؤلاء الشاذين .

•صفحة مجيدة للقضاء مع الإخوان :

أما القضاء بالنسبة للإخوان المسلمين فإن له معهم صفحة مجيدة رائعة تسجل للقضاء المصري بحروف من نور . فلقد محص القضاء المصري قضاياهم تمحيصًا كشف خباياها ، وأوضح ما طمس من معالمها ، واقتحم من خلالها إلي معاقل الظلم والقهر والعدوان . وبين للرأي العام المصري والعالمي من هو البرئ ومن هو المعتدي . ولقد كان التخطيط مؤسسًا علي أن يقدم هؤلاء المتهمون إلي القضاء في ظل الإرهاب الحكومي الذي كان علي رأسه إبراهيم عبد الهادي ، والذي سيكون شبحه مائلا أمام كل متهم فلا يجرؤ علي الإفضاء بما سيم من سوء العذاب . ولذا فقد رأينا النائب العام محمود منصور باشا – خادم ذلك العهد – قد أجهد نفسه في ضم جميع قضايا الإخوان مع قضية مقتل النقراشي باشا في قضية واحدة ، تقدم للقضاء في أقرب فرصة ليصدر حكمه فيها مرة واحدة قبل أن ينقشع ظلام الإرهاب الحكومي . ولكن أعوانه من رجال النيابة عجزوا عن تلبية طلبه لكثرة عدد المتهمين ، ولما سيكون عليه ملف هذه القضية من ضخامة تعجز من يطلع عليه أن يحيط بكل ما فيه .

فلما أراد الله أن يزلزل أقدام الطاغية .. وزال الشبح .. تلك المتهمون ووجدوا من يستمع إليهم ، فكشفوا عما كان يقترف من جرائم التعذيب وإهدار الكرامة – لا تحت سمع الحكومة وبصرها فحسب – بل ويأمر من رئيس حكومتها وتوجيهه ... ولقد هز الكشف عن هذه الجرائم البلاد من أقصاها إلي أقصاها ؛ لأن هذه البلاد بالرغم من شدة وطأة الاستعمار عليها فإنها كانت لا تزال تحتفظ بقسط من الشعور والحيوية . ولقد كانت هذه القضايا فرصة أتيحت . كشف الدفاع – الذي كان الكثير من أعضائه متطوعا – عن حقيقة الإخوان المسلمين وعن جهادهم وتضحياتهم ، مما كان الإخوان حريصين علي إخفائه إيثارًا لما عند الله ، فعرف المصريون والعرب لأول مرة أن لهم في تاريخهم الحديث مفاخر تذكرهم بمفاخرهم في عصورهم الأولي من الدعوة الإسلامية الباكرة ، واستقر في أذهانهم أن هذا الطراز من الرجال هو الذي يرجي علي يديه إجلاء اليهود عن البلاد المقدسة التي مكنهم الاستعمار من اغتصابها . ولقد كان للشهادات التي أدلي بها أمام القضاءالقائدان العامان للقوات المصرية في فلسطين اللواءان أحمد المواوي وفؤاد صادق مدو في أسماع العالم كله ، لاسيما في أسماع المصريين – المجنيعليهم دائمًا – والذين لم يكونوا يسمعون من أبواق الحكومة السعدية إلا ذمًا وافتراءً وتحقيرًا لهذه الفئة الطاهرة المجاهدة .

ولم يكتف القضاء بإصدار أحكام تبرئ ساحة هؤلاء المجاهدين بل كانت الروعة في حيثيات هذه الأحكام التي أشادت بهم ودمغت ذلك العهد بالاستبداد والتعنت والإرهاب . وينبغي أن يكون ماثلاً في ذهن القارئأنه ليس معنيأن هذه الأحكام وقد صدرت بعد سقوط وزارة السعديين أن العهد الذي تلا هذه الوزارة كان عهدا جديدا .. لا بهم المسيطر علي المسرح .. المحرك من المصريين كان هو الملك وكان مؤلف المسرحية هم الانجليز .. وكان هذان موجودين ، وكانا هما المسيطرين علي مقادير البلاد .. لكنهما مع ما كان لها من رهبة في صدور الناس ، وقد استطاعا التدخل في كل شيء واستطاعا إفساد كل شيء فإنها عجزا عن أن يقتحما إلي ساحة القضاء التي كانت حيالهما أمنع من عقاب الجو . وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ونحن بصدد الإبانة عن متاعة مقام القضاءحتى ذلك العهد ، أراني مذكرًا بمشكلة من هذا القبيل كثر حولها الجدل في خلال عامي 1951 ، 1952 حين وليت الحكم وزارة الوفد مؤيدة بأغلبية شعبية ساحقة ، ومشمولة بتأييد الملك لأول مرة ، ومعني هذا أنها كانت وزارة وطيدة الأركان راسخة الأقدام نافذة الكلمة مما لم يتوفر لوزارة علي الصعيد المصري من قبل .

وكان الدكتور عبد الرازق السنهوري في ذلك الوقت رئيسًا لمجلس الدولة – وهو العالم القانوني المشهود له من الجميع – غير أن الدكتور السنهوري كانت له صفحة أخري هي أنه كان من قبل عضواً في حزب السعديين وتولي منصب الوزارة في بعض وزاراتهم . فلما جاءت وزارة الوفد أراد النحاس باشا رئيس الوزراء – بهذه السلطة المطلقة التي يملكها – أن يقتلع السنهوري من منصبه القضائي بدعوي أنه رجل حزبي . وأرسل إليه من يطلب إليه الاستقالة من منصبه ، فكان أن أعلن السنهوري علي صفحات الجرائد أنه يوم تولي منصبه في القضاء الأعلى .. ولما كان السنهوري كفاءة قانونية نادرة فقد تمسك به مجلس القضاء . وبذلت حكومة الوفد جهودًا جبارة بجهازيها التنفيذي والتشريعي وبنفوذها الصحفي والإعلامي ، طيلة عام كامل .. دون أن تتمكن أقوي حكومة تولت الحكم في مصر في عهد الملكية من زحزحة السنهوري عن منصبه ... وسقطت الحكومة في عام 1952 وظل القاضي في منصبه .

الفصل الثاني: من الأحكام الخالدة

أولاً – الحكم في قضية السيارة الجيب

مقـدمــة

لعل قد استبان للقارئ من الصفحات السابقة الصورة التي كانت التحقيقات تجري في إطارها . والمجزرة البشرية التي كانت ترتكب جريمتها باسم هذه التحقيقات بين جدران السجون ومكاتب البوليس ، والاعترافات التي كانت تملي علي المتهمين . ويوقعونها وهم في شبه غيبوبة من أثر الضرب والتعذيب . وظن المزورون أنهم استطاعوا أن يذللوا كل عقبة اعترضت طريقهم بإزاحة كل رجل بوليس فيه بقية من شرف أو مسحة من ضمير عن طريقهم .. وحتى رجال النيابة .. انتقوا منهم قلة شاذة باعت نفسها للشيطان ، وشردوا الآخرين الذين رفضوا الخضوع لمشيئتهم . وكانوا يعتقدون أنهم بذلك قد أتموا المشوار إلي آخره ، وأكملوا طبهخ ومهكوا عناصرها بعضها ببعض حتى فقدت هذه العناصر معالمها فلد تعد تميز عنصرا فيها عن الآخر ، ثم مزجوا بها السم الزعاف فسري في كل ذرة من ذراتها وأعادها مهكها مرة بعد مرة . حتى خرجت من تحت أيديهم عنصرًا واحدًا يشهد بمهارة الطابخين ... طبخوها في عزلة وفي تأن وهدوء ، فقد كان الوقت في أيديهم يتصرفون فيه كما يشاءون .. ولم يقدموها للقضاء إلا بعد أن استكملت تجانسها وصارت مهيأة للالتهام .

فالقضاء واجد أمامه اعترفات صريحة مذيلة بتوقيعات المتهمين . وإن كان كراه أو تعذيب فقد كان يجري بين أربعة جدران ، ما من شاهد عليه ولا دليل ، وقد مضي عليه شهور طويلة كادت تذهب بآثاره .. فماذا يفعل القضاء أمام هذه الظروف إلا أن يصدر الأحكام التي رتب الظالمون هذه القضايا لتصدر فيها ؟! . ولا عجب في هذا ، فقد رأينا في قضية الأوكار حين قررت المحكمة سماع أقوال الشهود في موضوع التعذيب ، رأينا أحد كبار المحامين في القضية وهو الأستاذ زكي البهتيمي يقرر للمحكمة أن استجلاء هذا الموضوع بهذا الأسلوب غير مجد ؛ لأن التعذيب كان يجري بين أربعة جدران ، ولم يكن يحضره إلا المتهم والقائمون بالتعذيب . لم يكن القضاء – كما رأي القارئ – هو القضاء الساذج المتسرع الذي يؤخذ بالظواهر والمناظر فيلتهم الطبخة الناضجة الفائحة الرائحة التي قدمت إليه .. بل إنه سد أنفه وأخذ يجيل النظر في محتوياتها .. ولفت نظره الاعترافات الكاملة من كل المتهمين والمكتوبة بأسلوب قانوني وبعبارات اصطلاحية لا يحذقها إلا الإخصائيون المتمرسون بالتحقيقات القانونية .. فهل هؤلاء المتهمون جميعا – ومنهم الطبيب والمهندس والمعلم والأزهري والطالب والعامل والميكانيكي والتاجر – كلهم علي درجة عالية من الدراية القانونية التي لا يفهمها إلا الإخصائيون ؟ .

لم يكن القضاء اللقمة السائغة للملفقين كما كانوا ينتظرون ، بل إنه خيب أمالهم ، فقد أفسح صدره ، وتتبع الآثار حتى وصل إلي أصلها ، وتعاون مع الدفاع في تقصي الحقائق واستجوب الرءوس الكبيرة – التي كانت تعتقد أنه أمنع من أن يهبط بها من علياتها – وأوقفها أمام المتهمين وجها لوجه .. واقتحم بسلطانه العادل إلي معاقل الظلم فعاين رنانين السجون المحصنة التي استقل بها البوليس السياسي وعزلها عن الدولة . ترك القضاء الطبخة كلها جانبا ، وراح ينظر فيما بين يديه من آثار في أجسام المتهمين ، ويستعين بالأطباء علي معرفة أسبابها وأعمارها . وأخذ يبحث تاريخ هؤلاء المتهمين ، وهل هم فئة مردت علي الإجرام بطبيعتها أم أن هناك بواعث أخرى كانت هي السبب الأصيل في مثولهم بين يديه في قفص الاتهام ؟ ثم أخذ يقيم هذه البواعث حتى إنه قرأ القوانين الضابطة لمسيرة هؤلاء المتهمين في الحياة ، والتي التزموا بها وبايعوا عليها من أول يوم ، فوجدها مثلا عليا مستمدة من القرآن الكريم ، ولكنها تتعارض مع أهواء السادة الحاكمين ، وتقف عقبه في طريق شهواتهم .

وكانت القضيتان الكبيرتان اللتان آلتا آخر الأمر إلي ساحة القضاءهما قضية السيارة الجيب وقضية الأوكار وحامد جوده . وضمت الأولي اثنتين ثلاثين منهما وضمت الثانية خمسين متهما . ومع أن القضية الثانية (الأوكار) قد عقدت أكثر من عشرين جلسة تكشفت في خلالها فضائح وأعجايب – عرضنا لبعض منها في الفصل السابق – فإنها انقطعت عن مواصلة الجلسات للأسباب التي أشرنا إليها . ولهذا فإن القضية الكبيرة وإلهامه التي صدرت فيها الأحكام هي قضية السيارة الجيب ليسغير . وقد رأينا أن نثبت هنا نص هذا الحكم ، ثم نتبعه بالحيثيات التي بني عليها ، ليري القارئفي هذا الحكم وحيثياته وثيقة تاريخية نترك له تقييمها . ولا يفوتنا – بهذه المناسبة – أن نقول أنه لو أن قضية الأوكار قدر لها أن تتابع جلساتها لانتهت إلي أحكام وحيثيات أبدع وأروع .. ولكن يبدو أن إرادة الله قد سبقت بأن تكون أحكام هذه القضية وحيثياتها لا مجرد إدانة لحكم فاروق وعصابته ، بل تقويضًا لدولتهم ، ومثلا لعرشهم بقيام ثورة يوليو 1952 .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نص الحكم في قضية السيارة الجيب

نظرا لما كان للحكم في هذه القضية من صدي داخل مصر وخارجها . ونظرا لما لهذا الحكم من دلالات بعيدة المدى . ولما له من آثار عميقة الغور في تاريخ مصر ومستقبلها ، فقد صدرت أكبر الصحف اليومية في ذلك اليوم 18/3/1951 وملء صفحاتها الأولي بالخط الأحمر هذا العنوان وكتب تحته براءة 14 متهما من 32 متهما " وكتبت تحت ذلك : كان المتهمون ينشدون نشيد السجون الذي ألفه أحدهم وهو :

             الله أكبر في سبيل الله أدخلنا السجـون 
                                    والمخرجون من الديار بلا ذنوب يحبسـون 
             الله أكبر وليكن بعد الحوادث ما يكون 
                                    لا نستعين بغير ناصرنـا وما نلقي يـهون 
                والله أكبر في سبيل الله أدخلنا السجـون 

نص الحكم:

  • السجن ثلاث سنوات: مصطفى مشهور - محمود السيد خليل الصباغ - أحمد محمد حسنين - أحمد قدري الحاتي - السيد فايز عبد المطلب
  • السجن سنتين مع الشغل : عبد الرحمن علي فراج السندي – أحمد زكي حسن – أحمد عادل كمال – طاهر عماد الدين – محمود حلمي فرغلي – محمد أحمد علي – عبد الرحمن عثمان – صلاح الدين عبد المتعال – جمال الدين طه الشافعي – جلال الدين ياسين – محمد سعد الدين السنانيري – علي محمد حسنين الحريري .
  • الحبس سنة واحدة : محمد إبراهيم سويلم .
  • براءة المتهمين جميعا من التهمة الرابعة الخاصة بحيازة أجهزة وأدوات ومحطة إذاعة لاسلكية بدون إخطار .
  • براءة 14 متهما هم : محمد فرغلي النخيلي – محمد حسني أحمد عبد الباقي – أحمد متولي حجازي – إبراهيم محمود علي – الدكتور أحمد الملط – جمال الدين إبراهيم فوزي – السيد إسماعيل شلبي – أسعد السيد أحمد – محمد بكر سليمان – محمد الطاهري حجازي – عبد العزيز أحمد البقلي – كمال سيد القزاز – محمد محمد فرغلي – سليمان مصطفي عيسي ..
تعليق الدكتور محمد هاشم باشا علي الحكم

كان الدكتور محمد هاشم باشا من أكبر المحامين في مصر في ذلك الوقت ، وقد تقلد منصب الوزارة محايدة .. وقد أدلي لمندوب جريدة " المصري " برأيه في هذا الحكم فقال : رأيي أنه حكم سليم ، قد راعي كل الاعتبارات ، وبخاصة فيما يتعلق بالظروف التي أحاطت بالتحقيق ، وعلي الأخص من جهة المعاملة التي عومل بها المتهمون ، وكيفية انتزاع ما أسمته النيابة اعترافات منهم . ومن الناحية الأخرى يخيل إلي وأنا لم أقرأ الحيثيات بعد ، أن المحكمة راعت الاعتبارات الخلقية والاجتماعية التي كان يقوم بها الإخوان المسلمون بصفة عامة . وإلي جانب هذا فإن المحكمة كانت واسعة الصدر بشكل واضح ، وقد أوسعت صدرها الالتهام أولا وللدفاع ثانيا ، ولم تترك كبيرة ولا صغيرة إلا حققتها ووزنتها . وقد عشنا – نحن القضاة والنيابة والمحامين – ثلاثة أشهر في بحث هذه القضية ، ولم يمل المستشارون بحال من الأحوال ، بل أرادوا أيضا أن يدققوا أكثر مما دققوا فحجزوا القضية للحكم قرابة ثلاثة أسابيع لمراجعة الأوراق من جديد ، ووزن كل ما جري في التحقيق وما قيل في المرافعة من جانب الاتهام والدفاع .

ولا شك أن قضاة يظهرون هذا التدقيق والوزن في كل أمر يمس هذه القضية لا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يجيئ حكمهم عادلا سليما لا يرد عليه مطعن . ويخيل إلي أيضا أن القضاة وهم يباشرون نظر هذه الدعوى كانوا حقيقة بعيدين عن كل شيء يمس الجو العام للقضية كالدعاية وما شابهها . ثم انسحبوا بعد ذلك إلي محراب العدالة يستلهمون فيه حكم القانون أولا والعدل ثانيا ، والقضاء ليس إلا تحقيقًا للعدالة في حدود القانون . ولعلنا بعد أن نطلع علي أسباب الحكم تقتنع تماما بهذا الشعور الذي حكمنا به لأول وهلة عندما سمعنا النطق بالحكم . ,هذا من غير شك يجعلنا نردد بحق تلك العبارة التقليدية التي تقول " إن في مصر قضاة " .

حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب

في 13/4/1951 نشرت الصحف حيثيات الحكم فيقضية السيارة الجيب علي الصورة الآتية : " المحكمة تعلن " وهي مطمئنة " أن تعذيبًا وقع علي المتهمين " . " كان التحقيق فوضى ، تارة تتولاة النيابة وأخري يتولاه عبد الهادي باشا " . " المحكمة تشيد بمبادئ الإخوان المسلمين ، ولكن المتهمين انحرفوا عنها بدوافع وطنية كأبناء بلد محتل مغلوب علي أمره " " وتحت تأثير كارثة فلسطين " .

وقع أسس سعادة أحمد كامل بك رئيس دائرة الجنايات المكونة من سعادته وعضوية محمود عبد اللطيف بك ومحمد وكي شرف بك حيثيات حكمها في قضية السيارة الجيب ، التي كان متهما فيها 32 شخصا من الإخوان بالتفاق الجنائي العام علي قلب نظام الحكم ةوإحراز الأسلحة ، وقضي ببراءة 14 متهما ويحبس الباقين مددا تتراوح بين ثلاث سنوات وسنة واحدة – ويقع الحكم في 385 صفحة فلوسكاب . وقد بدئبأسماء المتهمين والتهم والمنسوبة إليهم وبيان الأوراق والأسلحة التي ضبطت ثم جلسات المحاكمة – ثم أشار إلي اعترافات عبد المجيد حسن قاتل النقراشي – ثم عرض إلي اعترافات عبد الرحمن عثمان .

اعترفات مصطفي كمال

ثم انتقل الحكم إلي سرد اعترفات مصطفي كمال عبد المجيد – المتهم الأول في قضية الاعتداء علي حامد جوده – المتضمنة أنه تعرف بالمتهم الأول عادل كمال ، وأنه كان يتردد عليشعبة الظاهر ، وعلم أن محمود الصباغ اشتري سيارتين من سيارات الجيب عهد بإصلاحهما لأنيس أنس ، وأنه اشترك مع أحمد عادل في نقل أوراق من أحد المنازل بالسيارة – وبعد ذلك ضبط مع بعض المتهمين أثناء وجودهم في السيارة الجيب بالوايلية ولكنه استطاع الهرب إلي القاهرة وظل متخفيا تحت أسماء مستعارة – وأنه دبر هو وزملاؤه مؤامرة لقتل إبراهيم عبد الهادي باشا ، ولكن تصادف مرور سيارة الأستاذ حامد جودة فظنوه عبد الهادي باشا وألقوا علي سيارته القنابل بمصر القديمة .

عدم تعرف المعترف

وأشارت المحكمة إلي أنه بناء علي هذه الاعترافات صحب المحقق هذا المتهم المعترف للإرشاد عن منزل عادل كمال الذي يردد في اعترافاته ، فإذا به لا يستطيع الإرشاد عنه بل أرشد عن منزل آخر تبين أن صاحبه لا صلة له بالحادث .

اعترافات صنعها التعذيب

ثم تناولت المحكمة عدول هذا المتهم عن اعترافاته ، وقوله أن أقواله المذكورة لم تصدر من علي اتلإطلاق ، وأنه عذب فور القبض عليه في 5 مايو 1949 علي إثر محاولة الاعتداء علي الأستاذ حامد جوده رئيس مجلس النواب وقتئذ ، وأن التعذيب ترك بجسمه آثارا . وأن المحكمة استجابت لطلب الدفاع بضم التقرير الطبي الشرعي عنه .

سبع ندب بعد عدة شهور

ثم استطر الحكم يقول : أنه بمراجعة التقرير الطبي تبين أن الكشف علي المتهم المذكور إنما تم بعد خمسة أشهر من وقوع التعذيب المدعي به ، وقد وجد يساعده وعضده سبع ندب لشقوق يتراوح طولها بين سنتيمترين وسنة سنتيمترات ، وأنها قد تكون معاصرة للوقت المدعي بحصول الاعتداء فيه كما قد تكون سابقة لهذا التاريخ ، وأنه لا يوجد لدي الطبيب ما يساعده علي الجزم بأن هذه الآثار ناشئة بالذات عن طرب الكرباج ، ومن الممكن تخلفها من الاحتكاك بأجسام صلبة أيا كانت طبيعتها .

•لولا قرار المحكمة : ثم استطردت المحكمة معلنة رأيها في هذه الواقعة قائلة : أنه ثابت في صدر التقرير الطبي أن هذا المتهم مصطفي كمال عبد المجيد عندما كشف عليه تنفيذا لقرار المحكمة العسكرية العليا في 8 أكتوبر 1949 لم يكن أحد قد عني من قبل ذلك بحالته إلي الكشف الطبي .

في قبضة البوليس

وأنه لا نزاع في أن المتهم المذكور كان فيقبضة رجال البوليس وتحت سلطتهم في الفترة ما بين 5 مايو 1948 وهو تاريخ القبض عليه وبين 10 من أكتوبر 1949 وهو تاريخ الكشف الطبي عليه .

•الشعب المعتدي : وأضاف عبد الهادي باشا إلي أقواله أنه علم أن الأهالي اعتدوا علي مصطفي كمال عبد المجيد عقب القبض عليه .

استغاثة لها دلالتها

وعلقت المحكمة علي هذه الشهادة من إبراهيم عبد الهادي باشا قائلة : إن عبارات الاستغاثة التي أسندها دولة إبراهيم عبد الهادي باشا إلي المتهم إن دلت علي شيء فإنما تدل علي أن المتهم كان محل اعتداء بعد القبض عليه وبعد أن أصبح تحت سلطان رجال البوليس وحدهم وفي دار القسم وبعيدا عن تناول الأفراد .

•لو كان في مأمن : ولو أن هذا المتهم كان بعد القبض عليه في مأمن من أي اعتداء لكانت استغاثته بدولة عبد الهادي باشا غير مستساغة ولا معني لها .

من فم عبد الهادي باشا

وحيث إنه من هذا تري المحكمة أن هذا المتهم كان محلا للاعتداء في دار قسم مصر القديمة بعد القبض عليه ، وأن العبارات التي قال رئيس مجلس الوزراء الأسبق أنه فاه بها إنما تدل علي أن الاعتداء كان شديدا .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المحكمة تعلن ثبوت التعذيب

واستطردت المحكمة تعلنها مدوية : إن المحكمة تستطيع أن تقرر وهي مطمئنة أن الآثار التي شوهدت بجسم مصطفي كمال عبد المجيد بعد ما يزيد علي خمسة أشهر من وقت ضبطه ، يمكن إرجاعها كلها أو بعضها علي الأقل إلي ما كان يفارقه من تولوا والمحافظة عليه من رجال البوليس .

وتعلن بطلان الاعترافات

وتطرقت المحكمة مرتبة علي هذا الرأي الخطير نتيجة فقالت : حيث إن ما أدلي به هذا المتهم في التحقيقات الخاصة بهذه القضية – قضية السيارة الجيب – عن قيادته لسيارة الجيب مع بعض المتهمين ونقل أوراق وغير ذلك من وقائع إنما كلها أتي بعد وقوع الاعتداء عليه إثر ضبطه ، ولذا فإن المحكمة لا تطمئن إلي أقواله جميعا . وتري أن تسقطها من حسابها عند الكلام علي الدليل .

•تسليم النيابة بالإصابات : ولقد أرفق ممثل الاتهام الخطابات التي كتبها أحمد عادل كمال وزملاءه بالتحقيقات . وإن إرفاق هذه الخطابات دون سؤال مرسليها يدل علي ما ورد بها عن إصابتهم – أيا كان سببها – كان أمرا مسلما به . ويدل علي ذلك شهادة دولة إبراهيم عبد الهادي باشا عن استغاثة مصطفي كمال عبد المجيد به . ولا محل لسماع شهادة ممثل الاتهام عن هذه الواقعة وقد تبينت المحكمة حصول اعتداء عليه داخل القسم .

تعذيب فصالون

ثم انتقل الحكم بعد ذلك إلي الكلام عن المتهم عبد الرحمن عثمان فتناول الواقعة الخاصة بتعذيبه في 11 يوليو 1949 بقصد الاعتراف أمام المحقق في اليوم التالي ، وواقعة أن إبراهيم عبد الهادي باشا اصطحبه معه في صالونه الخاص في سفره إلي الإسكندرية .

•ظـروف : ثم استطردت المحكمة تقول : أنها تري قبل الكلام علي الأدلة القائمة قبل هذا المتهم أن تعرض للظروف التي تم فيها ضبطه ثم الظروف التي أدلي فيها بأقواله سواء أكان ذلك في التحقيقات أو بمحضر جلسة قضية مقتل النقراشي باشا

•إنكار ينهار فجأة : وأشارت إلي القبض عليه وتمسكه بالإنكار ثم تقديمه طلبا إلي النيابة بأنه يريد الاعتراف وأبرزت ظروف ذلك مقررة أنها تلاحظ أن آخر استجواب للمتهم قبل اعترافه كان بتاريخ 25 يونيه 1949 وقد وجه بجانب من تقرير الخبراء من أن التقارير المضبوطة في المحافظة بخطه وأصر رغم ذلك علي الإنكار ولم يجد جديد في شأنه حتى تقدم بالطلب المؤرخ 11 يوليه 1949 عن طريق السجن يريد الاعتراف .

تعليل النيابة غير معقول

وحيث أن النيابة في مرافعتها قالت أن المتهم تبين بعد ورود التقرير بخطه أن إنكار الحقيقة لم يعد مجديا . وهذا القول مردود ؛ لأن المتهم وجه بتقرير الفحص فأصر علي الإنكار . ثم كان الطلب بعد أن أصر بنحو 26 يوما دون أن يجد جديد ، فلم يواجه مثلا بأقوال شاهد أو بأقوال متهم معترف عليه بل إن الطلب قدم دون أسباب أو مقدمات .

•سر له أثر حاسم : وحيث إن الثابت من الاطلاع علي دفتر سجن الأجانب أن المتهم خرج منه مع أحد ضباط القسم السياسي وقضي 6 ساعات في دار المحافظة ثم ظهر أنه قدم الطلب الذي يبدي فيه رغبته للاعتراف في نفس هذا اليوم . وأن الطلب كتب بعد عودته من المحافظة ، وذلك ينطوي علي مسألة قد يكون لها أثر حاسم في القضية محل التحقيق .

خفايا المحافظة

وحيث إنه لا يوجد في الأوراق ما يكشف عن حقيقة ما دار في الفترة التي قضاها المتهم في دار المحافظة ، ولم يتحدث أحد بما حصل سوي الدفاع عن المتهم الذي قرر أنه عذب واستكتب طلبا بالاعتراف .

الاعتداء أقل ما يقال

وألقت المحكمة برأيها في هذه الواقعة فأعلنت أن أقل ما يقال في هذا الشأن أن المتهم كان تحت تأثير اعتداء أو تحريض من رجال البوليس لدفعه إلي كتابة ما كتب وللإدلاء بعد ذلك بما أدلي من اعتراف في 13 يوليو 1949 .

وحيث إنه مما يلفت النظر ، أنه في اليوم التالي للاعتراف أخرج عبد الرحمن عثمان من السجن مرة أخري (لتوصيله لنيابة الاستئناف) ولكنه لم يصل إلي النيابة . وقد دعا الدفاع إبراهيم عبد الهادي باشا للإدلاء بأقواله أمام هذه المحكمة . وكان من بين ما قرره أن المتهم ركب معه القطار في ذلك اليوم واستجوبه لفترة قصيرة بشأن اعترافه علي قريب له هو ابن محمود يوسف باشا وكيل الخاصة الملكية ، وذلك لكي يتحقق دولة الشاهد – وهو الحاكم العسكري – من صحة هذا الاعتراف ويتصرف علي مقتضي ما يصل إليه في هذا الشأن . واستطرد دولة الشاهد فقال أنه بعد أن سمع من المتهم ما أراد سماعه صرفه ولا يعرف ما تم في أمره بعد ذلك . وأمسكت المحكمة بهذه الرواية من إبراهيم عبد الهادي لتبدي رأيها فيها قائلة : إن ما قرره دولة إبراهيم عبد الهادي باشا بشأن ابن محمود يوسف باشا لم يكن شيئًا في أوراق هذه القضية . ولم يخطر دولته المحقق بهذه المقابلة وبما تم فيها . وانطلق الحكم يدوي بكلمة المحكمة : وحيث إنه مع التسليم بأن من حق الحاكم العسكري أن يدعو الأفراد ويستجوبهم بنفسه وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالمحافظة علي الأمن العام ، إلا أن ما تم بشأن هذا المتهم بالذات يدعو إلي إمعان النظر . فلقد أخرج المتهم من السجن بحجة توصيله إلي نيابة الاستئناف – ولم يصل ذلك اليوم علي الإطلاق – واقتيد إلي محطة القاهرة حيث ركب القطار والتقي بدولة رئيس مجلس الوزراء وقتذاك وكان ما كان بينهما مما رواه دولة الشاهد الذي لم يعن بإثبات ما تم بينه وبين المتهم أو تبليغ المحقق أمر هذه المقابلة .

•وواصل الحكم يجهر برأيه عن هذه الواقعة يسجل قائلا : وحيث إنه مهما يكن من سلطان الحاكم العسكري في هذأ الشأن ، فإن حريات الأفراد يجب أن يكون لها حدود تقيها من العبث أيًا كان مصدره ، وألا يترك أمر استجواب المتهمين المقبوض عليهم فوضى يتولاه تارة المحقق ، وطورا الحاكم العسكري صاحب السلطان الأكبر .. وذلك في غيبة المحقق وعلي غير علم منه دون إخطاره بشأن الاستجواب .

اعترافات فاسدة

وانتهت المحكمة من هذه الصيحة المدوية إلي القول بأنها تري أن كتابة المتهم الطلب الخاص بالاعتراف ثم اعترافه ، كل هذا شابه عوامل غير عادية قد تكون تعذيبا كما زعم المتهم أو علي الأقل إغراء وتحريضا . وهذه الأقوال لا تعول عليها المحكمة وتعدها مهدرة . وحيث إن هذه المحكمة تري أن إطلاق يد البوليسفي مقابلاتهم للمتهمين ، ويلقونهم متى يشاءون ، ويخرجونهم من السجن متى أرادوا ، ويعيدونهم ثانيا طبقا لأهوائهم ، ودون رقابة من رجل النيابة المحقق ... هذه السلطة المطلقة لا تتفق مع ما كفله القانون للمتهم من حرية الدفاع عن نفسه والإدلاء بأقواله في جو بعيد عن شتى المؤثرات .

جماعة الإخوان المسلمين

وتناول الحكم بعد ذلك الكلام عن جماعة الإخوان المسلمين مشيرا إلي نشأتها ومسارعة فريق كبير من الشباب للالتحاق بها ، والسير علي المبادئ التي رسمها منشئتها ، والتي ترمي إلي تطهير النفوس مما علق أو يعلق بها من شوائب ، وإنشاء جيل جديد من إخوان مثقفين ثقافة رياضية عادية ، مشربة قلوبهم بحب وطنهم ، والتضحية في سبيله بالنفس والمال . ومضت تقول : وقد كان لابد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلي أغراضهم أن يعرضوا أمام هذا الشباب مثلا أعلي يحتذرونه في الدين الإسلامي وقواعدهم التي تصلح لكل زمان ومكان ، فأثاروا بهذا المثل العواطف التي كانت قد خبث في النفوس ، وقضوا علي الضعف والاستكانة والتردد .

وهذه الأمور تلازم عادة أفراد شعب محتل مغلوب علي أمره ، فقام هذا النفر من الشباب يدعو إلي التمسك بقواعد الدين والسير علي تعاليمه . وإحياء أصوله ، سواء أكان ذلك متصلا بالعبادات والروحينيات أو بأحكام الدنيا . ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة هي جيش الاحتلال ، الذي ظل بين المحتل وبين فريق من الوطنيين الذين ولوا أمر هذا البلد مباحثات ومفاوضات علي إقرار الأمور ليخلص اتلوادي لأهله ، ولم تنته هذه المفاوضات والمحاولات الكلامية إلي نتيجة طيبة . ثم جاءت مشكلة فلسطين وما صحبها من ظروف وملابسات . ولما كان كل هذا .. اختل ميزان في بعض أفراد شباب جماعة الإخوان فبدلا من أن يسيروا علي القواعد التي رسمها زعماؤهم ، والتي كانت قديرة حتما علي تربية فريق كبير من أفراد الشعب وتثقيفهم وإعلاء روحهم المعنوية .. بدلا بهم أهدافهم من سبيل قصير . فاتحدت إرادتهم علي القيام بأعمال قتل ونسف وغيرها مما قد لا يضر المحتلين بقدر ما يؤدي بمواطنيهم ، وذهبوا في سبيل ذلك مذهبا شائكا ، منحرفين عن الطريق الذي رسمه لهم رؤساؤهم والذي كان أساسًا قويا لبلوغهم أهدافهم . وحيث إنه يتبين من كل هذا أن هذه الفئة الإرهابية لم يحترفوا الجريمة وإنما انحرفوا عن الطريق السوي فحق علي هذه المحكمة أن تلقنهم درسا .

درس رءوف

علي أن المحكمة تراعي في هذا الدرس جانب الرفق ، فتأخذهم بالرأفة تطبيقا للمادة 17 من قانون العقوبات ؛ لأنهم كانوا من ذوي الأغراض السامية التي ترمي أول ما ترمي إلي تحقيق الأهداف الوطنية لهذا الشعب المغلوب علي أمره.

ثانيا – الحكم بوقف بيع المركز العام وممتلكات الإخوان

دعوى رفعها الإمام ودعاوى رفعها رؤساء الشعب :

علي أثر صدور الأمر العسكري في عهد النقراشي باشا بحل هيئة الإخوان ومصادرة أموالها وممتلكاتها في أنحاء القطر ، رفع الأستاذ الإمام رحمه الله دعوى أمام مجلس الدولة يطالب فيها بإلغاء أمر الحل . فلما اغتيل واصل أصهاره – الأستاذ عبد الحكيم عابدين والأستاذ عبد الكريم منصور – الدعوى . كما أقام بعض رؤساء الشعب دعاوى مماثلة يطالبون فيها بوقف تنفيذ مصادرة الشعب وبيع ممتلكاتها .

•السنهوري يتنحي :

وقد رأي عبد الرازق السنهوري باشا رئيس مجلس الدولة – لعلاقته السابقة بحزب السعديين – أن يتنحي عن نظر كافة الدعاوى المتعلقة بالإخوان المسلمين ، وعهد بنظرها إلي السيد علي السيد بك وكيل مجلس الدولة – وكانت هذه كياسة من السنهوري باشا . وفي يوم 26/11/1950 عرضت بصفة عاجلة إحدى هذه الدعاوى . وهي مرفوعة من محمد حمزة الجميعي بصفته رئيسا لشعبة الإخوان بدمنهور ضد وزارة الداخلية ومدير البحيرة والمتندوب العام لتصفية أموال جمعية الإخوان ، يطالب فيها بإلغاء أمر الحل لصدوره مخالفا للقانون والدستور . ولتضمنه نصوصا بالإلغاء والمصادرة لا يملكها الحاكم العسكري ، كما يطالب بصفة عاجلة بوقف تنفيذ الأمر الصادر من مدير البحيرة بناء علي أمر الحل ببيع أرض يملكها المدعي بصفته رئيسًا للشعبة ونائبًا عن المرشد العام ووضعت عليها الحراسة يدها باعتبارها من ممتلكات الجماعة .

•الوفد ينكث وعده : وينبغي هنا أن نذكر أنه كان مفروضا حسب وعود حزب الوفد بلسان مرشحيه لمجلس النواب ، وحسب الوعود التي قطعها هؤلاء لناخبيهم ، أن تتخذ حكومة الوفد عند توليها الحكم الإجراءات التي تغني الإخوان عن السبر في هذه الدعاوى التي رفعوها في المحاكم ، وذلك بأن تصدر المحكمة قرارات بإلغاء الأوامر العسكرية والقرارات التي صدرت عن حكومات السعديين بالاستيلاء علي دور الهيئة وأملائها ، ويرد هذه الأملاك إلي أصحابها الشرعيين . ولكن الذي حدث هو أن وزارة الوفد تلكأت في اتخاذ هذه الإجراءات – بالرغم من استئجار الإخوان هذه الوعود – حتى حان الميعاد الذي حدده الموظف المسئول عن تصفية هذه الأملاك لبيع دار المركز العام .

وهنا اضطر الإخوان إلي تحريك دعواهم ، فعرضت الدعوى التي أشرنا إليها في 26/1/1950 في جلسة برياسة السيد بك . وحضر عن المدعي الأستاذ محمد طاهر الخشاب الذي طلب وقف تنفيذ قرار البيع بصفة عاجلة حيث تجدد يوم الأحد الماضي لاتخاذ إجراء بيعها ، علي أن يحدد سعادة الرئيس جلسة لنظر الدعوى أمام القضاء الإداري ، إذ يستغرق الفصل فيها وقتا يصبح من المتعذر بعده إصلاح هذه الحالة الطارئة الناجمة عن قرارات الحراسة ، كما طلب ضم قضيتين آخريين مرفوعتين من الإخوان لأهميتهما في الدعوى . ودفع محامي الحكومة بعدم توافر صفة الاستعجال قائلا أنه لا يوجد ضرر غير ممكن تداركه . فطلب إيقاف التنفيذ متعلق بذمة مالية ، وخزانة الدولة دائمًا عامرة يمكنها السداد إذا حكم بتعويض . ثم نطق الرئيس بالقرار وهو يقضي بتأجيل القضية جلسة 6 فبراير القادم مع القضيتين المشار إليهما .. وتوالي التأجيل بعد ذلك . هذا .. ثم حدث بعد ذلك أن ركبت حكومة الوفد رأسها ، وأصرت علي سلوك الطريق الملتوي الذي تحدثنا عنه في باب سابق ، وهو الطريق الذي تجاهلت فيه ما قطعت علي نفسها للإخوان من عهود وشرعت في استصدار تشريعات تكبلهم بها ، وتشل حركتهم ، وتلغي وجودهم .. وتم لها ما أرادت وأصدرت التشريعات التي أشرنا إليها .

•تحت ضغط الظروف فاء الوفد إلي رشده أخيراً : ثم جاء إلغاء معاهدة 1936 فوجدت هذه الحكومة – كما وضحنا من قبل – أنها في أمس الحاجة إلي وقوف الإخوان المسلمين بجانبها ، فتراجعت عن كل ما أجهدت نفسها في إعداده من تشريعات ، وأخذت في انتهاج سياسة جديدة تذكر معها سكرتير الوفد ووزير المالية موضوع دار المركز العام الذي كان معروضًا للبيع منذ أكثر من عام وتعمد هو ألا يستجيب لرجاء الإخوان بإصدار تعليمات بوقف بيعه – وسأل الوزير رجال وزارته هل بيع المركز العام ؟ فأجيب بأن الإخوان استطاعوا أن يؤجلوا موعد بيعه بدعاوى وفعوها أمام مجلس الدولة وأن الجلسة الأخيرة لمجلس الدولة لإصدار الحكم تنعقد بعد أسبوع . وكان ذلك يوم 11/9/1951 , فانتهز الوزير الفرصة وسارع بإصدار تصريح ظهر في اليوم التالي بجريدة " المصري " هذا نصه :

" علم مندوب " المصري " أن فؤاد سراج الدين باشا أصدر تعليماته بوقف جميع الإجراءات التي كانت ستتخذ بشأن بيع دار الإخوان الذي كان محددا له يوم 17 الجاري – وستتم في القريب اتصالات بينه وبين أقطاب الإخوان لرد ممتلكاتهم " . ولكن الإخوان لم يعتمدوا علي هذا التصريح الذي يعلمون الظروف التي اضطرت الحكومة إلي إصداره ، وواصلوا دعواهم في مجلس الدولة .

مجلس الدولة يوقف بيع دار المركز العام ويقرر أن جمعية الإخوان المسلمين موجودة قانونا

وانعقدت محكمة الدولة في 17/9/1951 وأعلن محمد سامي مازن بك المستشار بمجلس الدولة حكم المجلس في هذه الدعوى ، ويقضي بوقف تنفيذ قرار القرار المذكور – وجاءت حيثيات هذا الحكم في اثنين وعشرين ورقة من الحجم الكبير ، وجاء في هذه الحيثيات ما يلي :

•حق تكوين الجمعيات : وقد أجابت المحكمة علي دفع الحكومة بعدم قبول الدعوى لانتفاء صفة المدعي ولعدم وجود دعوى موضوعية ولخروج طلب وقف التنفيذ عن سلطة رئيس مجلس الدولة وولايته بما يلي :

أنه للفصل في ذلك يقتضي بيان الوضع القانوني للجمعية والصفة التي كانت لها قبل الحل ثم ما كان لهذا الأمر من أثر عليها : أما عن المسألة الأولي فإن حق تكوين الجمعيات قد ورد في المادة (21) من الدستور حيث تقرر أن " للمصريين حق تكوين الجمعيات ، وكيفية استعمال هذا الحق بينه القانون " ثم استشهدت المحكمة بما جاء في محاضر لجنة الدستور عن هذه المادة من أن الدستور قد عهد إلي القانون بتنظيم الحق في تكوين الجمعيات بعد أن قرر قيامه – كما أن اللجنة إذ تحدثت عن الباب الذي وضعته في الدستور " حق المصريين وواجباتهم " والذي يعتبر حق تكوين الجمعيات فرعا منه قالت : " وقد كان المصريون يتمتعون بهذه الحقوق تدعمها النظم السياسية التي كانت جارية في مصر وتنظم معظمها القوانين المصرية ، غير أن تلك الحقوق لم تكن مجموعة في باب ظاهر منشور بين الناس ؛ لذلك رأت اللجنة أن تضع ذلك الباب جريا علي سنن الدساتير الأخرى . وتحقيقا للغرض الذي يلتمس منه ، وليكون قيدا للشارع المصري لا يتعداه فيما يسنه من الأحكام " . ثم عرضت الحيثيات لما جاء في مذكرة وزير الحقانية عن الدستور ، وما جرت عليه المحاكم قبل الدستور وبعده لكفالة هذا الحق في إطلاقه – ثم عرضت للقانون رقم 49 لسنة 1945 في شأن الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية ثم للقانون رقم 66 لسنة 1951 الخاص بالجمعيات .

•هيئة استوفت عناصرها : واستطردت المحكمة فقالت : " ومن حيث أن جمعية الإخوان المسلمين قد تكونت في ظل ذلك الحق الأصيل في تكوين الجمعيات ، فاكتسبت صفتها ، كما تمتعت بشخصيتها المعنوية منذ تكوينها وفقا للمبادئ القررة من إسناد هذه الشخصية إلي كل هيئة استوفت عناصرها ومقوماتها من إرادة خاصة ونظام تبرز به هذه الإرادة ، ومن ذمة مالية مستقلة عن ذمم أعضائها .. وطبقا لما قضي به القانون رقم 49 لسنة 1945 فقد سجلت الجمعية أوجه نشاطها الخيرية في وزارة الشئون الاجتماعية .. وبذلك تكون قد استوت – في ظل أصول القانون العام ووفق أحكام القانون الخاص – خلقا سويا متكاملاً " .

الإخوان يفتحون مركزهم العام بعد تسلمه تقدير الممتلكات التي أعادتها الحكومة إليهم بمبلغ (200) ألف جنيه

نشرت جريدة " المصري " في عددها الصادر يوم 17/12/1951 تحت هذا العنوان ما يلي : كان أول عمل قام به الإخوان حين فتح المركز العام أن أقاموا به صلاة المغرب ، ثم توجهوا إلي قبر الأستاذ الإمام رحمه الله .

ثالثا – الحكم ببطلان أمر الحل وإلغائه

كان أمام مجلس الدولة أربع قضايا كل منها تطلب الحكم بإلغاء قرار الحل . وقد ضمت جميعا إلي القضية التي رفعها الأستاذ عبد الحكيم عابدين ، ونظرت أمام المحكمة القضاء الإداري بالمجلسبرياسة السيد علي السيد بك وكيل المجلس . وكانت آخر جلسة لها استمعت فيها إلي المرافعات هي جلسة يوم 9/4/1952 . وقد ترافع فيها الأستاذعبد القادر عودة رحمه الله ، وفي نهاية مرافعته الطويلة الشاملة قال : إن كل ذلك لا علاقة له بسلامة الجيش . وكما قرر رجال الجيش أنفسهم أن سلامتهم كانت في وجود الإخوان ، وأنهم عندما حوصر جزء منهم في الفالوجا طلبوا عونا من الإخوان . وكانوا كلما هدد اليهود مواصلات الجيش لجئوا إلي الإخوان ليردوا هذا العدوان ،وكلما احتل اليهود موقعا له أهمية استراتيجية طلبوا من الإخوان إجلاءهم عنه .

وقال أن هذه القضية ليست قضية الإخوان ، وإنما هي قضية الأمة المصرية .. قضية الأمس واليوم والغد .. وأن أمر هذه الأمة لن ينصلح إلا إذا وضع القضاء حدودا ظاهرة بين حق الحاكمين وحق المحكموين ، وإلا إذا علم الحاكمون أن وراءهم القضاء يحاسبهم حسابا عسيرا كلما اعتدوا علي حقوق الأمة .

•كلمة للأستاذ عبد الحكيم عابدين أمام المحكمة : واستأذن الأستاذ عبد الحكيم عابدين المحكمة في إلقاء كلمة في القضية يبين فيها البواعث الحقيقية لصدور أمر الحل فقال : إن الوزارة المذكورة في عجزها عن علاج القضية الوطنية ، وفي تهاونها أمام طغيان الحاكم العام في السودان ، وفي صبرها علي صفعات اليهود بفلسطين ، وفي تعلقها آخر الأمر بكراسي الحكم ... لم تجد معكرا لصفوها ،ولا مظهرا للأمة علي حقيقة مخازيها ، إلا جماعة الإخوان المسلمين ، الذين كانوا ضوء المصباح يكشف للأمة عن حقيقة الحكام الهازلين . فلا عجب – منطقها الشيطاني السقيم – أن تقدم علي إطفاء هذا المصباح ليسود الظلام الذي يحجب الأنظار عن مخازيها .. لا عجب في ذلك ، وإنما العجب أن تعمد الحكومة إلي محو العار بالعار ، وستر الجريمة بالجريمة . ومحاولة محو الوزر بوزر مثله . وختم كلمته بقوله : " ألا تري أخيرًا أن قرار الحل المطلوب منكم إلغاؤه وإبطال آثاره لم يكن أبدا في خدمة مصر ، ولا برا بالعروبة ، ولا وفاء للإسلام وإنما كان خدمة جلي للسياسة البريطانية التي أماتت الوعي في مصر . وقطعت أشواطا في جلنزة السودان ، ونجحت في إسكات صوت الحق والقوة والحرية ولو إلي حين . وبعد إنهاء كلمة الأستاذ عبد الحكيم عابدين قررت ضم الدعاوى الأخرى وقررت إصدار الحكم بعد سبعة أسابيع .

•حكم مجلس الدولة في القضية :

في 30/6/1952 أصدرت الدائرة الثانية لمحكمة القضاء الإداري برياسة السيد علي السيد بك وكيل مجلس الدولة حكمها في الدعوى المرفوعة من الأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان المسلمين . ويقضي الحكم بالآتي : أولاً : يرفض الدفع الذي تقدمت به الحكومة بعدم جواز سماع الدعوى . ثانيا : يرفض الدفع بعدم الاختصاص . ثالثا : يرفض الدفع بعدم القبول الذي قدمته الحكومة علي أساس أن الإخوان المسلمين لا وجود لها .

وحكمت المحكمة في الموضوع بإلغاء الأمرالعسكري رقم 63 بحل جمعية الإخوان المسلمين فيما تضمنه من أحكام ترمي إلي القضاء علي ذات الجمعية وإنهاء حياتها القانونية وتصفية الأموال المكونة لذمتها المالية ، وكذلك جميع الآثار المترتبة علي أمر الحل .

حيثيات حكم مجلس الدولة بإلغاء الأمر العسكري بحل الإخوان المسلمين وببطلانه

في 4/7/1952 نشرت حيثيات هذا الحكم ، وإلي القارئ هذه الحيثيات لما لها من بالغ الأهمية : •دفوع الحكومة ورد المجلس عليها :

كانت الحكومة قد دفعت عند نظر الدعوى بدفعين :

أولهما عدم الاختصاص ، والثاني عدم القبول تأسيسًا علي أن جمعية الإخوان لا وجود لها قانونا ... وعادت عندما صدر المرسوم رقم 64 لسنة 1952 بمنع سماع الدعاوى والطعون الموجهة إلي تصرفات السلطة القائمة علي إجراء الأحكام العرفية ، فدفعت بعدم جواز سماع الدعوى ، مما أدي إلي تأجيل الحكم في الدعوى حتى يوم 30 يونيه الماضي لاستظهار أثر ذلك المرسوم في الدعوى القائمة .

•الدفع بعدم جواز سماع الدعوى : وقد رفضت المحكمة هذا الدفاع استنادا إلي حكمها فيقضية الأستاذ أحمد حسين ، وقد نشرت حيثيات ذلك الدفع ، كما أن ذلك الدفع في دعوى أخرى هامة صدر فيها أخيرا حكم تاريخي خالد ، وانتهي مجلس الدولة من مناقشة ذلك الدفع والمرسوم الذي تستند إليه الحكومة بأن المرسوم نفسه باطل من جميع النواحي ويقتضي عدم الأخذ به . وقال مجلس الدولة أنه لو كان في معرض دعوى خاصة مباشرة بذلك المرسوم لقضينا بإلغائه .. ويفهم من ذلك أن مجلس الدولة قد حكم ضمنا بإلغاء المرسوم المشار إليه .

•الدفع بعدم الاختصاص : بنت الحكومة هذا الدفع – الدفع بعدم الاختصاص – علي أن النظام العرفي في مصر نظام عسكري وليس نظاما إداريا أو سياسيًا ، استحداثته مصر من واقع ما حدث في الحرب العظمى الأوليومن قواعد القانون الدولي العام ، وشأنه شأن القيود العسكرية التي تفرضها الدول المحاربة علي البلاد التي تحتلها جيوشها .. وإن المشروع المصري اقتبس العرفي القائم من نظام الحكام العرفية العسكرية التي أعلنتها انجلترا في مصر وقت إعلان الحماية ، وأن هذه الطبيعة العسكرية للنظام تجعله أبعد ما يكون عن ولاية القضاء . وقالت الحكومة أن المشرع المصري درج عليأن يقرن رفع الأحكام العرفية بنظام يحميها عن طريق سن قانون للتضمينات ، وبذلك تمتنع مساءلة الحكومة خلال فترة قيام الحكم العرفي بمقتضي طبيعة هذا النظام . كما تمتنع مساءلتها بعد انتهائه بمقتضي قانون التضمينات . وقالت الحكومة أيضا أن الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 بحل جماعة الإخوان من التدابير العليا للأمن الداخلي فيخرج بوضعه من أعمال السيادة عن اختصاص المحكمة .

•رد مفحم من مجلس الدولة علي هذا الدفع : أما مجلس الدولة فقد رد علي ذلك بأن نظام الأحكام العرفية في مصر هو نظام يستمد أساسه وأصوله وأحكامه من الدستور ومن قانون الأحكام العرفية والقوانين المكملة له .. فتنص المادة (45) من الدستور علي أن " الملك يعلن الأحكام العرفية ، ويجب أن يعرض إعلانها علي البرلمان فورا ليقرر استمرارها أو إلغاءها ، فإذا وقع ذلك الإعلان في غير دور انعقاد وجبت دعوة البرلمان للاجتماع علي وجه السرعة " . وتنص المادة (155) من الدستور علي أنه " لا يجوز بأية حال تعطيل حكم من أحكام هذا الدستور إلا أن يكون ذلك وقتيا في زمن الحرب أو أثناء قيام الأحكام العرفية وعلي الوجه المبين في القانون . وعلي أي حال لا يجوز تعطيل انعقاد البرلمان متى توافرت في انعقاده الشروط المقررة بهذا الدستور " .

وينظم قانون الأحكام العرفية هذا النظام العرفي تنظيما شاملا ، فبين علي وجه الحصر الحالات التي يجوز فيها إعلان الأحكام العرفية ، وكيف يكون إعلان هذه الأحكام ، وكيف يكون رفعها ، وما هي السلطات الاستثنائية التي تخول للقائم علي إجرائها . ويعدد القانون هذه السلطات الاستثنائية علي سبيل التحديد والحصر ، ثم يجبر تضييقها أو توسيعها بقرار من مجلس الوزراء إذا دعت الحاجة إلي ذلك ، بقدر هذه الحاجة ، عليأن تبقي دائرة هذه السلطات الاستثنائية دائما في نطاق محدود هو ما يقتضيه صون الأمن والنظام العام من تدابير وإجراءات وما دعت إليه الضرورة من إعلان الأحكام العرفية .

•لماذا يجب أن تكون إجراءات الحاكم العسكري خاضعة لرقابة القضاء ؟ وقال مجلس الدولة أنه يتبين من ذلك أن نظام الأحكام العرفية في مصر وإن كان نظاما استثنائيًا إلا أنه ليس بالنظام المطلق ، بل هو نظام خاضع للقانون ، وضع الدستور أساسه ، وبين القانون أصوله وأحكامه ، ورسم حدوده وضوابطه .. فوجب أن يكون إجراؤه علي مقتضيهذه الأصول والأحكام ، وفي نطاقهذه الحدود والضوابط ، وإلا كان ما يتخذ من التدابير والإجراءات مجاوزا لهذا الحد أو منحرفا عنه – مخالفا للقانون – تنبسط عليه رقابة المحكمة . وكل نظام الحكم أرسي الدستور ، ووضع القانون قواعده ، هو نظام يخضع بطبيعته – مهما يكن نظاما استثنائيا – لمبدأ سيادة القانون ، ومن ثم لرقابة القضاء .

وأضافت حيثيات الحكم تقول : أنه مهما كان المصدر التاريخي الذي استقي منه المشرع هذا النظام ، فليس من شك في أن الاختصاصات المخولة للسلطة القائمة علي إجراء الأحكام العرفية مصدرها الرسمي هو القانون الذي تولي تحديد نطاقها ، فلا يجوز بحال أن تخرج عن حدود هذا النطاق .. وإذا كانت اختصاصات القائم علي إجراء هذه الأحكام في مصر بالغة السعة . فإن ذلك أدعي أن تنبسط عليها الرقابة القضائية . حتى حتى لا يتحول نظام – هو في حقيقته ومرماه – نظام الدستوري يقيده القانون إلي نظام مطلق لا عاضصم منه ، وليست له حدود .. إذ رقابة القضاء هي دون غيرها الرقابة الفعالة التي تكفل للناس حقوقهم الطبيعية وحرياتهم العامة . ويؤكد ذلك مما درجعت عليه الحكومات من سن قانون التضمينات عند رفع الأحكام العرفية لدفع المسئولية من جراء التدابير التي اتخذت تنفيذا لهذه الأحكام . وفي سن هذا القانون القرار واضح بمبدأ المسئولية الذي لم يسن القانون إلا لدفعه . وانتهت المحكمة من مناقشة ذلك الدفع إلي الحكم برفضه .

•الدفع بعدم القبول : أسست الحكومة هذا الدفع علي أن جماعة الإخوان المسلمين لا وجود لها قانونا ، وبنت الدفع علي وجهين : الأول : أن الجماعة لم تكتسب الشخصية المعنوية أصلا ؛ لأن القانون المدني الجديد بين في المادة (52) منه الأشخاص المعنوية علي سبيل الحصر وأن الهيئة المذكورة لا تدخل لا تدخل بما بها من أغراض سياسية واجتماعية ودينية في أي نوع منها ولا تنسق معه . والثاني : أن القرار المطعون فيه قد قضي عليها قضاء مبرما ، فلم يعد لها من بعده أي وجود .

•رد مجلس الدولة علي هذا الدفع : وقد رد مجلس الدولة علي ذلك بأن حق تكوين الجمعيات للمصريين حق مقرر أصيل كان قائما قبل الدستور الذي جاء فأقره وأكد قيامه ، وإن عهد إلي القانون بتنظيم استعماله . ومؤدي ذلك أن للمصريين حق تكوين الجمعيات بلا حاجة إلي قانون يستمد منه هذا الحق ، لهم أن يستعملوه في حدود القانون وما لم يرد قيد علي هذا الاستعمال فهو يجري علي إطلاقه .

وقالت الحيثيات : أن جمعية الإخوان تكونت في ظل هذا الحق الأصيل ، فاكتسبت الشخصية المعنوية وفق المبادئ المسلمة من إسناد هذه الشخصية لكل جمعية استوقت مقومات هذه الشخصية ، من ذمة مالية مستقلة عن ذمم أعضائها ، ومن قيام هيئة منظمة تعبر عن إرادتها . واستمرت الحيثيات تقول : أنه لا اعتداد بما تنعاه الحكومة علي أغراض الجمعية لتدفع به اكتسابها الشخصية المعنوية ، فهي تأخذ عليها أنها جمعية سياسية ، وهذا لا يحول دون اكتسابها الشخصية المعنوية . وقد أقر القضاء المصري للهيئات السياسية بالشخصية المعنوية . هذا فضلا عن أن المصريين يمارسون حقوقهم السياسية التي خولها لهم الدستور في حدود القانون . وحسبنا أن نذكر أنهم يشتركون بما لهم من تشكيلات سياسية في حكم البلاد ،وفي توجيه سياستها عن طريق الاشتراك في الانتخابات العامة في البرلمان .

كما تأخذ الحكومة علي جمعية الإخوان أنها هيئة خيرية اجتماعية إلي جانب أعراضها السياسية . وهذا بدوره لا يمنع اكتسابها الشخصية المعنوية ، فقد اعترف القضاءالمصري للهيئات والاجتماعية بالشخصية المعنوية ، ثم إن الحكومة اعترفت بها بصفاتها تلك فرخصت لها بإصدار صحيفة تكون لسان حالها ، وأقرت نشاطها في شتى وجوهه وأغراضه ، بل منحتها بعضالإعانات المالية في سبيل تحقيق هذه الأغراض الخيرية . وبالنسبة للوجه الثاني إذ قالت الحكومة أن الأمر رقم 63 لسنة 1948 قضي علي الجمعية ولم يعد لها وجود قانوني ، فقد قالت الحيثيات : أن الحاكم العسكري إذا كان يملك بمقتضي قانون الأحكام العرفية تعطيل نشاط الجمعيات تعطيلا مؤقتا يمنع اجتماعاتها ، فهو لا يملك القضاءعليها قضاء مبرما ، بل تبقي قائمة قانونا وإن تعطل نشاطها .

وانتهت المحكمة من مناقشة هذا الدفع إلي القول إلي القول بأنه قائم علي غير أساس سليم من القانون وحكمت برفضه . موضوع الدعوى : الأمر العسكري رقم 63

•المجلس يستعرض حجج الدفاع :

وانتقلت حيثيات الحكم بعد ذلك إلي موضوع الدعوى بعد أن رفضت كافة الدفوع التي تقدمت بها الحكومة ، فبدأت بسرد لدفاع الأستاذين محمد طاهر الخشاب وعبد القادر عودة المحاميين وقد جاء فيه : أنها هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراضالتي جاء فيه : أنها هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام ، وسردا هذه الأغراض ثم الوسائل لتنفيذها ثم الأدوار التي قام بها الإخوان إلي أن قالا :

" ولما نشبت الحرب الفلسطينية جندت الجمعية من شبابها جيشا خاض غمارها ، وكان مثار الإعجاب لما أبدوه من ضروب البسالة . ولكن الحكومة (السعدية) – إزاء حوادث فردية وقعت من بين المنتمين إليها اندفعوا تحت تأثير حماسة جامحة ، فالتوي عليهم القصد – حملت الهيئة بأجمعها وزر هذه الحوادث ، وألفت عليها إثمها ، فأصدر الحاكم العسكري (دولة محمود فهمي النقراشي باشا) الأمر المطعون فيه . وكان مما قاله الدفاع أيضًا : إن دسائس الانجليز والصهيونيين وغيرهم ، الذين ظلوا يرمون الجمعية بالتهم الباطلة ، قد أفلحت في تأليب الحكومة ضد الهيئة ، فحالت الرقابة دون تمكينها من الرد علي ما يكال لها من التهم ، بل صدر أمر الرقيب العام بتعطيل جريدة الإخوان إلي أجل غير مسمي ، ثم حشدت المعتقلات بالكثيرين من أعضائها بغير ذنب وبدون مبرر ثم صدرت الأوامر المطعون فيها بحل الجمعية وتصفية ممتلكاتها ومصادرة أموالها وتجميد أموال الأعضاء ، مع مخالفة ذلك القانون ، إذ هي تخرج عن النطاق الذي فرضت من أحله الأحكام العرفية في ذلك الوقت وهي تأمين سلامة الجيوش المحاربة في فلسطين ، كما أنها تخرج عن نطاق التدابير التي تدخل في اختصاص الحاكم العسكري .

•المحكمة تناقش مذكرة الأمن العام للنقراشي :

وقد ناقشت المحكمة المذكرة التي رفعتها إدارة الامن العام إلي النقراشي باشا رئيس الوزراء وقتئذ ووزير الداخلية والقائم علي إجراء الأحكام العرفية ثم قالت : إنه ولئن كان ما جاء في هذه المذكرة أن الجماعة أعلنت في أول الأمر علي الملأ أن لها أهدافا دينية واجتماعية دون أن تحدد لها هدفا سياسيا معينا ترمي إليه ، ولكنها ما كادت تجد لها أنصارا حتى أسفر القائمون عليها عن أغراضهم الحقيقية وهي أغراض سياسية ترمي إلي الوصول إلي الحكم وقلب النظم المقررة في البلاد بوسائل العنف ... وهذا يخالف الواقع ؛ لأن الجمعية حددت أغراضها في المادة الثانية من قانون نظامها الأساسي ومنها أغراض سياسية إلي جانب أغراضها الدينية والاجتماعية والرياضية والاقتصادية .. وهذه الأغراض السياسية هي : تحرير وادي النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ، ومساعدة الأقليات الإسلامية في كل مكان " وتأييد الوحدة العربية ، والسير إلي إلي الجامعة الإسلامية وقيام الدولة الصالحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا .

•المحكمة تستأنس بحيثيات حكم قضية السيارة الجيب :

ثم قالت المحكمة : إنه مما يخالف الواقع ذلك الذي رمت به الحكومة تلك الجمعية من أنها كانت ترمي إلي قلب نظام الحكم بوسائل العنف . ولا أدل علي ذلك مما ورد في حكم محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب . إذ بعد أن ذكرت المحكمة أن النيابة العامة قصدت إلي تصوير الجماعة بأسرها علي أنها رمت لقلب نظام الحكم وأن أقوال المرشد العام (الشيخ البنا) كانت تحمل معاني التحريض السافر علي القيام بهذه الجريمة ، وأن المتهمين وزملاءهم فهموا من كلام المرشد أنه يرمي لي ذلك ، وأن الغرض النهائي هو إقامة جمهورية علي رأسها المرشد العام ... استعرضت نشأة الجماعة وأغراضها ووسائلها ورسائلها وتطورها ثم قالت : إن الاتهام لا يتفق مع الحقيقة المعروفة من ن الإسلام دين ودولة ، وقد سبق للمرشد العام أن تحدث في هذا الصدد . وقالت المحكمة أنه ظهر جليا في أقوال المرشد العام أن الجماعة لا تناهض نظام الحكم القائم في مصر بل تراه متفقا مع النظم الإسلامية . وأنها كانت تهدف إلي تحقيق نظام شامل للنهضة والإصلاح وفقا لأحكام الدين الإسلامي وبالطرق الدستورية المعروفة . ثم دحضت المحكمة ما عزي إلي الجمعية من أنها وقد وسعت إلي قلب نظام الحكم أعدت لذلك جماعة إرهابية دربت وأعدت وسميت بالنظام الخاص وقالت المحكمة أن الاتهام علي هذه الصورة خلط بين أمرين :

الأول : التدريب علي استعمال الأسلحة وحرب العصابات . الثاني : ذلك الاتجاه الإرهابي الذي تزلق إليه بعض المتطرفين من أفراد تلك الجماعة .

وكانت نتيجة الخلط الاتهام بأن نظام الجماعة بجملته نظام الجماعة بجملته نظام إرهابي . وقالت المحكمة بوجوب التفريق بين الأمرين ؛ لأن النظام الخاص يرمي إلي إعداد فريق كبير من الشباب إعدادا عسكريا تطبيقا لما دعا إليه مؤسس الجماعة من أن الأمر أصبح جدا لا هزلا ، وان الخطاب ما عادت تجدي ، وأنه لابد من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل وأن حركة الإخوان تمر بثلاث مراحل : الأولي : مرحلة التعريف بنشر الفكرة . والثانية : التكوين وهي استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد المدني من الناحية الروحية والعسكري من الناحية العملية ، وصفات هاتين الناحيتين دائما أمر وطاعة من غير بحث ولا مراجعة . والثالثة : مرحلة الإعداد .

واستطردت المحكمة تقول : أنه مما يدل علي أن النية لدي أفراد النظام الخاص كانت متجهة إلي مقاومة جيش الاحتلال ، تلك الأوراق التي ضبطت في السيارة الجيب وهي تحض علي أعمال الفدائيين ، وأن الصداقة البريطانية المصرية مهزلة ، وأن الانجليز يظنون شعوب الشرق الأوسط مسالمة ساذجة ، ثم تحدثت عن التدريب علي استعمال زجاجة مولوتوف وعرقلة المواصلات وتعطيل وسائل النقل الميكانيكي والقوات المدرعة . وانتهي كاتب هذه الأوراق إلي القول صراحة بأنهم يقاومون العدو الغاصب . وقالت المحكمة أنم أثر ذلك التدريب الروحي والعسكري ظهر عندما قامت مشكلة فلسطين وأرسلت الجماعة الكثيرين من متطوعيها للقتال . وبعد استشهاد مجلس الدولة بهذه الفقرات من حيثيات الحكم التي أصدرتها محكمة الجنايات في قضية السيارة الجيب ، خلصت من ذلك ومن مناقشة مذكرة الأمن العام إلي القول بأن ما نسيته هذه المذكرة إلي جماعة الإخوان مخالف للحقيقة والواقع .

•مناقشة أمر الحل نفسه والحكم بأنه علي غير أساس من القانون : وانتقلت محكمة القضاء الإداري بعد ذلك إلي مناقشة أمر الحل نفسه فقالت : إنه استند في ديباجته إلي البند الثامن من المادة الثالثة من القانون رقم (15) لسنة 1923 الخاص بنظام الأحكام العرفية . وهذا النص يخول للحاكم العسكري " منع أي اجتماع عام وحله بالقوة – وكذلك منع أي ناد أو جمعية أو اجتماع وحله بالقوة " . وقالت المحكمة أنه ليس من شك في ان المقصود من هذا النص هو تخويل الحاكم العسكري في سبيل صون الأمن وحفظ النظام وحفظ ذلك هو الغاية التي من أجلها وسدت إليه السلطة بموجب قانون الأحكام العرفية لمنع الاجتماع قبل عقده كإجراء وقائي ، وله حل الاجتماع وفضه بالقوة بعد عقده كإجراء علاجي . وأضافت المحكمة قائلة : إن المقصود باجتماع أو ناد أو جمعية هو تواجد لفيف من الناس في مكان معين قد يخل تواجدهم فيه بالأمن والنظام . ولذلك خول القانون الحاكم العسكري منع هذا التواجد ثم حله إذا تم أي تفريقه بالقوة .

وقالت المحكمة : أنه علي ذلك تكون سلطة الحاكم العسكري في حل الجمعية لا تشمل القضاء علي شخصيتها المعنوية وإعدام حياتها القانونية وتصفية أموالها التي تتكون منها ذمتها المالية .. وآية ذلك أن المشرع قرر الحل باستخدام القوة وهي بطبيعتها لا تتوجه إلا وإلي الاجتماع الذي هو مظهر مادي لا إلي الشخصية المعنوية التي هي وضع أو تكييف قانوني معنوي . وانتهت المحكمة من ذلك إلي القول بأنه لكل هذه الأسباب يكون الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 القاضي بحل جمعية الإخوان المسلمين علي غير أساس سليم من القانون ويتعين إلغاؤه .

الفصل الثالث : تعقيب وتحليل لهذه الأحكام الخالدة

أولاً – أنشئت هذه القضايا وركبت ورتبت بحيث طمست فيها جميع المعالم التي يمكن الاهتداء بها إلي الحق ، وأنشئت فيها معالم أخري تهدي إلي طريق محدد مرسوم في نهايته نهاية هذه الدعوى وإعدامها وتلاشيها لا من الوجود القانوني فحسب بل أيضا من نفوس الناس .

ثانيًا – وتوضيحا لذلك نقول : إن الذين تعاونوا وتآمروا علي خلق هذه القضايا ، وإرساء أسسها ، وإقامة بنيانها ، ثم طلائها ، وفتح المنفذ الوحيد بها . هم دولة كاملة بقضها وقضيضها ، منحت نفسها جميع القدرات والإمكانات في الوقت الذي حرمت فيه غيرها من كل وسائل الدفاع عن النفس ، فكان رئيس الوزراء ووزراء الداخلية يخططون علي هوي الجالس علي العرش ومن وراءه من المستعمرين . وأجهزة الأمن مع أجهزة التحقيق تتعاون معا في التنفيذ .. وحسبك أن تعلم أن رئيس جهاز التحقيق في الدولة كان إحدى الأدوات المسخرة لهذا التنفيذ . فلم يعد القارئ يجهل محمود منصور باشا النائب العام الذي كان يشرف بنفسه علي التحقيقات في هذه القضايا ، ويختار لها المحققين الذين يأنس فيهم لين الضمير ، ويستبعد عنها من يبلغه عنه أن عنده أثارة من ميل إلي العدالة .. فكان رئيس النيابة الأستاذ محمود إسماعيل هو الذي تولي التحقيق في قضية الأوكار فانتزعها منه النائب العام وأسند التحقيق فيها إلي إسماعيل عوض الذي كان متهتكا في إرضاء الحكومة .

ثم إن ضباط القسم السياسي لم يكونوا يكتفون بألوان التعذيب التي كانوا يسومونها المتهمين لانتزاع اعترافات محددة منهم ، بل كانوا أيضًا يحضرون التحقيقات . وقد منحهم النائب العام حق انتزاع التحقيق من يد محقق إلي محقق آخر .

ثالثًا – كان المفروض أن يكون عرض هذه القضايا علي القضاء لإصدار الحكم فيها هو الحلقة الأخيرة في سلسلة المؤامرات ضد دعوة الإخوان المسلمين . ولما كانت الحلقة الأخيرة في السلسلة هي الحلقة التي يكتمل بها ارتباطها بعضها ببعض ؛ لأنها هي التي تضم طرفي السلسلة وتغلق الدائرة وبدونها تفقد السلسلة ارتباطها وتتعرض بقية حلقاتها للتشتت والتناثر . فقد بذل المتآمرون أقصي جهدهم لإحكام هذه الحلقة وتأمينها ، إذ كانت كل حلقات المؤامرة خادمة لهذه الحلقة وتحضيرا لها وتمهيدا ، ذلك أن كل ما تم اتنخاذه من إجراءات ضد الإخوان من حل واعتقال وتشريد واستيلاء وتشويه سمعة واغتيال لا يكون ذا قيمة ما لم يؤيد بحكم قضائي تكتسب منه هذه الجراءات شرعيتها .

رابعًا – كان إحراز المتآمرين النجاح في إحكام هذه الحلقة أمرا مفروغا منه ، لا يساورهم فيشك ، فالجهود التي بذلت في تحضير هذه القضايا جعلتها – كما قدمنا – كالطبخة الناضجة المشهية أمام من أشرف علي الموت من الجوع ، ليس أمامه إلا التهامها عن آخرها دون أن يسأل عن مكوناتها . وإن هذا الشعور لم يكن شعور المتآمرين وحدهم بل إنه كان شعور كل من عايش هذه الفترة العصبية ، ورأي إكباب كل السلطات في الدولة علي تحضير هذه القضايا ، حتى أن هذا الشعور قد ظهر علي لسان أحد هيئات الدفاع في قضية الأوكار حين ابدي رئيس المحكمة استعداد المحكمة لسماع شهادات في موضوع التعذيب فقال الأستاذ زكي البهنيمي المحامي : " المتهمون لا يستطيعون أن يقدموا أدلة ؛ لأن التعذيب كان يحصل بين أربعة جدران ، وهم لا يستطيعون أن يستشهدوا بأحد خصوصا وأن المحيطين بهم كلهم من رجال البوليس . وكان الأطباء يدعون للكشف عليهم بعد عدة شهور من وقوع التعذيب ، مما يجعل الأطباء يثبتون آثار الإصابات وإن كانوا لا يستطيعون الجزم بها " .

خامسًا – يخطئ من يظن أنه بعد سقوط وزارة عبد الهادي قد صار الجو مواتيا للإخوان .. نعم تغيرت الوزارة ، تارة إلي وزارة ائتلافية وتارة إلي وزارة محايدة وأخيرًا إلي وزارة وفدية .. ونعم أيضًا .. كانت هذه الوزرات علي خلاف كبير مع وزارة عبد الهادي ، ولكن هذا الخلاف كان فيما سوي ما يتصل بالإخوان المسلمين ، فلقد كانوا جميعا مختلفين في كل شيء إلا في عدائهم للإخوان ، وقد أفردنا فصلا من قبل لقانون تنظيم الجمعيات حتى لا يداخل القارئ شك في هذه الحقيقة المؤلمة المزرية .

كان العهد عهد الملك الذي كان يعمل من وراء ستار .. غاية الأمر أنه كان كلما علم أن المتفرجين داخلهم الملل غير المنظر ، ولكن الهدف من الرواية التي وضعها لا يتغير مهما تغيرت مناظرها أمام المتفرجين ... كان هدف الدولة القضاء علي الإخوان المسلمين ، وكان يعرف ذلك الخاصة والعامة . وكان القطاع الأكبر من العامة في ذلك العهد مضللا ، فقد سلطت علي سمعه وبصره وعقله وقلبه وسائل إعلام – كما يقولون تفتن العابد .. وحسبك أن تعلم أن كتابا كبارا مثل عباس العقاد باعوا ضمائرهم وسخروا أقلامهم للكذب والإفك والافتراء ، ورضوا لأنفسهم أن يكونول مطية ذلولا لهذا العهد البغيض.

سادسا – القضاة أمام طريق مسدود :

وسط هذه الظروف كلها ، المواتية كل المواتاة لطرف . والمنعدمة كل الأنعدام للطرف الآخر ... طلب إلي القضاءأن يقول كلمته في هذه القضايا ... والقضاة – مهما قيل فيهم – بشر كسائر البشر له عقول ولهم قلوب ، ولكن لهم أيضا مصالح وآمالا . ومع ذلك فقد كان لهم فيما بين أيديهم مندوحة .. فلو أنهم تناولوا هذه القضايا تناولهم لسائر القضايا التي تعرض عليهم واقتصروا علي الأسباب الظاهرة التي لا يطالب القاضي – باعتبار بشرا – بالنظر إلي ما هو أبعد منها ، فحكموا بالحكم الذي تمليه هذه الأسباب فكان الحكم هو ما أراده المتآمرون أو قريبا منه .. لما كانوا في ذلك ملومين بل كانوا معذورين أمام قضايا أحكم إغلاق كل منافذها .. وإذن لتفتحت أمام مصالح هؤلاء القضاء وآمالهم أبواب السعادة والرقي ، ولوجدوا أحضان الحكومة مفتوحة في انتظارهم لتبوئهم أعلي مناصبها .

ولكن الذي حدث هو أن هؤلاء القضاء قد حاك في صدورهم شيء ، حين رأوا بين أيديهم قضايا كل المتهمين فيها معترفون ، وأكثرهم آثار التعذيب بادية علي أجسامهم بالرغم من طول المدة منذ انتهاء التحقيق . فلم تسترح ضمائرهم إلي أخذ هذه القضايا مأخذ غيرها من سائر القضايا التي تكفي أسبابها الظاهرة لإصدار حكم فيها يكون عادة أقرب شيء إلي الصواب .. فكان قرارهم أن يتأنوا في نظر هذه القضايا وأن يقبلوها علي جميع وجوهها ، وأن يحاولوا بكل الوسائل المتاحة أن ينفذوا إلي داخلها .

سابعًا – براعة المحكمة في جر عبد الهادي للشهادة :

ولما رأي هؤلاء القضاة أنهم عاجزون عن النفوذ إلي داخل هذه القضايا إلا عن طريق حائكي خيوطها ، وناسجي الجدران استدعاءهم شهودا .. وضربت المحكمة الأولي – محكمة السيارة الجيب – في ه1ذه المعركة الضربة الأولي – والضربة الأولي نصف المعركة – فاقتحمت إلي كبيرهم واستدعته شاهدا .. وظهرت مهارة رئيس هذه المحكمة في تهيئة المناسبة التي تقتضي استدعاء هذا الكبير وتبرز سماع شهادته ، حيث استمعت إلي أقوال المتهم عبد الرحمن عثمان الذي جاء فيها أنه أخذ من سجنه بحجة الذهاب إلي محكمة الاستئناف للتحقيق معه ولكنه بدلا من ذلك أخذ من سجنه إلي محطة سكة حديد القاهرة حيث قابل إبراهيم عبد الهادي باشا في صالونه الخاص بالقطار وظل معه حتى وصل إلي الإسكندرية ، وروي للمحكمة ما دار بينه وبين الباشا من حديث . فرأت المحكمة المحكمة أن في أقوال هذا المتهم ما يبرز استدعاء إبراهيم عبد الهادي باشا باعتباره شاهدا للاستفسار منه عن مدي صحة أقوال هذا المتهم ولكنها وبناء عن طلب الدفاع رأت قبل مثوله شاهدا بين يديها أن تستمع إلي ثلاثة من المتهمين في قضية الأوكار وجودة باعتبارهم أيضًا شهود نفي في هذه القضية وهم سعد جبر التميمي ومصطفي كمال عبد المجيد وعبد الفتاح ثروت .. ,بعد أن أدي هؤلاء الثلاثة شهادتهم طلبت إبراهيم عبد الهادي باشا فمثل أمامها .. وكان ذلك كله في جلسة 19/12/1950 التي تعد بحق جلسة تاريخية .

أتي الباشا للشهادة صاغرا ، وتناوبت عليه المحكمة من جانب والدفاع من جانب آخر ، وأمطروه بالأسئلة ، وطلب المتهم مواجهته بالشاهد وتمت المواجهة . وانتهز الدفاع الفرصة – والرجل كان يعلم أنه قد جاء للشهادة في قضية السيارة الجيب ، وهو يعرف كل شيء عنها ، ويعرف المتهمين فيها فاستعد لكل ذلك ، ولكن الدفاع فاجأ الباشا من حيثر يحتسب ، وباغته بأسئلة تتصل بمتهم من خارج القضية هو مصطفي كمال عبد المجيد المتهم في قضية حامد جودة ، فكانت مفاجأة للباشا جعلته – رغم مهارته في تزوير الحقائق – في أحرج المواقف ، حتى كان من إجابته ما أضحك الحاضرين ، وقد اضطرته المفاجأة إلي الاعتراف بأمور كانت مفتاح اللغز الغامض للتعذيب . وكانت حركة التفاف بارعة ماهرة ، أن استدعت المحكمة مصطفي كمال عبد المجيد واستمعت إليه شاهدا قبل أن تستمع إلي عبد الهادي وفي جلسة واحدة حتى لا يعرف عبد الهادي ما كان من شهادة مصطفي كمال لو أنها كانت في جلسة سابقة فيستعد الباشا في شهادته لترتيب معين في أقواله يتفادي به المآزق التي أوقعته فيها أسئلة الدفاع المفاجئة . وأسفرت هذه المظاهرة المفاجئة لأكبر رأسفي المؤامرة عن شق ثقب في الجدار المنيع استطاع القضاة أن يكشفوا عن طريقه ما روي من سوءات المدبرين .

ما كان أغني هؤلاء القضاة عن هذا العناء ؟ وقد كانوا في حل من اقتحام هذا الطريق الشائك الوعر ، ولكن القلوب المؤمنة . والضمائر الحية المرهفة ، لا تبالي بالعناء ، ولا تنثني أمام العقبات .. حتى تشعر بالرضا عن نفسها ، وحتى تحس في قرارة ضميرها أنها لم تقتصر في حق وأنها قد أبلت بلاء حسنا . لقد كان مثل هؤلاء القضاة ومثل هذه السلطات المتآمرة في هذه القضايا كمثل نفر من المشهورين بارتياد الغايات ، دعوا لارتياد غابة كثيفة في أعماق الغابات – وقصد الذين دعوهم من دعوتهم أن يسمع الناس من أفواه هؤلاء الخبراء في ارتياد الغايات ما ينفرهم من هذه الغابة – فرأي المرتادون أول ما أرادوا في الغابة كومة ضخمة من العقارب والأفاعي والحيات ومختلف الهوام التي تقشعر لرؤيتها الأبدان ... فقال الداعون للخبراء : أرأيتم ؟ هيا بنا نرجع أدراجنا قبل أن تفتك بنا وبكم هذه الآفات . ولقد جئنا لتروا بأعينكم أننا علي صواب حين حذرنا قومنا من هذه الغاية . قلنا لهم أنها غاية الموت والأهوال .. ألسنا علي صواب ؟ .. هيا أعلنوا ذلك علي الملأ .

ولكن فريقا من خبراء الغابات المدعوين لم يتسرعوا بالحكم علي صواب ما سمعوه ممن دعوهم وقالوا لهم : دعونا نقترب من الكومة .. فكرر هؤلاء تحذيرهم ، ولكنهم أصروا مجازفين .. وصاروا يقتربون من الكومة في حذر خطوة خطوة حتى غافل واحد منهم الداعين وفي قفزة واحدة وصل إلي حافة الكومة فرأي كبرى الأفاعي رابضة علي هذه الحافة تتلوي وتنذرهم بالالتهام .. بشجاعة وحذق ضربها علي رأسها بعصاه فولت مذعورة وولي خلفها مئات الأفاعي والهوام .. فانكشف جزء من المكان كانت تغطيه الأفاعي بأجسامها .. فأخذ هذا الخبير الرتاد ينبش بعصاه في المكان الذي انكشف وظل يحفر حتى رأي بريقا يأخذ بالأبصار منبعثا من موضع نبشه .. فدعا زملاءه فنبشوا بعصيهم فإذا به كنز مدفون قد حجب عن الناس بهذه الكومة الشاهقة المصطنعة من الآفات والأفعاي والهوام . فلما رأي الرواد الخبراء هذا الكنز بأعينهم طلعوا علي قومهم أن أبشروا فإن غاية الموت والأهوال لم تكن إلا خديعة أراد مدبروها أن يحجبوا عن أنظاركم كنزا ثمينا لكم فيه الغناء والرخاء والرفاء .. حجبوا بهذه الكومة المصطنعة من الهوام التي جمعوها من هنا وهناك .

وهكذا لم يكتف فريق الرواد بفضح الخديعة الكبرى التي طلبوا المشاركة في حبكها علي قومهم بل إنهم كشفوا في نفس الوقت لقوهم عن الكنز المدفون تحتها لينتفعوا به .

ثامنا – خسر الإخوان في هذه المحنة الكثير الثمين الغالي من الأرواح والأجسام والمال والممتلكان . ولكن إذا وضعنا كل هذه الخسائر في حساب الدعوة الإسلامية في كفة الميزان لجاه ما اكتسبه الإخوان من أحكام القضاء في الكفة الأخرى راجحا . وإذا كانت أعظم هذه الخسائر هي بلا شك فقد الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله ، فإن فقد القائد في الدعوة الإسلامية في معاركها مع الظلمة والمتآمرين أمر متوقع ، سوابقه في التاريخ الإسلامي معروفة مشهورة فقد فقد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والحسين بن علي وفقد الكثيرون من القادة والأئمة فما توقفت الدعوة بفقدهم بل جادت بخلفاء لهم رفعوا اللواء وواصلوا المسيرة .

             إذا مات منا سيد قام سيد              قئول لما قال الكرام فعول 

وسوف يري القارئ في الصفحات التالية إن شاء الله كيف أن الدعوة لم تمت بموت حسن البنا ، بل آن دمه الطاهر قد روي شجرتها فكان أكسير الحياة لها ، بحيث لم تعد قابلة للموت بعد ذلك بإذن الله . خسرت الدعوة ما خسرت في هذه المحنة ولكنها اكتسبت الخلود بأحكام القضاء ، وإذا عبرت بلفظ الخلود فإنما قصدت التعبير عن الطور الجديد الذي تمخضت عنه هذه المحنة ، فقد صارت دعوة الإخوان فكرة عالمية ، وأصبحت إحدى القوى المؤثرة في هذا العالم سواء اعترف بها رسميا أم تجاهلها الرسميون .

تاسعًا – قد يلاحظ القارئ أن حكم المحكمة في قضية السيارة الجيب تناول بعض المتهمين فيها بعقوبات .. فكيف نشيد بأحكام تضمنت إدانة لبعض المتهمين ؟ وهذه ملاحظة جديرة بأن تعلق عليها في صدد ما نحن فيه ، ذلك أن القضاة – مهما تفاعلوا مع مجتمعهم ، ومهما بلغوا في تقدير الظروف ، ومهما أيقنوا من شرف الغاية – فإنهم مقيدون أولاً وأخيرًا بالأسس التييقوم عليها النظام العام للدولة .. فقضاة هذه المحكمة كانوا علي تفهم تام لظروف القضية وظروف المتهمين فيها ، وكانوا مقدرين كل التقدير هذه الظروف ، وكانوا مقتنعين بشرف غاية المتهمين ، وبتمني كل قاض منهم أن لو أتيحت الفرصة لنجاح هذه الدعوة في تحقيق أهدافها لإنقاذ البلاد مما ترزح تحته من احتلال أجنبي واستغلال داخلي .. ولكن – حتى يزول هذا النظام الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة – هم مقيدون بهذا النظام وبالاستناد في أحكامهم إلي القوانين التي سنها هذا النظام .

لقد كان المطلوب هو الحكم بإعدام هؤلاء المتهمين أو الحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة ... فإذا بالحكم يبرئأربعة عشر متهما ويحكم علي الباقين بأحكام أقصاها ثلاث سنوات .. وما كان لمحكمة مقيدة بنظام الدولة إلا أن يكون في حكمها إدانة ، فكانت الإدانة في أخف صورها ، مشفوعة بما يشبه التماس العذر لمن أدين ، مع الإشادة بنبل غاية الإخوان المسلمين ، وسمو مقاصدهم ، ورائع جهادهم ، والإقرار بسلامة أسلوبهم في تربية الشباب تربية روحية رياضية عسكرية . وليس أدل علي اقتناع قضاة هذه المحكمة بكل هذا الذي أشرنا إليه مما ضمنوه حيثياتهم ،من أن رئيس هذه المحكمة بعد أن فرغ من هذه القضية ومما كان منوطا به من قضايا أخري ، قرر اعتزال القضاء ، وتقدم إلي الإخوان المسلمين معلنا انضواءه تحت لوائهم .. وكان أحد المتطوعين في هيئة الدفاع عن المطالبين بالحق المدني في قضية اغتيال الأستاذ الإمام .

عاشرا – كان الحكم سيكون أروع لو تم نظر قضية الأوكار :

ومع إقرارنا وإقرار كل الأوساط المثقفة لاسيما الأوساط المشتغلة بالقانون بأن حيثيات الحكم في قضية السيارة الجيب هي إحدى المعالم البارزة في تاريخ القضاء المصري ، والتي نطق كبار رجال القانون في مصر حين اطلعوا عليها تعبيرا عن بالغ إعجابهم فقالوا : " إن في مصر قضاة " – مع إقرارنا بذلك وبأن الضربة الأولي نصف المعركة ، وبأن هذه الأحكام وما تبعها من حيثيات كانت مفاجأة مذهلة للجميع ، فقد أذهلت السلطات القائمة ؛ لأنها نسفت كل ما خططوا وأرسوا بناءه في سنين ، وأذهلت الشعب نفسه ؛ لأنه لم يكن يتصور أن في أبنائه – بعد – من تصل به الجرأة إلي هذه الحد من مناطحة أكبر رءوس الدولة بمثل هذه الشجاعة المتقطعة النظير .

مع إقرارنا بذلك كله نقول : لو أن الظروف أتاحت لقضية حامد جودة والأوكار أن يستمر نظرها دون العوائق التي عوقتها ، لسمعنا ورأينا العجب في أحكامها وحيثياتها .. ذلك أن هذه القضية – وقد جاءت بعد قضية سيارة الجيب – لم يدخل القضاة فيها علي طريق مسدود كما كان الشأن في قضية الجيب ، بل وجد القضاة أمامهم بعض منافذ أنشأتها المحكمة السابقة ، وقد استطاع الدفاع بمهارته أن يوسع من هذه المنافذ شيئًا فشيئًا حتى صارت طرقا ساكنها القضاة فكشفوا فيها عن مواقع لم يكن المتآمرون يعتقدون أنها تكشف في يوم من الأيام . ففي هذه القضية – الأوكار وجوده – كشف عن شخصية العسكري الأسود " الذي كان الفضل في كشفه لجريدة " الجمهور المصري " وإلي الصحفيين المحررين بها سعد زغلول والبعثي . وقد رأينا البوليس السياسي- حين علم بعثور المحكمة . ووصل اهتمام البوليس السياسي بهذا اللقاء ووضع خطة للالتقاء به قبل أن يمثل أمام المحكمة . ووصل اهتمام البوليس السياسي بهذا اللقاء إلي حد تطويقه الصحفي سعد زغلول في منزل أحد أقاربه ومنعه من الخروج حتى لا يمثل أمام المحكمة شاهدا .. ولم يكن اهتمام البوليس السياسي هذا الاهتمام البالغ إلا دفاعا عن أنفسهم ؛ لأنهم أيقنوا أن هذا العسكري إذا صرح أمام المحكمة بالحقائق فإنهم سيوضعون جميعا في قفص الاتهام .

وفي هذه القضية شهود التعذيب ، شهود عيان كالشاهد الذي كان جار لقسم مصر القديمة والذي وصف ما رآه بعينه وبمنظاره المقرب وما سمعه بأذنيه من تعذيب ظل طول الليل داخل هذا القسم للمتهم مصطفي كمال عبد المجيد ، وكالشهود الذين كانوا ضباطا بالقسم السياسي ثم تركوه . ولكن الحادث الجلل ، والمفاجأة المذهلة ، والطامة والكبرى علي المتآمرين هي شهادة اثنين من رجال القضاء والنيابة ممن باشروا التحقيق فترة في هذه القضية ، أحدهما من رجال النيابة والآخر قاض .. وناهيك بشهادة رجال القضاء ، إن كلمة واحدة منها ترجح في ميزان العدالة عشرات الشهادات .

ومما يوسف له أن الأخوة المتهمين في هذه القضية قد صدر قرار بالإفراج عنهم أو العفو عنهم علي الأصح في سنة 1954 – وكم كنا نود لو أن محكمة الجنايات التي كانت تحاكمهم في سنة 1951 أصدرت أحكامها قبل قيام الثورة في سنة 1952 ونشرت حيثيات هذه الأحكام ، إذن لسجلت لدعوة الإخوان المسلمين مجدا أروع مما سجلته لها محكمة سيارة الجيب، ولسجلت علي الطرف الآخر المتآمر خزيا وعارا – لا مجملا كما جاءفي أحكام قضية الجيب وحيثياتها – بل مفصلا تفصيلا ؛ لأن هذه المحكمة قد كشفت من مخازيهم مايزكم الأنوف . ويجرح الصدور وتتقزز منه النفوس .

•مجلس الدولة اعتمد في أحكامه علي حيثيات قضية الجيب : وإن كنا لا ننكر أن للمحكمة الأولي الفضل في أنها هتكت أول حجاب تنكري كان المتآمرون يظهرون به أمام الشعب ليخدعوه . وكانت حيثياتها مما اعتمدت عليه حيثيات محكمة مجلس الدولة في حكمها ببطلان الأمر العسكري بحل الإخوان وإلغائه . أما حيثيات مجلس الدولة نفسها فاتها قواعد قانونية حددت لسلطة الحاكم نطاقا لا تتعداه ، وقررت لحرية الشعب في تكوين الجمعيات المدى الذي لا يطمع عشاق الحرية فيما هو أبعد منه . وقد رأينا أن نثبت نصوصا كاملة في هذه الحيثيات حتى لا يستنير القارئ بقراءتها فيعرف حقوقه المخولة له بنصوص الدستور فيحرصعلي السهر عليها ، والمطالبة بها ، والذود عنها ، بهذه الحجج القاطعة الدامغة التي قررتها أعظم هيئة للقانون الإداري في الدولة . ولقد كان الإخوان يطمعون في أن يستردوا مركزهم العام وممتلكاتهم وأن يباشروا عملهم الرسمي لدعوتهم بقرار تصدره الحكومة ، ولكن شاءت إرادة الله – وهو الذي يختار لدعوته – أن يختار لهم الموقف الأكرم ، والرجوع الأشرف ، عن طريق حكم القضاء حتى لا يتحملوا بجميل لأحد سوي القضاء الذي هو ملجأ كل مظلوم .

وبعد .. فها نحن الآن نؤرخ لفترة مضي عليها أكثر من ربع قرن تطورت فيها الأمور ، وتغيرت خلالها الأحوال – كدأب الأيام وطبيعة الزمن – انقضي في أثنائها ما انقضي ، ومضي في خلالها من مضي فصار بين يدي الله (         ) . فمن الذي ربح الرجال الذين مروا بهذه التجربة القاسية ممن وضع الله في أيديهم مصائر الناس ومن الذي خسر ؟ .. هل ربح الذين التحقوا بركب الطغاة أملا فيما عندهم من ألقاب ومناصب ، فرحوا بها حينا من الزمن ثم تركوها مخلفين وراءهم عارا لا يذكرهم مواطنوهم إلا به ، وسجلوا علي أنفسهم في صفحات التاريخ خزيا لا يمحي ؟ ثم أفضوا إلي ربهم الذي لا يضل ولا ينسي .

أم هؤلاء الذين كان من قدرهم أن يعتلوا منصة القضاء في تلك الفترة العصيبة ، وزين لهم الشيطان – كما يزين لكافة الناس – ما ينتظرهم من متع الحياة ومباهجها ، والحظوة لدي أصحاب السلطان ، فهموا بالتعلق بها – كدأب سائر البشر – لولا أن رأوا برهان ربهم فتذكروا أنهم بين يدي امتحان رهيب : متع زائلة يعقبها ذكر سيء وبئ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة ، وإعراض عن هذه المتع يعقبه ذكر عطر في الدنيا ونعيم مقيم في الآخرة فآثروا الآخرة علي الدنيا .. فلم يخسروا شيئًا وكسبوا الدنيا والآخرة ، وخسر هنالك المبطلون . (                                          ) ألا رحم الله رجالاً تبوأوا منصب القضاء فعلموا أنهم خلفاء الله في الأرض ، كلمتهم فاصلة في المال والأعراض والدماء .. فلم يستوحوا إلا ضمائرهم ، ولم يستلهموا إلا ربهم ، ولم تفتنهم عن كلمة الحق رغبة لا رهبة ، فقالوها مدوية رائعة .. تاركين لأنفسهم ولأمتهم ذكرا في الخالدين (           ) .

خـتـام البـاب

وقد يجمل بنا بعد ذلك ، وفي ختام هذا الباب المتضوع بأريج نزاهة القضاء المصري أن ننقل للقراء تحقيقا صحفيا أجرته صحيفة أخبار اليوم في 12/7/1952 مع رئيس المحكمة التي أصدرت حكمها فيقضية السيارة الجيب . وهاكم نص هذا التحقيق الذي نشرته الجريدة تحت هذا العنوان : المستشار الذي حاكم الإخوان المسلمين أصبح واحدا منهم

الإسكندرية – مكتب " أخبار اليوم " . بدأ الإخوان المسلمون في تعديل لائحة الجماعة ، وذلك علي أثر صدور حكم مجلس الدولة ببطلان الأمر العسكري الصادر بحل الإخوان . وقرر مكتب الإرشاد العام اتخاذ الإسكندرية حقلا لأول تجارب اجتماعية من نوعها تقوم بها الجماعة . حتى إذا ما نجحت التجربة عممت هذه المشرعات في جميع بلاد القطر . وقد اختيرت الإسكندرية بالذات لإجراء هذه التجارب الجديدة بعد أن انضم إلي الجماعة سعادة أحمد كامل بك الرئيس السابق لمحكمة جنايات مصر ، الذي أصدر حكمة في قضية سيارة الجيب . وقد اختير سعاجته رئيس للجنة الاستشارية للإخوان في العاصمة الثانية , ليبحث وينظم هذه التجارب عليضوء دراساته وتجاوبه الماضية . وسيشرف سعادته علي تنفيذ هذه المشروعات التي وضعت لصالح الجماعة وهي : 1 – الضمان الاجتماعي . 2 – التأمين الصحي والعلاجي . 3 – تنظيم جباية الزكاة وإنفاقها في وجوهها الشرعية .

•الرجل الذي غير مصير الإخوان : وقبل عامين كان أحمد كامل بك هو الرجل الوحيد في مصر كلها ، بل في العالم العربي كله ، الذي يتحكم في مصير الإخوان المسلمين . وكانت كلمة منه كفيلة بالقضاء علي المستقبل السياسي للجماعة ، وإغلاق فروعها وشعبها في كل قرية ومدينة وفي سوريا ولبنان والباكستان وفي كل قطر إسلامي وقف عنده أو امتد إليه الدعوة الجديدة . ... كلمة واحدة فقط كان يمكن أن تغير مصير الدعوة ، وكان يمكن أن تؤدي إلي تشريد كل من يدين بمبدأ الإخوان .. وأبقي الرجل علي الجماعة حتى قدر له أن يصبح واحدا منها ، يساهم بجهده من أجلها ، بعد أن ظل مصيرها كله معلقا به .

•من فوق المنبر العالي : وجلس الرجل فوق المنصة العالية أربعة شهور متتالية ، يدرس برامج الجماعة ، ويتعمق في تحليل حقيقة أهدافها ومراميها ، وتلتقط أسماعه أقوالا متناثرة في ساحة القضاء ، ليصدر بعد ذلك حكمه بأن الإخوان المسلمين جمعية إسلامية تهدف إلي إقامة مجتمع إسلامي مثالي يحكمه الدين .

•إذاعة السر : هذه المراحل الثلاث المتضاربة بقيت سرًا مكتوما في ضمير القاضي . حتى فتح قلبه " لأخبار اليوم " هذا الأسبوع ليروي القصة كاملة .. قصة القضية التي غيرت مصير الإخوان ، وغيرت أيضًا مصير القاضي نفسه . بحيث نقلته إلي الصف الأول من صفوف المكافحين ، يجلس بينهم ، بعد أن كانوا جميعا يقفون بين يديه ، وكان ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم رهن كلمة منه .

•قصة الماضي : وتبدأ القصة مع الرجل في ماضيه البعيد عام 1930 ، عندما خلع الأستاذ أحمد كامل روب المحاماه بعد ستة عشر عاما ليرتدي وشاح القاضي . وفي المنيا سمع لأول مرة من هيئة دينية جديدة تسمي " الإخوان المسلمين " وكان يظنهم جماعة صوفية تشيع أفرادها بالتعصب الديني وكراهية الأجانب . وتخيل أن عملهم مقصور علي حفلات الذكر .. ولم يحاول أن يصل إلي الحقيقة في هذا الأمر ، فلم يكن يعنيه منه شيء . وما خطر بباله يوما أن الوصول إلي حقيقته سيكون شغله الشاغل .

•كانت الفكرة تطاردني : وانتقلت نفس الفكرة معه من المنيا إلي بني مزار . وكلما تقلب بين بلاد القطر كانت الفكرة لا تزال مسيطرة عليه ، أو كما يروي " كانت تتبعني دائما بل كانت تطاردني . هربت منها في إسنا ولكنها لحقتني في أسيوط ، وتعقبت خطواتي كلما ارتقيت درجة في المسلك القضائي ، كانت معي في طنطا ودمنهور والقاهرة .. ولم أكن أعرف أني سألتقي بهذه الفكرة التي رسبت في أعماقي في معركة حاسمة في محكمة جنايات القاهرة " .

•اللقاء الأول والأخير : وسرح الرجل بفكره وهو يذكر قصة لقائه الأول بحسن البنا ، وهو اللقاء الأخير أيضا وكان ذلك في الزقازيق عام 1945 وقد أضحي القاضي الشاب مستشارا في محكمة الجنايات وأقيم حينذاك احتفال بالمولد النبوي .

•بين العقل والقلب : واستمع في هذا اليوم إلي حسن البنا وهو يتحدث عن العالم الإسلامي كما ينشده الإخوان المسلمون ، وعن المجتمع المثالي كما يتخيلونه إذا نفذت برامجهم . وشعر حينئذ أن الرجل خطيب ممتاز يؤثر في سامعيه . ولم يحاول أن يفاضل بين الخاطر الذي استقر طويلا في عقله ، والخاطر الجديد الذي بدأ يطرق زوايا قلبه طرقا رقيقا هينا ولكن في نغم حلو . وبين العقل والقلب قام الكفاح أربعة أشهر حتى انتهي الاثنان إلي رأي واحد ، بعد أن جمعت أمامه ، بل حشدت له جميع بيانات حسن البنا وخطبه وأحاديثه الدينية ومذهبه السياسي ، جمعتها له النيابة كمستندات ضد اثنين وثلاثين شخصا من الإخوان المسلمين ، أو " الأعضاء الإرهابيين في الجماعات المنحلة " كما أطلق عليهم في ذلك الحين .

•الفكرة السجينة : وحلقت خواطر القاضي السابق بعيدا وهو يذكر تلك الأيام من شهر ديسمبر 1950 : " كانت أمامنا أوراق كثيرة ، ربما عشرة آلاف صحيفة ، وربما تزيد علي ضعاف هذا العدد ، وكنا مطالبين بأن نقرأها جميعا . وأقوالها مخلصا . لم يكن يعنينا كثيرا ف هذه الأيام أمر هؤلاء الاثنين والثلاثين متهما الذين وقفوا يحملقون فينا من وراء القضبان ، ما هي ؟ ما حقيقتها ؟ وما وراءها من آمال ومطامع ؟ إن صح أن الدعوة مطامع علي الإطلاق عدا المثالية في مجتمع مأساته الأولي أخلاق بنيه . كانت الفكرة السجينة هي هدف المحاكمة الأول . كنا نريد أن نحكم لها أو عليها .. فإما أن يتاح لها أن تطل برأسها علي مصر والعالم من جديد ، وإما أن تلفظ أنفاسها صريعة داخل القضبان . حيث يطويها العدم والفناء . كان يعنينا كثيرا مصير عشرات الألوف بل ومئات الألوف من " رهبان الليل وفرسان النهار " كما قالت عنهم الصحف ووكالات الأنباء ، وكان علينا أن نقرر مرة واحدة وإلي الأبد : هل هؤلاء جميعا يسعون إلي قلب نظام الحكم وإتلاف أسلحة الجيش المصري وتخريب المنشآت الحكومية ونسف الطرق والكبارى والسرقة المسلحة ؟ .. وما أكثر ما وجه إلي هؤلاء الأبرياء .. الذين أصبحت واحدا منهم .

•الحقائق مطلقة للقاضي : إن الحقائق نسيبة لجميع البشر إلا القاضي . فإنه لا يعرف إلا حقيقة واحدة مطلقة . وأقل شك لديه يغير مصير حياته والحيوات الأخرى المتعلقة بكلمة القدر التي تنطقبها شفتاه . كنت حريصا علي أن اقرأ كل شيء. فتتبعت نشأتهم وأحسست إذ ذاك بروحي تجوب معهم شوارع الإسماعيلية في عام 1928 ، ثم تترك المدينة الضيقة لتضئ كل مكان في مصر ، وحتى في ميدان القتال علي أرض فلسطين . واستمعت إلي أحد الشهود .. ولم أستطع أن أنسي شهادته إلي الآن .. ما أكثر ما ناقشته في تلك الأيام . وكنت أنا وهو حريصين علي أن نصل إلي الحقيقة كاملة .. وعرفنا الحقيقة الكاملة ، أنا وزميلي اللواء أحمد علي المواوي بك قائد حملة فلسطين ، الذي انضم إلي الإخوان المسلمين في الشتاءالماضي عضوا في اللجنة الاستشارية ، ليضع خطوطا جديدة لتحركات الإخوان في الميادين الاجتماعية والرياضية .

•من كان يدري ؟ هل كنت أستطيع في ذلك الوقت أن أتنبأ بأني سأضيف إلي مشروعاتهم صفحة جديدة ؟ لا أحد يدري .. وربما كان الاثنان والثلاثون متهما الذين كنت قاضيهم هم آخر من يتوقع ذلك .

•القصة غيرت مجري القضية : إن قصة " العسلوج " غيرت كثيرا من مجري القضية .. لقد روي المواوي بك القصة كاملة ، قصة الذين قيل عنهم أنهم أرادوا إتلاف أسلحة الجيش المصري ... لقد نفذت ذخيرة ألف وخمسمائة جندي من الجيش . ولم يستطيعوا التقدم للاستيلاء علي الموقع .. وتقدم خمسة وعشرين من فرسان الليل من كتيبة المرحوم أحمد عبد العزيز ليستولوا علي الموقع ونجحوا في ذلك ... حقيقة كانوا قلة ، ولكن كان لهم شعارهم الخالد ، شعار الأجيال : (         ) .

•تحررت : وبدأ فكري يتحرر من رواسب سبعة عشر عاما . وبدأت خواطري القديمة عنهم تتلاشي ، وبدأ حسن البنا يفقد في ناظري شخصية شيخ الطريقة المتصوف الذي يعقد حلقات الذكر ، لتحل محلها شخصية قائد الدعوة .

•قاضيهم ومحاميهم : كنت مطالبا بأن أكون عقيدة لنفسي قبل أن أكون عقيدة لغيري ، وكان يجب أن أعيش في القضية مكان المتهمين ومكان أعضاء الجماعة ومكان قائد الدعوة ، لأومن بما يؤمنون به ، أو لأكفر بما يعتقدون أنه الحق .. وبين الإيمان والكفر كانت تنظر قضية سيارة الجيب ، لتحدد وإلي الأبد .. مصير الإخوان المسلمين .. ولتحدد بعد ذلك مصيري . فإني أعتقد أن هذه القضية هي وحدها التي هدتني إليهم ، وهي التي دفعتني إلي أن أصبح عضوا عاملا في الجماعة ، أسير معهم ، وأدافع عنهم عندما يحين لقضية " الأوكار " أن تعرض أمام القضاء .

ملحوظة : قصة " العسلوج " التي جاء ذكرها في حديث الأستاذ أحمد كامل بك هذا ، كنا قد تناولناها بشيء من التفصيل في الجزء الأول من كتابنا هذا في صفحة 346 تحت عنوان " بطولات خارقة لحماية انسحاب الجيش المصري" .