ألبرتو مورافيا - اللوحة


اللوحـة


استشار أحد تجَّار الكحول، يدعى مارتيناتي، وقد وجد نفسه يملك سيولةً نقدية وفيرة، كما يقال، أحد أبناء إخوته، كان يختلط بالأوساط الفنيَّة، وقرَّر استثمار جزء من مدَّخراته في شراء اللوحات. ترك مارتيناتي، الذي لم يكن خبيراً في هذا المجال، الأمر لابن أخيه، الذي قام سريعاً بجمع مجموعةٍ صغيرة من الأعمال الفنيَّة، لأفضل رسَّامينا المعاصرين.‏ لم يكن مارتيناتي، فيما سبق، لينفق قرشاً واحداً على هذه اللوحات، التي كان ابن أخيه يجعله يشتريها بأثمانٍ باهظة. وكان يتشبَّث بتصورين اثنين: الجمال الطبيعي والتقليد الحقيقي؛ ولو تُرك لـه المجال ليعبِّر عن رغبته، لاشترى هذه المناظر الموحية، والشخصيات التافهة، والفلاَّحات الصغيرات، والرعاة، وأطفال الشوارع، والنباتات التي تؤكل التي تملأ محلات تجَّار الفن المذهبَّة، والتي تعتبر من أدنى اللوحات مستوى وأكثرها رواجاً من الناحية التجارية.‏ ومع ذلك، لم يكن مارتيناتي، وهو رجل جاهل، يملك الشجاعة الكافية لمعارضة ابن أخيه صراحةً، وكان يستمر، وهو يتنهَّد، بحشو منزله بهذه اللوحات التي يجدها، بالأحرى، ملطّخة بالألوان برعونةٍ، أكثر منها مرسومة.‏ وكانت تقوم بينه وبين ابن أخيه حرب خفيَّة. فكان مارتيناتي، وهو يواصل تمويل شراء هذه الأعمال الفنيَّة الرائعة المزعومة، يفكِّر ملياً في الثأر بغتةً من قريبه المعتد بنفسه. كان يود أن يمتلك لوحةٍ وأن يقدِّمها فجأةً لابن أخيه، الذي سيصيح عندئذٍ ويهزأ به، لكن الأمر سيَّان. فعلى الأقل، سيعرف مارتيناتي إلى أين ينظر، من بين جميع بقع الألوان التي توسِّخ جدران منزله.‏ ورأى مارتيناتي، أخيراً، وقد أصبح زائراً مجتهداً لصالات البيع ومخازن التحف، أنه وجد ضالَّته المنشودة. كان الأمر يتعلَّق بلوحةٍ ذات مقاييس كبيرة، تمثِّل كما حدَّد لـه البائع، مارك أنطونيو، الجنرال الكبير، والملكة كليوباترا. وتظهر في الصورة الملكة جالسةً على عرشها، مرتديةً ثوباً فخماً، والجنرال منحنٍ عند قدميها، إشارة للارتباط العاطفي بينهما وتُرى، في الخلفية، قاعةً كبيرة، لها أعمدة من الرخام، وقبب مغطاة بالتصاوير الجدارية. ولم يكن مارتيناتي يقدِّر كثيراً نبل الموضوع فقط، بل إن اللوحة بذاتها، لأنه، كما شرح قائلاً لزوجته، كانت الشخصيتان فيها حيتين، ولا ينقصهما إلا القدرة على الكلام. ودفع مارتيناتي، دون علم ابن أخيه دائماً، ثمن اللوحة، وجعلهم يسلِّمونها له في منزله.‏ بعد أن ثبَّت اللوحة في مكان الشرف في قاعة الطعام، دعا مارتيناتي ابن أخيه، وأطلعه على مشتراه ليس دون اضطراب. لم يلقِ ابن أخيه نحو اللوحة أكثر من نظرةٍ خاطفة، ثم سأله بكم اشتراها؛ وأعلن أخيراً، ببرود، أن اللوحة كانت عبارة عن إنسانٍ فانٍ، وأنها تساوي أقل من ثمن إطارها. فأجابه مارتيناتي، غاضباً، أنه كان مقتنعاً بالعكس، وذلك لصدق الشخصيتين اللتين تبدوان حيتين. وإذا كانت هذه اللوحة، بشخصيها المماثلين كثيراً لكائنين حقيقيين، لا تساوي شيئاً، فما قيمة هذه اللوحات الملطَّخة وغير المفهومة التي اشتراها له ابن أخيه إذاً؟ رفع ابن أخيه كتفيه، وقال له إنه قد سبق وشرح لـه ذلك ألف مرةٍ: إن ما يهمَّ في الرسم هو الفن وليس الموضوع المصوَّر. فردَّ عليه مارتيناتي بأن القيمة الأساسية للوحةٍ ما، من وجهة نظره هو، هي في تصوير أشياء يمكننا فهمها والإعجاب بها. وعدا ذلك، كان من الأفضل ترك الجدران عارية. باختصار، كانت المناقشة تتفاقم بعد أن حاول مرةً أخيرة الشرح لعمه ماهيَّة الرسم الجيد، ثم نعته ابن أخيه بالعنيد والجاهل، وذهب وهو يصفق الباب وراءه.‏ وفي ذلك المساء بالذات، أعلن مارتيناتي لزوجته قائلاً: "هذا غير مجدٍ... لن أترك نفسي أبداً أقتنع بتفضيل بقعٍ ملّونةٍ، غير ذات معنى، على شخصين مثل هذين، حيَّين وحقيقيين جداً، حتى ليقال إنهما مستعدان للوثب خارج اللوحة". رفع عينيه لا إرادياً وهو يتحدَّث على هذا النحو، وأرسل نظرةً خاطفة إلى اللوحة. فوقعت الملعقة التي كان يرفعها إلى شفتيه عندئذٍ، في صحن حسائه، لأنه رأى أن هذين الشخصين الحقيقيين، والواقعيين جداً، قد غيرا وضعهما صراحةً. كانا جالسين أحدهما عند قدمي الآخر. وكان الشيء الذي لا يصدّق الآن، بحصر المعنى، هو أن مارك أنطونيو الذي جلس بدوره على العرش، قد حمل كليوباترا على ركبتيه. كان الوضع حميماً جداً؛ لكن الشخصين قد حافظا على جلالهما كاملاً.‏ طلب مارتيناتي، الذي لم يكن يصدِّق عينيه، من زوجته أن تنظر إلى اللوحة هي أيضاً. فنظرت وأدركت أن الشخصين قد غيّرا وضعهما حقاً. لكنها لم تدهش من ذلك، مثله. وجعلته يلاحظ، بكثير من الفطرة السليمة وكما كان يقول هو نفسه، إن الشخصين كانا حيَّين حقيقة وما هو الغريب إذاً في أنهما، وقد تعبا من الجلوس بالوضع ذاته، قد رغبا في تغييره؟ واضطر مارتيناتي، بعد تفكير إلى الاعتراف بأن هذه الملاحظة لم تكن دون أساس. وأنهيا وجبتهما وهما يعلِّقان على الحدَث، وينظران، من وقتٍ إلى آخر، إلى جلسةً الشخصين المتعانقين فوق، في اللَّوحة.‏ وفي اليوم التالي، كانت المفاجأة الجديدة: كان مارك أنطونيو، ربما لشعوره بالغيرة، يقف وذراعاه مرفوعتان، يهاجم كليوباترا، التي كانت تبدو أنها تجيبه سريعاً وبالمثل.‏ قالت زوجة مارتيناتي، إذا حكمنا، على الأقل، على المظاهر، فإن لمارك أنطونيو كل الحق في التصرُّف على هذا النحو، لأن كليوباترا امرأة مغناج شهيرة. أما مارتيناتي، فأخذ يدافع عن كليوباترا بحماسة شديدة حتى أن زوجته، وقد أصابتها الغيرة بدورها، اتَّهمته بأنه ينمِّي ميلاً سرياً نحو الملكة المثيرة.‏ وذهب الزوجان للنوم بمزاجٍ سيِّء.‏ في تلك الليلة، بدا أن الزوجين قد اكتسبا فجأةً، إضافة إلى قدرتهما على الحركة، القدرة على الكلام. واستيقظ مارتيناتي على ضجة أصواتٍ ثائرة تصعد من قاعة الطعام، فذهب بثوب النوم وعلى رؤوس أصابعه، ليسترق السمع. كان صوت الملكة تسهل معرفته، بتنويعات نغماته المزماريَّة والخادعة؛ أما صوت مارك أنطونيو، فكان غليظاً وعنيفاً. لكن الكلمات لم تكن مفهومة. ربما كانا يتحدَّثان باللغة اللاتينية، أو ربما بالإغريقية، أو ربما بلغةٍ شرقيةٍ ما.‏ بقي مارتيناتي مختبئاً خلف الباب، فترة من الزمن، يستمع إلى هذين الصوتين اللذين يتشاجران، مسحوراً، كما صرَّح بذلك لزوجته فيما بعد، بهذا الحوار في الظلام، بلغةٍ مجهولة قديمة وذات نبرات أجشَّة، استحضرت عالماً مفقوداً، بأكمله، أخيراً، وقد شعر بالبرودة ترتفع من قدميه العاريتين عبر جسده كله، انحنى إلى الأمام وخاطر بقول: "صه!" حذرة. لكنهما تابعا نقاشهما كما لو أن الأمر لم يحصل. وعاد مارتيناتي، محبطاً، لينام، وظلَّ يسمع، طوال الليل، وهو نصف نائم، مساوماتهما في الظلام، في قاعة الطعام المجاورة لغرفة نومه.‏ بعد تلك الليلة، ضاعف الشخصان علامات الحياة. أحياناً كانا يتكلَّمان، وأحياناً يتخذان أكثر الأوضاع غرابةٍ وأكثرها حريةً، وأحياناً أخرى، بصراحة، كانا يخرجان من بابٍ مرسومٍ على الخلفية، ويتركان اللوحة خاوية. وهذه الطريقة بالمغادرة، هي التي كانت تزعج مارتيناتي خصوصاً. وكان يقول لنفسه، أوافق على أن يتجادلا ليلاً، وأوافق أيضاً على أن يتعانقا، ويتداعبا، الخ. أما أن يختفيا، فلا؛ كان ذلك يتخطى المألوف. فهو لم ينفق كل ذلك المال ليحصل على لوحة خالية. وكانت زوجته ترد عليه قائلة: "إنه كان يثبت بهذه الكلمات، كعادته دائماً، أن تفكيره فظٌ ونفعي. فهذان الشخصان لم يكونا من المعدمين، الذين لا يملكون سوى غرفةٍ واحدة. كانا ملكة وقائداً رومانياً. والله وحده يعلم كم غرفةٍ يضم قصرهما! ومن الطبيعي جداً أن يحتجبا من وقتٍ إلى آخر، متعبين، لكونهما مرسومين. وكان مارتيناتي يرد عليها بأنهما قد رسما ليوجدا في الإطار، وليس للذهاب ليتفرَّغا لأعمالهما الصغيرة، إلا أن أكبر عيب لهذين الشخصين الحيين جداً هو طبيعة علاقاتهما الصاخبة وغير المتحفِّظة. وفي الوقت الحاضر، لم يعد ينقضي يوم أو ليلة، لا يتشاجران فيها، لسببٍ أو لآخر. وكانت نزاعاتهما المستمرة تحدث الكثير من الإزعاجات. فكانت، قبل كل شيء، تثير بين مارتيناتي وزوجته مشاجرات مماثلة، لأن زوجته كانت تتحيَّز للمسكين مارك أنطونيو، الذي كان، تبعاً لرأيها، ضحية امرأة عديمة الحياء والذَّمة، بينما كان مارتيناتي يدافع برقَّةٍ عن الملكة الجميلة. ثم إنهما كانا بالجلجلة الحنجرية المتقطِّعة لصديقهما، يمنعان الزوجين من أن يتناولا طعامهما بسلامٍ نهاراً، تماماً، كما يمنعانهما من النوم ليلاً. لم يعد هناك أدنى شك الآن في أن الشخصين حيَّان، وحيَّان جداً؛ لكن مارتيناتي بدأ يتمنى أن يكونا، على الأقل ليلاً وفي أثناء الوجبات، أقلَّ حياة.‏ وما زالا على هذه الحال، حتى أخذ مارتيناتي ينظر نظرةً مختلفة تماماً إلى اللوحات، التي كان يحتقرها فيما مضى، والتي جعله ابن أخيه يشتريها. صحيح أن النساء العاريات ذوات الأقدام الضخمة، والوجه الملتوي، والرجال الحول، والمشوَّهون، الذين يسكنون تلك اللوحات، كانوا لا يتحرَّكون ولا يتكلَّمون؛ لكن الآن، بدت غير واقعيتهم مفضَّلةً أكثر بكثير من حيوية العاشقين الملكيين وباختصار كان أولئك العراة، وتلك الرسومات، يقومون بواجبهم، ألا وهو البقاء جامدين داخل الإطار. وأعلن مارتيناتي لزوجته، أنه، بعد أن فكَّر جيداً بالموضوع، ربما كان الرسامون الحديثون على حق، بالرسم بهذه الطريقة، الخارجة عن كل مألوف، والبعيدة عن كل حقيقة. فالواقعية الحيَّة، على المدى الطويل، مثل واقعيةِ لوحةٍ قديمة، تصبح غير محتملة.‏ وبعد أن تردَّد كثيراً، حزم مارتيناتي أمره، أخيراً، في ليلةٍ، كان الصوتان يتشاجران فيها بشراسةٍ أعنفٍ من المعتاد، فذهب إلى قاعة الطعام، ورفع اللوحة، وحملها إلى السقيفة، دون أن يهتم بالحوار الدائر فيها، ووضعها أرضاً على مقعد قديم محطَّم. ثم أعاد غلق الباب بالمفتاح، وعاد لينام من جديد.‏